النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد
د. عبدالله أبوهيف
منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000م
الفصل السادس :
النقد النظري المتأثر بالاتجاهات الجديدة
1ـ محاولات جنينية:
شهدت أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينات بزوغ المحاولات الجنينية للنقد الجديد، نظرياً وتطبيقياً، جذاذات نقدية من هذا المنهج أو ذاك، كما في الكتب التالية: «ملامح في الرواية السورية» (1979) لسمر روحي الفيصل، و«حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث» (1979) لخالدة سعيد (سورية)( )، و«الألسنية والنقد الأدبي: في النظرية والممارسة» (1979) لموريس أبو ناضر (لبنان)، و«نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة» (1980) لنبيلة إبراهيم سالم (مصر)، و«في معرفة النص» (1983) ليمنى العيد، و«بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ» (1984) لسيزا أحمد قاسم (مصر)، و«القراءة والتجربة: حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب» (1985) لسعيد يقطين، و«مدخل إلى نظرية القصة» (1985) لسمير المرزوقي وجميل شاكر. وكان محمد سويرتي (المغرب) درس هذه الكتب في كتابه «النقد البنيوي والنص الروائي» (حزيران 1991)، ونتفق معه في غالبية الآراء والاستنتاجات التي توصل إليها. واكتفي بالإشارة إليها وإلى كتب أخرى من المرحلة نفسها كلما لزم الأمر. وأعالج أهم المحاولات النظرية فيما تلا ذلك.
ولعلنا نبادر إلى القول: إن حركة النقد القصصي والروائي ما تزال تفتقر إلى اتجاه ناجز من الاتجاهات الجديدة، إلا من تمثل لاتجاه ما واستيعابه أو تطويع أكثر من اتجاه في عمل نقدي واحد في التعريف أو التنظير أو التطبيق، وأشير في مجال النقد النظري، إلى نماذج منها، ونلاحظ أن أمثال هذه الأعمال النظرية لا تخفي ميلها إلى التطبيق، مما يصعب معه إدراج هذا العمل في خانة محددة.
2ـ تحديث الأدوات دون منهج معين:
عمد بعض الباحثين والنقاد إلى تحديث أدواتهم النقدية دون الالتزام بمنهج معين، مما يعكس ولعهم في مجاراة الاتجاهات الجديدة، ورغبتهم في الإحاطة بخصائص الكتابة القصصية معرفياً وجمالياً. وقد عني نقاد وباحثون بجزء أو بعنصر من النص القصصي والروائي، أو بخاصية من خصائصه، أو بتمحيص القول في شكل، أو نوع من أنواع النصوص القصصية، ونلاحظ في اشتغالهم النقدي بعض أدوات النقد الجديد. وسنلمح الفرق عندما نناقش فيما بعد موضوعات مشابهة، مثل الاستهلال أو البداية بين ناقد يعتمد جزئياً أو إشارة على منهج أو آخر، وناقد يستهدي بالنهاجيات الجديدة كلياً.
ونختار الناقد ياسين النصير (العراق) نموذجاً للكتابة عن جزء أو عنصر من النص القصصي والروائي. وعرف عن النصير دراساته النظرية والنقدية والجمالية للمكان في كتبه التالية: «الرواية والمكان: جزآن» (1980-1986)، و«دلالة المكان في قصص الأطفال» (1985)، و«إشكالية المكان في النص الأدبي» (1986). ثم ألف كتاباً ضمن المجهود نفسه عن «الاستهلال: فن البدايات في النص الأدبي» (1993).
انتقى النصير، كعادته، شيئاً من المعرفة النقدية الحديثة، وهذا واضح من العنوانات بالدرجة الأولى: الاستهلال والكتابة الجديدة، البنية النصية والبنائية الاجتماعية، الاستهلال لغة وبناء، بنية الاستهلال، الاستهلال بوصفه علامة... الخ، وهو واضح أيضاً في لغته النقدية، كما في تحديده للوظائف الفكرية للجملة الاستهلالية، وأوردها مختصرة:
1- إنها جزء من شكل كلي حيث هي شكل أيضاً، لكنه يتحول خلال الفعل التكراري التوليدي إلى محتوى دلالي، فالموتيفة الصغيرة (يقصد الحافز) التي نراها، وقد عممت على كل مفردات العمارة تكتسب وظيفتها الجديدة من خلال الموقع الذي وجدت فيه، والعلاقات المكانية التي تربطها مع ما يجاورها..
2- إن الوحدة العضوية للمبنى ما هي إلا تطوير اشتقاقي من الموتيف الاستهلالي عندما تتوسع هذه الوحدة، أو تدخل في علاقات جديدة تكسب وتكتسب، تنمو وتندثر. إنها أشبه بالحجيرة البشرية في الوقت الذي تكون فيه الجسم البشري، تكتسب وظيفتها ووجودها من خلال العضو الذي تدخل في تركيبه.
3- والجملة الاستهلالية المتحولة إلى علامة، والمتضمنة أول الأمر في المدخل بوصفها علامة بارزة، تتحول داخل النص المعماري إلى قيمة معيارية..
4- البعد الزمني للجملة الاستهلالية، هو حضور الماضي في الحاضر في اللحظة التي يحتاج فيها إلى الماضي، لا حاجة استدلال معرفي، وإنما حاجة تفسير، فالحاضر هو الأقوى بوصفه محصلة الأزمنة.
5- الجملة الاستهلالية في الفنون المكانية كالعمارة، والرسم والمسرح، هي جملة مكانية تستخدم لغة الفن الخاص لتدلل على نفسها.
6- لكن بعض الاستهلالات تولد غامضة، أو في المواقع الخفية من الفعل، كاستهلالات الجريمة أو السرقة أو الفعل النفسي( ).
تنطوي بعض الوظائف على أدوات بنيوية أو علاماتية «سيميائية»، وتعالج بعض الوظائف بأدوات النقد التقليدي. وفي انتقاله للحديث عن «الاستهلال السردي الروائي»، لا يحدد النصير تعريفاً، ولا يضع خصائص وسمات، بل يضع رأياً عاماً أن استهلالات الفن الروائي تميل إلى السعة والتنوع، واختار مباشرة للتطبيق رواية «الرجع البعيد» لفؤاد التكرلي، ووجد أن استهلاله عرّف بشخصيات الرواية، وبالمكان، وبنوعية الأحداث المركزية، وبحضانة الأفكار وبنى الفصول اللاحقة، وذكر روايات أخرى ذات استهلال مماثل مثل «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان، و«الثلاثية» لنجيب محفوظ، و«شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، و«المصابيح الزرق» لحنا مينة، و«اللاز» للطاهر وطار. وعالج ضمن المنظور نفسه الاستهلال الروائي متعدد الأصوات، في الروايات التي تروي كل شخصية من شخصياتها أحداثاً من وجهة نظرها، ومما يلاحظ على لغة النصير تعميمها وعدم دقتها اللغوية والاصطلاحية، كما في هذين الشاهدين:
1- تصبح الرواية متعددة الأصوات «هي الكيفية البنائية لها. كل شخصية تروي كل الأحداث من وجهة نظرها»، وليس هذا صحيحاً، لأن كل شخصية تروي الأحداث التي عرفتها أو شاركت فيها.
2- «كما يصلح هذا الاستهلال لروايات الحقب التاريخية حيث تداخلتها تنوعات الفن القصصي وكشوفات متعددة لزوايا الرؤية»( ).
ويقصد بذلك الرواية النهر أو الرواية الانسيابية، وليس ذلك الحكم صالحاً لمثل هذه الروايات، ولنذكر على سبيل المثال رواية «الحرب والسلم» لتولستوي، أو «الثلاثية» لنجيب محفوظ، أو «الثلاثية» لمحمد ديب.. الخ.
وغالباً ما يخرج النصير عن إطار الاستهلال إلى الرواية ككل، كما في حكمه على رواية غائب طعمة فرمان «خمسة أصوات»( ).
وعالج النصير الاستهلال الروائي المحوري البنية الذي يتحدد معناه «بأن ثمة فكرة أو محوراً واحداً يتكرر داخل الصفحات الأولى من العمل، فهو إما أن يكون حالاً معينة، أو مكاناً، أو موقفاً، أو زمناً ما، ويكون الاستهلال إشارة مركزة وقوية لهذه البنية المحورية ثم تتكرر في مقاطع عدة من الرواية، لتغذي مفاصل الرواية وتمدها بتصورات كلية لاحقة»( ). وذكر نموذجاً أقرب لها رواية «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف، وهي من الروايات التي ينطبق عليها وصف «الانسيابية».
وأمعن النصير في التصنيف لأنواع الاستهلال، فذكر «الاستهلال الروائي الحديث»، ومن مقوماته «قوة الأشياء وحضورها الفاعل والعمل المثيولوجي للشعب، والبعد الأسطوري للحياة المعاصرة، والشاعرية الغامضة في الأسلوب، ووحدة الزمن الإنساني، واعتماد الحس التطوري في صياغة مشروعات الغد، والرؤية الشاملة للعالم والعمق الرمزي والكثافة الواقعية»( ).
ويتساءل المرء هنا أليس ما ذكر سابقاً روايات حديثة؟!.
وشرح النصير «استهلالات الرواية القصيرة» التي تميل إلى الكثافة بطبيعتها المركزة، ولا يحدد أيضاً مفاهيم «الكثافة» و«التركيز» و«الرواية القصيرة»، على الرغم من أنه أورد أسماء روايات كثيرة تنتمي إلى هذا النوع. وقد وضع اشتراطاً عاماً، لا ينجح الاستهلال فيه «إلا متى كانت الحاجة إلى مفرداته وأفكاره مستمرة داخل العمل، عندئذ يبني كيانه اللغوي والمعرفي على شيء من تأريخية العلاقات الداخلية للنص، لا تأريخية المكان العامة أو جغرافيته»( ).
غير أن النصير نظر في «الاستهلال السردي في القصة القصيرة معتمداً على بروب، واستخلص وظائف أساسية للجملة الاستهلالية في القصة القصيرة على النحو التالي:
ثمة وضع موشك على الانهيار يراد صيانته.
استحضار بطل كفوء.
صياغة أسلوبية مبهمة، غامضة، إحالية، متفتحة.
الجملة الخبرية متعدية وغير لازمة.
كل المفردات الواردة ستوّلد مفردات ومشتقات جديدة داخل النص.
لها علاقة بنائية بالمتن من خلال فنّ حسن التخلص والانسياب.
لها علاقة ممهدة بالنهاية حيث اختتام الخلق التكويني بها»( ).
ونلحظ ثمة تداخلاً بين مفهوم الجملة السردية والجملة اللغوية، كما أن أشكالاً من الاستهلال مغفلة مثل السرد الدائري. وأفاد النصير في سياق نقده باستعماله للتوليدية بوصفها منهجاً بنائياً، يبتدئ بالشرارة التي تحتويها الجملة الاستهلالية، ومن ثم تتوسع النار في الجسد حتى إذا وصلت القصة النهاية لا يكون ثمة انطفاء أو حريق مستمر، وإنما اكتمال، فالخاتمة لا تبنى إلا وفق سياق فعل البداية، وهذه خصيصة من خصائص البنائية، ولكنه عبر عنها بغير لغة البنيويين ومصطلحاتهم. وكانت أمثلته على أكثر من عشر قصص لكتاب عرب من العراق، ناقش من خلالها مستويات الفعل في الاستهلال وهي:
المستوى الإبلاغي.
المستوى الوصفي.
المستوى الشعري.
المستوى البنائي (الزمنية ـ المكانية ـ الماضوية ـ التركيب..).
المستوى الحركي للجملة الاستهلالية..
وطبق ذلك على عدة قصص لمحمد خضير وكاظم الأحمدي وأحمد خلف وعائد خصباك. هل يشير شغل النصير إلى التعامل مع مناهج النقد الجديد على استحياء؟ ربما. وهذا هو طابع بعض الجهود البحثية والنقدية، مثل محمد غازي التدمري (سورية).
3ـ الاستعانة البنيوية الملتبسة:
سرعان ما انتشر التأثير البنيوي وما جاوره من نهاجيات معرفية، كما في كتابة صدوق نور الدين (المغرب) عن الاستهلال أو البداية من منظور أشمل وأكثر عمقاً واتساقاً في كتابه «البداية في النص الروائي» (1994)، فقد عالج موضوعه مستهدياً ببعض معطيات علم النص، فتتوارد في ثنايا نقده مصطلحات النص، كما عرفت لدى البنيويين والعلاميين واللسانيين، وأثار في مدخله العام «النص وسؤال النص، أسئلة عن «الماقبل» و«المابعد»، لما يخص العلاقة القائمة بين النص ومبدعه، وهو سؤال البداية، فإن ما يربط النص والمتلقي هو سؤال الختام.
ثم استغرق في لغة إنشائية موشاة بعبارات تنظيرية تفتقر إلى الدقة والتحديد غالباً، كأن يقول:
«على أن من النصوص التي تفرض ذاتها، سياقاتها داخل النص، إذ بإمكان قارئ النص التمكن منها، وبالتالي الإحالة إلى كون النص قد استقى منها تجليه ومظهره، كما أن بالإمكان عدم التفطن لذلك»( ).
وختم نور الدين تنظيره «المبهم» بقول تودوروف أن المبدع يؤول العالم، في حين أن القارئ يؤول الكتاب، ليفيد، برأيه، أن سؤال النص لا يكتمل إلا بسؤال القراءة.
وعالج في القسم الأول من كتابه البداية مفهوماً ووظيفة، على أن البداية مكون بنائي، والجزء المشكل للمفتتح أو المدخل، بالدخول في البداية، والشروع في خلق تآلف معها، يقود المتلقي إلى الانتقال مما هو واقعي نحو «الخيال الواقعي»( )، ثم لا يوضح نور الدين الوظيفة، على الرغم من استشهاده بمقالة هامة لصبري حافظ (مصر) هي «البدايات ووظيفتها في النص القصصي» (الكرمل 1986)، مؤثراً أن يجعل التطبيق سبيلاً لتوضيح مفاهيمه ومصطلحاته، فأشار لنصوص قصصية وروائية عربية كثيرة، من خلال إلماحاته إلى «الصوت السردي والبداية»، و«البداية ومنطق الزمن» و«البداية والمكان»، ومستعيناً بين الحين والآخر بتودوروف، وبارت، وسيزا قاسم، وتوماشفسكي، ويوري لوتمان، وباختين، وامبرتو ايكو، وجينيت. وانتقل بعد ذلك إلى عرض أنماط من البدايات، مثل البداية المتناصة، والبداية المتعالقة، والبداية الواصفة (ومنها الشعرية الخالصة، والناهضة على الزمن، والواصفة المشهدية). ونلاحظ أيضاً التداخل في هذه الأنواع، فالبداية المتناصة تماثل البداية المتعالقة، لأن التعالق مستوى آخر من التناص، أما الالتباس في تداخل الأنواع الأخرى، فمرده إلى الإيجاز المخل الذي عمد إليه نور الدين، كمثل قوله عن البداية الواصفة بشعريتها:
«وفيها تذهب اللغة على الأمداء بصور فنية قائمة على ضبط المشابهة، ويتعلق هذا خاصة بالمكان المتواجد فيه، حيث تتفاعل الأحداث وتحتد، دون أن يسقط من اعتبارنا أن اللغة الواصفة الشعرية قد تمتزج بالسياق السردي، بعيداً عن تجسيد الوقفة التأملية المحض..» ( ).
وخص نور الدين مقاربته النقدية في البداية رواية «الزيني بركات» (1972) لجمال الغيطاني، في صلة العنوان بالبداية، وفي صنعة الخيال، وفي البداية المتناقضة، ونلاحظ أيضاً خروج الناقد من علائق البداية ومكانتها السردية، إلى الانغمار بالتحليل السردي بعامة، كما في ختام كتابه: «إن تنوع الخطابات وتداخل الأجناس الأدبية يموضع الرواية في سياق من التعددية التي تفقد هذه الرواية خصوصياتها المتفردة بها، ولعل هذا ما أضفى عليها نوعاً من الأسلبة المتضحة في تنوع اللغات، وهو حسب باختين تهجين إرادي قصد إليه الغيطاني لوسم النص بواقعيته وموضوعيته كذلك»( ).
لجأ صدوق نور الدين إلى الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، ولا سيما المعنية بعلم النص وشعرية السرد، ولكن كتابته النقدية ملتبسة، لافتقارها إلى التحديد، ولا يغالها في التطبيق الموجز المخل، والأهم، لحاجتها إلى تسويغ نظري نقدي كاف مما توصل إليه علم السرد من كشوفات وإنجازات هائلة.
4ـ التعامل مع المناهج الحديثة على استحياء:
ثمة تنازع عند محمد غازي التدمري في كتابه «لغة القصة» (1995) بين التقليد والتحديث، فسادت المرجعية التقليدية استئناساً بمنهج حديث، كأن يكون سيد قطب (كتابه: النقد الأدبي، أصوله ومناهجه الصادر عام 1947 لأول مرة) المرجع الوحيد، «فالقصة الجيدة هي التي تستغل ما للنثر من قوة إيحائية ودلالية من الممكن أن تشع في سياق المفردة، كما تشع المفردة في سياق الجملة، التي يفترض فيها أن تشع وتتوهج، وتتفق صوراً وخيالات، داخل سياقات ونص القصة القصيرة المتطورة شكلاً ومضموناً بوعي دائم»( ).
بحث التدمري عن العلاقة بين القصة والشعر، وتلمس خصائص لغة القصة، مازجاً بين تعبيرات تقليدية وأخرى حديثة، وتوقف عند اختيار أدوات التوصيل، واختيار أدوات الدلالة، إلحاحاً على فهم اللغة غالباً، وعلى فهم اللغة من خلال تقنية القصة أحياناً. وقد تميز دخوله في التطبيق باستخدامه لأدوات منهجية حديثة، كما في حديثه عن حركة الفعل، أو حركة الضمير في سياق القصة، واللغة الشعرية، واللغة الإشارية، وحركة اللغة في سياق الصراع، واللغة المكشوفة والتعبير المكبوت أو الجنسي.
ويظهر التباين عن تنازعه في فهمه للسرد، فهو لم يذكره إلا في خاتمة كتابه، وقد ربطه بحدود الجملة الأساسية، على أن اللغة أوسع من «مجرد سرد»( ). وأنها المعبر «إلى فهم عامل الزمان وإشكالياته»( ).. الخ، مما يشي بتسرب بعض أدوات النقد الجديد على استحياء أو عدم الرغبة في تمثلها.
5ـ جهود نظرية تمهيدية:
ربما كان كتاب نبيلة إبراهيم سالم «نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة» (1980) الجهد الأول المكتمل تعريفاً بمناهج النقد الجديد، من بروب إلى غريماس إلى جاكوبسون، وهو جهد بدأته، كما أشرنا، في كتابها الرائد «قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية» (1974). وقد غلبت في تنظيرها منهجاً انتقائياً يقترب من نظرية التواصل التداولية اعتماداً على معطيات شكلانية ووظيفية من بروب وبنيوية ودلالية وسيميائية من غريماس على وجه الخصوص.
وتلا ذلك جهد مميز للناقدين سمير المرزوقي وجميل شاكر (تونس) في كتابهما «مدخل إلى نظرية القصة» (1985). يكمل الباحثان جهد نبيلة سالم، وفي المسعى نفسه، وإن اختلفت مصادرهما، أو مرجعيتهما، الفرنسية عندهما، والإنكليزية عندها، والصحيح أنهما لم يعتنيا بنظرية القصة، وإنما بعلم السرد Narratologie( )، لأن البحث في النظرية يستدعي معالجة جوانب أخرى لم يتطرقا إليها، وقد أضاف الباحثان إلى مرجعية سالم الشكلية البنيوية الدلالية Semantique والعلامية Semiotique مؤلفات ونظرات لجينيت وبريمون.
واعترف الباحثان بتبعات الانتقائية، بوصفها عقبة منهجية، ولكنهما وجداها «معضلة الجامعة في العالم كله، وهي كذلك مشكلة البحث الأم»( )، وأشارا إلى أن بارت قد اتهم بالوقوع فيها، ولا مناص منها، برأيهما، ما دام الانغلاق المنهجي يؤدي إلى التحجر! وتكمن مزية بحثهما النظري في أنهما سعيا إلى تنظير متكامل لعلم السرد، هو خطوة أخرى بعد سالم، وتمثلت هذه الخطوة في الإحاطة بالتحليل الوظائفي للسرد، وبتحليل النص السردي، وفي تحليل السردية والعلامية.
6ـ تسويغ عقائدي للنقد البنيوي:
وكانت الخطوة الثالثة الأهم في شغل يمنى العيد (لبنان)، وهي بدأتها في كتابها «في معرفة النص: دراسات في النقد الأدبي» (1983) الذي حاولت فيه تسويغ منهج النقد الجديد، بالاستفادة من كشوفات الشكلانية والبنيوية، ضمن منهجها الواقعي القديم، وهي معضلة كبرى بالنسبة إليها: النقد الجديد الذي يدرس بنية النص، والممارسة النقدية السالفة التي تدرس بنية المجتمع، أو تدرس النص «برؤية الخارج في هذا الداخل، أي بالنظر في النص الثقافي، وربما الاجتماعي». لتحسم تسويغها: «إن الدلالات داخل النص، وكما هي في النظرة البنيوية، موظفة باتجاه إنتاج البنية. وعليه نرى أن النص، من حيث هو حضور في المجال الثقافي، وظيفة إنتاج هذا المجال الذي ينتجه»( ).
وهكذا، انحصرت المعضلة في حدود ممارسة التقنيات والأدوات، فمثل هذا التغيير، برأيها، «يبقى في حدود البنية، لأنه لا يغير هويتها الأدبية». لقد اكتملت دائرة التسويغ المنهجي، تلمساً لعذر عقائدي: «إنه تغير في حدود شكل البنية لا يطول مفاصلها الأساسية، ولا ينتج أثرها المختلف، بل يستمر على اختلافه، في إنتاج الأثر نفسه. يستمر النص بإنتاج الأثر نفسه، ويوهمنا، نحن القراء، بأن حقيقة عالمه المتخيل هي، في هذا الاستمرار، الحقيقة. على هذه الحقيقة تطرح القراءة النقدية الواقعية سؤالها»( ).
وتابعت يمنى العيد تسويغها العقائدي للمنهج البنيوي في كتابها «الراوي: الموقع والشكل ـ بحث في السرد الروائي» (1986)، ولعلها المرة الأولى أن يحمل كتاب نقدي عربي هذا العنوان صراحة ويلتزم بالتنظير للسرد الروائي. ولم يفارقها هاجس التسويغ لمعضلة الفني والإيديولوجي، فعنيت على «تخريج» موقفها، وليس «تخريج» منهجها، لأن المناهج تعبير عن رؤية فكرية كما ذكرنا، والعيد تدرك ذلك تماماً، ولعل ضالتها التي تستقيم مع موقفها الفكري تكمن في النقد الاجتماعي وكشوفاته المذهلة التي تعرفها العيد كذلك. لقد تكررت في أثناء شغل العيد النظري أصوات ذلك التسويغ حتى مرحلة متأخرة من تأليفها النقدي، كالصوت الذي يحول المنهج إلى تقنيات وإجراءات في قولها:
«لئن كان عملي قد ركز على بؤرة مسألة الموقع للراوي، وحاول، في حدود قدرته، إظهار دلالية الشكل بإظهار العلاقة العضوية بين موقع الراوي ونمط البنية التي بها يقول، فإنه حاول أيضاً قراءة الأيديولوجي بقراءته الفني، وذلك عن طريق البحث في علاقة الراوي بما يروي، وبمن يروي، وفي ما يستخدمه الراوي من تقنيات تساعده على تحقيق روايته، أي، على إقامة تركيب لغوي فني»( ).
وامتد التسويغ إلى كتابة ثلاثة فصول من كتابها عن «النقد/ القراءة» و«التعبير ومسألة الموقع» و«الكتابة والتحولات الاجتماعية»، لتقول بعض متواتر القول في الأدب الأيديولوجي والواقعي ونقدهما لدى كوكبة نقاده العرب، وخارج الحدود من أرنست فيشر إلى روجيه غارودي إلى جورج لوكاتش، ومن محمود أمين العالم إلى حسين مروة إلى فيصل دراج، على تباين في الاستهداف والمرجعية وتكوينات المنهج، كما في مثل هذه الآراء:
- «إن الموقع هو دينامية تكون النص الباحث عن شكله الفني الخاص».
- «ليس الاجتماعي خارجاً نقرأه في داخل، بل هو هذا «الداخل» الذي صاره، وقد اختلف وتميز في بنية شكله».
- «في هذا الطابع النقدي، تبدو الكتابة محكومة بموقع هو منطقها الذي به تمارس نشاطها صياغة وقولاً لها. تمارس الكتابة نطقاً فنياً لها، تمارسه من موقع. من موقع تتكلم الكتابة، ومن موقع ترى، وبهذه الرؤية يتحدد منطق الصياغة. على أن هذه الرؤية من موقعهي شكل من أشكال الوعي. إنه أيديولوجي حركته التناقض»( ).
وقرنت العيد في بقية فصول كتابها بين التنظير والتطبيق على مسرحيات وروايات وقصص لسوفوكليس وإلياس خوري والطيب صالح ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، وينتمي تحليلها للسرد الروائي، ولا سيما أنماط بنية القص والراوي إلى المناهج الحديثة، الشكلانية والبنيوية وما عرف بشعرية السرد( )، على أن أهم محاولة تنظيرية ليمنى العيد كانت كتابها «تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي» (1990). والغريب أن العيد ما زالت في هذا الكتاب معنية بالتسويغ الأيديولوجي لمنهجها الحديث، وفاء لعقيدتها أو توافقاً معها، وبلغ التسويغ أشده حين أوحت برفضها للمنهج البنيوي الذي مارسته باتساع، وصار علامة لكتابتها:
«ولا شيء يمنع، بل لعله أصبح من الضروري أن نتملك مثل هذه المعارف لنحسن، لا مجرد استخدامها، بل أيضاً رفضها. فالرفض من موقع المعرفة هو بحث وتطور في مجالها. كما أن استخدام المعارف لا يكون مجدياً إلا بتملكها»( ).
ولعل هاجس التسويغ لم يفارقها عندما كتبت الفصل الأول من الكتاب «دراسة موضوعها الشكل» فأعادت متواتر القول حول العون الذي يقدمه تحليل هيكل البنية لنهج القراءة المؤولة، «فالتحليل الذي يتناوله هيكل البنية يكشف أسرار اللعبة الفنية، لأنه تحليل يتعامل مع التقنيات المستخدمة في إقامة النص»، كما أن «مسألة الشكل ليست مسألة شكلية، بل هي معرفة موضوعها الشكل»( ). واسترشدت بتودوروف في التمييز بين المعنى والتأويل، إذ لا قراءة خارج التأويل، أي أن النص السردي دون قراءة، دون تأويل، يمنحه المعنى (الأيديولوجي) يستحيل إلى مجرد نظر في العناصر المكونة، وبحث عن الوظائف، وتعامل مع هيكل البنية النصية، مما يؤدي إلى إفقار للنص: «برودة التشريح، وحيادية الجثة»( ).
ومن الملحوظ، أن هذا الاستنتاج قد طمأن العيد، فمضت للتنظير في تقنيات السرد الروائي. اعتماداً على بروب وجينيت وغريماس وتودوروف على نحو واسع، وباختين وبريمون على نحو ضيق.
وضعت العيد في ختام كتابها شرحاً لأهم المصطلحات والمفاهيم الواردة في كتابها، مما يضاعف من قيمة جهدها العلمي والنقدي. ودرست العمل السردي الروائي من حيث هو حكاية، ومن حيث هو قول، وزاوية الرؤية والموقع، وألحقت ذلك بدراسات تطبيقية لرواية «أرابيسك» لانطون شماس وبعض قصص زكريا تامر ومحمد خضير وإلياس خوري ويوسف إدريس.
عرّفت العيد العمل السردي الروائي، على إطلاقه، بأنه «حكاية بمعنى أنه يثير واقعة، أي حدثاً وقع، وأحداثاً وقعت. وبالتالي، يفترض أشخاصاً يفعلون الأحداث ويختلطون، بصورهم المروية، مع الحياة الواقعية». وهذا يستدعي لدراسته من حيث هو حكاية ما يلي:
«أولاً: ترابط الأفعال وفق منطق خاص بها.
ثانياً: الحوافز التي تتحكم بالعلاقات بين الشخصيات، وبمنطق الترابط بين الأفعال.
ثالثاً: الشخصيات والعلاقات في ما بينها»( ).
عدلت العيد قليلاً في ترسيمة بروب، وأوجزت بغية كشف مسار الحكاية وترابط حلقاتها السردية المحكومة بمنطق يخّصها، ليبدو «توالي الأفعال على النحو الذي هو لها، توالياً له طابع الضرورة»( )، وقد طبقت عرضها الموجز على حكاية شعبية يمنية، وأفردت فصلاً خاصاً للحوافز، استناداً لتودوروف، الذي قدم «لوحة محيطة، ولكن مختزلة ومبوبة، لمجمل الحوافز التي تحكم أفعال الشخصيات في علاقات السرد الروائي»( ).
أرجع تودوروف الحوافز إلى ثلاثة أساسية هي:
الرغبة، وشكلها الأبرز.
التواصل، ويجد شكل تحققه في الإسرار بمكنونات النفس إلى صديق.
المشاركة، وشكل تحققها هو المساعدة.
وثمة ثلاثة أخرى ضدية أو سلبية هي:
الكراهية، تقابل الحب الذي هو الشكل الأبرز للرغبة.
الجهر، ويقابل الإسرار الذي يحققه حافز التواصل.
الإعاقة، ويقابل المساعدة التي يحققها حافز المشاركة.
وتنتظم الحوافز في تحفيز (تنامي الفعلية)، ويصبح الفعل عملاً يلتقي فيه نشاط الحافز وسكونه، أي أن الأفعال تسمى العوامل، وقد اعتمدت على غريماس في وضع لوحة العوامل.
وعرضت العيد للشخصيات والعلاقات فيما بينها من خلال تحليل قصة «مضجع العروس» لجبران خليل جبران من مجموعته «الأرواح المتمردة». وأدى ذلك إلى لزوم «استخدام مجموعة من التقنيات، تدفع إلى التفنن واللعب لخلق هيئة القص وإبداع القول أو الخطاب» (ص68)، أي العمل الروائي من حيث هو قول، فدرست ثلاث مقولات هي: زمن القص وهيئة القص، ونمط القص، وأوضحت علاقات زمن العمل القصصي، وهي الترتيب أو النظام والمدة والتواتر. وألمحت إلى اقتصار جينيت وحده على أهمية هذه النقطة، موضحة أن التواتر «يتحدد بالنظر في العلاقة بين ما يتكرر حدوثه أو وقوعه، من أحداث وأفعال على مستوى الوقائع من جهة، وعلى مستوى القول من جهة ثانية»، وهذه النقطة يعبر عنها أيضاً بتعليل الواقعة في النقد الانكلوسكسوني، وهي ضرورية ملازمة للخطاب القصصي لتمييزه عن مستوى الحكاية/ سرد الوقائع( ).
وشرحت العيد مقولة هيئة القص، معددة أنواع الرواة، وهم:
الراوي بضمير الأنا.
الكاتب الذي يعرف كل شيء، أو كلي المعرفة.
الراوي الشاهد.
كاتب يروي من خارج، غير حاضر.
وكان شرحها مختزلاً مبسطاً، وكذلك فعلت في عرضها لمقولة نمط القص، وتتوزع هذه الأنماط إلى نمط أسلوبي يتصف بالمباشرة، ونمط أسلوبي يتصف باللامباشرة، ونمط أسلوبي لا مباشر حرّ. وختمت تنظيرها بعرض زاوية الرؤية والموقع، باختزال وتبسيط أكثر من ذي قبل، ولم تلتزم فيه باجتهادات الشكلانيين ونقاد شعرية السرد الذين جعلوا «التبئير» موضع جدل لا ينتهي؛ وإن قاربت، على سبيل الإشارة، قضية المبدأ الحواري أو تعدد الأصوات عند باختين، فقد أثارت سؤالاً حول موقع الراوي في حال «اختلاف الأصوات واختلاف المواقع»، وهل هذا الاختلاف «مجرد تنويع على صوت الراوي الواحد وتعدداً له»( ).
عدت العيد كتابها تعليمياً، وهذا واضح، في عرضها الشارح، وفي ابتعادها عن مناقشة الكثير من القضايا المنهجية لعلم السرد وفروقاته بين باحثيه ونقاده. ولا يخفى أن ظلال التسويغ العقائدي للاشتغال بمنهج شكلاني حديث لم تنجل عن عملها النظري النقدي، مما انعكس في النتيجة نقداً توفيقياً لنهاجيات نقدية حديثة جهدت كثيراً لتوفير الاتساق والانسجام لفكرته وآليته وإجراءاته ولغته.
7ـ الجهد التنظيري الأول المكتمل:
كان شغل سعيد يقطين الجهد التنظيري الأول المكتمل لتحليل السرد وفق منهجية جديدة هي السرديات البنيوية، وظهر هذا الشغل في كتابين، الأول كبير في محتواه وصفحاته هو «تحليل الخطاب الروائي: الزمن ـ السرد ـ التبئير» (1989)، والثاني أصغر هو «انفتاح النص الروائي: النص ـ السياق» (1989).
يكاد يجزم يقطين في تقديمه أن النقد العربي يفتقر إلى تصور نظري للرواية في سؤال مفتوح على التجربة العربية، وكان سمى كتابه الأول «القراءة والتجربة: حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب» (1985)، مما يشير إلى تداخل في المفهوم بين الرواية والسرد والخطاب ما يلبث أن ينزاح لصالح علم السرد، عندما وضح أن موضوع كتابه «تحليل الخطاب الروائي» ليس الرواية، ولكن الخطاب، وليس الخطاب غير الطريقة التي تقدم بها المادة الحكائية في الرواية»( ). وصرح يقطين أنه يعنى بكيفية اشتغال مكونات الخطاب وعناصره، منطلقاً من السرديات البنيوية كما تتجسد في شعرية السرد (سماه الاتجاه البويطيقي) ( ) الذي يعمل الباحثون على تطويره وبلورته بشكل دائم ومستمر، وعبر تتبعه للعديد من وجهات النظر داخل الاتجاه نفسه، وحرص على «تكوين تصور متكامل مزاوجاً بين عمل البويطيقي وهو يبحث عن الكليات التجريدية، والناقد وهو يدقق كلياته ويبلورها من خلال تجربة محددة»( ).
وأوضح يقطين أنه وقف على ثلاثة مكونات في تحليله للخطاب الروائي، هي الزمن والصيغة والرؤية السردية، وهي «المكونات المركزية التي يقوم عليها الخطاب من خلال طرفيه المتقاطعين: الراوي والمروي له. أي أننا وقفنا عند حدود ما يعرف بالمظهر النحوي أو البنيوي، وهذا إجراء أساسي يفرضه علينا التحليل السردي»( )، على أنه سينتقل في كتابه «انفتاح النص الروائي» إلى المظهر الدلالي أو الوظيفي، ولجأ إلى التطبيق تيسيراً لتحليله، فدرس في عملية أولى رواية «الزيني بركات» لجمال الغيطاني دراسة جزئية، ودرس في عملية ثانية أربعة خطابات دراسة كلية هي «الوقائع الغريبة» لإميل حبيبي، و«أنت منذ اليوم» لتيسير سبول، و«الزمن الموحش» لحيدر حيدر، و«عودة الطائر إلى البحر» لحليم بركات، واعتنى على وجه الخصوص بعلاقة الراوي بالمروي له في الخطاب.
وضع يقطين مدخلاً إلى تحليل الخطاب الروائي، عرف فيه الخطاب، وعرض لعناصر تحليل الخطاب الروائي، واتبعها بتصوره لتحليل الخطاب الروائي العربي. وقد وجد أن أولى محاولات تحديد الخطاب كانت مع هاريس وبنفنست، وتطور مع فرانسوا راستيه ود. مانكينو وجان كارون وج. موشلر ومايكل هو وغيرهم.
وميز بعد ذلك بين القصة والخطاب، وتلمس تحديد مفهوم النسق والوظيفة، لينتقل إلى إقامة تصور جديد لتطور الأشكال تاريخياً، وكانت انطلاقته من الشكلانيين الروس مروراً بالبنيويين ونقاد شعرية السرد والنقد اللساني والعلاماتي، ولا سيما تودوروف وجينيت ويلمسليف وموريس جان لوفيف وفاولر ولودج وسوزان روبين سوليمان ورولان بارت، وشلوميت ريمون كينان وغيرهم، فناقش الآراء المتصلة بالاستعمالات الثلاثة للحكي، وهي:
القصة Histoire: المدلول أو المضمون السردي.
الحكي Recit: الدال أو الملفوظ أو الخطاب أو النص السردي.
السرد Narration: الفعل السردي المنتج»( ).
وأعلن يقطين في بحثه لحدود السرديات موقفه من تقسيمات الحكي إلى ثنائية وثلاثية وفق أسس وأهداف معينة في ناحيتين هما:
«الأولى: أعلن فيها انطلاقي من تمييز تودوروف وجينيت الثنائي للحكي إلى قصة وخطاب. ووقوفي في تحليل الخطاب الروائي على ما أسميناه بـ «المستوى النحوي».
الثانية: أدخل فيها مفهوماً هو النص، وضمنه أجدني انتقل من «المستوى النحوي» إلى «المستوى الدلالي» الذي لا يهتم به تودوروف وجينيت، وإن أعطانا تودوروف في «البويطيقا» حضوره كمستوى لم يهتم به السرديون البنيويون بعد. وفي هذه الناحيةأجدني أمارس تقسيماً ثلاثياً للحكي على غرار شلوميت وفاولر وليتش، لكن من منظور مغاير، وإن كانت الأهداف واحدة: الانتقال من البنيوي إلى الوظيفي»( ).
وكان هذا الإعلان سبيلاً للانتقال من المظهر النحوي إلى المظهر الدلالي، ومجاوزة للسرديات البنيوية وتوسيعها بما سماه السوسيو سرديات، فاستفاد من مشروع بيير زيما الذي بُني على السيميوطيقا أولاً، والنظرية النقدية مع جماعة فرانكفورت ثانياً، بينما يريد يقطين مشروعه الآخر المنطلق منه، وهو ما يشكل محتوى شغله في كتابه. وعبر يقطين عن مشروعه بأنه يبحث في علاقة زمن القصة بزمن الخطاب، وعلاقة ذلك ببناء النص. «وإذا كنا في صيغ الخطاب نتحدث عن نوعية العلاقات بين الخطابات وكيفية اشتغالها: خطاب مسرود، معروض، منقول. فإننا في المتعاليات النصية سنتحدث عن علاقة النصوص بعضها ببعض ضمن «نص الرواية». وهكذا لن نتحدث عن خطاب مسرود مثلاً، ولكن عن مناص وتناص وميتا ـ نص.. ونبحث في كيفية اشتغال النصوص، داخل نص الرواية، وأبعادها النصية»( ).
عالج يقطين «الزمن في الخطاب» انطلاقاً من تعريف عام، وتقديم نظري، ونظرة الروائيين الجدد للزمن، ولسانيات الخطاب والزمن، وصولاً إلى موقف الشكلانيين الروس، وتوقف عند «خطاب الحكي» لجينيت، والمحددات الأساسية للزمن مما عالجته يمنى العيد أيضاً، وهي علاقات الترتيب وعلاقات المدة أو الديمومة وعلاقات التواتر. وعرض وجهات نظر كثيرة لجان بويون في كتابه «الزمن والرواية»، وبول ريكور في كتابه «الزمن والحكي»، وناقش إشكالية الزمن في العربية، ليجدد إعلانه مجاوزة تحليل زمن الخطاب من خلال السرديات البنيوية ولسانيات النص إلى «زمن النص» من «خلال العلاقة بين زمن الكاتب وزمن القراءة بوضعها في إطار تحليل النص، وبوضعه في إطار بنية سوسيو ـ لغوية شاملة»( ).
ثم عالج يقطين «صيغة الخطاب» منطلقاً من بيرسي لبوك وصولاً إلى نقاد شعرية السرد، ومؤكداً أن التحليل البنيوي للحكي استوى منذ أواسط الستينيات، وتوقف على وجه الخصوص عند ثلاثة أنواع من الخطاب في كتاب جينيت «حكي الأقوال» هي الخطاب المسرود، وخطاب الأسلوب غير المباشر والخطاب المنقول، وما يتبعها من تقنيات تكشف عن تقديم الحياة النفسية هي:
السيكو ـ سردي: تحليل أفكار الشخصيات التي يتكلف بها الراوي مباشرة.
المونولوج المنقول: وهو تلك الاستشهادات الحرفية للأفكار كما هي ملفوظ بها في الخطاب الداخلي، وليس «المونولوج الداخلي» هنا إلا متغيراً وتنويعاً أكثر استقلالية وذاتية.
المونولوج المسرود: الذي يقوم به الراوي تحت شكل الخطاب المباشر مقيداً كان أو حراً» (ص185)( ).
ويلاحظ أن يقطين يميل إلى تحليل جينيت الذي يأخذ عنه أنماط تقديم الكلام. وثمة تصنيفات أخرى للمادة الحكائية وصيغ سردها بسيطة أو مركبة. وعندما انتقل إلى تعدد الخطاب/ تعدد الصيغ، رصد عناصر الخطاب وأشكال الخطاب، وخصوصية صيغة الخطاب، ممعناً في التفصيلات الكثيرة التي وصل إليها علم السرد، وهي تفصيلات شكلية قليلة الجدوى، مما يذكرنا بتفريعات العلوم البلاغية المتأخرة كما عند السكاكي مثلاً، وتشير خلاصة الفصل الثاني على سبيل المثال إلى الصعوبات التي تحد من طموح مشروع يقطين النقدي من حيث الإمعان في الشكلانية ولسانيات الخطاب الذي يحدّ من توسيع السرديات البنيوية إلى مدار السوسيو سرديات، إذ ظل التحليل النظري والتطبيقي في حدوده البنيوية الشكلانية.
لا يخفى أن الوظيفية تدعيم للبنيوية، ولا تحقق غايات سوسيو سردية. ولعل تأمل شغله حول الرؤية السردية في الخطاب الروائي مما يؤدي إلى هذه الغايات. وقد عاد إلى مفهوم وجهة النظر في النقد الأنكلوسكسوني، ولا سيما لبوك وفريدمان، بوصفه منطلقاً لمفهوم «التبئير» في النقد البنيوي الفرنسي وما تلاه، وفي النقد السوفياتي، ولا سيما أوسبنسكي الذي قدم وجهة النظر على نحو شمول، تتصل «اتصالاً وثيقاً بتوليف العمل الفني بصفة عامة. ولما كان هدفه صياغة مشروع نظري مرتبط بنمذجة الممكنات التوليفية، من خلال ما يسميه «بويطيقا التوليف»، فإنه انطلق من أجل ذلك من «وجهة النظر»، ما دامت تتيح للفنان فرصة توظيف وجهات النظر وتنويعها داخل العمل الذي يتجسد، على مستوى بنائه، من خلالها». وقد رهن اوسبنسكي وجهة النظر بالمواقع التي يحتلها المؤلف، والتي منها ينتج خطابه السردي، وعاين هذه المواقع من خلال أربعة مستويات هي: المستوى الإيديولوجي، والتعبيري، والمكاني ـ الزماني، والسيكولوجي.
أما جينيت فقد استبعد مفهوم «الرؤية» و«وجهة النظر»، وعوضها بمفهوم «التبئير» الذي هو أكثر تجريداً، وأبعد إيحاء للجانب البصري الذي تتضمنه باقي المصطلحات، وقسمه إلى ثلاثة أقسام هي:
«1- التبئير الصفر أو اللاتبئير: الذي نجده في الحكي التقليدي.
2- التبئير الداخلي: سواء كان ثابتاً أو متحولاً أو متعدداً.
3- التبئير الخارجي: الذي لا يمكن فيه التعرف على دواخل الشخصية»( ).
إن انحياز يقطين لجينيت يتعارض مع السوسيولوجي، ويؤثر سلباً في توافر المعرفة الذاتية أو الموضوعية، أو ما يسمى في النقد الاجتماعي التملك المعرفي للعالم عبر تملكه جمالياً. ويزداد الالتباس أو التردد في موقف يقطين من جينيت أنه سجل ملاحظة دالة، فهو على الرغم من كونه «يقدم «التبئير» بديلاً عن باقي المصطلحات الموظفة، فإنه لا يقدم لنا أي تعريف له»( ).
لقد عرض يقطين التطور التاريخي والنقدي لمصطلح «التبئير» يحدد على ضوء ذلك استعماله لهذا المفهوم، وهو استعمال متعسف غارق في الشكلانية وولع ترسيماتها، اقتداء بجينيت بالدرجة الأولى. استعمل يقطين المفهوم «بمعنى «حصر المجال» من خلال اشتغال «الصوت السردي» كراو ومبئر في آن، أي كذات للتبئير هذه الذات «المبئر» تكون إما داخلية أو خارجية، ونفس الشيء يكون «المبأر» موضوع التبئير، سواء كان شخصية أو حدثاً أو مكاناً. ومن خلال نوعية العلاقة التي يقيمها المبئر مع المبأر يمكن أن نتحدث عن «المنظور السردي»، مكان التبئير الذي نحيله إلى نوعية الشكل، و«عمق المنظور» الذي نحيله إلى نوعية «الصوت»، وهكذا»( ).
وأورد تصنيفات وترسيمات كثيرة مثل الرؤية البرانية الخارجية (وتقابل عند جينيت التبئير الصفر)، والرؤية البرانية الداخلية (وتقابل عند جينيت التبئير الخارجي)، والرؤية الجوانية الداخلية والرؤية الجوانية الذاتية (وهما تقابلان عند جينيت التبئير الداخلي).
واختتم يقطين كتابع بالوعد. إنه بصدد معاينة يحتاج إليها مشروعه: إلى أي حدّ يتطابق هذا الخطاب كمستوى نحوي مع النص كمستوى دلالي في علاقته بالبنية النصية والاجتماعية التي أنتج فيها، أي أننا نحاول الانتقال من «البنيوي» إلى «الوظيفي» أو الدلالي، من السرديات إلى السوسيو سرديات»( ) وهو ما سيفعله في كتابه الثاني «انفتاح النص الروائي: النص والسياق» (1989).
سعى يقطين في هذا الكتاب إلى توسيع السرديات البنيوية التي وجدها في سوسيولوجيا النص الأدبي، كما بلورها بييرزيما، بعض تساؤلات مطروحة «بصدد النص في علاقته بالقارئ والسياق الثقافي والاجتماعي الذي ظهر فيه»( ).
وحاول إقامة هذا التصور الذي يتيح الانتقال من الخطاب إلى النص، من البنيوي إلى الوظيفي، من خلال مكونات محددة هي: 1- البناء النصي. 2- التفاعل النصي. 3- البنيات السوسيو نصية. وقد عاد في مدخله إلى مقدمات كتابه الأول «تحليل الخطاب الروائي» للدخول في علاقة الخطاب بالنص، وتوقف ملياً عند فان ديك في كتابه «النص والسياق» (1977) الذي يبين فيه «الفرق الموجود بين الخطاب والنص، من خلال الهاجس نفسه، وهو إقامة نحو عام للنص يأخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد البنيوية والسياقية والثقافية، أي من خلال الجوانب الدلالية والتداولية»، وهذا يتطلب، برأيه، «نظرية مركبة تستفيد من السوسيو ـ لسانيات والسيكو لسانيات وغيرهما.. لتتاح إمكانية معاينة النص من خلال خصائص السياق المعرفي والاجتماعي والأيديولوجي للأشكال والدلالات والوظائف»( ). غير أنه ما يلبث أن يظهر ارتياحه للنقاد البنيويون ونقاد شعرية السرد أمثال جوليا كريستيفا وميشيل آريفي وروبير لافون وفرانسوار مادري وبول ريكور أثناء حديثه عن النص ونظريته. ثم يتحرك يقطين بسرعة طائر بين المناهج والنظريات، ليبدي إعجابه بـ«ليننفلت» الذي يجد عنده الطموح نفسه، ولا سيما إعلانه «عن ضرورة توسيع السرديات ومجاوزه الترهينات السردية: الراوي ـ العامل ـ المروي له، التي وقفت عندها السرديات، ويقترح ضرورة إدخال ترهينات أخرى تتصل بالكاتب الملموس والقارئ الملموس. وعن طريق النموذج الذي يقدم يرى أنه يتيح إدماج عناصر أساسية ظلت مهملة مثل أيديولوجية الرواية وسياقها السوسيو ـ ثقافي، وتلقيها من لدن القارئ»( ).
ووضع تعريفاً أو تصوراً للنص على أنه «بنية دلالية تنتجها ذات فردية أو جماعية، ضمن بنية نصية منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة». وقد طبق هذه المكونات على الروايات التي عالجها في الكتاب الأول، وكانت النتائج متكلفة ومتعسفة غالباً تحت وطأة الإنهاك الشكلي والتفريعات الزائدة، ففي الحديث عن البناء النصي صال وجال في بناء النص على المستويين الداخلي والخارجي بتفريعات أثقلت التحليل والنقد، كما في هذه النتيجة على سبيل المثال:
«1- زمن القصة: قبلي وخارجي.
2- زمن الخطاب:
- زمن النص (الكتابة): آني وداخلي.
- زمن النص (القراءة): بعدي وخارجي»( ).
وقد ضاعفت من وطأة إنهاكها الشكلي كثرة الترسيمات والأشكال مما يجعل الكتابة النقدية لغزية. ولعل تأمل التركيب الذي وضعه في ختام الفصل يشي بذلك، إذ تعذر تلخيص استنتاجاته، وغابت عنه التفريعات الشكلية.
وحوى الفصل الثاني من كتابه «التفاعل النصي» تمهيداً يوضح استعماله لهذا المصطلح مرادفاً لمفهوم «التناص» Intertxualite أو المتعاليات النصية Trans****ualite كما استعملها جينيت بالأخص، مما يؤكد ولعه بالمنهج البنيوي، وقد فضل مصطلح «التفاعل النصي»، لأن «التناص» واحد من أنواع «التفاعل النصي»، أما مصطلح «المتعاليات النصية» فيفيد دلالات لا يريدها، أو لا يتضمنها مصطلحه «التفاعل النصي».
عرض مصطلح «أيديولوجيم» دون أن يشرحه عند حديثه عن النص والتناص، وتابع تطورات مصطلح التناص باختزال واضح، واعتنى بمصطلح جينيت وتفريعه للمتعاليات النصية، وهي: 1- التناص، 2- المناص، 3- الميتانص، 4- النص اللاحق، 5- معمارية النص، دخولاً في تصوره لمصطلحه «التفاعل النصي». ولدى التطبيق على النصوص الروائية المدروسة، بدا التكلف أيضاً، بسبب الإيغال في الشكلانية وتفريعاتها، ويتأكد هذا في الاستخلاصات الواردة في التركيب بخصوص مقولة انفتاح النص الروائي:
«1- إن البنيات النصية المتفاعل معها مستوعبة ومحولة ومعارضة، ومن خلال ذلك تصبح بنيات لها وجودها الداخلي في النص.
2- بذلك تسهم إلى جانب البنيات التي اعتبرناها «أصلية» في بناء النص وتبنينه (لاحظ هذا الاشتقاق المتكلف أيضاً).
3- إن انفتاح النص على صعيد البناء يوازيه انفتاح آخر على بنيات نصية أصبحت جزءاً منه، وبذلك فهو يتفاعل معها ويحاورها»( ).
وخصص الفصل الثالث والأخير للبنيات السوسيو ـ نصية، وانطلق، على مألوف عادته، من الشكلانيين الروس، ليصل إلى النص في علاقته بالبنية السوسيو نصية، مستلهماً تصور بيير زيما دون مجاراته فيما سماه «الوضع السوسيو لساني»، وقد تألف تصور يقطين من المكونات التالية:
1- الربط بين النص والبنية النصية الكبرى والبنية السوسيو نصية التي أنتج في إطارها زمنياً لمعاينة إنتاجيته أو عدمها.
2- الربط بين النص والمجتمع كما يتجلى ذلك في تفاعل النص مع البنية النصية الكبرى والسوسيو نصية من خلال النص ذاته، على اعتبار كون العلاقة بين هذه البنيات هي علاقات تفاعل وجدل: علاقات هدم أو بناء، علاقات صراع أو تعايش.
3- إن النص والبنية الكبرى والصغرى والبنيات الاجتماعية ليسوا متفقين (هكذا!) على ذاتهم، فالتفاعل المسجل بينهم جميعاً كما يتجلى من خلال النص، نجده أيضاً في علاقاتهم أيضاً مع بنيات أخرى خارجية (أجنبية)، وعلى المستويات جميعاً. ويختلف دور هذا التفاعل مع هذه البنيات الخارجية باختلاف مراحل تطور المجتمع وبنياته السوسيو نصية في تحولاتها.
4- كل هذه التفاعلات علاقات بين البنيات في مختلف تجلياتها لا تتم إلا من خلال تفاعل الذات من خلال فعل مزدوج: الكتابة والقراءة. سواء كانت هذه الذات ذات الكاتب أو ذات القارئ»( ).
أراد يقطين نصاً منفتحاً تكون معه القراءة متفتحة على السؤال والبحث، وقادرة على الاستفادة من الإنجازات الهامة في مجالات علوم الأدب والعلوم اللسانية والاجتماعية بما يسهم في إغناء للوعي بالذات وللنصوص التي تنتج، أي إغناء المنهج الذي به نحلل والنص الذي نقرأ. ولقد استطاع أن يهتدي إلى مشروعه النقدي، وأن يحدد كثيراً من عناصر تركيبه في استهدافه ومرجعيته وطبيعته وإجرائيته، ولكن ثمة ملاحظات تحتاج إلى إعادة صوغ الأسئلة، وإعادة خوض الممارسة النقدية حول اللغة التي تحتاج إلى عناية أكبر، والمصطلح القلق بين مرجعيته الغربية وتعريبه، والتقليل من حدة التأثير الناجم عن توليف مناهج متعددة، وتحديد الموقف من هذه القطيعة المعرفية مع الموروث النقدي العربي.
8ـ نحو علم السرد:
في أواخر الثمانينات، صارت المناهج الحديثة إلى رسوخ، واتسعت الكتابة النقدية النظرية، وظهرت مؤلفات تتناول جوانب من النقد القصصي والروائي والسردي الجديد، فروعاً لشجرة كبيرة نامية هي علم السرد، بالإضافة إلى أشجار أخرى تُسقى من مياه العلوم الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع، لتتأسس في التسعينيات اتجاهات للنقد القصصي والروائي الجديد. ونتابع الجهود النظرية أيضاً.
كان كتاب عبد اللطيف محفوظ (المغرب) «وظيفة الوصف في الرواية» (1989) من أوائل الكتب التي تتناول جانباً محدداً من جوانب نظرية الرواية وفق نهاجيات النقد الجديد. وتكمن أهمية هذا الجهد في إضاءة عنصر الوصف من منظورات نهاجية جديدة، مستندة إلى قدر معرفي باتجاهات نقد الرواية المتأثرة بالعلوم الإنسانية كالتحليل النفسي والنقد الاجتماعي، ولذلك لا ترتهن الكتابة النقدية عنده إلى مرجعيات النقد الجديد كلياً، بل تستفيد منها للإحاطة بمكانة الوصف في مجمل بناء الرواية وتأديتها لوظائفها. وقد اعتمد محفوظ في مدخله على مبدأ النمذجة الكتابية، وهو مبدأ تقليدي متصل بمبدأ المحاكاة، انتعش في حضن النقد الاجتماعي، ولاسيما النقد الأيديولوجي الماركسي، فأعاد قول باختين بأن الرواية جنس أدبي غير مكتمل، لأنها تتطور بفضل التحولات التي تسم النمذجة الكتابية، بما في ذلك النمذجة الأيديولوجية والغريزية والاستيتكية، وهذا التعليل لجوليا كريستيفا. ومن هذا المدخل، يكتسب الوصف أهميته «باعتباره يدخل بامتياز في تكوين النمذجة الاستيتكية، فضلاً عن قدرته الخارقة على المساهمة في خلق باقي النمذجات وإسعافها في تحقيق الغايات والأبعاد التي تتغياها» (ص5)، غير أن محفوظ سرعان ما استعمل المرجعية البنيوية ونقاد شعرية السرد على نحو مضمر غالباً، نعرفه من المتن نفسه، كاستعمال «الخطاب» و«مورفولوجية» و«السرد» و«التزامن» وسواها، كما في تعريفه للوصف أو مناقشته لمورفولوجية الوصف:
«الوصف يعرف عادة بكونه ذلك الخطاب الذي ينصب على ما هو جغرافي أو مكاني أو شيئي أو مظهري فيزيونومي.. الخ، سواء كان ينصب على الداخل أو الخارج. ويمكن أن يحصر الوصف في شكل دليل مركب، في شكل كلمة أو جملة أو متتالية من الجمل»( ).
فرق محفوظ بداءة بين الوصف والأنماط الكتابية التي تقاربه كالاستعارة والصورة، واعتمد في تعريفهما على رولان بارت وباشلار، ودرس وظيفة الوصف في الرواية، باعتباره تعبيراً لغوياً يتعالق مع السرد من خلال إشاراته وأفعاله بما يؤدي إلى تعالق قائم بين الوصف المعطى والشعور الباطني الموجه له، وهو ما يسمى بالعلاقات الممكنة بين حركة الوصف وحركة النفس، ووضع خطاطة لذلك لإبراز التعالقات بين المحفز الضمني، والنص الكائن الرامز، والنص الممكن المرموز إليه.
وانتقل محفوظ إلى قضية أكثر عمقاً تطرحها عملية التشكل، هي مورفولوجية الوصف، وبفضلها يضطلع الوصف بوظيفة خطيرة في خلق الدلالة الكلية للنص الإبداعي، ولها ثلاثة جوانب إشكالية هي مشكل الانتقاء، ومشكل الأوصاف، ومشكل التوارد التدريجي. وقام بتحليل تطبيقي على نصوص متعددة ليربط دلالة الوصف بالنص ككل، عبر المراحل التالية:
1- تحديد العين الواصفة، هل هي عين السارد أم عين الشخصية أم هي عين جماعية؟
2- دلالة النص الوصفي المعزولة.
3- دلالته في سياق الرواية بصفة عامة. ودرس بعد ذلك بالتفصيل علاقة الوصف بالسرد الروائي، محتذياً كلمة مفتاحية لجان ريكاردو، تقول: «كل عمل تخييلي هو مكان احتراب متواصل»، وميز بين الوظيفة السردية والوظيفة الوصفية، مشيراً إلى وجود سرد وصفي حين تندغم الوظيفتان، وإلى وصف موجه من قبل السرد، وهو أكثر تعقيداً، ويخلق احتراباً متفاوت الدرجة بين السرد والوصف، وله ثلاثة مستويات:
1- الوصف البسيط: ويقصد به الوصف الذي يعطى من خلال جملة وصفية مهيمنة قصيرة، لا تحتوي إلا على بعض التراكيب الوصفية الصغرى.
2- الوصف المركب: ويقصد به الوصف الذي ينصب على الشيء الموصوف (العنوان) الذي ينتمي إلى السرد الروائي، شريطة كون هذا الوصف معقداً، إما بفضل الانتقال من الموصوف إلى أجزائه ومكوناته، أو بالانتقال إلى المحيط الضام لهذا الموصوف أو المضموم ضمنه.
3- الوصف الانتشاري: ويقصد به الوصف الذي يراكب الأشياء والمشاهد واللوحات، بشكل يسمح له إعلان نفسه محوراً مهيمناً، يخضع لمشيئته محور السرد.
ويضع محفوظ ترسيمة لتعالقات السرد والوصف تستوعب قابليات علاقة الوصف بالحدث، «حين يصبح السرد وحده مضطلعاً بمهمة سرد أحداث مخبوءة ومتسربة عبر سراديب الجمل الوصفية»( ). وألحقها بترسيمات متعددة لعلاقة الوصف بالزمن، باعتباره يقوم بوظائف مختلفة في مجرى علاقة زمن السرد الروائي (الخطاب) وزمن الحكاية:
«1- حين يكون الوصف معبراً عن الحدث، فإنه يصبح اقتصاداً لغوياً، ومن ثم، فإنه يسرع بزمن السرد على حساب زمن الحكاية.
2- حين يكون الوصف تأملياً، أو ملاذاً لشخصية ما، حيث تبتعثه بصرية الشخصية (سواء كانت البصرية منصبة على الداخل أو الخارج) للهروب من انفعالات منبعثة من أحداث محرجة، فإن العلاقة بين الزمنين تتوازى.
3- حين نكون أمام ما أسميناه بالسرد الوصفي، حيث نكون أمام إبطاء ضئيل يسم الحكاية، وإطالة طفيفة لصالح زمن الخطاب بواسطة الأوصاف.
4- حين يكون الوصف تحليلاً محضاً لنفسية الشخصية، أو يكون توضيحاً للسرد أي حين يكون حشواً بتعبير ريكاردو، فإننا نحصل على زمن شبه متوقف في الحكاية.
5- أما حين يكون الوصف منصباً على الشيء أو المكان أو المظهر الخارجي لشخصية ما دون أن يكون هذا الوصف دالاً على أحداث ضمنية، فإن الحكاية تتوقف تماماً. وبذلك نحصل على علاقة متنافرة بين محوري الكتابة والحكاية، حتى لتبدو كتابة الحكاية، حكاية للكتابة حيث التوقف التام للحكاية»( ).
وقدم محفوظ دراسة تطبيقية منهجية في الفصل الثاني والأخير من كتابه عن «الوصف في مدام بوفاري»، من مستويين: مستوى الطبيعة ووصف الخارج، ومستوى وصف الداخل والأشياء. وعالج في المستوى الأول المناخ العام للوصف والبنيات المشكلة للوصف، والشكل الدلالة، وفي المستوى الثاني دلالة الأشياء في سيرورة الحكي، ودلالة الأشياء في علاقتها مع الشخصيات.
تشير دراسة محفوظ إلى تطور استعمال النهاجيات الحديثة من حيث هي خطوة نحو تعريب المصطلح، ومن حيث هي خطوة في هضم هذه النهاجيات واستيعابها في التنظير.
9ـ رؤية الاتجاهات الجديدة في سياقها التاريخي والمعرفي:
كان كتاب صلاح فضل «بلاغة الخطاب وعلم النص» (1992)، أول محاولة منهجية علمية لرؤية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية في سياقها التاريخي والمعرفي، وتكتسب هذه المحاولة أهميتها من كونها تصدر عن عالم وناقد عرف بمقدرته التنظيرية، وبممارسته النقدية المتزنة والمتوازنة الذاهبة إلى مدى عميق في تأصيل المناهج الحديثة في الثقافة العربية، كما في كتبه «منهج الواقعية في الإبداع الأدبي» (1978)، و«نظرية البنائية في النقد الأدبي» (1977)، و«علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته» (1982). وينزع في كتابه الجديد منزع «مجموعة من العلماء العرب الطليعيين في المشرق والمغرب، ومهدت له الأسلوبية بصفة خاصة»( ).
نظر فضل إلى عالم السرد وتحليل النص السردي في إطار تشكل بلاغة الخطاب وعلم النص، على أنه تطور لهما في الإطار المعرفي الجديد الذي شهد عمليات تحول كبرى، تنتقل فيها بالتدريج، أعداد متزايدة من العلوم الإنسانية، عن طريق الضبط المنهجي والتراكم المعرفي والتوالد عبر التخصص، إلى منطقة البحث «الأمبيريقي» التجريبي.. بحيث لم يعد كثير منها ينتمي إلى ما يسمى «بعلوم الروح التي لا تقبل الاختبار والتحليل والتقادم، بل أخذ يدخل في مجال «النظرية» بالمفهوم العلمي، ذات الفروض والعناصر المحددة، فشرع في درس تحول الأنساق المعرفية، لأنه مهاد لازم للإطار العلمي الذي تنبثق منه بلاغة النص الجديدة. و«لما كان علم الأدب لا يهتم سوى بالنصوص الأدبية، وعلم النص يتكئ بصفة خاصة على مجال اللسانيات، بدراسة الملفوظات اللغوية بكليتها والأشكال والأبنية المختصة بها، والتي لا يمكن وصفها بواسطة القواعد اللغوية، من هذه الزاوية فإن علم النص يقترب من الميدان الذي كان مخصصاً للبلاغة، بحيث يرى العلماء أنه الممثل الحديث لها. وإذا كانت «التداولية» (Pragmatique) هي أحدث فروع العلوم اللغوية (لا يورد تعريفاً لهذا المصطلح ولا يسوغه منهجياً)، وهي التي تعنى بتحليل عمليات الكلام والكتابة، ووصف وظائف الأقوال اللغوية وخصائصها خلال إجراءات التواصل بشكل عام، مما يجعلها ذات صيغة تنفيذية عملية، فإن اندماج الخطاب البلاغي الجديد في علم النص يتيح له تشكيل منظومة من الإجراءات المنهجية القابلة للتطبيق على المستوى التداولي»( ).
إن مفهوم النسق المعرفي في الفكر الحديث مرتبط بالبحوث التي قدمتها دراسة الأطر الاجتماعية للمعرفة. وقد دار جزء كبير من البحوث الاجتماعية اللغوية حول خواص الأبنية الصرفية الصوتية والدلالية، بما يفيد أن القدر الأوفر من الدراسات الهامة المتعلقة بالخطاب قد أجري خارج نطاق علم اللغة، خاصة في علوم مثل الأنثروبولوجية والاجتماع، بالإضافة للبلاغة الجديدة والشعرية. وتكون فرع هام في مباحث علم الإناسة يسمى «إثنوجرافيا الكلام» حيث تدرس الأنماط المختلفة للخطابات المستعملة في الثقافات العديدة، مثل القص والألغاز واللعب بالكلمات والسباب وغيرها من أساليب السرد والأسطورة. وقد أدى تطور نظريات اللغة ذاتها، برأي فضل، إلى تجاوز الثنائية التي كانت مثمرة في حينها، ولم تلبث أن أصبحت وهمية، والتي تضع المقاربة المنبثقة في مقابل المقاربة الخارجية.
وتوقف فضل عند مفصل هام هو بزوغ البلاغة البنيوية العامة، وهو الاتجاه الذي تبلور في عقد الستينيات من هذا القرن، في كتابات مجموعة من النقاد البنيويين من المدرسة الفرنسية والألمانية، حتى أعلنته «جماعة م Groupe M في بحوثها المتتالية. ويتميز بعدد من السمات، من أهمها قطيعته الفعلية مع التقاليد البلاغية القديمة، وغلبة الطابع غير التاريخي عليه. وارتباطه الوثيق بالتجربة الشكلية. واتخاذ مبادئها وسيلة لإضفاء الطابع العلمي، لا الأيديولوجي على بحوثه. بعد تغير المنظور العام بانتصار البنيوية وما بعدها، خاصة عندما قام علم اللغة بدور العلم القائد، وتزعم في الثقافة الغربية المعاصرة الاتجاه المحدد إلى التحليل التقني. مما برزت معه العلامة Signe باعتبارها نقطة البدء في استكشاف الرسالة طبقاً للمفهوم المتداول في علوم الاتصال الحديثة.
وتلا ذلك استكشاف آليات التحليل التداولي للخطاب وطرائقه مما أفاد علم السرديات “Narratologie”. ثم لم تلبث هذه الاتجاهات في تحليل الخطاب أن أسفرت في تطورها خلال السبعينيات عن منظومة متسقة من الإجراءات المنهجية التي تفيد من المنظور التداولي في اللغة بقدر ما تستثمر إمكانيات التحليل السيميولوجي للوحدات الوظيفية في النصوص تحت عنوان شامل هو تحليل الخطاب.
ثم انتقل فضل إلى دراسة الأشكال البلاغية من ناحيتين الأولى بنية الشكل البلاغي، فيما يخص مفهوم الشكل وتحديد الأشكال وتحرير الوظائف، والثانية هي إعادة رسم الخرائط وصلاتها بالبلاغة والأسلوبية ومستويات التصنيف.
لقد صار ميسوراً لفضل أن يتحدث عن علم النص بعد هذا التمهيد الطويل عن بلاغية الخطاب، إذ إن مفهوم النص يبنى من جملة المقاربات التي قدمت له في البحوث البنيوية والسيميولوجية الحديثة، دون الاكتفاء بالتحديدات اللغوية المباشرة، لأنها تقتصر على مراعاة مستوى واحد للخطاب، هو السطح اللغوي بكينونته الدلالية. من هنا، فإن تعريف جوليا كريستيفا J. Kristiva، على تشابكه، قد ظفر باهتمام خاص، لأنه يطعن في كفاية النظر إلى هذا السطح، ويبرز ما في النص من شبكات متعالقة. فالنص عندها عملية إنتاجية.
وثمة انعطافة أخرى، من انعطافات كثيرة شهدتها عملية تشكل عمل النص، هي تصور لوتمان I. Lotman لآليات التحليل الدلالي للنص الفني يمكن الاسترشاد به لملء فجوة التحليل النوعي للنصوص الأدبية وأبنيتها الخاصة.
ويرى لوتمان بالرغم من ذلك، أن هذه العمليات لن تقدم سوى هيكل عم أولي للنص، إذ أن وصف كل الروابط الماثلة في النص، وجميع العلائق الخارجية له يعتبر مهمة غير واقعية لضخامتها وقلة جدواها. وعندئذ تتجلى ضرورة اختيار المستويات المهيمنة للكشف عن الأبنية الدالة، مع توضيح أسباب الاختيار ونتائجه في إضاءة النص. ولعل تأمل جوهر هذه الانعطافات، في لغتها ومصطلحها وإجرائيتها، يشير إلى مدى إيغال علم النص في الشكلية والتعقيد، وهما مظهران أساسيان للسرديات وعلم السرد بعد ذلك، لأن علوم النص وجدت في هذا المجال ميدانها المفضل لتطبيق مبادئها عليه، كما أوضح فضل في فصله الأخير من كتابه الهام «تحليل النص السردي». وتناول فيه ثلاث قضايا هي «بلاغة السرد» و«أساليب السرد وأنماطه» و«سيميولوجية النص السردي».
التفت فضل عن إغراء كتابه تاريخ لنظريات السرد، إلى «تحديد موقف معرفي آني يبغي اكتشاف تجليات دراسة الخطاب الأدبي في مجال القص باعتباره نصاً مكملاً»( ). وانطلق من كتاب W. Booth «بلاغة القص» الذي ما يزال بعد مضي نحو ثلاثين عاماً على صدوره منبعاً كلاسيكياً للسرديات في النقد العالمي( ).
وعني فضل بموقف بوث من قضية المعنى وتعدده، وعزا ذلك إلى تأثره بالمناخ الثقافي السائد، حين وجد «أن حديث بوث عن أحكام القيمة واهتمامه بطبيعة المضمون الأيديولوجي للنص الروائي كان مرتبطاً بما شاع من تيارات نقدية في منتصف القرن عند انتصار الوجودية والاشتراكية النقدية في أوروبا، وتأثر النقاد الأمريكيين بهذه التيارات، وذلك قبل غلبة النزوع التقني الذي لا يتحرج من تبني المذاهب الشكلية لدى البنيويين، والتعديلات التداولية التي أدخلت عليه فيما بعد، مما سنقف عليه وعلى ما أعقبه من منظور سيميولوجي في علوم السرديات»( ).
وعرض فضل لأساليب السرد وأنماطه الذي تأثرت بإنجازات الرواية الفرنسية الجديدة، واستحضر قولاً لميشيل بوتور، أحد أعلامها، M. Butor مفاده أن الرواية لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب، بل بمجموعها. ثم مضى خطوة إلى الأمام مع ميخائيل باختين M. Bajtin الذي كان أهم من طرح نظرية التنميط الأسلوبي للنص الروائي.
أما الخاصية الجوهرية للغة الرواية عنده فهي الحوارية والإنارة بالتعدد، فلغة الرواية هي نظام لغات تنير إحداها الأخرى طوراً. وكان هذا التحليل التقني لأنماط السرد مدخلاً لاستكشاف الأساليب وتوضيح الأنماط النصية، وهي انعطافة أخرى إلى نقاد شعرية السرد، وقد وجد فضل أن النموذج التحليلي الذي قدمه جينيت يكاد يكون «أهم نموذج بعد «بوث» استوعب المقولات السابقة عليه، وقدم تأطيراً منظماً لأسس السرد الفني، فأصبح منطلقاً حتمياً لمن يحاول تعديله وتكييفه مع مقتضيات الخطاب النقدي النظري أو التطبيقي»( ).
وأبدى فضل استغراباً في محله هو أن جينيت «لم يترجم إلى العربية، مع أن كثيراً من الباحثين يتكئون كلياً أو جزئياً عليه، بحيث لا نكاد نتقدم في مجال السرديات خطوة حقيقية دون الإحالة على تصوراته، هذه التصورات التي أصبحت تقع في مركز التحليل التقني للنص السردي»( ).
ثم ختم فضل تحليله للنص السردي بعرض المقاربات السيميولوجية للنص السردي، لما تتيحه من آفاق خصبة في طرح قضايا التحليل التقني في إطار منظومة أشمل لدوائر النص الموسعة. واختار لذلك ما قدمته جماعة م من مقترحات تتصل بالسرديات، حيث يتمازج لديها المنظور البلاغي للخطاب بالتناول النصي، الأمر الذي يفضي ببلاغة الخطاب إلى أن تتحول إلى علم النص، واستند في نظرته إلى أن البحوث الحالية في الأبنية السردية أفضت إلى تصورات جديدة ذات طابع دلالي وإشاري، «فلم تعد تقف عند «سطح النص»، وتجري «على عينات» منه بدلاً من تبادله بأكمله، وذلك على أساس أن «بنية السرد» مستقلة عن الوسائل اللغوية التي تقدمها»( ). ويحتل جريماس مكانة أثيرة في هذا الاتجاه، فقد اعتمدت السرديات السيميولوجية على أسس كثيرة، أوضحها ما يطلق عليه «مربع جريماس» وعلاقته بالفواعل وكيفية الحال ومفهوم الحقيقة في السرد، والتأثير الناجم عن هذه الكيفيات مما يسمى بسيميولوجيا العواطف، وقد عرضنا لمثل هذا في مكان آخر من هذا البحث، لأن جريماس أثير عند أصحاب هذ النقد النظري على وجه العموم.
وثمة محاولات علمية أخرى أفادت من هذه المقولات السيميولوجية ومزجتها بنتائج النمذجة السردية، واجتهدت في إقامة هيكل عام منظور لبلاغة النص السردي هي محاولة «جماعة م»، وهم اعتمدوا في شغلهم على التمييز الذي وضعه يلمسليف I. Hjelmslev بين شكل التعبير ومادته، وشكل المضمون ومادته. وعلى هذا، فإن علامة سوسير Saussure تتحول إلى وحدة مكونة من شكل المضمون وشكل التعبير، وقائمة على التضامن بينهما، مما كان يسميه الوظيفة السيميولوجية، وعندئذ تصبح الوحدة ذات وجهين، مفتوحة على اتجاهين، صوب الخارج حيث مادة التعبير، وصوب الداخل حيث مادة المضمون.
وعالج فضل، في هذا المجال، الفروق البارزة بين أنواع الخطاب الروائي والمسرحي والسينمائي، وما هو متداخل بينها، أو يتبادل التأثير. ومما اعتنى به فضل في سيميولوجية النص السردي «حركة الضمائر وتماهيها وتبادلها في نسيج القص، يرتبط بمشكلات الصوت والمنظور كما رأيناها عند جينيت، وإن كانت «جماعة م» البلاغية تقدم رؤية أخرى مركبة منها، ومن غيرها من العناصر»( ). فقد رهنوها بالأشكال البلاغية من خلال تمثيل الراوي وعلاقة الراوي بالشخصيات، واستخلصوا لذلك الأشكال التالية: الحذف، أو الإضافة، أو حذف وإضافة أو استبدالا، ويخضع التعامل معها إلى أشكال العلاقات السببية في السرد. بيد أنهم طوروا أيضاً أشكال المحتوى اعتماداً على التصنيف الذي قدمه بارت لوحدات القص ووظائفها الأصلية النووية، وعدلوا نموذجه الوظيفي كي يشمل الوظائف التالية:
الأصلية أو النووية.
الشخصيات والمؤثرات.
حوامل المعلومات.
الفواعل وعلاقتها بالشخصيات.
وقاموا في نهاية الأمر بمحاولة طريفة لربط الأدوار السردية بالأشكال البلاغية من كتابة ومفارقة واستعارة على أساس تحليل الوظائف والتأثيرات الناجمة عن حالات السرد في ضوء هذه المعايير.
لم يغفل فضل، في تقديره لهذه المؤشرات النظرية لوسائل وتقنيات تحليل النص السردي، عن مغالاتها الشكلية وسياقها المعرفي الآخر الذي انتج في الغرب، غير أنه رهن جدواها الحقيقية في الأدب العربي الحديث بأمرين: أولهما تطبيقها، وثانيهما عالمية العلم. إن كتاب صلاح فضل علامة من علامات النقد النظري للاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية، للأسباب التالية:
1- التعامل مع هذه المناهج الحديثة وفق منظور نقدي بالنظر إلى موقعها التاريخي والنظري من جهة، وبالنظر إلى مكانتها في امتلاكها سبيلاً من سبل وعي الذات القومية من جهة أخرى.
2- تعريب هذه المناهج النقدية لا مجرد نقلها، على الرغم من أنه قرأها بغير لغاتها، أي عن اللغة الإسبانية، ما دامت غالبية مصنفاتها مكتوبة باللغات الأوروبية الأخرى، الإنكليزية أو الفرنسية أو الروسية أو الألمانية وغيرها.
3- لا ينقاد لهذه المناهج، متلمساً مفاصلها وآلياتها الجوهرية، قاصداً إلى تعريفها، لا الاستغراق في شكلانيتها وتعقيداتها والتباساتها، واضعاً إياهافي لغة نقدية واضحة.
10ـ تنامي عمليات نقد الاتجاهات الجديدة:
تابع عبد الرحيم الكردي جهود النقاد والباحثين العرب الذين وضعوا الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية نظرياً وتطبيقياً نصب أعينهم، وقد اختار لكتابه النقدي عنواناً صريحاً ومباشراً هو «السرد في الرواية المعاصرة: الرجل الذي فقد ظله نموذجاً» (1992)، فهو يعزز النظرة النقدية إلى هذه الاتجاهات نحو تأصيلها في التفكير النقدي العربي، على الرغم من الميل إلى التوفيق بين عدة اتجاهات، ومن الجلي، أن الكردي منشغل بأهمية تحديث المنهجية، ولكنه مدرك تمام الإدراك للإشكالية الناجمة عن ذلك، فبادر إلى ما يسمى بالتفاعل الثقافي الحضاري، أو ما يؤثر بعضهم أن يسميه بالمثاقفة الإيجابية، أي نفي الطابع الاستعلائي المهيمن لثقافة الآخر على الثقافة العربية.
بذا، تصبح كلماته في مقدمة بحثه ذات دلالة، فقد أثبت بحثه «أنه يمكن الاستفادة من المناهج الغربية في تحليل النصوص العربية بعد تطويعها لمنطق العقل العربي، دون أن تؤدي هذه الإفادة للذوبان والتغريب، بل إلى إثبات الذات والبرهنة على القدرة على الأخذ والعطاء»( ).
عدّ الكردي دراسة السرد الروائي من أكثر الدراسات النقدية الحديثة خصوبة وصعوبة، بل عدها من أكثر المقولات تعقيداً، مستهدياً بقول تودوروف. ومرد هذه الصعوبة إلى «ثلاثة جوانب، اثنان منها يتعلقان بمصطلح السرد، وهما: اضطراب مفهومه، وعدم وجود حدود قاطعة لمجالاته، وأما الجانب الثالث فيتعلق بتعدد المناهج والاختصاصات التي تتزاحم على ساحة الدراسات السردية»، وإذا كان هذا الرأي صحيحاً، فإن ذلك لا يعفينا من الإقرار بأن المصطلحات جميعها تشكو من التحديد والتعريف والتنوع الاستعمالي والوظيفي، وكان عبر الكردي نفسه عن ذلك خير تعبير في مقالته الواسعة والمعمقة «أزمة المصطلح في النقد القصصي» (فصول 1987). ولعله أراد من ذلك أن يجلو هدفه من كتابه، و«هو كشف مقومات السرد في الرواية المعاصرة، وتحليل عناصره ووظائفه وتقنياته، تحليلاً منهجياً منضبطاً، باعتبار السرد أكثر العناصر أهمية في النص الروائي، وباعتباره أيضاً أقوى المؤثرات المنشئة للدلالة فيه»( )، ولعله أراد أيضاً أن يسوغ نزعته التوفيقية في توكيده «على أن البحث في استناده إلى هذا المنهج حرص على ألا يذوب فيه، بل حاول الإفادة من أدواته في استكشاف جوانب السرد في الرواية المعاصرة، دون أن يصمّ أذنيه عن أدوات أخرى استخدمها أسلوبيون آخرون غير «ليتش» و«شورت» من أمثال «سبيتزر» و«فاولر» و«لودج» و«باختين»، كما أنه أفاد من قراءته لأعمال الشكلانيين والبنائيين، مكوناً لنفسه اجتهاداً خاصاً في التفسير والتحليل، اجتهاداً لا يقوم على الانتقاء الذي قد تتناكر مفاصله، بل على الاستفادة والاستيعاب لما يقبله الذوق العربي المصقول الضارب بجذوره في أعماق التراث، والمتطلع إلى كل نافذة تشع بضوء جديد»( ).
انقسم الكتاب إلى قسمين، قسم نظري وآخر تطبيقي، ونعرض للدراسة النظرية بالتحليل والمناقشة. وقد عمد، مثل بعض الباحثين والنقاد السابقين في المبحث الأول منها إلى العناية بالمداخل اللغوية في تحليل النصوص، وأشار مثلهم أيضاً إلى «أن المدرسة الشكلية كانت أقدم المدارس التي أفادت من الغويات في مجال تحديد موضوعها في الأدبية وليس الأدب»( ).
وأجمل بحثه في ثلاثة اتجاهات تمثلها ثلاثة نماذج:
النموذج الأول: ويعتمد على أن موضوع تحليل النص الأدبي ليس هو الأدب، وإنما الأدبية، وهذه الأدبية، عالجها «موخاروفسكي» و«توماشفسكي».
النموذج الثاني: وهو لـ«بروب» حيث أفاد من تقسيم «سوسير» للغة إلى «لغة» و«كلام»، وأفاد من أبحاث سائر أعضاء المدرسة الشكلية وأعضاء حلقة براغ اللغوية، عن موضوع الدراسة الأدبية، وحاول كشف النقاب عن الأنماط الثابتة والهيئات المتغيرة في الحكايات الشعبية الروسية.
النموذج الثالث: الذي وضعه ميخائيل باختين وهو يقفز بالفكر النقدي قفزة جديدة، إذ يتعامل مع النص الروائي بوصفه لغة تعبر عن لهجات المجتمع وأصوات أبنائه، فالرواية، حسب رأيه، ليست سوى تقليد للصراع الطبقي، أو تجسيم له، عن طريق اللغة.
ثم جاءت بعد ذلك المدارس البنيوية الأوروبية، ومن نماذجها «رولان بارت» و«ليفي شتراوس» و«تودوروف» و«جيرار جينيت، وكلها أفادت من المدرسة الشكلية ومن الدراسات اللسانية المعاصرة لها. وناقش في هذا الإطار جهود ثلاثة باحثين ونقاد عرب اقتفوا أثر البنيوية الأوروبية، وينتمون إلى بيئات عربية مختلفة، وهم سيزا قاسم ووليد نجار ويمنى العيد. وتناول بعد ذلك «الأسلوبية الحديثة، وهي مدرسة انجلوسكسونية، يقوم منهجها على نقض الأساس الذي قامت عليه البنيوية الأوروبية.
وخصص المبحث الثاني من دراسته النظرية لتحليل السرد، فحدد مفهومه، واتبعه بحديث عن السارد، والفرق بينه وبين كل من الراوي والعاكس، ثم بين أنواع الرواة وأنواع الساردين، والمحتوى السردي ودوره في تشكيل السرد، ووظائف السرد وعلاقتها بالوظائف اللغوية عند «هاليداي»، وأساليب الخطاب السردي أو طرق الاستحضار، أي طرق استحضار الأفعال والأزمنة والهيئات والأمكنة والأحاديث والأفكار. ثم قدم تصوراً لنموذج تحليلي يمكن استخدامه في تحليل السرد الروائي، ويعتمد هذا النموذج على تقسيم السرد إلى ثلاث طبقات هي: لغة السرد وطرق الاستحضار السردي، واتجاه السرد وتركيبه وحجمه. على أنني سأكتفي بعرض بعض المسائل التي لم تلق عناية كافية عند سواه من النقاد والباحثين.
أعاد الكردي حصر أنساق التحفيز، نقلاً عن «نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس»، وهي: التحفيز التأليفي والتحفيز الواقعي والتحفيز الجمالي، وأضاف إليها تحفيزاً رابعاً هو التحفيز السيكولوجي، ولعل إضافة هذا النوع من التحفيز، لا ينسجم مع تصنيف الشكلانيين لها، لأن التحفيز يتجه إلى اتساق الوحدات الجمالية داخل العمل الفني، أي أنها بعنايتها بالتنامي الفعلي، وهو معنى التحفيز، وبتشكيلها لنسيج أغراض هذا العمل الفني، تفيد فعالية الحوافز، وهي الوحدات القصصية الأصغر، في التركيب، وهنا مكمن تحذير توماشفسكي: «إذا كانت أجزاء العمل سيئة الاتساق، فإن العمل ينحل»( ).
ولربما كان استخدام الكردي لتصنيف التحفيزات ناجماً عن هذه التوفيقية التي لازمت شغله، وهي ليست ناجعة أو نافعة دائماً. ثم عرف بنموذج رولان بارت دون أن يعنى بتطور هذا المنهج من مرحلة لأخرى، ودون أن يتقصى ملابسات تبدل المصطلح أو تغير استعماله، كما هو الحال مع مصطلح «الإنشاء» الملتبس مع مصطلح الشعرية، موضحاً أن بارت قصد «من هذا المستوى الجانب اللغوي في النص، أو نظام الرموز الذي يربط بين قطبي النص الروائي: المنشيء، والمتلقي داخل النص ذاته، فالمنشئ هو الكاتب، لكنه الكاتب الكامن في النص، والمتلقي أيضاً هو أحد العوامل المضمنة في النص، مثله مثل الكاتب أو الشخصيات، ووظيفته هي تلقي خطاب المنشيء والتجاوب معه»( ).
وقد اختار نموذج ليفي شتراوس، ولا يعول عليه عادة في السرديات، ولا يفيد القول إنه يدخل «الأساطير والحكايات الشعبية والقصص في دائرة هذا المجال الأنثروبولوجي، باعتبارها جميعاً من نتاج العقل الجمعي»( )، فليس شتراوس ممن اشتغلوا في علم السرد، بل استفاد من السرديات في شغله الإناسي.
ونلاحظ أن الكردي لا يعتمد في تعريفه للنماذج السردية على مصادرها الأساسية أو نصوصها الأصلية، فقد عرف بجوانب من نموذج تودوروف، على سبيل المثال، اعتماداً على مراجع أخرى مثل «النظرية الأدبية المعاصرة» (1991 بالعربية) لرامان سلدن، و«نظرية البنائية في النقد الأدبي» (1977) لصلاح فضل. ويؤثر الكردي الاختزال الذي لا يفي بالغرض أحياناً، كما في عرضه لنموذج جيرار جينيت.
واستخدم الكردي مصطلح الأسلوبية الحديثة لدى تفحصه لتأثير اللغويات على تحليل النص الروائي، معتمداً على إنجازات النقد الانجلوسكسوني، التي لطالما أهملها النقاد والباحثون ذوو المرجعية النقدية الفرنسية، ومن أصحاب هذه الإنجازات ريتشاردز I. A. Richards، وكان تحدث عن الوظائف بوصفها طاقات كامنة في اللغة، تمكن المتحدث من استخدام الشيفرة اللغوية في نقل أفكاره وأحاسيسه ومشاعره إلى الآخرين، ولعل أقدم محاولة لتقسيم اللغة إلى وظائف تنسب إليه، وهذه الوظائف هي المعنى sense (لعله يريد المغزى أو الغرض) والشعور Feeling والنغمة Tone والقصد Intention، وتطورت هذه الوظائف عند بوهلر Buhler إلى وظيفتين، إحداهما لغة المشاعر والثانية لغة الأفكار، وعند جاكوبسون إلى ست وظائف هي: الوظيفة المرجعية Referential والوظيفة الانفعالية Emotive والوظيفة الطلبية Conative والوظيفة التواصلية Phatic والوظيفة الشعرية Poetic ووظيفة التعدية **** linguistic، وعند هاليداي الذي حصرها في ثلاث وظائف هي: الوظيفة الفكرية أي الوظيفة المتعلقة بالتجربة والخبرة Ideational، والوظيفة التواصلية Interpersonal، والوظيفة النصية ****ual، وعند جيليان براون وجورج بيل اللذين حصرا الوظائف اللغوية في اثنتين هما الحاملة أو الناقلة Trans Actional والمتفاعلة Inter Actional.
إن هذا التطور الأسلوبي واللغوي في فهم الوظائف وتحديدها كان أساس الاشتغال عليها في علم السرد. ونلاحظ أن الكردي أيضاً عمد إلى إغفال مراجعه غالباً في مبحثه الثاني عن السرد الروائي، ونذكر مثالاً لذلك ما أورده من تصنيفات متعددة للراوي وموقعه، ومنها تقنية العاكس Reflection، فقد حللها، وبين حالاتها استناداً إلى آراء كثيرة لا نعرف مصدرها، وإن توشحت هذه الآراء بمناقشته الواعي واستبصاراته الحاذقة، كما في خلاصة حديثه عن هذه التقنية: «إن ظهور تقنية العكس في الرواية المعاصرة تعد قفزة بأسلوب الرواية كله من النمط التقريري الإخباري الأحادي الرؤية، إلى ناحية العرض الموضوعي القريب من العرض الدرامي.. ولذلك فإن الروايات التي اعتمدت على تقنية المرايا كبحث عن جماع الراوي، وجعلته مجرد مرآة كبيرة يجتمع في ساحتها شتات الصور المتناثرة على صفحات المرايا المتكسرة والمقعرة والمحدبة، بل جردته من التسلح بأسلحة الوعي والتقنين القائمة على العقائد والأيديولوجيات، وحصرته في مجال الإدراك الحسي أو العقلي للصور المباشرة أو المعكوسة، وفي أحيان أخرى حملته رؤية سوية محايدة، تكون بمثابة المعيار الذي تقوم به سائر الرؤى»( ).
ويكاد الكردي ينفرد بين النقاد والباحثين العرب الذين عنوا بالاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، في حديثه التفصيلي عن استحضار الأفعال والأزمان والصفات والأماكن والأحاديث والتأملات والأفكار، ونورد مثالاً لذلك تصنيفه لاستحضار التأملات أو الأفكار:
الأسلوب المباشر.
الأسلوب غير المباشر.
التقرير السردي.
الأسلوب الحر غير المباشر.
الأسلوب الحر المباشر.
ثمة التباس واضح في هذا التصنيف. فهو لا يعرف بعناصر تصنيفه تعريفاً نظرياً فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تطبيقه على روايات عربية، كمثل قوله عن النمط الرابع من هذا التصنيف: «يأتي هذا الأسلوب بكثرة مختلطاً بالتقارير السردية لأفعال الفكر، وهو أسلوب شائع في الروايات المعاصرة، وبخاصة في الروايات السيكولوجية التي اعتمدت على تصوير العالم الروائي كله من خلال ارتسامه على العقل الباطني لواحدة من الشخصيات»( )، ثم يعالج تعرجات هذا النمط وتلويناته على رواية «قصر الشوق» لنجيب محفوظ.
واختتم الكردي دراسته النظرية للسرد الروائي بإضاءة مفهوم التوليف أو الأسلبة Stylisation باعتبار الرواية شكلاً أسلوبياً توليفياً، وينشأ هذا الأسلوب عن تعدد القوالب الأدبية المستخدمة في السرد، أو عن تعدد الأصوات واللهجات. واستعان بشرح هذا الأسلوب بباختين في كتابه «الخطاب الروائي» (بالعربية 1987)، وأكمل جهده بوضع مقياس لتحليل نص سردي اهتدى إليه من هذه الدراسة النظرية، وهو مقياس قابل للتطبيق اختبره في دراسته التطبيقية مما يجعل من كتابه نافعاً في اختبارات المثاقفة، وعضد ذلك بإذكاء محاولته لصوغ رؤية نقدية عربية في السرد، تستفيد من علم السرد بمختلف اتجاهاته الجديدة، ودون أن تتنكر للتراث النقدي العالمي في فهم القص والرواية، ولا سيما النقد الانجلوسكسوني الذي أهمل لدى المشتغلين باللغة الفرنسية وبمناهج أعلامها. وهذا ما جعله مقياسه يصمد للاختبارات بقوله:
«على وجه الإجمال، فإن الباحث يستطيع عن طريق هذه الوسائل الثلاث، «الابتداع والتكرار والإحصاء» أن يرصد الظواهر السردية في أية رواية، بكل مستويات السرد، كما يمكنه أن يقدم وصفاً مقنناً قريباً من الضبط العلمي لأحجام هذه الظواهر، وبذلك يمكن فهم النص والاستمتاع به فهماً واستمتاعاً قائمين على القبول والقناعة والفهم، وليس على التغرير والانبهار والاستسلام»( ).
ولابدّ من ذكر الملاحظات التالية:
- اعتمد الكردي على جهود سابقيه ممن اشتغلوا على هذه الاتجاهات الجديدة أمثال سيزا قاسم وسعيد يقطين ويمنى العيد وسواهم.
- يحتاج الكتاب، مثل غالبية النقد النظري الجديد إلى تدقيق المصطلحات لوفرتها وتعدد استعمالاتها، كما هو الحال مع مصطلح التحفيز Motivation الذي ذكر له معنى آخر هو التغريب، بينما التغريب مصطلح يفيد كسر الإيهام، وقد صار ملازماً للاستخدام البريختي في المسرح.
11ـ بروز النظريات الشكلية:
ومن الواضح، أن غريماس يحتل مكانة كبيرة في علم السرد، فقد ندر أن وجدنا باحثاً أو ناقداً عربياًممن نظروا للسرديات، أو أخذوا باتجاهات النقد الجديدة للقصة والرواية، لم يعتمد في مرجعيته غريماس ونظريته السردية. وعندما افتتحت «الدار العربية للكتاب» على مشارف التسعينيات، سلسلة نقدية بعنوان «مساءلات»، نشرت كتاباً لمحمد الناصر العجيمي (تونس) حمل عنوان «في الخطاب السردي: نظرية قريماس» (1993).
قرر العجيمي في مشكلية دراسته «أن هذه النظرية لم تصادف من نفوس الدارسين العرب هوى، فلم يتوفر على دراستها وتقديمها إلا عدد محدود منهم حتى ليداخلنا شعور بأننا نطرق أرضاً بكراً»( )، ومثل هذا الشعور يجافي الواقع، فقد لاحظنا أن غريماس ونظريته الأكثر وروداً في مرجعية الآخذين بالاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية، ويعزز ذلك قلة إطلاع العجمي على الكتب والدراسات المعنية بالموضوع، فقد ذكر دراسة واحدة عن القصة هي «مدخل إلى نظرية القصة» لسمير المرزوقي (وغفل عن اسم جميل شاكر الذي شاركه التأليف)، ودراسة واحدة في المفهوم لأمينة رشيد، وأربع دراسات في المسرح لسامية أسعد وهدى وصفي وماري زيادة، ولا شك أن ذلك انعكس سلباً على تعريف العجمي بهذه النظرية، فهو مسبوق بجهود علمية سابقة تعريفاً نظرياً أو تطبيقياً أو ممارستهما لدى باحثين ونقاد كثيرين. إذن يستفاد من هذا الكتاب أن باحثاً آخر يضاف إلى قائمة الباحثين المعجبين بهذا الناقد المنظر.
أوضح العجيمي أن غريماس لم يؤلف دراسة تستوعب نظرة تأليفية جامعة جهازاً نظرياً يتيح للدارس مرجعاً ميسور التناول، فعرف بمؤلفاته الأهم بإيجاز، وهي:
1- البنيوية الدلالية (1966).
2- في المعنى (1970).
3- العوامل والقائمون بفعل والصور (1973).
4- مسألة من مسائل الدلالة السردية: الموضوعات ذات القيمة (1973).
وأشار في ملاحظات ثانية إلى جملة من الدراسات المتبنية منهجه تنظيراً أو تطبيقاً أو المتوخية طرفاً من التحليل أكثر وضوحاً، وجميعها باللغة الفرنسية. ولاحظ أيضاً اختلافاً بين هذه الدراسات، على اتفاقها بالمنهج، ومنها الاختلاف على سبيل المثال، في واحد من «أقل المفاهيم إثارة للجدل، وهو الفاعل الذي يصنف عند جميع الدارسين ضمن المحور السردي في المستوى السطحي باعتباره وحدة تركيبية نحوية لاحظنا مع ذلك أنه لا يكتسب صفته تلك إلا بتحميله دلالة الفاعلية الكامنة في المستوى العميق»( ).
وثمة اختلافات في دلالات مصطلحات أخرى مثل «المكون التصويري» و«المؤتي»، ومرد ذلك أن لدى غريماس حشداً من المصطلحات بالغ الوفرة على نحو لا نكاد نجد له نظيراً في المناهج النقدية الحديثة. وحدد أسس عمله بالوضوح والأمانة العلمية، وأنه لن يعرض إلا ما حصل بشأنه إجماع أو شبه إجماع، والانطلاق من الأفكار الأقل تشعباً إلى الأكثر تشعباً، واستعمال المعرب من مصطلحاته مع إعادة النظر فيه وتعديله.
عرف العجيمي بعلم الدلالة بالقدر الذي يسمح بوضع نظرية غريماس في إطارها المعرفي العام. فقد أسس هذا العلم «الألسنيون الذين يركزون على الدال مقصين المدلول من مجال اهتمامهم باعتباره غير قابل للتقسيم وفق الوحدات المميزة»( ). وذكر أن علم الدلالة شامل لعلوم إنسانية، وأن العلاماتية أشمل من اللسانية، ودو سوسور يؤكد أن الألسنية ليست سوى فرع من فروع العلامات العام، بينما يخالفه بارت الرأي، وأن وظيفة علم الدلالة في إبراز حركية الدلالة وإعادة بنائها. وخلص إلى فرضيتين، الفرضية الأولى التي تنتهي الدلالية إلى إفرازها هي أن الدلالة مثلها مثل اللغة شكل وليست مادة، والفرضية التابعة لها والمتفرعة عنها هي أن الدلالة خاضعة ـ قياساً على اللغة كذلك ـ إلى نظام( ).
وأوضح العجيمي أن الدراسة الدلالية عند غريماس تقوم على مبدأين: أولهما الاستقراء الذي يرمي إلى الإحاطة بالواقع الموصوف، وثانيهما التحليل الذي يقتضي الوفاء للمثال النموذجي المنسحب على مكونات المدونة. أما وسيلة الدلالية فهي تفجير الخطاب وتفكيك الوحدات المكونة له ثم إعادة بنائها وفق جهاز نظري متسق التأليف. وأضاف أن الدراسة الدلالية «تلتزم النص وتتقيد به، ذلك أن الغاية المستهدفة من الدراسة هي إبراز آلية النص في خلق المعنى وتبليغ صداه»( ).
وتستكمل الدراسة الدلالية في مستويين:
1- مستوى سطحي، ينشعب إلى مكونين:
- مكون سردي: ويقوم أساساً على تتبع سلسلة التغييرات الطارئة على حالة الفواعل.
- ومكون تصويري أوبياني: ومجاله استخراج الأنظمة الصورية المبثوثة على نسيج النص ومساحته.
2- ومستوى عميق: ويختص بدراسة البنية العميقة استناداً إلى نظام الوحدات المعنوية الصغرى.
وعمد العجيمي إلى التعريف بنظرية غريماس من نصوصه، فعرف بالسردية التي تقوم على مجموعة من الملفوظات المتتابعة والموظفة المستندات فيها لتشاكل ألسنياً جملة من التصرفات الهادفة إلى تحقيق مشروع. وما يسوغ إرساء قواعد النحو السردي هو وجود آليات ثابتة تحكم المتحولات المتنوعة المتجلية في أنماط السرد المعروفة، وتقوم هذه الآليات على عدد محدود من الطاقات الدافعة المنتظمة في أنسقة معينة يجمع بينها «العوامل».
ثم شرح العجيمي عناصر هذه الآليات ومصطلحاتها، مثل النموذج العاملي من حيث هو نظام ثابت، والفاعل والموضوع، والمؤتى والمؤتى إليه، والمساعد والمعارض، والأنموذج العاملي في حركيته، ومضاعفة المشروع السردي وأنواع الانتقال كالتحويل الاتصالي والتحويل المفضي إلى الانفصال، والهبة والاختبار، وبعض هذه العناصر تطوير لتصنيف بروب وللوظائف التي حددها.
وخلص بعد ذلك إلى نتائج مفادها «أن الخطاب السردي ليس معادلاً للسردية. فلكل من المصطلحين مفهومه وحدوده. يدل الخطاب السردي على النص المقروء في حقيقته المادية من حيث هو نص مكتوب، بلغة معينة وتستغرق قراءته وقتاً معلوماً كما تخضع لترتيب زماني خطي. أما السردية فتحيل على النقيض من ذلك على ضرب معين من القراءة وطريقة خاصة في وصف المادة وتنظيمها، أي إعادة كتابتها انطلاقاً من فرضية مؤداها أن المعنى ليس معطى قبلياً، إنما يستخلص من فنون التآلف والاختلاف والتقابل القائمة بين الوحدات التركيبية العاملية والتحولات المتتابعة في المحور السياقي. ولا تختص السردية بالخطاب الأدبي دون سواه، بل يجوز تطبيق مقولاتها على نصوص غير موسومة أدبياً كالنصوص الحضارية الفكرية والسياسية والقانونية»( ).
ويتصل المكون التصويري بالمفردات المعجمية والصورة وبالغرض والدور الغرض، وبالقائم بالفعل. بينما تتألف البنية العميقة من وحدات دلالية صغرى سماها «المعانم» بمستوياتها المتعددة: المعنم من حيث هو سمة مميزة، والمعانم السياقية، والقطب الدلالي والمربع الدلالي.
حرص العجيمي على التعريف بنظرية غريماس، التي تثير جدلاً ونقاشاً مثيرين، وتجنب توجيه النقد لها، لأنها تستمد أصولها من علم هو «علم الدلالة» الذي اعترف بتكلفه ووفرة توليد مصطلحاته الصعبة. وعدّ من فضائلها «مزية إعادة الاعتبار للنصوص، وتجديد نظرتنا إليها، بإزاحة ما علق بها من ركام هائل من التأويلات التي انتهت في أحيان كثيرة إلى تعويض النص الأصلي النص الفعل، (ولو لم يكن للدلالية إلا هذه المزية) لاستحقت أن تحظى بالاهتمام»( ).
يعبر كتاب العجيمي عن استيعاب نظرية من أعقد نظريات علم السرد، فلطالما استعملت نظرية غريماس أو جوانب منها لدى نقاد الاتجاهات الجديدة المتكونة وباحثيها، وكذلك فعل مؤلف هذا الكتاب حين طبق هذه النظرية في خاتمة كتابه على نص «الأرانب والفيلة» لعبد الله بن المقفع من «كليلة ودمنة»، غير أنه، مثل بقية الباحثين والنقاد، اختزل بعض عناصر النظرية أو بسّطها مما يشير إلى إتصافها بالشكلانية والتشكل الأسلوبي اللساني، تشتيتاً للدلالة، أو ضياعاً لها في خضم التفريعات والترسيمات والتصنيفات اللازمة وغير اللازمة.
12ـ ارتهان للمرجعية الغربية:
شهدت التسعينيات، كما لاحظنا، انتشاراً واسعاً للاتجاهات الجديدة المتكونة لنقد القصة والرواية، وارتهاناً كاملاً أو جزئياً للمرجعية الغربية، اندراجاً في التقليد الغربي المجتلب وتطبيقه تعسفاً، أو جوراً على النصوص العربية.
ومن أمثلة ذلك كتاب عبد الجليل مرتاض (الجزائر) وعنوانه «البنية الزمنية في القص الروائي» (1993)، ودرس فيه مؤلفه القص الروائي من وجهة نظر لسانية. وقد ندب المؤلف نفسه لمعالجة هذا الموضوع لاعتقاده أن ثمة إشكالية قائمة هي إشكالية زمن الخطاب والقراءة، مستفيداً من أبحاث اللسانيين من دوسوسور إلى جيرالد برانس، ولاسيما بحثه في القارئ المتغير (المرسل إليه) الذي يشكل، برأيه، أحد العناصر الأساسية لكل عملية سرد قصصي، علاوة على «أنه لولا القارئ المتغير لما كان القارئ الثابت، وبالتالي، لما كان هناك شيء اسمه إبداع أو شيء آخر، وجدير بهذا القارئ المتغير ميزة أنه يشكل وظيفة أساسية في أي إبداع حتى أن بعض النقدة يرى أننا نكتب دائماً في سبيل أن نقرأ»( ).
ولا يخفى ما في هذا الكلام من اختلاط يحيل الإبداع كله، بل وأي شيء آخر مثل معنى الوجود وأصل الحياة، وما لا أعرف، إلى مفهوم «القارئ المتغير». (يا للعجب!). ولكننا نتابع عرض هذا الكتاب بإيجاز لنتعرف على مدى التأثير الغربي المطلق على بعض الباحثين المأخوذين بهذه الاتجاهات الجديدة، دون درس كاف.
ذكر المؤلف أنه يحلل النصوص، جرياً على عادة الباحث اللساني من حيث دالها ومدلولها ودرساً لأضدادها وتعارض أصواتها وطريقة نطقها مجهورة أو مهموسة، وهو ما سيقوم به مع البنية الزمنية، والوقوف عليها «من خلال الأزمنة المتعددة المتغايرة (ماض، حاضر، مستقبل)، وما يقوم مقام الأزمنة من أدوات أخرى أو سياقات.. الخ، بواسطة عملية الاستبدال، بمعنى أن الزمن الماضي يظهر علاقة استبدال بينه وبين الزمن الحاضر في سياق كلامي حاضر أو ماض أو هما معاً، وبعبارة أخرى يتم هذا التعامل حين نتأكد أو نلاحظ أن العنصر «أ» يظهر علاقة استبدال بينه وبين العنصر «ب» في سياق كلامي «ج»، مثلما ورد في مدونتنا الموضوعة سلفاً للدراسة الزمنية»( ).
واختار لدراسته مجموعة قصص «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» للطاهر وطار. أما مراجعه فهي مزيج من اتجاهات متعددة لرونالد ليوار (من خلال ترجمة كتابه «مدخل إلى اللسانيات»، وقام بالترجمة بدر الدين القاسم (سورية)، وصدر عن جامعة دمشق عام 1980)، وقاسم المقداد وتودوروف وميشال بوتور وسمير المرزوقي وجميل شاكر ورولان بارت وغيرهم، أي أنه يستفيد من البنيوية والشكلانية ونزعات النقد اللغوي الجديد عند اللسانيين وسواهم، كأن يأخذ من تودوروف في مسألة القراءة والتأويل فيما هو قابل للتوظيف أو هو «ناشز» عن السياق، فاسترجع كلام البنيويين السرديين عن الزمن، زمن التاريخ، زمن التخيل، الزمن المحكي، زمن الكتابة أو زمن الخطاب (وسماه أيضاً الزمن الحاكي)، وتؤلف، برأيه، مستويات القراءة الداخلية، وألصق كلمة تودوروف لتدعيم مثل هذه الاختلاطات: «وكل منا يعلم أثناء الممارسات أنه توجد قراءات أكثر وفاء من قراءات أخرى، رغم أنه لا توجد قراءة تامة الوفاء»( ) ثم وضع ترسيمة لزمن القراءة، وشرحها على النحو التالي:
«1- القراءة الداخلية:
زمن التاريخ (أو الزمن المحكي) ـ زمن الكتابة (أو زمن الحكي) ـ زمن القراءة.
2- القراءة الخارجية:
زمن الكاتب زمن القراءة الزمن الخارجي.
وما دام عملنا متصلاً بالمجال اللساني التطبيقي، فيمكن أن نصرح بأن القراءة الخارجية أو الزمن الخارجي لا مانع من أن يمثل على المحور الأفقي التركيبي SYNTAGMTIQUE في حين تمثل القراءة الداخلية أو الزمن الداخلي المحوري العمودي PARADIGMATIC الدال على علامات الإبدال»( ).
واتبعها بتوصيفات وترسيمات للوظائف الزمنية، وللنحو الروائي والمسار الزمني، ولتقنية الحركات الزمنية الروائية، ولتنظيم البنية الزمنية والأحداث، ولسرعة السرد الزمني، والقياس الزمني الفونتيكي للنص الزمني، والقياس الزمني بالنسبة للمقاطع المشهدية، وتضارب الزمن الموضوعي، والبنية الزمنية داخل الخطاب. والنتيجة هي تراكم في التحليل لا يستقيم في منهجية واضحة، ولا يؤدي «إلى منهج نقدي لساني صارم»( ) كما أراد.
13ـ هيمنة المؤثرات الأجنبية:
يعبر كتاب سعيد بنكراد (المغرب) «مدخل إلى السيميائيات السردية» (1994) عن ضعف التواصل الثقافي العربي، إذ ينطلق مؤلفه من تقرير واقعة حركة النقد الأدبي العربي الموارة بانشغال مجموعة من العلماء العرب الطليعيين في المشرق والمغرب بالأطر المعرفية والنقدية الجديدة، وهو الواقع الذي انطلق منه صلاح فضل في كتابه السالف الذكر «بلاغة الخطاب وعلم النص» (1992)، ويتشابه هذا التقرير مع مقدمات محمد الناصر العجيمي التي ترى أن ساحة النقدية العربية خلو من الجهود النظرية في ميدان السرديات. وهذا هو بنكراد يجهر بأنه «نادراً ما نعثر على عرض شامل وكامل لنظرية واحدة بحدودها المعرفية وامتدادها داخل الحقول الأخرى». ويسمي ذلك قصوراً، ويعزوه إلى «تلقف» عجول للمعرفة الوافدة، «فغالباً ما تكون هذه المنشورات عبارة عن ترجمة لمقالات أو أجزاء من كتب، وأحياناً تعاليق مختصرة عن نظرية أو مجموعة من النظريات. ورغم أهمية هذه المنشورات وقيمتها العلمية، فإنها تظل ناقصة، ومضللة أحياناً»( ). ومن الواضح، أن بنكراد يطلق الكلام على عواهنه، ربما لعدم إطلاعه، على شغل يمنى العيد أو صلاح فضل أو عبد الرحيم الكردي أو محمد الناصر العجيمي.. الخ، لأن جهده مسبوق أيضاً في التعريف بنظرية غريماس وما بعده، مما يشكل السيميائيات السردية. وهذا مما جعل كتابه تعبيراً عن ضعف التواصل الثقافي العربي، بالنظر إلى جدية الشغل والرغبة في تأسيس معرفي نقدي للمناهج الجديدة.
وبطبيعة الحال، يظل هذا الجهد نافعاً لو أخذناه مفرداً، توكيداً للقطيعة المعرفية التي يمارسها مع التقليد النقدي العربي، لأنه قائم على الانبهار المطلق، مثل باحثين ونقاد كثر، بنظرية غريماس، إلى حد الاستسلام لمصطلحها ولآلياتها واستهدافاتها. وقد فعل بنكراد ما فعله العجيمي، عارضاً «نظرية واحدة هي نظرية غريماس بأكبر قدر من الشمولية والوضوح معتمدين في المقام الأول على أعمال صاحب هذه النظرية، وعلى بعض الأعمال الشارحة لهذه النظرية في المقام الأول»( ). بيد أن جهد بنكراد، يضيف إلى عرض النظرية تدقيقاً للتراث البروبي وللنماذج المستمدة منه، لأنه حاضنة هذه النظرية «الكريماصية» حسب تعريبه (عرّبها العجيمي قريماس).
تتميز نظرية كريماص عند بنكراد عن باقي النظريات الأخرى في المجال السردي بخاصية أساسية يمكن تحديدها في صيغة بسيطة: مشكلة المعنى أولاً، وبشموليتها في التصور والتحليل ثانياً، والشمولية هنا لا تعني إلغاء التاريخ، لأنها محكومة كأي أثر معرفي بالزمنية الإنسانية، ولا تعني إلغاء النظريات الأخرى، إذ لا وجود لنظرية تقدم نفسها بديلاً لنظريات أخرى، وتتميز ثالثاً بقدرتها نظرياً وتطبيقياً على معانقة خطابات أخرى غير الخطاب السردي، فعلى الرغم من أن المنطلق الرئيس في مسيرة كريماص كان هو الحكاية الشعبية أو النص السردي بصفةعامة، فإن نظريته تستخدم أيضاً كأداة لمقاربة ظواهر نصية بالغة التنوع مثل النصوص القانونية والظواهر الاجتماعية والخطابات السياسية. وتتأسس نظرية كريماص على التراث البروبي بوصفه انعطافة هامة في علم السرد، مما دعا بنكراد إلى التمعن في صنيع بروب، فعرض تصنيفه، وأوجز فرضياته حول الحوافز والعناصر والوظائف والأفعال. ولم يغفل عن ذكر القراءات الناقدة للمشروع البروبي، ولا سيما قراءة كلود ليفي شتراوس التي انصبت على الشكلانية، «فالفصل بين المستوى التوزيعي Axe Syntagmatiqe والمستوى الاستبدالي Axe Paradigmatique هو الذي قاد بروب إلى الفصل بين المضمون والشكل، والشكل وحده، حسب بروب، قابل للإدراك، أما المضمون فلا يشكل سوى عنصر زائد، ولا يملك أية قيمة دلالية»( ). مثلما تنصب قراءة شتراوس «في مرحلة ثانية على الوظائف نفسها، أي نمط اشتغالها وعددها وتتابعها. فإذا كانت العناصر المتحولة في التحليل البروبي، هي ما يشكل كنه الحكاية عند شتراوس. فإن الوظائف في تتابعها وعددها قابلة لأن يعاد فيها النظر، فاستناداً إلى تقاطع التوزيعي مع الاستبدالي، وإمكانية إسقاط المحور الأول على الثاني، يمكن تقليص عدد الوظائف، ما دام عدد كبير من هذه الوظائف قابلاً للمزاوجة». ويهدف شتراوس بهذا التقليص إلى «تكسير التتابع ـ إحدى الفرضيات التي قام المشروع البروبي عليها ـ وبالتالي رفض التعريف الذي يعطيه بروب للحكاية باعتبارها تتابعاً لواحد وثلاثين وظيفة، وهذا التكسير هو ضرب للبعد الكرونولوجي للحكاية. وتلك كانت نقطة الانطلاق في قراءة كريماص للمشروع البروبي»( ).
واستند بنكراد في عرض هذه القراءة على كلود زلبرياغ C. Zilberbeg. وتابع عرضه للسرديات بعد بروب، الذي استطاع تحويل اتجاه السرديات نحو الاهتمام بما يشكل العنصر المميز للنص السردي، أي نحو البحث عن معنى الحكي في ما يجعل من كل عناصر النص عناصر متماسكة داخل كل بنيوي تام، وهو ما ترسخ وحفر مجراه في علم السرد مع انطلاقة جديدة قام بها كريماص بإصدار كتابه الأول عام 1966 «الدلالة البنيوية»، فأضيف اللسانيات إلى الإرث الشكلاني، لتصبح السرديات أكثر تطوراً وتماسكاً. وقد حدد أهم المحاور التي تشكل العمود الفقري للتصور الكريماصي، فيما يلي:
1- التنظيم العميق Organization، إذ ترد السيميائيات السردية إلى أصول متنوعة يمكن تحديدها في المنابع التالية:
- الإرث اللساني السوسيري.
- مدرسة براغ.
- أعمال برونديل وهلمسليف.
- تراث الشكلانيين الروس وخاصة بروب.
- الإرث الفرنسي (تنيير وسوريو).
2- التنظيم السطحي: وتبدو فيه البنيات السيميائية السردية المشكلة للمستوى الأكثر تجريداً، في حدود كونها محفلاً أولياً داخل المسار التوليدي، على شكل نحو سيميائي وسردي، ومن ثم فإنها تحتوي على مكونين: مكون تركيبي، ومكون دلالي. وتستدعي البنيات العاملية النظر من زاويتين هما الزاوية الأولى وتحدد النموذج العاملي كنسق، وتحدد الزاوية الثانية هذا النموذج كإجراء. لا شك، إن عرض نظرية كريماص ونقدها غير متيسر في صفحات قليلة، وما فعله بنكراد هو عرض يميل إلى الإيجاز والاقتصار على بعض العناصر. ومن هذه الناحية، يعد شغل العجيمي أشمل، وأكثر مقاربة، لأنه ألحقه بنقد تطبيقي، وهو الأمر الذي نشده بنكراد ولم يقم به، على أهميته، في «مدنا بمعرفة أكبر لهذه النظرية، وعلى تحديد مردوديتها وقصورها ومواقع ضعفها»( ).
وتطرح هذه الدراسة، مثل مثيلتها، هيمنة المؤثرات الأجنبية على الممارسة النقدية التي تتوسم الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، في التفكير الأدبي برمته، على سبيل الترجمة، لا التعريب، وهذا جلي في الاختلاف البين في نقل هذه المناهج الحديثة، سواء في التركيب أو المصطلح أو التوصيف.
14ـ استواء المؤثرات الأجنبية:
نسترد مع محمد القاضي (تونس) في كتابه «تحليل النص السردي» (1997) اللغة الناصعة المشرقة الدقيقة والوظيفية في محمولها الاصطلاحي والمنهجي والمعرفي، تلك اللغة التي عرفناها عند صلاح فضل وشيوخ النقد وأساتذته الآخرين أمثال حسام الخطيب وجابر عصفور وفاروق عبد القادر وغيرهم، فهذا الكتاب إشارة لاستواء المؤثرات الأجنبية في الحركة النقدية العربية الحديثة، فلا جور ولا استعلاء ولا استغراب، فقد استطاع القاضي أن يقدم نموذجاً ساطعاً للناقد العربي الحديث في لحظة وعي فارقة بالهوية، موقفاً واضحاً وصريحاً من المؤثرات الأجنبية، ومنها المناهج الحديثة.
وتكمن مزية القاضي أنه وضع المناهج الحديثة بمصطلحها وبإجرائها النقدي المعقد في لغة عربية نقدية صافية تدعو إلى الإعجاب دون حذلقة أو فذلكة، معرباً وفق استجابات نقدية شديدة الوضوح في بيان عربي فصيح، لا مترجماً ينقل المعارف ويراكمها على سبيل الإعجاب أو الانبهار، مجتهداً في تعريبه بما ينفع في تطوير مناهج نقدية عربية حديثة، لأنه يعول على الممارسة النقدية المستهدية باستيعاب معرفي يصير إلى نسيج هذه الممارسة، فهو يؤمن «أن التحليل يتجاوز دائماً المنهج، فبقدر ما يفتح المنهج آفاقاً للقراءة، تسهم القراءة في تطوير المنهج وزحزحته عن «مواقعه» التقليدية، لأن في المنهج الكثير من ثبات المؤسسة ووقار السنة، أما القراءة ففيها حرارة الكشف وألق الدهشة. ولذلك عدت القراءة المولدة كتابة للنص الجديد، ولذلك أيضاً كانت القراءة الحقيقية عملاً لا يعاد ولا يستعاد»( ).
إن القاضي يصدر عن رؤية للتعامل مع هذه المناهج الحديثة، فلم يشرحها لمجرد التعريف، بل للتمحيص بغية تثميرها، ولهذا لم يجعل التطبيق صدى للتنظير، ولم يلتزم «بتطبيق المناهج بحذافيرها تطبيقاً آلياً، وإنما توخيت طريقاً وسطاً، فحللت كل نص من حيث مكوناته: أعمالاً وفواصل، ومن حيث هو صياغة قولية أي خطاب، وختمت بإدراجه في سياق تاريخي، فتتبعت دلالاته ومختلف الصلات التي تنشأ بينه وبين الأنساق المحيطة به آن إبداعه، أو آن قراءته»( ).
كان المنهج الشكلاني هو قاعدة علم السرد، عند القاضي، فدرس نشأة هذا الاتجاه، ومراحل تكونه، وانتقال أصحابه من الشكل، إلى التطلع إلى علم للأدب مستقل أساسه المقومات التي تنفرد بها المادة الأدبية، وعماده الوعي النظري والتاريخي للظواهر المتصلة بالفن الأدبي في ذاته. فليس الأدب موضوع علم الأدب، إنما هو الأدبية، أي ما يجعل من أثر ما أثراً أدبياً، وليست الأفكار موطن الأهمية في الأدب، وإنما هي الوقائع التعبيرية. وهكذا، اتجاه الشكلانيون إلى تحليل عناصر العمل، وفرقوا بين الخبر أو القصة fable والبناء sujet، ثم فرقوا بين القصة والرواية، ذلك أن الرواية تقوم على ثلاث مراحل: تمهيد فتأزم فانعراج، أما الأقصوصة فنهايتها التأزم. وميزوا بين العمل وصاحبه، فليس الأثر انعكاساً لتجربة صاحبه النفسية، ولا يمكنه البتة أن يكون كذلك.
ولاحظ القاضي، مثل الكثيرين، أن بروب هو الذي أفرد لمعالجة النصوص السردية مؤلفاً كاملاً استطاع به أن يغير مسار الدراسات السردية وهو علم بنية الخرافة» (وربما كانت هذه الترجمة أكثر الترجمات توفيقاً). فشرح عمل بروب وتطور أبحاثه من السرد إلى السيميائية السردية.
ثم عرف القاضي بالمنهج الإنشائي La Poetique (وهو تعريبها بتونس، بينما تعرب في المشرق العربي والمغرب الأقصى الشعرية)، وترتد اللفظة بأصولها إلى اليونانية، فلا عجب أن تتخذ معاني مختلفة بحسب العصور والسياقات.
وتابع القاضي رحلة المصطلح ومحاولات تشكله في نظرية أدبية من أرسطو إلى هوراس Horace وبوالو Boileau وسكاليغار Scaliger وكاستيلفيترو Castelvetro وفيلهلم شليغل Wilhelm Schlegel وفردريك شليغل، ونوفاليس Novalis وهولدرلين Holderlin، وكولريدج Coleridge، إلى القرن العشرين حيث تستوي الإنشائية مبحثاً نظرياً مستقلاً. وقد تجلى ذلك في حركات أربع ظهرت في بلدان مختلفة:
1- الشكلانية الروسية، وتكمن أهميتها في انصراف أصحابها إلى البحث فيما به يكون الأثر أدبياً، وهو الأدبية، فلم يعيروا الآثار كل اهتمامهم، وإنما انشغلوا بالكشف عن البنى السردية والسمات الأسلوبية، والبنى الصوتية، وإن لم يغضوا الطرف عن التطور الأدبي وصلة الأدب بالمجتمع.
2- مدرسة علم البنية lecole morphologique بألمانيا، وقد نشطت بين سنتي 1935 و1955، وكان همهم منصباً على وصف الأجناس والأشكال التي يرد فيها الخطاب الأدبي، أكثر من انصبابه علىوصف «أسلوب» كاتب مخصوص.
3- النقد الجديد New criticism: إن القسم الأكبر من النقد الانجلوسكسوني ـ بما فيه النقد الجديد ـ معاد لكل نظرية، ومن ثم فإنه معاد للإنشائية، مقبل كل الإقبال على تأويل النصوص. ولكن منذ العقد الثاني من هذا القرن ظهرت دراسات تتعلق بعمل المعنى في الأدب على نحو ما نرى في أبحاث ريتشاردز Richards وامبسون Empson، وبمسألة الراوي في القصة، وقد اهتم بها خاصة لبوك Lubbook. وبعد ذلك انكب القوم على دراسة الصورة الشعرية. وقد كان كتاب ويليك Welleck ووارن Warren الموسوم بـ «النظرية الأدبية» حصيلة تيارين، هما الشكلانية الروسية والنقد الجديد.
4- التحليل البنيوي Annlyse structurale: وقد ظهرت في محاولاته الأولى في الستينيات متأثرة بالبنيوية في علم الإناسة واللسانيات، وباتجاه فلسفي أدبي يمثله موريس بلانشو Maurice Blancho. وقد دفعت إلى هذا الاهتمام الجدير بالإنشائية دوافع شتى من أهمها انتشار اللسانيات الحديثة، وظهور التحليل البنيوي للأسطورة، وترجمة نصوص الشكلانيين الروس إلى الفرنسية.
ومضى القاضي إلى تعريف الإنشائية على أنها «كل نظرية للأدب داخلية. ومن ثم فإن مقصدها إقامة مقولات نستطيع بها أن نتبين وحدة كل الآثار الأدبية وتنوعها»( ).
ينظر المنهج الإنشائي في النص السردي عند القاضي من زاويتين: باعتباره مجموعة من العناصر (أحداث ـ شخصيات ـ إطار مكاني ـ إطار زماني)، أصطلح عليها باسم الخبر Histoire، وهو مفهوم قريب مما سما الشكلانيون القصة Fable، وباعتباره تنضيداً لتلك العناصر على نحو مخصوص يختلف باختلاف أعوان السرد والرؤية، وسمي هذا المستوى بالخطاب Discours، وهو قريب مما أطلق عليه الشكلانيون اسم البناء أو الحبكة Sujet. واختار القاضي علمين من أعلام الإنشائية هما بارت، وتودوروف في مستوى الخبر، وتودوروف في مستوى الخطاب، وحذا فيه حذو جونات (يقصد جينيت).
وانتقد القاضي بارت لدى حديثه عن نظام القصة الذي يختلط بمعاني تعدد الدلالات Ploysemie، ويوجز انتقاده «بأن الروح التي تحرك هذا المقال أقوى من الجهاز الذي أفرزه». ويميز القاضي بين منهج بارت ومنهج تودوروف، فقد سعى الأخير إلى «تقديم نموذج شامل لتحليل النصوص السردية حاول فيه أن يستخرج مقولات القص الأدبي». من خلال مفهومي المعنى والتأويل، ويقول تودوروف: «إن وصف الأثر يهدف إلى استخراج معنى العناصر الأدبية، أما النقد فغايته تأويل تلك العناصر» ( ).
بين القاضي أن الفصل بين الخبر والخطاب منهجي بحت، وشرح مستويي الخبر: منطق الأعمال والشخصيات وعلاقاتها، وركز على درس القصة من حيث هي خطاب عند تودوروف الذي يهتم في هذا المستوى بالقصة من حيث هي كلام يرسله الراوي إلى القارئ، ويصنف القضايا في ثلاثة أصناف:
زمن القص: ويعالج الصلة بين زمنية الخبر وزمنية الخطاب.
أنماط الرؤية: ويتساءل فيه عن الطريقة التي يدرك بها الراوي الخبر.
أساليب القص: وهي تتعلق بنمط الخطاب الذي يتوخاه الراوي ليعلمنا الخبر.
ويلفت القاضي إلى أن تودوروف ينسج في مسألة الزمن على منوال جيرار جينيت في تحليله الذي أورده في كتابه «وجوه 3» في القسم الموسوم بـ«خطاب القصة». وقضايا هذا المستوى هي الترتيب والمدة والتواتر، وكنا عرضنا لها في كتب سابقة، ومثلها أنماط الرؤية وأساليب القص. غير أن الحس النقدي للقاضي حاضر على الدوام، فقد وضع الإنشائية في سياقها التاريخي والمعرفي والنقدي، حين رأى «أن الإنشائية تميزت عن الشكلانية بالوعي النظري الصريح لموضوع البحث ومنهجيته. ومن ثم فإن وصف الظاهرة السردية جاء عند الإنشائيين أكثر وضوحاً وتماسكاً وشمولاً وانتظاماً مما كان عند أسلافهم. وربما كان هذا من أهم الأسباب التي أتاحت للمنهج الإنشائي الرواج، وحققت لمقولاته الرئيسية التمكن في مجال تحليل النصوص السردية»( ).
وثالث المناهج التي عالجها القاضي هو «المنهج النصاني»، فاحترز في بداءة حديثه من أمرين، أولهما أن إطلاق اسم «المنهج» عليها هو من باب التجوز، فبارت (الصاحب الأهم لهذه الطريقة)، لم يهتم بضبط الخصائص البنائية للأثر بقدر ما انكب على قراءة له حاول أن يبين منطلقاتها ومصطلحاتها، وهي قراءة تسعى إلى تفجير النص، لا إلى ردّه إلى بنية مخصوصة واختزاله فيها. وثانيهما أن بارت لم يتوخ في عمله هذا أسلوباً «علمياً»، وإنما صاغه في لغة تكاد تكون شعرية، في كتابه «س/ز» S/Z، ومنه أخذ القاضي تعريف النصانية. وتقع هذه الطريقة في صلب بنيويته، وما استلزمته من مزايا القراءة التي آلت إلى مناهج ما بعد البنيوية.
أحال بارت قيمة النص إلى ممارسته، لا إلى العلم أو الأيديولوجيا، لأن القيمة الأيديولوجية لنص ما هي قيمة تمثيل لا إنتاج، وهو ما يبيح للقارئ الخروج من الكسل والسلبية والجد إلى ضرب من اللعب والاندراج في فتنة الدال وشهوة الكتابة. ويتحقق ذلك للقارئ بالتأويل، ولا يعني هذا المصطلح أن يغطي نصاً معنى، بل تعني أن نتنبه إلى أنه نص جمع، أي متعدد الشبكات، هو بعبارة بارت مجرة من الدوال، لا بنية من المداليل.
ويضاعف هذا أهمية القراءة المستمرة نظراً لتعدد الأنظمة، ولاتصال القراءة بالنسيان، «فلست أقرأ إلا لأنني أنسى». وهكذا، ينفتح الباب على مصراعيه لعلم النص، «فالنص الواحد ليس طريقاً تجوز منها إلى نموذج Modele، وإنما هو مدخل لشبكة لها ألف باب»( )، وعلى دأبه، لا يبالغ القاضي في قيمة هذه المناهج أو الطرائق كما في رأيه في النصانية التي تعتمد على القراءة: ففي «هذه القراءة ـ أو القراءات ـ لا يبحث بارت عن أجوبة نهائية بقدر ما يريد أن يؤكد أن هذه الأقصوصة نص جمع، وأن القراءة يمكن أن تكون عملاً إبداعياً يفوق من بعض النواحي عمل الكتابة نفسها»( ).
إن شغل القاضي النظري متميز في وعي الناقد العربي لذاته، إذ استوت في ممارسته النقدية المؤثرات الأجنبية لتصبح مقوماً من مقومات الاتجاهات الجديدة، على أنها عنصر تحديث يدعم أبحاث الهوية، بخصائصها المعرفية والنقدية واللغوية. ويتجلى ذلك أيضاً في تطبيقه.
تغدو المثاقفة في نقد القاضي إدغاماً لوعي الآخر في وعي الذات، مثلما يسهم في تطوير النقد العربي الحديث بموقفه النقدي الواضح من المناهج الحديثة. حلل في تطبيقه أربعة نصوص سردية هي «مثل الأسود وملك الضفادع» لابن المقفع، وخبر «محبوبة جارية المتوكل» للنويري إشارة لدراسته المطولة عن الخبر في التراث السردي العربي، و«المقامة الخمرية» للهمذاني، وأقصوصة «الرحلة» ليوسف إدريس. ويتصف موقفه النقدي بأنه لا يستغرق في متاهة الشكليات وتعسف التصنيفات، مؤثراً التدرج في فهم المصطلح في حاضنته التاريخية وتشكلاته المعرفية والنقدية وصولاً إلى البعد الدلالي. ويوضح القاضي مستوى الخطاب وبقية المصطلحات المعقدة دون إدعاء أو تعقيد، ومرد ذلك إلى هضمها وتمثلها وانتظامها بقلمه إلى مدى الحاجة إليها واستجابتها للأجهزة النقدية العربية، ويعتمد على النصوص الأصلية المنقودة لأصحابها، ملتفتاً عن المراجع غير الوظيفية، فهو يدقق في مرجعيته ومراجعه مما يؤكد البعد الدلالي. وضع القاضي كتاباً مختزلاً، ولكنه عميم الفائدة، يصير فيه النقد إلى فعاليته المعرفية والنقدية. ولعلنا نعود إلى تطبيقه النقدي لاحقاً.
15ـ ظلال التأثير الأجنبي المستمرة:
تبدو صورة النقد النظري المتأثر بالاتجاهات الجديدة مهيمنة على الممارسة النقدية في بعض البيئات الثقافية والأدبية العربية كالمغرب وتونس والعراق ومصر والأردن إلى حد كبير، وبعض الأقطار العربية الأخرى إلى حد أقل. وثمة جهود نقدية كثيرة منها تدغم هذا التأثير الأجنبي في عمليات استيعاء ذاتية، أشرنا إلى عدد منها، وثمة جهود أخرى تستظل بظلال هذا التأثير الأجنبي، وتكاد تكون منقطعة عن موروثها النقدي وأنساقه الثقافية، كما هو الحال مع شعيب حليفي (المغرب) في كتابه الهام والممتع والمبتكر «شعرية الرواية الفانتاستيكية» (1997) ( ).
وجد حليفي الرواية مؤلفاً للتخييل، بالإضافة إلى كونها موقفاً فكرياً وثقافياً وفنياً واجتماعياً، وخلاصة مواقف تتشرب أصوات عصرها، فرصد أربع بنى أساسية اهتمت بها الرواية العربية، وهي تنظر إلى الواقع مرتادة دهليزه المظلمة، وإلى الإنسان، مكسرة الحواجز الوهمية حتى تخترق لا شعوره، فتسائل أحلامه وكوابيسه:
1- تجسير الفجوة ـ في الخطاب الروائي ـ بين ما هو عاطفي واجتماعي، أي بمعالجة قاسية ومتفردة للأحلام الناعمة للفرد، داخل شروط اجتماعية تحكم العلاقات العامة والخاصة.
2- الاهتمام بالشعور الباطني ـ اللاوعي في الإنسان، عن طريق استبطان أحلامه بالتأمل ورسم التعقيدات النفسية، وما تولده من كوابيس، وعقد نفسية وهلوسات.
3- العمل على تطويع مكونات الخطاب الروائي، من أدوات سردية متنوعة، وأوصاف تبئيرية تتقصد الهامشي المخبوء، واستنطاق المسكوت عنه في فضاءات موبوءة تتفاعل وسط زمان يعتبر هو الحامل لسيرورة المرارة عند الكائن العربي، مثلما كان، والاهتمام باللغة وتطويعها حتى تنبض بالشيء الذي تحكي عنه، في إطار علاقة الكلمات بالجملة، بالسياق، وبالبنية البلاغية مع بروز أدوات أسلوبية متجددة أضفت على النسيج الروائي جمالية متقدمة.
4- التشكيل ومعمارية الرواية في استغلال أشكال تعبيرية كالفانتاستيك لتفسير تجربة الكائن، وتكسير الرتابة التي هيمنت على ذائقة القارئ طولياً، بخلق غرابة مقلقة، والنفاذ إلى الشعور والذاكرة وتفتيتهما إلى ذرات مرتبكة( ).
وأشار حليفي إلى الأشكال والأساليب النثرية القديمة للعجائب، ومظانها هي:
1- القصص الشعبية، ومنها «ألف ليلة وليلة».
2- الخطابات الرمزية، ونموذجها «كليلة ودمنة»، ومنها ما يعتمد على الحلم مثل «رسالة الغفران».
3- كتب التاريخ، وما حوته من بعض الأخبار العجيبة، مثل «مروج الذهب» أو كتب الرحلات.
4- مؤلفات الصوفية مثل ابن عربي في فتوحاته المكية، والكتب السحرية وكتب الفقهاء( ).
ومن الواضح، أن حليفي لا يستقصي الأنواع والأشكال التراثية المتاحة، وكنا أشرنا إلى أهمها في موقع سابق، ولا يتقصى مفاهيم العجيب في التراث العربي، والسردي بخاصة. مثلما جاوز البسط النظري لمفاهيم بحثه بعامة، إلى تلمس التصوري النظري لشعرية الرواية الفانتاستيكية مباشرة، وعلى الرغم من اعتماده على عبارتين مفتاحيتين الأولى لتودوروف والثانية للكندي، فإن حليفي اعتمد كلية على مأثور الاتجاهات النقدية الجديدة، ولا سيما شعرية المفارقة والتردد، مما اعتنى به تودوروف، فتوقف عند المقاربة التاريخية بإيجاز شديد في بضعة أسطر، والمقاربة الدلالية، بالاهتمام نفسه، والمقاربة البنيوية باتساع، من خلال تصورات بعض أعلامها البارزين، مثل تودوروف، وإرين بيسيير Irene Bessiere، وروجيه كايوا Roger Caillois، ولوي فاكس L. Fax، وعدّ ذلك ممهدات نحو تصور لمفهوم الفانتاستيك في الرواية العربية، وأردفها بعنوان صغير: «مجازفة نظرية». وشرع في مجازفته النظرية من مسألتين مهمتين:
1- الأولى، وهي أن الروائي العربي يحتمل جداً، (لاحظ قلة العناية باللغة)، أن يكون مطلعاً على الآداب الفانتاستيكية في الغرب، إما بشكل مباشر أو عبر الترجمة، وبالتالي، فهو قد يتمثل هذه المكونات والعناصر ليضفرها في تصوراته الفكرية.
2- المسألة الثانية، وهي الرجوع إلى بعض الآثار النثرية القديمة وتمثلها ما دام الإنتاج العربي النثري القديم يحتوي على بذور ناضجة للعجائبي( ).
ثم خلص حليفي إلى استنتاجات لبناء استراتيجية الحديث عن الفانتاستيك في الثقافة العربية، مفادها أن الفانتاستيك ليس جنساً أدبياً قائماً بذاته، ولكنه صيغة، ومعنى هذا أنه ليس هناك جنس الفانتاستيك، بل هناك تقنية الفانتاستيك( ).
ودقق حليفي علاقة الفانتاستيك بالمجالات القريبة منه: العجائبي والغرائبي، ومنه العجائبي المبالغ فيه Hyperbolique، العجائبي الدخيل Exotique، العجائبي الأداتي Instrumentale، العجائبي العلمي ـ أو الخيال العلمي، ثم الفانتاستيك والحكاية السحرية، ثم الفانتاستيك والخيال العلمي، ثم الفانتاستيك والرواية البوليسية، ثم الفانتاستيك واليوتوبيا، ثم الفانتاستيك والأسطورة، ثم الفانتاستيك والفكاهة السوداء، ثم الفانتاستيك والعلوم، ومنها علوم السحر والتنجيم، وعلم النفس والتحليل النفسي، وما وراء علم النفس ****pshycique.
وعالج حليفي موضوعات الفانتاستيك، والإشكالات التي تثيرها، أما الموضوعات فهي أولاً: الامتساخ والتحول، ومنه امتساخات الإنسان، والحيوان، والنبات المؤنسن، وثانياً تغير السببية/ الزمن ـ الفضاء، ومنه الزمن والمكان، وثالثاً الاختلالات. ورابعاً لعبة المرئي واللامرئي.
وعني حليفي بالتفسير العقلي والتفسير فوق الطبيعي للخطاب الفانتاستيكي، حيث تتساكن داخل الخطاب الفانتاستيكي خطابات أخرى مفتوحة، غير منتهية تخضع للتطور، وتعتمل داخلها أيضاً العناصر التي تعطي العمل الروائي أهميته، وإمكانية التواصل مع المتلقي. و«الرواية الفانتاسكية، برأي حليفي تحديداً، هي رؤية وشهادة، رؤية على واقع حقيقي تصور بشرايينه دماء متباينة ومفارقة، وشهادة باعتبارها جواباً متحركاً، على أسئلة ثابتة وقدرية، كالموت والقهر والكبت والاستبداد والجنون، كلها أسئلة تتخفى خلفها قاطرات من أسئلة كونية تدخل، بدورها، في إطار الإرث الذي تتجاسر على حمله في تاريخنا»( ).
واهتم بالتفسير بوصفه مكوناً أساسياً من المكونات الداخلية للمحكي الفانتاستيكي، فهو يستعمل لتبديد الغموض الذي يؤكد الحدث، وله وظيفة امتصاصية إزاء الحيرة والقلق المتولدين عن الأحداث، ويتولد عن التفسير بين ما هو فانتاستيكي والمجالات القريبة منه مظهران هما:
المظهر الأول: يتجلى في التفسير بأنواعه، وهو الذي يكون السارد فيه محدود المعرفة، يعاين ويصف، ثم يتكفل بنوع من التأويل، فتأتي بعض أوصافه التي يصف فيها باطن الشخوص، وبعض أسرارهم، من باب التأويل والحدس.
ولاحظ حليفي بعداً عمودياً للفانتاستيك، تنتظم فيه الموضوعات/ الثيمات من خلال صور فوق طبيعية أساساً هي «انعكاس مرآوي لمتخيل يعكس وعياً جمعياً، وإحساساً ذي إيماضات تضرب في ألياف ذات الكائن، وموضوعات الواقع، صور شبكية كرؤى صادمة تتصيد الغريب والعجيب على محور عام للفوق طبيعي، ويُعد جد مربوط بالمخيلة»( ) ويحيل حليفي هذا الرأي إلى بيير ميسنيه Pierre MESNIER. وهناك وظائف للمحور الأفقي، كالربط بين ما هو واقعي، وماهو فوق طبيعي، ووظيفة تأجيلية، تستهدف، أساساً، تأجيل حدث فوق طبيعي، تشويقاً لفترة، وهذا الغرض يتم عبر التضمين والتناوب. أما المحور العمودي، فيتم استغلاله من طرف المحكي الفانتاستيكي في بعدين عمقي، يستمد موضوعاته من الموروث القديم الديني والسحري والفولكلوري، ومائل.
وأشار حليفي إلى ما يسمى «البعد الرابع»، وهو المجال الذي يشتغل فيه الفانتاستيك والخيال العلمي بحرية كاملة بحيث إن هذا البعد لا يقتصر على الزمان والمكان فقط، من خلال وصف أمكنة لا توجد إلا عمودية، وإنما يطال الزمان بدخوله في بُعد رابع لا يرى ويضبط. وذكر حليفي أنماط التفسيرات العقلية، مثل التفسير بالحلم، والتفسير بالهذيان والهلوسة، والتفسير بالجنون، وأوضح حليفي حضور التفسير فوق الطبيعي في المحكي الفانتاستيكي، مما يميز الخيال العلمي والرواية البوليسية، وينتج عنه حالات غموض التفسيرات في ثلاث خانات تتكامل فيما بينها، وتعضد الواحدة الأخرى: الزيغ الكرونولوجي Aberrations ، ثم الأشباح، والروحانيات. وتوصل حليفي إلى استنتاج تركيبي عام، وهو أن ثمة مكونين أساسيين، يساهمان في إبراز الفانتاستيك، وهما الشرط وجواب هذا الشرط، ويمثل الشرط الحدث، فوق الطبيعي، والذي قد يجسده الشبح أو أحد المسوخ، بينما يمثل جواب الشرط التفسير الذي تقدمه الرواية لذلك الشرط. وخصص حليفي الفصل الثاني من كتابه للخطاب في الفانتاستيك، معالجاً مكونات السرد الفانتاستيكي، ولاحظ في هذا المجال أربعة أنماط مفتوحة تتناص فيما بينها، هي: سردية التاريخي، وسردية اليومي، وسردية الطابو، وسردية التعجيب. وفصل القول في السرد/الوصف، وتكونه للخطاب الفانتاستيكي خلل أنماطه الأربعة أيضاً وهي:
السرد اللاحقNarration Ultérieure.
السرد المتقدم Narration Antéieure.
السرد المتزامن Narration Simultanée .
السرد المدرج/المتخلل Narration Intercalée.
وذكر ثمة وظيفتين تعملان بدرجات متفاوتة في الخطاب الفانتاستيكي، هما وظيفة ذات علاقة تفسيرية Fonction Explicative، وعلاقة ثيمائية (يقصد موضوعاتية) Relation Thématique.
ووصف السارد الفانتاستيكي، وهو«كائن تخييلي يعمد المؤلف إلى خلقه، حتى يدهم سلطة السرد، انطلاقاً من وضعيته التي هي وضعية إنتاج كلام، وسط تعددية أصوات تشكل النسيج الحي للرواية، ويأتي مبعث السارد الفانتاستيكي، في هذا الباب، ضمن نسق نظري عام يعي مزالق البنيويين، وينظر إلى السارد ضمن رؤية جدلية، انطلاقاً من المتون الروائية الفانتاستيكية التي تحقق فرادة ساردها، وجدليته التي تسمح ببناء نسق تأويلي للمحكي»( ). وحاول حليفي تصنيف أنماط السارد، مستنداً إلى جيرار جنييت وروجيه كايوا، حيث ثمة سارد ملتحم بالحكايةNarateur Homodiegetique ، وهو السارد المتضمن في الحكاية، ويشغل وظيفتين في آن واحد، فهو راو ومشارك في الأحداث، وسارد غير ملتحم بالحكاية Narateur Hétérodiegetique، وانطلاقاً من هذين الضربين، ميز رؤية السارد من خلال ثلاثة أنماط هي:
السارد- البطل، وهو الذي يظهر ملتحماً بالحدث.
السارد- الشاهد، وهو الذي يروي الأحداث، ليس بوصفه مشاركاً، ولكن باعتباره شاهداً.
السارد- المجهول، وهو الذي يبقى مجهولاً، لا متعيناً، في نظر المتلقي، تفاجئه الأحداث، وهذا النمط نادر.
أما الأنماط المميزة للمنظور السردي، فقد كيفها مع المنظرين الفرنسيين في المناهج النقدية الحديثة، ولاسيما نقاد شعرية السرد، على النحو التالي:
أ- الرؤية من خلف، أو التبئير الصفر، بتعبير جينيت، حيث السارد يعلم أكثر من الشخصية، فهو كلي العلم وكلي الوجود عالم بخفايا الأمور.
ب- الرؤية مع، أو التبئير الداخلي للكواليس، ويكون السارد في تساو مقصود مع الشخصية، لا يعمل إلا على تقديم كلامها، فهو يرى كل شيء من خلال وعي الشخصية، كما يكون متعدداً بانتقاله من شخصية إلى أخرى، ثم العودة إلى الأولى، أو رؤية الحدث نفسه عن طريق شخصيات روائية.
جـ- الرؤية من الخارج، أو التبئير الخارجي، حيث السارد هو مجرد راصد للحركة الخارجية، يقف في حياد تام ليحقق موضوعية تكون معرفة السارد فيها أقل من معرفة الشخوص، ثم كيّف حليفي وظائف السارد الفانتاستيكي، مما هو شائع لدى نقاد شعرية السرد، وهي الوظيفة السردية، ووظيفة التنسيق، ووظيفة الإبلاغ والتواصل، ووظيفة انتباهية، ووظيفة الاستشهاد.
وتوقف حليفي عند الوصف الفانتاستيكي، في مستوياته وأنواعه ووظائفه، وعند الكرنوتوب والخطاب الفانتاستيكي، والكرونوتوب مصطلح أطلقه باختين، ويفيد أن الزمان والمكان شيئان متقابلان بعكس تصورات نيوتن النظرية، فالفضاء الفانتاستيكي، أو هندسة التعجيب، «يتحدد انطلاقاً من علاقته بالزمن، ثم بانفلات الفضاء عن الأبعاد الآقليدية إلى أبعاد متعددة مفتوحة، فالعالم الروائي، لا يتكون من الوجوه الهندسية البسيطة، ولكنه يستنتج من أشكال جد معقدة» يتعبير موريس ليفيMaurice Levy( ).
ثم درس الشخصية الفانتاستيكية، سمات وأنواعاً، وأدواراً، وعلاقات، وخلص إلى استنتاج يميز الرواية الفانتاستيكية، ويعمق سبل بحثها بآليات ونهاجيات الاتجاهات الجديدة: «إن من أهم خصائص الفانتاستيك تأكيد المفارقة وبعث الحيرة، ولاشك في نفس المتلقي، عن طريق إبراز ما فوق طبيعي، وتقليص دور ماهو طبيعي حيناً، أو استغلاله للإيهام مرة ثانية، كما يتم اللجوء إلى خرق ومسخ هذا الطبيعي، أو تدميره في مرة ثالثة، مثلما اوضحت ذلك الطروحات، التي عرضنا لها، وخصوصاً تصورات إرين بيسيير، وجان بلمين نويل، المتقدمة في هذا المجال، والتي حاولت الاستفادة مما جاء به تودروف في تحديداته الدقيقة، وسيجموند فرويد بخصوص مفهوم الغرابة المطلقة، ما يستتبعها من استيهامات واضطرابات نفسية»( ).
واختار حليفي لتطبيق مفهومه عن «سردية التعجيب» «فقهاء الظلام»(1987) لسليم بركات (سورية)، ويشير جهد حليفي برمته إلى الأخذ الكامل لمعطيات الاتجاهات الجديدة في تنظيره وممارسته النقدية.
16ـ استمرار الجهد التوفيقي:
لا يستطيع الناقد العربي الحديث أن يلتفت عن الاتجاهات الجديدة كلياً أو جزئياً، ولعله اعترف أخيراً ألا جدوى من مجانبتها والاكتفاء بالموروث العربي النقدي وحده، مما دعاه إلى الانخراط في جهد توفيقي بين مكونات الموروث النقدي ومؤثرات الاتجاهات الجديدة. واختار مثالاً لذلك ناقداً عربياً منتمياً إلى الموروث النقدي كلية في مرحلة تكونه الأولى، هو عبدالملك مرتاض (الجزائر)، وعرضت نموذجاً لهذه المرحلة كتابه «فن المقامات في الأدب العربي» (ط2 -1998 - وهو مكتوب في أواخر السبعينيات)، ثم ما لبث أن أخذ بالاتجاهات الجديدة، ولاسيما العلاماتية غالباً والتفكيكية قليلاً، وهذا واضح في كتبه، وكنت ناقشت عدداً منها، مثل ألف ليلة وليلة: تحليل سيميائي لحكاية حمال بغداد» (1993)، و«تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية زقاق المدق» (1995)، و«مقامات السيوطي: تحليل سيميائي»(1996) فهو منذ مطلع الثمانينيات غاص عميقاً في محيط الاتجاهات الجديدة، ساعياً إلى نمذجة نظرية تتواءم مع الموروث النقدي في كتابين نظريين لمثل هذا الجهد التوفيقي، هما: «النص الأدبي: من أين؟ وإلى أين؟» (1983)، و«الكتابة من موقع العدم: مسارات حول نظرية الكتابة»(1999). كان الكتاب التنظيري الأول مقاربة نظرية وتطبيقية لمفهوم النص الأدبي لدى أصحاب الاتجاهات الجديدة، أما التطبيق فاتجه إلى نص للتوحيدي من كتابه «الإشارات الإلهية» (ص ص337-338)، وإلى إمعان النظر في مفاهيم البنى الإفرارية والبنى التركيبية والزمان والحيز والصورة والتركيبات الصوتية، وجلي أنها مفاهيم طالما اشتغل عليها العلاماتيون واللسانيون، وهم النقاد الذين مال إلى شغلهم النظري، بيد أن كتابه الثاني «الكتابة من موقع العدم»(1999) يعالج نظرية الكتابة في مسار أكثر استقلالية في رحاب الجهد التوفيقي بين الموروث العربي والجديد الغربي، مما يشي بوعي حاد للمعضلة، فثمة إقرار بألا سبيل لفهم نظرية الكتابة بمعزل عن إنجازات الاتجاهات الجديدة.
ويندرج كتابه «في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد» (1998) ضمن محاولاته التوفيقية، في تسع مقالات هي:
- الرواية: الماهية والنشأة والتطور.
- أسس البناء السردي في الرواية الجديدة.
- الشخصية: المهاية - البناء - الإشكالية.
- مستويات اللغة الروائية وأشكاله.
- الحيز الروائي وأشكاله.
- أشكال السرد ومستوياته.
- علاقة السرد بالزمن.
- شبكة العلاقات السردية.
- حدود التداخل بين الوصف والسرد في الرواية.
ويلتمس المرء مؤيدات الجهد التوفيقي في الأمور التالية:
أولاً: تكييف علم السرد (من إنجازات الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية التقليدي)، وثمة توكيد على التوفيقية في فصله بين نقد القصة ونقد الرواية، لأن علم السرد لا يفصل بينهما، ولأن غالبية النقد التقليدي ينظر إلى فنون النثر القصصي، ومنها القصة والرواية، نظرة واحدة، لتكون الفروق بينهما داخل الجنس الأدبي الواحد. ويوضح عنوان مرتاض أنه يجمع بين نظرية الرواية في مأثورها التقليدي، وبين تقنيات السرد مما نهض بها علم السرد بفضل تطور الاتجاهات الجديدة، فقد رأى مرتاض «أن الكتابات العربية التي كتبت حول نظرية السرد بعامة، ونظرية الرواية بخاصة، تحتاج إلى إغناء وبلورة، وخصوصاً فيما يتمحض للتقنيات الخالصة التي تكتب بها الرواية»( ).
ثانياً: اضطرار مرتاض للتعويل في كتابة مادة هذا الكتاب على المؤلفين الغربيين، ولاسيما الفرنسيين وما ترجموه عن الإسبانية والروسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية، حتى إنه اعترف بتعامله المطلق مع المؤلفين الغربيين في معظم مسار البحث( ).
ثالثاً: المزج بين نقد القصة والرواية التقليدي ونقد السرديات، على أن مراجعه لنقد السرديات من أرقى الكتب في بابها، ومن المعروف أن نقد القصة والرواية التقليدي صار إلى نقد أعم وأشمل وأكثر علمية في الغرب في الستينيات، هو علم السرد، بتأثير اكتشافين، أولهما نصوص الشكلانيين الروس، وثانيهما البنية، وكانت انطلاقة الاكتشافين من فرنسا بالدرجة الأولى، فكانت المراجع بالفرنسية هي الأهم والأكثر في مكتبة هذا الكتاب، وإن اعتمد على عدد من كتبه السابقة، وفي مقدمتها كتابه «تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية زقاق المدق» (1995). وكنا لاحظنا في كتبه المتجهة لنقد الموروث السردي المتأثرة بالاتجاهات الجديدة أنه يجمع بين العلاماتية والتفكيكية والبنيوية. أما مراجعه بالفرنسية فتنتمي في غالبيتها إلى مأثور نقاد الاتجاهات الجديدة مثل بارت وتودوروف وغريماس وجينيت وبروب، بالإضافة إلى لوكاتش وجان ريكاردو وآلان روب جرييه وميشيل زيرافا على نحو أقل.
رابعاً: ينحو الكتاب منحى الكتابة الوظيفية استجابة لعاملين من نتاج الجهد التوفيقي، الأول تطلُع مرتاض إلى معرفة التقنيات والفنيات التي يصطنعها كبار الروائيين بوصفه روائياً أيضاً، والثاني ماله صلة بالرواية وكتابتها ولغتها ومكوناتها السردية بوصفه معلماً معنياً بتدريس هذا الفن. على أنه لم يقصد إلى كتابة هذا الكتاب عامداً، بل تجمعت له جذاذات وطوامير صارت إلى مقالات تسع( ). ويفيد هذا السعي إلى محاولة مرتاض تكييف مؤثرات الاتجاهات الجديدة مع حاجات الكتابة السردية العربية.
ولعلي أورد بعد ذلك بعض الملاحظات على محاولة مرتاض التوفيقية، وهي:
أولاً: يتعالى مرتاض على الجهود النقدية السابقة المكتوبة بالعربية في نظرية الرواية، وفي النصوص الروائية، وفي ترجمة الرواية الأجنبية إلى اللغة العربية، فالمترجَم، عنده، هزيل اللغة وضعيف الصياغة الأسلوبية، والمؤلَف ضعيف اللغة أيضاً( ). ولاشك في أن هذا التعالي أدخل في لغة التعممم غير النافعة.
ثانياً: تكاد الممارسة النقدية في هذا الكتاب تفتقر إلى المرجعية، لأن مرتاض لا يعيد نصه إلى مأثور محدد أو اتجاه معين، فثمة مرجعيات واتجاهات متعددة تتساكن في النص الواحد.
ثالثاً: لا يطرح الكتاب نظرية نقدية محددة متأثرة بهذه الاتجاهات الجديدة، لأنه لا يحيل إلى نظرية بعينها.
رابعاً: لا يوافي مشروعه النقدي جهود المؤصلين وكأنه يحرث في أرض بكر، بينما يشير واقع الحال إلى جهود كثيرة سابقة عليه، وقد عرضت لأغلبها، مثلما آل هذا المشروع إلى قطيعة معرفية مع التراث العربي النقدي الذي يعرفه مرتاض حق المعرفة في المصطلح من جهة، وفي مواصلة التقاليد السردية من جهة ثانية، ففي المصطلح لا يعتمد مرتاض المصطلح الموروث، ولا يعني بتطويره، بل يجتهد على الدوام وحيداً، على الرغم من وفرة الجهود السابقة، وأذكر أمثلة لتجاهله أو إغفاله للجهود الناجزة، فقد ترجم المأساة La tragédie بالمشجاة، والدراما La drame بالمأساة، والحكاية La fable بالملهاة..الخ، ولا يخفى أن المشجاة هي تعريب كلمة ميلودراما Melodrame. ثم عرّب Récits بالسرديات، والأفضل والأنسب هو قصص.
ويغفل الجهود السابقة في تعريبه للأسماء كأن يعرف التاء بطاء، وأن يرسم حروف الأسماء حسب تهجئتها مثل فولكنير، بينما تواضع المترجمون على فوكنر، وجينات (المقصود هو جينيت)، ويتضح ذلك في تعريبه للأسماء التالية:
ناتالي صاروت (يقصد ساروت)، وبالزاك (يقصد بلزاك)، وبيطور (يقصد بوتور) وهيسرل (يقصد هوسرل).
ويبلغ التجاهل مداه الأقصى في إنكاره لتواضع المترجمين على مصطلحات وأسماء مؤلفات، مثل La monologue (لا يذكر مصطلح النجوى)، ورواية ميشيل بوتور التعديل أو التحويل (يسميها العدول أو التحوير)، ورواية كافكا المسخ (يسميها التحول) ( ).
خامساً: الأخذ المطلق بالمصطلح الغربي كما عُرف بالفرنسية، وأتوقف عند جزء من المقالة الثامنة «شبكة العلاقات السردية» وعنوانه «العلاقة بين السارد والمؤلف والقارئ»، فقد غلبت على النص اللغة الفرنسية في المصطلحات والمفاهيم والأعلام( ).
أما هوامشه وعددها تسعة في هذا الجزء فكانت جميعها مأخوذة عن اللغة الفرنسية، أو هي مترجمة إلى الفرنسية مثل كتاب بوث المعروف عن «شعرية السرد»، أو كتاب كايزر «ما هي الرواية؟»، باستثناء الإحالة الوحيدة إلى مشاهد من مقامات الحريري( ).
17ـ ملاحظات عامة:
لاحظنا أن النقاد والباحثين قد شرعوا يأخذون بمعطيات من الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية منذ أواخر، ثم كانت محاولاتهم النظرية، تعريفاً بهذه الاتجاهات مترافقة مع نزوعهم وتلهفهم لتطبيق هذه الاتجاهات الجديدة، وحوت غالبية الكتب النظرية تطبيقات نقدية، ويمكننا أن نورد الملاحظات التالية:
أ- انحصر التحديث حتى مطلع السبعينيات بما يعرف بالنقد الجديد لدى النقاد الآنجلو سكسونيين، وعرب أحياناً باسم النقد الموضوعي( )، أو النقد التقويمي( )، أو النقد التقويمي التكاملي( ). ثم مال النقاد والباحثون، على نحو ضيق أو واسع، إلى التحليل البنيوي.
ب- نادراً، ما عمد الباحثون والنقاد العرب إلى الالتزام بمنهج نقدي ومعرفي واحد أو محدد في تنظيرهم، وإن عرفوا بمنظر أو بناقد بعينه مثل غريماس، أو لوسيان غولدمان، أو جيرار جنييت.
جـ- سعى بعض النقاد والباحثين إلى تصورات نظرية منهجية لشغلهم النظري، ولاسيما سعيد يقطين الذي قدم مشروعاً رائداً وكبيراً لتوطين منهجية علم السرد في النقد العربي الحديث، على الرغم من الملاحظات والانتقادات الكثيرة لهذا المشروع.
د- سادت عمليات الأخذ عن الغرب في النقد النظري، اجتلاباً وتكييفاً، مقابل القلة القليلة من المحاولات والاجتهادات لتأصيل هذه الاتجاهات الجديدة في النقد العربي الحديث. ولذلك غلبت الشروح والتعريفات والنقل التعريفي، على اعتمال النقاد والباحثين العرب بالحاجة إليها في بناء نقد عربي حديث.
هـ- يلاقي المرء صعوبة في الاهتداء إلى مصطلحات محددة لعلم السرد، لتوزع الجهود وتباين استيعاء هذه الاتجاهات الجديدة لدى المشتغلين بها، ما دامت الغلبة للترجمة والتعريب في النقد النظري ، وليس للتأليف والتأصيل.
و- ثمة ولع بالشكلانية لدى المهتمين بالعلاماتية وشعرية السرد أيضاً، فتكثر الرسوم والترسيمات والأشكال في نقدهم، فيما يلزم وما لايلزم.
ز- يكاد المرء يقع على شيء من قطيعة معرفية ومنهجية لغالبية النقاد والباحثين مع موروثهم النقدي وسيرورة تقاليد النقد الأدبي العربي الحديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق