كتاب جدلية القيم في الشعر الجاهلي رؤية نقدية معاصرة
المقدمة - الفصل الأول - بوجمعة بوبعيو
المقدمة
اعتمد هذا البحث - منذ أن كان مجرد فكرة تختمر في الذهن - على المساءلة، ولكن أية مساءلة؟ هل هي تلك التي تطرح مجموعة من الإشكاليات من منظور منهجي ما، ثم تنتهي من حيث ما بدأت، أم هي المساءلة التي تتطلع إلى كشف ما لم يكتشف بعد، وإثارة ما لم يثر قصد المحافظة على الاستمرارية في التعامل مع تراث ما، يربط الماضي بالحاضر ليطل على المستقبل دون أن تكون هناك هوة، ودون تشويه لذلك الفكر والأدب اللذين يعدان قمة ما وصل إليه الفكر الإنساني في زمانه.
من هذا الاقتناع، ووفق هذا الطرح تولد انشغالنا العميق ورغبتنا الملحة في معالجة جزء من تراثنا الشعري العربي الذي صور عبر العصور جانباً هاماً من جوانب الحياة الإنسانية في ضوء ما يمكن أن نصطلح عليه بالنظرة الفنية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة التي نحياها على أرض الواقع.
وقد عمدنا إلى وضع ((جدلية القيم في الشعر الجاهلي)) عنواناً لهذه الدراسة انطلاقاً من مجموعة فرضيات في مقدمتها، إن هذا الشعر مثل الشفوية الجاهلية حيث لم يدون بالكتابة، وإنما دون في الذاكرة الإنسانية، وإذا كانت هذه الذاكرة قد حافظت على جله وأوصلته إلينا بعد أن تناقلته عبر أجيال ليدون بعد ذلك ويصلنا مكتوباً، فإنه –عبر هذا الانتقال- حُرف بعضه، وضاع بعضه ونسب بعضه الآخر إلى غير قائليه الحقيقيين.
ولسنا هنا بصدد الخوض في قضية النحل والوضع، فذلك موضوع أسهب فيه نقدنا القديم والحديث، فضلاً عن جهود المستشرقين التي لا تنكر، ولكننا بصدد الإشارة إلى أنّ هذا الموروث الأدبي أو الفكري، ليس كل منتوج عبقرية الإنسان الجاهلي، بالإضافة إلى عدم إمكانية الجزم بصحة هذا الموروث من حيث الزمان والمكان والنسب في بعضه وليس في جله.
فالجدلية هنا تعني استفهاماً استفسارياً يظل مطروحاً ما دامت الحقيقة التاريخية للنصوص الشعرية التي نتعامل معها على أنها الوثيقة الرسمية فيها شيء من الأخذ والرد حول مصدرها ومنشئها الحقيقي، ومهما قوي جانب على آخر من الآراء في هذا الشأن فإن أحدهما لا يمكنه إلغاء الآخر، ما دام هذا النص -الموضوع - قد مر بذاكرة إنسانية قبل أن يدوّن.
أما الشّق الآخر من التساؤل فيكمن في حقيقة القيم من حيث الزمان والمكان، ومن حيث تقبلها وتحبيذها أو رفضها بصفتها خروجاً عن المألوف وخرقاً للأعراف السائدة.
إن جدلية القيم، تعني فيما تعنيه، الاعتقاد بنسبيتها لدى هذا الإنسان الذي عاش صراعاً وجودياً منذ اللحظة الأولى التي أبصر فيها نور الحياة، فقد صادفته مخاطر وأهوال، وواجهته طلاسم ظلت ترهبه وتجعله دائم الحيرة والخوف والتأهب استعداداً لأي طارئ.
ومن هنا فالقيم لدى الجاهلي تأخذ -في غالب الأحيان -مفهومين متناقضين أو متضادين، فهو يحمل بذور الخير في أعماقه لا محالة - ومن ثمة فقد آل على نفسه أن يمجد تلك القيم التي تنم عن طيبته وكرمه وسخائه ونبله، وسمو أخلاقه، وعلو همته وأصالته وشهامته، ولكن –مقابل ذلك- هناك معطيات خارجية تجعل من بعض تلك القيم نقيضاً لها يعيشُ داخل نفس هذا الإنسان، حين تقتضي الضرورة أن يبدّل قيماً بقيم أخرى حفاظاً على وجوده أو درءاً لمكروه.
فالقيم - إذن - صاحبت الإنسان منذ الأزل وتطورت بتطوره، بدءاً بالناموس العقلي الذي ميز الله به هذا الكائن الحي العاقل دون غيره من الكائنات الأخرى، وصولاً إلى القيم التي اكتسبها بوساطة الأديان السماوية، وبذلك أصبح يؤمن ببعضها وقد يترك بعضها الآخر إذا لم ينسجم مع ميوله أو نزعاته ونزواته أحياناً، أو لعدم قدرته على تطبيقها لسبب أو لآخر أحياناً أخرى.
ومن هذا التأرجح في التَّعامل مع القيم نجد تراثنا الشعري حافلاً ببعض التناقضات التي يعود السبب الجوهري فيها إلى أسباب عدة منها قسوة الطبيعة، قلة الزاد الاقتصادي، الرغبة في البروز والتفوق، التفاوت الطبقي، وما يولّده من تفاوت، في النظر إلى القيمة في حد ذاتها، وهناك أسباب أخرى منها ما هو خارجي كالحروب والكوارث الطبيعية مثلاً، ومنها ما هو داخلي يرتد إلى عوامل إنسانية متأتية من أعماق هذه الذات نفسها.
وانطلاقاً من أن التراث يمثل لدى أية أمة من الأمم تواصلاً فكرياً ومعرفياً بين أجيال تلك الأمة السابقة والحاضرة والآتية، وليس هوة، وبناء على أن الأجيال الحاضرة قد تفيد من تجارب ما دونته ذاكرة الأوائل، فإن هذا التراث ((فكري- أدبي - علمي - تاريخي)) لا يُتعامل معه على أنه تركة الأجيال فحسب، فلو اقتصر الأمر على مجرد هذا الإحساس أو الاعتقاد لكان التراث سبيلاً إلى الجمود والركود، والوقوف عند ما حققه هؤلاء الأجداد دون تجاوزه إلى اكتشافات إنسانية أخرى، وعوالم جديدة، ولعل ما نقصده هنا على وجه التحديد هو أن خير وسيلة لتقديس الموروث وضمان التواصل المعرفي لتحقيق استمرارية التطور والتجدد هو التعامل الموضوعي، كأن نبحث عن الإيجابي من الموروث ونشير إلى إيجابيته، ونتأمل السلبي ونشير إلى سلبيته، وبذلك نخدم تراثنا وأنفسنا في الوقت نفسه.
فالحاجات الإنسانية تختلف من جيل إلى جيل، كما أن وسائل التعبير عن تلك الحاجات تختلف هي الأخرى، لذلك فما عاشت أمة من إرث سابقتها، إن الإرث الحضاري لأمة من الأمم يجب أن يكون حافزاً لدفع أبناء الأمة التالية من أجل تجديد تلك الحضارة أسوة بمن سبقوهم، لا أن يظلوا عند التغني بأمجاد هؤلاء السابقين.
ومن ثمة فإن أدبنا العربي- مثلاً- لا يخلو من قيم وخصائص فنية وموضوعية لا نخجل من التفاخر بها أمام الآداب الإنسانية العالمية، لكن هذه الخصائص لم تعد كلها صالحة ليومنا هذا، وبذلك فعبثاً نتشبّث بكل ما يربطنا بماضينا دون تمحيص وترو ونقد، لأنه بنقدنا لأنفسنا نتحسس مواقف ضعفنا ومواطن القوة فينا، وبذلك نستطيع مواجهة العصر بوسائلنا الخاصة لا بوسائل غيرنا، على ألا نهمل هذا الغير الذي هو (أنانا).
وقد اعتمدنا في هذه الدراسة على المنهج التاريخي حين يتعلق الأمر برصد بعض الظواهر الشعرية في علاقتها بالبعد الزمني، كما استعملنا بعض آليات المنهج الوصفي عندما نرى ضرورة ملحة لإعطاء بعض التفسيرات التي تقرب وجهة نظر معينة، أو حين يتعلق الأمر بوصف بعض الظواهر الاجتماعية من خلال النصوص الشعرية أو من خلال بعض الرؤى النقدية، دون أن نهمل بعض أدوات المنهج التحليلي في أثناء التعامل مع المادة الشعرية لاستخراج بعض الأحكام القيمية.
ومن الغايات المنشودة في هذه الدراسة، الوقوف عند بعض القيم التراثية في شعرنا الجاهلي، وكيف كانت تتراوح بين القبول والرفض، وبين التمجيد والاستهتار مما تولد إحساساً لدى المطلع على هذا الشعر بأن هناك تناقضاً في القيمة لدى الشاعر الجاهلي بخاصة، والإنسان الذي عاش ذلك العصر بعامة، وحاولنا أن نصل إلى حكم يتمثل في أن المسألة ليست مسألة تناقض، ولكن القيمة –في حد ذاتها -تخضع لظروف زمنية ومكانية، وعصبية قبلية أحياناً، مما يجعلها غير ثابتة لدى هذا الإنسان الذي تتحكم فيه –هو الآخر- مؤثرات خارجية وأخرى داخلية، ومن ثم فإن القيمة تظل قابلة لاحتمالين يبدوان متناقضين، أحدهما يبدو إيجابياً، والآخر سلبياً، لكن الحقيقة –فيما نرى- تكمن في أن طبيعة الإنسان الجاهلي هي طبيعة إنسانية خيرة، وأنها جُبلت على تمجيد القيم السامية، وتفضيل كل ما له علاقة بالمروءة والشهامة التي هي من خصائص البدوي أصلاً، غير أنه يضطر أحياناً للتعامل مع القيمة بوجهها الآخر، استجابة لرغبات ذاتية أو اجتماعية في الإعلان عن وجوده، وعن مكانته، وهيمنته، وهذا ما يولد لديه إمّا استهتاراً بتلك القيم أو خروجاً عن المألوف فيها لبلوغ غاية تبدو له جوهرية.
والحقيقة أن علاقتنا بالأدب الجاهلي تعود إلى بداية المرحلة الثانوية وما قبلها بقليل، حيث كان شغفنا بالأدب عامة والشعر خاصة شديداً، ولكن تلك العلاقة توطدت أكثر، وبدرجة واعية بعد إنهاء أطروحة الدكتوراه، لا سيما بعد تدريس مادة الأدب الجاهلي لطلبة الليسانس، وحينئذ عاد الحنين الدفين، وتحددت مجموعة من التساؤلات التي ظلت كامنة زهاء عقد من الزمن، وكان لا بد من إيجاد أجوبة لبعض تلك التساؤلات، التي اختصرت في عدد من الفصول التي شملتها هذه الدراسة.
عالجنا في الفصل الأول الشفوية في الشعر الجاهلي، وقد اقتصرت تلك المعالجة على جانبين، أما الجانب الأول فكان جانباً نقدياً حيث عمدنا إلى مناقشة هذا الموضوع من زاوية نظر نقدية بحته، لا سيما من وجهة نظر أدونيس الذي ناقش الموضوع في ضوء رؤية معمَّقة ركّزت على عنصر الذاكرة في ذلك المنتوج التراثي الشعري الذي ظل ينهل من مخزون الذاكرة ليؤلف شعراً غنائياً سماعياً يمتزج فيه الفن الشعري بالفن الموسيقي المصحوب بالإنشاد الذي صاحب الكلمة الموزونة المقفاة.
أما الشق الثاني من هذا الفصل فقد انطلق من المنظور التاريخي النقدي الذي كرّس مفهوم الشفوية، ووقف عند التطور الذي مرّ به هذا الشعر في حركة تطوره وانتقاله عبر الزمن، وصولاً إلى القرن الثاني الهجري الذي اشتهر بحركة نشطة في مجال الكتابة والتدوين، وظهرت خلاله فئة جيدة من الرواة والمهتمين بالشعر بخاصة.
أما الفصل الثاني فقد تناولنا فيه مفهوم القيمة، حيث عملنا على تقريب الصورة المراد إيضاحها، فإذا كان الشعر- في حد ذاته- يمثل قيمة كبرى، ففي ظل هذا الشعر تكمن مجموعة من القيم التي تبلورت في المجتمع الجاهلي بعامة، وعبّر عنها الشعراء كلٌّ بطريقته الخاصة، ولكن ضمن الإطار العام الذي يحكمها، وهكذا اختلطت الجوانب الفنية بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تمخَّض عن توليد قيم جديدة وأخرى قديمة، فكانت القيم خاضعة لتلك المؤثرات.
ويأتي الفصل الثالث ممثلاً لجانب هام في هذه الدراسة، بحيث تناول قضية المقدمة الطللية بين الاستجابة النفسية والتقليد الفني، فإذا كانت هذه المقدمة قد مثلت ظاهرة شعرية متميزة في الشعر الجاهلي، وأسهمت في خلق الشكل الفني الذي يميز معمارية القصيدة القديمة، فهل هذه المقدمة شيء متأصل في نفس الشاعر الجاهلي بحيث يعيشها أو يعايشها، ومن ثمة لا يستطيع التخلي عنها في قصيدته أو مطولته التي قد تتفرع إلى مجموعة من الأغراض المختلفة التي تجمعها القصيدة الواحدة، أم أنها مجرد سنة فنية لا بد من الاستهلال بها كي لا يخرج الشاعر عن قدسية عمود الشعر؟
وفي ضوء ذلك كان من الطبيعي أن نلم بمجموعة من الآراء النقدية التي عالجت هذا الموضوع، ثم نحاول أن نخرج بنتيجة من خلال رؤية نقدية خاصة.
في حين اهتم الفصل الرابع بالشعر الجاهلي في ضوء (أنا الشاعر) واعتداد القبيلة وشموخها، وانطلاقاً من قول الشاعر الذي يصوّر ذلك الشموخ والاعتداد بالنفس الفردية والجماعية معاً، لا سيما أن ذلك الاعتداد يمثله شعر الحماسة والفخر الذي يمثّل مجموعة من القيم السائدة التي هي بمنزلة الناموس العام الذي يحكم أبناء القبيلة فيما بينهم، وفيما بين أبناء القبائل الأخرى، وكيف تتحكم فيهم العصبية القبلية في ظل الإحساس بنشوة النصر، أو التظاهر بالقوة والغلبة فتخضع من ثمة القيم لظروف طارئة أحياناً، فتكتسب شيئاً من الديمومة والثبات، لكنها سرعان ما تتغير النظرة إلى تلك القيم فتصبح نسبية أحياناً أخرى.
وبطبيعة الحال فقد اقتصرنا في هذا الفصل على نماذج مختارة من الشعر الذي صور جوانب معينة من الفخر الذاتي أو الفخر بمآثر القبيلة تماشياً مع طبيعة الفكرة التي نريد معالجتها وهي فكرة القيم، وبذلك لم نسهب في غرض الفخر في أشكاله وضروبه المختلفة.
ثم خصصنا الفصل الخامس لدراسة ظاهرة الصعلكة التي كان لها حضورها القوي على المستوى الفني والمعنوي والاجتماعي، والتي تعد –في الوقت نفسه- استمراراً لحركية تلك القيم السائدة في ذلك العصر الذي لا يخلو من تناقضات وتناحرات وصراعات قبلية وطبقية.
وفضلاً عن أن شعر الصعاليك –بوجه عام- يمثل ظاهرة فنية راقية تستحق وقفة متأنية من حيث جوانبها الفنية بخاصة، فإن قيمة هذا الشعر الموضوعية جديرة –هي الأخرى- بالتأمل والتروي، إذ أن شعر الصعاليك –في جزئه- الذي وصل إلينا- ينبئ عمَّا كان سائداً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ويعطينا فكرة ما عن طبيعة المجتمع في تعامله مع الأفراد والجماعات في ظلّ مفاهيم اجتماعية معينة.
وقد حاولنا أن نقف عند الجوانب الخفية التي أدَّت إلى بروز ظاهرة الصعلكة في الشعر بحيث أن المسألة لا تكمن في مجرد قطاع طرق عرفوا بالنهب والسلب وأخذ مال الغير ظلماً وعدواناً، ولكن لهذه الظاهرة أسباباً أخرى جعلت فئة من هؤلاء الشعراء الفرسان يثورون على مجتمعاتهم القبلية، ويتمردون على جل القيم الجائرة، ويعلنون رفضهم لتسلط أعراف القبيلة مما ترتب عليه ما يسمى بالطرد والخلع، فكان أن تكونت مجموعات من أولئك الخلعاء أعلنت امتهان الصعلكة، وطالبت بعدالة اجتماعية هي إلى مبدأ الفوضوية أقرب منها إلى العدالة الاجتماعية الحقيقية لاعتمادها على مبدأ السلب والنهب.
ونظراً لما تميز به العصر الجاهلي من تفاوت طبقي جلي، وبناء على السيرة الذاتية التي مثلها شعر عنترة بصفتها لا تخلو من ذلك الصراع الطبقي الوجودي وبحكم المعاناة النفسية التي صورها شعر هذا الشاعر الملحمي، فقد حبذنا أن نجعل الفصل السادس خاصاً بمعالجة هذا الصراع، لا سيما أن هناك مؤثرات عامة وخاصة، تظهر الاتجاه العنصري إزاء العبودية التي كان عنترة رمزاً لها ولكنه الرمز الإيجابي بحكم ما عرف به هذا الشاعر من رفض للذلّ والخنوع، وعمل دائب لفرض وجوده بين أسياد القبيلة، رغم لونه الأسود ورغم كل ما لقيه من رفض وتعنت أسري وقبلي، ووسيلته في كل ذلك فروسية خارقة وأخلاق عالية.
لقد حاول هذا الفصل -إذن- أن يؤلف موقفاً نقدياً انطلاقاً من تلك الملحمة الشعرية التي مثلها عنترة في علاقته بابنة عمه عبلة التي هي موضوع جلّ شعره، ومن ثمة هي الغاية المنشودة التي بتحقيقها تتحقق حريته وتفك قيوده، ثم عالجنا الهجاء مبرزين جوانبه السلبية والإيجابية من خلال الهجاء الشخصي والقبلي.
وإذا كان من فضل على هذه الدراسة فإنه يعود إلى عدد من الدراسات والبحوث التي استطعنا الحصول عليها والإفادة منها، فمنها ما يتعلق بدراسة الشعر الجاهلي من منظور تاريخي وصفي، ومنها ما عالجت موضوعات هذا الشعر سواء من الوجهة الفنية أو الموضوعية، وقد تراوحت هذه الدراسات بين الجودة والخلق أحياناً، وبين التكرار والقصور أحياناً، ولكنها في مجموعها تنمُّ عن جهود حميدة من قبل المهتمين بهذا الموروث الشعري الغني بموضوعاته وفنونه.
وبغض النظر عما أثارته هذه الدراسات والبحوث من قضايا وآراء، فقد نبهتنا إلى عدد من الأفكار والمواقف النقدية التي أضفت على بحثنا هذا شيئاً من الدقة والتروي، وأسهمت في تعميق بعض المواقف النقدية والأحكام المتعلقة ببعض الجوانب الاجتماعية أو التاريخية، ولئن كنا لا نستطيع ذكر جميع هذه المراجع فإننا نقتصر على ذكر بعضها فحسب ومنها: الشعراء الصعاليك ليوسف خليف، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية لناصر الدين الأسد، المطلع التقليدي في القصيدة العربية لعدنان عبد النبي البلداوي، الهجاء الجاهلي صوره وأساليبه الفنية لعباس بيومي عجلان، بطرس البستاني وكتابه الشعراء الفرسان، الفروسية في الشعر الجاهلي لنوري حمودي القيس، الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه ليحيى الجبوري، مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي لعبد المنعم خضر الزبيدي، خصوبة القصيدة الجاهلية ومعاناتها المتجددة لمحمد صادق حسن عبد الله، الصورة الفنية في الشعر الجاهلي لنصرت عبد الرحمن، الهجاء والهجاؤون لمحمد حسين، وغيرها من الكتب التي لا ننكر فضلها حتى وإن كنا لم نقتبس منها فكرة أو نناقش بعض القضايا التي تطرقت إليها بالدراسة والتحليل والنقد، فضلاً عن الدواوين الشعرية وبعض أمهات الكتب التي استشهدنا ببعض ما نقلته من نماذج شعرية في مختلف الأغراض.
وفي الختام نسأل الله أن يكون قد وفقنا فيما نوينا من خدمة خالصة لتراثنا الشعري العربي من خلال هذا الجهد العلمي المتواضع، فإن استطعنا أن نضع أيدينا على الجوانب التي لم يشر إليها غيرنا ممن سبقونا في هذا الحقل المعرفي الواسع، أو أن ننبه إلى فكرة قد تمهد لغيرنا ممن يشتغل في هذا المجال سبيل البحث والتنقيب فتلك غايتنا المنشودة ومبتغانا، وإن قصرنا في بلوغ المراد فعزاؤنا أننا بذلنا جهداً خالصاً.
والله من وراء القصد.
الفصل الأول - شفوية الشعر الجاهلي
1 - قد لا نبالغ- منذ البدء- حين نذهب إلى أن أحكامنا على الموروث الشعري العربي- من حيث بداياته وتطوراته- تظل نسبية، وذلك في ضوء نسبية الوثيقة النصية الكاملة لهذا الموروث، والتي لم تتوفر بالشكل المطلوب لدى الباحثين والمختصين من نقاد ومؤرخين.
فالنص التاريخي، تاريخياً كان، أم فكرياً، أم أدبياً، قد لا يقول الحقيقة مجرّدة، ولكنه يضعنا –على الأقل- على مقربة منها، بعد أن نتأمله ونستقرئه، ونغربل ما يمكن غربلته في ضوء ما نملك من آليات منهجية ومرجعيات ثقافية.
أما في غياب هذا النص أو عدم توفره كاملاً بين أيدينا، فإن ما نقرره من أحكام يظل –دوماً- نسبياً وقابلاً للأخذ والرد، غير أن ذلك يحفزنا على ديمومة البحث واستمراريته قصد كشف ذلك المجهول، ومن ثمة نظل على احتكاك دائم بالموروث الذي يمثل همزة الوصل بين ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله.
ومما لا يدع مجالاً للشك أن القصيدة العربية الجاهلية مرّت بمراحل من النمو والتطور حتى وصلت إلى الشكل الذي وصلت به إلينا، وقد ينطبق عليها ما ينطبق على الطفل منذ أن يكون جنيناً في بطن أمه إلى أن يبلغ مرحلة الولادة.
وهكذا فإن مطولات امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وغيرها لا تمثل –بأي حال من الأحوال- بدايات الشعر الجاهلي، ولكنها تمثل ذروة ما وصل إليه هذا الشعر في زمنه.
ومما يلفت الانتباه هنا أن الشاعر الجاهلي الذي عبّر –بشعره- تعبيراً ذاتياً عن وجوده وأحلامه وحبّه ومختلف مناحي حياته، لم يكن –رغم ذلك- يتصور الشعر عملاً فردياً، يعبر من خلاله عن ذاته الفردية، بل كان يتصوره نوعاً من النبوغ في التعبير عن أحلام القبيلة وأمالها ومخاوفها(1).
فمثل هذه الذاتية الفردية وظفت للتعبير عن الذات الجماعية في ظل علاقة التلاحم بين الشاعر وقومه ليكون –بذلك- صدىً للنفس الفردية التي تنقل ذلك الصدى إلى الجماعة، وكأنها مجرّد وسيط لتبليغ رسالة أو خطاب.
ومثل هذا الحكم يجرنا إلى قضية أهمّ، وهي المتمثلة في نوعية هذا الشاعر وماهية شعره، فهل صحيح –مثلاً- أنه ينظم الشعر اعتماداً على فطرته؟ وهل امتلك نصيباً وافراً من الثقافة مكّنته من أن يتفرد ويتميز عن باقي قومه؟.
ولئن كنا لا نجحد حق الشاعر الجاهلي من تلك الموهبة الفطرية التي تميز بها عن بقية أبناء قبيلته، حيث أن المواهب تتفاوت بين الأفراد والجماعات إلا أن الشاعر الجاهلي، فضلاً عن موهبته فقد امتلك شيئاً من الثقافة، -ثقافة الرؤية- وقد تكتسب هذه الثقافة من المثاقفة بإطلاعه على منتوج غيره من المعارف الإنسانية المختلفة، وقد تكتسب من التجارب والعبر الحياتية التي يفيد منها في حياته، وفي تجاربه وسلوكاته، ومن ثمة فحين يقول شعراً فهو لا يقول شيئاً غامضاً، ولكنه يعبر عما يحس به بقية أبناء قبيلته، بيد أنهم لا يستطيعون قولـه، وهذا ما نوافق فيه "أدونيس" الذي يرى أن ((الشاعر قبل الإسلام كان يقول ما يعرفه الذين يصغون إليه، لأنه يقول عاداتهم وتقاليدهم، مآثرهم وحروبهم انتصاراتهم وهزائمهم))(2).بيد أن هذه الثقافة التي امتلكها الشاعر، ظلت ثقافة شفوية، حيث أن الأصل الشعري العربي ((نشأ شفوياً ضمن ثقافة صوتية سماعية، وإلى أنه من جهة ثانية لم يصل إلينا مخطوطاً في كتاب جاهلي، بل وصل مدوّناً في الذاكرة عبر الرواية))(3).
فالعنصر الثقافي موجود لدى هذا الشاعر، لكنه لم يعتمد تدوين تلك الثقافة على الكتابة، ولكنه استمدها سماعياً، ومن ثمة فحين نقلها إلى غيره تمت بالوسيلة نفسها لتظل في مرحلة العطاء أيضاً صوتية- سماعية.
وإن كنا لا نستطيع الجزم أن جميع هؤلاء الشعراء لم يعرفوا الكتابة فهذا أمر آخر ليس هنا مجال الإفاضة في مناقشته، ولكننا نقرّ بأن شعره الذي نقله إلى غيره جاء عن طريق الرواية والمشافهة.
ولد الشعر العربي الجاهلي نشيداً –إذن- فقد نشأ مسموعاً لا مقروءاً، غُني ولم يكتب، كان بمنزلة الموسيقى الجسدية، فهو لم يقتصر على كونه كلاماً، بل كلام وشيء آخر، قد يتجاوز الكلام، وما يعجز عن نقله الكلام، وبخاصة المكتوب، وفي هذا ما يدلّ على عمق العلاقة وغناها وتعقدها بين الصوت والكلام، وبين الشاعر وصوته، إنها علاقة بين فردية الذات التي يتعذر الكشف عن أعماقها، وحضور الصوت الذي يتعذر تحديده حين نسمع الكلام نشيداً لا نسمع الحروف وحدها، وإنما نسمع كذلك الكيان الذي ينطق بها))(4).
ولعل ذلك يضطرنا للحديث عن الكلمة في الشعر الجاهلي من حيث وظيفتها ودلالاتها، فهي مقترنة لا محالة، أي أنها ليست معزولة عنه، ففي الكلمة –الموسيقى- النشيد، حيث أن هناك تلاحماً وانسجاماً بين الكلمة من حيث الدلالة المعنوية التي تؤديها وبين الصوت الذي تحدثه هذه الكلمة، إن الدال هنا ((هو طاقة متعددة الإشارات، إنه الذات وقد تحوّلت إلى كلام –غناء- إنه الحياة- لغة- أو في شكل لغوي، ومن هذا التوافق العميق بين قيم الكلام الصوتية في الشعر الجاهلي ومضموناته العاطفية والانفعالية))(5).
إن الشفوية تفترض السماع لأن الصوت يستدعي الأذن، ولهذا تميزت الشفوية في الشعر الجاهلي بفن خاص في القول الشعري ((لا يقوم في المعبر عنه، بل في طريقة التعبير، خصوصاً أن الشاعر الجاهلي كان يقول –إجمالاً- ما يعرفه السامع مسبقاً.
كان يقول عاداته وتقاليده، حروبه ومآثره، انتصاراته وانهزاماته، وفي هذا ما يوضح كيف أن قراءة الشاعر لم تكن فيما يفصح عنه، بل في طريقة إفصاحه))(6).
إذن، هناك علاقة حميمة بين الشفوية الشعرية في العصر الجاهلي وبين السماع، ولعل ذلك يرتد –بناء على اعتقاد أدونيس- إلى أن النقد الشعري الجاهلي أُسس على مبدأ السماع، وعلى مستوى الصلة بين الشعر وسامعه، ولم يكن الشاعر الجاهلي -إذن –ينشئ الشعر لنفسه، بل لغيره، لمن يسمعه ويتأثر به، ومن هنا كانت قدرة الشاعر على الابتكار الذي يؤثر في نفس السامع(7).
وأياً كان الأمر فإنه لا مندوحة لنا من تقبل رأي "أدونيس" بشيء من التحفظ، إذ أن أي شاعر في أي زمان أو مكان لا نتصوره حين ينظم شعراً إلا منطلقاً من ذاته، ومن رؤاه الخاصة ليخرج هذا الشعر بعد ذلك إلى العالم الخارجي، أي إلى الغير، هذا الغير المنفصل عن ذات الشاعر، ولكنه قد ينسجم مع ما تنتجه هذه الذات من رؤى ومشاعر، ومن ثمة فقد يؤثر بشعره في هذا الغير الذي هو السامع أو المتلقي، لا لأن الشاعر قد ألف شعره خصيصاً لذلك الآخر، على الرغم من ارتباط الشاعر بمفاهيم مجتمعه، ولكن لأن هذا الآخر قد وجد في ذلك الشعر الذي هو منتوج فردي –أصلاً- صدى مؤثراً في نفسه، لأن الشاعر الجاهلي –كما أسلفنا- ليس فرداً منعزلاً بل إنه يعيش ضمن مجتمع قبلي يؤثر فيه ويتأثر به.
ولا شك أن الشاعر الجاهلي قد تميز بقدرة خاصة على الابتكار الذي أهله لأنه يؤثر في سامعه الذي يتلقى منه الشعر، لا سيما أن هذا الشاعر، كان عليه أن ينشئ شعراً مطابقاً لما في نفس سامعه، حيث أن المسألة الجوهرية تكمن في مدى نجاح شعر الشاعر، هذا النجاح الذي يظلّ مرتبطاً بمدى فهم السامع وتأثيره بما يقوله الشاعر، ومن ثمة فإن هناك قاسماً مشتركاً بين الشاعر ومتلقي شعره، يمثله الذوق العام المشترك الذي يجعل أحدهما قادراً على التصوير والآخر قادراً على فهم هذا التصوير وتذوقه.
3- ويعد الشعر الجاهلي أصل الشعر الذي انبثق منه شعرنا العربي في مختلف عصوره، وذلك لأنه أرسى دعائم عمود الشعر، وثبّت نظام القصيدة فضلاً عن كونه مثل أهم القيم الفنية الأصيلة، وشكل مصدراً من مصادر الدراسة، ثم إنه استطاع أن يصور لنا فترة من أصعب الفترات التاريخية في حياتنا العربية ويرسمها وهي تجتاز مراحل نموها وتطورها(8).
وقد سبق أن أشرنا من قبل إلى أن الشعر الجاهلي ارتبط –في بداية مراحل نموه- بالغناء ارتباطاً وثيقاً، حتى إن الشعر والغناء أصبحا يمثلان شيئاً واحداً عند العرب في تلك المرحلة المتقدمة، وكان الشاعر مغنياً وقاصاً في الوقت نفسه، ومن الأدلة القاطعة على ذلك الارتباط أن العرب القدماء كانوا يلقبون عدداً من الشعراء الذين ذاع صيتهم بألقاب تنم عن مدى ذلك التلاحم بين الشعر والغناء، فقد لقب عدّي بن ربيعة التغلبي أخي كليب وائل بالمهلهل، من الغناء بالشعر أو التهليل به، وهو عند العرب من قصّد القصائد وذكر الوقائع(9)، وقيل سمى كذلك لأنه أول من هلهل الشعر أي رققّه وغناه.
كما لقّب الأعشى بصنّاجة العرب انطلاقاً من أنه كان يغني شعره(10).
ولعل أولية الشعر الجاهلي تجرنا إلى الوقوف عندما اتّهم به هذا الشعر من ارتجال بحكم ما عرف به من مشافهة وتوارد الروايات الشفهية حول القصيدة الواحدة، حيث إن الرواة قد ينقلون القصيدة الواحدة بروايات مختلفة مما يحدث أنساقاً مختلفة في تراكيب القصيدة، لا سيما حين نجد راوية يقول "أنشدني" فلان كذا، ثم يأتي راوية آخر ويستعمل عبارة "أنشدني" هو أيضاً، ولكن برواية مخالفة مما يجعلنا نميل إلى رأي "زويتلر ومونرو" اللذين ينظران إلى هذا الشعر على أنه أغنية(11).
ولعل الارتجال هنا يرتد إلى عملية الصياغات الجاهزة، أو ما اصطلح عليه "بالقالب الصياغي" حيث أن المعجم اللغوي التصويري يمتح من نفس المعين الذي متح منه السابقون، فتأتي من ثمة التراكيب مكررة.
أما مسألة الإنشاد فمع أننا لا نستبعد أن يكون بعض الشعر الجاهلي قد أنشد وغُني، كما تشير إلى ذلك أمهات الكتب العربية التي أرّخت للأدب العربي القديم، أو وصفت بعض ملامحه في ضوء مراحل نموه و تطوره، إلاّ أن لفظة الإنشاد لا تعني دوماً أن ينشد الشعر مموسقاً، في حين أن اختلاف رواية الشعر أمر لا خلاف حوله.
إلا أن الارتجال في قول الشعر لا يعني أن جميع الشعراء الجاهليين سواء في القدرة الإبداعية من حيث التصرف في البناء اللغوي وابتكار المعاني، وليس شرطاً أن يكون هؤلاء الشعراء نهلوا من معين بعينه في جميع الأغراض، إذ أن لكل شاعر موهبته وشخصيته الشعرية لا محالة، ولعل ذلك ما يفسر لنا كيف أن شاعراً مثل النابغة الذبياني يختلف عن زهير بن أبي سلمى، وعنترة يختلف عن امرئ القيس من حيث الأغراض أحياناً، ومن حيث التصوير أحياناً أخرى. وإن كان ذلك لا ينفي –بالضرورة- وجود ((القالب الصياغي)) الذي مثل النَّموذج الشعري المحتذى:
((إن القالب الصياغي –العبارة المتداولة المتكررة موجودة حقاً، وهي إحدى التجهيزات التي يجب أن يتسلح بها ناقد الشعر القديم حين تتهيأ له إمكانيات كثيرة غيرها، إننا –في الواقع- نفرض أنفسنا نقاداً لذلك الشعر ونحن عرب، ومع ذلك تنقصنا خبرات كثيرة كانت تتوفر للأقدمين.
إن إحساسنا باللغة التي جاء فيها الشعر الجاهلي هو غير إحساس الخليل ابن أحمد والأصمعي، ومع ذلك نتسرع في جعل أنفسنا حكّاماً على كون هذه القطعة منحولة أو غير منحولة، لقد كان في القدماء من أطلق عليهم العلماء بالشعر))(12).
ولعل إتيان الشعر الجاهلي بواسطة الرواية الشفوية، قد سبب ذلك شيئاً من اللبس بين الأدب الشعبي والأدب الرسمي، وهنا لا بد من التمييز بين هذين النوعين من الشعر، فما بلغنا عن طريق المصادر المؤلفة مثل "الأصمعيات" و "المفضليات" و "طبقات" ابن سلام هو من الأدب الرسمي لا محالة، لأن هذا الشعر يختلف عن تلك الأشعار الشعبية التي تقال في ليالي السمر والمجالس الشعبية(13).
أما أن ننظر إلى كل أدب منقول عن طريق المشافهة وبواسطة الذاكرة التي هي وسيلة نقل عبر الأجيال على أنه أدب شعبي، فقول لا يخلو من مبالغة وتعميم لسبب بسيط وهو أن هذا الأدب يفقد مع الأيام خصائصه واستقلاليته، ويصبح أدباً خليطاً ومتداخلاً، ونحن إذ لا ننكر ما قد تسببه الذاكرة من تحريف أو تصحيف، وما يتحمله الرواة من تحويرات أو زيادات في بعض الشعر عن حسن نية أو عن سوئها، إلا أن كل ذلك لا يحملنا على التشكيك في هذا التراث الشعري الذي يعدّ الدعامة الجوهرية التي حافظت على خصائص أدبنا العربي ولغته منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً من الزمن، وعلينا أن نفرّق بين الدعوة إلى امتلاك المناهج التي نستطيع من خلالها، معرفة الزائف من الصحيح، وبين الدعوة التشكيكيّة التي هي في النهاية دعوة تدميرية للتراث العربي عامة ومما لا ريب فيه أن من أهم الدوافع التي أدّت بهؤلاء الذين أخذوا بفكرة ضياع النسبة وفقدان النص هو اعتمادهم على عدم استعمال الكتابة في الشعر، فما دامت الكتابة غير مستعملة، أو أن استعمالها يتم في إطار ضيق ومحدود، فإن الشعر –بالمقابل- كان غير مدوّن، وبذلك انعدمت وسيلة الحفظ العلمية(14)، فإذا كان العرب أميين لا يكتبون، لا سيما أن النقوش لم تكشف حتى الآن عن أبيات شعرية مكتوبة، فهذا ما يؤكد أن العرب كانت تشيع فيهم الأمية.
والواقع أن مسألة شيوع الأمية في الأوساط العربية القديمة تظل نسبية، حيث أن عدم شيوع الشعر مدوناً ليس دليلاً قاطعاً على عدم معرفة العرب للكتابة، فعلى الرغم من قلة شيوعها، كما تشير إلى ذلك الآيات القرآنية، وبعض المصادر العربية، فالمسألة في رأينا تكمن في محدودية تلك الكتابة وفي ضعف إمكانيات انتشارها، وليس في عدم وجودها.
وفي ضوء ما سبق، فإن فهم الشعر الجاهلي فهماً صحيحاً يتوقف على ضرورة النظر إليه على أنه كان ينظم مشافهة، ويؤلف جلّه من مواد تقليدية، فقد يعاد تركيبه ويخضع للتعديل باستمرار، ثم إن الرواة تناقلوه جيلاً بعد جيل مع إعادة مستمرة لصياغته فضلاً عن أن راوي هذا الشعر ((لم يكن مجرد ناقل لنصٍّ سابق غريب عليه، وإنما كان –في الوقت نفسه- شاعراً مؤلفاً وفناناً محترفاً يعيد بقدر غير قليل من الحرية نظم ما ينقله من نصوص ومواد شعرية قديمة))(15).
ولا شك أن الشعر الجاهلي مرّ بمراحل انحصرت في مرحلتين بارزتين هما مرحلة الإنشاء وصولاً إلى مرحلة التجميع والتدوين.
أما المرحلة الأولى فتتمثل في تلك الفترة الغامضة من تاريخ نمو هذا الشعر، حين كانت الرواية الشفوية هي وسيلة الجاهليين المثلى، إن لم تكن الوحيدة في رواية أشعارهم وحفظها، إذ عن طريق هذه الرواية وصل إلينا جلّ هذا الشعر، هذا القدر من الشعر الذي ظفر بعناية رواة القرن الثاني الهجري الذين ما فتئوا يجمعون نصوصه ويشرحونها ويدونونها(16).
ومن تتبع تاريخ الشعر الجاهلي يلاحظ أن هذا الشعر تنقل بين القبائل في شبه الجزيرة العربية ((في شبه دورة زمنية ومكانية وقبلية واضحة، فقد كان في أول الأمر، في ربيعة، ثم تحول الشعر في قيس، ثم استقر آخر الأمر في تميم))(17).
وحين نتحدث عن الرواة بدءاً من القرن الثاني الهجري، فأول ما يسترعي الانتباه أن هؤلاء كانوا يكتبون، ويحفظون الشعر في صحف ودواوين، غير أنهم لا يكتفون بمجرد التدوين، بل يحفظون هذا الشعر في صدورهم وذاكرتهم ثم ينقلونه في مختلف المجالس الأدبية والمحافل إنشاداً، وقد تم ذلك في جميع العصور الإسلامية(18).
وينقسم رواة الشعر إلى طبقات، وأولى تلك الطبقات طبقة الشعراء وهم قسمان أو طائفتان: منهم شعراء يروون شعر شاعر بعينه، فيحفظون هذا الشعر ويتأثرون به، ثم ينسجون شعراً متأثرين بما حفظوه وتمثلوه، وهم بذلك يقلّدون في بادئ الأمر، ثم يتحول ذلك التقليد الواعي إلى طبيعة وفطرة يصدرون عنها صدوراً فنياً، وتلك هي فئة الشعراء الرواة، هذه الفئة، يمكن بموجبها أن تسمّى ((مدرسة شعرية))(19).
كانت القبيلة –إذن- تعنى بالشعر عناية فائقة، ومن ثم فقد كانت هي بدورها مصدراً من مصادر شعر شعرائها ((ومصدراً من مصادر الشعر الذي يمدحها به شعراء القبائل الأخرى، ومن أجل ذلك أخذ العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري بعض شعر الجاهلية من هذه القبائل ومما يرويه رواة منها من شعر شعرائها))(20).
وإلى جانب طبقة رواة الشعر الذين ينقسمون إلى ثلاث طبقات هي: طبقة الشعراء الرواة ورواة الشاعر، ورواة القبيلة، فإن هناك طبقة من النسّاخ ظهرت في العصر الجاهلي ذاته، اشتغلت هذه الفئة بتدوين الصحف ثم بيعها في الأسواق، وقد كان بعض هؤلاء يحترفون النساخة ويؤجرون عليها، وليس القصد من ذلك أن الكتابة كانت منتشرة بشكل واسع بحيث يوفر القصائد ويجعلها في متناول الجميع، ولكن لندلل على أن أمر الكتابة لم يكن منعدماً في العصر الجاهلي، وممن كان ينسخ في الصحف عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب "رضي الله عنه"، ومالك بن دينار ((قال دخل عليّ جابر بن زيد وأنا أكتب مصحفاً، فقلت كيف ترى صنعتي هذه يا أبا الشعثاء؟ فقال: نِعْم الصنعة صنعتك))(21).
إن مسألة الكتابة أو التدوين أمر لا جدال في وجوده خلال العصر الجاهلي، وقد نسخت أعمال كثيرة، غير أن القضية تكمن في مدى انتشار الكتابة وذيوعها، حيث لا نتوقع أن إنساناً ما يستطيع في ظرف زمن قصير أن ينسخ كتاباً تتجاوز نسخه أصابع اليد، بل أن هناك من يذهب إلى أن هذا الناسخ لا ينسخ أكثر من نسخة واحدة:
((إن هذا التدوين الذي ذكرناه، على ما كان من وجوده بل انتشاره، لم يكن له من سعة هذا الانتشار ما يتيح وجود نسخ كثيرة من الديوان الواحد، تفي بحاجة القارئين آنذاك وأن ذيوع شعر الشاعر أو أخبار القبيلة ومآثرها لم يكن قائماً على القراءة من الديوان أو الكتاب، وإنما كان يقوم على الرواية الشفهية من فرد إلى فرد ومن جيل إلى جيل. أجل لقد كان هذا الشعر أو بعضه مدوناً -كما بينا –ولكن تدوينه كان مقصوراً على نسخة واحدة هي الأم أو المرجع، أو على نسخ قليلة محدودة ينسخها أفراد قلائل من الرواة أو الشعراء أو أبناء قبيلة الشاعر أو الممدوحين من سادة الأشراف، ثم يحفظ هؤلاء جميعاً أو بعضهم هذا الشعر ويساجلونه إنشاداً لا قراءة، في مجالسهم ومشاهدهم وأسواقهم))(22).
وجملة القول إن الشعر الجاهلي الذي يمثل المدوّنة العربية الأصيلة في تراثنا الشعري نشأ سماعياً، قياساً إلى عدم توفر الإمكانيات التي تمكن من تدوينه وكتابته في زمنه، ومن ثمة كان من الصعوبة بمكان تحديد المدة الزمنية التي تؤرخ لظهور هذا الشعر في أول نشأة له، مما جعل المؤرخين والمهتمين بهذا الموروث يحددون فترة زمنية تعود إلى قرن ونصف قبل ظهور شعر امرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية البارزين، مما يعني أن القصيدة الجاهلية التي مثلها الشعراء الجاهليون الذين وصل إلينا شعرهم لا تمثل بدايات الشعر الجاهلي، ولكنها تمثل القصيدة الجاهلية في مرحلة نضجها واكتمالها الفني.
وفي ضوء المعطيات السابقة يبدو طبيعياً جداً أن يختلف الرواة في تحديد نسبة بعض الشعر الجاهلي، فقد ينسب بيت أو أكثر إلى غير قائله، وقد يضيع شعر كثير لأسباب سياسية أو اجتماعية أو لعدم حفظه والاحتفال به كأن يهمل بعض شعر الصعاليك الذين خلعتهم قبائلهم، فراحوا يعيشون حياة التشرد في أعماق الصحراء وضاعت أشعارهم بصرف النظر عن قيمتها الجمالية أو الموضوعية، كما أن هناك أسباباً أخرى لا محالة –أدت إلى ضياع شعر غزير- ولئن كنا على يقين من أن الدراسات القديمة والحديثة التي أنشئت حول قضية النحل والوضع في الأدب العربي عامة قد أعطت هذا الموضوع ما يستحقه، وأتت بالحجج والبراهين التي تضعف موقفاً هنا، وتقوي رأياً هناك، إلا أن ما نودّ الإشارة إليه ههنا أن ما وصل إلينا من هذا الموروث الأدبي العربي يمثل في مجموعه الوثيقة النصية الرسمية التي يمكن أن نحكم في ضوئها على هذا التراث الذي نحن ورثته الشرعيون، ونحن الأولى بغربلته ونقده.
_______________
(1) عفيف عبد الرحمن، الأدب الجاهلي في أثر الدارسين، قديماً وحديثاً، ص/ 24.
(2) مقدمة أدونيس، الشعرية العربية، ص/5.
(3) المرجع السابق، ص/ 5.
(4) المرجع السابق نفسه، ص/ 5.
(5) المرجع السابق، ص/ 6.
(6) المرجع نفسه، ص/ 6.
(7) المرجع السابق نفسه، ص/ 22.
(8) نوري القيس، الفروسية في الشعر الجاهلي ص 207.
(9) عبد المنعم خضر الزبيدي، مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي ص 15.
(10) أبو الفرج الأصفهاني الأغاني، جـ9 دار الكتب المصرية، ص 109.
(11) جيمز مونرو، النظم الشفوي في الشعر الجاهلي، ترجمة ص 10.
(12) المرجع السابق، ص 11.
(13) المرجع نفسه، ص 12.
(14) المرجع السابق، ص 13.
(15) عبد المنعم خضر الزبيدي، مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي، ص 285.
(16) إبراهيم عبد الرحمن محمد، الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية، ص 67.
(17) المرجع السابق نفسه، ص7 وانظر طبقات ابن سلام، ص32 .
(18) ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، ص 191.
(19) المرجع نفسه، ص 222، وانظر: طه حسين، في الأدب الجاهلي طـ4، ص 292.
(20) ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي، ص 232.
(21) المرجع السابق نفسه، ص 136.
(22) المرجع السابق، ص 190.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق