كتاب جدلية القيم في الشعر الجاهلي رؤية نقدية معاصرة
الفصل الثاني
بوجمعة بوبعيو
الفصل الثاني : في مفهوم القيمة
خلق الله جلّت قدرته –هذا الكون بما فيه وفق نظام كوني في غاية متناهية من الدقة والتناسق، وبثّ فيه حياة إلى حين، ينعم بها الإنسان وبقية الكائنات الأخرى، ووهب الله الكائن الإنساني العقل، وأضفى على هذا العقل الأحاسيس والمشاعر والرؤى والأفكار التي اقتصرت عليه دون غيره من الكائنات.
وقد وجد الإنسان –منذ نشأته الأولى- نفسه وجهاً لوجه أمام حقائق كونية وألغاز ليس في مقدور فكره معرفة كنهها، ومن ثمة راح ينعم النظر ويعمل الرويّة لعلّ بصيرته تهتدي إلى حقيقة وجوده، وحقيقة الأشياء من حوله، ((ولأن للإنسان قيمةً في الحياة، ولعقله المكان الأول فهو يفكر تفكيراً حراً، ويبحث عما يشاء، ويخلق ما يشاء من آلهة، فما حقيقة هذا الإنسان))([1]).
وظّف الإنسان عقله توظيفاً متعددة ضروبه ونشاطاته لمعرفة الذات الإنسانية وحقائق الوجود عامة، وهكذا تكوّنت لديه قيم ومفاهيم لهذا الكون، سرعان ما ترسخت في ذهنه، وأصبحت شيئاً ضرورياً لحفظ توازنه وبقائه وتجنيبه شرّ الفناء والتلاشي.
فلو ألقينا نظرة عجلى على الفكر اليوناني لوجدناه –مع تعاقب الأجيال- تمخّض عن ظهور "أفلاطون" الذي أجهد فكره في البحث عن الحقيقة بواسطة المثل، وحاول أن يكشف أسرار الإنسان وكوامنه فجرّد المادة، واقتصر على ماله علاقة بالروح وبالمثل الإنسانية العليا، لتبلغ الروح في عهده شأناً عظيماً يحتل الصدارة في ضوء الأهمية المطلقة التي منحها للروح في بحثه ذاك، وقد ذهب إلى أنّ ((المعرفة تصعد من المحسوس إلى العقول وتخضع الأول للثاني))([2]).
وكأننا بهذه الفكرة الأفلاطونية تنطلق من المحسوسات التي تتماشى وطفولة الإنسان، ثم تبلغ مرحلة التجريد كلما تطور هذا الإنسان زمانياً، وتوسعت مداركه الفكرية، لتظل محافظة على استمرارية البحث لكشف ما لم ينكشف بعد، وتلك حكمة الله في خلقه، وهكذا واصل "أرسطو" البحث من حيث انتهى "أفلاطون"، وقرّب المادة إلى الروح فامتزجت الطبيعة بالجانب الذاتي.
مثّلت القيم في حياة الإنسان –منذ الأزل- ومازالت حفظ التوازنات الحياتية، وتلك غاية سامية لا يدرك كنهها إلا الله، ولولا تلك القيم التي تتأصل في النفس الإنسانية، وتجعل لحياته غاية سامية ينشد تحقيقها في ظل نواميس معيّنة سواء أكانت ناتجة عن عقله أو متأثرة بتعاليم دينية، لما استطاعت الإنسانية أن تبلغ ما بلغته حتى يومنا هذا.
فالعصور الخالية –التي سبقت العصر الجاهلي مثلاً- كانت تحكم أهلها خلالها قيم خاصة بنيت على أسس ما، كما هو الشأن في كلّ عصر ودهر، فبصرف النظر عن طبيعة العقيدة التي آمن بها أو طبقها الإنسان، فقد تخللت حياته قيم، منها ما يمكن وسمها بالخيّرة ومنها ما نسميها بالشريرة، وكيفما بدا لنا هذا الإنسان متناقضاً –في تعامله- مع تلك القيم أحياناً، فهو ذو نزعة دائمة- تقريباًٍ- إلى تغليب القيم الخيّرة على الشريرة، لأن طبيعته مجبولة على الخير.
ويمكن أن نتصور –إذن- أن العصور الجاهلية –أسوة بغيرها من العصور- سادتها قيم اجتماعية وأخلاقية ودينية، ولا ريب أن الإنسان خضع لتصورات تلك القيم، والتزم بها التزاماً ثابتاً، وقد اضطر لخوض المعارك والحروب من أجلها، ولا يعني ذلك أن القيم -على مختلف أشكالها –متفقة أو ثابتة في ظل زمان أو مكان ما، فالاتفاق أو الثبات يقتصران على زمان ومكان معيّنين، ولكن ثبات القيمة وقدسيتها يتأتيان من اتفاق المجتمع الذي تربطه أواصر جغرافية وحضارية واحدة أو متقاربة، فتنشأ القيم لتمثل المؤشرات التي تتضافر لحماية ذلك المجتمع من الانحلال والانهيار.
فمن تلك القيم التي سادت في عصور خالية ما يبدو لنا –في عصرنا الحديث مثلاً- شيئاً غير ذي بال بالنظر إلى اختلاف وُجهات النظر الحياتية في عصر تعددت مشاربه وكثرت تعقيداته، وتنوعت أحداثه وملابساته، وتشابكت تناقضاته، ولكن هناك قيماً مازالت باقية بحكم انسجامها وتماشيها مع أصل هذا الكائن الذي وهبه الله عقلاً وعاطفة يؤثر كل منهما في الآخر، وليست الغاية من وراء هذا الحكم أن الإنسان يتقبّل قيماً ويرفض أخرى بناء على مزاج خاص، ولكن التطور الإنساني وتعاقب الحضارات يجعل بعض القيم نسبية، وبعضها الآخر ثابتاً وفق انسجامها أو تناقضها مع تطلعات هذا الإنسان وطموحاته غير المحدودة.
وفي ضوء ما سبق، تبدو القيم نسبية، وهذه النسبية ليست في القيمة –في حد ذاتها- ولكن في وجهة النظر حول هذه القيمة أو تلك، وهذا ما يترتب عليه –أحياناً- الإيهام بالقيم المتضادة أو المتناقضة، فمثل هذا التناقض أو التضاد قد ينشأ إثر موقف أو ظرف بعينه في ظل بيئة معينة وزمان بعينه، فالقوة قد تكون رمزاً للبطش، والاعتداء على حرمات الغير وعدّته وعتاده، وبذلك ينظر إليها على أنها وسيلة من الوسائل التي يستخدمها الإنسان لضمان حياته وطمأنينته، وقد تتحول هذه القوة إلى شيءٍ من التسامح والنبل في موقف آخر.
وبذلك قد نجد القيمة محبَّذة في ظرف، وممقوتة في آخر، لاسيما إذا كان ما يترتب عليها يجلب الأذى للغير، وهكذا تظل القيمة ثابتة ما لم تتغير وجهة النظر حولها، هذه الوجهة التي غالباً ما تتأثر بمبدأ الانتفاع أو الضرر الذي يترتب على ما تخلفه نتائج تلك القيمة.
لقد وجد الإنسان الجاهلي نفسه محاصراً بصراعات وجودية، وكان عليه أن يقاوم تلك الصراعات والمخاوف بكل ما أُوتي من قوة للمحافظة على وجوده، وطرد شبح الخوف والرعب الذي يهدد كيانه، ومن ثمة آثر قيماً على حساب قيم أخرى على الرغم من معرفته ضمنياً أنها قيم غير محبّذة لديه، لكن ظروف الحياة تحتم عليه الإقرار بذلك، وكأنه يطبق بذلك حرفية المقولة التي تذهب إلى أن "الغاية تبرر الوسيلة".
ولاشك أن القيم الإنسانية ارتبطت بوجود قوة خفية توظف بمقتضاها تلك القيم لخدمة الإنسان، وإن اختلفت الأمم عبر العصور في تحديد تلك القوة الغيبية، فقد تأثرت الأمم التي آمنت بالأديان السماوية بمثل عليا مستمدة من التوراة والإنجيل، ولا نستبعد، أن يكون العربي الجاهلي تأثر –من قريب أو بعيد- بمثل تلك القيم والمفاهيم المنبثقة من أصل ديني، فعلى الرغم من الرأي العام الذي يسم العصر الجاهلي بكونه عصراً وثنياً، فمن المرجح أن هناك كثيراً ممن تأثر بالتعاليم السماوية قبل نزول الإسلام، كما أن هناك نسبة معتبرة من عرب الجاهلية اعتنقت المسيحية وطبقت تعاليمها قولاً وفعلاً، ولذلك أثره في إرساء القيم لا محالة.
ولعلّ الأهم في كل ذلك أن الله –جلّت قدرته- قد فُهم بالمعنى الذي يؤكد وحدانيته وقدرته المطلقة التي لا تضاهيها قدرة أخرى، فهو ربّ الكون وخالقه، ولئن لم نعثر على أشعار كثيرة في العصر الجاهلي تبلور هذا المفهوم، فإن القليل الذي بين أيدينا يؤكّد ما ذهبنا إليه، ذلك أن هذه الأشعار محملة بأثر لا ينكر من "الإنجيل والتوراة"، فمثل أولئك الشعراء إما أنهم اعتنقوا الدين المسيحي وألّفوا شعراً في ظل الإيمان بهذا الدين، أو أنهم اطلعوا على تعاليمه وألفوا شعراً بناءً على ما تأثروا به، فحين يقول لبيد بن ربيعة مثلاً:
فاقنعْ بما قسم المليك فإنما
قسم الخلائق بيننا علاّمها([3])
لا نخال مثل هذه المعاني إلا متأتية من رجل آمن بوحدانية الله، وبضرورة الرضا بما قسم الله بين عباده من أرزاق.
وليس هذا فحسب، بل إن شاعراً مثل عبيد بن الأبرص يقف خاشعاً مقتنعاً بين يدي الله موقناً برحمته الواسعة التي وسعت كل شيء، والله وحده الكفيل بإضفاء النعم على عباده، فمن يسأل الله فإنه لا يخيب رجاءه، ومن يسأل غير الله فلا هادي له، ولا طمع له في نيل ما يريد:
"من يسأل الناسَ يحرموهُ
وسائلُ الله لا يخيب"
"بالله يُدرك كلُّ خيرٍ
والقولُ في بعضهِ تَلْبِيب"([4])
ويبدو أن هذا القول الشعري نابع من إحساس ديني، وإيمان برحمة الله الواسعة، أكثر من كونه متأتياً من خبرة الشاعر بالحياة ومن تعلّمه منها، لأنه استطاع أن يربط الضعف البشري في تعامله الإنساني، وبين قوة الإله التي تتنزّه عن ذلك الضعف الذي وسم الله به خلقه.
وأياً كان أمر هؤلاء الشعراء الجاهليين في تأثرهم بالتعاليم الدينية، وظهور ذلك في بعض أشعارهم، فذلك لا يعني –بالضرورة- أنهم رسخوا قيماً سار على خطاها المجتمع الجاهلي عامة، لأن هذا المجتمع أو ذاك مثل بقية المجتمعات الأخرى حكمته أخلاق وعادات وتقاليد تتّفق وحاجات وصور هذا المجتمع أو ذاك. فقد افتخر الشاعر الجاهلي بأخلاق وقيم كانت ثمرة حاجاته وصور معيشته، فقد أشاد ((بكرم العنصر وقوة العصبية ومنعة الجانب والشجاعة والكرم والإباء والوفاء والمروءة، وما إلى ذلك… ثم فخروا بالتعقل))([5]).
فالكرم قيمة أخلاقية سامية مجّدها الجاهلي إلى حد المبالغة، وراحت القبائل –على ألسنة شعرائها- تتباهى به، وتتنافس في إظهاره ممثلاً لصفة من صفاتها المتأصلة فيها، ((فقد مجّد العربي هذا الخلق الكريم تمجيداً يفوق كل شيء، وكان واقع حياة العرب الاجتماعية دافعاً أساسياً يجعل من هذا الخلق حاجة من حاجات الناس، وضرورة اجتماعية، لذلك كان أول ما يذكر من الفضائل في باب المديح أو باب الفخر، وكان أول ما يسلب من الفرد أو القوم في باب الهجاء))([6]).
وبكلمة أدق، فإن الجاهلي تحكمه معايير اجتماعية لها التأثير البالغ في الرفع من شأن الفرد أو الجماعة حين يجيد تطبيق تلك القيمة، وتنزل عليه ألسنة الشعراء باللوم والعتاب أو الهجاء، ولا ينطبق ذلك على الفرد فحسب، بل يتعداه إلى الجماعة أو القبيلة.
وفي مقابل هذا الخلق الكريم الذي يمثل قيمة إنسانية سامية فإن هناك ما يمكن الاصطلاح عليه بالخلق المناقض أو القيمة المناقضة، والذي نسمه –تجاوزاً- بالتوسع القبلي الجاهلي، فالعربي –عادة- يحمي حماه، ويقدم ماله وحياته رخيصين من أجل الإبقاء على هذا الحمى نقياً مُهاباً، لكنه لا يتردد أحياناً –في استباحة حمى غيره إن توفرت لديه القوة التي تمكنه من ذلك، أو لاحظ الضعف والاستكانة لدى جيرانه، وهذا ما يدعوه إلى التوسع، وبذلك كانت جل القبائل تسعى جاهدة لتوسيع رقعتها كلما وسعها ذلك([7]).
والحقيقة أن هذا التوسع لا يأخذ المعنى الشمولي الذي ينطبق على عصرنا، فالمراد من التوسع لدى الجاهلي، يأخذ حيزاً ضيقاً، بحيث لا يتعدى الاستيلاء على مصادر الماء والكلأ حين تبخل الصحراء بعطاءاتها، فيضطر هذا الإنسان –رغبة في البقاء له ولأنعامه- أن يبحث عن مكان أرحب ويحمل أسباب الحياة.
ثم إن القصّة هنا لا تحتمل تناقضاً، ولكنها ناتجة عن طبيعة البيئة الجغرافية التي تحتم على البدوي الذي يعيش في أعماق الصحراء أن يواجه صراعاً وجودياً مستمراً، وبذلك فإن الهدف ليس هدفاً توسعياً متأصلاً في نفسه، ولكنه هدف وجودي، ومن هنا فإنه كلما عثر على هذا المصدر الحياتي لا يألو جهداً في نيله بالقوة، ما دام يمثل مصدراً للبقاء.
وفي ضوء ما سبق ليس من باب الإنصاف أن نحكم حكماً قاطعاً باستهتار الجاهلي بالقيم الإنسانية النبيلة، حتى وإن بدا لنا كذلك في بعض مواقفه التي صوّرها الشعر، والمتأتية من العصبية القبلية، ثم إن الشعر هو بمنزلة الهيئات الإعلامية في عصرنا الراهن، لذا فهو لا ينقل واقعاً حرفياً، وإنما يعكس بعض الصور الاجتماعية والسياسية، وربما الاقتصادية والأخلاقية التي تظل الحقيقة الواقعية في ثناياها نسبية، كأن نقرأ –مثلاً- الأبيات التالية التي هي –في نظرنا- إلى الترهيب وإبداء روح الحقد والتشفي أقرب منها إلى الواقع، لأن نفسية الجاهلي الأبية، وروحه المتسامحة المنبثقة من شهامته البدوية تأبى عليه الوقوع فيما أعلنه الشاعر الذي قدم صورة شعرية دموية هي، إلى خياله المجنّح أقرب منها إلى روح فروسية الجاهلي.
بقرنا الحبالى من شنوءة بعدما
خيطنا بفيف الريح نهدا وجثعما*
محنية قد لاحها الغزو بعدما
تبارى مراخيها الوشيج المقوما
ونحن صبحنا حي نجران غارة
تبيل حيالاها فخافتنا دما([8])
وفضلاً عن كون مثل هذا الكلام الذي يعد ضرباً من ضروب الحرب الكلامية التي تجعل الخصم يحسب لقبيلة الشاعر أو قومه حساباً، بالإضافة إلى الدواعي التي تؤدي –أحياناً- إلى إبداء معاني الصلف والجهل والحمق، فكما أن الجاهلي يضع صفة الكرم والسخاء موضع الصدارة والقداسة في حياته، فإن مثل هذا الكلام لا يتأتى إلا حين يحس أنه حر سيد، وأنه مستقل في أخذ القرار، فحينئذ يصبح الكرم واجباً، ولكنه قد يبدو بخيلاً شحيحاً سفاكاً للدماء عندما يجد مبرراً لذلك، كأن يستباح في حماه أو يمس في عرضه، أو في كرامته بوجه عام.
وقد يقودنا ذلك إلى القول إن الإنسان الجاهلي كان شديد الاعتداد بنفسه، محباً للافتخار، ثم إنه يعيش غالباً في كنف قبيلة صغيرة عمادها خيام منصوبة هنا وهناك بجانب الماء والكلأ، فإذا جفّ المرعى وقلّ الماء، سارع إلى اقتلاع أوتاد الخيام وراح ينتجع أماكن أخرى، وهو في هذا الحل والترحال مضطر لغزو القبائل الأخرى، وسلب ما عندها، وكان لطبيعة الأرض التي يحيا بين ثراها السبب المباشر في عداء مستطيل بين مختلف القبائل فضلاً عن الغارات المتبادلة، فنتج عن كل ذلك المنافسة القبلية في التفاخر بتحقيق الانتصارات والتهاجي بالانكسارات، والتمدح بالشجاعة والإقدام، فأصبح الفخر ملازماً للشاعر الجاهلي، يرضي به أنانيته أو عصبيته القبلية([9]).
فذلك جانب مما صوره الشاعر الجاهلي، مما لـه علاقة ببعض مناحي حياته في حل القبيلة وترحالها وحروبها وأيامها، ولكن، -بالمقابل- لا يمكن أن نتصور المجتمع الجاهلي مجتمعاً غابياً، يأكل فيه القويُّ الضعيف بالمفهوم المطلق لهذا المعنى، ففي الشعر الجاهلي ما يصور مواقف إنسانية راقية، تنمّ عن إحساس حضاري سابق لزمانه، فعلى ما في هذا الشعر من افتخار ومبالغة نقع –في أحيان كثيرة- على شعر يطفح بمواقف إنسانية نبيلة، ويصوّر مآثر اجتماعية قد تندر في زماننا هذا، فهذا الشاعر مالك بن جريم الهذاني يفخر بآبائه وبشهامته التي هي شهامة كل بدوي حرّ أصيل، وبذلك نقف عند صورة اجتماعية تمثل مثلاً أعلى وقيمة إنسانية سامية:
وإني لأَستحِي من المشي ابتغِي
إلى غير المجْد المؤثِل مطمعا
وأكرِمُ نفسي عن أمورٍ كثيرةٍ
حِفَاظاً وأنهي شحَّها أن تطلعا
وآخذ للمولَى إذا ضِيَم حقَّه
من الاعيطِ الآبي إذا ما تَمنَّعا
فإن يك شابَ الرأسُ مِني فإنّني
أبيْتُ على نفسي مناقبَ أربعَا
فواحدةٌ أن لا أبيت بغرّةِ
إذا ما سِوَام الحيّ حولي تضوَّعا
وثانية أن لا أصمتُ كلبَنا
إذا أنزلَ الأضيافُ حِرصاً لنودعا
وثالثةٌ أن لا تُقذع جارتي
إذا كان جارُ القوم فيهم مقذعا
ورابعةٌ أن لا أحجل قدرنا
على لحمِها حين الشتاءُ لنشبعا([10])
فالشاعر ههنا يربأ بنفسه عن الوقوع في مثالب لا يحبّذها، ولا يراها جديرة به، منها أن لا يتردد عن تقديم المساعدة لغيره إذا دعت الحاجة لذلك، وأنه يرحب بالضيوف ويكرم حضورهم، فيقدم القرى، وتلك عادة جاهلية أصيلة، وفضلاً عن ذلك فهو لا يتوانى في دفع الأذى عن جارته، ولا يسمح بأن ترمى بالفاحشة وسوء القول من لدن جارها، ثم إنه لا يستر القدر، بل يهبه للجميع دون الاستئثار به وحده، وفي ذلك دعوة إلى نكران الذات ونبذ الأنانية ورمز لسخاء الجاهلي وعطاءاته غير المحدودة.
فالشعر الجاهلي لم يخل من تصوير أخلاق القوم ومثلهم العليا، فهو يزخر بمثل تلك القيم، كما أنه سجّل حافل بالقيم التي تمثل ناموساً طبيعياً يتحتم احترامه وتقديسه، وإذا كان هذا الشعر تصويراً للحياة في مظاهرها الشاملة في مختلف جوانبها، فهو أيضاً تصوير ذاتي ينطلق من الذات ليعبر عن الآخر، ومن ثمة يبدو فردياً لينتهي عبر إيصال الرسالة إلى الجماعي([11]).
وبناء على ذلك –يعدُّ الشاعر الجاهلي- راوياً ومؤلفاً في الوقت نفسه:
((إنه مغن وراو ومؤلف خالق في الوقت نفسه فهو يحتذي في قصائده شعراء آخرين قد روى لهم أو اطلع على شعرهم ويستخدم ما استقر في وجدانه وعقله من معانٍ وصور وتعابير وصيغ أو تراكيب، وما ألفه فيها من مواضيع ومواقف ومشاهد وأحداث وقصص))([12]).
فالنص الشعري الجاهلي هو نص تناصي من حيث مبناه ومعناه، إنه ينطلق في شكله ومضمونه من نصوص أخرى سابقة، ولكن لهذا الشاعر تميّزه وتفرده، وبذلك يترك بصماته في هذا المنتوج الإبداعي، سواء فيما يتعلق بالمضمون (الموضوع) الذي يمثل مواقف استساغها فعمل على ترسيخها وإثباتها في ذاكرة قومه الذين يفترض أن يشجعوا شعره ويتأثروا به، أو فيما يتعلق بالشكل الذي يصب فيه هذه المعاني، وتلك المواقف، فهو –إذن- راو ومبدع في الوقت نفسه، وهذا ما يجعلنا نتفق مع هذا الرأي الذي يذهب صاحبه إلى حد القول:
((فالشعر الجاهلي يمثل أدباً موروثاً مأثوراً نصيب الفرد فيه أقل بكثير من نصيب الجماعة، وكانت القبائل تتناقله تناقلاً شفهياً يعتمد على الذاكرة والممارسة الدائبة دون الكتابة أو التدوين، والمواد التي يتألف منها تقليدية موروثة تنتقل من فرد إلى آخر، ومن جيل إلى جيل اعتماداً على الكلمة المنطوقة دون الكلمة المكتوبة، وعلى هذا يصح أن نقول إن القصائد الجاهلية التي بلغتنا ليست نتاج أفراد معلومين أو طبقة خاصة متعلمة وإنما هي نتاج جماعي نشأ ونما واكتمل عبر أجيال كثيرة))([13]).
ونحن إذ نتفق مع هذا الباحث في شق مما جاء في رأيه، فقد نختلف وإياه في الشّق الآخر، فأن يمثل الشعر الجاهلي أدباً موروثاً تتناقله الأجيال بوساطة الحفظ والتداول، وتكون المشافهة الوسيلة المتبعة في بقائه، فأمر لا خلاف فيه، أما أن نصيب الفرد أقل من نصيب الجماعة، فهذا ما يقتضي المناقشة، نعتقد أن القبائل تحفظ الشعر الذي يخلد أيامها، ويصور بطولاتها وغير ذلك كما تتغنى تلك القبائل بالأشعار وتتوارثها، هذه الأشعار التي هي مصدر إلهام الشاعر الذي يصوغها في ضوء ما يجول في خاطره وما يعتمل في نفسه من مآثر قبيلته، وبذلك فإن مصدر القول الشعري يظل منبعه الأصلي هو الشاعر، ويحافظ الشاعر على فردية الإبداع، بمعنى آخر فإنه يحافظ على فرديته وتميزه، وحتى في صورة ما إذا سلمنا بقضية التناص، فالشاعر هنا يمثل الصفوة ومن ثمة فإن هناك فئة محدودة من الناس هي التي تصنع هذا الموروث، ليس بصفته الموضوع في حد ذاته الذي وقع في مكان وزمان ومثّله قوم بعينهم، ولكنه بصفته وصفاً لذلك الذي حدث، لتأتي بعد ذلك تلك الطبقات العريضة من المجتمع تتناقل وصف هذا الذي حدث الذي يظل الشاعر أو الأديب هو مبدعه.
لقد تفانى الشاعر الجاهلي في خدمة قبيلته، وأخلص لها، وبذلك رفع من شأنها بوساطة القول الشعري الذي يعلي به كلمتها حين يتعصب لها إلى حد المبالغة والغلو في تصوير الوقائع والحروب، وما خالف ذلك من الصفات الأخرى خارج دائرة الحرب، ومقابل ذلك يكون جزاء الشاعر لقاء هذا العطاء الاحتفال به وبشعره وجعله يحظى بمكانة لائقة بينهم، فيظل حياً في النفوس حاضراً في كل موقف من خلال هذا الشعر الذي يمثل مصدر الذكرى وبؤرة الفخر وسجل المآثر.
______________
([1]) ثريا ملحس، القيم الروحية في الشعر العربي قديمه وحديثه، ص/14.
([2]) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص/8.
([3]) يحيى بن علي التبريزي، شرح القصائد العشر، المطبعة المصرية، ص/147.
([4]) محمد بن الخطاب القرشي، جمهرة أشعار العرب، مصر، المطبعة المصرية، ص/372.
([5]) الفخر والحماسة، مجموعة من الباحثين، دار المعارف ص/9.
([6]) سعيد منصور، القيمة الخلقية، في الخطابة العربية، ص/39.
([7]) عفيف عبد الرحمن، الشعر وأيام العرب، ص/79.
* نهد وجثعم: حيّان من اليمن. خيطنا: ضربنا ضرباً شديداً. لاحها: غيرها. المراخي: جمع رخاء وهي الناقة المسرعة.
([8]) ديوان عامر بن الطفيل، ص/1180.
([9]) بطرس البستاني، الشعراء الفرسان، ص/9.
([10]) الأصمعي، الأصمعيات، ص/58.
([11]) سعيد حسين منصور، القيم الخلقية في الخطابة العربية، ص/16.
([12]) عبد المنعم الزبيدي، مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي، ص/283.
([13]) المرجع السابق، ص/284.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق