النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد
د. عبدالله أبوهيف
منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000م
الفصل الخامس : الموروث السردي المتأثر بالاتجاهات الجديدة
ظهرت مؤثرات الاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية أولاً في إطار درس الموروث السردي ونقده، ثم انتشرت في النقد النظري، وفي النقد التطبيقي للنصوص القصصية والروائية. ولربما كان مرد ذلك إلى أن الاتجاهات الجديدة ذاتها استندت إلى فلاديمير بروب وذريته فيما بعد، ومن المعلوم، أن شغل بروب النقدي في كتابه الريادي الهام «مورفولوجية الحكاية الشعبية» (1929) قد عني، في منهجيته الجديدة لتشكل علم السرد، بالسرد الفولكلوري.
وأتناول في البحث الموروث السردي الشعبي (الفولكوري) أولاً، والموروث السردي الأدبي (المكتوب) ثانياً، وقد كان الدأب دائماً هو العرض النقدي التاريخي لأهم الكتابات النقدية المعبرة عن هذه الاتجاهات الجديدة في تسلسلها التاريخي، ثم أختم البحث بملاحظات ختامية.
لقد عمدت في معالجتي إلى العرض التاريخي النقدي لشغل النقاد المتأثرين بالاتجاهات حسب نوعي الموروث السردي: الشعبي والأدبي. وهذا ما يُفسر مناقشة جهد ناقد بعينه مثل عبدالملك مرتاض (الجزائر) وعبدالفتاح كيليطو (المغرب) في أكثر من موقع، لأنني لا أناقش إنجاز ناقد بالقدر الذي أمحص فيه قضية نقدية في مسارها التاريخي، ولا أناقش اتجاهاً جديداً محدداً، فالاتجاهات نفسها ليست خالصة أو نقية عند هذا الناقد أو ذاك، وثمة غلبة لمؤثرات أكثر من اتجاه في شغل الناقد العربي الجديد، ويلاحظ أنني أمعنت النظر النقدي المعمق في عرضي التاريخي وذكري للشواهد، تجنباً لإطلاق الأحكام، معتمداً على معالجة نقدية لا وصفية، حتى أنني وضعت أحياناً إشارات استفهام أو تعجب أو ما يماثل ذلك بين قوسين ضمن متن بعض الشواهد على سبيل الاستنكار أو الاستفهام، ملتفتاً عن ذكر الآراء صراحة أو مباشرة، لإيماني بأن الإلماح إليها أفضل وأليق.
1- نقد الموروث السردي الشعبي:
1-1- لعل طلائع النقد الجديد للقصة والرواية في الأدب العربي الحديث قد جاءت من نقد الموروث السردي الشعبي، وكانت أمشاج من هذا النقد الجديد متداخلة مع اتجاهات نقدية تقليدية قد ظهرت لأول مرة في كتاب نبيلة إبراهيم (مصر) «قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية» (1974)، قطعت نبيلة إبراهيم شوطاً كبيراً في انتقال البحث في التراث القصصي العربي من تقليد إلى تجديد، اعتماداً على كتاب بروب الشهير «مورفولوجيا الحكاية» (1929)، وعلى البنيوية إلى حد قليل. لا يدل عنوان كتابها على منهجه ومصطلحه، فهي عرّفت بالمناهج المعاصرة في تصنيف القصص الشعبي ما قبل المنهج البنائي أمثال آرني ـ تومسون وتلاحظ في عرضها لمنهجه قلقلة المصطلح بين الوحدات أو الموضوعات الصغرى أو ما يسمى الحوافز، وبين الفكرة وتداخلها بالموضوع.. الخ، أو المدرسة الجغرافية التاريخية، أو مدرسة الأنماط والموتيفات (الحوافز)، وهي لا تعرب مصطلحها دائماً( )، بالإضافة إلى أهمية التفريق اللازم بين مصطلحي النماذج الأساسية Types والنماذج الفرعية Sub Types( ).
تعرض نبيلة إبراهيم بشيء من التفصيل للمنهج البنائي، من مدرسة النقد الحديث، ولا توضح هذه المدرسة، مروراً ببروب ومود بودكين، صاحب النماذج الأصولية في الشعر، (والأفضل أن تعرب بالنماذج البدئية)، وروث بيندكت ونماذجها الحضارية، والأفضل أن تعرب ثقافية.. الخ، وتخصص الفصل الثاني من الباب الأول لبروب والتحليل الموروفولوجي.
لا تلتزم إبراهيم بالمنهج البنائي في تحليلها المورفولوجي للحكايات العربية الخرافية والشعبية بفعل التبسيط والاختزال والحرفية اعتناء بالمحتوى، لأن هدف الباحثة يتجه بالأساس إلى تعضيد عمليات وعي التراث السردي الشعبي، وهذا هو ختام بحثها: «ولعلنا استطعنا بعد هذه الجولة مع قصصنا الشعبي، أن نبرز سماته ووظيفته، سواء أكان هذا القصص خرافياً أو شعبياً. ولعلنا استطعنا أن نكشف عن اهتمامات الشعب العربي في حياته المعاصرة، بعد أن أصبح يعيش الحياة في وعي كامل، فاستغل كل قدراته الفنية في التعبير عن جوانبها المختلفة»( ).
1-2- ثم توالى ظهور أمشاج أخرى من النقد الجديد في كتاب أحمد ممو (تونس) «دراسات هيكلية في قصة «الصراع» (1984)، فقد أثار ممو مفهوم الأنواع الأدبية وصعوبة التجنيس الأدبي في مجالات القص والسرد، وميز القصة بالصراع، وارتأى تحديد مفهوم «قصة الصراع» المرتهن بتوافر مقومات أساسية، ولا سيما الشخصيات والحركة. وما الصراع إلا تسويغ لحركة من نوع خاص تستمد مسوغات تواصلها من منطقية العلاقة القابلية التي تربط الشخصيات في نطاق انتماء إلى طرفين متقابلين.
ومن خلال الحركية يبرز شكل خاص قد يكون قصة نضالية أو قصة بوليسية أو سيرة شعبية يمثل في كل ما يتحرك خلاله من شخصيات خاضعة لمنطق الصراع حسب مواقعها منه، ومبررات وجودها خلال ما يمكن أن يسمى هيكلاً، وبذلك الشكل يمكن أن يخرج الدارس من دوامة «الشكل» و«المضمون» لكي ينتهي إلى أن القصة في أساسها، ومهما كان شكلها أو مضمونها تعتمد على وحدات أساسية تتمثل في شخصياتها وزمنها وفضائها، كل ذلك مرتبط حسب نوعية العلاقة التي تنمو خلال الزمن لكي تبرر وقوع الحدث»( ).
ووجد ممو نماذج لذلك في قصة السيرة الشعبية وقصة الجوسسة، ونكتفي بتتبع دراسته لهياكل قصة البطولة من خلال الأدب الشعبي بالدرجة الأولى. لقد وضع ممو قصة البطولة في نطاق قصة الصراع مما دعاه لتبين شخصيات الصراع من خلال وظائفها الأساسية، وعلاقاتها العضوية وموضوع الصراع ودوافعه، ونوعية الصراع وخصائصه.
وأوضح أن شخصيات الصراع تنقسم إلى معسكرين متقابلين، فهناك شخصيات معسكر الخصم، وتتحدد وظائفها بمواجهة البطل، أو الإيقاع به، أو التحريض على الإيقاع به، أو على مواجهته، أو بالانتقام منه. وتحتوي وظيفة مواجهة البطل على أشكال من المواجهة الفردية لبشر مثله ينازعونه البطولة، أو لوحوش مفترسة، أو لمخلوق خيالي، مثلما ميز في وظيفة مواجهة البطل صنفين حسب أهميتهما، هما مواجهة فردية أساسية، حسب مراحلها: ما قبل الصراع وأثناء الصراع وما بعد الصراع، ومواجهة فردية ثانوية. أما المواجهة الجماعية فتكون للبطل بمفرده، ولعناصر معسكر البطل. وذكر ممو في مجال وظيفة الإيقاع بالبطل حركتين هما الخدعة والإغراء. وتابع تصنيف العلاقات بين الشخصيات في المعسكر المقابل للبطل، سواء أكانت علاقات تقارب مثل التعاون والنجدة والإغاثة والتكامل، أم علاقات تنافر، ثابتة أو متحولة. وعاين ممو شخصيات معسكر البطل ووظائفها كالمواجهة، أو المدد والعون قوة مادية، أو مدداً مصاحباً، أو مدداً مكملاً، أو مدداً طارئاً، أو قوة فكرية، سحرية أو غيبية، أو وظيفة التحريض والتسويغ. وتوقف عند العلاقات بين أفراد معسكر البطل كالاحتماء والإغاثة والتوجيه أثناء الصراع والتحمس والافتداء، والتكامل، والارتباط. ثم نظر ممو في موضوع الصراع ودوافعه، كالمرأة موضوعاً للصراع أو الأرض أو النفوذ، بينما تتركز نوعية الصراع وخصائصه على البطل في الأشكال التالية:
«- البطل قائد عسكري يوجه عمليات الصراع ويتدخل في المواقف الحاسمة التي لا يقدر غيره على تغييرها، وأحسن من يعكس هذه الصورة بطل السيرة الشعبية الذي يتمحور حوله الصراع الإيديولوجي، فعلي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر يمثلان أحسن تمثيل هذا الجانب.
- البطل ملك أو ابن ملك يسعى لحفظ ملك الأجداد ويعمل للدفاع عنه، كما هو الأمر في سيرة سيف بن ذي يزن وحمزة العرب وقصة الملك عمر النعمان.
- البطل شخصية طموحة تسعى إلى تغيير معطيات وضعها، وتكون كل حركية البطل الصراعية موجهة إلى تغيير الأوضاع، وجعلها لفائدته، لكي يثبت الآخرون مزاياه الشخصية أو سوء التنظيم الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع، وكان عنترة بن شداد أفضل مثال لذلك، وهو بذلك يثبت أن الوضعية الاجتماعية هي رهينة المجهود الشخصي مهما كان النظام الاجتماعي متعسفاً، ومهما كانت الظروف تخدم ضد مصلحة الشخص»( ). «واختتم ممو رأيه في إن الميزة الأساسية لقصة البطولة الشعبية التي تأتي في شكل سيرة شخصية لبطل كأنها تصنع من حياة البطل ملحمة تضم كامل مواقفه الصراعية التي هي في أساسها مواقف مستقلة، قد لا تكفي التبريرية التي ترد في القصة، لكي تثبت ارتباطها وتسلسلها، أو انفتاح بعضها لاحتواء الآخر»( ).
وتستغرق دراسة ممو لهياكل القصة النضالية، بما هي قصة مناهضة الاستعمار، من خلال مثال واحد هو قصة «بحيرة الزيتون» لأبي العيد دودو (الجزائر) في الأشكال التخطيطية الشارحة (كما في الصفحات 71 و 72 و81 و 91 و 158 و159) انطلاقاً من تصنيف بروب إياه، ثم يتسع تأثير النقد الجديد الذي طور فكرة بروب في الدراسة الثالثة والأخيرة «التحولات في أقاصيص بني هلال»، ومن مظاهر هذا الاستغراق وهذا التأثير المتنامي للنقد الجديد ما ورد في تعريف التحول أو تعويله على أهمية تحولات المصادر، أو تعدد الروايات، أو أنواع التعويضات، أو تبيان العلاقات في أقاصيص بني هلال، مثل علاقات الارتباط أو التكامل أو التقابل، أو الهيكلية القصصية في الحركة القصصية والحركة الجماعية، وشكل التفريق المركزي، والحركة الفردية..
يقودنا تعريف التحول إلى منهج بروب، وما أضيف إليه من تعديل مبسط، فالتحول عند ممو «هو كل تغيير يمكن أن يدخل على أوصاف أو أسماء الشخصيات في أثر أدبي ينقل عن طريق الرواية، وهو كذلك كل تغيير يدخل على إحدى الوظائف الأساسية أو الثانوية في موقف من مواقف تلك الشخصيات»( ). ومن الجلي، أن ممو لم يثقل دراسته بالإحالات إلى مرجعيات النقد الجديد، وهي تخلو من المراجع بالأساس، خلا هوامش لا توثق غالباً ما اعتمد عليه الباحث والناقد على أن بحثه يخلو، في الوقت نفسه، من الادعاء والمبالغة، فهو يعترف بما يعتري الدراسة «من قصور» في مقدمة كتابه.
كان بحث ممو من أوائل البحوث النقدية العربية التي عنيت بتطبيق منهج بروب على القصص والحكايات العربية الشعبية بالدرجة الأولى، وإن لم يشر إلى ذلك صراحة، مما يقلل من قيمته العلمية.
1-3- تغلغلت أمشاج من النقد الجديد الشكلاني والبنيوي في كتابة ياسين النصير (العراق) كما في كتابه «المساحة المختفية: قراءات في الحكاية الشعبية» (1995)، وهي كتابة تختلف إلى حد كبير عن النقد التقليدي السائد بتركيزه على دراسة البناء الفني للحكاية الشعبية، غير أن تطبيقه لأكثر من منهج، وإلحاحه على استخلاص السمات الاجتماعية للحكاية العربية «في ضوء المنهجية الاجتماعية التي تجعل من الحكاية عاكسة وحاملة لمراحل تطور المجتمعات» (ص10)، قد أفقد كتابته بعض الانسجام المنشود.
وتتسم كتابته بقلق التحليل وبالقلق في إصدار الآراء النقدية، فقد لاحظ، على سبيل المثال أن بروب هو الأكثر تأثيراً، ولا سيما استعمال الوظائف، ثم ما لبث أن عاد إلى مواقع الناقد التقليدي حين فصل بين الشكل والمضمون، ورأى أن الجانب الآخر من منهجية بروب لم يترجم عندنا كلياً، ليغني به المضمون، ومما يقلل من قيمة شغله النقدي هو اعترافه غير المسوغ أو المفيد أنه لا يحاول «تطبيق أياً من المناهج المتداولة»( ).
آثر النصير أن تكون الحكايات الشعبية العراقية مادة درسه من أجل سلامة التحليل واتساقه، ولكنه أطلق على هذه الحكايات حكماً خارجياً يجافي تحليله النصي السردي البنيوي كروح المبالغة وقلة الأحلام، وتعليله ذلك على عجل، دون بينة: «ومن الخصائص الأخرى للحكاية الشعبية العراقية أنها قليلة الأحلام، فالحلم يكاد يكون معدوماً إلا ما ندر، ويعود السبب في ذلك إلى شحوب المخيلة وإرساء الحكايات على شيء من الوقائع المباشرة، وربما يعود السبب إلى أن الحلم لم يدخل بيت الحكاية لعدم مشروعيته كأداة فنية في عرف القاص الشعبي الذي يؤمن أن الأحلام هي انتقال الروح إلى عوالم أخرى تاركة الجسد ميتاً»( ).
ثم يتابع النصير نقده المباشر دون أن يورد تعريفاً للحكايات المدروسة، مازجاً بين النقد التقليدي وأمشاج من النقد الجديد، كأن يجري تبسيطاً لممارسة غريماس في نقد السرد، فيشير إلى مستويين للقص، مستوى السطح ومستوى العمق، أو أن يستفيد من تشومسكي الذي يشير إلى أن الحكاية جملة واحدة تحتوي على بنية مسطحة (شكل) وبنية عميقة (محتوى)، أو أن يورد تطبيقاً لمنهجيته ثلاثة جداول، يحكي الجدول الأول عوامل الانهيار، ويحكي الجدول الثاني ظهور المنقذ والقوى المساعدة له، ويحكي الجدول الثالث إعادة بناء كيان المملكة المنهارة أو المجتمع المدمر، أو يعرض المناهج التي درست الحكاية، ثم لا يختار أحدها، ويحيل القارئ إلى بحث مهم للدكتور مرتاض، ولا نعرف شيئاً عنه، ويمتدح منهج بروب، ويدرس الحكاية الشعبية العراقية في ضوء المناهج النقدية الحديثة، ولكن كيف؟ وأي منهج؟
ويشرح النصير العلاقة بين الحكاية والنقد الأدبي ليقول إن المناهج النقدية الحديثة تعامل الحكاية معاملة أدبية، والسؤال هو: لماذا غير ذلك؟ على أنه يغفل عن ذكر المراجع والمصادر غالباً. ويعلن احتذاء البنيوية في دراسته عن أسطورة المدينة المتحجرة، وينص في الجداول على تفصيل بنائي للأسطورة. ويشرح لنا قراءة الجداول كما يلي:
القراءة الأولى تبدأ من اليمين إلى اليسار، عموداً بعد عمود، وبشكل عمودي. نقرأ العمود الأول، فالعمود الثاني، فالعمود الثالث. وتظهر هذه القراءة ثلاثة أفعال رئيسة شبه متجاورة تكون جسد الأسطورة. الفعل الأول ينتهي بمسخ الملك والجزائر. والفعل الثاني ينتهي بظهور المنقذ واستمرار الصراع، والفعل الثالث ينتهي بعودة المنقذ والملك إلى المملكة، وعودة الجزائر السود إلى مكانها.
القراءة الثانية، هي القراءة المركبة، المتداخلة. العمود الأول متداخلاً بالعمود الثاني، والثالث متداخلاً بالعمودين. وتظهر هذه القراءة ما تحت سطح الأسطورة أي العوامل المحركة. أثر اللون والشخصيات والطبيعة في الإسهام بتكوين رؤية شاملة للأسطورة. وتفيدنا هذه القراءة في تلمس الفعل الكوني الشامل الذي تسعى الأسطورة إلى تجسيده.
القراءة الثالثة: «هي القراءة التحليلية، وتقترب من القراءة الثانية، ونتعرف عليها بأنها تستخلص آراء وأفكار وممارسات وبنية المجتمع. وتظهر هذه القراءة العمق الأسطوري. وأي العوامل أكثر تأثيراً في صياغة الأسطورة، وأي العوامل أكثر قيمة في عودة الوضع المختل إلى توازنه السابق»( ).
ويضع النصير مخططاً لتدرج القراءات الثلاث، ولا أعتقد أنه يوضح شيئاً. ثم يعمد إلى تبسيط البنيوية بدراسة سطح الأسطورة وما تحت السطح وعمق الأسطورة والشخصيات الثانوية والرئيسة والمكان، ويضيف إلى ذلك دراسة الفكر الاجتماعي، البناء التحتي، النظام الاقتصادي، الفكر الاجتماعي، البناء الفوقي، السلطة والدين والجنس مما يخرج عن نطاق منهجيته، ويدخل البحث في نشاز لا يخفى. ويعلن النصير في دراسة أخرى منهجية أخرى تأخذ في حسبانها أمشاجاً بنيوية أيضاً، كما يتضح من الخطوات التالية:
توزيع الحكاية إلى:
أ-المفتتح.
ب-جسد الحكاية.
جـ- خاتمتها.
سطح الحكاية، وتعالج فيه الرحلتان، رحلتا الذهاب والإياب.
فنية الحكاية، أي بنيتها الداخلية.
موقع الحكاية في فن الحكاية العربية»( ).
ومما يلفت النظر أن النصير يهدف من دراسته للحكاية الشعبية العراقية في ضوء المناهج التقدمية (هكذا؟!) الحديثة أن يدلك «على عمق وأصالة موروثنا الشعبي»، ثم ينتقل في ختام تحليله البنيوي أو شرحه الخارجي ليؤكد «مبدأية فن القص العربي القديم، فالتكرار فيها توكيدي وليس سرداً خارجياً، بل هو يكتسب فاعليته من خلال النحت (؟!) المستمر في مخيلة السامع».( ).
1-4- ربما كانت دراسة عبد الحميد بورايو (الجزائر) «الحكايات الخرافية للمغرب العربي» (1992) الأولى في انسجام نقدها الجديد للموروث السردي الشعبي، مواءمة بين نهاجية الشكلانية والبنيوية والإناسية، انطلاقاً من بروب وشتراوس وتطويرها لدى كلود بريمون وا.ج. وغريماس وج.كورتيس وآخرين، وبيّن بورايو هذه النهاجية في ختام دراسته، وأنها تنطلق من البنيوية الإناسية عند شتراوس، ومن الأبحاث السردية الشكلية عند بروب، ومن الدراسات الدلالية عند جريماس، ومن الأبحاث الأثنو أدبية عند جوزيف كورتيس، ويعلل هذه النهاجية، بالنظر إلى «موقع الحكاية الخرافية ما بين الأسطورة والأدب، فهي ترتبط من ناحية بالفكر الميثولوجي، لأنها سليلة الأسطورة، ومن ناحية أخرى تمثل الوسيط الثقافي الذي سمح بانتقال المكونات الأسطورية من الخطاب العقائدي إلى الخطاب الثقافي ذي الوسائط الجمالية والطبيعة الفنية الهادف إلى الإمتاع، إلى جانب تمثيله الرمزي لمنطق الجماعة ورؤيتها للكون»( ).
اتبع بورايو خطوات موصوفة لدى بروب في دراسة النماذج القصصية، خلل تقطيع الحكاية إلى متواليات، وتقطيع المتوالية بدورها إلى وظائف، ودراسة الشخوص، بما يسمح بالاستخراج التدريجي للترتيب الذي تنبثق على أساسه الأدوار الغرضية والفاعلية، ويجسد نظام المتواليات والوظائف العلاقات المتبادلة ما بين القائمين بالفعل عن طريق خطاطة تساعد، من أول نظرة، على تسهيل فهم مجموع الحكاية: الأحداث والأطراف المشاركة فيها.
ويتضح من هذا العرض استعانة بورايو بالترسيمة الخطية البروبوية، بتعبيره نفسه، مع تطوير هذه الترسيمة: «لكننا تعاملنا معها بحرية. بحيث راعينا في توزيع وحداتها عدم الاكتفاء بمراعاة ما يتعلق بوجهة نظر البطل وحده مثلما فعل بروب، بل وضعنا في اعتبارنا وجهات النظر المتعلقة بالشخوص الأخرى المشاركة في الحدث»( ).
لقد تخفف بورايو من تبعات التصنيف البروبوي، ومن نسجوا على منواله تعديلاً، وأعطى لنفسه الحق بمثل هذا التعديل، دون الوقوع في وهدة التبسيط. كما في حديثه عن تصنيف الوظائف أو نظام الشخوص أو دلالة الحكايات أو التحليل المقارن، اعتماداً على «فرضية مفادها أنه لا يمكن أن يعطي أي خطاب معزول معناه الكلي، وبالتالي، تصبح المواجهة المنهجية بين الخطابات المتوفرة هي وحدها القادرة على مدنا بجميع الدلالات التي تحملها كل حكاية»( ).
واختار بواريو خمس حكايات خرافية بالعربية الدارجة/ العامية الجزائرية، وبالأمازيغية، وهي:
المثال الأول «حكاية ولد المتروكة» المرأة التي تلد الرجال الشجعان (بالعربية الدارجة).
المثال الثاني «حكاية نصيف عبيد» (نصف إنسان): الطائر العجيب والمرأة قناصة الرجال (بالعربية الدارجة).
المثال الثالث «حكاية لونجه»: القبر المحتوي على مواد غذائية، وكيس الزاد المحتوي على اللحم البشري (بالعربية الدارجة).
المثال الرابع «حكاية محذوق ومحروش مع الغولة»: العلامات التي تحدد المصائر (بالأمازيغية).
المثال الخامس «حكاية اعمر الأتان»: البطل حامل الحضارة (بالأمازيغية).
وقد كان بورايو أميناً لمنهجه المعدل، ولعل نظرة في تعامله مع وظائف المتوالية الثانية في المثال الأول مما يؤيد هذه الأمانة، إذ تألفت المتوالية من الوظائف التالية، واكتفي بذكر عنوان الوظيفة:
أ- الموقف الافتتاحي.
ب- تكليف بمهمة.
جـ- قرار البطل.
جَ- إقناع.
ج- الاختبار التأهيلي.
د- هبة.
هـ- الاختبار الرئيسي.
و- علامة.
ز- خدعة.
ح- تهديد.
ط- إنقاذ.
ى- الوصول خفية.
يَ- ادعاء.
سَ- اكتشاف البطل المزيف.
س- اكتشاف البطل الحقيقي.
ع- اعتراف.
ف- الوضعية الختامية: زواج.
ويتخفف بورايو أيضاً من الرسوم والجداول إلى حد كبير، إلا القليل الذي يغني الدراسة التحليلية في بحثها عن «معنى المعنى» لمجموعة من الحكايات، كما ينص العنوان الثاني للكتاب. ويفضي تأمل معنى الحكاية في التحليل إلى هذا المعنى: «الزوجة المتروكة تنجب ولداً شجاعاً»، فيقتصد في تحليله، نفوراً من الاستطراد والحشو. ثم يربط بورايو خطواته بخيط معنى المعنى في المآل الأخير، استخلاصاً له من الدراسة التحليلية، لا من خلال الإضفاء أو الحكم الخارجي.
لقد أفلح قليلاً بورايو في تجنب التطبيق الميكانيكي والارتباط الحرفي بالطرق والمناهج الغربية، فلم يسرف في تحليل عناصر الحكايات سردياً وبنيوياً وإناسياً، وإن كان المطلوب هو عدم الاستغراق في الشكلانية أولاً، وتوسيع التحليل المقارن ثانياً، والاستفادة من بلاغة النص في سيرورته التقليدية ثالثاً، وفي إطار التمني المطلوب، نجد أن بورايو افتتح كتابه بكلمة ـ مفتاح لعبد القاهر الجرجاني من «دلائل الإعجاز»تدعو إلى تثمير البعد الاستعاري للنص.
1-5- مثل شغل عبد الملك مرتاض (الجزائر) في التسعينيات استواء تكون الاتجاهات الجديدة للنقد القصصي والروائي من منظور نقدي لهذه الاتجاهات، وإن تحركت في أمدائها الفسيحة، انتقاء حيناً، أو تكويناً جديداً مختلفاً حيناً آخر. ويسترعي الانتباه أن مرتاض ينقد تجربته، ويختلف عنها في مراحل سابقة، وكنا أشرنا لبعض إنتاجه من قبل، وهو، في نقده تجربته، ينقد الموقف النقدي العربي من قضية الوعي بالموروث السردي نفسه، على أنها تصب في أبحاث النقد العربي بهويته القومية.
يفتتح مرتاض كتابه «ألف ليلة وليلة: تحليل سيميائي تفكيكي لحكاية حمال بغداد» (1993) بالجزم بأن ألف ليلة وليلة إبداع عربي، وبتخطئة رأي جمال الدين بن الشيخ بقوله: «إلا أن الحضارة لا تهدى، وأن الإبداع لا يجوز أن يسرق، وأن الفكر لا ينبغي أن يغصب، وإذن فمن العسير التصديق بأن ألف ليلة وليلة كانت نتاجاً إنسانياً اشتركت فيه كل الأمم القديمة، وتضافرت على إبداعه مجتمعة، فهي ثمرة من ثمرات التعاون الإنساني الذي لا نستطيع الظفر به اليوم، كما يزعم ذلك ابن الشيخ في الموسوعة العالمية. والحق أننا لم نر أخطل من هذا الرأي، ولا أخرف من هذا القول، ولا أفسد من هذا المذهب، فيما قرأنا حول هذا الأثر»( ).
ثم يوضح مرتاض دراسته للسرد من سبعة مستويات: السرد، الحدث، الشخصيات، الحيز، الزمن، خصائص بناء الخطاب، (محاولة تقصي التقنيات الألسنية التي اصطنعها السارد في نسج خطاب حكايته، وهو غير البناء الفني العام)، المعجم الفني الذي يطبع خطابه في السرد. واستتبع مرتاض ذلك بنقده الصارخ للمناهج النقدية الأخرى:
«فكم رسفنا في أغلال الماركسية النفسانية والتينية (نسبة إلى نظرية تين الثلاثية) ثم لم نخرج بشيء يذكر من الغناء. أيها الإيديولوجيون والنفسانيون والاجتماعيون دعوا الأدب للأدباء، وخوضوا في عملكم الذي تعرفون! فلا يفهم الأدب إلا أديب»( ). وأكمل مرتاض هجمته النقدية على المنهج التكاملي، وانتقد أفخاخ البنيويين الرافضين للإنسان للإنسان والتاريخ والحقيقة والمجتمع إلا حقيقة اللغة الفنية من حيث هي سطح قبل كل شيء، فهذه المناهج، برأيه «كالسموم التي تتسرب في أجسامنا من فعل اللذع أو أمر العدوى المرضية» ولم يسلم التراثيون من سهام نقده، ممن يعتقدون أنهم بالرجوع إلى المناهج التراثية العتيقة قادرون على مواجهة ذوق العصر، ومعايشة أهله، ولذلك كان منهج مرتاض انتقائياً، وهو «أن نفيد من النظريات الغربية القائم كثير منها على العلم، كما نفيد من بعض التراثيات، ونهضم هذه وتلك، ثم نحاول عجن هذه مع تلك عجناً مكيناً، ثم من بعد ذلك نحاول أن نتبادل النص برؤية مستقلة مستقبلية»( ).
مضى مرتاض إلى هذه «العجينة النقدية المكينة» يحلل حكاية حمال بغداد في إطار المستويات السبعة الذي ذكرها، واحتل كل مستوى فصلاً، ثم أردف ذلك بفهارس ونصوص: فهرس الوصف، فهرس الإيقاع، فهرس التشبيه، فهرس التضاد، وتلاها فهرس كبير للمعاجم الفنية للحكاية، وهي:
المعجم الفني المتعلق بالسحر والمسخ والعفاريت.
المعجم الفني المتعلق بالبحر وملازماته.
المعجم الفني المتعلق بالأعداد الفولكلورية (ثلاثة ـ سبعة ـ عشرة).
المعجم الفني المتعلق بالبطش والقسوة والعقاب.
المعجم الفني المتعلق بالعري والجنس.
المعجم الفني المتعلق بمشاهد العويل والحزن والرحمة والإشفاق.
المعجم الفني المتعلق بالمنادمة والشراب والطرب والأنس.
المعجم الفني المتعلق بالعجب.
حلل مرتاض المستوى الأول: الحدث في حكاية حمال بغداد، وهو مقطع مطلع الحكاية الذي يقع في سطرين، في صفحات كثيرة (الصفحات 15 - 48)، انطلاقاً من بروب الذي أشار إليه في الصفحة (23) على عجل. وقد شمل تحليله للحدث الجوانب التالية: الحدث المحظور، الحدث المسحور، الحدث المكذوب، اتسام الحدث بالغموض والضعف، اتسام الحدث بالبتر، اتسام الحدث بالمفاجأة، اتسام الحدث بالعنف، الحدث المجهض، اتسام الحدث باللين والميوعة. ويغلب على تحليله الشرح دون الالتزام بلوازم المنهج السيميائي العلاماتي أو المنهج التفكيكي، فلم يستعمل التأويل إلى حدّه الأقصى للكشف عن المعاني القصدية للنصوص بالدرجة الأولى مما يميز السيميائية إيغالاً في الشروح اللغوية، ولم يأخذ من التفكيكية إلا بعض سماتها الأبسط، مثل تفريد النص إلى معان ودلالات أصغر من ثنايا اللغة وسجفها المتراكبة دون الغوص فيما يسمى ما وراء اللغة على سبيل المثال.
لقد غلبت اللغة الشارحة على تحليل مرتاض للحدث، كما في حديثه عن اتسام الحدث بالغموض والضعف.
وبيّن مرتاض في المستوى الثاني «عالم الشخصية في ألف ليلة وليلة»، وفيه تمهيد للدخول في عالم الشخصية في الحكاية المدروسة، سماه «عموميات»، فهو لا يخال أن أثراً سردياً في العالم يرقى إلى درجة «ألف ليلة وليلة» فيما يعود إلى بناء الشخصية وتنوعها، وكيفية التعامل معها، ثم كيفية تعامل بعضها مع بعض، فلم يكن يعجز المبدع الشعبي العربي ـ برأيه ـ أن يرسم هذه الشخصية على أنحاء عجيبة حقاً، إذ كان قادراً على المزج بين الشخصية الخرافية والتاريخية والسحرية في آن واحد. ويذكر مرتاض من مظاهر الإبداع في صوغ الشخصية، أن المبدع الشعبي في «ألف ليلة وليلة» عمد إلى:
تطعيم الشخصية الواقعية، أو التاريخية، بالشخصية الخرافية.
جعل الشخصية الخرافية (العفاريت ـ الشخص النحاسي الذي يقود الزورق ـ الحصان الميكانيكي الذي يظهر ولا يسير ـ البحر الذي ينتفخ..) تتظاهر فيما بينها.
تفطن المبدع الشعبي، إلى بعض ما تفطن إليه كتاب الرواية الجديدة في منتصف القرن العشرين من أن الشخصية مجرد كائن من ورق. من أجل ذلك لم يشأ سارد «ألف ليلة وليلة» أن يسمي شخصياته إلا في أطوار معينة، لغاية فنية معينة.
وضع مرتاض لتحليله لعالم الشخصية في حكاية حمال بغداد مراحل وتجليات وأدواراً تستوعب حركة الشخصيات على النحو التالي: الشخصيات بحسب ظهورها في الحكاية، الشخصيات بحسب تواتر ذكرها في الحكاية، طبقية الشخصيات في الحكاية، الشخصية «الأفللية» (من ألف ليلة وليلة) بين التاريخية والأسطورية، الشخصية المتحولة، نمطية الشخصية في هذه الحكاية، الجنس وممارسته لدى الشخصية الأفللية: العري، ملحقات العري، الغزل، المغازلة والمعانقة، الشخصية الأفللية والثروة. ونلاحظ من تعليقه الختامي لصلة الشخصية بالثروة إمعان مرتاض بالشرح في عرضه النقدي وفي استنتاجاته الدلالية العامة أيضاً، وهي استنتاجات ليست من سياق النص أو تأويله المباشر، بل هي تأويل عام يضفى على سياق النص.
اقترب مرتاض في تحليل المستوى الثالث: «تقنيات السرد في ألف ليلة وليلة من مناهج نقد سردية جاوزت ما التزمه. السيميائية ـ التفكيكية، مما عرف بالشكلانية الروسية والبنيوية وشعرية السرد الضاربة الجذور في تجلياتها لدى بارت وغريماس وتودورف، فوضع عموميات صدرها بكلمة تنعي على النقد الأدبي العربي الحديث أو على نقاد العربية أن خص أحدهم» هذه التقنية القصصية بكتابة نظرية مستقلة، بل دراسة تطبيقية لعمل سردي ما، وعزا بعض ذلك، ربما إلى تخلف النقد العربي عن النقد العالمي، وهي مسألة تنقصها الدقة، وتحتمل النقاش، فثمة أعمال نقدية كثيرة في كتب عنيت بالسرد قبل صدور هذه الدراسة( ). وأعقب فذلكته الاستعراضية حول السرد تحليله للجوانب التالية: صلة السرد بالوصف، أشكال السرد في «ألف ليلة وليلة»، اصطناع الارتداد، الاحتفاظ بمفتاح السر السردي، تداخل السرد، المدد السردي، حديث الإشارة. وقد استشهد بناطالي صاروت عن «الحديث الناقص»، ويلحظ في هذا التحليل ولع مرتاض بالأشكال والرسوم في أكثر من صفحة، دون تسويغ مناسب، بل بعض هذه الأشكال والرسوم لا تسعف في توضيح دلالة أو معنى أو قصد.
ومضى مرتاض في المستوى الرابع إلى تحليل «الحيز في حكاية حمال بغداد» من خلال الجوانب التالية: الحيز الجغرافي/ الحيز الحقيقي، الحيز الشبيه بالجغرافي/ وسط بين الحيز الصراح والحيز الخرافي الخالص، الحيز المائي، الحيز المتحرك، الحيز التائه، الحيز الخرافي/ جبل المغناطيس والمدينة الممسوخة وجبل قاف، الحيز العجيب الغريب. ويلاحظ أيضاً ولع مرتاض بالأشكال والرسوم التي تثقل على النقد، ولا تفيد، ولعاً بشكلانية تندرج بصعوبة في منهجه السيميائي التفكيكي، بل أن هذا الولع جعله يتحدث عن حيز مفتوح من شأنه أن يفرز «أمكنة غريبة، وإحداث خطوط عجيبة في كل الاتجاهات»( ).
وخصّ مرتاض المستوى الخامس للزمن في حكاية حمال بغداد فعرض مفاهيم الزمن في ثلاثة حدود هي التزامن والتعاقب والمدة، ليحلل الزمن من النواحي التالية: الارتداد، غياب الدلالة الزمنية الحقيقية، غموض الدلالة الزمنية، الزمن المفقود، مظاهر من الدلالة الزمنية من خلال الشخصيات وحيزها، أطوار أخرى لزمن هذه الحكاية. ثم عاين مرتاض في المستوى السادس «خصائص البناء في لغة السرد لحكاية حمال بغداد»، وهي خصائص عولجت بمنهج أسلوبي بلاغي وإحصائي بالدرجة الأولى، في الجوانب التالية: خصائص المفردة، خصائص الخطاب، الوصف، الإيقاع، التشبيه، التضاد/ التضاد القائم على تقابل الرجل والمرأة والتباين الشيئي والتباين الطبقي، واختتم مرتاض تحليله في المستوى السابع للمعجم الفني للغة السرد، وفيه عاد إلى محاججة جمال الدين بن الشيخ مدافعاً عن أصالة «ألف ليلة وليلة»، ملتفتاً إلى مناقشة موضوع كتابة الجهشياري لليالي، ورأى أن معالجة المعجم الفني تؤيد مثل هذه الأصالة، وكنا أشرنا إلى مفردات هذا المعجم.
1-6- سار سعيد الغانمي (العراق) في مسار مرتاض نفسه، وهو الإقبال على النقد الجديد انتقائياً من المنهج التفكيكي، ومن مناهج أخرى ثم يفترق عنه في ممازجته لأمشاج من النقد البنيوي ونقد شعرية السرد، ومن النقد المعرفي الموضوعي في التحليل النفسي أو في التحليل الباشلاري، ويختلف الناقدان بعد ذلك في الممارسة النقدية، الأول في فيضه اللغوي وغزارة شرحه، وميله القليل إلى التأويل، فتغدو نصوصه طويلة، والثاني في إيجازه اللغوي وشح شرحه، وميله الواسع إلى التأويل، فتغدو نصوصه قصيرة.
سمى الغانمي كتابه تسمية مجازية: «الكنز والتأويل: قراءات في الحكاية العربية» (1994) وصدر بكلمة مفتاحية لابن عربي من «الفتوحات المكية»: «الكلمات كنوز وإنفاقها النطق بها»، ثم يستعين في تمهيده لبحثه بكلمة للجرجاني في «أسرار البلاغة» ولآيزر تدعم القول بأن في القراءة درراً وكنوزاً، فالجرجاني يرى أن الباحث عن المعاني كالغائص على الدرر، «ويشير آيزر أن الناقد يدعي أن الكاتب يخفي في السرد كنزاً، وأن التأويل الذي يقوم به هو اكتشاف هذا الكنز، فالقراءة دائماً بحث للعثور على كنز، وضعه شخص مجهول في الحكاية. لكن كنوز الحكايات كنوز حكائية، أعني أنها لن تتجاوز حدود الكلمات، وبالتالي، فإن ما تمنحه الحكايات من كنوز ومكافآت وجوائز لن يتعدى الحكايات نفسها، فالحكاية هي ذاتها الكنز الذي تعد به»( ). وبهذا يعضد الغانمي منهجه بسمة من سمات التفكيكية: التأويل إلى ما لا نهاية، إذ لا تكتمل الحكاية إلا بالتأويل الذي يعطيها معناها في سياق معين. ثم يضيف سمة أخرى هي قيمة القراءة ودور القارئ، فليس التأويل المشار إليه هنا هو «المعنى القصدي» الذي زرعه المؤلف في مكان ما في نفسه، ولا المعنى النهائي المكتمل الذي سيزعم القارئ أنه المعنى الوحيد، فالنصوص تتعدد بتعدد القراءات. كل قراءة هي نتيجة تفاعل متواصل بين مقروء وقارئ، أو نص وتأويل له، أو كنز وإنفاق منه. ثم يصرح الغانمي بمرجعيته: «هناك، إذن، كما يقول بول دي مان، اعتماد مطلق للتأويل على النص، والنص على التأويل، وكلما تعددت القراءات والتأويلات تعددت النصوص»( ).
حوى الكتاب قراءات في سبع حكايات عربية «بلا مؤلفين»، تنتمي إلى السرد الأدبي الإخباري الشعبي، والحكايات هي: «حجر سنمار» و«حكايات امرئ القيس»، و«حكاية حاسب كريم الدين»، و«صندوق وضاح اليمن» و«سلامة والقس»، «وأبو حيان الموسوس والماء»، و«وحكاية الحالمين» في «ألف ليلة وليلة»، وفي «حدائق الأزهار».
بدأ الغانمي التأويل في «حجر سنمار: الحكاية اللانهائية» منذ الصفر، فهي حكاية لم يبق منها سوى مثل «جزاء سنمار»، فيعيد بناءها: «حكاية عن قصر أسطوري، ضاعت تفاصيلها بضياع معالم القصر (الخوزنق)، حتى اختلط الأسطوري بالواقعي، والحكائي بالتاريخي، وصار بطلها النعمان السائح يتقاسمها مع بعض أحفاده، ممن حملوا اسمه. أن علينا أن نحاول ترميم هذه الحكاية، ونعيد لها براءتها القديمة، فنميز بين ما هو تاريخي، وما هو حكائي فيها، ثم نطلق خيالنا لإعادة ترتيب شظاياها المبعثرة»( ).
عاد الغانمي إلى الأخبار والحكايات والجذاذات السردية التي تروي قصة المثل عند الثعالبي وصاحب الأغاني وغيرهما، وتوقف عند تعارض المصادر وفهم الإخباريين القدماء لهذه الحكاية بغية الكشف عن مكبوتها، ليبدأ التأويل، مسلحاً بالنهاجية المعرفية الموضوعية الباشلارية.
وهكذا، عمد الغانمي إلى الاحتمال/ التأويل الآخر أن يكون سنمار صديق الملك الحميم: «هل النعمان هو النموذج الوحيد للبحث عن اللانهاية؟ قبل النعمان كان هناك نموذج ـ هل كان قبله حقاً؟ ـ هو الإمبراطور الصيني «شيه هوانغ تي»، الذي بنى سور الصين العظيم، وأحرق الكتب جميعاً. وفي رأي بورخس فإن هذا الإمبراطور «حرم الموت وبحث في إكسير البقاء». كان إحراقه الكتب نوعاً من التخلص من الماضي، وتبشيراً ببداية جديدة للزمن، وكان بناؤه السور نوعاً من الاحتماء بالأبدية من الموت، ومثل النعمان فقد أُتهم شيه هوانغ تي بالاستبداد والعنف، لأنه حكم على أمه بالنفي لتهتكها. لكن شيه هوانغ تي والنعمان السائح كليهما نسخة مكررة من ملك أقدم بحث عن إكسيرا الحياة لكنه لم يفلح. إنه جلجامش الذي فقد صديقه انكيدو، كما فقد النعمان صديقه سنمار»( ).
يلمس المرء في تأويل الغانمي حفراً معرفياً في مجالات تحليل متعددة: التحليل النفسي، التحليل المقارن للعناصر الإناسية، التحليل بالاستعانة/ اللغة والمعاني والدلالية والرموز والتعارض الحكائي والتناص مما هو سمات للمنهج التفكيكي على نحو ما، وهذا ما فعله في تأويله لحكايات امرئ القيس، ووضع لها عنواناً آخر دالاً: «البحث عن أوديب عربي». لقد نشط الغانمي المخيلة بما يناسب تأويله ويثريه، مثلما فعل في مثل جزاء سنمار. ووجد أن تنشيط المخيلة نافع مع شخصية مثل امرئ القيس، أحاط الخلط بحياتها كثيراً. ومن هنا، كان عمل الباحثين أن يخلصوا ما هو واقعي مما هو أسطوري وحكائي. بينما قلب الغانمي الآية، فخلص ما هو أسطوري وحكائي مما هو واقعي.
توصل الغانمي في ترميمه للحكايات أن السبب في طرده الثاني، كما يرى ابن رشيق، ابتداؤه بهذا الشر العظيم، شر التشبيب بنساء أبيه. إنه يطمح في أن يمتلك ما يمتلك أبوه جنسياً. وذنبه لا يأتي من كونه يقول الشعر، بل من كونه يشتهي نساء أبيه. ولابدّ أن أمه من ضمنهن. ولنلاحظ هنا اسم ابنة عمه «فاطمة»، وأن اسم أمه في بعض الروايات «فاطمة» أيضاً. فلعل هذه الروايات تريد أن تقول إنه تزوج أمه لعلمها إن اشتهاء زوجة الأب يعني ضمناً الزواج بالأم.
استعان الغانمي لانسجام تأويله بالمرويات الإسلامية والإسرائيلية، والأسطورية بما يجعل التحليل السردي أكثر استقامة وانسجاماً، كذكر فهم الأصمعي للنبوءة التي تشير إلى أن أسد وتميم هم قتلة حجر في الواقع. وقد تعامل الغانمي مع حكاية اللغز وفق هذه الزاوية التي سرعان ما تدعمها في المنظور السردي. أوديب مثلاً يتحول إلى ملك ويتزوج أمه في مقابل للغز أبي الهول. «ففي السؤال تحريض لارتكاب محرم ومخالفة قوانين الطبيعة»( ).
لا يغفل الغانمي بين الحين والآخر عن ذكر مستنداته النقدية من بروب إلى غريماس إلى إنجازات التفكيكية، ولاسيما التأويل ودور القارئ والتناص والمعارضة، غير أنه وهو يعتمد على بعض أدوات التحليل السردي ما يلبث أن يعدل فيها لتوافي تأويله الخاص، فقد قلص غريماس وظائف الفاعلين عند بروب، واختزل وظيفتي الوغد والبطل الزائف في وظيفة واحدة هي المساعد في مقابل الخصم، ويناسب هذا الاختزال مقتضيات تأويله:
«وإذا كان الأمر: إقامة عقد القبول. فإن التحريم/ الانتهاك: فض العقد»( ).
ولربما كان التناص سبيلاً لترتيب منطق السرد الحكائي، كما هو الحال مع حكاية الرداء المسموم، فقد سبق لهرقل البطل الأسطوري اليوناني أن مات برداء مسموم مماثل، وفي هذا توطيد للدلالة: «تاريخ رداء امرئ القيس كامن في تاريخ رداء هرقل».
ويكتمل التأويل لدى الغانمي بنهاجيته الانتقائية ضمن خصوصيتها: «هل يعني هذا أن أسطورة امرئ القيس لها أصولها في أسطورة أوديب؟ بالتأكيد لا، لأن الأساطير دائماً لا يوجد لها أصل أول، بل تنبثق من لا شعور الشعوب تلقائياً. وسواء أفهمنا الأسطورة بهدف نفسي لتفسير جريمة قتل الأب، أم بهدف اجتماعي لتفسير سيادة النظام الأبوي، أم بهدف اقتصادي لتفسير حماية الدولة، فإن مضمونها واحد دائماً، ألا وهو أن ليس بإمكان الجريمة الإفلات من العقاب المتوقع»( ).
سمى الغانمي نقده قراءة، ولكم كانت قراءته ثرية وممتعة ثمرت إنجازات بعض المناهج الحديثة باتساق داخلي ضمن انتقائية نافعة.
1-7- نشر محمد رجب النجار (مصر) أبحاثاً كثيرة في السبعينيات والثمانينيات عن التراث القصصي العربي ولا سيما الشعبي منه، في الدوريات العربية أمثال: «البطل في السير والملاحم الشعبية وملامحه الفنية» و«أبو زيد الهلالي: دراسة نقدية في الإبداع الشعبي» و«ملاحظات حول أدب الملاحم العربية» و«موت البطل» و«القيم والعادات والتقاليد في السير الشعبية العربية» و«سيرة فيروز شاه» و«المرأة في الملاحم الشعبية العربية» و«قراءة في سيرة حمزة العرب»، إلا أن شغله الرئيس والمبتكر، أعني المجلد الأول من كتابه «التراث القصصي في الأدب العربي: مقاربات سوسيو ـ سردية» (1995)، تأخر صدوره إلى منتصف التسعينيات.
وعلى الرغم من معرفته العميقة بالجهود المتواصلة للبحث عن التراث القصصي العربي وعمليات وعيه ونقده، فإنه يمضي في شغله، وكأنه يبدأ من الصفر، حتى أنه سمى مقدماته الطويلة لمشروعه مدخلاً تأسيساً( )، حوى تأسيساً أولاً في الموضوع والمنهج، وتأسيساً ثانياً في السرد الشفاهي والسرد النصي، وتأسيساً ثالثاً في الأسطورة أم الفنون الشعبية. وعدّ محاولته أولى، مثل محاولة عبد الله إبراهيم بتعبيره، مستلهماً نظرية السرد البنائية، متردداً في القول، وهو محق، إن العلم الوليد «القصة في الأدب العربي القديم»، «الذي لم يعرف طريقه إلى الدرس الأكاديمي في معظم جامعاتنا العربية، ربما أنه لم يتأسس بعد، نظرياً ومنهجياً، تأسيساً علمياً قوامه الجمع والتصنيف، والوصف والتحليل، والوعي النقدي والتراكم المعرفي»( ).
بدأ النجار تأسيسه في الموضوع والمنهج من قواعد معرفية: في البدء كان الحكي، دراسة «النص» تبدأ من دراسة «اللانص» الشفاهي، كل شيء حكي والحكي في كل مكان، واستعان ببعض المناهج النقدية الحديثة بغية اكتشاف الأبنية الداخلية لأنماط الموروث السردي وطبيعة السردية العربية، وكان حذراً في الوقت نفسه، خشية الوقوع في دائرة «التغريب» المنهجي الذي يمكن أن يخضع هذه السردية العربية إلى معايير خارجية مستمدة من موروث سردي أجنبي، ولذلك يعترف النجار بدين السابقين( ).
استفاد النجار منهجياً من معطيات علم السرديات بنظرياته الحديثة، وخاصة في تياريه الرئيسيين المعروفين، وهما: السردية اللسانية التي تعنى بدراسة الخطاب السردي في مستواه البنائي، والعلائق التي تربط الراوي بالمتن والمبنى الحكائيين، وهذا يعني أن هذه الدراسة قد وضعت في الاعتبار آراء رولان بارت ودراسات تودوروف وجيرار جينيت، أما التيار الآخر فهو السردية السيميولوجية أو السيميوطيقية الذي يعنى بسردية الخطاب القصصي من خلال عنايته بدلالاته والكشف عن البنى العميقة التي تتحكم فيه من أجل تقديم قواعد وظائفية للسرد. وأوضح النجار أنه ينحاز إلى رواد هذا التيار، وعلى رأسهم فلاديمير بروب وكلود بريمون وج. جريماس، وأنه انحاز أيضاً إلى معطيات المنهج البنيوي التكويني كما أسسه لوسيان جولدمان الذي يرتكز على وجود علاقة أساسية بين الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي، والكشف عن بنية الأنماط أو الأنواع السردية الدالة ابتغاء دمج هذه البنية في بنية أوسع، يشكل الموروث القصصي ـ بأنماطه المتعددة ـ أحد العناصر التي تكونها، وبهذا أصبحت البنى السردية الصغرى «النمط النص» جزءاً من بنية كبرى هي «الواقع/ التاريخ».
ويكاد المرء أن يأخذه العجب من انتقائية النجار الذي يؤلف منهجه النقدي في النظر إلى الموروث الحكائي بوصفه دالاً إشارياً، فقد تعددت مناهج دراسته ونظرياتها، فبينما يهدف التحليل الاجتماعي عند لوكاش وجولدمان إلى تبيين تطابق البنية الأدبية والبنية الاجتماعية المولدة لها، تذهب مدرسة التحليل النفسي بمختلف مدارسها الفرويدية واليونجية واللاكانية اعتماداً على نظرية اللاشعور إلى اعتبار البنية الأدبية خطاباً مقنعاً للاشعور «الجمعي».
واستعان أيضاً بالتحليل النفسي في تطبيقاتها الفولكلورية، مثلما استعان النجار، باعترافه، بالنظريات الفولكلورية المعاصرة، وخاصة النظرية الوظيفية، والنظرية السياقية، والتداخل الثقافي، والأيديولوجية، والمنهج الجغرافي التاريخي، ونظرية إعادة الإنتاج، وبالمناهج الشعبية المقارنة، ومناهج التصنيف البنيوي للفولكلور، والنظرية الشفاهية، ونظرية الأداء في جانبها السيميولوجي أو السيميوطيقي.
وأضاف النجار أنه استعان كذلك في جانب الدراسة السوسيو سردي بمعطيات علم سوسولوجيا الفولكلور، ومعطيات علم الاجتماع الأدبي أو سوسولوجيا الشكل، وخاصة عند ب. زيما. ولم يتجاهل النجار في الجانب الوضعي معطيات العلوم الأثنوجرافية والأنثروبولوجية، خاصة بنيوية شتراوس، والمنهج اللغوي «الميتولوجي»، بل سمحت الدراسة لنفسها، بتعبير النجار، أن تقوم بشرح وتنظيم التلاحم في مختلف أنواع المنطوقات، من أجل طرح العلاقة بين الشكل «الوصف» والسياق الأيديولوجي والتاريخي، بحثاً عن «بويطيقية أنساق القيم» أو شعرية الأنساق الإيديولوجية التي ظل الخطاب القصصي العربي «الرسمي والشعبي» يعمل على صهرها، وإعادة إنتاجها، أو تصنيعها على مر العصور في بوتقة القص، ذلك الخطاب المتجذر في الخيال الجمعي والتراث الأدبي والتاريخ العربي.
ولاشك أن منهج النجار في منتهى الانتقائية والتوليفية، ويعجب المعني كيف يتأتى لمثل هذه الانتقائية والتوليفية أن تنجز أهدافها، وأن تفيّ ما وعدت به. وأبادر إلى القول: إن الدراسة، كما سنرى، حققت الكثير في ميدانها، دون تكون منهجها الذي يجمع غالبية المناهج في سلة واحدة، أي أن النجار لم يولِّف بوتقة منهجية، سوسيو ـ سردية، فغلب على منهجه عناصر من هذه التوليفة، أو من هذه الانتقائية.
وضع النجار دراسته في جزأين، انفرد الجزء الأول (المجلد الأول، ولم يظهر المجلد الثاني بعد) بدراسة بعض الأنماط السردية في التراث العربي، وتضمن مدخلاً وصفياً، أشرنا إليه، وخمسة أقسام أخرى عالج في القسم الأول: حكايات الحيوان الشارحة والرمزية، وملحمة الحيوان، ورواية الحيوان العربية، ووظائف قصص الحيوان، وفي القسم الثاني السير والملاحم الشعبية العربية في عالمها وفي القضايا الاجتماعية والقومية التي تعالجها وفي شكلها، أو بنيتها المورفولوجية والدلالية، وفي القسم الثالث القصص الديني الإسلامي، والقصص الأنبيائي، والقصص الصوفي «الأوليائي»، وفي القسم الرابع القصص العاطفي، وفي القسم الخامس القصص الفكاهي كالرسائل القصصية الساخرة والنوادر المرحة والنموذج الجحوي، ثم ألحق مجلده الأول بملاحق، هي نصوص قصصية من التراث العربي بمثابة نماذج للأقسام المدروسة، ولعل المجلد الأول أضخم كتاب في بابه، إذ يقع في (942) صفحة من القطع الكبير، عدا ملزمة مرقمة بحروف أو متروكة دون ترقيم أو دون حروف.
وقد اتبع النجار في درسه العملي لكل نمط قصصي، في كل باب من أبواب الدراسة، مسارين: أحدهما تاريخي تعاقبي، والآخر وصفي تزامني في المسار الأول، وانصبت عناية الدراسة على الجانب التاريخي للنمط القصصي، نشأته وتطوره وازدهاره، وتعرفه تراثياً وأدبياً، وتحديد أشكاله السردية، الرئيسة والفرعية، ومنابعه ومصادره في التراث العربي وأصوله النصية، وفي المسار الثاني انصبت عناية الدراسة على الجانب البنيوي للنمط القصصي ومكوناته السردية، المورفولوجية والتركيبية والدلالية والتداولية.
وثمة نقاط في تأسيس النجار لابد من الوقوف عندها مثل تفريقه بين القصص الشعبي الشفاهي والقصص الرسمي الكتابي، ويستتبع ذلك الاختلاف في آليات الحكي الشفاهي والحكي الكتابي، توكيده على المثاقفة المعكوسة، استناداً إلى شهادات واعترافات كبار النقاد الأوروبيين القائلين بأصالة السرد العربي، تأثرت القصة العربية الحديثة بالتقليد السردي الغربي، ولكن التقليد السردي الغربي تأثر قبل ذلك بالقصة العربية، ومثل التوكيد على أن التراث العربي ظاهرة حكائية.
درس النجار في تأسيسه الثاني السرد الشفاهي والسرد النصي، وتوصل إلى سمات وخصائص فارقة، وقد رهن ذلك بقناة التوصيل، ونظام الاتصال الشفاهي وتعدد الروايات وإبداعية كل رواية بوصفها عملاً إبداعياً على نحو ما، وثبات الشكل أو القالب إذ يوصف القصص الشعبي بأنه مأثور تقليدي ذو نزعة محافظة من حيث البنى والدلالات، وخضوع القصص الشعبي لبنية موروثة لا واعية، يمارسها القاص الشعبي، أو يبدع على غرارها بالمحاكاة والتقليد، وتوسله اللغة المحكية في تواصله، وهي لغة لا تتصف بالديمومة، ولكن لها حضوراً جمعياً طاغياً نابضاً بالحياة، وعكس الراوي في القصص الشعبي لرؤية جمعية تجاه العالم، أي رؤية الجماعة الشعبية لنفسها وللآخرين، وموقفها من الحياة والأحياء من منظور جمعي، وتوجه اهتمام القاص أو الراوي إلى البنية الحكائية/ الفعل القصصي حين يدفع مستمعيه فوراً إلى حيث يكون الحدث، وقيام عالم الفكر الشفاهي على الصيغ، والحرص على دور للجمهور المخاطب أو المتلقي، وكونه جمعي التأليف، وكونه ملكية عامة للأمة وللشعب بجميع فئاته وطبقاته وأعراقه مما يجعل من حق أي فرد أن يعيد إنتاجه نصاً جديداً، وثراء أنماطه أو طرزه وتوظيفها لأنماط وطرز عالمية (نظرية انتقال العناصر أو الحوافز ورحلتها بين ثقافات الشعوب)، وكونه نبع إلهام واستلهام لأدباء الخاصة، بشكل مباشر أو غير مباشر، من حيث هو متون حكائية وأنماط بشرية ونماذج إنسانية وأقنعة واليجوريات، وصور، وأخيلة ورموز وأطر قصصية وصياغات درامية.. الخ، ونزعته العالمية على الرغم من محليته، وتميزه بالصراحة في القول والصدق في إبداء الرأي والجرأة في النقد والوضوح في التعبير، وخصوصية تركيبه مثل الحبكة المتقطعة واستمرارية الخط السردي ونمطية الشخصيات.
وطرح النجار في تأسيسه الثالث سؤالاً: الأسطورة أم الفنون السردية، من منطلق حجم تأثير الأسطورة الكبير في المأثور القصصي العربي، بشقيه الشعبي والرسمي، الشفاهي والكتابي، فعرف الأسطورة مفهوماً وتراثاً من منظور قصصي، وعرض نظريات نشأتها فيما يخص الأساطير الكونية والطقوسية والتعليلية والحضارية، ومصطلح الأساطير في القرآن الكريم، وبين الفوارق بين مصطلحي Myths وقيام الجانب القصصي فيه على الخيال المحض، وLegend ويقصد به قصة امتزج فيها الواقع بالحلم، والتاريخ باللاتاريخ (ترجمة أحمد كمال زكي بالأسطوريخية). وهكذا.
كان كل حكي يبدأ بالأساطير. ربما كانت دراسة النجار الأكثر استقصاء وتدقيقاً للتراث القصصي العربي مما يجعل منها المرجع الأشمل في بابها. غير أنها ناءت عن حل منهجها الواسع الذي يولف بين مناهج متعددة لا سبيل إلى التوفيق بينها، فغلب المنهج الوصفي على الإضاءة في مطالع الأقسام، وغلب التحليل السوسيو ـ سردي على بقية المناهج النقدية الأخرى في الجانب البنيوي للنمط القصصي ومكوناته السردية.
أوضح النجار في القسم الأول حجم حكايات الحيوان في التراث العربي وطبيعتها وأنواعها: حكاية الحيوان الشارحة (التعليلية)، وحكاية الحيوان الرمزية (التعليمية)، وملحمة الحيوان (الشعرية)، ورواية الحيوان (النثرية)، وأكد أن الأدب العربي القديم قد انفرد بالنوع الرابع. وناقش أنموذجاً لذلك كتاب «كليلة ودمنة»، مبرهناً عن عروبته، ومحللاً النسق الإشاري للعنوان، والنسق البنائي للكتاب (البنية الكبرى والبنية الصغرى)، ونسق البنية اللغوية والأسلوبية، والنسق البنائي للشخصيات، وانساق البنى الاجتماعية (النسق الديني، النسق القيمي ـ النسق السياسي ـ النسق الدلالي ـ الكلي، فروق أخرى).
ثم درس النجار البنية السردية للكتاب: البنية الكبرى، وظائف الحكاية الإطارية، البنية الصغرى، القصة المحورية أو الرئيسة، الحكايات الصغيرة الفرعية، التعاقب الحكائي الحر، التعاقب الحكائي المعلق أو المقيد، المشهد الافتتاحي، وظيفة الاستهلال، الوظيفة التشويقية، الوظيفة التنسيقية. ثم خص «كليلة ودمنة» باهتمام نقدي مقارن ضاف في حديث مسهب عن محاكاة هذا الأثر الهام، الذي جاوز تأثيره مرحلة التأسيس، إلى إعادة إنتاجه شعراً أو معارضته أدبياً من المنثور إلى المنظوم، وذكر النجار في مجال المحاكاة الشعرية والنثرية أعمالاً متعددة، تنم عن واسع إطلاعه وفيض علمه، ولكنه غفل عن نماذج محاكاة على سبيل المعارضة مثل «الأسد والغواص» (القرن الخامس الهجري)( ).
خصص النجار القسم الثاني للقصص البطولي. في السير والملاحم الشعبية العربية، وعالجها من مداخل ثلاثة سماها مقاربات، وكانت المقاربة الأولى لعالم السير والملاحم الشعبية العربية، والثانية مقاربة للقضايا الاجتماعية والقومية في الملاحم والسير الشعبية العربية، والثالثة مدخل إلى التحليل البنيوي للسير الشعبية، نظرياً وتطبيقياً. وتبرز في المقاربة الأولى مقدرة النجار المدهشة على تحليله للوظائف: وظائف الراوي المفارق لمرويه، ووظائف الراوي المتماهي بمرويه، ووظائف السير والملاحم الشعبية: التحريضية والتعويضية والتعليمية والإقناعية. وقد استطاع النجار في مقاربته الثانية أو دراسته المضمونية. للسير والملاحم الشعبية العربية أن يفسر ما لحق بهذا التراث القصصي من إهمال وغبن ناتجين عن البعد القومي الصميم، إذ برهن «أنه ما من شيء يحكي الوجدان القومي العربي، كما تحكيه هذه الملاحم، وما من شيء يدعو إلى الوحدة القومية كما يدعو إليها هذا المأثور الأدبي العريض»( ).
أما المقاربة الثالثة للشكل فهي إحدى ذرى شغل النجار دراسة للبنية الموروفولوجية والدلالية للسير الشعبية. انطلق النجار من الوحدة الوظيفية بالمعنى الذي حدده بروب، وهي التي تترجم بالحافز عند الشكلانيين الروس، وكان سماها توماشفسكي «حوافز مترابطة»، والأفضل أن نسميها حوافز متنامية، ما دام «التحفيز» هو «تنامي الفعلية». على أن النجار لا يتعامل مع المصطلح ضمن مفاهيمه الخاصة بتحليله السوسيو ـ سردي، لأنه ينتقل في الموقع نفسه، إلى فهم بارت للمصطلح، وحدات توزيعية أو تكميلية، منعطفات خطرة أو حرجة، وظائف ثانوية أو إشارية، وإلى فهم بريمون للوظائف، وحدة قصصية أو وظيفية ما تلبث أن تتشعب، أو أن تختار اتجاهاً آخر، بمنطق الممكنات القصصية الذي ينتظمها في متتاليات، أي تحول علاقة المنطقية إلى علاقة زمنية تركيبية لمجمل التحفيز.
لقد وجد النجار في السير الشعبية ثلاث طبقات موروفولوجية مركبة تشكل في مجموعها البنية، هي البنية الصغرى (تعادل العنصر أو الوحدة الوظيفية)، والبنية الوسطى (تعادل بنية المقطع أو المقطوعة التي تحتوي على عدد من العناصر أو الوحدات الوظيفية) والبنية الكبرى (تشكل الهيكل الخراساني الأساسي للسيرة ولذاكرة الرواة). ولدى مناقشة قواعد تصنيف البنية العامة، نلاحظ أن النجار يطوع المنهج السردي في تطور تجلياته ليستوعب خصائص السير والملاحم العربية، وهي تطويع شديد الانسجام والتماسك وقابل للتنظير بالمزيد من التمحيص والمقارنة والتطبيق على النصوص في رواياتها المتعددة، كما في هذا التحليل الممتع والدال، ونذكر منه ملاحظتين من سبع عشرة ملاحظة:
«- يقوم نقص العقد المبرم بين البطل وخصومه بدور الربط المفصلي بين نهاية كل مرحلة وبداية المرحلة التالية بشكل طبيعي ومنطقي، ولذلك ليس من المبالغة في شيء حين نقرر أن البطل الملحمي هو صانع النسق الوظائفي للسيرة.
- هذه المراحل السبعة، بهذا الترتيب الزمني والمنطقي، هي التي تنقل نضال البطل من الخطاب التاريخي (الإخباري) إلى الخطاب السردي (القصصي)، فهي التي تنقل قصة البطل من التاريخ إلى الفن الملحمي، بفضل آليات السرد القصصي المعروفة، غير أن الالتزام بثبات هذه المراحل السبعة وتسلسلها هو الذي يعطي أيضاً السيرة طابعها التاريخي كتوالٍ للأحداث»( ).
ويجدر بنا أن نذكر أن الرسوم التوضيحية والجداول الكثيرة داخل المتن النقدي موظفة، وبعيدة عن التجريب وإغراءات الحداثة وجموح التحليل اللغوي باتجاه تأليف مرجعي. ويعزز هذا الجهد اختياره لنموذج تطبيقي هو «السيرة الهلالية» وفق أسلوب «دراسة حالة». وخصص النجار القسم الثالث للقصص الديني الإسلامي طبقاً لمصادر إبداعها:
القصص القرآني (ما ورد في القرآن الكريم).
القصص النبوي (ما ورد في الحديث النبوي).
القصص اليهودي (ما ورد في كتب التفسير من إسرائيليات).
القصص الصوفي (ما ورد في كتب التصوف من كرامات).
ويتفرع عن كل نوع من الأنواع الثلاثة الأولى للأشكال القصصية التالية:
أساطير الأولين (القصص الأسطوري).
قصص الأقوام والشعوب والأمم الماضية (القصص التاريخي).
قصص الملوك والأنبياء والرسل (القصص الأنبيائي).
قصص الأمثال الوعظية (القصص التمثيلي).
قصص الحيوان الرمزية (القصص التعليمي).
وقد سوغ النجار اختياره للقصص الأنبيائي لأكثر من سبب:
«تشكل روايته قالباً أو شكلاً قصصياً متميزاً من الناحيتين البنائية والوظيفية».
إنه الشكل أو المثال الذي تأتي على غراره القصة الصوفية الشعبية.
يشكل موضوعه صلب القصص الديني الإسلامي، الشفاهي والكتابي.
إن البطل الأنبيائي هو النموذج والمثال الذي يصوغ الإبداع الشعبي على غراره البطل الملحمي في السير الشعبية العربية.
إن البطل الصوفي في القصص الصوفي الشعبي ـ وفي الحياة ـ محاكاة للنمط البطولة الأنبيائي»( ).
واهتم النجار بتكون مفهوم القاص الشعبي داخل حلقات الذكر والمساجد، وبطبيعة أدائه، وصنف القصص الديني، وبين خصائصه، ثم فصل القول في القصص الأنبيائي، ولا سيما بنيتها القصصية من خلال تأسيسه اللافت للنظر( ). وتابع النجار تأسيسه حول ضرورة فرز «الإسرائيليات»: «إن القصص الأنبيائي ضم فولكلوراً سامياً عاماً وعربياً وإسلامياً، إلى جانب الإسرائيليات (اليهوديات) بالطبع، إنها قصص شعبية تحولت إلى بطولات أنبيائية، وقد أخذها اليهود عن بابل وسوريا وعن الكنعانيين والمصريين القدماء، ونسبوها إلى أبطالهم من الأنبياء الملوك أو الملوك الأنبياء، حتى ذو القرنين أصبح في الأنبيائية الإسلامية نبياً صالحاً.» ويتضمن التأسيس صلة الإسلام بالديانات الأخرى.
وتكتمل نظرة النجار التأسيسية في اتفاق الإنجاز التاريخي في حياة الرسل والأنبياء مع الإنجاز القصصي: «من اللافت للنظر ـ بداية ـ أن الإنجاز التاريخي في حياة الرسل والأنبياء يتفق ـ سردياً وبنائياً ـ مع الإنجاز القصصي، في هذه المرحلة كان لا يزال التاريخ قصاً، والقص تاريخاً.. وعمادهما معاً المرويات الشفاهية المتواترة «لقرون عديدة» قبل أن يتطوع بعض الأنصار والحواريين لجمعها وتدوينها (بكل رواياتها المتعددة) وتسجيلها، وتوثيقها، بكل الأساليب والمناهج المتاحة آنذاك، وعلى رأسها ـ خاصة عند المسلمين ـ الإسناد بكل وسائله ومناهجه، وإذا كان علماء الحديث النبوي قد نجحوا في ذلك، فإن الأمر عند المؤرخين ـ ومن ثم القصاص ـ لم يكن بمثل هذه الدقة والقداسة، بل ربما كان العكس صحيحاً، قد عمدوا إلى التشبه بعلماء الحديث للإيحاء بصدق مروياتهم القصصية نفسياً وعلمياً». ومن هذه الزاوية سوغ النجار استعماله للمناهج النقدية الحديثة بشيء كبير من التعديل في ضوء منهجيات بروب Propp وغريماس Greimas وجينيت (يسميه جينات) Genette وبريمون Bremond فإن هذا لا يعني أننا نريد تحويل هذا «التاريخ الديني المقدس» للأنبياء إلى «مأثور قصصي خيالي»، وإن كان احترز عن ذلك فهو لم ينشد ذلك.
وقد استفاد النجار من منهج بروب وجريماس وغيرهما في التحليل الوظائفي للعمل القصصي، وفي شرح البنية التركيبية والدلالية وفق تحليل النص السردي والوحدات السردية، وهو اجتهاد جريء، ولا سيما تطبيقه لمفهوم «المكافأة الأنبيائية» تعديلاً أو تطويعاً لاقتراح جريماس عن أنواع الاختبارات، وهي الاختبار الترشيحي، ويكتسب خلاله البطل الأنبيائي الكفاءة وطاقة الإنجاز (مرحلة تجلي الوحي له لأول مرة، وتكليفه بالدعوة، وتزويده بالمعجزات)، والاختبار الحاسم، المصلح للافتقار الديني (فترة تبليغ الدعوة علانية، أو الصراع والمواجهة، ثم الانتصار على الكافرين والمشركين). والاختيار التمجيدي، الذي يتحقق فيه الالتحام الكامل بين الذات الخاصة والذات العامة، أو بين النبي وجماعته، وهو ما تحقق على يد النبي محمد (ص) بعد ثلاثة وعشرين عاماً (هي الفترة بين هبوط الوحي، وموته عليه السلام).
وزع النجار القصص الأنبيائي التاريخي إلى تبشيري وتحذيري، وتلا ذلك بسمات البطل الأنبيائي، وانتقل إلى بحث القصص الصوفي (الأوليائي)، وفرّق بين المعجزة والكرامة، وهو ضروري لمثل هذا البحث، وأنواع الكرامات، والكرامات والتخصص العضوي ومراتب أصحاب الولايات، وأنواع الأولياء، وتلاه نص تمهيدي هو ترجمة السيدة نفيسة حامية مصر (ت 208 هـ)، مأخوذ من «جامع كرامات الأولياء»، وبنص تمهيدي آخر هو ترجمة ذو النون المصري (ت 245 هـ) من المصدر نفسه، وبنص تمهيدي ثالث هو ترجمة أحمد الرفاعي (ت 587 هـ) من المصدر نفسه، وقد أفادت هذه النصوص في التعرف إلى عالم الكرامة من منظور سوسيو ـ سيكولوجي، وإلى خصائص القصص الصوفي، وبنيات القصص الصوفي، وأنماط البطل الصوفي، وملامح البطل الصوفي الأوليائي، ووظائف القصص الصوفي أو الأوليائي.
وعالج النجار في القسم الرابع «التراث القصصي العاطفي» ذكر في التمهيد لبحثه، بعض المدونات التراثية في هذا الباب، مثل مجموعة الكتب التي تفردت في دراسة موضوع الحب، وكتب التراث الموسوعي، وكتب التراث الشعري، والتراث القصصي مجهول المؤلف، والقصص القائمة بذاتها في كتاب أو كتب، ومجموعة «ألف ليلة وليلة»، والسير والملاحم الشعبية العربية، وقد أغفل النجار الكتب الأيروتيكية العربية مما تناول أنواع الحب الأخرى( ). وصنف قصص الحب عند العرب من حيث اللغة والأسلوب إلى شعرية ونثرية، ومن حيث صيغة النص الروائي المدون إلى قصص رويت مختصرة وأخرى مفصلة كاملة، ومن حيث المضمون والوظيفة والغايات إلى قصص الحب الحسي والجسدي، (ويكاد يكون مغفلاً عنه) وقصص الحب العذري أو الروحي، وقصص الحب العاطفي، وهو قصص الحب الطبيعي الناضج، باعتباره حالة عاطفية مركبة تشمل كيان الإنسان بكامله، جسداً وعقلاً وروحاً، ونظر في ظاهرة الحب العذري ومصطلحه وأدبياته في المجتمع الإسلامي أو السياق الاجتماعي، وخصائص القصص العذري ولا سيما موضع التبئير فيه.
وتوقف النجار عند الخلاف في مصدر الرواية في القصص العذري بما ينوع في البنية الحكائية والتركيب السردي، ثم استقرأ هذه البنية في أربع عشرة قصة هي: قصة مصاص ومي (في الجاهلية)، وعنترة وعبلة (في الجاهلية) وقصة عبد الله بن عجلان وصاحبته هند (في الجاهلية، وهي تشبه قصة قيس ولبنى)، وقصة عروة بن حزام وعفراء (في الإسلام) وهو من بني عذرة، وقصة جميل بن معمر العذري وصاحبته بثينة، وقصة مجنون ليلى، وقصة قيس بن ذريح وصاحبته لبنى، وقصة الصمة القشيري وابنه عمه ريا، وقصة كثير عزة، وقصة توبة بن الحمير وليلى الأخيلية، وقصة سلامة القس، وقصة ابن الطثرية يزيد القشيري مع صاحبته وحشية الجرمية، وقصة وضاح اليمن، وقصة ديك الجن الحمصي، ويشير النجار إلى أن هناك غيرها كثير تترد نغماتها في صفحات الموسوعة العربية الخالدة «الأغاني» وحلل الشخصيات ووظائفها طبقاً لتصور غريماس. ونلاحظ قلق المصطلح وعدم إدراجه في تكوينه لمنهجه في تعامله مع مصطلح motif الذي نترجمه بالحافز، وهو أصغر وحدة قصصية( )، ثم استعمله نقاد السرديات وشعرية السرد استعمالات كالوحدة الوظيفية أو التوزيعية أو التكميلية أو الثانوية أو الإشارية.. الخ، ويظهر هذا القلق في الهامش رقم (8) في الصفحة (649) إذ عرف الكلمة، «بأنها ـ بشكل عام ـ الجزيء المتكرر والمستمر والحامل لمعطى أو قيمة ثقافية، والذي يدخل في تكوين الشكل (البنية.. الخ) والمحتوى لمختلف أنواع الإنتاج الثقافي والسوسيولوجي، أما مفهوم أو مصطلح الموتيف ـ بشكل خاص ـ في علم دراسة القصص الشعبي Folk - Narrative أو Folk - Tale فيعرفه طومسون بأنه أصغر عنصر روائي أو قصصي له القدرة على الانتقال والاستمرار عبر الزمان والمكان باعتباره جزءاً من التقاليد أو المأثورات في ثقافة معينة، كما يمكن تذكره وتكراره»( ).
ويضاعف من القلق أن النجار عدّ المصطلح كلمة حيناً، ومفهوماً حيناً آخر، وأنه لم يورد تعريفه الخاص للمصطلح أو ما استقر عليه نفسه، أو ما تواضع عليه علم السرديات، واكتفى بتعريف طومسون.
أما القسم الخامس فعالج فيه «القصص الفكاهي»، وعرض أدبيات الفكاهة العربية.. سياقاتها التاريخية: الدينية والاجتماعية والثقافية من خلال «الضحك والسرور بين المباح والمحظور تراثياً وثقافياً»، والتعريف بصانعي الفكاهة المحترفين، ولا سيما المضحكون في العصر الجاهلي وصدر الإسلام والحاكية أو الممثلون الهزليون في الدولة العباسية، وابن المغازلي الحاكي المضحك، وشخصية النديم أو مضحك الخليفة، واستعراض مصادر دراسة القصة الفكاهية في التراث العربي، واستعراض الرسائل القصصية الساخرة في التراث العربي، مثل الرسالة أو الحكاية الساخرة، والرسالة أو الرواية الهزلية والنمط الدونكيشوتي العربي، واقترح النجار تصنيفاً للنوادر والحكايات المرحة في التراث العربي: الأول هو التصنيف الاسمي أو الشخصاني، والثاني هو التصنيف الموضوعي، والثالث هو التصنيف الموضوعي ـ الفرعي، والرابع هو الموسوعي، وذكر خصائص النوادر المرحة، فيما يخص الأحداث والشخصيات واللغة والحوار والأداء والمكان والزمان والتأليف والرواية والعالمية، واستعراض الأشكال الأدبية للنوادر العربية والتصنيف الفولكلوري العالمي مثل النكتة والنادرة التعليمية والنادرة الشخصية.
ثم عالج النجار وظائف القصص الفكاهية على نحو إجمالي، واختار نموذجاً للتحليل هو النموذج الجحوي، ولعله آثر الاختزال في هذا التحليل، لأن له كتاباً عن «جحا العربي: شخصيته وفلسفته في الحياة والتعبير» (1978).
شغل النجار فريد في بابه، مرجعي على الرغم مما يعتري هذا الشغل من ملاحظات تتصل بالمنهجية والمصطلح والشمولية. وثمة تقدير خاص لهذا الشغل هو أهل له يتعلق بإسهامه في التأصيل والمثاقفة، وبتصحيح بعض الأفكار السائدة حولهما.
1-8- أسهم عبد الفتاح كيليطو (المغرب) في الاشتغال النقدي الجديد للتراث السردي الشعبي في كتابه «العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة» (1995، وكان وضعه بالأصل باللغة الفرنسية عام 1993). ويأتي هذا الكتاب إحدى ذرى الإبداع النقدي لمشروع كيليطو في تأصيل السرد العربي في اعتمال بديع لوعي الذات في خضم الحداثة، وفي مجاوزتها داخل سيرورة التقاليد الأدبية العربية.
تكمن أهمية اشتغال كيليطو النقدي في انطلاقته من التراث السردي العربي، وفي تطوير شبكة المفاهيم النقدية الموروثة الكفيلة بالتعامل مع التراث السردي نفسه. ينتمي نقد كيليطو إلى ذلك الحفر المعرفي، إخصاباً لمنهج علاماتي يؤول النص في خضم معرفة واسعة باللغة وفهم التقليد الأدبي والصنعة الأدبية دون أن يسقط على النص دلالات أو معاني لا يبطنها، أو ترشح عنه، وكان أدرج شغله في مفهوم «القراءة»، وأن قراءته لكتاب «الليالي» ستسعى لا إلى تجريده من أسراره (بوساطة ما لا أدري من شبكة تأويلية)، بل إلى إطلاعه على سره الخاص، وذلك دون المس بكل احتمالات معناه، وفي لحظة ستكون العين والإبرة حاضرتين في الموعد»( ). ويفيد هذا السعي أن الحفر المعرفي عند كيليطو يعتمد على احترام النص والتأويل لإنجاب المعاني المحتملة، ويعني جوهر ذلك أن تقدير كينونة النص في سياقه التاريخي والمعرفي، وأن شغل كيليطو لا يغفل عن البعد التأريخي، الذي تتحرك فيه المخيلة وتنتج المبدعات على هذا النحو أو ذاك، وقد قال اندريه ميكيل في تقديمه للكتاب:
«إن هم التاريخ، عند كيليطو، يفسح المجال، هنا، لمبتكر الأخيلة، ولماذا لا نقول للحالم. لكن الحلم كثيراً ما يكون أكثر إعراباً وأكثر صدقاً»( ).
يطرح كيليطو مجموعة من التساؤلات: من القادر على تمرير الحكاية من سجل الشفهي إلى سجل الكتابي؟ ماذا يمكن القول عن مفهوم الراوي ومفهوم المؤلف؟ إلى أية خزانة يؤول الكتاب؟ وأية أيد تستطيع فتحه؟ ولماذا حالما يتم تسجيل الحكاية لا يبقى ثمة ما يروى، اللهم موت الشخوص؟ بواسطة أي مفعول سحري يغدو الكتاب عنصراً من عناصر الموت، هذا في الوقت الذي يقدم فيه نفسه بوصفه مساعداً وبلسماً مخصصاً لتقوية الحياة وتحسينها؟ وما الداعي إلى إغراق الكتب؟
إن كيليطو ينظر إلى كتاب «الليالي» مثالاً من أمثلة الحكاية في تراث الإنسانية، وأن خصوصيته عربية، ويتنفس هواء الثقافة العربية، ويجري في مجرى ماء التراث السردي العربي، وأنه خزانة معرفية هائلة، وليس في الميسور قراءته بمعزل عن التقاليد الثقافية العربية، وهذا هو مبعث التساؤلات عن مفهوم الراوي ومفهوم المؤلف وبقية المفاهيم الناظمة لسيرورة السرد العربي في نهر الثقافة العربية العميق، المتلاطم الأمواج.
سمى كيليطو الفصل الأول «خزانة شهرزاد» بما يشير إلى هذا الفهم، على أن شهرزاد تنهل من ثقافة عريضة تجعل من الكتاب بعد ذلك خزانة معرفية تروى. وما فعله كيليطو ليس الشرح، بل هو تزجية التأويل تلو التأويل للكشف عن أسرار الكتاب: طبيعة الحكاية في الليالي، وقيمة الحكي إزاء الموت، وطبيعة حيلة الرواية التي قامت بها شهرزاد، وهل الحكاية إلا تواضع سردي أو هي الحكي عن واقع متخيل تصنعه؟
يعيدنا هذا الاستنتاج إلى الرهافة النقدية التي يتميز بها كيليطو: قيمة صنعة الحكي في الليالي تعبيراً عن منظومة فكرية تكمن بعض تجلياتها في السرد الشهرزادي، وهو ما يؤكد عليه كيليطو في عديد الاحتمالات التي ينبه إليها.
يتحدث كيليطو في فصول كتابه عن أفكار متعددة حول «الليالي» ولا يشتمل في حديثه على موضوع واحد في الفصول كلها، بل يختار زوايا مختلفة ومستويات متعددة للإجابة على تساؤلاته، وينوع في أدواته النقدية لتدعيم منهجه، ففي الفصل الثالث الذي يحمل عنوان «الكتاب القاتل»، يستعمل التناص سبيلاً أو مدخلاً إلى حفرياته المعرفية. يبدأ بإحدى قصص بوزاتي، ثم يتلوها برواية «اسم الوردة» لامبرتو ايكو، دخولاً في ما ترويه «حكاية وزير الملك يونان والحكيم دوبان»، ثم يعارض ذلك بنصوص عربية وأجنبية أخرى، وبالترجمات الغربية لليالي، ليصل إلى دلالة من دلالات الحكي الشهرزادي.
لا يضيف كيليطو على نصوص «الليالي» دلالات ما، ولا يتعسف في تحليلها محاذراً أن يبالغ في احتمالات التأويل، لأن من صفات النصوص السردية، ولا سيما الليالي، الإضمار. ولعل تأويله لحكاية السندباد يعزز طريقته( ).
يختتم كيليطو كتابه بفصل يحمل عنوان «الخيط والإبرة» لمقاربة دراسته لليالي في العنوان الذي اختاره «العين والإبرة». ويضع عبارة مفتاحية لهذا الفصل كلمة للثعلبي من «قصص الأنبياء»، وهو وضع مثل هذه العبارات في مطلع كل فصل، وهذه العبارة تقول:
«وكان إدريس أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب».
ولربما كان في ذلك دلالة على المعاني المتولدة لخط، على سبيل الحقيقة أو المجاز، نحو الدلالة الأبرز: «الحكايات مدرسة للحكمة، غير أنه يلزم وقت لاكتسابها». ويضيف كيليطو: «لقد كانت الحكايات مرايا تأمل فيها الملك حكايته الخاصة، وتمكن بفضلها، من التغلب على عزلته. ومن ثم فإن حالته، بعيداً عن أن تكون وحيدة، تندرج ضمن حالات مماثلة، إذ استطاع، من فرط تماهيه مع شخصيات خيالية، أن يكتسب رؤية جديدة للأشياء، وتتخلى عن حقده»( ).
أما الدلالة الأكبر فهي مرتبطة كذلك بعنوان الكتاب المأخوذ عن عبارة طالما ترددت في السرد الشهرزادي: «وحكايتك حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر». وقد شرّع تأويل كيليطو في ثنايا خاتمة بحثه الأبواب والكوى على آفاق رحيبة لتساؤلاته الأولى( ).
1-9- وفعلت المناهج الحديثة فعلها في الدراسات الميدانية للموروث السردي من المنطلقات إياها: «السير الشعبية كانت ترسخ في الوجدان الشعبي معنى. ضرورة الاهتمام بدراسة القصص الشعبي العربي باعتباره المصدر الحقيقي للهوية العربية من ناحية، وباعتباره كنزاً فنياً ثميناً من ناحية أخرى»( )، فوضع محمد حافظ دياب (مصر) كتاباً بعنوان «إبداعية الأداء في السيرة الشعبية» (1996 جزءان)، ورأى خيري شلبي، مقدم الكتاب، أن هذا الكتاب يعالج نقصاً فادحاً في الدراسات الشعبية، ذلك أن كل الدراسات التي تعرضت للسير الشعبية من قبل اهتمت بالجوانب الموضوعية أو العناصر التاريخية أو القيم الجمالية، بينما يكتب دياب عن المؤدي في السير الشعبية، بوصفه مبدعاً خلاقاً، وإبداعيته تتفاوت من مبدع لآخر، فقبل تدوين السير في سجلات مخطوطة أو مطبوعة، كانت ذاكرة المؤدي هي التي تحتفظ بالنص، ولم يكن المؤدي يؤديه بحرفيته، إنما كان يضيف إليه من أحاسيسه ومشاعره وخياله الخصيب إضافات إيجابية تسهم في استكمال النواقص والسواقط من الأخيلة السابقة( ).
وأعلن دياب في مفتتح دراسته أنه يسترشد بمنهج علم الاجتماع الأدبي في مقاربة تمثل منطقة تقاطع معقدة بين عديد من العلوم المترابطة Border Line or Intcrdisciplinary Sience، كالفولكلور، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والسيميوطيقا، وعلم الاتصال، وعلم السرد القصصي Narratology، وحيث بعض من هذه العلوم، والحديثة منها تحديداً، ما زالت تسودها كوابح التوتر الفكري، والتعاضل المصطلحي، والتجريد النظري، وقصد دياب من التقاطع الإسهام في تطوير منظور تركيبي ذي كفاءة في استيعاب هذه الإبداعية.
قامت دراسة دياب على فحص ميداني يعاين غنى حضورها في الواقع، فعالج مفهومي السيرة الشعبية وإبداعية الأداء، وشرح الأرضية النظرية لدراسته، وشملت: النظرية الوظيفية، ونظرية الصيغ الشفاهية، والنظرية البنيوية، النظرية السيميوطيقية. وناقش الأسس المنهجية للدراسة: المنهج الفولكلوري ومنهج دراسة التجمع المحلي، ومنهج تحليل الدور، وتضافرها مع المنهج الأنثروبولوجي، لتحقيق المزيد من فهم الظاهرة المدروسة، وقدم مجتمع البحث باعتباره مسرح عروض السيرة الشعبية، خلفية تاريخية وملامح أيكولوجية، وخصائص ديموغرافية، ونشاطاً اقتصادياً، وإطاراً ثقافياً. وخصص حيزاً لصورة المؤدين في مجتمع البحث، التي تمثل مركباً من خصائصهم الشخصية وقدراتهم الفنية وسماتهم النفسية، ودرس جماليات نص السيرة الشعبية، كما تتبدى في الروايات المقدمة لها من قبل المؤدين في مجتمع البحث، عبر مستوياتها اللغوية والبلاغية والسردية والقيمية. وختم بحثه بعرض لموقف الأداء من حيث جمهوره ومناسباته وحيزه المكاني، والبرنامج الذي يحتويه، ودراسة وعي التلقي، تعريفاً لمفهوم التلقي، والديناميات المؤثرة فيه، وبنيته.
لقد غلب على نهاجية دياب مؤثرات مستمدة من الاتجاهات الجديدة لنقد القص والسرد في آخر تجلياتها، ففي دراسته لنص السيرة الشعبية على سبيل المثال، استفاد دياب من معطيات عديدة لهذه الاتجاهات: اتجاه سيميولوجية الثقافة، ليستوعب النص ما هو أبعد من الرسائل بالمعنى اللغوي العادي، إلى الاشتمال على كل عرض محكي أو مدون، معاينة السياق الاجتماعي والثقافي، بما يفيد إدراك النص في ذاته، وفي موقف، وهو ما أطلق عليه فالنتين فولوسينوف V. Volosinov الفعل المزدوج L’Acte Double الذي يتحدد بمن يقوله، وبمن يقال له، نظرية التحليل النمطي الموتيفي للمدرسة الجغرافية التاريخية، نظرية المستشرق الألماني تيودور بنفي Th. Benfey، نظرية فلاديمير بروب V. propp الشكلية، النص المفتوح Oeuwre Werte بتعبير امبرتو ايكو U. Eco، ففي كل عرض من عروض السيرة، نكون بإزاء رواية جديدة، تمارس حوراها التناصي، الخصب مع ما سبقها من روايات، ويعاد إنتاجها وإبداعها أمام الجمهور وبمؤازرته، وتتخلق فكريتها وجمالياتها ارتباطاً بالمشروع الإنساني للجماعة الشعبية، مثلما يقوم كل متلق بتأويل النص حسب قدراته الثقافية والاجتماعية والنفسية، وهو ما أتاح لهذا النص البقاء والتأثير، وخول له صلاحية العشق والتواصل( ).
أفاض دياب في شرح النظرية المعتمدة التي قاربت دراسة الأداء من أجل منظور تركيبي مثل النظرية الوظيفية Theorie Fonctionelle، ونظرية الصيغ الشفاهية Theorie Orale-Farmulatiqu، والنظرية البنيوية Theori Structurale. ونلاحظ، أن دياب في عرضه لإسهامات النظرية البنيوية في دراسة الأداء، قد انطلق من اتصالها بعلم اللغة الحديث Modern Linguistics، والشكلانية الروسية Russian Formalism، وأعمال حلقة براغ Circle of Prague، تفاعل الفكر الفرنسي المعاصر مع هذه المصادر، وهو تفاعل شهد عقده الذهبي في الستينيات، وتجلى في مختلف ضروب المعارف، وبخاصة في الأنثروبولوجيا، والتحليل النفسي، وعلم الاجتماع، والتأويل، والنقد، والنقد الأدبي( ). وهكذا، غلب على منهج دياب المنظور التركيبي مستفيداً من النظرية السيميوطيقية Theorie Semiotigue في منهجه أيضاً.
وتتميز دراسة دياب، على وجه العموم، بثرائها التحليلي تثميراً لمعطيات الاتجاهات النقدية الجديدة دون إيغال في خصائصها الشكلية بقصد إبراز قيمة التأويل المستند إلى نهاجية علامية في نظرية الخطاب والتلقي كما تبدت عند امبرتو ايكو وسواه. وتحفل نظرته إلى مستقبل الأداء في السيرة الشعبية من خلال واقعها في مصر إلى استبصارات حاذقة هي جملة الاعتبارات التي أوردها في ختام بحثه: احتدام الأزمة المجتمعية الشاملة في مصر، تأثير هذه الأوضاع في رسملة العلاقات الاجتماعية، تزايد نشاط وسائل الاتصال الجماهيري، وسيطرة الثقافة الإعلامية Mediatigue، وما ينتج عنه من أسلوب التسليع والتهميش، وهذا كله يعرض السيرة الشعبية إلى مخاطر راهنة وضاغطة على الهوية القومية.
يصدر دياب عن وعي عميق بإمكانات منهجية هائلة مما يعبر عن التمثل الكامل للنقد العربي الحديث في درس الموروث السردي الشعبي، ولا يقلل من منهجيته استخدامه الواسع للتعدد النظري والمنهجي، لأن الغالب عليها هو المنهج العلامي وانبنائه على هذا التعدد النظري والمنهجي.
1-10- يعد شغل سعيد يقطين (المغرب) في نقد الموروث السردي الشعبي من أكمل الإسهامات في انطوائه على مشروع نظري يستعين بالمناهج الحديثة في سبيل أصالة ثقافية ونقدية عربية؛ ومن اللافت للنظر أن يقطين لا يميز بين الموروث السردي الشعبي، والموروث السردي الأدبي، لاندراجهما في سياق معرفي ونقدي واحد، ولأن دراسته للمتن السردي الموروث مخصوصة بموروث سردي شعبي هو السيرة الشعبية، فكان مشروعه النقدي الكبير لتحليل السرد انطلاقاً من المتن السردي العربي القديم في كتابيه «الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي» (1997)، و«قال الراوي: البنيات الحكائية في السيرة الشعبية» (1997). وقد وقع اختياره على السيرة الشعبية للاعتبارات التالية:
«أ- السيرة الشعبية عمل حكائي مكتمل ومنته، وقدم لنا العرب من خلاله العديد من النصوص.
ب- هذا العمل الحكائي يمتاز بالطول الذي يتيح له إمكانية استيعاب العديد من الأجناس والأنواع والأنماط.
جـ- إن له خصوصية يتميز بها عن غيره من الأنواع السردية العربية، سواء من حيث تشكله، أو عوالمه الواقعية أو التخييلية التي يزخر بها.
د- هناك العديد من النصوص الحديثة التي تتفاعل معه، بمختلف أشكال وأنواع التفاعل النصي»( ).
وبين يقطين دواعي مشروعه النقدي في أمرين، هما:
«أ- تعميق التصور السردي الذي أسعى إلى بلورته، وأنا أبحث في السرد العربي الحديث، وتطوير إجراءات البحث، وتدقيق أدوات الاشتغال، بالانتقال إلى الاهتمام بالسرد العربي القديم.
ب- إقامة علاقة بالنص التراثي العربي في مختلف تجلياته ومستوياته، لأن السيرة الشعبية منفتحة على التاريخ والجغرافية، ومختلف المعارف التي ركم فيها العرب تصورات شتى، وتركوا لنا بصدده أدبيات متعددة»( ).
وصدر يقطين، في شغله، على السيرة الشعبية مداراً لمشروعه النقدي، عن البعد القومي إياه: «هذا البحث الذي أريده متكاملاً، ومنفتحاً على مختلف القضايا والإشكالات والأسئلة التي تهمّ الإنسان العربي، والثقافة العربية، وفي مختلف الزوايا والمستويات، لأنها تتصل بالعربي في ذاته، وصيرورته، وآفاقه»( ) ولا يخفى ما في هذا القول من زعم، ولكن على الرغم من هذا كله، فإن منطلقات دراسته، وإجراءاتها، والنتائج التي خلص إليها ثمينة، تجعل من هذا الاشتغال على الموروث السردي ريادياً ونافعاً في تعضيد أبحاث الهوية القومية، فارتكز مدار الأطروحة على مفترضين، هما: السيرة الشعبية نوع سردي عربي له خصوصيته وتميزه من باقي الأنواع السردية العربية، السيرة الشعبية نص ثقافي، ويتجلى ذلك في كونها، وهي تتأسس نوعاً سردياً له خصوصيته، تنفتح على مختلف مكونات الواقع العربي، وثقافته، وتقدم نصاً يتفاعل مع مختلف ما أنتج الإنسان العربي في تاريخه.
وتناول في التأطير تصوره النظري، ورصد آراء القدماء العرب حول ما أسماه «النص» و«اللانص»، وما أنجز بصدد السيرة الشعبية من اهتمام دراسي ونقدي، وانطلق من «الكلام» العربي، كما تقدمه بعض الأدبيات النقدية والبلاغية والنقدية، واستثمار هذه الأدبيات لتشكيل تصور متكامل للكلام العربي، ولأجناسه وأنواعه، في ذاته وفي صفاته وفي علاقاته، تمهيداً لإقامة تصور عربي لدراسة الأجناس والأنواع والأنماط
وميز بادئ ذي بدء بين المبادئ والمقولات والتجليات، فربط المبادئ بالثبات ووصلها بالجنس، والمقولات بالتحول، ربطها بالنوع، وجعل التجليات ترتبط بالتغير، ووصلها بالنمط، وفرّق بين ثلاثة أجناس للكلام العربي، هي الخبر والحديث والشعر، وانصب اهتمامه بعد ذلك على الخبر، من حيث أنواعه وأنماطه، واجتهد لموقعة «السيرة» إلى جانب الخبر والحكاية والقصة، باعتبارها من الأنواع الخبرية أو السردية الأصلية. ثم جعل القصة متصلة بالمبادئ لأنها مأوى الجنس الأدبي، والخطاب متصلاً بالمقولات «النوع»، وكان النص عنده مرتبطاً بالتجليات (النمط). ورأى أن السرديات النصية لا يمكن أن تكتمل، أو تتكامل إلا بمعالجتها السرد من حيث هو قصة، من خلال «سرديات القصة»، والسرد من حيث هو خطاب «سرديات الخطاب»، ثم درس السيرة الشعبية من حيث هي «قصة» من خلال التركيز على الحكائية باعتبارها الخاصية التي بواسطتها تنتمي السيرة إلى جنس الخبر أو السرد، في كتابه التالي «قال الراوي».
في تأطيره من أجل تصور متكامل لدراسة السرد العربي، اعتمد يقطين على امبرتو ايكو في تسويغ تطوير الفكر بفحص الماضي، لا برفضه. «إننا نعيد فحصه ليس فقط بهدف معرفة ما قيل فعلاً، ولكن أيضاً بهدف ما كان يمكن أن يقال، أو على الأقل ما يمكننا قوله الآن، بناء على ما قيل سلفاً»( )، وهذا إحدى قواعد المنهج العلاماتي والتفكيكي المعرفي المتمثل في إنجاز التناص الذي استعمل باتساع أيضاً في اتجاه شعرية السرد. ويسجل في هذا السياق على يقطين إنكاره للجهود النقدية السابقة على شغله، وهو العارف بغالبيتها وبقيمتها، وثمة بعضها سامق، ويسبق اجتهاداته، كما لاحظنا، وسنلاحظ في أثناء الحديث عن نقد الموروث السردي الأدبي. لقد حكم على القراءات والتصورات السابقة، إجمالاً، أنها «عاجزة عن تحقيق المبتغى الذي نرمي إليه، لأنها بكلمة وجيزة لم تأخذ بأسباب البحث العلمي، التي ننطلق منها، في معالجة الجوانب التراثية»( ).
إن كثيراً من اجتهادات يقطين مسبوقة، وكان الأولى أن ينطلق من جهود النقاد والباحثين لبناء مشروعه. ولربما كان مرد ذلك إلى القطيعة المعرفية العربية. وثمة ما يثير الاهتمام والتساؤل أيضاً مع ناقد مؤصل للمناهج النقدية الحديثة، هو أنه لا يرى إلا شغله النقدي قادراً على الاستمرار والتحول من جهة، وعلى التبلور والامتداد من جهة أخرى، وأنه يجد نفسه يلتقي مع الأدبيات النظرية الأجنبية وحدها في بلورة مشروعه النقدي( ).
مثلما يلاحظ على مشروعه أنه ما يزال في قيد الاشتغال بالنظر إلى شكل موقع السرديات وموضوعاتها، أو تثمير مجال السرديات الحصرية والسرديات التوسيعية المأخوذة عن جيرار جينيت لإيغاله في التنظير، والتماس تطبيقه على الموروث السردي العربي بعد ذلك، ويبدو تصميمه لشكل السرديات الخاصة والسرديات العامة غير مقنع، لأن يقطين، على خلاف عدد كبير من النقاد والباحثين العرب، لا ينطلق من النسق الثقافي العربي، لغوياً وبلاغياً ونقدياً، بل يعمد إلى اجتلاب النهاجية الغربية، وهو جهد أظهره باتساع وعناية في كتابين سابقين، عن تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي، سنعالجهما في الفصل التالي. ومن ذلك طرحه لأسئلة من خارج الثقافة العربية ونصوصها، مثل الملاءمة العلمية والملاءمة الاجتماعية كما وضحها بوبر:
«1- نمط من البحث العلمي الذي يمكن أن يساهم في حل بعض القضايا العلمية.
2- في علاقة هذا البحث مع أبحاث علمية أخرى في المجال نفسه.
3- في علاقته، أيضاً، مع أبحاث أخرى في مجالات أخرى»( ).
أكد يقطين على البعد القومي لبحثه باستمرار، إذ رأى أن «إنتاج الوعي الجديد لا يتأسس إلا على قاعدة تقديم معرفة جديدة وجذرية، وقد يكون رافداً من روافد تثبيت الهوية الثقافية والاجتماعية ونظم عناصرها ومكوناتها أمام العناصر الطارئة، والتحولات التاريخية. وقد يكون أخيراً سؤالاً للبحث عن الهوية المفتقدة والكيان المهدد»( ). ويلاحظ هنا أيضاً استغراق يقطين في المقدمات الإنشائية وأحكام القيمة التي تتعارض أحياناً مع دواعي البحث العلمي، ولا تخلو في الوقت نفسه من مزاعم، لأن غالبية آرائه مسبوقة، كما أشرنا. وأشير إلى بعض الأمور من حديثه عن «النص واللانص في الثقافة العربية»، فقد ذكر أسساً لبعض الثنائيات، وهي المتكلم والمتلقي، ونوع الكلام، وقصد الكلام، وهي فكرة طالما نوقشت لدى الباحثين والنقاد، ثم ذكر أسباباً تجعل القصص مكروهاً، مبنية على حكم فقهي متأخر لابن وهب وابن الجوزي مما يتكرر بأشكال متعددة لدى المفسرين والفقهاء بصورة عامة، بينما أثبت عبد الله إبراهيم في كتابه «السردية العربية» (1992) أنه رأي غير شامل، لأن ثمة آراء تجافيه، وذكر رأياً مماثلاً عن الرأي الأخلاقي في العمل الفني، وهو أمر جاوزته الثقافة العربية والنقد العربي منذ زمن طويل، مع حازم القرطاجني على وجه الخصوص، كما بين إحسان عباس في كتابه «تاريخ النقد الأدبي حتى القرن الثامن الهجري: نقد الشعر» (1971)، واستخرج معايير اللانص من مقالات محمد عبده ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي، وليس مثل ذلك مقبولاً، لأن المعايير تستخرج من تشكلات هذه المعايير في الثقافة العربية القديمة بالدرجة الأولى. وعلى العموم، لم يستطع يقطين أن يسوغ حكماً لا يحتاج إلى مثل هذا الجهد الطويل والمضني، وهو انتقال السيرة الشعبية من وضع اللانص إلى النص( )، فالسيرة الشعبية تنتمي إلى الأدب الهامشي، ولذلك يبدو تخصيصه للفصل الذي يتناول السيرة الشعبية بوصفها بحثاً محجوزاً مما لا طائل وراءه، ولا تزيد فيه، ناهيك عن بعض الأحكام المطلقة التي بثها يقطين، وتستوجب البرهنة عليها، وقد جاوزه على عجل، مثل الاضطراب في لائحة الأجناس أو الأنواع التي أضفيت على السيرة الشعبية( ).
ولدى عرضه للدراسات العامة والخاصة العربية حول السيرة الشعبية، يستغرب المرء من تهوين يقطين لها، والتقليل من شأن الباحثين والنقاد الآخرين، فهو قال عن دراسة عبد الله إبراهيم المشار إليها، ما يثير العجب والاستغراب:
«ولما كانت مقاربته، يقصد عبد الله إبراهيم، لهذه الجوانب التي تستدعي التحليل الجزئي متسرعة ومجتزأة، لم نتبين الخصوصية السردية للسيرة الشعبية، ولا خصوبة الأدوات السردية التي اشتغل بها»( ). وتتكرر هذه الآراء المستغربة والعجيبة في أكثر من مكان في دراسته.
والسؤال هو كيف ننفي السجال عن شؤون وعي الذات، بينما لم يفعل يقطين سوى التنظير واكتشاف ما هو معروف بعد أكثر من مائة صفحة: «وبهذا يمكننا الذهاب إلى أن العرب عرفوا ديواناً آخر غير الشعر، هو السرد»، و«أن الكلام هو الاسم الجامع الذي يستوعب النظم والنثر»( ).
وعندما دخل يقطين في إيضاح مشروعه لدراسة السرد العربي، أطلق أحكاماً تحتاج إلى تدقيق، وأمعن في التداخل الشكلاني غير المقنع، كما في حديثه عن «الجنس والنص في الكلام العربي»، فقد عالج موضوعه من خلال ثلاثة محاور هي:
1- مبادئ، مقولات، وتجليات.
2- الجنس، النوع، النمط.
3- القصة، الخطاب، النص.
ثم ينتقل من الأعم إلى الأخص مروراً بالخاص على النحو التالي:
1- الجنسية: باعتبارها الموضوع الذي يتحقق من خلال الكلام.
2- السردية: التي يعتمد الكشف عنها من خلال حضور جنس السرد في نص محدد.
3- النصية: وهي التي نبحث فيها من خلال التجليات النصية.
ويحدد المبادئ بالثبات والتحول والتغير، ويرصد الكلام في ذاته من خلال البحث في عناصره الجوهرية الثابتة، وفي صفاته البنيوية من جهة ثانية، وفي تفاعلاته مع غيره، وفي صيرورته. أما الأنماط فتتصل بالأساليب: السامي، المنحط، المختلط، ثم مضى في «فذلكة» العلاقة «من التراث إلى النص، ومن النص إلى الكلام إلى الكتب، ومن الكتاب إلى المجلس، أمام العودة مجدداً إلى النص، من خلال ما أسميناه بـ«التجليات النصية»، وذلك عبر جنس محدد هو «الخبر»، لتبيين كيف يتجلى من خلال نص معين هو السيرة الشعبية»( ).
ووضع يقطين بعد نقاش طويل، ليس نافعاً كله، وهو مسبوق في غالبيته، إلى تركيبه عن السرد والسرديات مستعيناً ببروب وذريته عن الأفعال والفواعل والزمان والمكان (الفضاء) والحكائية ضمن إطار لعلم السرديات أوجزه فيما يلي:
«أ- أن تنفتح على السرد حيثما وجد (لفظياً كان أو غير لفظي).
ب- أن تنفتح على الاختصاصات التي سبقتها إلى الاهتمام بالمادة الأساسية الحكائية، وأقصد بالضبط «السيميوطيقا السردية».
جـ- أن توسع مدار اختصاصها، لتتجاوز البحث في الخطاب، إلى ما أسميناه بـ«النص» من حيث أنماطه المختلفة، وتفاعلاته النصية المتعددة، وفي هذا المضمار عليها أن تنفتح على مختلف عطاءات العلوم الإنسانية والاجتماعية»( ).
وهكذا، خلص إلى نتيجة معروفة في الاتجاهات النقدية الجديدة: سرديات القصة، سرديات الخطاب، سرديات النص، تمهيداً لتناول السيرة الشعبية على أساس هذه النتيجة في كتابه التالي «قال الراوي» (1997) بوصفها تجلياً سردياً.
أهدى يقطين كتابه التالي إلى عبد الحميد يونس رائد الدراسات الشعبية، ومحمد مفتاح باحثاً ومجدداً، أي أنه جمع بين تأصيل الموروث السردي، والتجديد في النقد الأدبي، ولذلك عمد إلى «تأكيد كون السيرة الشعبية نصاً واحداً ثقافياً، وعبر ربط النص بالسياق الثقافي ـ الاجتماعي تأكد لدينا كون السيرة الشعبية موسوعة حكائية تلتقي مع التصنيف الموسوعي الذي تبلور في القرنين الهجريين الثامن والتاسع»( ).
لم يغفل يقطين في مقدمته عن استنكار جهود النقاد والباحثين الآخرين، بينما كان من المجدي أن يباشر بحثه مستغنياً عن ثلثي كتابه السابق على الأقل، ومعتمداً على هذه الجهود التي طالما قلل من شأنها، بينما لم يتوصل في بحثه إلى شيء كثير زائد عن هذه الجهود، لأن مقدماته عن السرديات والسيميوطيقا والسرديات والحكائية والبنيات الحكائية تفيد دأبه على تطبيقها مباشرة على السرد العربي والبنيات الحكائية في السيرة الشعبية، بينما لم ينبثق هذا التطبيق، وهذا التنظير من قبل، من داخل الأنساق الثقافية والمعرفية والنقدية العربية، كما فعل عبد الفتاح كيليطو، بشكل واسع، وعبد الله إبراهيم ومحسن الموسوي، بشكل واضح.
خصص يقطين الفصل الأول للأفعال ـ الوظائف في السيرة الشعبية، والثاني للشخصيات، الفواعل، العوامل، والثالث للبنيات الزمانية، والرابع للبنيات الفضائية، والخامس للبنيات والوظائف على سبيل تركيب مفتوح: السيرة الشعبية نص مفتوح، السيرة الشعبية نص ثقافي، السيرة الشعبية والسياق النصي.
لا أريد الخوض في مناقشة تطبيقات يقطين التي تنحاز كلية للمأثور النقدي للاتجاهات الجديدة، ولا سيما العلاماتية وشعرية السرد مما أوضحه في كتابيه السابقين عن «تحليل الخطاب الروائي» و«انفتاح النص الروائي».
2- نقد الموروث السردي الأدبي:
2-1- ما لبث النقد الجديد للموروث السردي الأدبي العربي أن بدأ على استحياء في آواخر السبعينيات، وكان النقد اللغوي الخالص المتأثر بنهاجيات علمية هو المحاولة الأولى في كتاب، فقد وضع المنصف عاشور (تونس) دراسة إحصائية وصفية عن «كليلة ودمنة» تحت عنوان «التركيب عند ابن المقفع في مقدمات كتاب كليلة ودمنة» (1982)، وهو نقد مغاير للموروث السردي، تصير معه الحكاية إلى نص لغوي. وقد صرح عاشور بغايات دراسته وطبيعتها في مقدمته العامة، فهو قصد إلى دراسة لغوية وصفية مغتنياً بالجملة والتركيب مستفيداً من النهاجيات العلمية الحديثة، ولا سيما المنهجية الإحصائية، من خلال المراحل التالية: تقسيم التراكيب، تحديد نوعيتها، عدد المؤلفات المباشرة، توزع المؤلفات المباشرة، طرق الربط بين الملفوظات في السياق الكلامي، تحليل البنى السطحية والعميقة، وملاحظة العلاقات الممكنة بينهما، ودرجة البساطة، أو التعقد في كل ملفوظ، جمع الأشباه والنظائر والتركيز على العملية الإسنادية، التعليق على الظواهر الطريفة تركيبياً ومدلولياً، تحديد الخصائص الكبرى للكتابة عن ابن المقفع.
درس عاشور مدى الأصالة اللغوية، ومدى اللحن، ومدى تفاعل لغته الفارسية مع العربية، وغفل تماماً عن السرد، وقد نظرنا إلى هذا الكتاب لأنه معني بموروث سردي عربي، مما يشي بقيمته في التراث الأدبي العربي لدى الباحثين والنقاد، وبما يجعله أهلاً لدراسة الجملة العربية: «وما الشروع في الدراسات اللغوية الخاصة بالتركيب إلا خطوات أولية تؤدي إلى «شغف علمي» وحرص «لغوي» كان له مداه ومفعوله في محاولة اعتماد معطيات مبدئية في كل دراسة نحوية. ولعلنا سعينا إلى فهم خصائص الجملة بإتباع طريقة الوصف والإحصاء من زاوية الواصف اللغوي»( ).
2-2- ولربما كانت دراسة قاسم المقداد (سورية)«هندسة المعنى في السرد الأسطوري الملحمي: جلجامش» (1984) أول محاولة نقدية للموروث السردي العربي تلتزم مباشرة بالنقد الجديد للقصة والرواية، ولا سيما الشكلانيين الروس والبنيويين ونقاد شعرية السرد، وقد لحظ ذلك جورج كاساي في تقديمه للكتاب الذي رأى فيه عملاً معقداً يهدف في نهاية الأمر إلى تفكيك آليات السرد القصصي، على الرغم من الحرج والصعوبة اللذين جاوزهما بمهارة، كونه يطبق هذا المنهج الجديد على «نص محترم، مثل ملحمة جلجامش، نظراً لقدمه، وطابعه المقدس»( )، وأبدى كاساي إعجابه الشديد بالبحث، وبخاصة ما كتبه المقداد عن «النص المؤسس»، وما يضمه هذا المفهوم، أي، نستطيع تسميته بإيديولوجية جلجامش (التوراة والأسطورة اليونانية والقرآن).
دعا المقداد في مقدمته لدراسته إلى قبول مصطلح «هندسة»، على الرغم من أنه ينتمي إلى فرع معرفي آخر، «فالمعنى» يرتبط «بالهندسة» ارتباطاً وثيقاً، الهندسة هي إعطاء المجرد شكلاً هادياً، وترتيباً منطقياً ومنسجماً، وأشار إلى نشوء تيار «الملفوظية» في تحليل الحديث إشارة إلى ترجمة لكتاب الملفوظية( )، وما يؤدي إليه مثل القول بأن الكلمة ليست بديل الشيء، اتفاقاً مع رومان جاكوبسون، وأن المعنى هو محصلة العلاقات التي تقيمها الكلمات فيما بينها ضمن كل عام متماسك ومنسجم، وأن كل عمل تحليلي يخضع لعاملين ذاتي وموضوعي، وذكر المقداد أسباباً ذاتية لاختيار جلجامش، أما الأسباب الموضوعية فهي:
«1- تعتبر ملحمة جلجامش من أقدم التراث الأدبي الإنساني، إن لم تكن أقدمه، إذ يرجع تاريخها إلى أبعد من القرن الأول قبل ميلاد المسيح، على أنها ماتزال محافظة على شكلها التاريخي والشعري، وعلى مضمونها الفكري. وهي عناصر من شأنها جذب الباحث وإثارة اهتمامه.
2- ملحمة جلجامش هي جزء رائع من تراثنا العربي. وقد كان مهماً دراسة هذا الجزء من التراث على ضوء نظريات النقد الحديثة وعلم اللغة.
3- على الرغم من انتماء الملحمة إلى التاريخ القديم، فإن الموضوع الذي تعالجه لا يزال حياً، ولا يزال يشكل مركز اهتمام البشرية كلها.
4- أما السبب الأخير فيندرج في إطار المغامرة. إذ كيف نطبق منهجية حديثة على نص قديم؟ على نص كامل، ذلك لأن معظم المحاولات في هذا المجال، كانت تكتفي بدراسة وجه واحد من وجوه العمل الأدبي إذا كان بهذه الضخامة»( ).
واستشهد المقداد باستغراب جيرار جينيت نفسه، وهو من هو في ميدان نقد شعرية السرد، حينما سأله عن تطبيق منهجه في التحليل على ملحمة مثل جلجامش، فأجابه: إنها مغامرة، وقد أراد المقداد ركوب المغامرة. واعتقد أن النقد الجديد للقصة والرواية قد كسب ناقداً طليعياً مجدداً بدأ خطوته الأولى مع نقد الأصول، وتعامل مع «نص جديد» بتقديره، لأن «النصوص» تتنفس بشكل مختلف في مختلف اللغات»، على حد تعبير كاساي، وقد درس جلجامش سردياً مترجمة إلى الفرنسية (ثمة ترجمتان الأولى للابا والثانية لعازرية).
مهد المقداد لبحثه بنبذة تاريخية، وبتحديد مصطلحي لبعض القضايا المتعلقة بالرمز والعلامة، ليصل إلى تحليل ما أسماه الظروف الرمزية في القصة، أو تنظيم القصة أو فضاءها، وبحديث عن مفهوم الأسطورة وخصائص الحديث الأسطوري، وكيفية تحول الأسطورة إلى ملحمة. وأدخل المقداد مصطلحاً جديداً من شأنه أن يعطي لجلجامش المكانة التي يستحقها، والمصطلح هو النص المؤسس. ثم حلل تقنية القصة على ضوء المنهج الذي اختاره من جوانب: وظائف القصة أو وحداتها الأساسية، وشخوص القصة، وبخاصة طبيعة العلاقة القائمة بين جلجامش وانكيدو، وتحليل نموذج من الأحاديث النسائية، وبالذات، حديث عشتار، والزمن القصصي، وتوضيح الفروق بين زمن القصة وزمن السرد أو المسرود، ظاهرة التكرار وآثارها على البناء العام للملحمة، وجهة النظر أو المنظور السردي، الحلم ودوره في القصة، وكونه عنصراً من عناصر السرد.
ذكر المقداد في مقدمته أعلام النقد الذين اقتض أثرهم، وهم بروب وجريماس ويلمسليف وبريمون وتودروف وجينيت وميكيا بال وفيليب هامون وغيرهم، أما رولان بارت فقد بالغ في مدحه بما لا يحتمل النقاش؛ بقوله: «أما رولان بارت فلا يسعنا القول عنه سوى أنه هو الذي كان السبب في توجهنا هذا، لأنه كان فوق كل المدارس، وفوق كل التيارات». غير أن المقداد انتقد البنيوية على الرغم من استناده إلى نتائجها في تحليل السرد والتنظيم البنيوي للقصة وإعجابه البالغ برائدها الأكبر بارت، ليس لأن البنيوية منهج خاطئ، بل لمحدوديتها، لأن «النص لا ينتج نفسه. إنه منتوج، يكمن خلفه منتج يخضع بدوره إلى جملة من شروط الإنتاج»( ).
عرف المقداد، على نحو سريع ولماح بالقراءة، دخولاً في قراءة السرديات، مثلما عرف بالأسطورة والرمز دخولاً في تحول جلجامش إلى شكل من أشكال الحديث الأسطوري على سبيل البحث العلامي، وأشار إلى خصائص الأسطورة وتحولها السردي إلى حديث ملحمي، وتوقف عند الخصائص التالية:
1- كثافة الوحدات السردية التي تصف العالم الأسطوري.
2- فورية تتابع الأفعال.
3- تلاصق الوظائف.
4- إثارة خيال القارئ.
5- التساوي بين الشخوص من الناحية الوصفية.
6- المظهر اللامحدود للأسطورة.
واقترح المقداد، كما أشرنا، مصطلح النص المؤسس أو التحتاني، وهو مقارب لمصطلح التناص، على الرغم من رأيه الختامي الذي ينطوي على التباس يحتاج إلى توضيح: «إذا كان مفهوم النص الجمعي (النصوص المتداخلة) يفترض التبادل والتداخل بين النصوص، فإن النص المؤسس لا ينطوي على مثل هذا المفهوم. وحينما نقول بوجود نص ثان، فإن ذلك يعني ببساطة، وجود نص أول، والثاني لا وجود له في حال غياب الأول، تماماً كالعلاقة القائمة بين الأرقام في متسلسلة حسابية»( ).
إن مناقشة هذا المصطلح تفضي إلى نفي التناص عن نص أول، ويعد المقداد «جلجامش» نصاً بكراً ليس على مثال أو منوال، ولربما احتاجت هذه المناقشة إلى حيز ليس مقامه هنا.
شرح المقداد مفهومه للوظائف، الملتبس مع مفهوم الحوافز (الوحدات القصصية الأصغر)، وهي عنده سبع عشرة وظيفة، أي أنه يختزل الوظائف الذي ذكرها بروب، وقد سمى هذه الوظائف على النحو التالي:
الإهانة.
الإضاءة.
الطرف المنصف.
المنافس.
الأحلام (جلجامش يبحث عن صديق).
انكيدو يبحث عن صديق.
الصراع.
الصداقة.
المغامرات.
الإهانة (موجهة إلى الإلهة).
الإساءة.
العقاب.
الموت.
البحث عن السر.
الحصول على السّر.
ضياع السر.
العودة.
واستخرج المقداد، مطوراً تصنيف الوظائف ومبسطاً في مفهوم علاقاتها، علاقات الوظائف، علاقات التناقض أو علاقات السببية أو العلاقات الزمنية أو التحولات السردية، للوصول إلى تشكل القصة من خلال توالد الجمل أو العبارات أو المعاني مما يسبقها، أي ضمن المتتالية السردية للمتن الحكائي. وبحث بعد ذلك في التشابك العلائقي للشخوص من خلال التكامل والصفة التمثيلية والوقائع المفترضة والمساهمة الإخبارية.
وازن بين النظري والتطبيقي في نقده، لئلا يجور أحدهما على الآخر، وهذا ملموس لدى غالبية النقاد المجددين، ولا سيما الرواد في ميادينهم، والمقداد من رواد النقد القصصي والروائي الجديد. ويبدو مثل هذا في تمييزه بين الزمن الأول: سير الأحداث واكتمالها الفعلي، والزمن الثاني: بداية إخراج القصة سردياً، والزمن الثالث حيث يقوم القاص الثاني برواية القصة والسرد معاً.
وعندما تحدث عن وظائف التكرار، رأى أن التكرار الظاهري يخفي العديد من المعاني، وثمة نوعان من التكرار في جلجامش هما: تكرار الكلمات أو التكرار اللفظي، وتكرار المقاطع أو التكرار المقطعي. ومما يحمد للمقداد ناقداً حداثياً أنه جاوز النقد اللغوي، على إغراء ظاهرة التكرار في طبيعتها اللغوية بالأساس، إلى إدغام هذه الظاهرة في المتن الحكائي.
قام المقداد، غالباً، بتطوير منهجية نقدية بنيوية علاماتية، اختزالاً أو تبسيطاً أو مواءمة للموروث السردي، غير أنه يرتهن، أحياناً، لمرجعية نقدية غربية، ولو كانت غير دقيقة، كما في حكمه القاطع والجازم حول أولوية نقاد وجهة النظر أو المنظور السردي، فهو يعد جيرار جينيت من أوائل الذين قاموا بإدخال مصطلح التركيز (ولعل تعريب المصطلح بالتبئير أنسب POCALISATION) أو وجهة النظر POINIDEVEU في مجال تحليل السرد القصصي، بينما المصطلح تطوير لمصطلح وجهة النظر Piont of View( ).
لقد اختط المقداد في بحثه أسلوباً جديداً في نقد السرديات يعتمد على بروب والبنيويين ونقاد شعرية السرد مما سيتعاور عليه غالبية النقاد الجدد الذين حاموا حول هذه المنهجية الحديثة جزئياً أو انتقائياً، توليفاً، أو تطويراً، أو تأصيلاً يسهم في نقد التراث القصصي العربي.
2-3- عمل سامي سويدان (لبنان) على تمثل الاتجاهات الجديدة، ولا سيما النقد العلامي، معطيات علم الدلالة وشعرية السرد، وحوى كتابه «في دلالية القصص وشعرية السرد» (1991) ميله إلى نقد قصصي مختلف عن النقد التقليدي، فثمة وضع متميز «للعمل القصصي لم يقابله اهتمام مماثل في مجال الدراسة والنقد، خاصة من حيث تناول مقوماته الجمالية، والتطرق إلى خصوصياته الفنية»( )، مما دعا سويدان إلى استقصاء بعض أوجه نشاطات النقد والبلاغيين العرب، للتعرف على ما قدموه بشأن الدلالية، انطلاقاً من إنجاز عمل الدلالة اليوم على أيدي أهم أعلامه، ولا سيما أ. ج غريماس Greimas.
لقد سعى سويدان إلى بحث متقص من أجل علم دلالة عربي، يكون بمرتبة مقدمة ترسم الخطوط العامة لدراسة تفصيلية وموسعة ترمي إلى إرساء نظرية تحليلية في دراسة النصوص الأدبية ـ الشعرية انطلاقاً مع معطيات ألسنية ـ نحوية بشكل خاص. ولاحظ أنه لم يفرد للشعرية فصلاً خاصاً بها يستعرض أسسها ومقاييسها ومفاهيمها.
ورأى سويدان أن دراساته النصية للسرد لم تتوقف عند مظهريه: الدلالي والشعري، أو عند الجانب الداخلي للقصص، بل تعدته إلى ذلك الجانب الخارجي المتمثل في الأبعاد الاجتماعية ـ التاريخية والنفسانية ـ الذاتية التي تتيح الانطلاق من المعطيات النصية المطروحة التطرق إليه، فكانت مقاربته المنهجية تعلن في وحدتها تعددية إمكاناتها الأدائية المعرفية والفنية بقصد تعميق البحث في سيميائية أو دلالية القصص وشعرية السرد.
اتجهت دراسات سويدان النصية إلى «سيمياء جمالية القصص الفلسطيني»، و«الدلالات التعليمية والسمات الجمالية في أقاصيص مارون عبود» و«الحس العقلي في النص الخرافي ـ إصلاحية المثقف الحكيم في مواجهة السلطة المستبدة: دراسة نص قصصي في كليلة ودمنة»، ويهمنا في هذا السياق الدراسة الأخيرة.
وضع سويدان مقدمات لدراسته، عالج فيها مصادر كليلة ودمنة، ولا سيما حكاية القرد والغيلم، دخولاً في الطابع الحكمي ـ الخرافي، والجمالي الأدبي، على أن نص الحكاية المثل تعليمي قبل أي شيء آخر، وأن ثمة تلاؤماً بين شعريته وبلاغيته، إذ «تقوم شعرية الحكاية التمثيلية أساساً في تلاؤم الصيغة القصصية مع عقلانية الطرح الخاص بالغاية الإصلاحية التي تحكمها. وإذا كان بالإمكان القول إنه بقدر ما يضعف التلاؤم المذكور في النمط الأول الخطابي بقدر ما تضعف الجمالية الأدبية فيه، وذلك رغم عدم اقتصارها عليه، واعتمادها أيضاً على أوجه من التلاؤم تتعلق بالمستويات الدلالية والنحوية واللغوية الأخرى فيه، فإن بالإمكان قول الأمر نفسه، إنما بصورة متميزة، بالنسبة للحكاية التمثيلية»( ) أي أن سويدان يجعل رمزية الحكاية منطلق الغاية الحكيمة أو التعليمية في فهمه البنية الاستعارية، وهو أمر يتعلق بمبدأ الأنسنة، أي إضفاء صفات الإنسان على الحيوان، ويتساءل المرء عن تجنبه لهذا المبدأ المعروف، والتماسه بدائل بلاغية وبيانية أخرى. وهكذا بذل جهوداً مضاعفة ليستنتج دلالية يظهرها هذا المبدأ دون كبير عناء. ولعله الولع بالشكلانية الذي خاض فيه لرؤية شعرية السرد، مسترسلاً فيما هو قابل للإيجاز في فهم البنية العامة للنص، والبنيات الصغرى الأخرى، فتضاعفت المربعات والأشكال التي لا يحتملها نقد يسعى إلى التأويل، ومادته الكلمات بالدرجة الأولى، واذكر هذه المربعات والأشكال للتعرف على شكلانية سويدان:
المربع السيميائي الأول الخاص بتضييع الغيلم الحاجة بعد الظفر بها.
المربع السيميائي الثاني الخاص بالتماس القرد المخرج من الورطة التي أوقعه الشره فيها.
المربع السيميائي الثالث الخاص بالقدرة الإنسانية على النجاح في المهام المطروحة.
المربع السيميائي الرابع الخاص بعلاقات الصداقة والعداوة.
المربع السيميائي الخامس الخاص بحكمة التمييز بين الحقيقة والوهم.
المربع السيميائي السادس الخاص بالحكمة الوجودية.
المخطط العواملي الأول: مشروع السلطة.
المخطط العواملي الثاني: مشروع المثقف.
المخطط العواملي الثالث الخاص بمشروع الغيلم.
المخطط العواملي الخاص بمشروع القرد.
المخطط العواملي الخاص بالأسد.
المخطط العواملي الخاص بالحمار.
الفضاء القصصي الخاص بالقرد والغيلم.
الفضاء القصصي الخاص بالحمار وابن آوى والأسد.
الجدول الخاص بالتقديم والتأخير في حكاية القرد والغيلم.
الجدول الخاص بالتقديم والتأخير في حكاية الحمار وابن آوى والأسد.
الجدول الخاص بالوصل والفصل في حكاية القرد والغيلم.
الجدول الخاص بالفصل والوصل في حكاية الحمار وابن آوى والأسد.
جدول المخاطبات القائمة في حكاية القرد والغيلم.
ملحق المخاطبات الخاص بأطراف الحوار.
جدول المخاطبات الواردة في حكاية الحمار وابن آوى والأسد.
ملحق المخاطبات الخاص بأطراف الحوار( ).
يمتلك سويدان مقدرة عالية على التحليل السردي، وقد وّظفها توظيفاً مناسباً للكشف عن دلالية الحكاية: العقل مفتاح الظفر، براعة الاحتيال في صراع الأضداد، الإبداعية العقلية في النص القصصي التمثيلي، ولإظهار أبعاد هذه الإبداعية العقلية: البناء العقلاني للقصص الخرافي، جمالية النظام القصصي ودلالاته، المزايا العقلانية لصوت الراوي الفني، الإبداعية التعليمية في المخاطبات والحوارات. وقد استهدى سويدان في تحليله بمنهج غريماس، مستخلصاً نتائج هامة على المستوى الذاتي، وعلى المستوى الاجتماعي، وعلى المستوى الفلسفي. إن سويدان يتمثل المنهج العلاماتي باقتدار تحليلاً مستوعباً لثراء الموروث السردي الأدبي.
ومن اللافت للنظر أن ناقداً آخر هو فهد عكام (سورية) درس نص «القرد والغيلم» في كتابه «نحو تأويل تكاملي للحكاية الخرافية ـ نموذج من كليلة ودمنة: باب القرد والغيلم» (1995)، وأظهر مقدرة مدهشة على تمثل المنهج العلامي نفسه في تحليل الموروث السردي على نحو أشمل وأكثر براعة، وأقل شكلانية، من منظورات أوسع: المنظور النفسي ـ الاجتماعي، المنظور الأيديولوجي، المنظور الأسلوبي، بالإضافة إلى درس السرد من خلال الشخصيات الفاعلة في طرز معالجتها ونظامها على وجه الخصوص.
افتتح عكام دراسته بمسرد الرموز الدالة على منهجه: الاقتران بين شخصيتين، الانفصال بين شخصيتين، الشخصية، الإشارة إلى أن العنصر الذي تسمه خفي في السياق اللغوي، مستوى التصور المراد تصويره، مستوى الصوى المتخذ وسيلة للتوضيح، المشابهة، الدال، المدلول، ثم أورد نص الحكاية، وتلاه بمقدمة تسوغ شرعية النظر إلى نص مترجم على أنه أثر عربي، ومما يمنح هذه الشرعية الأمور التالية:
تمثيل كليلة ودمنة للتراث العربي.
تجدد الحاجة إلى هذا الكتاب في عصرنا.
تأثيره في الثقافة العربية.
أهمية الكتاب عالمياً.
وأورد بعد ذلك الأمور التي تبيح شرعية التأويل التكاملي، وهي:
تحليل الكتاب لعالم يخص الراوي والبيئة العربية.
تمثيل باب القرد والغيلم لعلاقة طبقية.
أهمية العلاقة بين الاجتماعي والنفسي في تطوير الحدث.
العامل الاجتماعي ـ النفسي شرط لمجموع فعالية الشخصية.
أهمية المادة اللغوية في تنظيم النص.
وانتهى عكام، في مقدمته، إلى نظرة عامة تفيد أن قراءة النص لأول وهلة، تلقي في روع المتلقي ما يلي:
«1- المقدمة وحدة مستقلة على الرغم من ارتباطها بالعمل Action، فهي مدخل يقوم على حوار بين ملك وفيلسوف، وعلى رسالة تتعلق بمستوى أدبي يتجذر في الثقافة القديمة: المثل.
2- جسد النص يتألف من حكايتين: القرد والغيلم، الأسد وابن آوى والحمار، وثانيتهما تعقب الأخرى موثقة العرى بها، والحكمة تدخل، مرات كثيرة، في علاقة تناوبية مع القص داخل المناجاة في كل منهما.
3- الخاتمة النهائية تردّ المتلقي إلى المقدمة، فينجم عن هذه الإحالة عرض دائري، والمقدمة والخاتمة تمثلان لحظة حاضرة في حياة الملك والفيلسوف، فهما خارجيتان عن زمن القص»( ).
حلل عكام حكاية القرد والغيلم أولاً، مستنداً إلى إنجازات النقد العلامي، ومبتعداً عن مألوف النقد الشارح السابح في اللغة الإنشائية، ومغلباً لغة نقدية صريحة ومباشرة ودقيقة ووظيفية وسليمة لا نجدها إلا لدى النقاد الأساتذة، وتعمر هذه اللغة منهجية واضحة واستعمال محدد للمصطلح، فلا يرتهن للمصطلح الغربي، ولا يكتفي بالمصطلح العربي، بل يؤلف شبكة مفاهيم ومصطلحات على سبيل تطوير البلاغة العربية والتفكير النقدي العربي بالرواية والسرد، وعلى سبيل حضانة المصطلح الغربي في ممارسة نقدية عربية، فانطلق عكام في تحليله من المقدمة إلى الحكاية، معولاً على الإشارات اللغوية Signes، والرموز، والأقنعة، والآثار العجيبة.
ووجد عكام لدى تحليله أن ثمة خصلة تقيم علاقة حميمة بين المقدمة والحكاية على الصعيد الفني، ويريد بها ازدواجية الراوي، فالفيلسوف الذي ذكر في المقدمة إن هو إلا راوٍ فردي وسيط بين الراوي الفعلي والمتلقي، وقد أشير إليه بالصيغة اللغوية «قال الفيلسوف». أما الراوي الفعلي الذي يقدم السرد فقد أشير إليه بالتعبير «زعموا» في مطلع الحكاية. فهو، والأمر كذلك، راو جمعي يمثله الضمير الجمعي في هذا التعبير، وهو ذات تروي الحكاية، ولكنها لا تكشف عن نفسها بعلامات شكلية لأن القص يستخدم الضمير الغائب لوصف الذات الإنسانية، التي هي، في عين الراوي ـ الشاهد، الموضوع الذي يشغله، ويوحي بالموضوعية في مجرى القص، ومن هنا من الصعب إعادة بنائها.
وأدت معالجة ازدواجية الراوي إلى إضاءة قضية الزمن في مجرى السرد، فهذه الازدواجية تحقق النقلة لغوياً من المقدمة إلى الحكاية، وهي، قبل كل شيء، حدث يجري مع الزمن، مما يفترض أو يشير إلى المسار الحكائي، والحوادث تتوالى، في تحليل عكام، في مسار الحكاية على النحو التالي:
وثوب القرد الشاب على القرد الهرم (فاردين) ملك القردة.
إلقاء التين في الماء وتوطد الصداقة بين القرد الهرم والغيلم.
تآمر زوج الغيلم مع صديقتها ومقصده.
اللقاء مجدداً بين الغيلم وزوجه والجارة.
اللقاء مجدداً بين الغيلم والقرد والمخادعة.
ويلاحظ عكام أن هذا التسلسل الزمني للحوادث غير مطرد، ويقوم على تقنيتي الاسترجاع الداخلي والاسترجاع الخارجي، وينسرب ذلك في تحديد الزمن الذي وقع فيه القص: من الزمن الكوني إلى الزمن النفسي، وثمة ثغرة زمنية، هي الفترة الزمنية في القص التي لا يعالجها الكاتب معالجة نصية.
وثمة الاستباق الذي يتجلى في حادثة التقاء زوج الغيلم بجارتها (المرحلة الثالثة)، حيث تمس الشخصية المساعدة قضية المستقبل. أما قضية المكان، فيحس المتلقي، برأي عكام، بأنه ينتقل من واقعه المكاني المباشر الذي يعيش فيه إلى عالم خيالي من صنع كلمات القاص يقع في منطقة مغايرة لواقعه، ولهذا المكان مقوماته الخاصة وأبعاده المتميزة، الشاطئ، الشجرة، البحر، الجزيرة.
ويتفاعل المسار الحكائي مع الوصف بوصفه سمة هامة من سمات الفن القصصي، وقد جاء مقتصداً للغاية في حكاية القرد والغيلم، مما يوحي بأن الحركة الزمنية لها الأولوية في الرواية، والوصف الروائي يمثل وقفة زمنية، قد تطول، وقد تقصر، دون أي حركة زمنية. ويضاف إلى الوصف المشهد الذي يعد من مظاهره، وحكاية القرد والغيلم تقدم منه نموذجاً في المرحلة الخامسة امتد فيه الحيز المكاني، المقطع، الامتداد الأكبر معبراً عن فترة زمنية قصيرة.
لاشك، أن تحليل عكام للسرد معمق، مستوعب للمنهج النقدي العلامي في صوغ ممارسته النقدية، دون أن يستأثر هذا المنهج بهذه الممارسة. ويلمس المرء استيعاب المنهج واندغامه في نقد الموروث السردي الأدبي على سبيل المضي في تحديث منهجية نقدية عربية، دون غلو في الشكلانية، تمثلاً مدهشاً للمصطلحات النقدية، خلل شبكة مفهومية دلالية تجردها هذه المصطلحات من شكليتها لتلتحم في سياق ثقافي نقدي يناسب نسق الحكاية الخاص، مثل مصطلحات: الوقفة، التوتر، الجذب، الدور.. الخ، أثناء حديثه عن الاسترجاع الخارجي( )، مما توفر عليه الناقد جيرار جينيت في كتابه «خطاب الحكاية- بحث في المنهج» (1997) ( ).
وتتبدى هذه البراعة أكثر في استخدام معطيات علم السرد في منهج النقد العلامي لدى تحليل عكام للشخصيات الفاعلة Operateurs، في طرز معالجتها ونظامها. وتبرز في هذا المجال استفادته من المنهج العلامي أيضاً ومن إسهامات نقاد شعرية السرد مثل غريماس وجينيت وغيرهما، وهو ما تمثله جمال الدين بن شيخ (الجزائر) في دراسته التحليلية لحكاية الوزير نور الدين وأخيه شمس الدين، في ألف ليلة وليلة، في مقالته: «اقتراحات أولية لنظرية ذات ترسيمة مولدة»، وكان ترجمها عكام( ).
وينهض تحليل الشخصيات الفاعلة على تطوير الحوافز والوظائف والفواعل، انطلاقاً من بروب وذريته، وأظهر عكام طرز معالجتها على النحو التالي:
إقصاء شخصية فاعلة غدت غير فاعلة.
تنحية شخصية غير فاعلة مؤقتاً.
تعهد الشخصية الفاعلة.
أما نظام الشخصيات الفاعلة فيتضح من خلال وجود:
شخصية فاعلة على غير علم بالمقصد.
شخصية فاعلة على علم بالمقصد.
ثم رهن أهمية الشخصيات في تطور المسار الحكائي وعلاقتها بالمقصد الذي يسعى لتحقيقه بعوامل خفية أخرى، تتبدى في منظورات السرد: المنظور النفسي ـ الاجتماعي، المنظور الإيديولوجي، المنظور الأسلوبي، بغية تحليل التعليلات الواعية في فهم سلوك الشخصيات، وتوقف أمام المستوى الدلالي، وأردفه من بعد بالمستوى النفسي والاجتماعي منبهاً إلى العلاقة بين هذه المستويات. ولاحظ أن المستوى الدلالي يقوم، في المرحلة الأولى من المسار الحكائي، على حادثة انقلاب سياسي وقع في أسرة ملكية، ثم دخل في قراءة دلالية للتفصيلات، غير أنني، على إعجابي بتحليله المدهش، لا أجد ضرورة للرسوم والترسيمات، وهي قليلة على وجه العموم، لأن الكلمة النقدية تفي بالغرض، مما يجعل من هذه الرسوم والترسيمات زائدة، أو أشبه بلزوم ما لا يلزم، واعتمد عكام على التحليل البنيوي للبنية الدلالية على المستوى النفسي، واستنطق الرموز والإشارات تأويلاً للمستوى الاجتماعي. وتوصل إلى ما يسمى وحدات نظائرية دلالية مثل: الأكل، الإيقاع، الإعجاب، الولوع، الطرب.. الخ. وعالج تأويل هذه الوحدات في علاقاتها بالمستوى النفسي والاجتماعي، وفسر بعض الدلالات الناجمة عن المسار الحكائي، وحدد السمات النفسية التي تُخفى وراء الظواهر الدلالية، وعلاقة ذلك كله بالمستوى الاجتماعي للخطاب.
وعنى بالمنظور الإيديولوجي وجهة النظر الأساسية التي تحكم العمل الأدبي، أي منظومة القيم العامة لرؤية العالم ذهنياً، وقدم نص القرد والغيلم قيماً جزئية من رؤية العالم الكلية التي يُعبر عنها تعبير تجلٍ أو خفاء مجموع الحكايات في كليلة ودمنة. أما الرؤى الأساسية التي تتكشف في هذه الحكايات فهما الرؤية السياسية والرؤية الاجتماعية، كاشفتين عن صورة المنظور الإيديولوجي، كما تبدى من خلال السياق الحكائي.
ثم عالج عكام المنظور الأسلوبي، ويفيد كيفية تقديم المادة أسلوبية القص، بينما تسمى الخصائص اللغوية المستخدمة في هذا التقديم أسلوبية التعبير، فكان تحليله للمنظور الموضوعي والمنظور الذاتي، وقد أفضى إلى ملاحظات عامة، هي:
1- تطوير المفهومات الاجتماعية المتصلة برؤية العالم.
2- ترابط الحكمة مع العالم الداخلي للشخصية.
3- الحكم على المنظور الإيديولوجي دون مفاضلة ولا تجريم.
4- التركيز على الشخصيات، ولا سيما شخصية القرد.
وعاين عكام أثر أسلوبية القص في متعة النص، من خلال أسلوبية التعبير في السرد، وأسلوبية التعبير في الحوار، وأسلوبية التعبير في المناجاة، وانتهى إلى الملاحظات العامة التالية بشأن الأخيرة:
1- إشعاع الإشارة في السياق بدلالات متعددة.
2- تدرج المقولات اللغوية في نسق تأثيري بغية الإقناع.
وختم دراسة الأثر بتقصي أثر أسلوبية التعبير في متعة النص، حيث تتمثل تقنية الالتفات بتناوب الضمائر من غيبة وتكلم ومخاطبة في سياق القص ظاهرة لافتة للمتلقي تضفي على الأسلوب نوعاً من التنوع والحيوية، وتدفع عنه الرتوب الممل، وخير ما يمثلها في هذا النص إبدال الإشارات( ).
وعالج عكام على هذا النحو حكاية الأسد وابن آوى والحمار، وكأنه يقصد إلى طريقة في نقد الموروث السردي الأدبي، مخصوصة باجتهاده، مبنية على تطوير منهجية علم الأدلة والنقد العلامي وشعرية السرد، وأبرز ما في هذا التطوير هو عدم الغلو في الشكلانية، والاستفادة من التقانات والأنظمة المعرفية واللوازم الاصطلاحية، وتدعيم بحث الخطاب السردي باتساع المنظور السردي ليستوعب آفاق رؤية العالم، فيما سماه تعدد المنظورات: النفسي ـ الاجتماعي، والأيديولوجي، والأسلوبي.
لقد كان عكام واعياً لشغله الذي يندغم في عمليات وعي الذات من أوسع الأبواب، فأنجز هذا التركيب النقدي القابل لمنهجية تؤصل وهي تنشغل بمعضلات التحديث:
«أضف إلى ذلك أن الفترة التي ظهر فيها الكتاب، يقصد كليلة ودمنة، تشبه الفترة التي نعيشها اليوم: فالحضارة العربية كانت تبحث عن ذاتها، فلجأت إلى هضم ما في الثقافات الأخرى من تراث إنساني أكان هندياً أم فارسياً أم أغريقياً عن طريق الترجمة، كما نفعل اليوم في موقفنا من الثقافة الغربية»( ).
2-4- كتب عبد الفتاح كيليطو كتبه الأولى بالفرنسية التي ما لبثت أن ظهرت بالعربية في وقت متقارب خلال العقدين الأخيرين، مثل «الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية» (باللغة العربية 1985)، و«المقامات: السرد والأنساق الثقافية» (باللغة العربية 1990)، و«العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة» (باللغة العربية 1995).
ورافق كيليطو ذلك كتابته باللغة العربية لعدد من الكتب التي تتصل بالسرديات على نحو جزئي مثل «الأدب والغرابة» (1982)، أو على نحو كلي مثل «الغائب: دراسة في مقامة للحريري» (1987) و«الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي» (1988).
ونعرف في هذا الحيز، حسب ما تقتضيه حاجات دراستنا، بجهده الأبرز في نقد الموروث السردي، أعني كتابه «المقامات» وهو مفصل هام من مفاصل مشروع كيليطو في السرديات العربية، تدعيماً لأبحاث الأصالة الثقافية بنهاجيات حديثة. يعمد كيليطو إلى الحفر المعرفي النقدي استناداً إلى اعتمال يقظ ونشط بالتأويل الدلالي.
حدد كيليطو في افتتاحية كتابه «المقامات» مصطلح «المقامة»، فهي ليست حكاية خرافية، إذ يتعذر أن يكون ثمة مؤلف لها، ومن العبث محاولة الوصول إلى نسختها الأصلية، وما يمكن هو مساءلة الراوي الحالي الذي استقاها من رواة تضيع لائحة أسمائهم في ماض يتزايد بعداً؛ بينما رأت المقامة النور في لحظة محددة، ولها مؤلف، ولهذا المؤلف سيرة يمكن الرجوع إليها. ورأى أن المقامة شأن القصيدة شكل لا نوع، ولم يمنعها ذلك من أن تتضمن أنواعاً مختلفة. إنه يعرفها بالنظر إلى فهم الشكلانيين الروس، ولا سيما توماشيفسكي، على أنها «زهرة برية لا يُدرى كيف تفتحت. لدينا الدلالة المعجمية للفظة، وبعض الترابطات الصدفوية، وبعض العناصر السيرية، لكن كل هذا لا يردم الهوة التي سببها مؤلف الهمذاني». ويضاعف من ظهورها المفاجئ، أن للأنواع الشعرية التقليدية شكلاً عروضياً داخلياً، «يوجه المضمون الموضوعاتي، والنبرة الخاصة بكل نوع، بينما لا تقدم مقامات الهمذاني نبرة ثابتة، بل انزلاقاً نغمياً ذا تنويعات متعددة: إنها تتضمن عدداً مهماً من الأنواع التي إذا نظر إليها على حدة كانت أحادية النبرة»( ).
ثم دقق كيليطو مفهوم المقامة غوصاً في الحفر المعرفي الذي نهجه ميشيل فوكو في مؤلفاته الكثيرة، ولا سيما «اركيولوجيا المعرفة» (1969) ( )، و«نظام الخطاب» (1971)، فبحث عن العناصر المكونة للمفهوم متتبعاً مصادر الهمذاني الذي يعد «خالق نوع المقامات»، وسمى ذلك الحفر المعرفي «عادة منهجية يتم الخضوع لها دون انشغال بتدقيق حدودها، مما يستدعي «دراسة التأثيرات التفصيلية التي تتضح سرابيتها، وإعلان أصالة لا يمكن البرهنة عليها»، ولذلك عني كيليطو في متنه بخمسة مؤلفين للمقامات هم: الهمذاني، وابن شرف القيرواني، وابن بطلان، وابن ناقيا، والحريري. وميز في كتاباتهم، أنها لا تحمل جميعها اسم مقامات، «لأن اثنين منهم: ابن شرف وابن بطلان اختارا لمؤلفيهما تسمية أخرى، لكنهم، خمستهم، كتبوا حكايات وامتثلوا للأنساق الثقافية ذاتها»( ).
وعلى الرغم من تسمية المقامة بالحكاية، إلا أن ثمة صعوبة «تتعلق بموقعتها إزاء الأنماط الأخرى للحكاية التي عرفتها الثقافة العربية، وحين يتعلق الأمر بدراسة العناصر السردية المكونة لها، وعلة تتالي هذه العناصر تبعاً لنظام ثابت، أو يكاد يكون ثابتاً، وحين يتعلق الأمر بمساءلة الدلالة، لا الأدبية فحسب، بل كذلك الدلالة السوسيولوجية لهذا النظام، وحين يتعلق الأمر، إجمالاً بالكشف عن الأنساق الثقافية التي تقع في الأساس منها والتي تمنحها مظهرها الذي ظهرت به دون غيره من المظاهر»( ). وانسجاماً مع نهاجيته المعرفية، عرّف كيليطو النسق الثقافي بأنه «مواضعة اجتماعية، دينية، أخلاقية، استيطيقية.. تفرضها، في لحظة معينة من تطورها، الوضعية الاجتماعية، والتي يقبلها ضمنياً المؤلف وجمهوره. ويكون أفق النصوص المفردة والإنجازات الفردية هو «النص الثقافي» الذي يجعلها ممكنة، وفي الوقت نفسه يحد من مدى تساؤلاتها. وهذا ما يجعل النص منفتحاً على نصوص أخرى، ومعرفيات أخرى دخولاً في مشروعية البحث التناصي، وهو سمة من سمات شعرية السرد من جهة، ومن سمات التفكيكية على وجه الخصوص من جهة أخرى. عقد كيليطو فصولاً للموازاة بين المقامات ونصوص من القرن الرابع الهجري، وبعضها يكاد لا يكون معروفاً لاستجلاء عدد من الأنساق التاريخية والجغرافية والاجتماعية والشعرية. ثم بحث في الأنساق التي كانت في الأصل من التلقي الذي خصّ به معاصرو الهمذاني وأعقابه المباشرون مقاماته. ونظر في القسم الثالث المخصص للحريري في الأنساق القديمة للقراءة بالقياس إلى الأعراف الحديثة للقراءة. وقد أدغم كيليطو شغله بأبحاث الهوية الثقافية، بتوكيده على أننا ندرس أنفسنا حين نعكف على النص الكلاسيكي، و«الخطاب عن الماضي هو في الآن ذاته خطاب عن الحاضر»( ).
محص كيليطو في بحثه عن «حوار الأنواع» خواص المقامات في حشد من الحفريات المعرفية تاريخياً وفنياً، فهي في فضائها تقترب من مؤلفات الجغرافيين العرب في القرن الرابع للهجرة: الاصطخري، والمقدسي، وابن حوقل قصروا رؤيتهم عمداً على مملكة الإسلام، والراوي ينتقل بين عصور مختلفة، يروي أحداثاً لم يحضرها. كما في «المقامة البشرية، وكل ما يمكن ملاحظته هو أن الإسناد الموجود في مطلع المقامة، لا يذكر التسلسل الذي مكن الراوي من معرفة الأحداث التي يحكيها، فالمشكلة الزمنية التي تثيرها المقامة محيرة: كيف يمكن العيش في آن واحد في القرن الرابع والقرن الأول للهجرة، فعيسى بن هشام يتخطى القرون، ويتحرك كما يشاء عبر الزمان، معمراً حقيقياً، مما يجعل منه إخبارياً، هو مستودع المعرفة وراوي تراث محاط بإجلال خاص. وباختصار، فهو «صوت» التراث، صوت في الوقت ذاته طريق يسلكه في منعرجاته وعقباته ومفاجآته: الهمذاني وأساتذته ومقلدوه. وتؤدي تحولاته إلى تحولات في المقامة نفسها، فكل مقامة هي مسرحة لتحول ولدور موضوعاتي، وتعبير عن دوام هوية عبر تعاقب الأجيال. ووقع كيليطو على سمة مفادها أن تقطع القراءة ناتج عن غياب رابط سردي بين المقامات.
وتابع كيليطو مناقشته على هذا النحو من الاستحضار المعرفي وانتظامه في تركيب نقدي، كما في تحديده لملامح المضحك وامتداح الجنون والانتهاك والعجائبي في مدار الكدية حين تعكس «الثقافة العربية نفسها في ثقافة مضادة، يمثلها الماجنون والشعوب الأجنبية والماكرون وحيل التاريخ الماكرة»( ).
بات واضحاً أن كيليطو يعضد تأويله الدلالي بحفريات معرفية سبيلاً لإدراك الخطاب القصصي، وهو تأويل ينهض على قاعدة منهجية كبرى عند فوكو هي «ترك الخطاب نفسه يتكلم، دون أي تدخل من قبلنا نحن!»( )، وهذا ما فعله في حديثه عن «النوع: التسمية والبنية» ، وبدأ مسعاه في تحليل البنية السردية الكامنة في المقامات، مقارنة بنصوص أخرى مقاربة مثل «رسالة التوابع والزوابع» لابن شهيد، و«أحاديث» ابن دريد، وهو ما أشبع بحثاً، و«مسائل الانتقاد» لابن شرف القيرواني، و«دعوة الأطباء» لابن بطلان، و«مقامات الحنفي وابن ناقيا وغيرهما» (مقامات ابن ناقيا). غير أنه لا يقع على بنية سردية متماثلة، فالمقامات أشبه بكتابة الملل والنحل.
أما التطبيق الذي اختاره كيليطو فكان مقامات الحريري، مبتعداً عن شرحها أو تحليلها منخرطاً في قضايا قراءتها، كما ألزم نفسه بذلك، فاطنب في تكوين الحريري وما آلت إليه مكانته حتى صار محجاً للائذين، وعرض تنميطاً لهم في «حواشي النص»، أي ما حرص الحريري عليه في تركيب النص بوسائط التبليغ والامتلاك البلاغي وحرية اللغة إزاء هيمنة الفكرة.
واستتبع ذلك دراسة «التلقي الذي يجري في داخل كتاب الحريري ذاته، حيث كل مقامة مبنية حول خطاب كثيراً ما يتطلب، لأسباب مختلفة، مشاركة المخاطبين والتزامهم ويقظتهم»( )، وكان سماها «اللعبة بين قطبي التواصل». جعل من «التورية» صورة السرد، وهي حركة تقود من معنى إلى آخر، لكن في المقامة الخمسين، سيتغلب الجمود على الحركة، وسيكون المعنى القريب هو المعنى البعيد في ذات الوقت. ومضى تالياً إلى الانكباب باهتمام أكبر على دراسة دلالة التورية ووظيفتها في السرد، ومدى اندراجها في سيرورة سردية. ويضاف إلى ذلك استهداف المقامة الحريرية للمناظرة، وهو ما لاحظه باحثون سابقون، ولكن كيليطو، وجدها المناظرة التي تفضي إلى قضية( ).
وختم كيليطو بحثه بتجميع عناصر تخصّ وضعية السارد في الثقافة العربية الكلاسيكية، على الرغم من أن الصفحات المخصصة لقضايا السرد في التراث النقدي نادرة. وقد لفت نظره ما أبصره السلفي، أحد معاصري الحريري، يوماً في المسجد الأموي، حين زار حلقة من الناس تحيط بالحريري، وتستملي منه المقامات. ولأنه لا يعرف كاتبنا فقد استفسر عنه، فقيل له: «إن هذا قد وضع شيئاً من الأكاذيب، وهو يمليه على الناس»، فانصرف السلفي عنه، فهل كاتب المقامة كذاب محترف؟ ربط السابقون بين تأليفهم الحكائي وبين المثل، فالترابط مقبول على مستوى الحكاية، «لكن لا الحريري ولا أي من سابقيه لم ينزلوا إلى المستوى الأدبي ليميزوا المقامة أو المأدبة أو الحديث عن المثل. كان من مصلحتهم الإبقاء على الخلط ليفلتوا من تهمة الكذب»( ).
ولم يسع الحريري نفسه إلى نفي الكذب، بل مقاربة المثل، لأن «السرد الكاذب، المقامات في هذه الحالة، يعرض كل مظاهر السرد المطابق للحقيقة، لكنه لا يطابق لا الوقائع ولا معتقد الذي يرويها. صحيح أن ما يقوله «يشبه الصدق»، لكننا حين نتمعن جيداً، لن نجد إلا ادعاءات كاذبة. فضلاً عن أن الحريري، كما لاحظ ابن الخشاب «لا يدعي صحة» تأليفاته. ولو كان له رأي مخالف، لكان قد أشار إليه في مقدمته، ولم يلجأ إلى المثل للدفاع عن المقامات»( ). وهذه هي أنواع السرد كلها تقوم على الخديعة أو الوهم. على أن أسئلة الخاتمة أكثر بلاغة بإثارة المعنى الراهن والمستقبلي لسيرورة التقاليد الأدبية الكامنة في سرد المقامات. ففي «خلفية المقامات، رأينا شبح الأدب يرتسم باستمرار، وحاولنا أن نحيط بهذا المفهوم بفحص الأنساق التي يقوم عليها»( )، وفحص بعد ذلك أنساقه المهجورة في الأدب العربي المعاصر، وذكر أمثلة لذلك، لأن الأدب بمعناه الحديث هو الذي بانسلاله شيئاً فشيئاً إلى الثقافة العربية، قد طرد الأدب بمعناه القديم، لا الكلمة، بل ما تدل عليه الكلمة، ظلت كلمة الأدب حية. ودعا إلى تجديد النصوص القديمة على ضوء الأسئلة الجديدة التي تطرحها العلوم الإنسانية، وإلى إعادة كتابة هذه النصوص ذاتها، كما أعاد آخرون كتابة الأوديسة وأوديب ملكاً والإنجيل.
إن قيمة مشروع كيليطو ليست في أمثال هذه الدعوات، لأنها قائمة منذ مطلع عصر النهضة في القرن التاسع عشر حين احتذى الكتاب، وما يزالون، السرد المقاماتي، جزئياً أو كلياً، بل في نهاجيته الحديثة، استفادة من الحفريات المعرفية والتأويل الدلالي الذي أنعشته العلاماتية والتفكيكية، وتكمن فضيلة نهاجيته في استمداده لخصائص الثقافة العربية دون أن يملي على أنساقها مصطلحات مجتلبة. ولعلنا نقرأ بعض أسلوبيته واكتشافاته لدى كثيرين ممن تلوه.
2-5- استفاد الميلودي شغموم (المغرب) من النقد المعرفي الباشلاري في نقده للموروث السردي الصوفي في كتابه المتميز «المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة» (1991)، مثلما استعان ببعض أدوات مناهج التأويل الأسطوري والرمزي للكشف عن معرفة موضوعية تناسب تفريد اللاوعي في المتخيل، طلباً لمعنى في الموروث السردي الصوفي.
أثار شغموم أسئلة في مقدمة بحثه حول العلاقة بين الحكاية والبركة، وإلى حد ما تستطيع الحكاية أن تؤسس بركة؟ ليلاحظ أن الأدب هو الذي نبهنا إلى أهمية الحكاية أو القصة في بناء نظري كالتصوف الإسلامي. وهكذا، بحث شغموم الأسطوري والقدسي وطبيعة الحكاية القدسية، دون أن يغفل عن مكانة مرسيا الياد في الكشف عن الحضور المكثف للحكاية في الثقافة العربية الإسلامية، فتعاضد منهجه المعرفي الموضوعي مع تأويلية تجليات القدسي باتجاه خطاب ذي معنى.
انطلق شغموم من دراسة علاقة الكرامة بالأسطورة، وتعبير الكرامة عن القدسي الذي يسمى بركة، ليصل إلى تركيبه: «في البركة سمو من المتخيل إلى القدسي، وهناك العديد من الحكايات التي تعبر عن هذا السمو، وإذا كانت الحكاية محاكاة أو مشابهة أو تقليداً، فأي شيء تتم محاكاته أو مشابهته أو تقليده»( ). وافترض، بناء على هذا التركيب، أن الكرامات أو البركة في القصص التي نرويها تحاكي أربعة أنماط أساسية أصلية، ويعني بالأنماط طرزاً أو نماذج تتم محاكاتها، وهذه الأنماط هي:
- النمط ـ السحري ـ الأسطوري.
- النمط النبوي.
- النمط الإبليسي.
- النمط النعيمي.
وأردف شغموم سؤالاً إجرائياً ينفع في سياق انشغاله بالتركيب المقترح، هو في ذاته شامل لأسئلة كثيرة متفرعة تظهر صعوبات البحث: «كيف نختار الحكايات التي تعبر حقيقة عن البركة؟ ما السبيل إلى فرز الأنماط الأساسية الأصلية من ذلك الركام المختلط من الحكايات، بل ما الضمانة، ما مبرر إرجاع حكاية إلى نمط بعينه، خاصة إذا وجد تشابه، وإذا نتج تردد في التصنيف مع نمط آخر؟ ماذا نفعل بتفاصيل الحكاية: نحن نرجع هذه الحكايات إلى أنماط عامة، مجردة، جوفاء، ولكن الحكاية تعتمد على تفاصيل لتقوم: تاريخ، أماكن، سرد؟ ماذا نفعل إذن بهذه التفاصيل؟» ( ).
بحث شغموم عن أصل البركة ومصدرها أو ما سماه «إشكال الأصل»، للوقوف على فضاء محاكاة السحري ـ الأسطوري، الممتد من المنظومة المرجعية لقيام أو حدوث حكاية من هذا النوع، معتمداً على تعريف مرسيا الياد للكرامة مما هو سائد في علم «تاريخ الأديان»:
«1- لأن الكرامة كحكاية تروي حضور القدسي في شخص معين وانبثاقه فيه أو عبره.
2- لأن هذا الحضور للقدسي هو ما يتجلى في البركة كقوة دينية تحل في شخص معين أو شيء معين»( ).
لقد توصل شغموم إلى فعل التحويل الذي يتم بواسطته السعي إلى «تحويل الإنسان العادي» أو «تحويل البدن» إلى «أشرف وأسمى وأنبل»، «رفع العادي إلى الشريف»، «أي تحويل أناس وأشياء من وضع انطولوجي إلى وضع آخر، تحويل الدنيوي إلى قدسي، ليصبح المحول أو المتحول متوفراً على القدرة التي تسمى كرامة أو بركة هي ما تعبر عن انبثاقه واستمراره الحكايات التي تروى عن كرامات الأولياء، فعلى هذا المستوى من التحليل تبدو وظيفة الحكايات جلية لا غبار عليها. إنها أداة من أدوات صناعة البركة، في حياة الولي، أي وسيلة من وسائل التحول من الدونية إلى القدسية، أو الإيهام بمثل هذا التحول ومظاهر تعبيره عن ذاته. أما بعد موت الولي فهي كل ما يتبقى من بركة هذا الولي. وإذا اعتبرنا أن كرامات الأولياء مجرد خرافات وأكاذيب أو هذيان، فإن تلك الحكايات تصبح تعبيراً عن المتخيل الذي يبني القدسي في التصوف الإسلامي ويرعاه»( ).
ويبدو تأثير النهاجية الباشلارية في تحليل شغموم الجيد لكون البركة من ولي مثالاً للنبوي، في التلاعب السردي والمعرفي بالمتخيل واجتراحه للمقدس عبر علائقية المزج بين الذات والموضوع، وعبر رؤية العالم موجوداً كما يتراءى في قيعان الذات، أو كما أحلمه «بتعبير باشلار نفسه في «شعرية حلم اليقظة»( ). وقد انتظمت هذه العلائقية في تناوب التاريخ البسيط والتاريخ الذائب والتاريخ المغيب.
والتاريخ البسيط عند شغموم هو الشائع أو الطبيعي في خبر الولاية، وهو الطبيعي لأن لجميع الأولياء حياة دنيوية قبل أو خلال فترة الولاية، مع أو على هامش الولاية، ولكن هذه الحياة الدنيوية تصبح قليلة القيمة أمام «السمو» الذي يطبع الحياة القدسية. والتاريخ الذائب هو الترجمة الذي تذكر فيه الحياة الدنيوية للولي، كجزء أو كل، مختلط اختلاطاً تاماً بحياته القدسية بحيث لا تنفصل تلك عن هذه. أما التاريخ المغيب، فلا توجد في حالته أية إشارة منفصلة أو مندمجة في الكرامات إلى الحياة الدنيوية للولي، وقد لا يشار إليه، أي إلى الولي، إلا في سياق الحديث عن ولي آخر.
ويفيد هذا التحليل في إيضاح أهم سمات النمط المسمى «النمط النبوي الذي تحاكيه حكاياتنا وتنتج «عالمها» الخاص بواسطته. وهو نمط قائم الذات، لا في حدود استقلاله عن النمط السحري ـ الأسطوري، أو استقلال هذا الأخير عنه، ولكن في حدود تكراره للنبوة، ووجود حكايات تروي هذا التكرار»( ).
أما النمط الإبليسي فيجاوز الحدود التي ينبغي على المؤمن أن يراعيها ليظل إيمانه خالياً من الشبهات، أي أن النمط الإبليسي يثير السؤال حول طبيعة القدسي، وهل يمكن تصوره بمعزل عن الدنيوي؟ وهذا ما يتيح الانتقال إلى منطقة خطرة يتحول فيها «الولي إلى إبليس لعين يكرهه ويحاربه من هو خارج سيطرته!» ( ).
وتكون النتيجة أن الصوفي عندما يصل «إلى هذه الدرجة من إلغاء النبوة والألوهية، ويصير النبي والإله معاً، فإنه يصبح سيد الكون، ذلك الذي يملك القدرة على الخوارق، إذ كيف تصعب عليه خارقة والحال هذه؟ ولكنه كذلك السيد الذي يحكم الكون، يأمر وينهي، يحرم ويحلل، مالك مفتاح الجنة والنار الذي يضمن النعيم لأتباعه ومحبيه، يوفر لهم الحماية والأمن، يرفع أمامهم الحدود والحجب، بواسطة البركة التي تحل الجنة في الأرض بعد أن أحلت النبوة والألوهية فيها، في شخص الولي. ولقد أهله لكل ذلك الحبّ، كما يزعم، فهو المحب الذي يطلب الوصال ليذوب في محبوبه، فلا يبقى بينهما فرق»( ).
يلوذ شغموم بالتركيب الباشلاري الذي يصعب على التحديد أو التسمية، فقد أدرج جان ايف تادييه منهج باشلار في «نقد الخيال»( ) وهي تسمية غير دقيقة وغير موفقة، وسماه ويليك فانتازيا العلم( )، ويستند التركيب الباشلاري إلى أدوات معرفية علمية من النقد الأدبي الموضوعي وأولها الاستعارات والصور وتخييل المادة وتثمير التحليل النفسي واللغة ظواهرية صورية توغل في نبش اللاوعي أو الشطح في «منطق» خاص بها.
ويظهر ذلك بجلاء في تحليله للنمط النعيمي والتمهيد له، فقد استعمل الإبليسية بمعنى النزوع إلى المكبوتات والممنوعات عقلاً وشرعاً، في الثقافة العربية ـ الإسلامية السائدة، من جهة، كما استعمله، من جهة أخرى، وبالخصوص، بمعنى رفع الحدود بين الخالق والمخلوق، أي مجاوزة ثنائية الله/ العالم. وتتجلى هذه المجاوزة، وفي أعلى صورة، «في الحكايات التي تتحدث عما يسمى «شطحات الصوفية»، في هذه الحكايات يرفع الولي كل ما يفصله عن الله، يتصف بصفاته، ويحل ما لا يحله، يقارن نفسه به، يضع نفسه مكانه، أو يعلو عليه.. فلا غرابة، والحال هذه، أن يحل النعيم في الأرض، فقد رفع الولي الدنيوي منها! وقد يساعد على فهم هذه الظاهرة تذكر أن الولي محب، وأنه ككل محب يريد أن يمتلئ بهذا الحبّ، ويذوب فيه، فهذه بداية نعيمه: الوصال. لذلك يمكن أن تسمي هذا النمط «النمط الغرامي» وتقرب الحكايات التي تحاكيه من «رسائل العشاق» أو «ترجمان الأشواق»!»( ).
يعّمر شغموم تحليله للنمط النعيمي بمقدرته العالية على ضبط التوازن بين الذاتي والموضوعي في ردع الولي بما يجعل الخيال خاضعاً لنسق شعري، وقابلاً لاكتناه موضوعي عبر شعرية المادة. لقد وجد شغموم النمط النعيمي في «استيهام النعيم» أو«فيض المحاكاة»، حين لا تروي الحكايات إلا الكيفية التي يتمتع بواسطتها الولي ببركته الخاصة، وهذا «نابع من: أولاً- أن هناك حكايات تعبر بالفعل عن هذه الحالة حيث يبدو الولي أول مستفيد من استيهام النعيم، وثانياً- إن استيهام النعيم كلي إلى درجة أنه لا يمكن لأية حلقة من حلقات الدائرة أن تحرم منه، بل إن استفادة الولي منه شرط ضروري لاستفادة الآخرين منه.. ذلك ما ترويه حكايات التمتع بالولاية»( ).
ويستوعب تحليل شغموم للنمط النعيمي ذروة شعرية المادة، حين يوضح سعي الحكاية إلى خلق جماليتها بوسائل عديدة، أهمها:
«أولاً- إحلال القدسي، أي النقي أو الصافي الكامل، محل القذر أو النجس اللعين.
ثانياً- إحلال العجيب والغريب محل الاعتيادي عقلاً ونقلاً وخبرة يومية.
ثالثاً- إدخال كثير من العناصر الجمالية الطبيعية والحكائية: إن استعمال الحكي في حدّ ذاته عنصر جمالي، ولكن العناصر الطبيعية في الحكاية ليست أقل جمالية!» ( ).
ويؤدي إدغام شعرية المادة في شعرية الحكي إلى تمام الإيهام، تمام محاكاة البركة، أو فيضها، ذوباناً في حلم يقظة هو روح صوفية تجترح المقدس لتجلب الجنة إلى الأرض. ولعمري أن شغموم طرح السؤال، وأنار جانبه العويص فيما يخص وعي الموروث السردي الصوفي إجابة على حدود إمكانية التمييز في الثقافة العربية الإسلامية، وخاصة في مجالي القدسي والمتخيل، بين ثقافة «عالمة» وأخرى «عامية»؟.
2-6- يعد شغل عبد الله إبراهيم (العراق) في كتابه «السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي» (1992) المشروع الثاني المكتمل، بعد عبد الفتاح كيليطو، في التعريف بالسردية وعلم السرديات من جهة، وفي استخدامها أو تكييفها لحاجات درس السردية العربية في تشكلاتها تاريخياً وفنياً من جهة أخرى. غير أن إبراهيم يختلف عن كيليطو في أن الأول يعلن منهجه، ويصرح بمقاصده، ويعنى بالإطار النظري، ويميل إلى المنهج الانتقائي الذي يوائم بين أمشاج من مناهج حديثة متعددة، بينما يلتفت الثاني عن وصف منهجه وأهدافه وإطاره النظري، ويقارب منهجه ضمن وحدة فكرية في مدار شواغل التأصيل والهوية الثقافية إياه، وهو مدار عريض ذو مشارب متعددة واجتهادات متنوعة، تلتقي غالبيتها حول وعي الذات القومية في الوجود والمصير، ولا يخفي إبراهيم هذا الانشغال، فقد أدرج بحثه ضمن الجهود المبذولة في ربع القرن العشرين الأخير «للبحث في أصول الفكر العربي، ومصادره التركيبية والتعبيرية، بغية كشف سماته وأبنيته وركائزه الأساسية التي يقوم عليها»( ).
ويصدر إبراهيم عن الرأي نفسه الذي يعول كثيراً في فهم مظاهر التعبير اللساني والبلاغي، ولا سيما المظهر السردي الذي يشكل إلى جانب النتاج المعرفي والشعري، الهيكل الكلي للثقافة العربية، بتجلياتها الفكرية والإبداعية. وهكذا اعترف بالصعوبات التي تواجه نقاد التراث القصصي العربي نحو اشتقاق مادة البحث من نطاق لم يعتن بها، تحقيقاً وتبويباً وفهرسة، قبل نقدها بمنهج تقليدي أو حديث. ولذلك جرى حفر وتنقيب، من قبله، في مصادرها الأصلية من علوم الدين والأدب والتاريخ، فضلاً عن المرويات السردية التي تؤلف متن المادة، وذلك دون وساطة مراجع حديثة، قد تقوم على قراءة تلك المصادر، قراءة محكومة بظرف خاص، قد تجهض الهدف الذي يتوخاه البحث، وهو استنباط البنية السردية في الموروث الحكائي العربي، كما تشكلت في دائرة الثقافة العربية، وثمة صعوبة تالية ناجمة عن التأسيس النقدي لمصطلحات جديدة تتصل بعلم جديد هو علم السرديات، مما يدعو الناقد إلى تحديد المصطلحات وشرحها وإيضاح فروقاتها. وقد حرص إبراهيم على أصالة بحثه، وتجنب إلى حد، إخضاع السردية العربية إلى معيار خارجي مستمد من موروث سردي آخر، فما كان يهدف إليه، بتعبيره، هو تحديد الطبيعة السردية العربية كما تكونت في نطاق المحضن الثقافي الذي تشكلت فيه، وقد حقق إبراهيم كثيراً مما يصبو إليه، وهو مقاربة السردية العربية ولكن هذه المقاربة لم تبرأ من مؤثرات المعايير الخارجية، فهو عرف السردية حسب الاتجاهات النقدية الجديدة، ولا سيما النبيويون واللسانيون على أنها «العلم الذي يعنى بمظاهر الخطاب السردي، أسلوباً وبناء ودلالة»( )، وقد حكم هذا الفهم أسلوبه في العملية التي اتبعها لرؤية الموروث السردي، وهي «الاستقراء الفني» الذي يستند إلى الاستنطاق تارة، والوصف تارة أخرى.
استنطق إبراهيم الأصول، ابتغاء استخلاص الهياكل التي تؤطر بنية المرويات السردية، في القسم الأول من البحث، ثم في القسم الثاني منه، الاعتماد على نوعين من الوصف والمعاينة، الأول تاريخي تعاقبي Daichronic غايته كشف تشكل الأنواع القصصية الرئيسة كالخرافة والسيرة والمقامة، والثاني: وصفي تزامني Synchronic انصب الاهتمام فيه على مكونات البنية السردية للأنواع المذكورة، وتوج التحليل، بكشف مستويات التماثل بين بنية الموجهات الخارجية وبنية السرد، بما يؤكد أن الاتصال قائم بينهما، على نحو تمثيلي، في أشد الركائز أهمية، وهو: الإرسال السردي بأركانه من راوٍ ومروي ومروي له.
ونلحظ اقتراب شغل إبراهيم من شغل كيليطو في استهداف المشروع النقدي من جهة، وفي استغراقه بنهاجيات معرفية نقدية حديثة من جهة أخرى، إذ سعى إبراهيم إلى استنطاق الأصول المعرفية، استنطاقاً يبتعد عن التقويل، ويترك لها أن تكشف عما تغيبه دونما تعسف، بهدف «تحديد طبيعة السردية العربية ضمن البنية الثقافية ـ العامة. لهذا، ففي الوقت الذي مكن الانفصال فيه، من رصد البنى السردية للأنواع، مكن الاتصال من كشف خصائص البنية السردية العامة.
وقد احترز إبراهيم في استخدامه لمصطلح «السردية العربية» من المقاصد العرقية، لأنه هدف إلى الوقوف على المرويات السردية التي تكونت، أغراضاً وبنى، ضمن الثقافة التي أنتجتها اللغة العربية»، واتفق إبراهيم مع غيره من الباحثين والنقاد مثل عبد الفتاح كيليطو ومحمد رجب النجار على انبثاق السردية العربية من الخصائص الأسلوبية والتركيبية والدلالية للغة العربية، ومن الشفاهية( ).
وجد إبراهيم أن العناية الكلية بأوجه الخطاب السردي، أفضت إلى بروز تيارين رئيسين في السردية، أولهما السردية الدلالية التي تعنى بمضمون الأفعال السردية دونما اهتمام بالسرد الذي يكونها، إنما بالمنطق الذي يحكم تعاقب تلك الأفعال، ويمثل هذا التيار بروب وبريمون وغريماس، وثانيهما السردية اللسانية التي تعنى بالمظاهر اللغوية للخطاب، وما ينطوي عليه من رواة وأساليب سرد ورؤى، وعلاقات تربط الراوي بالمروي. ويمثل هذا التيار باحثون ونقاد منهم بارت وتودروف وجينيت. إن الفصل بين التيارين غير ميسور، وقد أدرك إبراهيم ذلك عندما أشار إلى أن تاريخ السردية لم يعد محاولة للتوفيق بين منطلقات هذين التيارين. وقادته هذه الإشارة إلى إشارات أخرى حول تطور السردية والمشتغلين في علم السرديات من بروب إلى ذريته بتعبير شولز Progeny of Proop مثل غريماس وبريمون وتودروف وجينيت، ممن عملوا على توسيع حدود السردية، لتشمل جميع مظاهر الخطاب السردي. ثم عاد إبراهيم إلى الفكرة السائدة حول انحدار المرويات السردية بصورة عامة، عن جذور الشفاهية، ذلك أنها كانت تتداول مشافهة، فهي «فن لفظي». ولا يختلف السرد العربي القديم عن ذلك( ).
اختار إبراهيم أنواعاً سردية بعينها هي الحكاية الخرافية والسيرة الشعبية والمقامة، بوصفها الأنواع التي تهيأت لها الظروف، لتكون أظهر الأنواع والأشكال القصصية في الأدب العربي القديم، وهذا يعني إغفاله لأنواع سردية كثيرة جرت الإشارة إليها من قبل. واستنطق في بحثه عن الموجهات الخارجية للسرد العربي، الأسس التي قامت عليها النظرية الشفاهية في تقييدها للمنطوق، خلل صلتها بالظاهرة الدينية.
ووجد إبراهيم ركائز النظرية الشفاهية في أعمال الأدباء الكبار، منذ الجاحظ، في رسالته «ذم أخلاق الكتّاب»، إلى علي بن رضوان 4531= 1061)، فقد سوغ الجاحظ شرعياً إحلال المشافهة محل الكتابة، وأسهم في ترسيخها، ومنحها قوة لممارسة دورها في الثقافة العربية في عصر تأسيسها الأول، ويكاد المرء يجد نظرية عربية تسوغ الشفاهية لدى علي بن رضوان. ثم ناقش بعد ذلك أركان نظرية الإسناد المتبعة في التواريخ والتراجم والمرويات الإخبارية واللغوية، وقد وجد أن مظاهر هيمنة نظرية الإسناد على معطيات الثقافة العربية الأخرى، يصعب حصرها.
إنه اجتهاد يمدّ الشفاهية من الأدب الشعبي إلى الأدب المكتوب أو الرسمي، وهو اجتهاد لا يوافي الوقائع الأدبية والثقافية العربية منذ القرن الثاني الهجري حين ساد التدوين، وتقلصت الشفاهية إلى حد كبير حتى في مجال الأدب الشعبي.
ارتبط القص عند إبراهيم بفضاء الدلالة الدينية، فلم ينظر للقصص في القرآن، إلا بوصفها تنطوي على موعظة، وتهدف إلى ضرب المثل، وتقديم النصح، من خلال وقائع الماضي المغرقة في القدم، وكذلك حدد الرسول وظيفة القص، وهي التذكير والوعظ والاعتبار، وكانت هذه هي الموجهات المهيمنة في نشوء أخبار وعظية اعتبارية، وظفت في خدمة الدين. وكانت المرحلة التالية هي نشوء فئة القصاصين والمذكرين التي بادرت إلى الخروج من المسجد إلى أماكنها الخاصة، على أن إبراهيم التفت عن هذا التطور إلى رصد ظهور «قصص العامة» ودأبها لتأسيس وجودها بخروجها عن الإسناد الحقيقي والصادق، وليس من المسجد فحسب، ولعل وجهة نظره تضمر مثل هذا الرأي، لأن ردّ الفعل العنيف إزاء «قصص العامة وقصاصيها» يفصح عن ذلك كله، لأن القصص تلهي المؤمن عن دينه، كونه ينشغل بها ولا يعتبر بها، وقد «استقام على يد ابن الجوزي موقف شامل تجاه القصاص والقصص، استمده من سلطة السلف، التي هيمنت في القرون السابقة عليه»( )، وكان هذا الموقف في أساس الصياغة النظرية لموقف الإسلام من القص، الداعي إلى ضبط فعالية القص وتوجيهها توجيهاً محدداً، «لتحقيق أغراض وعظية وأخلاقية ثابتة، ذلك أن موقف الإسلام، لا يقتصر على وضع شروط ينبغي إتباعها وحسب، بل هو يقترح موضوعات القصص، ويوجب تنفيذها، غرض تهذيب السلوك الاجتماعي، والتعبير عن فروض الدين، فيكون مجلس القصص، بحسب موقف الإسلام، مجلساً دينياً، هدفه التوجيه والوعظ، يقف فيه القاص، موقف الواعظ الديني، على أدلة الأحكام من قرآن وسنة، وسير الفاضلين والأولياء، ثم ينحو منحى تعليمياً في بيان أصول العبادات، وشؤون المعاملات، إلى غير ذلك مما يندرج في علوم الحديث والفقه( ).
لا يعنى إبراهيم بتطور الموقف من القص في الثقافة العربية، مقتصراً على موقف إسلامي، وليس الموقف الإسلامي، لأن ثمة تيارات أخرى مختلفة. أدغمت، في مراحل تالية، القصة في صلب التأليف العربي، التاريخي والفلسفي والصوفي والأدبي واللغوي وسواه، ولنتأمل بعض أمهات الكتب مثل «الكامل» للمبرد و«البخلاء» للجاحظ، و«الأغاني» للأصفهاني، و«لسان العرب» لابن منظور، لنعرف الحجم الكبير للقصة أو السرد فيها.
اهتم إبراهيم بفضاء الحكاية الخرافية، ولاحظ أن البوابة التي دخلت بينها الخرافة شرعياً، في الثقافة العربية، كانت قد فتحها الرسول نفسه، لا اقتداء بالأفعال الخرافية، فيما يبدو، إنما بغية التسلية والسمر اللطيف الذي لا يخلو من هدف اعتباري، لا يتعارض وتعاليم الدين الإسلامي. وتوقف ملياً عند حديث الرسول عن «حديث خرافة»، لأهمية ذلك، فالتثبت من نسبة الحديث إلى الرسول يعني عناية العرب المبكرة بهذا النوع القصصي، مثلما يكشف توالد الحكايات ضمن إطار الحديث نفسه عن البنية الإطارية للحكاية الخرافية، دون أن يغفل عن مصادر أخرى لا تقر نسبة الحديث للرسول كقول الشريشي (619=1222): «وحديث خرافة مثل سائر على ألسنة الناس في القديم والحديث، يضرب لكل حديث لا حقيقة له». ثم رأى إبراهيم في متن حديث خرافة ما رآه كيليطو في معنى الحكاية، «منح الحكاية مقابل الاستمتاع بالحياة، وبعبارة أخرى مقايضة الحياة بالحكاية»( ). ولدى تقصيه للتأليف الخرافي عند العرب وجد أكثر من سبعين كتاباً في الأسمار التي تتداولها الأيدي قبل منتصف القرن الرابع. ويضاف إليها كتب الخرافات الكثيرة التي أوردها ابن النديم في الفن الثالث من المقالة الثامنة تحت عنوان «أسماء خرافات تعرف باللقب، لا نعرف من أمرها غير هذا».
وأعاد إبراهيم متواتر القول في موضوع ألف ليلة وليلة: معضلة الانتماء والتأليف، اعتماداً على محسن مهدي إياه وسهير القلماوي ومحمود طرشونة وغيرهم، واختار لتمحيص البنية السردية للحكاية الخرافية وبحثها ثلاث ذخائر هي: «ألف ليلة وليلة» و«مائة ليلة وليلة» التي درسها وحققها ونشرها محمود طرشونة( )، و«الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة»( ).
عد إبراهيم خرافة شهرزاد أنموذجاً عالمياً للحكاية الإطارية، وهو مصطلح مجتلب عن مياجير هاردت بأنها ذلك السرد المركب من قسمين بارزين، ولكنهما مترابطان، أولهما حكاية أو مجموع الحكايات التي ترويها شخصية واحدة أو أكثر، وثانيهما تلك المتون، وقد رويت ضمن حكاية، أقل طولاً وإثارة، بما يجعلها تؤطر تلك المتون، كما يحيط الإطار بالصورة. وكان الحري بإبراهيم أن يطلق عليها مصطلح الكتاب القصصي، وهو المصطلح الشائع لدى دارسي القصة العربية، ويفيد توافر القصص داخل قصة أو أكثر. ويقال مثل هذا القول عن استعماله لمصطلح تودروف في هذا المجال، حين وصفها بأنها من «الأدب الإسنادي»، لأن «التأكيد فيها يكون دائماً على الإسناد، وليس على موضوعه»، إذ إن الإسناد في الثقافة العربية يتصل بالرواة عن طريق العنعنات، أو أننا محتاجون إلى تعريب المصطلح بعبارة أخرى.
كانت خرافة شهرزاد سبيله للاقتراب إلى البنية السردية للحكاية الخرافية، من خلال مكوني الراوي والمروي له، وأثرهما في تحديد مستويات السرد. فعرض مظاهر هذه الثنائية تعريفاً وترسيمات لنماذج مختلفة مثل:
ترسيمة لنموذج متعدد الرواة إزاء مروي له واحد.
ترسيمة لنموذج وحدة الراوي وتعدد المروي له.
ترسيمة لنموذج تعدد الراوي والمروي له.
ترسيمة لمستويات الرواية ومستويات المروي له.
ترسيمة لنسق توالد الحكايات فيها.
ولا يخفي إبراهيم في دراسته لبنية المروي الخرافي مرجعيته لنقاد شعرية السرد و إرثهم الشكلاني الروسي والبنيوي، كما في هذا الاستنتاج عما يميز الحكاية الخرافية، فهي «تتكون من رواية أفعال، أكثر مما تتكون من أفعال فالفعل الذي يعرض للحزم في أجزاء عديدة منه، كلما ظهرت شخصية جديدة، من الضعف، بحيث يبدو أنه غير قابل للخرق، بل والقطع، في أحوال كثيرة. وهو ما أفضى إلى التكرار، وهو تكرار رواية الفعل، وليس الفعل نفسه. ويندرج ضمن الضرب الثالث من ضروب التواتر التي حدد، جيرار جينيت أربعة منها، وهي:
أن يروى مرة ما حدث مرة.
أن يروى أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة.
أن يروى أكثر من مرة ما حدث مرة.
أن يروى مرة ما حدث أكثر من مرة»( ).
وثمة ما يقال في المصطلح حول مفهوم «الاستباق» اللصيق بتجنيح الخيال، وصار ركيزة من ركائز أدب الخيال العلمي، ومن المعروف أن هذا الأدب تطور عن هذه المخيلة الجامحة في الحكايات الشعبية. وقد ورد مصطلح «الاستباق» عند إبراهيم في سياق الأحلام والوصايا والنبوءة، ليؤكد مظهراً من مظاهر الحكاية الخرافية، «ألا وهو أن الحكاية، تنتمي دائماً إلى الماضي، فالرواية تلحق بالحكاية، ولا يمكن أن تتزامنا، أو أن تسبق الرواية الحكاية، إلا فيما ذكر من أمر الاستباق، علماً أن الاستباق كونه جزءاً من الرواية، يقع ضمناً في الماضي، وتعليل ذلك، أن الحكاية الخرافية تستحضر بوساطة الرواية، وعبر سلسلة من الرواة، وهنالك دائماً فاصل كبير بين زمان الحكاية ومكانها، وبين زمان الرواية ومكان».( ). ويحتاج هذا المصطلح إلى تعليل ظهوره في الحكاية الشعبية العربية داخل الأنساق الثقافية والمعرفية العربية. ويقال مثل هذا الرأي حول مولد البطل الخرافي أو البطل في الحكاية الشعبية، وهي معضلة طالما عولجت عند دارسي الفولكلور.
ركز إبراهيم على الشفاهية، كما لاحظنا، في الوقوف على مكونات البنية السردية للحكاية الخرافية، مع أن الحكاية الخرافية نوع من أنواع الحكايات الشعبية. أما العلاقة بين تلك المكونات فلا تخضع لأسباب يغذيها التطور العضوي المتنامي للحكاية، إنما توجدها صيغة مناقلة الحكاية بين الراوي والمروي له، وهي صيغة شفاهية، لا تهدف إلى توفير أسباب موضوعية، تعمل على تطوير الحكاية الخرافية، بل تعمل على تنسيق مجموعة من الوقائع التي تقع للبطل، وتعرضها بوصفها مشاهد تؤلف سلسلة من الأحداث. وهذا تأكيد لثنائية المروي والمروي له، ذلك أنهما الإطار الذي يوفر الأسباب الكاملة، لظهور الحكاية، الأمر الذي يستحيل معه، وجود حكاية خرافية، دون أن تتشكل وسط إطار صارم، قوامه العلاقة بين الراوي والمروي له.
وانتقل إبراهيم إلى معالجة السيرة في تشكل نوعها وبنيتها السردية، وقد اعتمد اصطلاحياً على تعريف فاروق خورشيد لها: «مجموعة من الأعمال الروائية الطويلة، ذات سمات فنية متشابهة، وذات أهداف فنية متماثلة»، غير أن هذا التعريف لا يقول شيئاً محدداً إزاء جنس شديد الخصوصية مثل السيرة. والحق، أن مصطلح السيرة ملتبس، وثمة اجتهادات كثيرة حوله، ولكنه تجنبها، وخاض في ظهور السيرة في الأدب العربي، واعتنى بأربعة أشكال سيرية هي: التراجم والسير الموضوعية والسير الذاتية والسير الشعبية، وتلمس فوارقها على عجل تمهيداً لتفصيل القول في السيرة الشعبية، إذ وجدها تنتمي إلى مرويات العامة، مما جعلها تتشكل في منأى عن الثقافة المتعالية التي كانت تعنى، إجمالاً، بأخبار الخاصة، الأمر الذي أفضى إلى عدم العناية بهذه المرويات، تدويناً ووصفاً. على أن تشكل السير الشعبية، لا يبتعد عند إبراهيم، عن رواد دارسيها من عبد الحميد يونس إلى فاروق خورشيد إلى البقية، وهو ما كرره اندريه ميكيل وسواه من المستعربين ويقضي بإرجاع ظهور السير الشعبية إلى تعلق الجماعة الإسلامية بذاكرتها، وإلى اهتزاز الوجدان العربي بسبب الحروب الصليبية مما دفعهم إلى أن يعتصموا بعصر البطولة. وقد وضع إبراهيم مسرداً يبين أهم الآراء التي بحثت في زمن ظهور مرويات السير الشعبية، من القرن الثالث الهجري بالنسبة لبعض السير إلى القرن الثالث عشر الهجري بالنسبة لبعض السير الأخرى، ولاحظ في الوقت تغير صورها الشفاهية تبعاً لتغير عصور رواتها، وتأثير الإنشاد على تماثلها فيما بعد، واستدعى ذلك التدقيق بوظائف الرواة انطلاقاً من استخلاص لابدّ من أخذه بعين الاعتبار هو أن المروي السيري يرتبط بالراوي، وعنه يصدر إلى المروي له، ولذلك فهو أداة لتشكيل نسيج ذلك المروي. وذكر وظائف الراوي المفارق لمرويه الاعتبارية والتمجيدية والبنائية والإبلاغية والتأويلية، ووظائف الراوي المتماهي بمرويه الوصفية والتوثيقية والتأصيلية، وعرف بنية الوحدة الحكائية بأنها «سلسلة الأفعال المتعاقبة التي يقوم بها بطل السيرة لإشباع حاجة ما، مادية كانت أو معنوية، وتستدعي رحيلاً عن المكان الذي يقيم فيه، والذهاب إلى مكان خصومه، والدخول معهم في مواجهة، وعودته ظافراً إلى مكانه، وقد أشبع الحاجة التي دفعته للرحيل»( )، وكما عرضنا من قبل، فإن مفهوم الوحدة الحكائية ملتبس مع مفاهيم مقاربة مثل الحافز والوظيفة.
واقترح إبراهيم مكونات الوحدة الحكائية تطويراً للوظائف التي وضعها بروب، فتحفف من تفاصيلها الكثيرة، وأفضى بها إلى تصنيف أكثر تبسيطاً، ولعل حديثه عن بنية الوحدة الحكائية يؤكد مثل هذا الالتباس حين باح بحقيقة مهمة هي أن هذه البنية «محكومة بمنطق صارم، يوجه بناءها، ابتداء من ظهور الحافز، وصولاً إلى إشباع الحاجة التي ينتدب البطل نفسه لها»( ).
ثم اهتم إبراهيم ببنية الشخصية السيرية، ولا سيما تأصيل نسب بطل السيرة قومياً وتاريخياً، لأن الوجدان القومي يرفض بطلاً غريباً عنه. وهو ما سيحكم البنية برمتها التي تتألف منها:
أ- النبوءة. ب- الأصول النبيلة. جـ- الانتساب.
د- الغربة. هـ- الاختيار. و- الاعتراف بالبطل.
ز- التكليف الأولي. ح- المعارضة الضيقة. ط- التكليف القومي ـ الديني.
ي- المعارضة العامة. ك- المعاضدة. ل- الخوارق والسحر.
م- الانتصار. ن- العزلة والموت. س- التوريث.
وخلص إبراهيم إلى نتيجة مفادها أن الثوابت الأساسية في سيرة البطل تكشف عن تواتر نسق من «الوحدات الدلالية» تتطابق بنية ودلالة مع نسق «الوحدات الحكائية» التي تؤلف متن السيرة. أما تأثير زمن إنشاد المروي بالنظر إلى زمن أحداث المروي فيؤدي إلى نتيجتين أساسيتين، الأولى طول زمن الأحداث، الذي يبلغ أحياناً عدة قرون، كما في سيرة الأميرة ذات الهمة، والثانية، «التمدد الدلالي» الذي يضفيه الراوي على المرويات السيرية بما يجعلها تنطق، على نحو غير مباشر، بوقائع عصره، لا عصر البطل الذي يروي أفعاله.
وفعل إبراهيم الإجراءات نفسها في بحثه عن تشكل نوع المقامة وبنيتها السردية، وألقى أضواء على الإشكاليات المتداولة بين الباحثين والنقاد: بزوع المقامة جنساً قصصياً، والريادة الإبداعية، وبخاصة الصلة بأحاديث ابن دريد، وثبات البنية التقليدية ومحاولات تقويضها بين رواد المقامات مما جعل لها أكثر من نمط، ولكن إبراهيم آثر أن يقتصر «على دراسة «سردية» النمط التقليدي، كونه يمثل تياراً كبيراً، يتصف بخصائص وصفات محددة، تمنحه حق انتزاع صفة النوع القصصي الخاص، بين أنواع القصص العربي الأخرى»( ).
وأردف إبراهيم دراسته للبنية باستخلاص سمات الراوي وخصائصه: المفارق لمرويه والبطل راوياً، والتعرف بما ينفع في تشابك نسيج البنية السردية، وهي شديدة الخصوصية إزاء الأنواع السردية العربية، وعلى الرغم من الملاحظات التي ذكرناها، فإن مشروعه النقدي منسجم إلى حد كبير، ويدعو إلى الإعجاب في كثير من جوانبه.
تكمن أهمية مشروع عبد الله إبراهيم في نقده الجديد للتراث السردي، ومحاولته الرائدة للكشف عن السردية العربية بعامة، وعن بعض أنواعها بخاصة، وأن السردية العربية بعض تجليات الأصول الثقافية العربية في اتصالها بالقرآن، وبخدمة الدين الإسلامي، وبسيرورة الأدب الشفاهي في التقاليد الأدبية العربية، ومحاولته إدغام مصطلحات النقد الحداثي في سياق تطور السردية العربية.
2-7- صرف حاتم الصكر (العراق) اهتمامه النقدي إلى التراث السردي الأدبي في كتابه «البئر والعسل: قراءات معاصرة في نصوص تراثية» (1992)، إذ عرف عنه الاهتمام بنقد الشعر. استفاد الصكر من قابليات النقد النصي: استخراج الدلالات من شبكة الرموز والمبنى المجازي على وجه العموم.
افتتح الصكر كتابه بنص مفتاحي لابن المقفع هو حكاية تبين كيف تأخذ الحلاوة بلب الرجل، فلم يزل لاهياً غافلاً مشغولاً بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التنين فهلك. وهذا هو الصكر يقدمه لفصول كتابه باستعارة النص المفتاحي «بئر النص وعسل القراءة» ليكون تحليله «أقرب إلى الممارسة النقدية منه إلى الفهم والشرح والتفسير كخطوات تأويلية تقليدية، فلقد انقدت حيث أرادت له النصوص، فسرت في متاهاتها، ولم أسلط عليها قراءتي فقط، بل كانت توصلاتي ووسائلي إلى تلك التوصلات آتية من شعاع النص نفسه: من جرمه الذي يدور حولي، ويفرض علي رؤية فضائه»( ).
صرح الصكر أنه ينشد التحليل التأويلي الذي يفترض أولاً أن ما في النص قد انفصل عن مؤلفه بمعنى أن قصده أصبح بعيداً حين أنجز نصه، وأطلقه حراً للقراءة، موضحاً أنه إذا كان ثمة في عملية التأليف، فهو لا يكمن في نيات المؤلف، بل في تلك العلاقات المتشابكة بين ظاهر النص وباطنه، بين الملفوظ والمكبوت، المقول والمسكوت عنه. وأدرج التأويل في عملية القراءة بوصفها دوراً للقارئ، وما يقوم به هو قراءة.
ومن الواضح، أن ثمة تداخلاً في مفهوم الصكر عن القراءة والتأويل والقصد، يعيدنا إلى إشكاليات لم تحسم في المنطلقات، أو في الممارسة النقدية، وهذه الإشكاليات تتعلق بالنهاجيات المعرفية والإجرائية للقراءة التي قد لا تناسب التأويل، وقد لا تلتقي مع النهاجيات المعرفية المتعلقة بالقصد، لأن ثمة تاريخاً طويلاً لمغالطة القصد في النقد يتصل بوجهة النظر والمبدأ الحواري والتماهي بين المؤلف والراوي أو السارد.. الخ. غير أن الصكر لا يلتزم بمنهج حداثي معين، مكتفياً بأن نقده قراءة تستعمل التأويل بالدرجة الأولى، وتنبه إلى ما في النص التراثي من محمول دلالي ربما يفوت القراءة العابرة.
يستخدم الصكر بعض مصطلحات نقاد شعرية السرد دون الالتزام بمنهجهم، مثلما ترد في نقده مصطلحات من فوكو ودريدا مثل «شعر الحكايتين» (في الصفحة 18)، فالطبقات التي تختفي تحتها النصوص تسمح بما لن ينتهي من الحفريات تجوس متعرفة مكتشفة» (في الصفحة 22)، «اشتراطات القارئ المتكون قبل النص» (في الصفحة 22).. الخ.
يختار الصكر أول حكاية للقراءة من «كليلة ودمنة»، وهي حكاية رمزية أطلق عليها اسم «البئر والعسل» (عنوان كتابه)، ومنها أخذ مفتاح نقده التأويلي. وتعد قراءته لهذه الحكاية نموذجاً لشغله النقدي، فقد وضع لها مدخلاً عرف فيه بعبد الله المقفع ومكانته الفكرية والأدبية وأسلوبه البلاغي والتمثيلي.
ويلاحظ أن الصكر جاوز التأويل إلى مبالغة تقدير قصد المؤلف، إلى حد أنه قوله ما لم يقل، كما في هذا الحكم النقدي: «وجد ابن المقفع أن الحكاية أفضل الطرق لتوصيل الأفكار، شرط ألا يطغى عنصر المتعة على المغزى (وهذا مقبول).. وبهذا الشرط أراد لكتابه «كليلة ودمنة» أن يقرأ.. إنه يقترح في الواقع نوعين من القراءة:
الأولى: ظاهرية تأخذ القصص بما جاءت عليه من إطار ممتع، فهي تسرد على ألسنة الطيور والحيوانات، فيجد فيها الهازلون بغيتهم، والثانية: باطنية تسبر أغوار الحدث القصصي لتترجم مفرداته إلى ما يعادلها في الحياة وتطبق الحكمة المستفادة على ما يشبهها من الأحوال»( ). ولا نعرف إلام استند الصكر من أقوال وقرائن جعلته يطلق مثل هذا الحكم أو التأويل؟.
انطلق الصكر في نقده من إيمانه بالبعد الرمزي لحكايات «كليلة ودمنة»، واستخدم مصطلح «الترميز»، ولم يوضح حدود استعماله لهذه المصطلحات لأن نقده لا ينتمي إلى المنهج الرمزي المعروف، إذ تتعاور قراءته النقدية شيات من الشرح والتأويل والترميز (رمز ومرموز، دال ومدلول)، ولعل هذا ما جعل القراءة تفتقر إلى تحديد نهائي لمقاصدها، خلا الإشارة إلى انتساب «النص إلى حقل الأدب التربوي الذي تصاحب فيه المنفعة دائماً ما يمكن أن يصل إلى القارئ من متعة»( )، ولا تخدعننا في هذا المجال الأشكال والترسيمات التي صارت إلى حلية أو زينة دون توظيف نقدي يذكر، فما الذي يقوله في النهاية الشكل رقم 1 عن «صورة الدوال»، وما الذي يقوله الشكل رقم 2 عن «صورة المدلولات»؟. إنه الولع بالحداثة على سبيل المحاكاة البراقة حيناً، وعلى سبيل المحاكاة الوظيفية في إنتاج نقد جديد حيناً آخر. وما فعله الصكر، تطوير للنقد اللغوي والبلاغي بشيء من نهاجية حديثة تقترب من القابليات التي تتيحها القراءة أو التأويل أو الترميز، لعل الإطلاع على قراءته لنص آخر تبين ملامح أخرى من تحديثه لمنهجه، يقرأ في «العصا المبصرة» نصاً من ملحمة جلجامش وتبيين للمعري، على أنهما يسعفان في تبيان «تجليات التوصيل في حاسة غائبة».
يلجأ الصكر في قراءته إلى التناص سمة من سمات منهجية التفكيكية، فيقارن النصين بقصة لمحمد خضير عنوانها «إلى المأوى» من مجموعته «في درجة 45 مئوي». ويمد مجال المقارنة إلى نصوص أخرى لسارتر في «التخيل»، والجاحظ في كتابيه «الرد على المشبهة» و«البرصان والعرجان والعميان والحولان» ومعجم العين، وقصيدة لبشار بن برد، ونصاً لطه حسين في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه»، ونصاً لملتون في «الفردوس المفقود»، ونصاً من الأدبيات العراقية القديمة من كتاب «المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين ـ مختارات من النصوص البابلية»، وقصيدة للمعري، وبعض أخباره من كتاب «تعريف القدماء بأبي العلاء»، وجاء ذلك لتحديد دلالات البصر والبصيرة.
ثم عمد إلى التناص مع نصوص أخرى في تدليله على «استيهام الرؤية باللمس»، من قصيدة لابن العلاف، ومن ملحمة الخلق البابلية «عندما في غي العلى»، ومن الصفدي في كتابه «نكت الهميان في نكت العميان»، ومن قصيدة للخرمي، وقصيدة لبشار بن برد، ومن خبر عنه، ومن قصيدة للمعري، وقصيدة «المومس العمياء» للسياب، ومن كتاب جابر عصفور عن طه حسين «المرايا المتجاورة»، ومن نص لإلياس كانيتي في كتابه «أصوات مراكش»، ومن قصيدة «العميان»لبودلير، ومما يجدر ذكره أن الصكر اكتفى بالقراءة التناصية المقارنة ليؤكد أن البصيرة تفوق البصر.
قرأ الصكر في كتابه نصوصاً تراثية نثرية وشعرية في فصول، وجمع في قراءته بين النصوص النثرية والشعرية في فصل واحد أحياناً، مثل «تأملاته في فضاء الغراب» في حكاية «من رسالة الحيوان والإنسان» لإخوان الصفا، و«القدرة التواصلية في الجنون» في نص شعري لأدونيس، و«الطبيعة التواصلية للأسرار» في نص للجاحظ من كتابه «كتمان السر وحفظ اللسان»، و«الحكاية منظومة» في حكاية من حكايات «كليلة ودمنة» وفي نص شعري لحسب الشيخ جعفر نظم فيه هذه الحكاية شعراً بعنوان «صيحة الجرار»، و«انشطار العاطفة» في قصيدة لابن دلامة يرثي فيها المنصور ويهنئ المهدي، و«اتساع المشهد وضيق المكان» في نصوص متعددة، و«تعويذة القشة» في نصوص بابلية، و«كاتب الخط وكاتب اللفظ» في نص لابن قتيبة، و«المنادمة والنديم» في نص لابن المعتز من كتابه «فصول التماثيل في تباشير السرور»، و«الخبز: الرمز والجسد» في نص «جلجامش» ونصوص أخرى.
واختتم الصكر قراءاته بحديث مراوغ عن «غوايات المؤلف»، يفضح بعض أسرار صنعة التأليف، فمن «حيث يحسب المؤلف أنه يغوي قارئه باصطناع المقدمة، فإنه في حقيقة الأمر يعترف بغواياته هو: بما خضع له خلال عملية التأليف، وتسلط عليه عند إنتاج الكتابة وجذبه إلى اقتراف البوح والمكاشفة»( ). واختار مثالاً لهذه الغوايات مقدمة الجاحظ القصيرة لكتاب «البخلاء»، ليجد أن ما وعدنا به الجاحظ من حجج متبادلة يبدو مغرياً للقراءة، فهو لا يتحقق في الكتاب، لأن الجاحظ واقف في جهة واضحة من ظاهرة البخل هي الرفض.
وتفيد الخلاصة الأخيرة شيئاً من اندراج منهجية الصكر في الاستفادة من معطيات العلاماتية والتفكيكية على نحو مبسط، حين تمعن القراءة في تأويل اللغة والإشارات والرموز لتستخرج من تراكب علاقات النصوص مطاويها ودلالاتها.
2-8- اهتدى عبد الملك مرتاض إلى منهجه السيميائي التفكيكي الذي طبقه في دراسته لألف ليلة وليلة، مختلفاً الاختلاف كله عن منهجه التقليدي الذي ألف على منواله كتبه حتى منتصف الثمانينات. وعاد إلى دراسة المقامات وفق منهجه الحديث في كتابه «مقامات السيوطي» (1996). وقد اختار لدراسته مقامة واحدة هي «الياقوتية» من أربعة مستويات هي:
المستوى الأول ينصرف إلى سيميائية التشاكل في المقامة الياقوتية.
المستوى الثاني ويتعلق بسيميائية الألوان في هذه المقامة.
المستوى الثالث ويعنى بجمالية الحيز فيها.
المستوى الرابع والأخير ينصب على جمالية الإيقاع فيها.
بدأ مرتاض دراسته بمدخل تقليدي تاريخي موجز عن ماهية المقامة وشأنها في الأدب العربي، وعن السيوطي ومكانته بين كتاب المقامة من خلال ثلاثة مستويات هي المستوى اللغوي والمستوى التناصي القرآني والشعري، والمستوى الجمالي، ليظهر مدى تميز مقامات السيوطي من المقامات الأخرى، فهو مختلف عن السابقين له، واللاحقين به، على الرغم من اتباعه التقاليد العامة للكتابة الإبداعية على عهده. ولذا عقد العزم على دراسة هذه المقامات من وجهة نظر حداثية: «أن نقرأ النص ونؤوله، ونحلله أو نشرحه، لا أن نقيم من حوله هيئة محاكمة بحق أو بباطل»( )، ويخشى أن يؤدي ذلك، برأيه، إلى الوقوع في النقد التقليدي الذي لم يعد راضياً عنه.
حلل مرتاض في المستوى الأول سيميائية التشاكل في نص المقامة الياقوتية، الذي يفيد معنى المكان المتساوي أو تساوي المكان، ثم توسع في إطلاق هذا المصطلح على الحال في المكان من باب «التماس علاقة المجاورة أو العلاقة الحالية ذاتها: أي في مكان الكلام»( )، واستنكر أن يحلل أي محلل أي نص أدبي في غياب النظرة إليه من زاويتي التشاكل والتباين من وجهة، ومن زاويتي الانتشار والانحصار (ويشير إلى أن هذين المصطلحين، هما أيضاً، مما يندرج ضمن مستحدثاته المفاهيمية) من وجهة أخرى، ثم وقف جهده على تحليل ثلاثة نماذج فقط من الوجهة التشاكلية:
أولها: نموذج من خالص نص المقامة (أي من إنشاء الكاتب نفسه).
وثانيها: نموذج من الحديث النبوي الوارد في بعضها.
وثالثها: نموذج واحد من الشعر المستشهد به فيها.
ويستغرق مرتاض في التوصيف الشكلي البديعي على غرار السكاكي في تصنيفاته البلاغية والبديعية، مما يفتقد المعنى غالباً، كأن يورد أشكالاً نسجية مثل التشاكل النسجي ثلاثي الأطراف، والتشاكل النسجي ثنائي الأطراف، والتشاكل النسجي ثلاثي الأطراف يمكن ملاحظته في مستوى الكلام لدى قراءة العناصر اللسانية، عمودياً وأفرادياً، والتشاكل النسجي ثنائي الأطراف، إفرادي العناصر، والتشاكل المعنوي لعناصر الكلام، والتشاكل المركب، والتشاكل المعنوي لمراعاة أصل الصفة في ذاتها، والتشاكلات الأخرى.
لقد أوغل مرتاض في الشكلية إلى منتهاها، توصيفاً وتصنيفاً ورسماً لأشكال لا تضر ولا تنفع، دون أن يخلص في تحليله إلى حوصلة أو دلالة أو معنى، على الرغم من تألق التحليل وجمال اللغة وفطنة التدليل على عناصر المقامة، كمثل حديثه عن سيميائية الألوان خلل استعماله لمصطلح الهرمنوطيقيا أو التأويل، فقد توزع حديثه عن الألوان إلى المحاور التالية:
أولاً: لماذا الحديث عن الألوان في هذه الدراسة؟
ثانياً: ما الألوان التي تهيمن على نص هذه المقامة؟ وما الألوان التي تغيب عنها؟ ولماذا؟
ثالثاً: الألوان الصريحة.
رابعاً: الألوان المؤولة.
ولعلنا نذكر مثالاً لحديثه عن التزاوجات اللونية:
«التشكيل اللوني الأول
أبيض مع أحمر (در مع ياقوت)
أبيض مع أزرق (در مع ياقوت)
أبيض مع أصفر (در مع ياقوت).
التشكيل اللوني الثاني
أبيض مع أخضر (الدر مع الزيرجد)
أبيض مع أبيض (الدر مع النرجس)
أبيض مع أصفر (الدر مع النرجس في قراءة ثانية للنرجس).
التشكيل اللوني الثالث
أحمر مع أخضر (الياقوت مع بسط السندس)
أزرق مع أخضر (الياقوت مع بسط السندس)
أصفر مع أخضر (الياقوت مع بسط السندس)»: ( ).
وكانت خلاصات مرتاض شكلية لا طائل وراءها كمثل قوله:
«وواضح أن الألوان الأجمل، والألصق بالأنوثة، والأدنى إلى الرقة والبهاء هي الألوان التي وردت في المراتب الثلاث الأولى وهي الأصفر، والأحمر والأخضر ثم الأبيض، على حين أن الأزرق جاء في المرتبة الأخيرة، لأنه أقل الألوان وروداً في التجميل، وأندرها شيوعاً في التزيين»( ).
عني مرتاض بتحديد مصطلحاته في مطلع دراسته للمستويات جميعها، فخالف الجميع، بصريح العبارة، في فهم مصطلح الحيز Space - Espace، فأطلق لفظ «المكان على كل ما هو جغرافي، والحيز على كل ما هو خيالي، أو روحي، غيبي، غير مرئي، مثل الجنة والنار، وما وصفتا به من أحياز سحيقة، ونص هذه المقامة المطروحة للتحليل مما يشتمل على أخبار من الجنة عجيبة، أو خرافي، أو أسطوري، مثل السبل الغريبة التي تسلكها الجان، ومثل المهاوي السحيقة التي تهويها في أعمق الأعماق الأرضين، بناء على المعتقدات الشعبية العربية»( )، ولكنه ما يلبث أن يغرق الشكليات والوصف والتوصيف المجاني الذي لا يؤدي إلى معنى، ولا يضيء دلالة.
أخذ مرتاض عن السيميائية إجراءاتها، وجانب فحصها للمحتوى ومداها التأويلي لدلالات النصوص، ليصير نقده شكلياً لغوياً يشير إلى جلده ومكابدته لتلاوين المفردات والجمل وإيقاعاتها، وأغفل الفعلية والمسرودية وطبيعة النوع السردي الذي تمثله مثل هذه المقامات، ففاضت الحكائية في ألعاب اللغة وبلاغتها ورسومها كمثل قراءته الإيقاعية التالية:
«1- وشبه
وجعل.
2- بي
في
في.
3- معدني
مسكني.
4- الحور
البحور
النحور»( ).
وقد ارتأى أن يتجزأ بما قدمه من تحليل، عبر هذا المستوى من المدارسة لنص المقامة الياقوتية للسيوطي، وحسناً فعل، إذ لا طائل وراء هذا اللعب اللغوي والشكلي الذي يغطي على طبيعة المقامة السردية والفكرية والدلالية.
من الواضح، أن مرتاض يدرك تبعات منهجه، ويوحي هذا النص الختامي بإغفاله لما يشير إلى السردية وخصائصها العربية التي ميزت المقامات، لقد نظر إلى المقامات من وجهة لغوية استفادت من المنهجية الحديثة لتقع في شكلانية محضة، معولاً على دور المتلقي في تحليل هذا النوع السردي.
2-9- استند محسن جاسم الموسوي (العراق) في دراسته للتراث السردي الأدبي على مشروعه في البحث العلمي للسرد العربي قديماً وحديثاً. وانطلق من النقطة الأصعب، ألا وهي المثاقفة المعكوسة، حين خصص دراسته الأكاديمية الأولى، باللغة الإنكليزية، في مطلع السبعينيات، على أرض الغرب، لتأثير السرد العربي على الأدب الإنجليزي، وظهرت الدراسة بالعربية في كتاب «ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي ـ الوقوع في دائرة السحر» (1982)، ثم تلته كتب كثيرة عن السرد العربي الحديث: قصة ورواية، ليتوج مشروعه في نقد التراث السردي الأدبي بمنهج حديث يعد بالاستقلال الثقافي والنقدي، فقد دان في تمهيده لكتابه «سرديات العصر العربي الاسلامي الوسيط» (1997) أخذ الدراسات الكثيرة للسرديات العربية الوسيطة بآليات القراءة الغربية للسردية، بمناهجها وعلاماتها المستجدة، منذ العناية الشكلانية بالحكاية، وصعد نبرة الإدانة لارتهان الباحثين والنقاد لهذه المناهج الحديثة، «إذ لا تكفي كثرة العكازات والشواهد والإحالات على باختين وبروب، أو على الشكلانيين الروس والنقاد الجدد، أو على البنيوية الغربية، وما بعدها للإتيان بقراءة عميقة للسرديات، فالذي لابدّ منه كخطوة أولى تسبق التعامل الناقد مع النص هو توطين الذات الغارقة داخل الجهاز المعرفي وآلياته، لتأتي القراءة متناغمة وغنية. وعندما يغيب ذلك ويجري استنطاق النص مرغماً، ويستعان له بعكازات من هنا وهناك، تصبح القراءة تمريناً مدرسياً مبتدئاً، لا يغني كثيراً في ميدان يستدعي الحذر من جانب، وتدفق الاستجابة المنظمة من جانب آخر»( ).
انتقد الموسوي الرأي الآخر المنحاز إلى نماذج السرد الغربي الحديثة، وفي خضم ذلك، التبعية، وأكد أن الرواية العربية استعانت بالموروث السردي العربي، على الرغم من القطيعة، وتموضعت في أنساق المحكي، أو تناصت مع نصوصه المدونة، أو عادت ثانية إلى بنيات سياسية واجتماعية، وأخرى معرفية، تعود إلى عصور خلت، تسترجعها بشكل أو بآخر، وكأنها تعيد تمكين السرد من الامتداد في أكثر من ظاهرة ونوع. واسترجع الموسوي فكرة المثاقفة المعكوسة بشأن «شهريار المرفوض حسب معيار غربي أخلاقي هو نفسه الذي يتقمصه الغرب في علاقته بالشرق»( ). وأثار مجموعة من المشكلات التي تخص السرديات العربية الإسلامية الوسيطة: لماذا تغيب الوحدة التي تتجمع عندها المتواليات السردية في عقدة واحدة؟ ولماذا يعنى العرب بالخبر كما لم يجر ذلك في أغلب الثقافات؟ ولماذا جرى التدوين بهذه السعة؟ وكيف لنا تدبير الغائب من النصوص؟ ولماذا التقابل بين الموضوعات؟ وما سر هذا الإصرار على أخبار الصفوة؟ وكيف تظهر المدن في الأخبار؟ وما جوهر العلاقة بالشعر؟ بلغته وتحولاتها؟ وما الذي يجمع المقامات؟ وكيف تستجيب الأخبار وكذلك السرديات بعامة لوطأة الإحساس بالدهر؟.
بدأ الموسوي مشروعه بالبحث عن تسمية للمحكي بين المرويات والمنقولات والمسموعات داخل التقاليد الثقافية العربية وتطوراتها وصراعاتها، وانطلق من الإقرار بولع العرب بالأسمار كولعهم بالشعر. «يأتي الشعر بالمدونة إلى الجنس السائد والمقبول، بينما يخرق المؤلف بالمجالسة الخاصة ما هو مضروب من حجاب ضد المحكي، فتظهر المجالسات أسماراً يختلط فيها بأكثر من جنس أدبي محدد، كذلك الذي جرى قبوله وتموضع في حياة السلطات وفئاتها الأساس»( ).
ووجد الموسوي أن القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، شهد اهتماماً بتدوين المحكي، كما يشير فهرست النديم، واقترن ذلك باحتراف المسامرة والمهاترة والمنادرة، وساق أنموذجاً لذلك هو أخبار التنوخي في كتابه «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» الذي حوى حكايات تشمل على توالٍ سردي متوتر ضاج بالفعل، مما أفسح المجال لظهور مؤلفات كثيرة تحتضن الأنواع السردية بمكوناتها المختلفة والمتعددة.
وانتقل الموسوي خطوة أخرى في مشروعه من البحث عن تسمية المحكي إلى «فعل المسامر والمنادر والمهاتر: من المشافهة إلى المكتوب»، وارتبط هذا الفعل بالتدوين، «أي الارتقاء بالأسمار إلى المكتوب، في ضوء فرضيات المجتمع التراتبي، وهي فرضيات لم تفسح المجال بعد لمن يسميهم الحصري «المنادر والمهاتر والمسامر» بتغطية هذه المساحة ما دام «الراوية أحد الشاتمين»، و«السامع أحد القائلين» يقيمان في فضاء المشافهة، وليس في حدود الكتابة والتدوين»( )، وهذا ما دعاه إلى قراءة شروط المسامرة والمسامر، ومواصفات المنادر والمنادرة، من أجل معرفة السرد مزاولة وفعلاً، ويسر ذلك تقصي الجهود الكتابية، وكان الجاحظ من أوائل العلماء والأدباء الذين عنوا بالسرد، وقد حذا الحصري حذوه في كتابه «زهر الآداب»، فوضع ما يشبه «استراتيجيات السرد».
وكشف الموسوي عن أساليب الرواة، فثمة راو جامع، راوي الرواة كالحصري، وثمة راو حاضر كالأصمعي والصولي، وثمة راو شريك وفاعل كالحسن بن سهل وأبي العيناء، وثمة رواة التناسل، الذين يظهرون عن آخرين كالعتابي عن الحمدوني وغيره، وثمة راو مـرسل جرى تكليفه بذلك، أو دُعي لهذا السبيل لسبب أو لآخر، كالتوحيدي في الامتاع والمؤانسة. ونلاحظ أن الموسوي يقرأ السرديات العربية من داخلها، وبما هو أقرب إلى الموروث النقدي وقد جرى اشتقاقه استحداثاً له لا تغريباً عنه. وتخلو تسويغاته وأحكامه من الارتهان للتقليد الغربي النقدي الحداثي كما في ملاحظته على الحصري على سبيل المثال( ).
خصّ الموسوي الجاحظ بعناية فائقة، وكتب عن «مفهوم السرد عند الجاحظ: النظرية والكتابة»، إذ يكاد يطور مفهوماً للسرد يتجاوز فيه ما كان سائداً في قصيدة السرد أو في الآثار القائمة حينذاك عندما يؤخذ هذا المفهوم في ضوء تعددية النظرة وتنوع الصوت من جانب، وكذلك في ضوء غاية السرد وفعله من جانب آخر. وعلى الرغم من أن الجاحظ لم يجر التفريقات المطردة في مصطلح النادرة والحكاية والحديث والخبر والقص، إلا أن مصادرها برواتها ومنشئيها أو فاعليها، هي التي تتيح لنا تحديد المصطلحات ومفاهيمها.
ورأى الموسوي أن الجاحظ معني بثلاثة أمور تستحق الملاحظة والانتباه عند قراءة السرد العربي في عصره الذهبي الذي شاعت فيه الحاجة الاجتماعية للإصغاء والاستماع والقراءة وحتمت النقل والترجمة عن الآداب الأخرى: فهو يفرق بين النادرة والقصة، وكذلك بينها وبين التأويل، ملاحظاً أن ثمة تداخلاً بين هذه الأفعال، القاص والمحتال والمكدي واللص، وكلها تجتمع على «المحاكاة» و«التمثيل» والاسترضاء والخداع والحيلة. ويتابع الموسوي اجتهاده من داخل خصوصيات الثقافة العربية ومكانة السرد فيها، فيجد أن جميع الآراء تتفق على أن القاص أو القصاص صاحب قول ووعظ ونادرة، وكلما اتجه القصاص نحو التمثيل، اخترق الخاصة نحو العوام، إذ يردف الجاحظ، أثناء السرد، ردود فعل المتلقين، وهذا ما يجعل «النص الجاحظي قادراً على التشخيص، ويتدخل فيه الحضور والتجسيد بالخبر، فالشخص سرد، كما يكتب اللاحقون، من أمثال تودوروف، وهم يعنون بالسرد في شعرية النثر: فلا شخص بدون حدث، كما لا حدث بدون شخص، وكلاهما سرد. ولهذا يتناول الجاحظ السرد وكأنه «الحديث»، والحديث كأنه السرد»( ).
ثم تطور فعل السرد عند التوحيدي، تلميذ الجاحظ، مباركاً ملاحظات عبد الرحمن كيليطو في كتابه عن المقامات، فالذين كتبوا في المحكي من التالين للحداثة لم يخرجوا عن دائرة المقارنة الأساس التي عقدها بين الجاحظ وبين حكاة القرن الرابع الهجري. غير أن التوحيدي، يفترق عن الجاحظ، في وفرة التلميح وتعذر التصريح لديه، مثلما يتبدى هذا الافتراق في «حركية» السرد ومكوناته.
ويذكر الموسوي ملاحظات أخرى حول فعل السرد عند التوحيدي فيما يلي:
توزيع «الحديث المتباعد الأطراف» في ليال يعجز عن تكوين بنية سردية، كما أن غياب نزعة التشخيص لدى الراوي يدفع بفنه بعيداً عن الجاحظ، لاسيما في «البخلاء» لكن هذا التوزيع يسقط على الحديث إطاراً زمنياً يموضعه في زمان.
هؤلاء الرواة، سواء كانوا «بدلاء» أبي حيان، أو ظهروا كشخصيات معاصرة أو متقدمة، يشتغلون غالباً في الحوار والمجادلة، ليكون السرد متتالياً على هذا الأساس، أي تنامي المجادلة والمنطق ومتابعة الأخبار.
التوحيدي، راو شهرزادي، أكثر استقراراً واتساقاً عندما تسعفه منقولاته المراوغة، فتتعدد لديه الأصوات، ويترك لها حرية السرد.
مراعاة حاجات الحكي لدى المتلقي.
تتضمن استراتيجيات السرد لدى التوحيدي الاحتجاج والجدل والاقتباس والنقل والتضمين والإشارة والتلفيق والإهمال المتعمد. كما إنها تتضمن التصريح والمراوغة، معنية بالكلام وصنوفه أكثر من العناية برسم الشخوص ومقالب الأحداث، ومتباعدة عن «سخرية الجاحظ، وقدراته الفريدة في التسلط على أوضاع الأشخاص ومصائرهم ورغباتهم المعلنة والمكبوتة، ولذا فهو صاحب خبر وحديث.
وتابع الموسوي دراسته للسرد العربي غفران أبي العلاء المعري، وأطلق على سرده «مخاتلات النص» حيث تتطور استراتيجيات السرد، لتنحرف إلى التصريح، بتأثير تعدد الأصوات المبثوثة داخل النص، فقد اتسع الشكل الحواري والتمثيلي، وتراكيبه المتباينة وشروحه المفترضة وأدعيته واستهلالاته وتمنياته.
واستخرج الموسوي من سرد المعري خصائص وسمات أخرى، نوجزها فيما يلي:
ينبغي ألا نغفل المتلقي الضمني الذي يقيم في واقع المجالس، كما يقيم في ذهن باث الرسالة.
بروز شكل الوصايا والإخوانيات، حيث ثمة شخصية تتشكل من وراء كلمات صاحبها، وتدعي الإيثار والفداء كلما جرت المقارنة بالمرسل إليه.
تعبير تعدد الأصوات عن الصراع الكامن والظاهر، وكما يتأكد من خطاب ابن القارح تتساوى السلطة مع الحق.
توافر المحاكاة الساخرة الموضوعة لغرض التهزئة.
تتمدد الكلمات شراكاً وشباكاً يقيم فيها ابن القارح وسبيلاً لتشكل «الرحلة» أو «النزعة» سردياً على أساس مكونات الفعل الأساس، الحركة كالسير، والصوت كالإنشاد، والنظر، والمنادمة، والسؤال، والخاطرة، فالفعل الذي يتحرك من خلاله السرد لا يتحدد بالحدث الخارجي، على الرغم من أن هذا الحدث هو الإطار الخارجي لرحلة التطهير التي يمر بها «فاعل» السرد أو شخصيته المركزية من الفردوس إلى المحشر فالجحيم فالفردوس ثانية.
ويرى الموسوي أن هذه المكونات السردية، سواء اشتغلت دافعاً أو فاعلاً أو حضوراً قرينياً فقط، تتيح للسرد أن يتسع لاحتواء المشاهد والمناظرات والمقابسات والمساجلات. وقد دعم المعري سرده بأسلوب المحاكاة الساخرة، وباللجوء إلى بنية المفارقة الملغومة.
وانتقل الموسوي بعد ذلك إلى مقامات الجوابين، خطوة تالية في تطور السردية العربية، وهي المقامات التي خرجت من جبة الجاحظ، ويعلل ظهورها، في مسار شغل كيليطو وسواه، في ضوء الأنساق الثقافية، على أن الموسوي، كعادته، لا يوثق مراجعه ومصادره إلا عرضاً أو إلماحاً أحياناً. مثلما تعاني كتابة الموسوي من ضعف التبويب أو التصنيف لانغمارها بالشرح وفيض التأويل أو توليد المعاني والدلالات. وقد ذكر مصطلح كيليطو حرفياً، وأشار إلى مجموعة دراسات متصلة بالمقامات دون توثيق( ).
وعلل الموسوي تحولات المقامة وضمورها، بالنظر إلى انحرافها جنساً أدبياً عن أنساقه. وختم حديثه عن تطور السرد العربي بالوقوف ملياً عند «ألف ليلة وليلة» الذي يعد ذروته، وتلمس خصائصه في المناحي التالية:
• العناية بالوصف التزييني وبالقرائن.
• بناء وحدات القص الوظيفية على أساس الإجابة عن استفهام، فالاستفهام هو الحافز الرئيسي للحكي، والمعادل للحنق الشهرياري.
• التعددية اللسانية وما تفصح عنه دلالياً ومعرفياً، إذ تتباين بتباين الحكايات، وهي تتأكد في احتواء الاستفهام على أساس دائري ملتف، فيه الإضافة والإسراف والسجع.
• حدة جريان السرد انشغالاً بالتوصيل والتبليغ والهدم والحضور الشخصي.
نقد الموسوي حداثي يتأصل في المعرفة النقدية بلغتها وبمصطلحاتها إلى حدّ كبير، على أن سيولته في الشرح والتأويل دون توثيق أو تصنيف تجعل متابعته عسيرة، والتعريف بنقده عصياً. وما يحتاج إليه هذا النقد أيضاً هو التسويغ المنهجي وتحديد المصطلح لإضاءة قضية شائكة مثل تطور السرد التراثي، أو الموروث السردي.
2-10- تشير آخر دراسات الموروث السردي المتأثرة بالاتجاهات الجديدة إلى الأخذ شبه التام بمنهجية علم السرد التي تكونت في رحاب هذه الاتجاهات، وهذا واضح في كتابي «السرد في مقامات الهمذاني»(1998) لأيمن بكر (مصر)، و«تحليل النص السردي: معارج ابن عربي نموذجاً»(1998) لسعيد الوكيل (مصر)، ومن الواضح، أنهما يكادان ينقطعان عن الجهود العربية النقدية المبذولة في هذا السبيل كما يظهر من أمرين: أولهما حرصهما على التمهيد لدراستيهما بشروح نظرية باتت معروفة في حركة النقد الأدبي العربي الجديد، وثانيهما فقر اطلاعهما على الدراسات السابقة كما تشير مقدماتهما ومتني بحثيهما وثبتي فهارسهما، إذ ذكر أيمن بكر، على سبيل المثال، دراسة عبدالله ابراهيم «السردية» ودراسة ناصر عبدالرزاق الموافي (مصر) وعنوانها «القصة العربية: عصر الإبداع» (ط2 1996)، وهي دراسة تبسيطية تحليلية في خمسة نصوص سردية للمقامة وسواها مما أنتج في القرن الرابع الهجري.
وسع الوكيل مجال السرد ومفهومه في دراسته اعتماداً على بعض معطيات علم السرد كما عرفت في اتجاهات البنيوية وما بعدها، وقد سماها علم السرد والشعرية، مثل مفهومي الوظيفة والمتوالية عند رولان بارت، واستخلاص التركيب النموذجي للوظائف فيها، مع الإفادة من بروب وكلود بريمون، وتحليل تودوروف الخصب للأدب العجائبي (الفانتازي)، وعلاقات الراوي والمروي والمروي له، ومفهوم التداخل النصي والاهتمام بالخطاب ذاته وبما وراء النص /المتعاليات النصية عند كريستيفا وسواها.
اختار الوكيل لدراسته بعض نصوص ابن عربي، وهي ليست سردية أو قصصية لدى كتابتها، وإن تضمنت طابعاً سردياً وهي:
• الإسراء إلى المقام الأسرى، وهو كتاب قائم بذاته بتحقيق سعاد الحكيم.
• ما اصطلح على تسميته بمعراج الفتوحات، ويرد في الفتوحات المكية في الجزء الثالث ممتداً على الصفحات 345-350.
• معراج «في معرفة كيمياء السعادة» أو «معراج التابع المحمدي وصاحب النظر الفلسفي». ويرد في الفتوحات المكية في الجزء الثاني ممتداً على الصفحات 272-284.
• ما اصطلح على تسميته بالمعراج المعنوي، وهو الوارد في السفر الأول من الفتوحات المكية بتحقيق عثمان يحيى، ممتداً في الفقرات 332-365.
• معراج التنزلات، وهو الوارد في كتاب التنزلات الموصلية، في الصفحات 243-338.
أي أن الوكيل عمد إلى اختيار نصوص قليلة من نتاج هذا الفيلسوف الكبير الذي لا يُعرف بانتمائه إلى جماعة القصاصين والسراد، وإنما جعل القص والسرد أسلوباً ومطية لفكره الفلسفي والصوفي( ).
استند الوكيل في فصله الأول «بناء الوحدات الحكائية» بالدرجة الأولى على تودوروف وبروب وبارت، وسبك هذه المعرفة النقدية الجديدة في تحليل سردي يأخذ ببعض العلاماتية، وإن لم يذكر مصادرها، بينما صاغ الفصل الثاني «الرؤية وتعدد الذوات السردية» وفق مصطلحات بارت وتودوروف وجاب ليننفلت، وما أثر عنهم وعن سواهم لدى بعض الباحثين المبكرين ممن عرّفوا بطلائع هذه الاتجاهات الجديدة أمثال سمير المرزوقي وجميل شاكر (تونس)، وعبدالله ابراهيم (العراق)، وصلاح فضل (مصر).
واستفاد الوكيل في فصله الثالث والأخير «التداخل النصي» من كريستيفا وباختين وتودورف ومارك انجينو وفوكو وبعض المشتغلين الأوائل بهذه الاتجاهات أمثال بشير القمري (المغرب) وسعيد يقطين (المغرب) وصبري حافظ (مصر) ومحمد مفتاح (المغرب).
وثمة ملاحظة حول الاستغراق في تلقف الاتجاهات الجديدة، كما في نقل الحديث عن التناص بوصفه مرتبة من مراتب التأويل وعن وضع تقسيم منطقي عام للعلاقات بين النصوص دون ذكر مصدره، بينما هو مأثور ومتداول لدى المشتغلين بالنقد الأدبي العربي الجديد، وألا كيف يسوغ الوكيل ذكر هذا التقسيم في خاتمة بحثه دون تطبيقه على نصوص المعارج مثل التآلف المتطابق، والتآلف المتماثل، والتآلف المتشابه، والتخالف المتناقض، والتخالف المتنافر، والتخالف المتقاطع( ). إن هذه المعلومات لا توظف في سياق التحليل السردي لمعارج ابن عربي، مما يبين ذلك التنازع في عناصر التحليل السردي ذاته بين المكونات التقليدية وتأثيرات الاتجاهات الجديدة.
ونلمس التنازع إياه في كتاب أيمن بكر «السرد في مقامات الهمذاني»، فقد اعتمد أيضاً على علم السرد ونظرية السرد Theory of Narrative, Narratology، راصداً العناصر السردية المكونة للنص، وصولاً إلى تحديد خصائئص نوع المقامة، واعترف بكر أنه لجأ إلى تقسيم نظري يقوم عليه التحليل ويتبين نموذج ميك بالMieke Bal في كتابها «Narratology: Introduction» (1996، تاريخ طبعته الأولى في الولايات المتحدة)، على أن التقسيم النظري الوارد لا يخص من نسب إليها إذ كان بارت أول من أطلقه في كتابه «التحليل البنيوي للقصص»، أما كتاب ميك بال فهو تعريفي بعلم السرد كما أظهرته إنجازات واضعيه، كذكر ثلاثة مستويات للسرد هي مستوى الإحداث الغفل، (والأفضل أن نسميه مستوى الحكاية) Fabala ومستوى القصة Story ومستوى النص/الخطاب ****، أو أن يذكر مكونات السرد بوصفه قصة، وهي: التبئير Focalization والشخصيات Characters والزمن Tense والفضاء Space، أو أن يذكر ملامح السرد بوصفه خطاباً، وهي: الوصف Pe******ion، والخطاب Discourse والراوي ومستويات الرواية Narrator and Levels of Narration، والمروي له Narratee، والمؤلف الضمني Implied Author، وهذا هو موضوع الفصل الأول من كتابه «مفاهيم نظرية»( ).
وقد عاد بكر إلى مصادره الأساسية تعضيداً للمفاهيم النظرية في علم السرد مما عرف عن بارت وجيرار جينيت وجاب ليننفلت وجيرالد برنس وتيري ايجلتون، بالإضافة إلى الاشتغال المبكر للنقاد على مفاهيم النقد الأدبي العربي الجديد مثل حميد لحمداني وسيزا قاسم والسيد ابراهيم محمد وعبدالملك مرتاض.
وزع بكر كتابه إلى أربعة فصول، هي: مفاهيم نظرية، ومكونات القصة، ومكونات النص، وفي تأويل النص، أي أنه جمع بين البنيوية والعلاماتية في إطار بعض إنجازات علم السرد.
مايزال حال النقد الأدبي العربي الجديد هو محاولات متناغمة أو غير متناغمة بين عدد من تأثيرات الاتجاهات الجديدة، مع ميل إلى المواءمة بين النظرية والتطبيق، أو إلى تغليب أحدهما على الآخر. وعند بكر، وهو نموذج غالب على نقد الموروث السردي. إنه نقد تبسيطي يدغم، إلى حدّ كبير، مؤثرات الاتجاهات الجديدة في المتن النقدي التقليدي.
2-11- تؤشر دراسة محمد القاضي (تونس) في سفره الضخم «الخبر في الأدب العربي: دراسة في السردية العربية» (1998) إلى ذروة الاشتغال النقدي الجديد بالموروث السردي الأدبي موازنة بين تأصيل وتحديث، فثمة تمحيص شديد العمق والدلالة لطبيعة السردية العربية القديمة وتكونها واستخلاص حدودها ومفاهيمها وتاريخيتها وعناصرها الثابتة والمتغيرة من خلال فنّ سردي محدد هو «الخبر»، وقد عني القاضي بدراسته في الأدب العربي إلى منتصف القرن الرابع للهجرة. لقد دُرس الخبر مراراً من قبل، وأشار القاضي نفسه إلى بعض هذه الدراسات، واستخلص قيمتها النقدية، وإنني لا تفق معه على أنها محدودة القيمة والفاعلية لافتقارها إلى الضبط المنهجي والدقة العلمية في بحث سيرورة التقاليد القصصية العربية. وأغفل بالمقابل دراسات قاربت «الخبر» في إطار بحثها عن السردية العربي: تاريخيتها، مفاهيمها، خصائصها، قضاياها المختلفة، وكنت عالجت غالبيتها آنفاً، غير أن دراسة القاضي متميزة عن سواها بمزايا متعددة أذكر منها:
أولاً: ربما كانت هي المرة الأولى التي ينصرف فيها جهد باحث ناقد انصرافاً كلياً لدراسة الخبر في الأدب العربي بوصفه سردية عربية داخل الأنساق الثقافية العربية، من منظورات الاتجاهات الجديدة.
ثانياً: وسم القاضي منهجه المعرفي الجديد بالإنشائية (يقصد الشعرية) في السرد، هادفاً إلى الوقوف على عملية إنتاج الفن في البيئة الثقافية العربية، وعلى السمات الأساسية للمخيال الذي صدرت عنه هذه النصوص، وعلى أهم الطرائق التي بها تم هذا الإنتاج.
ثالثاً: استرشد القاضي بالمنهج المعرفي الجديد لدراسة السردية العربية متعينة في فن الخبر دون استسلام لآليات هذا المنهج أو طرائقه، مما يلزم هو طريقة نقدية معرفية لفهم السردية العربية وتشكلاتها ومصائرها من داخلها، وهو ما فعله القاضي.
وزع القاضي كتابه الضخم (744 صفحة من القطع الكبير بحروف صغيرة) إلى خمسة أبواب، وفي كل باب ثلاثة فصول، وألحقه بفهارس مفيدة: مقدمة الفهارس، فهرس رجال السند، فهرس المصطلحات، فهرس الأبيات وأنصاف الأبيات، فهرس الآيات القرآنية، فهرس الموضوعات، فهرس الفهارس.
وأعرض لموضوعاته بقدر من الإيجاز، ثم أرفق ذلك ببعض الملاحظات النقدية:
أولاً: عالج في أبواب كتابه «الخبر والأجناس الأدبية في الأدب العربي القديم»، و«قضايا الخبر الأدبي التاريخية»، و«قضايا الإسناد في الخبر الأدبي»، و«متن الخبر الأدبي» و«دلالات الأخبار». ونلاحظ أنه مزج في دراسته بين جوانب من «الوصفي التاريخي» لدى استقصائه لقضايا الخبر الخارجية ومن «شعرية السرد» لدى تمحيصه لمتن الخبر الأدبي وحدات سردية ونظاماً إخباراياً وتناسلاً للأخبار، ومن «البنيوية التكوينية» عند تقصيه دلالات الأخبار وصلتها بالواقع والإيديولوجيا الساخرة والمقنعة. ولعل القاضي أفلح إلى حد كبير في إدغام هذه الجوانب المتعددة في سياق ثقافي عربي، وهو أمر لا مندوحة عنه وصولاً إلى نتائج مجدية، فليس ينفع إخضاع الإنسان الثقافية العربية لمنهجية متغربة، بل الاستشهاد بهذه المنهجية المتغربة لفهم الموروث السردي العربي، أو السردية العربية القديمة. وقد كان القاضي على حق بقوله:
«إن هذه القضايا التاريخية هي التي تسمح لنا بمواجهة مسألة الخبر في الأدب العربي القديم، لأننا عليها سترتّب طرائق معالجتنا له، وسنتنبه إلى المعضلات التي يثيرها بوصفه ممارسة فنية ذات ضوابط محددة يتعين علينا أن نستخلص سماتها الجوهرية من خلال التحليل النصي لنماذج منها مختارة»( ).
ثانياً: لقد درس القاضي قضية الأجناس الأدبية في الدراسات عند الغربيين والعرب المعاصرين، وتبين منزلة الخبر من الأدب العربي القديم في المعاجم والمصادر القديمة، وعني بفهم الخبر في دراسات المحدثين، ووقف عند الخبر ومنزلته من فنون القص، وعند حدّ الخبر عند المعاصرين. وعاين أصول الخبر والمواقف منه: لا نثر للعرب في الجاهلية، للعرب نثر في الجاهلية، لا إثبات ولا نفي للنثر العربي في الجاهلية، ونظر في الصلات بين المشافهة والتدوين حيث الانتقال في الثقافة العربية القديمة من نمط المشافهة والتدوين مثل التعايش والاصطراع، والتاريخ والنصوص، ووقف ملياً عند دور المؤلف في الخبر ناقلاً أو ناقداً أو مبدعاً.
وفحص القاضي مصطلحات الإسناد ومقوماته النظرية، مثل معنى الإسناد، ومراتب التحمل، وشروط الأداء ومصطلحاته، ونظر في تاريخ الإسناد وتطوره في أدب الأخبار في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة، واستخلص خصائص الإسناد ووظائفه في أدب الأخبار، ولاسيما طبيعته وسماته ووظائفه. ولا يخفى أن هذه الدراسة الوصفية التاريخية للخبر هي بحث في التراث العربي أولاً وأخيراً، ولقد قام بها القاضي بمنهجية حديثة لا ترتهن لمنهج معين، بل تستفيد منها ما هو أنسب لدرس السردية العربية القديمة، كما هو الحال في دراسته لأصول الخبر، إذ استرشد برأي لهانز روبرت باوس بقوله:
«إن حديثنا عن الأخبار يظل منقوصاً مبتوراً غائماً إن نحن لم نشر فيه إلى أصول الخبر وبداياته. وهذا المبحث، وإن كان بتاريخ الأدب ألصق منه بالإنشائية، يعدّ مدخلاً أساسياً لإدراك خصائص هذا الفن، والوقوف على المراحل الكبرى التي مرّ لها في مساره. ولقد أثار علماء الفولكلور مسألة الأصول هذه حينما سعوا إلى تحديد البدايات التي انطلقت منها أجناس الأدب الشعبي، رغبة منهم في إبراز خصائصها البنائية، ومن شأن ذلك أن يقودهم إلى استشفاف السنة التي اعتمدتها فحذت خددها أو تمردت عليها، والسنة التي أنشأتها، وجعلت منها قانوناً راسخاً على مرّ الأعوام»( ).
ثالثاً: تجنب القاضي إطلاق الأحكام النقدية، واعتمد المنهجية العلمية في استخلاص نتائج بحثه القابلة للنقاش، كما هو الحال مع استنتاجه أن القرن الأول للهجرة لم يشهد بداية التأليف في الأخبار، «وإن كنا نقرّ بأن نشاط الأخبار قد شهد في هذه الفترة شيئاً من الانتشار، لأنه استطاع أن يسير على قدمين: إحداهما قيم الدين الإسلامي الجديد، ولذلك كانت المساجد المكان المفضل لدى القصاص، وثانيهما التخويض في حلبة الخيال وملامسة الأسطورة والولوج في عالم العجيب والغريب مما يتجاوز تعاليم الدين. ولعل هذا ما يفسر شعبية القصاص من جهة، ومقاومة الفقهاء لهم من جهة أخرى، لأنهم أصبحوا في نظرهم يستغلون مشاعر مستمعيهم الدينية ليطرحوا بهم في آفاق الخيال»( ).
رابعاً: حاذر القاضي باستمرار من أن يحيد عن بحث الخبر الأدبي إلى مزالق غير مأمونة فيخوض في ضروب من الأقوال تبعده عنه، أوضحها ما يتصل بالحديث النبوي، وثانيهما أن يقصر الحديث على كتاب واحد، بل على جانب منه يكاد يعد جزئياً، فيغفل عن الحركة الكلية التي تتحكم في التأليف في مجال الأخبار الأدبية( ).
خامساً: استفاد القاضي من نقاد شعرية السرد لدى دراسته «متن الخبر الأدبي» على صعوبته في اعتماد مدونات سردية إخبارية معينة، وعلى استبداد الحيرة إزاء الإشكال المنهجي، لتعذر الفصل بين المدخلين الإنشائي والتاريخي في أية مرحلة من مراحل التحليل. ولقد فعل حسناً عندما درس الخبر بوصفه وحدة سردية في حدّ ذاته، فاستخرج مقوماته وخصائصه انطلاقاً من بنيته الحديثة ووصولاً إلى بنيته الخطابية. واستتبع ذلك دراسته لعلاقة الجوار الرابطة بين الأخبار: ماكنهها وما قوانينها؟ ثم اهتدى إلى ما سماه بتناسل الأخبار، أي دراسة أوجه التماثل بين الأخبار وضروب العلاقات بينها، لا في سياق تركيبي تتابعي قوامه التسلسل، بل في جدول اختيار تتبع من خلاله المسار التاريخي للخبر، فوقف على تراكب الأخبار وتضامّها، أو تفككها وانفصال بعضها عن بعض، أو تضخم نواة خبرية أو ضمورها. ويتصل مصطلح «تناسل الأخبار» بدراسة الحكاية والأسطورة عن انتقال الوحدات القصصية من بيئة لأخرى، ومن استعمال لآخر، فثمة رحلة للوحدة القصصية أو السردية كما في ميلاد البطل أو جريمة قتل الأب، أو الخيانة..الخ.
لقد استفاد القاضي من جينيت (يسميه جونات) أو الشكلانيين الروس، وتودوروف (كتابه شعرية النثر) وبارت (وعرب عنوان كتابه تعريباً آخر مختلفاً في الشكل، وليس في المحتوى عن سابقيه: «مدخل لتحليل القصص تحليلاً بنيوياً»، وسمى الكتاب مقالة)، ومجموعة انتروفارن في كتابها «التحليل السيميائي للنصوص». وطوّر بعض الوظائف في الرواية العذرية مما أطلقه بروب، وهي: التعارف، الحب، المخالفة، العقاب، الطلب، الرد، الزواج، المحنة، الطلاق، التأزم، التزويج، التدهور، التحدي، الوداع، الموت، وهي وظائف رئيسة استنبطها القاضي من كتاب «الأغاني». واللافت للنظر أن تطبيق القاضي صادر عن استيعاب تام لإنجازات الاتجاهات الجديدة، فليس ثمة إحالة بنفسها أو كامنة على سبيل الإشارة في الفصل التطبيقي «نظام الأخبار».
سادساً: حرص القاضي على لغة نقدية عربية أو معربة ناصعة نفوراً من الترجمة أو تنافرها الاصطلاحي واللغوي أحياناً وندر أن وردت مصطلحات أو ألفاظ أعجمية أو أجنبية بلفظها، مثل لفظة الموتيف والموتيفات Motif، بينما اصطلح على تعريبها الوحدة القصصية أو السردية الأصغر( ).
سابعاً: جانب القاضي ولع الاتجاهات الجديدة بالشكل والشكلية والخصائص الجمالية، مما أقبل عليه النقد الأدبي العربي الجديد، فرأى أن عمله لم يتسم بالانتظام، لأن مقصده كان الفحص عن مكونات الخبر وآلياته بغية فهم طبيعته، «غير أن هذه الخصائص الجمالية ـ على أهميتها ـ لا ينبغي أن تصرفنا عن المسار التاريخي الذي تتنزل فيه الأخبار، وعن الحركة العامة التي تندرج فيها»( )، فوجه القاضي عنايته إلى الحاضنة التاريخية للأخبار الأدبية، ودرس دلالات الأخبار في علاقتها بالشعر: خادماً له أو مستخدماً له، وبالواقع، أسيراً له أو منعتقاً من إساره، وبالإيديولوجية الساخرة أو المقنعة حين أصبح الخبر أداة أساسية من أدوات الصراع الفكري والسياسي، وحين غلبت الصيغة التاريخية الواقعية على الخبر.
تفتح دراسة القاضي عن السردية العربية القديمة الباب على مصراعيه لتأصيل السرد العربي واستمراره في السردية العربية الحديثة، مثلما تؤكد على أن الاتجاهات الجديدة تنفع في تعضيد جهود التأصيل، إذ يسرت الكشف عن فهم السردية العربية القديمة بخصوصيتها الثقافية والفنية والجمالية، وياسرت إلى مجانبة الاستلاب الذي مايزال محدقاً في غالبية دراسات نقد الموروث السردي.
3- ملاحظات ختامية:
ولعلنا نورد بعض الاستنتاجات حول نقد الموروث السردي المتأثر بالاتجاهات الجديدة، ونوجزها فيما يلي:
أولاً: كان نقد الموروث السردي المتأثر بهذه الاتجاهات هو الأسبق على أقلام النقاد والباحثين، بالقياس إلى النقد النظري والنقد التطبيقي للكتابة القصصية والروائية العربية الحديثة، ومرد ذلك إلى سببين هما:
أ- تفاعلات وعي الهوية القومية في رؤية السرد والسرد العربي، فقد عمد النقاد والباحثون إلى الدفاع عن خصوصياتهم الثقافية، وقدامة السرد العربي وخصوصيته، فتضاعف الاهتمام بالاتجاهات الجديدة المستندة إلى الاشتغال النصي الواسع بعلم السرد الذي يتيح لهم اختبار هذه الخصوصية، ويعزز أبحاث الأصالة الثقافية.
ب- انطلاقة علم السرد من إرث الشكلانيين الروس، ولا سيما بروب الذي صارت له ذرية ممتدة لدى غالبية أصحاب الاتجاهات الجديدة من البنيويين ومن تلاهم، متأثرين بإنجازاتهم، أو مجاورين لها، أو مطورين لنهاجياتها المعرفية والنقدية.
ثانياً: كان نقد الموروث السردي الشعبي سابقاً على نقد الموروث السردي الأدبي، لأن اشتغال بروب وذريته تركز على السرد الفولكلوري، ثم اتسع، فيما بعد، ليشمل أنواع السرد الأخرى.
ثالثاً: تباينت أشكال نقد الموروث السردي من القراءة إلى التحليل إلى التنظير، وإن غلبت القراءات النقدية المستندة إلى التحليل البنيوي للسرد، والمستفيدة كثيراً في الوقت نفسه من النقد العلامي، عناية بالدلالة في مداها العلائقي وشبكة مفاهيمها من جهة، وبالحفر المعرفي في هذا الفضاء، وفي نسيج هذه الشبكة من جهة أخرى.
رابعاً: ثمة ميل لا يخفى إلى إدراج نقد الموروث السردي في كشوفات العلوم الإنسانية الباهرة في مجالات النقد الأدبي، أي إثراء النقد الأدبي بالقابليات المعرفية والمنهجية للعلوم الإنسانية، ولاسيما علم النفس والتحليل النفسي، وعلم الاجتماع الأدبي.
خامساً: بروز عدد من النقاد الذين ينشدون تأصيل مشروعهم النقدي لدرس الموروث السردي في حاضنته وأنساقه الثقافية وفي سيرورته التاريخية والفنية، اندغاماً بالتقاليد العربية في النظر إلى السرد بعد ذلك، وهذا واضح في أعمال سعيد يقطين وعبدالله ابراهيم ومحمد رجب النجار ومحسن جاسم الموسوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق