النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد
د. عبدالله أبوهيف
منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000م
الفصل السابع :
نقد النقد التطبيقي المتأثر بالاتجاهات الجديدة
يصعب الفصل، كما ألمحنا، بين النقد النظري والنقد التطبيقي، فغالباً ما يضع النقاد والباحثون مقدمات نظرية تسوغ التطبيق تاريخياً أو اصطلاحياً أو منهجياً، أو استهدافاً، أو طريقة وأسلوباً. وقد لاحظت أن عدداً من الكتب التي ندبت نفسها للحديث نظرياً عن الاتجاهات الجديدة حوت دراسات تطبيقية كذلك، أي أن الفصل بينهما تستدعيه حاجات البحث. ولما كانت الدراسات التطبيقية هي الأغزر إنتاجاً قياساً إلى النقد النظري وقلته، فقد اخترت نماذج وافية تعبر عن المطلوب، وهو تلمس الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية والسرد في الممارسة، وعرضت نماذج متعددة مع مناقشة نقدية لعدد منها في كل منحى، وأوجزت بحثي للنقد التطبيقي في ثلاثة اتجاهات هي:
- دراسات ذات ميل أقل إلى الاتجاهات الجديدة.
- دراسات انتقائية للاتجاهات الجديدة.
- دراسات ذات ميل أكبر إلى الاتجاهات الجديدة.
1- دراسات ذات ميل أقل إلى الاتجاهات الجديدة:
تعامل عدد كبير من النقاد على استحياء مع الاتجاهات الجديدة، فمازجت لغتهم أو طرائقهم أو منهجيتهم أمشاج من هذا الاتجاه أو ذاك، وهي دراسات نقدية يغلب عليها العناية بالموضوع أو التطور التاريخي، أو دراسة الاتجاه. وكانت مثل هذه الدراسات الأكثر دوراناً على أقلام النقاد والباحثين العرب إلى وقت قريب، وهي تقوم على محاولات تطعيم النقد القصصي والروائي بأدوات فنية، ومزاوجة النقد التاريخي، بشيء قليل أو كثير، وهو نادر، من النقد الفني، ولربما كانت دراسة إلياس خوري (لبنان) الموجزة «تجربة البحث عن أفق: مقدمة لدراسة الرواية العربية بعد الهزيمة» (1974) الأكثر مراودة لتطعيم النقد التقليدي بروح جديدة، ولذلك تتداخل المصطلحات التاريخية والجمالية والاتجاهية والفنية في الدراسة الواحدة، كما في دراسة واسيني الأعرج (الجزائر) الواسعة «اتجاهات الرواية الجزائرية في الجزائر: بحث في الأصول التاريخية والجمالية للرواية الجزائرية» (1986)، وتنهض دراسات هذا النمط على تقصي جوانب الموضوع المعالج بوصفها فكرة تعبر عنها الرواية، أو كأن الرواية مطية لحمل هذه الفكرة، فيتحرك الباحث مع التاريخ السياسي غالباً، والاجتماعي والثقافي، بحدود متفاوتة، فيعرف بموضوعات الروايات، ويتلمس، على عجل، جوانب من فنيتها وجماليتها، دون أن يلتزم باتجاه نقدي معين، ومن أبرز ممثلي هذا النمط أذكر مصطفى عبد الغني (مصر) في كتبه «الخروج من التاريخ: عبد الرحمن منيف ومدن الملح» (1993)، و«نقد الذات في الرواية الفلسطينية» (1994)، و«الاتجاه القومي في الرواية» (1994).
استعان عبد الغني لكتابه الأول بعبارة مفتاحية من الرواية المدروسة لعبد الرحمن منيف «مدن الملح»، تشي بسمة دراسته الموضوعية في حضن التاريخ والأفكار معاً، والعبارة المفتاحية هي: «وقت الهزائم، وفي المنافي، يطيب الحديث عن التاريخ أو وهم التاريخ»( ). وقد غلب عبد الغني هذه الدراسة الموضوعية، أي دراسة الموضوعات، على الفنّ، حين سوغ منهجه التاريخي، المطعم بشيء من الفن، في مقدمته التي حملت عنوان «قبل القراءة»، وألحق كتابه بنص مهم، «هو بعض نصائح هاملتون ـ رجل المخابرات الإنجليزي الميكيافيللي ـ للأمير العربي المعاصر، وذلك لدلالتها في السياق الروائي»( ). أما موضوعات الدراسة، وهي فصول كتابه، فكانت: البطل الشعبي ـ الغرب القبيح ـ الرأسمالية التابعة ـ الخروج من التاريخ ـ العنوان والمفتتح ـ نهايات المدن ـ عن عناصر البناء، وهذا يعني أن عبد الغني التفت إلى الفن الروائي قليلاً في فصلين هما: «العنوان والمفتتح» و«عن عناصر البناء»، في صفحات قليلة من دراسته. أما كتاباه التاليان، فيخبر عنوانهما عن المنهج النقدي الذي يعنى بالموضوعات والأفكار بالدرجة الأولى، بينما ختم الكتاب الثالث بثلاثين صفحة من مجموع صفحات الكتاب الطويل (412 صفحة) عن أثر الاتجاه القومي في الشكل.
ضم الكتاب الثاني فصولاً عن عقدة الذنب في الأدب الإسرائيلي، اعتماداً على متواتر القول لدى نقاد الأدب الإسرائيلي والصهيوني مثل رشاد الشامي (مصر)، والانتقال من عقدة الذنب إلى نقد الذات في الأدب العربي الفلسطيني، في تيارات التمرد والتحرير والتعبير والغضب، والانتقال بعد ذلك من نقد الذات إلى استشراف المستقبل. وقد اعترف عبد الغني بخصائص منهجه على النحو التالي:
«استفدت هنا من عديد من المناهج التي هي أقرب لموضوعي من أية مناهج أخرى، فقد أفدت كثيراً من المنهج التاريخي والتحليلي، وأيضاً استفدت من المنهج الوصفي، وسعيت إلى أن أكون أكثر وعياً بالمنهج الموضوعي في تعاملي مع النصوص»( ).
ويستسلم عبد الغني لمنهجه التاريخي الذي يعنى بالموضوعات والأفكار، مع ملاحظات نزرة عن تأثير الاتجاه القومي في الشكل في كتابه الثالث، وعلى الرغم من إشارته في المقدمة إلى اعتماده على عدة مناهج هي النزعة التاريخية والنزعة الاجتماعية والنزعة البنائية، فإن سعيه لاكتشاف العلاقات بين البنى الذهنية والفكرية القائمة في النصوص الأدبية ومجموعات اجتماعية معينة، تتمثل في مرحلة زمنية محددة، ظل شاحب الملامح، وظلت العناية بالموضوعات والأفكار طاغية. وحاول عبد الغني الاعتذار عن ذلك بالإشارة التالية في المقدمة:
«لم نحرص على الحكي الروائي إلا بالقدر الذي يصل بنا إلى الخطاب الروائي، ومن هنا لم نول التسلسل البنائي للعمل أهمية كبرى، وإن لم نهمله تماماً فخصصنا له فصلاً كاملاً»( ). أما أبواب الكتاب فتناولت التحولات والبحث عن الهوية، ومن الوحدة إلى الهزيمة، ومن الثورة إلى الانتفاضة. وغني عن القول، إن مصطلح «الخطاب» يشير إلى النص السردي في علم السرد بما هو الحكي تمييزاً له من القصة، على أنها المدلول أو المضمون السردي، بينما نلاحظ تداخلاً في مفهوم الخطاب الروائي، والحكي الروائي في فهم عبد الغني وممارسته النقدية.
والناقد الثاني البارز في هذا النمط هو عبد الرحمن أبو عوف (مصر) في كتبه «الرؤى المتغيرة في روايات نجيب محفوظ» (1991)، و«يوسف إدريس وعالمه في القصة القصيرة والرواية» (1994)، و«قراءة في الرواية العربية المعاصرة» (1995)، و«فصول في النقد والأدب» (1996).
وقد وضع أبو عوف كتباً في القصة والرواية قبل ذلك، كان أولها كتابه المميز «البحث عن طريق جديد للقصة القصيرة» (1971)، وهو احتفاء بالأصوات الجديدة التي ظهرت في الستينيات في مصر، وتعبيرها عن حساسية فنية مختلفة، غير أن كتبه، في مجملها، لا تخرج عن منهجيته النقدية: العناية بالموضوعات والأفكار، والاهتمام قليلاً أو كثيراً بالفّن، ففي الكتاب الأول عن نجيب محفوظ، نقرأ الفصول التالية: الزمن الروائي عند نجيب محفوظ، بعد الواقع وبعد الفّن في رواية أفراح القبة لنجيب محفوظ، نجيب محفوظ والرؤى المتغيرة في رواياته، حضرة المحترم: الرؤية الفكرية ومستوى إبداعها، الواقع والحلم في حكايات حارتنا، الواقع والأسطورة في ليالي ألف ليلة وليلة لنجيب محفوظ، بعد الواقع ونجيب محفوظ في المرايا، مصداقية شهادة نجيب محفوظ على مرحلتي عبد الناصر والسادات، أنشودة الجنون في قصص نجيب محفوظ، نمط المثقف اليساري في روايات نجيب محفوظ، تحت المظلة وأنشودة القلق، نجيب محفوظ في خمارة القط الأسود، المرأة في أدب نجيب محفوظ. ونلاحظ في الفصل الأول الذي يحمل عنوان «الزمن الروائي عند نجيب محفوظ»، أنه سرعان ما تحدث عن المأساة الاجتماعية والمأساة الوجودية، واستغرق في شرح الموضوعات والأفكار، كمثل هذا المقتطف: «بمعنى آخر توحي هذه الروايات بأشكال ثلاثة للتمرد على أمراض هذه الطبقة الدائمة التشكل والتذبذب:
• التمرد الفردي وإتقان لعبة التسلق والتطلع والتحايل.
• ترديدات انتقائية لنوعيات متباينة لإيديولوجية يسارية تبشر بحل جذري.
• تلمس بناء رؤية مثالية جديدة تخلط بين منابع الدين الإسلامي والعلم، لها برامجها العملية الإصلاحية لحل المسألة الاجتماعية»( ).
وعندما خصص كتاباً ليوسف إدريس وعالمه القصصي والروائي، سار على المنوال نفسه، كما في هذه الفصول: دلالة الرؤية في العالم القصصي ليوسف إدريس، بعد الواقع والدلالة في رواية الحرام ليوسف إدريس، اغتيال الشرف في حادثة شرف، الطفولة، يوسف إدريس بين مرحلتين، آخر أعمال يوسف إدريس: نيويورك 80 ـ مبدع ينتهي أم مبدع يتعثر؟، الجنون في قصص يوسف إدريس، دلالة صمت يوسف إدريس عن الإبداع القصصي، عودة أمير القصة القصيرة يوسف إدريس للإبداع، غربة يوسف إدريس في بيت لحم، أمير القصة القصيرة يقرأ المستقبل. ولا يخفى أيضاً الطابع الصحفي على نقد أبي عوف وغلبة أسلوب مراجعة الكتب والتعليقات النقدية في دورية ما، كأن يختتم أحد الفصول على النحو التالي:
«هكذا هو يوسف إدريس عندما يتوهج يبدع إبداعاً فذاً، ويثير أكثر من مشكلة فنية وفكرية، ولكن في النهاية يجب أن نشير إلى أن المقدمة طويلة، وليست ملحومة عضوياً بموضوع القصة، ولكن هذا لا يمنع من روعتها»( ).
وعلى الرغم من أن كتابه «قراءة في الرواية العربية المعاصرة» تصدر بكلمة «قراءة»، فإن العناية بالشكل أو المبنى أو الفن الروائي ظلت على هامش بحوث الكتاب، مثل ذات والرواية الوثائقية، وانهيارات وتفكك المجتمع في وكالة عطية، ومصداقية الرؤية في العالم الروائي لبهاء طاهر، والهزيمة في بيوت وراء الأشجار، والبناء الأسلوبي في وردية ليل، والرواية عند إبراهيم عبد المجيد، وانكسار الروح لجيل الثورة، وقلب الليل. الرؤية والدلالة، ونموذج القبطي وإنتاج الدلالة في ثلاثية نجيب محفوظ، وبعد الواقع والأسطورة في أدب الطيب صالح، وغربة الفلسطيني في روايات جبرا إبراهيم جبرا، والخطاب الروائي والقمع عند عبد الرحمن منيف، الواقع والحلم في ثلاثية أحمد إبراهيم الفقيه، لغة الرمز في الحي الخلفي لمحمد زفزاف. ولو اخترنا فصلاً حمل عنواناً يشي بعناية بالفن، وهو «البناء الأسلوبي في وردية ليل» لما اختلف منهج أبو عوف النقدي في تغليب اهتمامه بالموضوعات والأفكار في ثوب المراجعة الصحفية غير الدقيقة أو الموثقة، كما في هذا المقتطف:
«ويتأكد هنا قول الناقد الروسي ميخائيل باختين: ظلت الرواية ردحاً طويلاً من الزمن موضع دراسة إيديولوجية مجردة وتقويم اجتماعي دعائي فقط.. كانت المسائل الشخصية لأسلوبيتها تهمل إهمالاً تاماً أو تدرس عرضاً، وبلا مبدئية. كانت الكلمة النثرية الفنية تفهم كما تفهم الكلمة الشعرية بالمعنى الضيق للكلمة، وبالتالي، كانت تطبق عليها تطبيقاً غير انتقادي مقولات الأسلوبية التقليدية، وأساسها المجاز، وكان يكتفي بتقويمها بأوصاف فارغة من تلك التي تطلق على اللغة كالتعبيرية أو التصويرية والجزالة والبيان، وما إلى ذلك دون تضمين هذه المفاهيم أي معنى أسلوبي محدد ومدروس»( ).
ولا يقع المرء في نقد أبو عوف على توثيق أو مرجعية، كما يظهر في هذا المقتطف، ولا نعرف متى يبدأ قول باختين ومتى ينتهي؟ وما حدود وظيفته النقدية؟ إنه كلام نقدي فني عام يستخدم بعض لغة الاتجاهات الجديدة ومصطلحاتها على سبيل الزينة والوشي. وأورد نماذج أخرى لمثل هذا النمط، ومن الكتب المعنية بالموضوعات والأفكار أيضاً، «عبد الرحمن الربيعي وتجديد القصة العراقية» (1977) لسليمان البكري (العراق)، و«الأدب الروائي عند غسان كنفاني» (1982) لرفيقة البحوري بن رجب (تونس)، و«المرأة الأنموذج في الرواية العربية الحديثة» (1985) لشمس الدين موسى (مصر)، و«القصة الطويلة في الأدب الأردني» (1985) لمحمد العطيات (الأردن)، و«القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» (1987) لسحمي ماجد الهاجري (السعودية)، و«الكتابة القصصية عند البشير خريف» (1988) لفوزي الزمرلي (تونس)، و«في نقد القصة والرواية بتونس» (1989) لنور الدين بن بلقاسم (تونس)، و«وعي العالم الروائي: دراسات في الرواية المغربية» (1990) لمحمد عزام (سورية)، و«التجربة الوجودية في اليوم الأخير لميخائيل نعيمة» (1990) لمحمد إبراهيم الحصايري (تونس)، و«صانع الأسطورة الطيب صالح» (1990) لأحمد شمس الدين الحجاجي (مصر)، و«العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر: دراسة نقدية 1914-1986» (1991) لمراد عبد الرحمن مبروك (مصر)، و«الأنا والآخر في الرواية العربية الحديثة» (1994) لمنصور قيسومة (تونس)، و«الذات والموضوع: قراءة في القصة القصيرة» (1994) لمحمد قطب عبد العال (مصر)، و«النص والحرية: عبد الرحمن منيف» (1994) لأحمد مشول (سورية)، و«الوقائع والمصير: دراسة في أدب حسن صقر» (1994) لوفيق خنسه (سورية)، و«صورة المرأة في الرواية الأردنية» (1995) لأروى عبيدات (الأردن)، و«الإبداع الأدبي: المصادر/ المخاطر» (1995) لحسين عيد (مصر)، و«الشحاذ: أزمة وعي وانهيار عالم» (1996) لعبد الرزاق الهمامي (تونس)، و«ليلى العثمان: رحلة في أعمالها غير الكاملة» (1996) لعبد اللطيف الأرناؤوط (سورية)، و«الرواية العربية: الإشكال والتشكل» (1997) لمنصور قيسومة (تونس)، و«غائب طعمة فرمان: حركة المجتمع وتحولات النص» (1997) لخالد المصري (العراق).
وتنتمي إلى هذا النمط أيضاً الدراسات التي تعرف بالرواية الأجنبية، معتنية بالتاريخ وتطور الفن الروائي بصورة عامة، مثل «تفاحة آدم: دراسة في النظرة الفلسفية عند د. هـ. لورنس» (1980) لحنا عبود (سورية)، و«دراسات في النظرية الإنجليزية» (1981) لإنجيل بطرس سمعان (مصر)، و«الرواية اليابانية الحديثة» (1986) لعبد الواحد محمد (العراق)، و«مطالعات في الرواية الفارسية المعاصرة» (1986) لإبراهيم الدسوقي شتا (مصر)، و«دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة» (1989) لعنيد ثنوان رستم (العراق، والكتاب ترجمة وتحرير).
واكتفي بعرض بعض الملامح الدالة لهذا النمط:
1-1- عناية مفرطة بالأفكار:
فقد وضع حنا عبود كتابه «تفاحة آدم» ليبرهن عن فلسفة د. هـ. لورنس الخاصة، كما في تقديمه الصريح: «وقد جرت العادة أن تستعرض المؤلفات حسب التدرج التاريخي. بيد أني اكتفيت برواية واحدة هي «عشيق الليدي تشاترلي» معتمداً على النسخة غير المعدلة ولا الملطفة، لأني اعتبر هذه الرواية ليس قمة أعماله فقط، بل اعتبرها خلاصة نظرته وفلسفته، ففيها يحدد مواقفه من قضايا عدة إلى جانب القضية الأساسية التي يوليها كل اهتمام، وهي قضية العلاقة بين الرجل والمرأة التي يعتبرها صلب كل أدب»( ).
1-2- اهتمام أساسي بالموضوعات:
غلب على نقد النقاد والباحثين الاهتمام الأساسي بالموضوعات، حتى أن ناقدة أكاديمية تلتزم بمنهج النقد الموضوعي بممارسته الانجلو سكسونية هي إنجيل بطرس سمعان (مصر) تسوغ مثل هذا الاستخدام، وترهن استحداث الأساليب الفنية بالموضوعات:
«وتقدم الفصول الأربعة الأولى نماذج لتطور الرواية في فتراتها المختلفة هي فترة مولد فني أدبي جديد على يد أحد رواده الأول هو دانيال ديفو، ثم نموذج لفترة النضج على يد روائي كبير هو تشارلز ديكنز، ثم بعض ما شغلت الرواية الحديثة والمعاصرة ذاتها به من مشاكل الفرد في العصر الحديث، ومن استحداث لأساليب فنية تتفق وما تعالجه من موضوعات»( ).
ويشير استعراض فصول كتب نقاد وباحثي هذا النمط، كما رأينا عند عبد الرحمن أبو عوف ومصطفى عبد الغني إلى تغليب الاهتمام بالموضوعات على الفن.
فقد عالج أيضاً وفيق خنسه (سورية) في كتابه «الوقائع والمصير: دراسة في أدب حسن صقر» موضوعات عديدة مثل القضية الوطنية والقومية، وقضية فلسطين، من خلال التحالف العنصري النازي ـ الصهيوني، والطبيعة والمدينة وقضايا أخرى، بينما خصّ الفن بفصول قصيرة وقليلة مثل التهكم وبنيان القصة، وما يميز معالجته للموضوعات غلبة الحدوس، لذلك تكررت كلمة حدس وحدوس كثيراً، وجرى تجاهل السرد والفن القصصي، ومال إلى شرح المضمون والعناية الشحيحة بالدلالات والرموز، بينما تنعدم العناية بالتوثيق والمرجعية، وتتوالى الأحكام غير المعللة وغير المدلل عليها، كما في حديثه عن «المدنية في قصص حسن صقر» حين يورد أسماء شعراء، والأحكام على شعرهم، من دون الإشارة المرجعية المطلوبة، بينما كان الأولى أن تكون المقارنات مع قصاصين وروائيين مثل حسن صقر( ).
ويفصل خالد المصري (العراق)، نموذجاً آخر، دراسة الموضوعات عن دراسة الفن في كتابه «غائب طعمة فرمان: حركة المجتمع وتحولات النص»، وإن كانت لغته النقدية أقرب إلى لغة الاتجاهات الجديدة من سواه، كما في قوله:
«إن فرمان، بهيمنته على كلية العمل الروائي، يخلق شخصياته، ويخلق معها آلامها وآمالها وهمومها وأفكارها، ويلقي بها في أرضية الصراع، وهو عندما يتيح المجال لشخصياته أن تتصارع أمامه وأمامنا يوهمنا أنه يقف في منطقة الحياد. إن فرمان كثيراً ما يسمح لشخصياته أن تعرض أفكارها وتطرح همومها، وهو بهذا يسعى لتشخيص حالة ما باستظهار كافة جوانبها، يحدد هويات الشخصيات، ويدفعها في مسارات تتعرف من خلالها على الأفكار المتعارضة والمواقف المتقاربة والمتناقضة. وقد تجلى هذا كثيراً في أعمال فرمان الروائية التي اعتمدت، في معظمها، على بناء مؤسس على إبراز وجهات نظر متعددة»( ).
وعندما نمعن النظر في هذا الصوغ النقدي نعرف أن المصري لا يلتزم بمنهج جديد من المناهج التي تستهدي بالمناهج النقدية الحديثة مثل علم الاجتماع الأدبي، وهو الأقرب لكتابة المصري، بينما يرتهن المصري للنظرية الماركسية في فهم الواقعية الاشتراكية، ولا سيما الانعكاس والمطابقة بين مجتمع الرواية ومجتمع الواقع، بينما للرواية مجتمعها الخاص، كما في قوله:
«ولدى تصدينا لبعض أعمال فرمان الروائية ألفينا أن هذه الأعمال تنوي إثارة قضايا مركزية، والتنبيه عليها، وهي تتوزع على المحاور التالية:
جدل الثبات والتحول.
البحث عن الفعل الحقيقي.
البحث عن الذات.
نقد الذات.
وفي نقاشنا لهذه المحاور وكشفنا عن أبعادها، كما تعتمل في النص الروائي سنميل، أحياناً، إلى التنقل بين مجتمع الرواية ومجتمع الواقع، لأن الأخير هو المرجع الذي صدرت عنه بعض الأحداث والأفكار الجاهزة التي أدرجت، فيما بعد، ضمن بنية فنية فغدت مكوناً من مكوناتها الرئيسة»( ).
1-3- اهتمام أساسي بالتطور التاريخي:
يضعف الاهتمام بالفن لصالح الاهتمام بالتطور التاريخي، واخترت دراسة سحمي ماجد الهاجري (السعودية) نموذجاً في كتابه «القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية منذ نشأتها حتى عام 1384هـ 1964م»، فهو يخص التطور نحو الفنية والصياغة الفنية بأقل من ربع صفحات كتابه الكبير (465 صفحة من القطع الكبير). ويستخدم الناقد مصطلحات حديثة على سبيل الشرح وإيضاح الموضوعات( ).
وهذا الاهتمام بالتطور التاريخي واضح لدى نقاد وباحثين آخرين، مثل عبد الواحد محمد (العراق) في كتابه «الرواية اليابانية الحديثة»، كما في عرضه لكتاب نقدي ياباني عن جوهر الرواية الذي يشير إلى تطور النظرة إلى فنية الرواية:
«وهذه الموضوعة هي أن الرواية شكل من أشكال الفن الخالص الذي لا يحتاج إلى تبرير يتعدى وجوده المجرد. وأنه مهما تعلم القاريء، أو استمد منها من دروس أخلاقية أو روحية، فستظل تلك الدروس عرضية بالنسبة لقيمة الرواية النهائية كعمل فني»( ).
1-4- اهتمام قليل بالفن:
تتحول الاستفادة من لغة الاتجاهات الجديدة أو مصطلحاتها أو بعض طرائقها، إلى غلبة لشرح المضمون، فقد عالج محمد محمود عبد الرزاق (مصر) في كتابه «فن معايشة القصة القصيرة» موضوعات عديدة مستفيداً من الاتجاهات الجديدة على نحو قليل، ففي مناقشته لأسلوب القص عند صلاح عبد السيد، على سبيل المثال، نلاحظ أن النقد الفني برمته يصير إلى شرح للمضمون( ).
وثمة نموذج ساطع لذلك لدى فوزي الزمرلي (تونس) في كتابه الكبير «الكتابة القصصية عند البشير خريف»، فهو يعرف الاتجاهات الجديدة، وإمكانيتها الهائلة في العناية بالفن القصصي وعلم السرد، ولكنه لا يذهب عميقاً في استخدام معرفته( ).
1-5- الحيرة المنهجية:
تعكس الكتابات النقدية لدى بعض نقاد هذا النمط وباحثيه شيئاً من حيرة منهجية، وقد اعترف بمثل هذه الحيرة مراد عبد الرحمن مبروك (مصر) في كتابه «العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر: دراسة نقدية 1914-1986»، فهو يعتقد أن الشكل في الرواية العربية «كان شكلاً أوروبياً يحاكي الأشكال الروائية الأوروبية، بينما كانت المضامين تراثية تعتمد على صياغة الأنماط التراثية في شكل روائي»( ). ولا شك في أن هذا الرأي لا يمكن تعميمه، فليس الشكل الروائي العربي كله تقليداً أوروبياً( ). ثم يعترف بحيرته المنهجية في دعوته لتشكيل نظرية بصدد ظاهرة استلهام التراث في الرواية العربية:
«ووقعت في حيرة وتردد بين الأشكال الأوربية ومقتضيات واقعنا العربي الحاضر، فقد أثبت تطور الأشكال الأدبية أن الحياة لا تقبل إلا ما ينسجم معها ويلبي حاجاتها»( ).
1-6- الحديث عن الفن زينة:
يستخدم بعض الباحثين والنقاد في نقدهم حديثاً فنياً يستعين بعلم السرد، دون توظيفه، فيبدو وكأنه زينة أو توشيح للنقد، كما في كتاب محمد قطب عبد العال (مصر) لذات والموضوع ـ قراءة في القصة القصيرة» (1994)، فهو، مثل كثيرين، من النقاد الجادين الذين يطورون نقدهم باتجاه الاستفادة من الاتجاهات الجديدة على قلة، ولكن هذا الاستخدام لا يجعل منه منهجاً، بالقدر الذي يتلفع فيه النقد بشيء من علم السرد توصيفاً، لا تحليلاً شاملاً للنص السردي( ).
2- دراسات انتقائية للاتجاهات الجديدة:
سعى عدد كبير من النقاد والباحثين إلى الاستفادة من اتجاه معين أو أكثر، قاصدين إلى مواءمة منهجية، أو إلى تعديل مناهجهم السابقة، وممارسو هذا النمط واثقون غالباً من اتجاهاتهم التقليدية التاريخية أو الأيديولوجية أو الأسلوبية.
2-1- الإيديولوجيا:
تبرز الانتقائية لدى النقاد والباحثين المتمترسين وراء أيديولوجيات معينة، ولا سيما الماركسية، واذكر نموذجاً لهم كاسوحه (سورية) في كتابه «المنفى السياسي في الرواية العربية: حيدر حيدر حنامينة» (1990)، و«الرؤية الإيديولوجية والموروث الديني في أدب حنا مينة» (1991)، ولربما كان الكتابان نموذجاً صارخاً للنقد الإيديولوجي بوصفه معوقاً من معوقات تقدم النقد الأدبي العربي، فالناقد يعترف بطغيان النقد السياسي والفكري عما سواه من العناصر الأخرى، فيحترز بالقول: «فإنه لابدّ من الإشارة إلى أن «وليمة لأعشاب البحر» هي رواية سياسية ذات بعد إيديولوجي مميز وواضح، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن إخضاعها إلى مناهج نقدية متعددة ومختلفة»( ).
ويشير إلحاح الناقد على التماهي والانعكاس والنمذجة، ضمن مفهوم المحاكاة التي تعني النقل المباشر للواقع إلى ابتسار النقد الإيديولوجي واحتباس الرؤية وضيق الأفق، كما في هذا الرأي عن حنا مينة:
«تبقى رواية «الثلج يأتي من النافذة» عبارة عن محاكاة صادقة وأمينة للواقع في مرحلة تاريخية معينة عاشها بطل الرواية فياض في خارج وطنه. لكنها، في الوقت نفسه تظل تفتقر إلى عنصرين أساسيين هما: التشويق الروائي، والتخييل الأدبي، وهذا ما جعلها تندرج ضمن الواقعية الميكانيكية الباهتة»( ).
ومن الواضح، أن هذا النقد الإيديولوجي ميكانيكي أكثر من اللزوم، فكيف تصح هذه الآراء التي تنفي عن رواية جيدة أهم عنصرين فيها؟ وكيف يبيح الناقد لنفسه حق إطلاق الأحكام جزافاً، دون تسويغ، على أنها جزء سيري، نافياً عنها صفتها التخييلية( ).إن الناقد مولع بالأحكام خلل وهم الواقعية وانعكاس الواقع، كمثل قوله:
«لقد بقيت رواية «الربيع والخريف» لاهثة خلف الواقع، ولم تستطع حتى مواكبته، فالواقع لم ينعكس في هذا العمل الروائي بشكل صحيح، كما لم يكتسب فيه مضامين جديدة، بل بقي أغنى وأعمق بكثير مما صوره به حنا مينة الذي أثبت عجزاً واضحاً في مسألة التخييل الروائي عندما كتب الرواية السياسية»( ).
وأعاد الناقد إنتاج أحكامه المطلقة المتعسفة في كتابه الثاني «الرؤية الإيديولوجية والموروث الديني في أدب حنا مينه»، على الرغم من استعانته ببعض مصطلحات النقد الأدبي، وثمة دراستان في كتابه من أصل سبع دراسات مأخوذتان من كتابه الأول. واستخدم كاسوحة المفاهيم الجدانوفية حول أهمية الكاتب البارزة، «بينما طروحاته في التغيير الثوري لعلاقات الإنتاج، لم تكن تتناسب مع حجم طموحاته، بل جاءت متخلفة عنها كثيراً»( ).
ولا يعرف المرء كيف ذلك؟ ما قيمته نقدياً؟ وكذلك تتردد في متنه مصطلحات غير نقدية، مثل الأحكام القاسية حول الفعل النضالي والتعبير عنه بعد الاستقلال، وروح المهادنة، وبروز الميول الإصلاحية والتصالحية، وفتح الثقة التامة للبورجوازية الصغيرة، وسقطة الروائي الفنية والسياسية في روايته «المرصد»، وغلبة التهويمات السياحية في «الربيع والخريف»، ووصف الروائي بمثقف بورجوازي صغير ممتلئ بالانفعالات العاطفية، واستمراره عند عقلية الخمسينيات نتيجة دوغمائية عقائدية، والإدانة الشاملة لبطله الذي تخطاه الزمن.. الخ( ).
وهذه الأحكام القاسية نموذج لنقد يتذرع بالمصطلحات الفنية للإدانة الجائرة والتعسف المطلق، ولعلنا نكتفي بمثل هذا الشاهد المنفر:
«وقد لمسنا افتقار أعمال حنا مينه إلى البعد الفلسفي والعمق النقدي، وإلى الاستبطان السيكلوجي لشخوص رواياته الذين تميزوا بضحالة فكرية واضحة»( ).
2-2- الجمالية:
استطاع شاكر النابلسي (الأردن) أن يطوّع نقده الأسلوبي لاحتضان بعض معطيات الاتجاهات الجديدة بما يكشف عن جمالية القصة والرواية، كما في كتبه الكثيرة، ولا سيما «مذهب للسيف ومذهب للحب: رؤية نقدية لأدب نجيب محفوظ من خلال روايته الشاملة ليالي ألف ليلة» (1985)، و«فض ذاكرة امرأة: دراسة في أدب غادة السمان» (1989)، و«مدار الصحراء: دراسة في أدب عبد الرحمن منيف» (1991)، و«جماليات المكان في الرواية العربية» (1994).
كتب النابلسي نقده للقاريء العادي حسب اعترافه في مقدمة كتابه «مدار الصحراء»( )، وأنه لم يلتزم بمدرسة نقدية معينة، بقدر ما أخذ «وسائل نقدية مختلفة، من مدارس نقدية متعددة.. ذلك أنني اعتقد بأنه من مصلحة القارئ، وهو مستهلك النقد الأول، أن يتم الفصل النقدي من خلال أدوات مختلفة، وصولاً إلى الفعل النقدي التام»( )، واعترف أيضاً أنه اعتمد في دراساته على ما سوف يكتشفه بنفسه في ضوء ما قرأه من جماليات المكان في الرواية الغربية( ).
يقوم نقد النابلسي على قراءة ذوقية انطباعية للرواية موظفاً بعض تقانات الاتجاهات الجديدة، على نحو شديد التبسيط، مما ينم عن استيعاب واضح لآليات النقد الجديد في الغرب، ومتجنباً في الوقت نفسه الارتهان لهذه الآليات، ولذلك تتصادى في نقده مصطلحات: بناء الشخصيات المعماري، كيمياء الرمز، بطولة إلى المكان، دوالي الزمن، الهندسة الروائية، التكوين اللغوي، معمارية الشخصيات، جماليات المكان وتشكيلات الزمان، معمارية الخلايا التعبيرية، بنائية الملحمة الروائية، دلالات الصور الفنية الطبيعية، جماليات أمكنة المجمعات السكنية، جماليات أمكنة المسارات والمصبات، جماليات أمكنة السكن الكبرى، جماليات أمكنة السكن الصغرى، جماليات أمكنة المأكل والمشرب، جماليات الأمكنة الطبيعية، جماليات أمكنة الليل والنهار، جماليات سجون الإنسان والأشياء، جماليات الفصول الأربعة كأمكنة.
غير أن دراسة علي نجيب إبراهيم (سورية) لجماليات الرواية أكثر منهجية واتساقاً في كتابه «جماليات الرواية: دراسة في الرواية الواقعية السورية المعاصرة» (1994)، فهو يمهد في فصله الأول لفهم الانتقال من علم الجمال العام إلى جماليات الرواية، شارحاً منهجه التطبيقي في سيرورته الجمالية ووسائله التقنية ومثله الجمالية، ويمعن النظر في البطولي والسامي في الرواية الواقعية السورية بعامة، وفي روايتي «الياطر» و«الشراع والعاصفة» بخاصة، وفي التحولات الاجتماعية والقيم الجمالية في الرواية الواقعية السورية بعامة، وفي رواية «الخيول» بخاصة، وفي سقوط المثل الأعلى الوطني بعامة، وفي رواية «قلوب على الأسلاك» بخاصة، وفي القيمة الجمالية بين صعود البورجوازية الصغيرة وسقوطها بعامة، وفي رواية «ينداح الطوفان» بخاصة، وفي الثورة الجمالية للشكل الروائي والثورة الاجتماعية في «ألف ليلة وليلتان»، وفي المسافة الجمالية بين عالم الرواية وعالم الواقع. وتفصح الخاتمة عن فلاح الناقد في تناول الرواية في سياقها الجمالي والتاريخي، مستعيناً ببعض منهجية البنيوية، كما في قوله:
«لكننا نميز في إطار أوسع ضربين من المقولات الجمالية الظاهرة في الشكل الروائي للنصوص التي حللناها:
أ- مقولات بنيوية إيجابية كالتناسب المحقق في رواية «الياطر» عن طريق التناقض بين القوى المحولة وقوى التوازن، وإن كان يمكن صقله أكثر لو أن الكاتب نظم قليلاً أفكار الراوي المصبوبة في جملة واحدة لا تقسيم فيها ولا فواصل.
ب- مقولات بنيوية سلبية كالتفكك الذي يعتري حكاية رواية «المذنبون»، والخلل الداخلي في حبكات رواية «ينداح الطوفان» الناتجة عن تدخلات الكاتب المستمرة في حياة شخصياته، وفي مخابئ مشاعرهم وأفكارهم»( ).
نقد علي نجيب إبراهيم جمالي فني تقني يوازن بين البنية والدلالة إلى حدود مقبولة، مما أتاح للناقد استبصاراً دلالياً نابعاً من فهم البنية في تشكلاتها الجمالية والفنية، ولا تخفى استفادة الناقد من بعض معطيات الاتجاهات الجديدة.
ونقع على مثل هذا النقد، لدى محمد بدوي (مصر) في كتابه «الرواية الحديثة في مصر: دراسة في التشكيل والإيديولوجيا» (1993)، في تصديه لدرس علاقة الشكل الروائي بالبنية الاجتماعية، متخذة من الإنتاج الروائي لروائيي الستينيات ميدان عمل لها. وعلى الرغم من الأخذ المنهجي والنظري عن الغرب، فإن الناقد ينقد أيضاً المركزية الأوروبية النقدية:
«ويرى الباحث أن كثيرين ممن يلوكون هذه المقولة غير جادين في استعمالها. ما دام عملهم النقدي، يبدأ من مقولات جاهزة تقسر النص العربي على الانصياع لها. إننا نحيا في إهاب ثقافة فقدت عقلها النقدي، ولكي نجاوز شرك التبعية. ينبغي أن نعاند لاستخلاص جناحها العالق بهذا الشرك. شريطة أن نعي أن جناحنا عالق حقاً به. وأول شروط نجاح هذه المعاندة كامن في البدء بالنصوص.
لست أدعو طبعاً إلى ضرب من الانطباعية. ولكني أدعو إلى أن نأخذ النظريات الغربية بوعي وحذر»( ).
التفت بدوي إلى مغامرة الشكل الروائي، من خلال بعض آليات الاتجاهات الجديدة: جدل التاريخ المعيش والذاكرة التاريخية، استراتيجية السمر الريفي، جماليات التشكيل الفولكلوري، قناع التاريخ والمعارضة النصية، النص المغاير، أسطرة المكان والشخصيات، استراتيجيات تعدد اللغات والمنظورات. ودرس، بالتفصيل، الجمالي في السياق التاريخي والاجتماعي. ولعل استعراض جانبمن تحليلاته واستبصاراته النقدية، يوضح استخدام بدوي اليقظ لعديد من آليات الاتجاهات الجديدة:
«فالبوليفونية تتجلى في «الزيني بركات» وتتفاعل في «التجليات»، وتكسر الأزمنة جلي في «نجمة أغسطس»، ويكاد ينعدم في «اللجنة». ورواية الصوت الواحد موجودة في «رامة والتنين»، شاحبة في «الزمن الآخر». وجماليات التشكيل الفولكلوري واضحة في «أيام الإنسان السبعة» بالغة الشحوب في «محاولة للخروج». وعلى مستوى آخر، نجد الترميز واللجوء إلى القناع التاريخي والمعارضة في «الزيني بركات» متجاوباً مع سيادة القهر وتضخم أجهزة أمن الدولة. لكننا نجد في الفترة نفسها شكلاً مغايراً محطماً للمواضعات واللغة المتعالية غير التاريخية في «تلك الرائحة»( ).
3-2- السردية: عمد عدد غير قليل من النقاد والباحثين إلى استعمال بعض آليات عمل السرد، كما هو الحال مع بدري عثمان (لبنان) في كتابه «بناء الشخصية الرئيسية في روايات نجيب محفوظ» (1986)، فقد اختار هذا الناقد شيئاً من خصائص البنائية( ) والسردية، اعتماداً على الموروث البروبوي والبارتي (نسبة إلى بروب وبارت). فقد أورد عثمان في مقدمته آراء عجيبة، كأن يجزم «أن الأشكال الروائية التي ظهرت قبل روايات نجيب محفوظ، أو معها، لا تتجاوز نطاق الإرهاصات الأولى»( )، أو أن ينسب كتاباً اسمه «إبراهيم الكاتب» لمصطفى ناصف، وهو رواية لإبراهيم عبد القادر المازني في الصفحة نفسها، أو أن يستنكر في الصفحة التالية إطلاق كلمة رواية على روايات نجيب محفوظ التاريخية، وبعض الروايات الأولى لتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل، أو أن يغفل عن التراث القصصي العربي، أو أن يغرق في الكلام الإنشائي الذي لا طائل وراءه( )، أو أن تأخذه السذاجة والتبسيط المخل، حين يشبه كلاماً لمحمود أمين العالم بمفهوم الجاحظ للأدب( ). غير أن عثمان ما يلبث أن يستعين بمعطيات بنيوية سردية، مثل أنماط بناء الشخصية: الواقعي التصويري التركيبي للشخصية الرئيسية، وأن يسوغ منهجه البنيوي جزئياً، وأن يحصره ببعض المصطلحات: «وقد استعان الدارس ببعض المصطلحات الحديثة المستخدمة في المنهج البنائي، ولكن في حدود ضيقة جداً وذلك لأن هذه المصطلحات، تعبر عن قاموس نقدي جديد لم يستقر بعد، كما أن الإيغال في استخدامها، قد يخرج العمل الفني عن طابعه الإبداعي الذي لا يساوي فيه إلا نفسه»( ).
إنها آراء غريبة لا تنتظم في منهجية محددة أو متآلفة، فغلبت على الدراسة شكلية وبنيوية ودلالية مما يندرج في المنهج العلامي، وثمة استخدام واسع لوظيفة التصوير اللغوي، وللوحدات اللغوية والوظائف، وللتصوير والوصف في تحليل بناء الشخصية الرئيسية.
وختم عثمان كتابه بالدعوة إلى نقد نصي، الرواية بما هي لغة، واستنتج ما يلي:
• اتخاذ الشكل أو القالب اللغوي مقياساً أساسياً في بناء نجيب محفوظ للشخصيات الرئيسية.
• جاءت المحاولات التحليلية مرة، والوضعية الاستنتاجية مرة ثانية، لبنية الشخصيات الرئيسية، قائمة على ما للغة من نشاط دلالي فعال.
• كشفت الدراسة التحليلية للنصوص الروائية، على شيء مهم في عالم هذا الفنان، وهو أنه يوجد وراء مختلف الأبعاد المحسوسة والمرئية للشخصيات الرئيسية، رؤية فنية وفكرية شاملة تبدو بمثابة الينبوع الذي بتوقفه، تفتقد الحياة توازنها وعطاءها، وهو يتمثل في توقف معنى العدل الإنساني عن التحقق في الحياة.
• بنيت شخصيات نجيب محفوظ الرئيسية، باعتبارها مجموعة صور لوجود تناقض صارخ بين ما هو كائن فعلاً في الحياة، وبين ما يجب أن تكون عليه.
• محاولة تقديم طريقة خاصة في التحليل اللغوي للنصوص الروائية.
• يرى الدارس أن نجيب محفوظ، كظاهرة لغوية فنية، لا تزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات البناءة القائمة على فحص اللغة وتحليلها( ).
ثمة تداخل في معالجة عثمان للسرد، جعله يمزج بين عدة مناهج وصفية وبنيوية وسردية. وقد اختار مدحت الجيار (مصر) بعض معطيات السرد في كتابه «السرد النوبي المعاصر» (1994)، فدرس «مجمل النصوص النوبية المعاصرة، كظاهرة واحدة، ذات تجليات مختلفة، تحتاج إلى تأمل نقدي وجمالي ومضموني»( )، وهكذا، عني الجيار بالسرد الأدبي من خلال روايات نوبية معينة، باحثاً عن سياق السرد النوبي، وخصائصه بين التناص والتعالق النصي. وتحفل صفحات كتابه بتحليلات ذكية للسرد، ولو على سبيل الإجمال والشرح:
«كما تزدحم الرواية بصيغة السؤال، فلا تخلو صفحة في هذه الرواية من علاقة استفهام أو تعجب، وهذه التقنيات اللغوية الأسلوبية، تواءمت مع موضوع هذه الرواية السياسية التي غلب عليها حس المحقق، والسائل والمسؤول، وانتظار الإجابة»( ).
2-4- التاريخ والفن:
يواءم بعض النقاد والباحثين العرب بين التاريخ والعنصر في ممارستهم النقدية، فينجزون نقداً تقليدياً مطعماً بمعطيات من الاتجاهات الجديدة، كما هو الحال عند محمد رجب الباردي (تونس) في كتبه «شخص المثقف في الرواية العربية المعاصرة» (1993)، و«الرواية العربية والحداثة جـ1» (1993)، و«حنا مينه روائي الكفاح والفرح» (1993).
يلتزم الباردي إلى حد كبير، بنهاجية النقد التقليدي الشارح الواصف، وتكاد تندرج دراسته عن شخص المثقف في دراسات الموضوع، كأن ينصرف إلى تصنيف بيئة المثقف أو تنزيل الصورة في المكان، وعمر المثقف أو تنزيل الصورة في الزمان، ووضعية المثقف الاجتماعية أو تنزيل الصورة في البيئة الاجتماعية، ووضعية المثقف السياسية والدينية أو تنزيل الصورة في البنية الفوقية. وثمة معالجة لسلوك المثقف تجاه قضيته، والمثقف ومواقفه من المثقف والمرأة والجنس والثورة والغربة، بيد أن الباردي لا يبين ذلك من خلال دراسة النص أو السرد، ناهيك عن إغفاله الإجابة عن أسئلة أخرى، فماذا عن المثقف المنفي إزاء مهاجره وانتمائه؟ وماذا عن المثقف والسلطة؟ وماذا عن أشكال المثقف المناضل والعضوي؟.( )
ويتناول الباردي في كتابه عن الرواية العربية والحداثة علاقات التأثير والتبادل بين الرواية الجديدة في فرنسا والرواية الحديثة في مصر من خلال أعمال صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ويوسف القعيد، فترد بعض طرائق الاتجاهات الجديدة ومصطلحاتها في نقده، ويلاحظ على مستوى الشكل التناص في الرواية المصرية وغيابه في الرواية الفرنسية، وعلى مستوى المضمون بروز معاني السخرية والجنس والسلطة في الرواية المصرية بينما تكاد تغيب في الرواية الفرنسية. إنه منهج تقليدي ذو تلوينات بنيوية وشكلية في تتبع تفاصيل الحكاية أو الحبكة أو طبيعة الشخوص( ).
وتكثر في السياق التباسات المعلومات وضعف التدقيق في المصادر والمراجع مثل:
• مجلة «غاليري»، وليس فاليري ص21.
• ذكر أن أدوار الخراط شرع في كتابة روايته «الحيطان الأربعة» في الأربعينيات، ولكنه نشرها لأول مرة سنة 1958. والصحيح أن العنوان هو «حيطان عالية»، وأنها قصص، وليست رواية. ص22.
• استخدام مصطلح «ما بعد الحداثة» دون تحديد ص54.
• لا يلتزم المأثور لدى مترجمي أعمال الرواية الجديدة الفرنسية.
• رواية الغيطاني الأولى هي «الزيني بركات»، وليس «الزويل» ص54 (قارن مع ص124).
• بدأ الغيطاني النشر في مجلة «القصة» (القاهرة) ص57، وليس كما ذكر الناقد.
• أولغا بارنال أنثى، وليست ذكراً ص7.
• ثمة طبعة صودرت من «تلك الرائحة»، بينما نشرت، على نطاق عربي، مجلة «شعر» البيروتية الرواية في أحد أعدادها ص87.
• لا يوضح مصطلح «كتاب» أو «رسالة» ص108.
• الطبعة الأولى من «رسالة في الصبابة والوجد» هي طبعة دار الهلال، وليست طبعة دار الشروق ص125.
وأشير إلى بعض مظاهر النقد التقليدي وتطعيمه ببعض معطيات الاتجاهات الجديدة:
• اصطناع أوجه تشابه بين الرواية الجديدة الفرنسية والرواية الحديثة في مصر ص61 (قارن ص366).
• تعريف مفهوم السرد التقليدي ينتمي إلى النقد الأنجلوسكسوني ص95.
• الاستشهاد، على ندرة، بالشكلانيين الروس - توماشفسكي ص209، والبنيويين - تودروف ص210، والميثاق السردي للالتزام 282، واستخدام مصطلح الوظيفة Motive للحافز، شأن كثير من النقاد في المغرب العربي، ص248.
• التعويل المبالغ فيه على تصريحات المؤلف إزاء مؤلفاته؟! ص302.
وكان الباردي واضحاً في منهجيته التقليدية في كتابه عن حنا مينة، فتناول سيرة حنا منيه إنساناً وكاتباً، مطابقاً بين السيرة الشخصية والكتابة الروائية، ومسمياً بعض رواياته بالروايات الأوتو بيوغرافية (السيرية) معتمداً على لوجون( )، وعد «الربيع والخريف» جزءاً ثالثاً من ثلاثيته السيرية «بقايا صور» و«المستنقع»، بينما الجزء الثالث هو «القطاف».
وثمة ملاحظة تصيب مثل هذا النقد المولع بأحكام القيمة والتفضيل، فقد رجح أن أهم ما قرأناه عن حنا مينه هو كتاب محمد كامل الخطيب وعبد الرزاق عيد «عالم حنا مينه الروائي» (1976)( )، وهناك كتب وأبحاث كثيرة عن حنا مينه تتسم بمنهجية ودقة علمية وموضوعية لا مجال لتعدادها.
واستخدم طرائق النقد التقليدي في التعريف، فعدّ بعض روايات مينة تسجيلية، على أن التسجيلية هي الأسلوب الصحفي في كتابة السرد( )، وليست التسجيلية كذلك، وليس ثمة روايات تسجيلية عند مينة. ثم استفاد من بعض معطيات الاتجاهات الجديدة في دراسته للخصائص الفنية في روايات حنا مينة، على سبيل التحليل السردي المبسط، مثل الحبكة، وطبيعة الأفعال، والبطل الروائي أو الإيجابي أو الإشكالي، والمكان والزمان، والسرد والسارد، ولعبة الضمائر، والرؤى، وتهشيم السرد والتعامل مع الزمن، ويعلن أنه توخى منهج جينيت بالنسبة لتراكم الحكايات والرموز ونظام الزمن ووصف الأشياء.
عول الباردي كثيراً على المساعدات الخارجية في دراسة أدب حنا مينه كالنقد المكتوب عنه، ومواقف القراء من أدبه، واعترافاته وكتاباته وأفكاره السياسية وآرائه الفلسفية، والعوامل الخارجية المؤثرة، النفسية والاجتماعية والثقافية. ولربما يفيد عنوان الكتاب في التعرف إلى طبيعة ممارسته النقدية «حنا مينه روائي الكفاح والفرح»، فمما لا شك فيه أن كلمتي الكفاح والفرح، لا تشيران إلى مصطلح نقدي، أو دلالة محددة.
وعلى العموم، نلمس انتقائية لبعض معطيات الاتجاهات الجديدة وآلياتها ومصطلحاتها في هذه الكتب، بالإضافة إلى كتب أخرى كثيرة نذكر منها «فصول في النقد» (1984) لغالب هلسا (الأردن)، و«دراسات في الرواية العربية» (1987) لإنجيل بطرس سمعان (مصر)، و«الأدب الحديث والمعاصر: إشكاليات الرواية 1» (1990) لمصطفى الكيلاني (تونس)، و«تيار الزمن في الرواية العربية المعاصرة» (1991) لمحمود محمد عيسى (مصر)، و«وهم البدايات: الخطاب الروائي في الأردن» (1993) لفخري صالح (فلسطين)، و«الزمان، المكان، النص في الرواية الأردنية» (1993) لغسان عبد الخالق (الأردن)، و«عبد الله العروي وحداثة الرواية» (1994) لصدوق نور الدين (المغرب)، و«عالم عبد الرحمن منيف الروائي ـ تنظيروإنجاز» (1995) لصبحي الطعان (سورية)، و«أفق النص الروائي: دراسات تطبيقية في الرواية والقصة القصيرة» (1995) لعبد العزيز موافي (مصر)، و«تأملات في إبداع الكاتبة العربية» (1997) لشمس الدين موسى (مصر)، و«الأرض والصدى: دراسة نقدية لرواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي» (1997) لمحمد البدوي (تونس).
وتظهر الدراسات والبحوث الصادرة خلال الأعوام الأخيرة (1998-1999) غلبة التوفيقية والانتقائية في التعامل مع الاتجاهات الجديدة، وكأن حال الناقد الأدبي العربي الحديث هو مجاراة الجديد داخل بنى النقد التقليدي المأثور عن الغرب أيضاً، ولعلنا نورد إيضاحات أخرى لمثل هذا النقد التطبيقي الانتقائي والتوفيقي:
2-4- الالتزام المنهجي:
لا يخفي ممارسو هذا النقد التزامهم المنهجي بمنهج تاريخي أو وصفي، أو ما يحظى بتسمية خاصة من هذا الناقد أو ذاك، فقد أعلنت بثينة شعبان (سورية) في كتابها «100عام من الرواية النسائية العربية» (1999) أن منهجها استقرائي في معالجتها التاريخية والفنية لموضوعات الرواية النسائية العربية خلال القرن العشرين، وهو عمر هذه الرواية، التي تراها في موقع الريادة من الكتابة الروائية العربية، لا كما تنسب للرجل مثل رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل أو سواه، وهكذا كان شاغلها «حل خيوط العناصر الاجتماعية – السياسية والثقافية التي أنتجت العمل، والأهداف الأدبية والسياسية التي سعى العمل لتحقيقها»( ).
بينما أعلن نقاد آخرون التزامهم بمنهج تحليلي مقارن كما هو الحال مع كتاب «تولستوي ودوستيفسكي في الأدب العربي» (1999) لممدوح أبو الوي (سورية)، ويستطلع مؤلفه فيه مدى انتشار هذين الكاتبين العظيمين في الأدب العربي الحديث، ولاسيما تأثيرهما على بعض كبار القصاصين الروائيين من فرح أنطون إلى أمين الريحاوي وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ونجيب محفوظ وسواهم، أساليب وتقنيات ومعالجة موضوعات.
2-5- المزج الأسلوبي:
غالباً ما يعلن ممارسو هذا النقد أنهم يمزجون في أساليبهم بين إجراءات النقد التقليدي وبعض مصطلحات أو تقانات الاتجاهات الجديدة، وأذكر مثالاً لذلك كتاب شرين أبو النجا (مصر) «عاطفة الاختلاف: قراءة في كتابات نسوية» (1998)، الذي يركز على الآليات النصية من خلال العلاقة بين البناء والمتن Praxis، إذ تستخدم مؤلفته العوامل المساعدة مثل التعرف إلى تجربة الكاتبة وآرائها لتحديد مدى التداخل والتشابك ما بين التجربة الذاتية والعمل الأدبي، أو أن تتكرر على استحياء مصطلحات الخطاب السردي والخطاب الهامش والخطاب المهيمن، والإشارات اللانهائية والتناص( ).
وكان صرح نذير جعفر (سورية) في كتابه «رواية القاريء» (1999)، أنه سعى في نقده التطبيقي إلى التحرر، قدر الإمكان، من سطوة النص وسطوة المؤلف وسطوة الانتماء الإيديولوجي، مستفيداً من علم النص وعلم السرد، في دراساته، التي تتناول أعمال ستة روائيين من سورية، بالإضافة إلى نجيب محفوظ (مصر) وعبدالقادر عقيل (البحرين) وعبدالإله عبدالقادر (العراق).
2-6- تسويغ نقد الموضوعات:
ثمة دراسات كثيرة يستفيد من الاتجاهات الجديدة دون أن تسميها، فتتلامح في ممارستهم النقدية إشارات ودلالات من النقد الجديد، ونذكر نموذجاً أول لمثل هذه الدراسات كتاب عماد العبدالله (لبنان) «الأرض الحرام: الرواية والاستبداد في بلاد العرب» (1997)، والكتاب بمجمله يعتمد نقد الموضوعات، ولكنها يسوغها باستفادته البصيرة من الاتجاهات الجديدة في نقده التحليلي التأويلي، لصوغ نصه النقدي صوغاً دالاً بلغة اتصالية ثرية.
على أن نقاداً آخرين يسوغون نقد موضوعاتهم ببعض معطيات الاتجاهات الجديدة وذكر مرجعياتها، وثمة أمثلة كثيرة لذلك. يأخذ حسان رشاد الشامي (فلسطين) في كتابه «المرأة في الرواية الفلسطينية 1965-1986» (1998) ببعض إجراءات المنهج البنيوي التكويني في جانب الدراسة الفنية، وهو الجانب الأقصر في كتابه، فيورد إشارات عن دراسة نماذج الشخصية وبنائها والمكان والزمن النفسي وحركتي الزمن السردي، والاسترجاع والاستشراف وأنماط السرد، وعلاقاته بالخطاب والحوار والوصف واللغة.
ويميل محمد نديب التلاوي (مصر) إلى المنهج الدلالي أو العلاماتي قليلاً في كتابه «الذات والمهماز: دراسة التقاطب في صراع روايات المواجهة الحضارية» (1998)، ولاسيما جانب دراسته التطبيقية، وهو الأوسع في كتابه.
وهذا ما فعله مصطفى الضبع (مصر) أيضاً في كتابه «رواية الفلاح، فلاح الرواية» (1998) الذي يستعمل لغة الاتجاهات الجديدة في السرد والوصف من خلال بحث وضعية السارد، وأثرها في السرد، وقد خصص الفصل الثالث والأخير للمسات الفنية لرواية الفلاح وأثره في هذه تشكيل هذه البنية من خلال بنيات ثلاث هي: العنوان الروائي، والسرد والوصف والحوار، وما يلحقها من دراسة البنية الوصفية للمكان وأشيائه، والرمز وجماليات البنية.
ومضى في هذا المسار شريبط أحمد شريبط (الجزائر) في كتابه «تطور البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة 1947-1985» (1998)، فهو يعنى بتحليل النصوص استهدافاً لدراسة الموضوعات، ومستنداً إلى عناية جلية بالنقد القصصي والروائي التقليدي، ولاسيما البنية الفنية للحدث القصصي وبناء الشخصيات، يتخللها على استحياء بعض مصطلحات علم السرد مثل صيغ سرد الأحداث( ).
2-7- انتقائية داعمة أو متمثلة:
عمد عدد كبير من النقاد والباحثين إلى تدعيم نقدهم القصصي والروائي ببعض معطيات الاتجاهات الجديدة أو تمثيلها ضمن خصوصية ممارستهم النقدية. وقد برع عبده عبود (سورية) في تمثل الاتجاهات الجديدة دون مبالغة على أنها تراث للناقد أينما كان، ويظهر هذا التمثل الواعي في دراساته الاستقبالية للنثر القصصي الألماني في اللغة العربية، ولاسيما كتابه الأخير في مجاله «القصة الألمانية الحديثة في ضوء ترجمتها إلى العربية» (1996)، فتشير ممارسته النقدية التطبيقية لنصوص محددة ولكتاب بعينهم إلى مدى انتشار القصة والرواية العالمية في الأدب العربي الحديث، وإلى الشأو العالي لتمكن الناقد العربي الحديث من الاتجاهات الجديدة، في تعامله مع نظرية الاستقبال والتلقي ونقد المثاقفة.
وهذا واضح أيضاً في شغل إدوار الخراط (مصر) النقدي، الذي يتمثل ما يناسبه من الاتجاهات الجديدة في رؤيته للحداثة، كما في كتابه الأخير «أصوات الحداثة» (1999) الذي يتقصى فيه الاتجاهات الحداثية في القص العربي مستعيناً إلى حد كبير بالمناهج الحديثة مثل الاتجاه الفنتازي (ما بين الواقع)، والأسطورة والشعر في القص، والتشييء وشبه الحياد وتحديث التراث..الخ.
ويظهر شيء من هذا التمثل في ممارسة بعض النقاد والباحثين في الكتاب المشترك «دراسات في الرواية العربية» (1998)، أمثال غسان عبدالخالق (الأردن) وعواد علي (العراق) وطراد الكبيسي ( العراق)، ففي دراسة عبدالخالق «نجيب محفوظ واستدخال النص التراثي: ليالي ألف ليلة.. نموذجاً» استعمال محدود لمنهج كريستيفا ومفاهيمها للتناص، بينما يلجأ عواد علي في بحثه «من زمن التخيل إلى زمن الخطاب: قراءة في رواية جمعة الفقاري لمؤنس الرزاز» إلى بعض تقانات علم السرد، كما أوضحها حسن بحراوي في كتابه «بنية الشكل الروائي» (1990).
واعتمد الكبيسي في بحثه «الرواية العربية المعاصرة والتراث: سيميولوجيا الهدم والتكوين - سابع أيام الخلق أنموذجاً» على المغريات المعرفية عند فوكو، والعلاماتية عند كريزنسكي وكايزير والدلالالة عند تودوروف.
وقد اقتصد نضال عبدالقادر الصالح (سورية) في تمثله للاتجاهات الجديدة في كتابه «تحولات الرمل: الحكائي والجمالي في القصة القصيرة في قطر» (1999)، فدرس بواكير التجربة القصصية القطرية وشواغل القص في تجارب الثمانينيات والتسعينيات كالمرأة وقضاياها وتجليات المثقف والتحولات الاقتصادية، قم انتقل إلى درس السمات الفنية متمثلاً بعض معطيات الاتجاهات الجديدة مثل تقنيات القص ورؤاه ولغته.
3- دراسات ذات ميل أكبر إلى الاتجاهات الجديدة:
تظهر خريطة النقد القصصي والروائي العربي في التسعينيات على وجه الخصوص، الإقبال المتزايد للنقاد والباحثين العرب على الأخذ بالاتجاهات الجديدة، أو إخلاصهم لهذا الاتجاه أو ذاك، أو تطوير استخدام هذه الاتجاهات على نحو ما.
3-1- الاشتغال السردي النصي:
عني النقاد والباحثون العرب بالسرد، كما رسخه علماء السرد، واتجهوا إلى دراسة الاشتغال السردي النصي بمظاهره المختلفة: أساليب السرد، البنى السردية، لغة السرد، تقنيات السرد، عتبات النص.
وضع صلاح فضل (مصر) كتابه «أساليب السرد في الرواية العربية» (1992) بتأثير انتعاش السرديات الحديثة إذ عدّها «من الدوائر اللافتة التي تقترب عندها جملة البحوث النقدية من منطق الخطاب النقدي بمناهجه الحركية المضبوطة، فقد استطاعت في العقود الثلاثة الماضية فحسب أن تؤسس معرفة متنامية ودقيقة بالنصوص السردية في تجلياتها المختلفة حتى غدت نموذجاً مشجعاً لما يسمى بعلم الأدب في تشكله المتطور الدؤوب، المتجدد بقدر ما ينبثق في المخيلة الإنسانية من إبداع»( ).
ورأى أن نقده التطبيقي يندرج في دراسة أشكال الصيغ والكيفيات المختلفة لأنماط السرد وعمليات التركيب في أجرومية الرواية ووظائفها، مما عرض له بالتفصيل في كتابه «بلاغة الخطاب وعلم النص» (1992). واتساقاً مع موقفه الناقد للشكلانية المغالية في هذه الاتجاهات الجديدة، فقد أثار سؤالاً ميز بموجبه، إزاء لغة النقد الحديث واستعصائه على القارئ العادي، بين نقد توزع فيه الوظائف الطليعية التجريبية على المجال الأكاديمي، ونقد تطبيقي موجه على النطاق الثقافي العام، فليس نافعاً «أن نقوم بتطبيق هذه المفاهيم ـ بطريقة آلية ـ على جميع ما نتناوله من نصوص سردية، فنحيلها إلى عدد من الرسوم والجداول البيانية المجافية للحس الفني والتذوق النقدي لألوان الشعرية المتفاوتة»( )، مثلما رفض فضل أيضاً أن يتحدث النقد «عن المادة القصصية اعتماداً على مضمون الخطاب السردي وتوجهاته المذهبية، فقد انتهت سيادة الإيديولوجية وشعاراتها القديمة. ولم تعد النوايا الطيبة هي التي تحدد مستويات الأعمال ودرجة أهميتها، فقد اتضح أن مستويات التوظيف ترتبط بالإنجازات التقنية والجمالية، ودخلت علوم اللغة بصرفها ونحوها ودلالتها، ومباحث الأسلوب بإشكالياتها المتعددة وأدواتها الإجرائية، ثم علم النص بما أسفر عنه من طرق تحليلية للأبنية الصغرى والكبرى وكيفية تراتبها، جاءت كل هذه العلوم لتصنع خرائط جديدة للحقول الإبداعية، واستحدثت معها مصطلحاتها وآلياتها، وقامت السيميولوجيا عن طريق تنظيم مجالات الإشارات وترابطاتها الرمزية بالتوسط لفض إشكالية التعارض المزعوم بين البنية المنبثقة والسياق العام للنص»( ).
استند فضل إلى هذه الإنجازات التي تحققت لعلم السرد، وأقام على مكتسباتها تصنيفاً نوعياً جديداً، يسمح برصد ما يسمى بالأساليب السردية.
وعمد فضل في تصنيفه لأساليب السرد العربي المعاصر، إلى التوافق بين ثلاث مجموعات ثنائية من العناصر الروائية هي الإيقاع والمادة والرؤية. والإيقاع ناجم عن حركتي الزمان والمكان أساساً، كما أن المادة تتمثل في حجم الرواية، أي امتدادها الكتابي من ناحية، وطبيعة لغتها من ناحية ثانية. بينما تبرز الرؤية من خلال كيفية عمل الراوي وتوجيه المنظور. وأهم خاصية لهذا الطرح هو التعالق والتراتب، فالفصل بين تلك الوحدات إنما هو مجرد إجراء تحليل يضع في اعتباره أصلاً طبيعة تداخلها. وافترض نتيجة لذلك وجود ثلاثة أساليب رئيسة للسرد العربي هي:
1- الأسلوب الدرامي: ويسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعددة من زمانية ومكانية منتظمة، ثم يعقبه في الأهمية المنظور، وتأتي بعده المادة، وعالج في إطاره روايات «يوم قتل الزعيم» لنجيب محفوظ، و«الولاعة» لحنا مينه، و«خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر.
2- الأسلوب الغنائي: وتصبح الغلبة فيه للمادة المقدمة في السرد حيث تتسق أجزاؤها في نمط أحادي يخلو من توتر الصراع، ثم يعقبها في الأهمية المنظور والإيقاع. وطبق ذلك على روايات «الآن.. هنا» لعبد الرحمن منيف، و«هاتف المغيب» لجمال الغيطاني، و«تجربة في العشق» للطاهر وطار، و«كناسة الدكان» ليحيى حقي، و«سرايا بنت الغول» لأميل حبيبي.
3- الأسلوب السينمائي: ويفرض فيه المنظور سيادته على ما سواه من ثنائيات، ويأتي بعده في الأهمية والإيقاع والمادة. وفحص في هذا النمط روايتين هما «وردية ليل» لإبراهيم أصلان، و«ذات» لصنع إبراهيم.
ونوه فضل في تمهيده لبحثه إلى أنه لا توجد حدود فاصلة قاطعة بين هذه الأساليب، إذ تتداخل بعض عناصرها في كثير من الأحيان، و«كل رواية تتضمن قدراً من الدرامية والغنائية الذاتية أو الملحمية والسينمائية، لكن تفاوت النسب، وتراتبها، ومستويات توظيفها في النص ككّل هي التي تحدد موقعها. كما أن المقاربة النقدية لكلّ نص على حدة تهدف إلى اكتشاف شعريته الخاصة وما يثيره من مجالات تتجاوز نطاق العناصر الأسلوبية المعتمدة في هذا السلم، بحيث لا تصبح الدراسة جدولاً برهانياً لفرضية التصنيف، تعمي عما عداه من مناطق الإثارة الجمالية والدلالية في النص»( ).
يدقق فضل مصطلحه ويضبط إجراءاته النقدية، وعندما تناول رواية «يوم قتل الزعيم» لمحفوظ، حدد نوع هذه الرواية بأنها سياسية، بينما القراءة السردية بطبيعتها جمالية، وأطل عليها خلل «مقاربة تقنية، تنبثق مكوناتها مما يتجلى من عناصر مهيمنة في النص، وقد برز منها عنصر هام عند تحليل العنوان ذاته، وهو «المفارقة» التي تقرض وجودها على القارئ منذ الوهلة الأولى كذلك». واستخدم لقياس الإيقاع في الرواية نموذجاً اهتدى إليه الباحثون يعتمد على سرعة عملية القص ذاتها، و«ذلك بأن تؤخذ لحظة المشهد الحواري الذي يبرد أثناء السرد باعتبارها نموذجاً لتطابق الزمنين، وحالة قصوى من تعادل القول مع الفعل. ثم يقاس على نمطها التباين بين هذه الأطراف كثافة ورهافة، أو سرعة وبطءً»( )، ويضمن ذلك سلم إيقاع مكون من خمس درجات هي الخوف والاختصار والمشاهدة والتباطؤ والتوقف.
يبدو استيعاب فضل للاتجاهات الجديدة، وإعادة إنتاجها في ممارسته النقدية مثار إعجاب، كما في معالجته لتعادل الإيقاع الدرامي على سبيل المثال. فوقف عند دلالة هذا الشكل الذي يعتمد على منظور ثلاث شخصيات تتبادل السرد فيما بينها بنظام لا يتسرب إليه الخلل، بل يمثل ذروة ما ينتهي إليه المؤلف من الصرامة والضبط والدقة. ثم شرح نظام السرد ووحدات القص المكونة لإيقاع الرواية الكتابي، وأورد ملاحظاته.
وأوضح فضل ميزة الأسلوب السردي في هذه الرواية وهو المفارقة بوصفها مجاز الرواية، متجنباً الغوص في الخصائص الشكلية، لأنها إما أن تعقد فوقها غشاوة، وإما أن تغيب أمام المحتوى الذي تكشف عنه بصفاء... لذلك يجب أن يكون الفن والأدب المتميز بتوظيف المفارقة مشتملاً على السطح والعمق، الغشاوة والصفاء، كما يجب أن يستحوذ على انتباهنا على مستوى الشكل إذ يوجهنا نحو مستوى المحتوى. ولهذه الخاصية الجوهرية في المفارقة، باعتبارها عوناً على ازدواج الرؤية، أو لنقل تجسيدها من أبعاد عديدة، إسهامها في تعدد دلالات النصوص الأدبية بطريقة موضوعية بارزة.
وحدد الأسلوب الغنائي بخصائصه الذاتية وبالفيض الإنشائي اللغوي والاسترسال الصوري (جمع صور)، وبإحلال الذات محل الموضوع، وبالإلصاق، وبالبعد السيري.. الخ، مما يدفعه إلى التسلح بالتأويل، فلعل الغنائية خيار فني لمواجهة شروط التاريخ الباهظة في بذخ أسطورية الواقع، تقيه، أو إحاطة بالحدود المتلاشية بين الواقع والخيال.
وأفاض في وصف خصائص الأسلوب السينمائي، وكان الأسلم والأفضل أن يسميه الأسلوب الوثائقي أو التسجيلي، نظراً لخصوصيته في تنظيم نسق خطابه، لأن الأسلوب السينمائي لا يقتصر على تقنية الوثيقة فنياً فقط، بل يتعداها إلى تقنيات أخرى تفعل فعلها في صياغة الأسلوب، فليس يكفي التقطيع أو تتالي المشهدية، أو حركية المنظور، أو الوصف الخارجي. لكن فضل يجتهد في صوغ خاص غير متكلف لأساليب السرد، حريصاً على فك مغاليق النصوص وتفريد نظامه السردي ومنظومته القيمية، لاستخراج دلالاته الكامنة، ولعله أفلح في ذلك كثيراً، كمثل قوله عن اللعبة السردية لصنع الله إبراهيم في رواية «ذات»( ).
يتجلى في كتاب «أساليب السرد في الرواية العربية» تمثل الاتجاهات الجديدة وهضمها وإعادة إنتاجها، ومحاولة الاستغناء عن شكلانيتها المفرطة، على أن فضل لا يخل بشروط قراءة منفتحة على التأويل مؤمناً أن للنص خطابه الخاص الذي ينبغي تفكيك وحداته وآلياته. بيد أن المرء يتساءل عن تعمد المؤلف في تجاهله أو إهماله لتوثيق مرجعيته ومصادره، ولا يسوغ ذلك دعواه أو دعوته لتطبيق نقدي موجه على النطاق الثقافي العام.
ويقدم عبد الله رضوان (الأردن) نقداً تطبيقياً مختلفاً عن فضل في كتابه «البنى السردية: تقنيات القص في القصة القصيرة الأردنية» (1995)، إذ يعمد إلى تقسيم شكلي متعسف غالباً، وفي الوقت نفسه لا يلتزم بالشكلانية أو بالبنيوية، أو بهما معاً. إنه أقرب إلى نقد لغوي شكلي يكاد يغيّب الأغراض أو المحتوى. ويصرح رضوان أن كتابة إلياس خوري عن القصة القصيرة في ندوة مكناس (1983) حفزه لإنجاز هذه الدراسة عن تقنيات القص في التجربة القصصية الأردنية منطلقاً من افتراضات ترى أن القصة «نظام»، أو «بنية»، أو «قول لغوي أساساً»، أو «تقنيات حيادية يوظفها القاص لتقديم خطابه ـ قوله ـ فتتخلى عن حياديتها، وتصبح جزءاً من بنية القص»، ثم اعتمد على البنيويين، ولا سيما بارت، والشكلانيين الروس، من أجل خطاطة رئيسة لأشكال تقنيات القص تشمل: السرد: أشكاله وأزمانه ومستوياته، الحوار، الوصف، التداعي، المونولوغ، اللغة باعتبارها أداة القص ـ أداة صياغة واستخدام التقنيات القصية المختلفة.
وآثر اللجوء «إلى تقسيم تاريخي قد يبدو في ظاهرة جائراً، ولكني رأيته معبراً عن تطور حركة القص في مجال استخدام تقنيات القص المتعددة، وقد اعتمد هذا التاريخي مع وعيي الكامل بتداخل النصوص القصصية بحيث لا ينجح هذا التقسيم كثيراً في وضع مفاصل مقنعة في سياق تطور ـ تجديد ـ القص»( ).
وأختار لتقسيمه منطق الأجيال، على صعوبته، وهي: الرواد الأوائل، الرواد الشباب، الشباب، الجيل الجديد، وهذا التقسيم متعسف أيضاً وغير نقدي، لأنه يعول على عمر القاص بالقياس إلى الفترة التي مارس فيها كتابته القصصية لأول مرة، وإلا كيف يكون رائداً وشاباً؟ وما الفرق بين الرواد الشباب، والشباب، والجيل الجديد؟. بالإضافة إلى سؤال هام يتصل بتجربة الرواد الأوائل الذين لا تصمد قصصهم أمام النقد الفني بالنظر إلى مستواها المتواضع.
باشر رضوان نقده التطبيقي دون مقدمات نظرية أو منهجية مكتفياً بقدر قليل من الشرح اللغوي أو التوصيف الشارح لا تلتزم باتجاه محدد أو بمنهجية محددة، فقد داخل بين تقنية وأخرى، وذكر تقنية السرد، وعزلها عن تقنية الوصف، ثم ما لبث أن عاد إليها في السياق، جاعلاً من التقنية سمة لغوية فحسب، كما في هذا الشاهد الدال على ممارسته النقدية المبسطة، واستعماله غير الدقيق للمصطلح إذ صار فيه «التحفيز»، وهو مصطلح أساس في علم السرد، مرادفاً للحركة، أي الاقتصار على معناه اللغوي: «مسألة أخرى تبرز في تقنية الوصف التي يستخدمها الرواد في قصصهم، متعلقة بأن الوصف: «يتناول تمثيل الأشياء الساكنة»( )، مما يقلل من جمالية النص القصصي القصير، الذي يظل بحاجة إلى التحفيز والحركة ليستمر بعيداً عن جمود الوصف»( )، ناهيك عن أن رضوان لم يخبرنا عن مصطلحه، ولم يوضح دلالة ملفوظيته، فما معنى «جمود الوصف» على سبيل المثال؟.
وقد راكم رضوان معلوماته عن السرد مستعيناً بمراجع مختلفة تنتمي إلى سياق واحد إلى حد كبير، هو الشكلانية الروسية وتطوراتها لدى البنيوية وما بعدها. نلمح الربط المستمر بين الشاهد المدروس من قصة ما، وبين الرأي النقدي قاصداً إلى تبسيط شارح لا يصل بنقده إلى مستوى عام أو نموذجي اعتمالاً بظاهرة أو قضية أو خاصية. واستتباعاً لذلك، فإن رضوان يمهد لكل نقد يتناول مجموعة قصصية بكلمات عامة حول السرد أو عنصر من عناصره، ويستشهد برأي أو قول أو تصنيف لناقد أو باحث أو منظر غربي غالباً، أو عربي قليلاً جداً، كما في حديثه عن مجموعة «أبو مصطفى وقصص أخرى» لأمين فارس ملحم:
«وقصص هذه المجموعة قد كتبت معظمهما في فترة الخمسينيات، ولعل ما يميزها سردياً هو بروز صيغتين سرديتين، إذ نلتقي فيها بالشكلين التاليين:
- السارد صاحب المعرفة الكلية.
- السارد الذي يشكل إحدى شخصيات الحكاية.
مع بروز لصيغة ضمير المتكلم، في تقديم السرد، وفي هذا السياق نشير إلى الأنماط النظرية التي حددها «نورمان فريدمان» في دراسته لأنماط السرد التي تبرز في صيغ تقديم الحكاية من وجهة نظر الراوي ـ السارد»( ).
أما الأنماط الذي أوردها فلا تنسب لفريدمان، بل استخدمها مثل الباحثين والنقاد الآخرين. ومن الملحوظ، أن رضوان لا يعنى بتحديداته النظرية ومرجعياتها، واذكر أمثلة لذلك ما يلي:
1- الإفراط في النقد الشكلاني: حتى لتفقد النصوص دلالتها ومعناها، أو هي تشحب وتغيب خلف تحليل سردي متقطع غالباً، وغير متجانس أحياناً، ونقتطع جزءاً من كتابته النقدية عن مجموعة زليخة أبو ريشة «في الزنزانة» مثالاً: «وهكذا تختلف بنية السرد في كل مقطع، مع بقاء شخصية المرأة قائمة في مجمل المقاطع، إن قصة «في الزنزانة»، بما تحويه من تداخلات في أزمان السرد، وتعدد في مستوياته، وتناوب في أشكال السرد تمثل أنموذجاً للقصة الأردنية المعقدة بناء، ولكنها تظل متماسكة قادرة على أن تكون قولاً قصصياً، ففي إطارها السردي يمكن أن نميز فيها الترتيب السردي التالي:
- راوٍ أكبر من الشخصية، ويعلم أكثر من الشخصية حيث تتجلى سردياً: الرؤية من الوراء.
- راوٍ مساوٍ للشخصية، يعلم ما تعلمه الشخصية بحيث تنضج سردياً: الرؤية مع.
- راوٍ أصغر من الشخصية، يعلم أقل مما تعلمه الشخصية يبرز سردياً من خلال الرؤية من خارج»( ). وشاهد الترتيب السردي مأخوذ من «بناء الرواية» لأدوين ميوير( ).
2- التداخل غير المسوغ بين الفني والأخلاقي، وكذلك مع مفاهيم ومصطلحات أخرى، كما هو الحال مع مناقشة قصص لمحمد طملية، مازجاً بين الكاتب وقصصه دون تسويغ فني أو فكري( ).
ولاشك أن أحكام رضوان السيرية والأخلاقية لا تتناسب مع نقده للبنى السردية.
3- يحول رضوان نقد لغة القصة إلى نقد لغوي مباشر، ونادراً ما يربط استطاعته اللغوية بجمالية البناء القصصي كما في إشارته عن لغة القصة عند جمال أبو حمدان، التي لم «تعد مجرد وسيلة لإيضاح الفكرة أو لإبراز السرد وأحداثه، وإنما أصبحت أداة جمالية مستهدفة لذاتها وبذاتها»( ).
4- يغلب على كتابة رضوان النقدية طابع المراجعات النقدية أو المقالات المفردة، ولا سيما القسم الثاني الذي يستأثر بصفحات كتابه من ص83 إلى ص 352. ويتناول هذا القسم أعمال تسعة عشر قاصاً، بل إن القسم الأول الذي يتناول تقنيات السرد يبدو أنه مكتوب في فترة تالية للكتابة المراجعات والمقالات الإفرادية لهذا القاص أو ذاك ليكون بمثابة التمهيد الذي يسوغ جعلها في كتاب واحد.
هنالك شهوة واضحة للأخذ بالاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، وميل كبير لاستخدام تقنياتها ومفاهيمها السردية، بيد أن ممارسته النقدية تعجز عن حمل ذلك كلّه، وإن كانت قد تطورت كثيراً باتجاه الاستفادة من الاتجاهات الجديدة عن كتابه النقدي «أسئلة الرواية الأردنية: دراسة في أدب مؤنس الرزاز الروائي» (1991) الذي يبطن هذه الشهوة ولا يظهرها، إذ غلب على نقده حينئذ الدينامية والمقدرة على التحليل والتفسير والمقارنة والحكم والميل التقليدي إلى الموضوعية وبعض لوازم المنهج الموضوعي.
على أن تغلغل الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية يتجلى صريحاً لدى النقاد والباحثين الجدد، ونذكر مثالاً لذلك أنموذجين من المغرب واليمن. أصدر عبد الفتاح الحجمري (المغرب) كتابه «عتبات النص: البنية والدلالة» (1996)، معتمداً على جيرار جنيينت في دراسته «عتبات» (1987)، بقصد تحليل بعض العتبات نصياً، وإضاءة طبيعة العلاقة التي تقيمها مع أشكال متنوعة من الخطابات، واستخلاص الروابط الممكنة بينها وبين باقي مكونات النص، ضمن بنية دلالية شمولية تراعي سياق إنتاج الخطاب وشرطه وتداوله، وتشغيل مفاهيم محددة ضمن تمثلات وتمثيلات نصية متنوعة: عتبات النص في الخطاب الإبداعي (رواية «الضوء الهارب» لمحمد برادة)، والمقدمة كعتبة في الخطاب النقدي (مقدمات عبد الفتاح كيليطو النقدية)، والحوار والاستجواب كعتبة نصية موازية لمقاربة بعض مقومات الخطاب النقدي ومساءلتها (الحوار والاستجواب عند عبد الكبير الخطيبي).
وأكد الحجمري أن تحليل العتبات يرتبط بالاختبارات التي يقدمها تصور النص الموازي Le Para****e، والأخذ بالاعتبار خاصية التجنس مدخلاً أولياً لتقريب علائق النص بالموازي النصي وفهمها في إطار شمولي، ينطلق من إنتاج العلم الأدبي، ويقف عند حدوده وأنماط تلقيه.
وتنهض خاصية التجنس على اعتبارات أساسية تخص جملة من المظاهر النصية تندرج في مفهوم التناص: معمارية النص، أنماط التعالي النصي، العبر ـ نصية، التناص أو التعالق النصي، النصية اللاحقة، الميتا نصية (هكذا كانت الترجمة؟!).
واستخلص من تحليلاته النصية ثلاث قواعد، لا تمثل قصدية حضور العتبة النصية أو غيابها فحسب، وإنما تمثل أيضاً طرائق اشتغالها، وإن على مستوى معيارية التلخيص أو التوجيه، وفي ارتباط بأطروحة المؤلف والمؤلف وتصوراته النظرية والمنهاجية في الكتابة والتحليل، والقواعد هي:
«القاعدة الأولى، وتقف عند المظهر التركيبي للعتبة النصية من حيث قدرتها التمثيلية على احتواء شروط الإنتاج النصي وبدائله، إنها قاعدة تنظر إلى العتبة في إطارها العام كنص مواز لسياق العمل الأدبي والنقدي والفكري.
القاعدة الثانية، وتعتبر العلاقة النصية علاقة تضمينية تحقق نوعاً من التجاور والتحاور بينها وبين بقية مكونات هذا العمل أو ذاك، والتضمين مقترح مركزي يستفاد منه تفصيل الحديث عن جملة من المقدمات التي تحقق نوعاً من التحليل السياقي الذي يجعل من العتبة بنية نصية ضرورية لإنتاج المعنى.
القاعدة الثالثة، وتعرض لها خاصية القراءة المتعددة التي ترتبط بتوظيف العتبة باعتبار سياقها النصي أو النصي الموازي المنفتح على مقاصد المؤلف وإمكانات الكتابة»( ).
اعتمد الحجمري، كما أشرنا، في تحديد العتبات إلى الضوابط التي وضعها جينيت، «كأسماء المؤلفين والمقدمات والعناوين والإهداءات والعناوين المتخللة والحوارات والاستجوابات وغيرها بوصفها عتبات لها سياقات توظيفية تاريخية ونصية، ووظائف تأليفية تختزل جانباً مركزياً من منطق الكتابة»( ).
إن العتبات إذن علامات تدخل في التركيب الدلالي للنص الروائي، وتحيل على مجموعة من العلاقات المشكلة للعلاقة (القصة) كمعنى، تحدد جملة من الوظائف التي تعين العمل الأدبي أو مضمونه، أو تمنح النص قيمته منجزاً بذلك ثلاث وظائف: تسمياتية، تعيينية، إشهارية. ثم يبالغ الحجمري في قيمة هذه العلامات، شأن نقاد العلاماتية السردية، فيذكر مستويات للعنوان:
اعتبار العنوان نصاً (بخصوص النص).
تحقيقه لسرّ الملفوظ الروائي.
إنتاجه لفائدة النص.
لقد عوّل النقد العلامي السردي على استراتيجية العنوان أو التسمية، ولكن اللسانيين بتركيزهم على الملفوظية وسعوا المدى اللغوي إلى مستوى النص بكامله لما يقيمه العنوان من علاقات متشابكة مع بنية النص، وعلائقه الداخلية، ولذلك كان تحذير جينيت من العتبات، وكأن إهمالها أو التقليل من شأنها يضعف الدلالة ولا يستقيم هذا مع الاستغراق الشكلاني الذي يخمل المخيلة، ويحيل النقد إلى مظهر سكوني واصف، كما في هذه المبالغة القصدية حين تضفى على التحليل، ولا تنبثق منه:
«من هذا المنظور، يتخذ عنوان رواية «الضوء الهارب» لنفسه وضعاً خاصاً في التشكل والاشتغال. إنه نواة الحكاية وبؤرتها التخييلية. وهو أيضاً أول عتبة تلج من خلالها عوالم النص، وهذا الوضع هو ما يجعل «الضوء الهارب» حضوراً وظيفياً ضمن البنية الحكائية لنص الرواية، وحضور تمظهره بقية العتبات، هكذا تستعيد القصدية المعنية لاختيار عنوان الرواية صيغاً نصية تتضمن بعضاً من أبعاده التركيبية في العديد من الفقرات والمقاطع السردية»( ).
وتتبدى هذه المبالغة أيضاً في تناوله لعتبة «أخرى هي كلمة غلاف الرواية ومقارنتها بنص الرواية، وكان الحجمري نظر إليها على أنها تتبادل التأثير مع نص الرواية أو النص عموماً، لأن الأغلفة تتغير بتغير الطبعات، وإذا كانت عتبة العنوان داخلية، فإن عتبة كلمة الغلاف خارجية، فقد لا تكون هناك كلمة، وقد يوضع تعريف بسيرة المؤلف، وقد يضطر المؤلف إلى مراعاة قضية الانتشار كالصناعة والتوزيع وأسئلة الرواج.
ووجد الحجمري في عتبة ثالثة مثل الإهداء أهمية خاصة لتعالقاته النصية، بوصفه «أحد المداخل الأولية لكل قراءة ممكنة للنص، وفق ما رام هذا التحليل إلى إبرازه وتوضيحه». ولربما كانت عتبة الاستهلال وظيفية أكثر من بقية العتبات، لأننا نقتطع النص ـ المطلع، والحجمري لا يتقصى المصطلحات المستعملة، فالاستهلال، برأيه، استشهاد موضوع في الحاشية، عادة في بداية العمل الأدبي، أو في خارج العمل.. وإنما تعني بعد الإهداء، إن وجد هناك إهداء، وقبل المقدمة. من هنا يصبح التساؤل عن متلفظ الاستهلال أمراً أساسياً لفهم سياق توظيفه، فمن هو المؤلف الواقعي أو الوهمي لنص الاستشهاد، ومن الذي يختاره ويقترحه». ويطلق النقد على نص الاستشهاد مصطلح «العبارة المفتاحية» وقد يكون المؤلف هو واضعها، وقد تختفي أمثال هذه العبارات المفتاحية عن كتاب برمته، ولكن الحجمري يعاملها كمتلفظ( ). ويستفاد من هذا الملفوظية قاسم بغداد التوضيح أن الملفوظية نتاجتوجيهه الداخلي، أما العبارات المفتاحية فهي نتاج خارجي، وقد لا تندغم في معنى النص، أي أن الاستهلال المفضي إلى عبارة مفتاحية قد يكون مطية. والسؤال هو إلى أي حد نعد الاستهلال المقبوس من غير نصوص الكاتب، في فعلية النص، وهو موجه خارجي؟ وهل هو جزء من القول الفاعل Illocutoire؟ وكان مؤلف «الملفوظية» أوضح «أن الألسني الذي يسعى إلى تعريف مفاهيم فعّالة Operatoircs لا يمكنه الاستفادة من مفهوم الموّجه إلا إذا قلل من عموميته، وإحدى الطرق الممكنة لذلك هي، قبل كل شيء، استلهام المفهوم المنطقي، والاهتمام الشديد بأقل الأدلة Indice الشكلية لخاصية وتوجيهية معينة، وأيضاً وضع حد مهما كان واهياً ـ بين الموّجه من جهة، والإنجازية Performativite من جهة أخرى، وإذا ما اتبعنا هذه الطريقة فسنصل إلى تمييز الموجّه عن الظاهرة العامة التي ينتمي إليها، والتي يمكن تسميتها بالتوجيه Roodalisation، وتعريفها على أنها انعكاس في اللغة لحقيقة أن ما يمكن للإنسان أن يكونه، أو يشعر به أو يفكر به، أو يقوله، أو يفعله يندرج في إطار منظور خاص»( ).
ورأى الحجمري في عتبة أخرى هي «عتبة الشكر والتنويه» «إعلاناً للحكاية وعناصرها من داخل الحكاية. إنها أيضاً عتبة هامش مرجعي توظفه رواية «الضوء الهارب» في نهاية مادته الحكائية على مستويين:
1- استثمار حكاية شفوية لأحمد المرابط «مرض الزمن» على لسان صديق العيشوني (الرواية ص ص 32-33).
2- استثمار حكاية «آحاد الآنسة بونون» لجاك لوران ضمن المحكي، وعلى لسان فاطمة (الرواية ص130 وما بعدها).
من هذا المنظور، تبرز هذه العتبة انفتاح المحكي في «الضوء الهارب» على بنيات حكائية لها علائق محددة بسياقات الحديث الروائي ومواقف شخصياته، وهي المواقف التي تكشف عنها طبيعة اختيار الحكاية، وتمظهرها نوعية البنية التعليقية المصاحبة لها، لاستثمار الحكاية إذن، بمستواها الأول والثاني، في هذا النص الروائي، مقصدية موجهة تمنح لاختيار الفضاء مقاماً أولياً لتأكيد سياقات التعالق الحكائي»( ). وهذا يعني أن الحجمري يوسع مفاهيم التناص إلى المرجعية التاريخية والسيرية، أي إحالة داخل النص إلى ما هو خارجه في غير ما هو مدون، إتاحة لمدى التأويل الذي يبلغه في معاينة المؤشر الزمني بانفتاح الرواية على زمن الكتابة، لتغدو «عتبة الشكر والتنويه مكوناً مرجعياً مدمجاً ومنصهراً ضمن نص الرواية، متصلاً غير منفصل عنه»( ).
ربما كان هذا لا ينسجم من نقد يعنى بالبنية ويتوسل إلى دلالتها نهاجية معرفية تدعي العلم، بينما هو، كما لاحظنا يعاني من التعميم ويستعين بمرجعية خارجية تسوغ تعالقاته مع مؤشرات ووقائع غير مدونة. واعتقد أن الخوض في الاتجاهات الجديدة تطبيقياً يستدعي تدقيق صلاحياتها لنصوص أدبية عربية، والأهم تمحيص مفاهيمها وآلياتها الداخلية ضمانة للاتساق والانسجام نحو التقليل من التعسف والمبالغة والولع بالشكلانية، وهذا واضح أيضاً في مبحثي الكتاب الأخيرين عن عتبة المقدمة في كتابات عبد الفتاح كيليطو النقدية وعتبة الحوار والاستجواب عند عبد الكبير الخطيبي، وإن كانت أقل اندفاعة في ذلك الولع الذي ساد المبحث الأول، أي أن قابليات تطبيق الاتجاهات الجديدة مرهونة باستعمالها النقدي والمعرفي على ثرائها وتنوعها وتعقيدها.
والتزمت آمنة يوسف (اليمن) الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، ولا سيما المنهج البنيوي الشكلي في كتابها «تقنيات السرد في النظرية والتطبيق» (1997)، وأبدى عبد الملك مرتاض ارتياحه، في تقديمه للكتاب، لاجتهادها وحرصها الشديد على التعلق بالجديد، وعلى الرغم من أنها سلكت المنهج البنيوي «الذي كأنه اغتدى اليوم من قبيل التاريخ»، إلا أن ذلك «لا يقلل من أهمية بحثها الذي نود أن يظفر فيه القراء الأكارم بفائدة وغناء، لأن المناهج والمذاهب الأدبية التي تذبل وتتساقط في مواطنها (وينصرف الوهم هنا إلى فرنسا خصوصاً، وهي البلد الذي صدّر المذاهب الأدبية بمقدار ما صدّر الألمان المذاهب الفلسفية)، قد نكون نحن لا نبرح لها من الجاهلين»( ).
وبينت الباحثة نفسها أن تقارب عدداً من التقنيات السردية التي تنطلق من بنية الرواية اليمنية، لأسباب كثيرة ذكرت منها جدة الموضوع الذي لم تجد الباحثة دراسة منهجية سبقتها إليه، وتوافر المعطى الروائي الذي يسمح بمقاربة عدد من تقنياته السردية المختلفة، وقصد التجريب الفني الذي ينطلق من المنهج البنيوي الشكلي الذي يقارب بنية السرد الروائي من الداخل (الفني)، لا من الخارجي (المرجعي)، «والشعور بمسؤولية النقد التي تتبلور، مثلاً، في إضاءة الطريق أمام الروائي كي يكتب شكلاً حديثاً، ذا اتجاه محدد الرؤية والهوية الفنية»( ). وقد آثرت يوسف أن تقرن النظرية بالتطبيق، في دراستها لثلاثة نماذج روائية تنتمي إلى ثلاثة اتجاهات مختلفة، نسبياً، وتتفاوت برأيها، من حيث المستوى الفني لكل واحدة منها عن الأخرى، وهي:
«الرهينة» لزيد مطيع دماج، نموذجاً للرواية الواقعية (التقليدية).
«السمار الثلاثة» لسعيد عولقي، نموذجاً لرواية تيار الوعي (الحديثة).
«مدينة المياه المعلقة» لمحمد مثنى، نموذجاً للرواية الجديدة (أو الواقعية المعاصرة).
أوضحت يوسف أنها لا تتوخى المنهج البنيوي الشكلي الذي ظهر منذ أوائل هذا القرن، لدى الشكلانيين الروس،ثم انتهى، مات (هكذا؟!)، بل «المنهج البنيوي المعاصر السرداني (الحي) الذي تبلورت (وبرزت) آراء منظريه، منذ أواسط هذا القرن.. وعلى يد جملة من النقاد الفرنسيين على وجه الخصوص من قبيل: ستيفان (والأصح هو تزفيتان) تودوروف، وجيرار جينيت ورولان بارت وجوليا كريستيفا وسواهم.. ممن انطلقوا، في رصد آرائهم النقدية، متأثرين، أساساً، بآراء مدرسة الشكلانيين الروس (1915-1930)، وبأبحاث العالم اللغوي السويسري دي سوسير (1857-1913)». على أن مثل هذه الآراء قابلة للنقاش، فكيف تموت الشكلانية وما تزال مؤثرة في المنهج البنيوي الشكلي الذي تلتزمه؟ وكيف تجد أن هذا المنهج الذي تلتزمه تبلور منذ أواسط القرن، بينما اكتشفت نظرية المنهج الشكلي في فرنسا في مطلع الستينيات؟.. الخ. إن ثمة آراء غير سليمة وتجافي الواقع الذي تطور فيه المنهج البنيوي الشكلي.
لم تخفي يوسف تآثرها بجينيت على وه الخصوص، وإن غلب على تطبيقها النقدي مسوح من التبسيط، تجنباً لتعقيدات منهجه، والمنهج المختار عموماً. وقد قاربت تطبيقها من خلال عدد من الرؤى السردية وأنواع الرواة، وفي ذلك تتبدى نزعتها التبسيطية، على النحو التالي:
1- الرؤية الثنائية، التي تنطلق من بنية السرد في رواية «الرهينة»، وتجتمع فيها رؤيتان سرديتان هما: الرؤية الداخلية، والأخرى الخارجية (التقليدية). وهنا نجد أن الباحثة لا توضح معنى التقليدي، وتتعدد استعمالاتها لهذا المفهوم، كما في وصفها للواقعية/التقليدية، ولا يشير تاريخ المذاهب النقدية إلى مثل هذا المذهب.
مثلما يجتمع فيها راويان اثنان، هما: الراوي بضمير «الأنا»، الذي ينطلق من أسلوب السرد الذاتي، والراوي بضمير «الهو»، الذي ينطلق من أسلوب السرد الموضوعي، وهما راويان، افترضت الباحثة أنهما ينتميان إلى النوع الثاني من أنواع الرواة في السرد الروائي العربي، الذي يبرز فيه راويان متصارعان أو متناقضان، بالقياس إلى موضوعهما المشترك. ولعل الباحثة تشير إلى مبدأ التعدد الحواري الذي لا يؤدي بالضرورة إلى التصارع أو التناقض، وإنما التنوع والتعدد والاختلاف.
2- الرؤيتان السرديتان، المتعددة (الحديثة) والخارجية (التقليدية)، وهما الرؤيتان اللتان تنطلقان من بنية السرد في رواية «السمار الثلاثة»، حين يتناوب الراوي التقليدي، بضمير الهو، مع أبطاله الثلاثة، في الرواية عن حياتهم الفنية والاجتماعية، مفسحاً المجال لهم كي يعبروا عن رؤاهم السردية المتعددة، عبر ضمير الأنا. ومنحازاً من ثم، إلى رؤاهم ومواقفهم المختلفة، على غرار النوع الأول من أنواع الرواة. ولا يخفى أن الباحثة قصرت مصطلح «وجهة النظر» في النقد الإنجلوسكسوني، ومصطلح «التبئير» في النقد الفرنسي الجديد، إلى أضيق حدوده على أنه يعبر عن رؤية سردية أو منظور سردي.
3- وعاينت الباحثة ثلاث رؤى مختلفة في رواية «مدينة المياه المعلقة»، هي الرؤية الداخلية التي تجيء في شكل مناجاة (مونولغ داخلي) على طريقة تيار الوعي، والرؤية الخارجية (التقليدية والجديدة) (وكانت سمتها الحديثة من قبل!) التي يبرز فيها تارة الراوي بضمير الهو، الذي ينطلق من أسلوب السرد الموضوعي، في بنية الرواية التقليدية (الواقعية). وتارة أخرى، يبرز فيها الراوي الشاهد، الذي ينطلق ـ أيضاً ـ من أسلوب السرد الموضوعي. غير أنه في بنية الرواية الجديدة، الأسلوب الأكثر موضوعية، الذي تكون فيه عينا الراوي، الشاهد بمثابة الكاميرا السينمائية التي تلتقط الصور والأشياء التقاطاً، آلياً، خارجياً، محايداً. وتتلامح في هذا الاستعمال للاتجاهات الجديدة إشارات للتراث السردي في النقد الانجلوسكسوني كما عند ا.م. فورستر في «أركان الرواية»(1927)، وبوث في «بلاغة القص» (1961)، وهما أسبق بكثير من النقاد الفرنسيين الذين أشارت إلى امتلائها بهم. ولدى مناقشتها لبنية الزمان السردي، اقتصرت الباحثة في مقاربة معظم التقنيات على نموذج روائي واحد، يكاد يكون زمانياً خالصاً في مجمل بنيته السردية، هو رواية «السمار الثلاثة»، التي تسيطر عليها، إلى حدّ كبير، تقنيات تيار الوعي الحديثة، المنهمرة عبر الذاكرة والتداعي الحرّ والخيال والحلم والمونولوغ الداخلي، وما إلى ذلك، ونلاحظ أن هذه التقنيات لا تنتمي لجنييت وأضاربه، بالقدر الذي تبسط فيه أيضاَ تقنيات من المنهج الموضوعي الباشلاري وما سمي بالنقد الجديد الانجلوسكسوني.
وفي مستوى تال، انطلاقاً من مستويات الزمان السردي الثلاثة، حسب تصنيف جينيت، قسمت الباحثة التقنيات إلى قسمين، هما:
أ- تقنيتا المفارقة السردية، أي التقنيتان اللتان تقعان في مستوى النظام، الأول، حين لا يتطابق النظام في الزمنين، زمن السرد وزمن الحكاية، وينشأ عنهما تقنية الارتداد، بأنواعه الثلاثة: الخارجي والداخلي والمزجي، وتقنية الاستباق (أو الاستشراف).
ب- تقنيات الحركة السردية، وهي التقنيات التي تقع في مستوى «المدة» الثاني، الذي يُعنى بقياس سرعة السرد، التي تترواح بين التسريع والإبطاء، بشكل تبرز معه التقنيات أو الحركات الأربع: تقنية التلخيص، وتقنية الحذف، وهما تعملان على تسريع حركات السرد، وتقنية المشهد وتقنية الوصف، وهما تعملان على إبطاء حركة السرد، بشكل يوهم القارئ بتوقفها عن المضي، أو بتطابق الزمنين، زمن السرد وزمن الحكاية، مما يسهم في الكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات الروائية، ويفيد ذلك تعديل الباحثة لتقسيم جينيت ليسهم في الكشف المذكور، بالإضافة إلى التبسيط . وقد اعترفت الباحثة بمثل هذا التعديل والتبسيط، لاعتقادها أن المنهج البنيوي الشكلي، منغلق على نفسه، انغلاقاً جعلها «لا تطيل الوقوف كثيراً عند بعض الوظائف البنيوية التي تؤديها للسرد، تقنياته المختلفة»( )، متنبهة إلى انغلاقها عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات الروائية، مما دعا إلى تعديل حذر «خشية الانزلاق إلى مناهج أخرى، كالمنهج النفسي أو الاجتماعي.. أو سواهما.» واعتقدت أن المراجع الناجزة في منهجها قليلة، وليس ذلك صحيحاً، كما رأينا من قبل، ولعله تعذر حصولها عليها أو الاستفادة منها. ودافعت عن هذا المنهج الذي يتهمه خصومه بأنه يلغي التاريخ والمجتمع والإنسان( ).
ثمة التباسات في تقدير الباحثة لمفهوم الإحالة الخارجية، لأن المناهج الاجتماعية والنفسية والأسطورية لا تستند إلى مثل هذا المفهوم، وهي تطورت كثيراً وصارت في صلب الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، غير أن الباحثة قامت بمحاولة جريئة تؤكد الامتلاك المعرفي والمنهجي لهذه الاتجاهات الجديدة لدى طلائع النقد في الوطن العربي.
3-2- قضايا في السرد:
غلب على النقد التطبيقي المتصل بالاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية العناية ببعض قضايا السرد. وكانت جهود عبد الله إبراهيم (العراق) من المحاولات الأكثر استفادة والأكثر تماسكاً منهجياً، وهذا واضح في كتابه «المتخيل السردي: مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة» (1990)، وقد جمع فيه عدداً من مقالاته وأبحاثه، مشيراً إلى اشتداد عود التحليل السردي للقصة والرواية العربية باعتباره مظهراً من مظاهر هذه الاتجاهات الجديدة.
واختار نماذج من التأليف القصصي في العراق، بالإضافة إلى مجموعة قصصية من مصر لبهاء طاهر. وانطلق في مقارباته النقدية من إشكالية الرؤية والمنهج في النقد الأدبي العربي الحديث، وهي طالما عولجت على أقلام الباحثين والنقاد، وها هو ذا إبراهيم يعزف كثيراً من المعزوفات المتواترة، فيحدد مفهومي الرؤية والمنهج، موضحاً مدى تداخل هاتين الركيزتين في العملية النقدية، وموجهاً اهتمامه إلى ضرورة «إعادة النظر في المنجز النقدي العراقي الحديث المتعلق بالقصة القصيرة والرواية، للوقوف على حالة هذا المنجز النقدي!» ( ). وقرر ابتداء أنّ المتابعات النقدية السريعة في الصحف والمجلات تفتقد تماماً الرؤية والمنهج، وهو تعميم لا يجدي في تشخيص الوضعية واستنطاقها دلالات معينة، فثمة ما تنشره المجلات ذو قيمة نقدية، يضاف إلى ذلك أن وضعية النقد تؤخذ من الكتب بالدرجة الأولى.
وثمة تعميم آخر لا يتناسب مع الدقة العلمية والسلامة المنهجية التي يتحلى بها نقد عبد الله إبراهيم التطبيقي، حين يقول: «لقد بدأ النشاط النقدي في مجال دراسة القصة القصيرة والرواية ونقدهما في العراق انطباعياً، وكان البحث فيه متركزاً حول قدرة الكاتب التعبير عن مكونات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي»، ومن دواعي الحكم بالتعميم أيضاً أن الناقد لا يحدد فترة البداية ويتصف بحثه على العموم بلغة التعميم، كأن يذكر «أن معظم الدراسات النقدية التي نحت هذا المنحى، لم تكن تهدف إلى مقاربة حقيقية للنص، بل كانت دراسات وبحوثاً اجتماعية أو نفسية أو تاريخية، لسبب بسيط، كونها تدور حول النص، ولا تتجزأ على ملامسته، وإن حدث، واستطاعت أن تقترب إليه، فذلك لكي تسقط عليه مما توفرت عليه من مقولات الواقع الخارجي، أي جعله حقلاً لمجموعة من المعارف المتراكمة عبر التاريخ»( ).
الصحيح، أن حال النقد لا تختلف كثيراً عما ذكر، غير أن جوانب أخرى مختلفة لا تحتمل لغة التعميم، والأجدى أن يورد نماذج مؤيدة لأحكامه المطلقة، وكذلك كان حكمهُ على شيوع النقد الأيديولوجي في مراحل محددة: «وصار النص المثالي هو الذي يتيح للناقد، بسهولة، تطبيق موروثه الفكري وحيثيات النظم الأيديولوجية التي وصفت في كتب الفكر، أو استمدت من الواقع»، بيد أننا سنلتفت عن هذه الاطلاقية، إلى الجوهر المهم في بحثه، وهو نقد الأخذ الحرفي للاتجاهات الجديدة دون مراعاة منهجية جديدة توافي النصوص العربية، فتتحول «العلمية النقدية التي تستعير آليات التحليل عن ذلك المنهج، وجهاز مفاهيمه الخاص، إلى عملية قسرية لا تهدف غير استنباط ما يتفق وآليات المنهج المستعار، وتبدأ آنذاك قضية رغاية في الخطورة، ألا وهي الاستغناء عن كل ما لا يتطابق ومفردات المنهج، وحشد كل ما يتطابق معه، ويصبح الهدف هو المطابقة بحدّ ذاتها، لا المقاربة النقدية الخاصة»( ). وأورد مثالاً لذلك تطبيق المنهج المورفولوجي الذي اجترحه بروب عن بنية الحكاية الخرافية الروسية، ومحاولة تطبيقه على القصة القصيرة أو الرواية. إنّ أي استعارة كاملة لآليات منهج دونما مراعاة خصوصيته موضوع الدرس ـ حسب عبد الله إبراهيم ـ يقود دون شك إلى إخضاع المادة الأدبية كلية إلى موقف مسبق، وسيتم إقصاء كل ما ليس له علاقة بذلك المنهج، وعمل غير هادف مثل هذا سيقود إلى الوقوع في العدمية، ويتبع هذا أن يتحول النص القصصي أو الروائي إلى مجموعة من المقولات الجامدة التي تستظل بظلال المصطلح الجديد الذي فرضه منهج بروب، دونما تمثل لما تنطوي عليه من رؤية ومن خصوصية في المعالجة والتحليل حسب الجنس أو النوع الأدبي، أو حسب الظاهرة الإبداعية.
يفيد حديث الخصوصيات الثقافية عند ابراهيم في تدعيم أبحاث الهوية في الأدب والنقد. ولذلك دعا إبراهيم إلى بديل نقدي يحول «العملية النقدية إلى معرفة إبداعية أصلية»، وإلى حسم القضايا الإجرائية الأولية، ليستطيع النقد الجديد «أن يواصل حفرياته بالاتجاه الذي يختار، وبالعمق الذي يستطيع، فأرض الخطاب الإبداعي واسعة وخصبة، ولا بد من تحقق المعرفة في الذي ينتدب نفسه لذلك، ولا بدّ أن يكون نتاج حفرياته معرفياً، كيما يكون عمله مسوغاً»( ).
لقد ميز إبراهيم شغله في النقد التطبيقي بحرصه على الهوية المتمثلة في وعي الخصوصية، ونلمس ذلك في تعضيد مشروعه النقدي، متفرداً برؤيته الخاصة في السرد، حين عبر بصراحة أن بحثه «يصدر عن رؤية ترى أن المعارف تتحاور ولا تحترب، وعليه فإنه مدين لبعض ما توصلت إليه البحوث المعنية بالسرد، لكنه يبدأ من تصور مغاير، فهو، لا يتعمد على ثنائية الخطاب والحكاية أو مستوى الأقوال والأفعال، شأن التيارين الرئيسين في السرديات التي وقفنا بإيجاز على اتجاهاتها». وشرح اختلافه في رؤيته «أن المادة الحكائية» ما هي إلا «متن مصاغ» صوغاً سردياً، وهذا المتن، إنما هو خلاصة كما هي العناصر الفنية الأساسية، وهي الحدث والشخصية والخلفية الزمانية ـ المكانية، بالوسائل السردية التي نهضت بمهمة نسجها وصياغتها. وعليه، فالمتن، لا يمكن أن يكون، بالنسبة لهذا البحث، هو الحدث لوحده ـ أو الوظائف التي تنهض بها الشخصيات، أو الإطار الذي ينتظمها. إنه «كتلة» متجانسة مصاغة صوغاً فنياً، وتتكون خصوصيته من تداخل عناصره على نحو خاص يميزه عن غيره، وبهذا، فإن الصوغ ذاته لا يتجزأ عن المتن، بل يعطيه صورته ووجوده»( ).
وقد أعمل إبراهيم اجتهاده في رؤيته تطبيقياً على قصص وروايات من العراق، مثل تصنيفه للمتون في مبحث الزمن، ما دام ثمة أربعة نظم أساسية، تستأثر بالصياغات البارزة في الخطابات السردية التي انتهت بوصفها عينة للبحث، وهي التتابع والتداخل والتوازي والتكرار، وثمة تعديل في هذه النظم بتأثير النظرية النسبية والنظرة العلمية ما انعكس على تناوب الضمائر في صلتها بالزمن، فأحدث نمط التكرار، ولا تكتفي فيه بعض المتون بأن تقدم مرة واحدة، وإنما تعتمد نظاماً يكررها أكثر من مرة، تبعاً لعدد الشخصيات المشاركة في المادة الحكائية، وهذا يؤدي إلى أن يعاد تقديم أجزاء كبيرة من المتن، وربما المتن كله أكثر من مرة.
تتميز تعليلات إبراهيم بطزاجتها وخصوبتها واستنادها إلى اختبار لمصدرها، وفي استعمالها المباشر في نقد النصوص، استيعاباً وتطويراً للسرديات في النقد العربي الحديث. ولنلاحظ نموذجاً لذلك في تقديره النهائي لنظام التكرار، والمتن فيه تعاد روايته، وهذا يؤدي إلى ضمور حركة الزمان في الحركات اللاحقة حيث تعاد الخلفية الزمانية والمكانية ذاتها. كما تتكرر الوقائع والأحداث والشخصيات، فجميع مكونات المتن، باستثناء رؤية السارد، تظل ثابتة، لكن الرؤية مختلفة عن غيرها في كل مرة، بما لا يخلخل تعاقب المتن زمانياً( ).
أثار إبراهيم العديد من قضايا السرد في كتابه، بلغة نقدية مستوعبة ودقيقة، ومنها: تناص الحكاية في القصة القصيرة، وظيفة الرؤى في القصة القصيرة، استنطاق الخطاب وتعويم المرجع، نظم صوغ المتن الروائي، الوظائف البنائية للرؤى في الرواية. ويتصف نقده التطبيقي بالصفات التالية:
المعرفة النظرية وتجانسها.
الوضوح المنهجي واتساقه.
معارضة المرجعية الفرنسية بمرجعيات أخرى مثل الإنجليزية.
الانشغال بإثارة أسئلة النقد.
الصدور عن مشروع نقدي.
النفور من الاستطراد والشرح إلى بلاغة جديدة قابعة ضمن المتن الحكائي نفسه.
ومن الواضح، أن إبراهيم يطوع إنجازات الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية لرؤيته النقدية بما يجعل من ممارسته النقدية، ولا سيما اجتهاداته البينة، خطوة على طريق الاستقلال الفكري، فهو ينطلق من موقف نقدي صريح لهذه الاتجاهات الجديدة.
ولا يعفينا ذلك من الإشارة إلى شيء من غلبة الدرس السردي بمفاهيمه وآلياته وإجراءاته وشبكة علاقاته على مطمح شغله المعلن «التناص والرؤى والدلالة»، وهو شغل يحتفي بالمعنى بالدرجة الأولى، لابالشكل، وهذا ما استدركته مناهج متعددة لما بعد البنيوية.
وأعلن فاضل تامر (العراق) في مفتح كتابه «الصوت الآخر: الجوهر الحواري للخطاب الأدبي» (1992)، ضرورة مواجهة التحدي الحضاري الجديد وهذا الانفجار النقدي والنظري والمعرفي الواسع والانهماك بشكل جدي في عملية إعادة تشكيل رؤياه النقدية في ضوء كشوفات العصر الكبرى»، وربط ذلك، صريحاً أيضاً، بسعي «الناقد العراقي لإعادة اكتساب ذاته، بل وأدرك هذا الناقد أهمية أن يكتشف بتجربته الخاصة طريقه النقدي الخاص وصولاً إلى التميز والخصوصية، ولكي لا يضيع صوته بين حشد الأصوات المتشابهة»( ). وظهر ميل تامر الرئيس إلى التعامل مع الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية على أنه ينادي في ممارسته النقدية بما سماه «رؤيا نقدية سوسيو ـ شعرية جديدة» ترفد عمليات الوعي النقدي المحتدمة في الواقع النقدي في العراق منذ أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينات، وتتبدى مظاهر هذا الوعي النقدي «بإعادة بعض النقاد المعروفين تشكيل رؤاهم النقدية في ضوء الكشوفات والمعطيات النقدية والمعرفية الجديدة، كما اقترن ذلك بظهور أصوات نقدية شابة تفتحت تجاربها النقدية داخل إطار الوعي النقدي الجديد»( ).
يعتقد تامر بتساكن المنظورات والمقاربات والمناهج والقراءات النقدية داخل هم حداثي مشترك يتركز على النص الأدبي ذاته. وينتقد تامر الامتثال إلى النظرة المحايثة للنص، وهي خصيصة شكلانية، تكتفي بكشف المستويات الألسنية والسيميولوجية «الإشارية» للنص، قاصداً إلى «استكناه الخيوط السرية التي تشدّ النص إلى سياقه ومرجعه الخارجيين: التاريخ، الواقع، المؤلف، القارئ، منظومة القيم الاجتماعية والأيديولوجية، اللغة، التراث، وكّل الأشياء المادية والروحية المرئية وغير المرئية التي تقع خارج النص، وتتشكل فنياً داخله على مستوى التناص، بوصفها مكونات نصية داخلية، لا بوصفها مقولات مجردة، أو مظاهر معنوية أو أشياء حسية ملموسة ومعزولة عن تشكلها الجمالي والبنائي داخل فضاء النص». ويلاحظ أن تامر معني بتبعات الموقف من قضية الشكل مما هو سائد في الساحة النقدية العربية إلى وقتنا الراهن، فيجد أن رؤياه «نقدية واقعية حداثية ترفض تغييب الإيديولوجي و السوسيولوجي والتاريخي لحساب الجمالي والشكلاني والنهلستي (العدمي)» ( )، أي أن نقده ليس بمنجاة من ذيول هذه القضية المزمنة، فدعا، لتجنب ذلك أو التقليل من وطأته إلى «ضرورة الدمج الفعال والجدلي بين الأدوات المنهجية والإجرائية للرؤيا النقدية الحداثية، بما فيها من وصف وتحليل وتأويل من جهة، وبين منظومة القيم الإنسانية والاجتماعية التي تزخر بها التجربة الإنسانية وصولاً للكشف عن «رؤيا العالم» التي يكشف عنها النص على حد تعبير لوسيان غولدمان»( ). وهكذا، اهتدى تامر في صوغ طريقته بالبنيوية التكوينية، وعالج في ضوئها بعض قضايا السرد في الباب الأول «الصوت الآخر في الخطاب القصصي والروائي»، ولعله نظر إلى التقنيات أدوات إجرائية لا تستلزم صدورها عن طبيعة تكون نهاجيته الجديدة، فاستعار مصطلحي «البوليفونية» و«المونوفونية» من باختين في بحثه «من رواية الصوت الواحد إلى الرواية متعددة الأصوات»، وتتبع جانباً من رحلة المصطلح في الاتجاهات النقدية الجديدة، عند اوسبنسكي وليون سومرليان من كتابه Technigues of Fiction Rriting ولوكاش وباختين من دراسة لبرابها كراجها في مجلة ديوجين (1986)، ممهداً لدراسته «النزعة الحوارية في النزعة متعددة الأصوات» على أنها تعادل تعددية أشكال الوعي، بينما وضحها، تالياً اعتماداً على باختين نفسه، مجموعة العناصر الحوارية المختلفة، بالإضافة إلى اللغات وأصوات الشخصيات الأجنبية والغيرية ضمن تأليف نغمي وسمفوني متكامل شبيه بالفوغ بلغة الموسيقى الحديثة. ثم استغرق في نظرية باختين شارحاً إياها، فذكر على سبيل المثال أن النزعة الحوارية تتمظهر في العمل الروائي مجسدة في الأنماط الحوارية الثلاثة التالية: التهجين، العلاقات المتداخلة ذات الطابع الحواري بين اللغات، أو ما يسمى بتعالق اللغات القائم على الحوار، والحوارات الخالصة. وكانت هذه الشروح النظرية تمهيداً لاستقصاء بعض مظاهر تشكل الرواية، متعددة الأصوات في مسيرة الرواية العراقية، من خلال أربع روايات عراقية، كمرحلة أولى، ظهرت خلال عقود العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات هي «جلال خالد» لمحمود أحمد السيد، و«مجنونان» لعبد الحق فاضل، و«الدكتور إبراهيم» لذي النون أيوب، و«اليد والأرض والماء» لأيوب أيضاً. ولاحظ أن السمة الغالبة على نتاج تلك المرحلة «يتسم بهيمنة النمط المونولوجي الذي يهيمن فيه صوت المؤلف ورؤياه وأفكاره على العمل الروائي، مما يجعل هذه الروايات تنتمي إلى نمط رواية الصوت الواحد، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة غياب بعض ملامح البوليفونية داخل هذه الأشكال الروائية الرائدة»( )، وبذلك انغمس تامر فيما حذر منه عبد الله إبراهيم وسماه «إخضاع المادة الأدبية كلية إلى موقف مسبق»، وكان الأجدى لو عاين هذه النصوص من داخلها مثلما ألزم نفسه بمفاهيم نظرية وفكرية وإجرائية في مفتتح كتابه. ومن الواضح، أن تغليباً لهذه النزعة طغى على كتابته النقدية، كما في مثل هذه الاستنتاجات( ).
بيد أن هذه النزعة تخفت في مواقع أخرى، تراعى معها خصوصية النص إلى حد مقبول، كما هو الحال في تناوله للتناص والنص الغائب في رواية «اللعبة» ليوسف الصائغ، وفي تناوله للمنظور السردي ووجهة النظر عاملاً من العوامل المساعدة على إنضاج المنظور البوليفوني في الرواية متعددة الأصوات، وهو تمهيد آخر لدراسة الرواية العراقية في الستينيات وبدايتها الناضجة للرواية متعددة الأصوات، ولا سيما رواية فؤاد التكرلي «الرجع البعيد» بوصفها ذروة الصوغ الفني للرواية متعددة الأصوات.
يمثل شغل فاضل تامر حول بعض قضايا السرد خطوة أخرى في التملك المنهجي للاتجاهات الجديدة من منظور نقدي، على الرغم من النزوع الإملائي لتقنيات سردية قد تجافي خصوصية النصوص العربية، ونلمح هذه التباينات في أكثر من مقالة وبحث، مثل «المروي له: وظيفته وموقعه في البنية السردية» و«من ثنائية المتن الحكائي/ المبنى الحكائي إلى ثنائية القصة/ الخطاب».
وواجه أحمد اليبوري هذه الإشكالية في كتابه «دينامية النص الروائي» (1993)، فهو يعتمد على السيميائيات الدينامية اقتراباً من المعنى الذي أعطاه إياها جورج ماري G. Mary في دراسته «من الصور إلى البنيات»، وفي الوقت نفسه ينطلق من النص أساساً، تفكيكاً وإعادة تركيب، ومتقيداً بهذه النصوص، في خصوصيتها وتنوعها «بما يجعلنا في مأمن نسبي من الوقوع في أوهام التصورات المسبقة، والتأويلات المرتبطة بها»( ).
وكان اليبوري أوضح أن عمله «استفاد من السيميائية والسيميائية الدينامية، والسوسيو نقد والتحليل النصي في إطار لا شعور النص، ومن نظرية التلقي، وغيرها من المناهج التي تسعى إلى تأسيس مقاربة ملائمة للنصوص الأدبية عامة، والروائية بصفة خاصة، وذلك ما يعني تحليلها وفق قواعد ومفاهيم إجرائية، في إطار التكامل المعرفي»( )، أي أن اليبوري يعتمد ثلاث مسائل متلازمة، الأولى حرصه على نهاجية معرفية ونقدية مستمدة من الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، والثانية الابتعاد عن النزعة الإسقاطية والإضفاء المسبق، والثالثة انطلاقته من النصوص نفسها، بعيداً عن أحكام القيمة والتأويل المبالغ فيه، لأن كل رواية تطرح أسئلتها الخاصة، سواء على مستوى التكون الأجناسي أو المستويين البنائي والدلالي، فرصد اليبوري في مرحلة أولى، مسألة التكون النصي في روايتي «الزاوية» للتهامي الوزاني، و«المعلم علي» لعبد الكريم غلاب، وعلاقة المرجعي بالاستطيقي في مرحلة ثانية، في «الغربة» لعبد الله العروي، و«لعبة النسيان» لمحمد برادة، واشتغال النصي في اللاشعور في «المرأة والوردة» لمحمد زفزاف، و«بدر زمانه» لمبارك ربيع، و«اشتباكات» للأمين الخمليشي في مرحلة ثالثة، بينما رأى أن التنويع على «العلاقة» في إطارها العبر لساني، وما يقتضيه من تطويع لأدق تقنيات السرد والبناء، من أهم سمات المجموعة الروائية الأخيرة: «الجنازة» لأحمد المديني، و«أخلاق بقرة» لمحمد الهرادي، و«المباءة» لمحمد عز الدين التازي.
لا يرتهن اليبوري لإنجازات السردية بصورتها الناجزة لدى أعلامها، بل يتعامل مع أطروحاتهم في صوغه الخاص لها، وهو يطبقها على نصوص روائية عربية، فيكتفي بعرض موجز لطريقته وتعريف دقيق لشبكة مفاهيمه النقدية. ومما يجدر ذكره أن اليبوري نفور من الشرح والإنشاء اللغوي من أجل ممارسة نقدية تعي ذاتها، وتستقيم في لغة دالة منضبطة، وعندما تحدث عن النص، على سبيل المثال، لاحظ أن النظرية السيميائية لدى غريماس تثير ست مقولات تحيل على النص، بينما تفيد مساهمة يوري لوتمان في ضبط مفهوم النص، غير أن كريستيفا ميزت «بين النص والخطاب من جهة، وبين البنية والتبنين من جهة أخرى، فبعد تعريفها للنص بأنه ممارسة دالة وصيرورة لإنتاج المعنى، أبرزت أن النص لا يمكن أن يدرس كبنية جاهزة، ولكن كتبنين، أي كجهاز لإنتاج وتغيير المعنى، قبل أن ينجز ذلك المعنى ويدخل مرحلة التداول»( )، أما ريفاتير فقد عدّ النص فضاء لنصوص متعددة، تخترقه وتتفاعل فيه عن طريق أشكال شتى من الحوار والجدل، وهي النظرة التي طورها جينيت ليصل إلى نتيجة تتلخص في أن ما يهمه ليس هو النص، ولكن التسامي النصي الذي يشمل التناص والميتانص وموازي النص وجامع النص، مما يؤكد خاصية التعددية النصية Hype rtex tualite التي تعني العلاقات القائمة بين نص معين وعدة نصوص أخرى مثلت بالنسبة إليه نماذج أجناسية، كما يتضح من فحص ما سماه الباحث نفسه بالإشارات والسمات والآثار الأجناسية.
ثم عرض اليبوري لمصطلح الرواية، وتوقف عند طابعها التركيبي، إذ أن إنتاج الرواية ينشأ، برأي أحد الباحثين، «عن توترات تتم، ضمن حركة مراوحة، بين سيناريوهات إيديولوجية وإحالية وأخلاقية وتناصية واستطيقية ونزوية»( )، بيد أن توكيده المستمر على وفرة الإحالات إلى مراجع متعددة يثير أسئلة ما تزال قيد الاشتغال النظري والمعرفي والنقدي، حول أهمية تعريب الاتجاهات الجديدة أو النظر إليها مجرد وسائل وتقنيات وإجراءات في منظومة فكرية ونقدية جديدة؟!، وحول النظر إلى اندراج النقد التطبيقي في سياق معرفة الآخر أم إدغامه في ممارسة نقدية عربية تراعي خصوصية النصوص العربية!؟. لا يخفى اليبوري نزوعه إلى التأصيل، ولكنه في الوقت نفسه لا يعتني بتعريب المصطلح وما ينتج عنه من إشكاليات، وهو جلي في صلب استخلاصاته من النماذج المدروسة، كمثل هذا الرأي: «ويمكن بصفة عامة، أن نستخلص أيضاً أن تكون الرواية المغربية قد ارتبطت بأنماط تفكير معينة، وبجدلية الحركة السوسيو ثقافية، وخاصة ببداية تشكل وعي إيديولوجي ـ استطيقي متأرجح بين قيم الماضي ومستلزمات الحاضر، متردد في الشروع في حوار مع الآخر»( ).
وفي مواقع أخرى، يحيل اليبوري إلى مصطلحات غير مندمجة في سياق ممارسته النقدية مثل «التنسيب والانشطار والميتاحكي»( ) على أنها مثيلات لعناصر بنائية مكونة للرواية المغربية على مستوى الرؤية والتعبير مثل الواقع والتاريخ، ولماذا لا يعرب «الاستطيقي» وعشرات المفردات والمصطلحات؟ ولماذا لا يبين مفهومه الخاص أو استعماله الخاص لهذه المفردات والمصطلحات؟. إن الإجابة على هذه الإشكاليات تستجيب للمستوى العميق والنافذ والحاذق للتحليل السردي في ممارسة اليبوري.
ويتعزز نزوع اليبوري للتأصيل لدى تحليله لرواية مبارك ربيع «بدر زمانه» أنموذجاً من نماذج لا شعور النص، يلاحظ تجاور أرقى تجليات التحليل النفسي مع النسق السردي التراثي، حيث «يحيل التحليل النفسي على مفاهيم وتقنيات واتجاهات متشعبة، من بين أهدافها دراسة الميكانيزمات التي من خلالها، يتم التعبير عن الرغبة اللاشعورية، بينما يمكن تقديم تعريف للنص، وبصفة مؤقتة ومحدودة، بأنه بناء لغوي يتمظهر داخل سلسلة تركيبية ودلالية متعددة المسارات والمستويات»( ).
ولعلنا نحترز أيضاً من الاستغراق في العلاماتية السردية التي تبدو أقرب إلى البناء «اللغزي»، وتبدو عناصر التحليل السردي أقرب إلى أنساق ملتبسة بعيداً عن الأغراض المهملة، فالعلامات نفسها تلتبس على التلقي، وأذكر مثالاً لذلك خلل دراسته لرواية التازي «المباءة»: كيف تندرج البنية السردية في شكل استعارة في حديثه( ).
لا شك، أن اليبوري ميال إلى الاختزال والتكثيف الاصطلاحي في الوقت نفسه، مما يجعل من نقده التطبيقي شبكة مفاهيم تستلزم إطاراً نظرياً محدداً، ومسرد مصطلحات واضحاً من شأنه أن يضيء هذا الشغل النقدي المتميز، على أن الملاحظات الختامية الواردة في تركيبه العام أشد اختزالاً وتكثيفاً اصطلاحياً، حين لم يهتم اليبوري بالإضاءة المطلوبة. ونذكر من هذه الملاحظات ما يلي:
• لاحظنا أن جلّ الروايات وظفت الحكي الشعبي بمختلف سجلاته الأسلوبية.
• وإذا كان التراث السردي العربي مندساً بأشكال مختلفة في ثنايا النصوص الروائية المدروسة، فإنه برز بقوة في «الجنازة» للمديني من خلال التناص مع القرآن والحديث النبوي، وبشذرات من كتب أخرى.
• وليست طرائق السرد الغربية بأقل حضوراً، فجميع الروايات المدروسة، لها وعي بدرجات مختلفة، بهذه الأساليب السردية، كما أن لها قدرة على توظيفها.
• تكاد جل روايات المتن تلتقي في استعمال تقنية الحلم، كوظيفة سردية، وكمجال لتمظهر الرغبة المرتبطة بالهو.
• جل روايات المتن تتضمن أشكالاً من «التحول» الذي استعمل جزئياً عند زفزاف لإبراز الصراع بين «الأنا» و«الآخر».
• تم تشغيل المفارقة في جل روايات المتن، عنصراً ساهم في تشييد النصوص وصياغاتها.
• ارتقى التعبير في هذا المتن إلى مستوى اللغة الروائية، في دقتها وتنوعها وشفافيتها.
• تطرح روايتا «لعبة النسيان» و«الجنازة»، بطرق مختلفة حيناً، ومتقاربة حيناً آخر، مسألة البحث عن الجذور واللحظات البدئية في عالم مليء بالمفاجآت والتغيرات.
• انخراط الروايات بدرجات متفاوتة في الواقع وانشغالها بأسئلة الراهن.
• الاهتمام المتزايد بالشكل والبناء.
إذا كانت كل رواية، كما يقال، تخضع لاستراتيجية سردية، وفق نموذج دينامي، يؤشر على التجاوزات في الدرجة الأولى، فإن ما لاحظناه إلى جانب ذلك، هو أن جل هذه الروايات كتبت وفق نموذج منطقي يربط بين البدايات والنهايات، رغم اختلالاتها، ووفق تصميم هندسي ضمني، رتبت على أساسه المسافات والمواقع والأشكال والألوان، وهكذا يبدو أن الاختراقات التي سجلناها في إطار دينامية النص، تخضع هي نفسها لاستراتيجية تقيم التوازن بين المعيار وخرقه من أجل تشييد كتابة روائية جديدة، تدخل في اعتبارها أفق انتظار محفل التلقي»( ).
تعبر كتابة اليبوري في هذا النقد التطبيقي عن تنازعات في وجدان الناقد العربي ووعيه إزاء التعامل مع الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية: إدماجها في المسار النقدي العربي أم تعريبها، وقد تجنب اليبوري حدة هذه الأسئلة، مؤثراً ممارسة نقدية تستهدي بحلولها داخل عمليات تطورها، والتجربة مفتوحة على زمنها والزمن.
ويقدم محسن جاسم الموسوي (العراق) معادلة أخرى مختلفاً عن غالبية نقاد السرد في الاطمئنان إلى أن فن السرد العربي الحديث مدين إلى الموروث السردي، وليس إلى التقليد الغربي، وهذا هو المعنى الذي يشير إليه عنوان كتابه «ثارات شهرزاد، فن السرد العربي الحديث» (1993). والموسوي، كما ذكرنا من قبل، ممن اشتغلوا على مقولة «المثاقفة المعكوسة» التي تقول بأن الموروث السردي العربي أثر في السرد الغربي منذ أزمان بعيدة، مع «ألف ليلة وليلة» وسواها، ولربما، لهذا السبب، نظر الموسوي إلى الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية على أنها ذخيرة من ذخائر تراث الإنسانية الغني والمتفاعل، فاستخدم إنجازاتها حيث وجد ذلك نافعاً ومناسباً، فحفلت أبحاثه ومقالاته بالإشارات المرجعية إلى عشرات الفلاسفة والنقاد والأدباء والباحثين الأجانب، فوردت في مدخله وحده أسماء: بول اندريه لوسور، هايز نبيرغ، ييتس، هيدجر، بول دي مان، Peck الناقد من القرن التاسع عشر، اليوت، بارت، باشلار.. الخ، ويضاف إلى ذلك أنه لا يعنى بتدقيق هذه الأسماء، ولا يورد مقابلها الأجنبي، ولا يوثق مصادره ومراجعه، إلا فيما ندر، وهو العالم والناقد الأكاديمي المعروف، ولا يبوب أو يصنف كتابته، فليس ثمة أفكار محددة مرتبة، وإنما هناك ثراء فكري ونقدي يصير معه النص النقدي إلى مجاز مرسل ومتعة ذوقية. يبطن الموسوي خبرته المعرفية والمنهجية وموقفه من السرديات، وكأنه يسترخي على مراح خصيب من تطور التقليد السردي العربي، مستفيداً من توافر عوامل متعددة أدبية واتصالية، كانت في صلب تحولات السرد العربي واستراتيجياته، ولا يهتم الموسوي بنقل منهجية الاتجاهات الجديدة، باستثناء ما يضيء هذه التحولات وتعبيرها التاريخي والمجتمعي والفني، فالفن الروائي فن اتصال، ويميزه استعانته بالأجناس المدخلة، وطبيعة مشكلات خطابه الخاص، والتعبير المجتمعي عن النص الروائي، إفراز الخطاب الروائي لمشكلات مختلفة. تتراكم الأفكار والإشارات المغذاة بمصطلحات الاتجاهات الجديدة إلماحات متوالية لعقل نقدي خصيب ونير، كما في مثل هذا الشاهد:
«والنص هنا ليس مطابقاً لما يسمى بـ «ما وراء النص»، لكنه يخلخل جزئياً سنن التعارف التي تلجأ إلى تأكيد سمات التمثيل أو المشاكلة والعرض. فبعد أن يعتمد هذه طوال سرد خطي يتشكل في وقائع متتالية ضعيفة التوتر، يطمئن القارئ ويخرجه من الإبهام، منبهاً إلى أنه كان سارداً لا غير. ومثل هذه الخلخلة تأخذ أشكالاً عدة في نص سليم بركات «الريش» الذي مرّ ذكرهُ»( ).
إن نقد الموسوي التطبيقي أشبه بنظرة طائر على نصوص روائية وإحالات معرفية ومنهجية إلى الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية على وجه الخصوص. ولكننا، في هذا الركام الغني الذي يفتقر إلى التنظيم والتبويب، نتلمس خصائص ممارسته النقدية:
1- يمتحن الموسوي خصوصيات السرد العربي الحديثن في نصوص روائية كثيرة، في شكلها وتقنياتها وسرودها، ولا سيما غوصها في موروثها الذي يراه معيار الخصوصية، وهي جهود أصبحت غالبة على أقلام النقاد والباحثين العرب. غير أن الموسوي يأمل في «ظهور «خصوصيات» أخرى للكتابة، تجعلها أكثر عمقاً، فملامسة السطوح بقيت واحدة من مشكلات التأليف والإبداع العربيين كلما جرت المقارنة بين الكتابة العربية وبين ما هو متميز في الرواية العالمية»( ).
إن مجرد طرح سؤال المقارنة مع الرواية العالمية باهظ الثمن في مجال البحث عن الخصوصية، لما يعنيه من لزوم أحكام القيمة، والقياس إلى «الآخر»، والمرجعية الواقعية والتاريخية. وفي ضوء هذا الاستنتاج نستطيع أن نفهم هذا الرأي الذي يجافي إلى حدّ كبير شغل الموسوي نفسه في تأصيل السرد العربي: «إذا لم يزل العديد من النقاد والدارسين العرب والأجانب يرون أن الواقع يبقى أعتى وأكثر ثقلاً وثراء ورهبة وقسوة مما تتمكن النصوص منه، حتى أكثرها واقعية. والغريب أن خصوصيات الرواية العربية الأخرى لم تزل «خصوصيات غياب» مقارنة بالقليلة الحاضرة منها في القص أو في الخطاب». ويتكرر هذا الرأي صراحة في مطلع بحثه الموسوم «الحداثة والتجريب في الأدب القصصي: دراسة في ثلاثة نصوص»، وينطلق الموسوي فيه من «فرضية مفادها أن الأدب القصصي العربي لم يستكمل نضجه أو دورته التقليدية عندما داهمته صدمة الحداثة»( ).
2- لا يقف الموسوي على منهجية محددة في قراءة السرد، فغالباً ما يلجأ إلى تحليل سردي خاطف ممتزج بالشرح والنبرات الموضوعية والدلالية من جهة، وإلى تداخل بيّن بين لغة النقد وإيثار تعميم الرأي وأحكام القيمة. لقد درس، على سبيل المثال، في بحثه المشار إليه ثلاثة نصوص هي «السؤال» لغالب هلسا، و«أنت منذ اليوم» لتيسير سبول، و«اعترافات كاتم صوت» لمؤنس الرزاز، وانتهى إلى آراء نقدية قاطعة، ولكننا لا نعرف كيف وصل الناقد إلى هذه الآراء، كأن يقول عن رواية «السؤال» ببساطة، أنه يمكن اختصارها «إلى الثلث دون خلل واضح في السرد الوظيفي». ويضيف جازماً: «ومثل هذا الورم السردي لا يخص «السؤال» وحدها: فالرواية التقليدية لا ترى ضيراً في التمدد ما دام يؤكد سنن الاحتمال»( ).
ولا أعتقد أن هذا الرأي صائب أو يصمد للتحليل السردي المنهجي، وهو يذكرني بغضب هاني الراهب شاباً من طول روايات ديستويفسكي، مما دعاه إلى اقتراح حذف مئتي صفحة من الرواية الواحدة دون أن يؤثر ذلك على مسارها السردي أو قيمتها الفكرية والفنية( ).
3- لا يدقق الموسوي مصطلحه النقدي، استتباعاً للملاحظة السابقة، فقد تواضع النقد على تسمية الرواية الجيلية بالرواية «النهر»، أو «الرواية الإنسيابية»، بينما اكتفى بتسميتها بـ«الخطية» بقوله: «وما ظهر في ثلاثيات نجيب محفوظ ومحمد ديب يتماشى مع هذه «الخطية» حيث الزمن عمر يمتد من جيل إلى آخر، تنتقل فيه بعض البذور وتضيع أخرى، مزعزعاً بالمصادفات مرة، وبالذكريات مرة أخرى»( ). لا شك، أن من حق الموسوي مثل أي ناقد وعالم من وزنه أن يفترق في مفاهيمه واصطلاحاته عن التواضع المتفق عليه شريطة أن يحددها من منظوره النقدي. وثمة مثال آخر لاستخدام مصطلحات الموروث السردي الصوفي التي استبدلها أو داخلها بمصطلحات حداثية تؤول مرجعيتها إلى «الواقعية السحرية» في رواية أمريكا اللاتينية. ولدى مناقشته للزمن في رواية سليم بركات «الريش»، أفاد أن الزمن في هذا النص المتميز والفريد يتعدى بعده السردي المألوف ليستجمع الخارق والأخروي والأسطوري بالدنيوي والدارج مرة واحدة.
4- يشير نقد الموسوي التطبيقي إلى تملك معرفي هائل في تحليل السرد العربي، وهذا واضح في بحثيه «ثارات شهرزاد في ألف ليلة: ستراتيجيات السرد عند نجيب محفوظ» و«النص خارجاً على الواقع القائم: ستراتيجيات الانشقاق في الكتابة العربية المعاصرة»، إذ حلل بمهارة نقدية بارعة تقنيات السرد المحفوظي: المفارقة، اللفظية، الموقعية، الدرامية، المحاكاة الساخرة، العجائبي والخارق، المقابلات العديدة، القطع والترقيع والرصف والمزج، ليكشف بعد ذلك دلالة النص: «يفضح الاستبداد ويشرحه ويعيد مخاطبته كما هو أمره في العصر الراهن»( )، مثلما أكد ذلك لدى تحليله لعدة نصوص روائية وغير سردية بقوله: «أي أن أنماط المراوغة والتزويغ في نقد الأوضاع القائمة تشكل بمجموعها ستراتيجيات الانشقاق عن حالات السكون والتلفيق في آن واحد. وعندما تتهافت الأسماء وتلوذ أخرى، بالسكون، وتندفع مجموعة في جوقات التلفيق، تصبح الكتابة اليقظة الحية جزءاً من هوية الخروج على المأزق»( ).
وتتبدى هذه المهارة البارعة في استخدام مصطلح «رواية النص» الذي اقترحته باتريشيا واف Patricia Waugh في كتابها «رواية النص: نظرية الرواية الواعية بذاتها وتطبيقاتها» (1984)، ويشير إلى «الكتابة الروائية التي تستدعي الانتباه إلى ذاتها بشكل واع ومقصود ومنتظم على أنها صنعة، لكي تثير التساؤل حول العلاقة بين التخيل والواقع»( ).
وعلى الرغم من أن هذا التملك المعرفي الهائل مفيد في غنى التحليل السردي باتجاه أصالته، إلا أن الموسوي ما يلبث أن يردد فكرته التي تنتقص من الجهود الروائية العربية الحديثة برمتها بقوله: «وعدا هذا السياق، فإن الروائي العربي لم يكن صاحب علاقة متكاملة أو حقيقية مع النوع الروائي، رغم علاقته الوثيقة بالحكاية الشعبية»( ).
3-3- التحليل السردي النصي:
بلغ النقد التطبيقي المتأثر بالاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية شأواً عالياً في ميادين التحليل السردي النصي لأعمال روائية وقصصية بعينها، وهو نقد واسع أقبل إليه حشد غير قليل من النقاد والباحثين. وقد اخترت من عشرات الكتب خمسة منها تعبر عن ميل أكبر للتمثل المعرفي والمنهجي والنقدي لهذه الاتجاهات إلى حدّ الاستسلام لمنجزاتها. وأبدأ مناقشتي للكتابات المعبرة عن هذا الميل بكتاب الصادق قسومة (تونس)، وعنوانه «النزعة الذهنية في رواية الشحاذ لنجيب محفوظ» (1992)، ويلحظ ذلك في متن الكتاب، بينما حوت التوطئة والمقدمة معلومات غير دقيقة، وغير مستوعبة، وغير وافية عن النزعة الذهنية في مجال الرواية، وموقع نجيب محفوظ في مجال الرواية العربية، وموقف النقاد من محفوظ وأدبه، وموقع المرحلة الذهنية ومواقف النقاد منها، ومواقف النقاد من رواية الشحاذ. وينطبق هذا الرأي على عروضه للنقاد والنقد الجديد عن الرواية، كأن يجزم أن الرواية وليد حديث متأثر بالغرب، و«أن ممارسة النصوص الروائية لم تكن ميسورة لحداثة عهدنا بالمناهج القصصية، ولطبيعة ثقافتنا التي لا سند فيها لمثل هذه البحوث»( ).
جنح قسومة إلى رفض التقيد بمنهج قصصي معين (يقصد منهجاً نقدياً معيناً) لصعوبة هذه النظريات والمناهج الغربية، ولإبهارها، ولعدم نضوجها واكتمالها، معولاً على التطبيق بالدرجة الأولى، استئناساً بقول جينيت «إن أفضل السبل استنباط طريقة مقاربة من النص ذاته»، وقد أعلن في توطئته، ولا تصح الإعلانات دائماً، أنه «لم يكتب لنصرة مذهب أدبي معين، ولا لتطبيق نظرية مخصوصة في الشرح أو التأويل، ولا استنباط أحكام نهائية جازمة، وإنما مقصدنا لفت الانتباه إلى بعض القضايا الجديرة بالنظر في رواية الشحاذ». أراد قسومة أن يكون بحثه «نوافذ على بعض الأفكار، ومفاتيح لمعالجة بعض التقنيات القصصية»( )، ولكنه ما لبث أن اعتمد مباشرة على جينيت الذي سماه «الطبّ بالنصوص القصصية وطرق مقاربتها»( )، فعرض وقائع الرواية في أطوارها الأساسية، وهي:
الطور الأول: الإحساس بالاختلال ومحاولة تشخيص أعراض الأزمة.
الطور الثاني: محاولة العلاج والبحث عن سبل التجاوز من خلال التحرر من وطأة حياته السابقة، وتجربة الفن، وتجربة الجنس.
الطور الثالث: الهروب والانعزال.
وكانت هذه الوقائع سبيله لدراسة الأدوات الروائية والتأويل، فاعتمد ثانية على جينيت في تحديد مكونات العمل القصصي: الحكاية والسرد والنص ذاته، وفي تحديد مكونات السرد: النظام الزمني وطرائقه في إيراد السوابق واللواحق ووظائف هذه اللواحق، والتواتر وضروبه الثلاثة، القص المفرد والقص المكرر والقص المؤلف، والديمومة، وضروبه الأربعة، السرد المجمل والإيقاف أو القطع المؤقت، والإسقاط أو الغياب الكلي، والمجانبة أو الغياب الجزئي، والمشهد والوصف، ووصف الأماكن من الرمز والتعبير عن باطن الشخصية، وعناصر الطبيعة، ووصف الشخصيات، ووظائف الوصف: خدمة الأحداث، والتفسير، وتمثيل الموجودات، واستبطان الشخصية، وتكثيف الأبعاد الرمزية، والتنوع الكيفي، والوفرة الكمية، والحوار وتندرج هذه القضايا في قسمين: قضايا ذات صبغة فكرية، وقضايا ذات صبغة وجدانية، وخصائص الحوار، ووظائف الحوار: ‘رضية، واستبطان، وتمثيل أو تصوير، وتطوير، وتأويل، وإثراء الزمن، وتقنيات كشف الباطن وأساليبها: الحوار الباطني (النجوى)، والحوار الباطني الموجه إلى قائله، والحوار الباطني الموجه إلى شخصية أخرى، والحوار الباطني السردي، والتحليل النفسي، والرؤى وأحلام اليقظة، والتذكر، والتداعي.
ولا يخفى إن دراسته للأدوات الروائية تستند أساساً إلى جينيت في كتبه «الخطاب القصصي الجديد» (1983) Nouveau Discours du Recit «وصور 2» (1969) Figure 11، و«صور 3» Figure 111، وتستند إشارات إلى جان روسي وميشال زيرافا وناتالي ساروت وفيليب هامون والبيريس وتيبودي ودي جردان، أي أن هذا النقد التطبيقي مرتهن كلياً، مع نزوع لتبسيط المنهج إلى العلامية السردية في مستوياتها الشكلانية البنيوية، ولا سيما جينيت. وربما لهذا السبب غلبت التعليمية الشارحة على التطبيق، كما في هذا المثال عن «وظيفة تأويل»:
«يؤديها حوار تأويلي Dialogue Interpretatil وهو حوار يفسر بعض الجوانب، لكنه لا يؤدي إلى تطوير الأحداث، ولا إلى تغير في حركية القص، وإلى هذا النوع ينتمي الحوار الذي دار بين عثمان وصديقيه في الفصل 15، وفيه فسر كل منهم ماضي حياته، لكنه لم يخرج عن الوضع الذي عرفناه له في الحيز السابق من النص»( ).
وقد وجد قسومة أن أدوات المنهج الذي التزمه لا تلبي حاجات دراسة التأويل، فعمد إلى منهج ظواهري تأويلي اعتماداً على نقاد وباحثين كثر، فاعتنى بالوجه النفسي، والوجه الاجتماعي، والوجه الذهني، والمنزع الفكري: منزلة الفن والعلم والفلسفة، وعلاقة الفن بالإنسان والمجتمع، ومعنى الحياة، والمنزع الوجودي: أدموند هوسرل، سورين كيركجورد، أهمية مفهوم القلق، التحول والصيرورة، الاختيار، والحرية، والمسؤولية، وطبيعة الأزمة، وأهمية الوحدة، ومبدأ الإغراب، وقيمة الحرية، والمنزع الصوفي: أهمية القلب، الإحساس بالوارد والمجاهدة، والمنزع العبثي. وتحفل مناقشاته لوجوه التأويل ومنازعه بتصنيفات شكلية مماثلة، وبشروح خارجة عن السياق النقدي، أو هو يسقطها عليه، وكثيراً ما اعتمد على أقوال خارجة عن النص في تأويله كقول محفوظ نفسه: «إنني ضعيف الإيمان بالفلسفات، ونظرتي إليها فنية أكثر منها فلسفية»( )، أي أنه يسقط على النص معاني وأفكار من خارجه، ولا يتسق هذا مع منهجه العلاماتي السردي، فهو غالباً ما اعتمد على نقاد آخرين مثل محمود أمين العالم في الصفحة 94، أو على وقائع خارج الحدث كذكره لهزيمة عام 1967 في الصفحة 95، بينما الرواية مكتوبة عام 1965.
إن قسم التأويل أقرب إلى الشروح التعليمية تلمساً للمعاني والأفكار على طريقة الإسقاط، كما في هذا المثال الذي يتحدث عن «أهمية القلب»: «هو عند المتصوفة باب الروح ونافذة الوجدان، وهو عند عمر أداة رئيسية لتحريك الذات وهزّ الإحساس عبر نشوة تطلب متسامية من قيود العقل وتحديد العلم، ذات خصائص لا جدال فيها ولا منطق»( ).
وحوى كتابه قسماً ثالثاً هو أنموذج تطبيقي، شرح فيه نصاً من الفصل الخامس من «الشحاذ»، ووضع حدوداً لتحليله «على النحو الذي وردت عليه، لأننا اعتبرنا النص مقطعاً قصصياً واقعاً بين بداية ونهاية تفصلهما وحدات متباينة في أحجامها مختلفة في وظائفها، ومن علاقاتها جميعها تبرز خصائص النص وتتضح دلالاته»( )؛ وقد مهد لتطبيقه بإلماحة عن تحليل النصوص، ليتوسل إلى شرح نصه بطرق مختلفة بدل أن يتقيد بمنهج واحد، فدرس وحدات النص على أساس الأغراض، وفق مذهب جريماس، والنص في مستوى النظام الزمني، وفق مذهب جينيت، واكتفى بالحد الأقصى من التحليل البنيوي الشكلي، وبالحد الأدنى من التأويل، لأن قسومة أخذ بالاتجاهات الجديدة على أنها تقنيات فحسب، وليست منهجاً فكرياً وفنياً يشكل في مطاويه وانثناءاته وتجلياته البنية والدلالة في آن واحد.
ويندرج كتاب شكري المبخوت «سيرة الغائب ـ سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين» (1992) في منوال احتذاء الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية في جنس أدبي ملتبس هذه السيرة الذاتية التي طالما درست في إطارها التاريخي والنفسي، بينما اختار المنجوت النظر إليها، متأثراً بالنهاجيات المعرفية والنقدية الجديدة، «من حيث هي نص أدبي»، وهو مدرك صعوبة ما أقدم عليه. لقد اهتدى بالأبحاث الجديدة في مجال السيرة الذاتية، ولا سيما كتابي جورج ماي G. May المعنون «السيرة الذاتية» “L’Autobiographie” (1979)، وفيليب لوجون Pb. Lejeune، وعنوانه «الميثاق السير ذاتي» Le Pacte Autobiographique (1975)، الكتاب الثاني، كما أشرنا في الباب الأول، معني بالإجابة على إشكالية صلات السيرة الذاتية بالواقع التاريخي المخصوص، وبشخصية صاحبها ونفسيته، فأخذ عنه تعريفها:
«قصة استعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي قصة وجوده الخاص مركزاً حديثه علىحياته الفردية، وعلى تكوين شخصيته بالخصوص»( ).
وتضمن هذا التعريف شكل الكلام (السيرة الذاتية قصة منثورة) وموضوعها (مدار السيرة الذاتية حياة المتكلم الفرد وتاريخ شخص ما)، ووضعية المؤلف (أن يكون الكاتب ويحيل اسمه على شخص حقيقي متطابقاً مع الراوي)، ووضعية المؤلف (أن يكون الراوي متطابقاً مع الشخصية الأساسية أولاً، ومتشبثاً بالمنظور الاستعادي للقصة ثانياً).
واختبر المبخوت نظرياً هذه المعايير التي لا مناص منها، ولا سيما وحدة الراوي والشخصية، ووحدة المؤلف و«الراوي ـ الشخصية»، معتمداً على لوجون كما ذكرنا. وناقش تالياً السيرة الذاتية والأجناس القريبة منها، من خلال الميثاق، إذ يقاس على غراره ميثاق روائي( ).
وعاين المبخوت في الباب الثاني «ظاهرة السيرة الذاتية تاريخاً وثقافة، فلها تاريخ يضبط نشأتها وتطورها، وسياق ثقافي يكتنفها، وأرخ لها، ونظر في شروط إنتاج نص سير ذاتي حديث كما يبرزها التاريخ الثقافي العربي، راصداً بعض التحولات القيمية والمعرفية التي أسهمت في نشأة السيرة الذاتية، «فهي من جهة كونها نمطاً في الكتابة ـ لا تخضع لرغبة الفرد في الحديث عن نفسه رغم أنها كتابة لتاريخ شخصي بقدر ما تخضع لموقف ثقافي عام من الفرد مفهوماً ومنزلة ووجوداً»( )، وأورد جانباً من تاريخ السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم وأنواعها، وجانباً من تاريخ السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، دخولاً في سيرة طه حسين، على «أن السيرة الذاتية لا تمثل إشكالية فنية (شكل ـ تعبير) فحسب، بل تمثل بالخصوص إشكالية ثقافية اجتماعية بها يمكن أن تقاس بعض فضاءات الحرية في المجتمع»( ).
أجرى المبخوت تدقيقاً لافتاً للنظر في صلة «الأيام» بقضية الجنس الأدبي، واستعرض نماذج من نقد هذا الأثر الباقي لعدة نقاد، ثم أوجز المواقف من جنس الأيام، وهي: أولها صعوبة الجزم بانتماء «الأيام» إلى جنس السيرة الذاتية، ومثله الجزم بأنه رواية يعسر قوله، وثانيها أن تردد الدارسين بين الرواية والسيرة الذاتية لا يرتكز في جل الأحيان على معايير صارمة تضبط الفوارق بين الجنسين الأدبيين، وثالثها النقاط التي تشترك فيها مختلف المواقف من «الأيام» هي أن الدراسات ظلت تحوم حول إشكالية الجنس الأدبية لسببين لم يتبينهما جل النقاد بوضوح: أولهما غياب عقد القراءة و«الميثاق السير ذاتي»، وثانيهما كتابته بضمير الغائب، مما أسهم في جعل جنس «الأيام» الأدبي ملتبساً، فاستخلص المبخوت من قراءة ماكتب عن «الأيام» ثلاث طرق في حل هذه الإشكالية:
الطريقة الأولى قائمة على التخمين وإقامة ضروب من المشابهة بين النص وما يعرفه الناس عن حياة طه حسين.
الطريقة الثانية، ويكاد ينفرد بها الباحث فؤاد القرقوري، وقد أجمل الموقف بوضوح في قوله: «إن كتاب «الأيام» لا جنس له، إنه قتل للجنس، لأن قدره أن يكون بلا جنس» (واعتقد أن هذا الكلام لا معنى له لأن القرقوري نقضه، حين أقر في بحثه بأن الأيام سيرة ذاتية لتلك اللحظة المتناقضة. هكذا؟!).
والطريقة الثالثة، وهي متضمنة في سياق عرضه لرأي محمد القاضي، الذي ينفي عنها مفهوم السيرة الذاتية انطلاقاً من غياب التطابق بين أعوان السرد أساساً. غير أن المبخوت ترك مسألة انتساب «الأيام» إلى جنس أدبي معين مفتوحة، «فميزة «الأيام» فنياً كامنة في ضروب التقنع التي تكشف عنها لعبة الضمائر فيه.. وربما كان الفرق كامناً في أن القراءة اليقظة تنال متعتين مجتمعتين من طيبات نص «الأيام»: متعة التعرف إلى البطل في كفاحه من أجل المعرفة ومتعة ذهنية مصدرها ما يقوم بين أعوان السرد من ألوان الاتصال والانفصال»( ).
لقد أفادت المقدمات كثيراً في مقاربته لكتاب «الأيام» بالتباسه وخصوصيته، مما ييسر سبل قراءة هذا النص المخادع والمخاتل برأيه، «فهو من النصوص التي لا تفصح عن وجوه الفن فيها، ولا عن مقاصدها إلا بعد معاشرة ومجاهدة، فقد تطالعه ولا تجد فيه ما يشدك إليه عدا بعض وجوه كفاح بطله من تحت كيانه واستحقاق منزلة في الإنسانية رفيعة»( ). وعلى الرغم من راويه الماكر، فقد استحق كتاب الأيام مكانة لا تبلى على الزمن، «لأن صاحبه بناه على خلق مسافات جمالية بين النص وجنسه الأدبي، وبين زمن التلفظ وزمن الملفوظ، وبين الراوي والمؤلف والشخصية الرئيسية. وأدخل في لعبته السردية القارئ، على نحو من الأنحاء، وفي هذه المسافات كان بعض السرّ الذي جعل «الأيام» نصاً حياً اخترق ظروف إنشائه ليستمر إلى الأبد»( ).
أفصح المبخوت عن ميله الكبير للاتجاهات الجديدة في مستويات تناوله للصنعة والسرد في كتاب «الأيام»، وأثار في الباب الأول لتحليله سؤالاً مشابهاً لأسئلة الشكلانيين الروس: كيف صنع كتاب الأيام؟ ومضى مع كشوفاتهم السردية التي طورت فيما بعد، ودرس طريقة طه حسين في البناء التي تقوم على انفصال الفصول واتصالها في آن، من خلال مبدأين هما التكثيف والتوسع من جهة، والتعليل من جهة أخرى. ففي مبدأ التكثيف، يدور كل فصل من فصول الأيام على محور دلالي يستقطب الأحداث على تنوعها، والملفوظات المكونة للنص. وهذه المحاور تتوسع في الفصل وتنتشر فتحدد ما يجب أن يتحدث عنه الراوي. «إن مبدأ التكثيف والتوسع ليس مجرد وسيلة تصل بين المتباعدات التي يدعو بعضها بعضاً على سبيل الاستطراد، وإنما هو مبدأ محكم في تنظيم الفصول يجمع ما تماثل وتشابه، ويرده إلى نواة دلالية واحدة منسجمة»( ).
ويعاضد مبدأ التعليل المبدأ السابق، «فالأيام» بحث مستمر عن الظل والأسباب الكامنة وراء المواقف والحالات أو الأفعال والأقوال وعن آثارها ونتائجها. ولا يلغي انفصال الفصول مزايا الاتصال، ولا يمنع من رؤية بعض العلاقات القائمة بينها، من خلال الروابط الظاهرة مثل مبادئ الاستعادة والتداعي والتتابع، والروابط العميقة، استعانة بالحفر المعرفي واللغوي، وقد أفضت هذه الطريقة إلى فهم الدلالة العامة للبناء الذي ينخرط في التخييل من أوسع الأبواب، «إن مؤلف الأيام، برأيه، لا يستعيد ما انقضى من أحداث استعادة محاكاة عمادها الإيهام بالتطابق بين المادة الوقائعية والمعطيات السردية الخطابية. فلم يستعد بذاكرته عالمه «الواقعي» بكل تفاصيله وإحداثياته المكانية والزمانية مما يشي بقلة «الضبط» وعدم الاحتفال بالدقة»( ). ولاحظ المبخوت توكيداً لطاقة التخييل التي تطبع «الأيام» أيضاً استعمال مبادئ دالة تخرق «الميثاق السير ذاتي» مثل مبادئ الانتقاء والتفسير الغالبة على الصنعة أو الصوغ، فهو نص أدبي لا مفهومي «أو لنقل يظل نصاً أدبياً تندس في أعطافه أفكار خالقة سواء، شاء ذلك أم أبى»( ) لا يأنس المبخوت للأفكار المسبقة مؤثراً الغوص في جنبات «الأيام»، وممعناً في التحليل السردي: لعبة الأزمنة ـ لعبة الضمائر ـ سياسة الكلام، ومطوعاً النهاجيات المعرفية والنقدية لحاجات نقد تطبيقي متطور في سيرورته واستشرافه للنصوص وقضاياها. ولعمري، أن نقد المبخوت يياسر إلى آلياته الحديثة، سلساً طيعاً، زاهي العبارة في فض مغاليق النص واستنطاقه الدلائل والبنيات.
ولعلنا نوجز سمات شغل المبخوت في معاينة الأنموذج التطبيقي مما حلله سردياً، وهو الفصل الأول من كتاب «الأيام»، حين يضيق النص بطاقات المنهج المحدودة، وحين يستعان بطاقات المنهج المحدودة لتحليل نص شديد الثراء. لقد عمد المبخوت إلى نهاجيات الاتجاهات الجديدة في تحليله دون تعسف أو ابتسار، وقصر نقده على النص من داخله، وهذا ما يجعل نقد المبخوت التطبيقي من النماذج الأكثر إشراقاً بيانياً والأكثر تملكاً معرفياً ونقدياً لنهاجيتها النقدية الجديدة في حركة نقد القصة والرواية في العقدين الأخيرين.
من اليسير أن نلاحظ أن الميل إلى الأخذ بنهاجيات الاتجاهات الجديدة قد طغى طغياناً واضحاً على قطاع غير قليل من ممارسي النقد التطبيقي في التسعينيات، فيستفيد هؤلاء بقدر كبير من العلامية البنيوية وشعرية السرد على وجه الخصوص. وهذا واضح في كتاب بهاء الدين محمد مزيد (مصر)، وعنوانه «خالتي صفية والدير بين واقعية التجديد وأسطورية التجسيد» (1995). واختار رواية بهاء طاهر «خالتي صفية والدير»، لأنها، برأيه، معين خصب«للتحليل الأسلوبي بما تشتمل عليه من تجليات أسطورية وجدل مستمر بين الواقع والرمز، بين التجسيد والتجريد، بين اللغة والميتا لغة، والرواية والميتا رواية، ووعي بما تحمله اللغة من دراما وصراع يعكس الواقع بما فيه من تناقض وتعارض». وقد مهد مزيد لتحليله بإيجاز موضوع الرواية، ملاحظاً طابعها الرمزي، أو حرص مؤلفها على البعد الرمزي، «فالثيمة Theme البارزة في الرواية هي الحب في مواجهة الثأر، لكن بهاء طاهر يريد لعمله أن يكتسب طابعاً قومياً وطنياً، فلا يكتفي بتصوير وحدة المدافعين عن الحب في القرية في مواجهة الثأر والانتقام، بل يحاول توسيع نطاق هذه الوحدة لتصبح القرية رمزاً للوطن مصر، بل ورمزاً للوطن الأكبر ـ العرب ـ في مواجهة العدو المشترك»( ). ولا اتفق مع مزيد في هذا الرأي، فلو اقتصرت موضوعة الرواية على «الحبّ في مواجهة الثأر» لما كان لها هذا الشأو الذي سامقته في الكتابة الروائية العربية، ولغدت إحدى الروايات الاستهلاكية التي لا نفع منها ولا ضرر، فما يميز الرواية هو طابعها الاستعاري الذي وصفه بالرمزي ثم ما لبث أن غفل عنه، مشيراً إلى «ضعف جزء النكسة وإقحامه على النص»، بل إن قيمة الرواية في مقاصدها الإنسانية والقومية المفعمة بثراء بنيتها الداخلية ومستوياتها السردية العميقة. وكان أوضح مزيد أن أول ملمح لهذه الرواية هو «تجليات الأسطورة»، إذ «تنفتح الرواية على عوالم لا حصر لها من الرموز الدالة والأساطير القارة في وعي الكاتب والمتلقي على حد سواء، فتبدو متعددة الوجوه، وقابلة للتأويل على مستويات مختلفة»( ).
أعلن مزيد أن منهجه تحليلي، ولكن استعان بآراء نقاد آخرين أشاروا إلى «ما تحمله الرواية من إحالات إلى تلك العوالم الأسطورية التراثية التاريخية»، وإلى التناص الذي يجعل الرواية «مفتوحة لقراءات جديدة للتناص مع يهوذا وسيدة الآلام وحادثة الصلب ودخول أورشليم وقصة الرسول (ص) والنجاشي وهابيل وقابيل والحسن والحسين»( ). وذكر مزيد عنصراً آخر هو النبوءة، كان له دور كبير في إضفاء الأسطورية على صفية بطلة الرواية إنها تغني لحربي غناء حزيناً كأنها تحس بما يحمله القدر لها وله.
أوضح مزيد أن «الدير» المركز الأهم للدلالات، بالإضافة إلى البيت والسراي والمسجد والسجن، وعني ملياً بالعلاقة بين هذه الأماكن متبعاً تحليلاً أسلوبياً متضافراً مع سبع ترسيمات لحركة الدلالات التي تنقل «حقيقة مهمة وهي أن المسلمين والمسيحيين لا بديل لهم من التعايش والتعاون في وجه المصير المشترك؟ كلاهما منتصر في حال تعاونهما، وفي حالة الفتنة كلاهما مهزوم»( ).
ثم اهتم مزيد بالتحليل السردي لجوانب أخرى من الرواية: الميتا لغة والميتا رواية، دراما اللغة، أجرومية السرد، لغة الرواية، تجليات الواقع، الرواية كميتا نص، دلالات ودروس. أما الملاحظات على هذا النقد التبطيقي فنوجزها فيما يلي:
1- يعتمد مزيد على بعض خصائص العلامية البنيوية كما شرحها بعض النقاد والباحثين العرب، وبعض الباحثين الإنجليز، ممن لا يشكلون عمدة في بابهم، بل أنه يبدو غير معني بذكر مرجعيته كما في حديثه عن مفاهيم الميتا لغة ************ والميتا نص ******** والميتا رواية ****fiction، وتعني على الترتيب: الكلام عن الكلام (التعليقات اللغوية على اللغة)، ونص عن نص (تعليق نص على نص آخر، رواية عن الرواية (تعليقات في رواية على كتابة الرواية حيث يصبح الفن سؤالاً ملحاً عن ماهية الفن)( ).
2- لا يحدد مزيد منهجه النقدي أو مرجعيته النقدية، وهو يخرج أحياناً عن خصائص العلامية البنيوية إلى نقد لغوي أو اجتماعي. وهذا واضح في تناوله لتجليات الواقع، المرأة، الثأر وبعض التجليات الأخرى. ولا ينفع في هذا المجال قوله أن «المنهج ينبع من النتاج، وليس من مبادئ مسبقة، وكل عمل أدبي مستقل بذاته»، لأن العبرة دائماً بالممارسة النقدية.
3- ثمة تعارض بين التزام منهجية تقترب من العلم، وبين الحدس الذي رأى فيه محور العمل( ).
4- ثمة استطرادات تخرج النقد التطبيقي عن مساقه التحليلي، كمثل الحديث عن الاختيارات المطروحة بين الفصحى والعامية( ).
5- يبسط مزيد نهاجيته النقدية إلى حدود الاختزال المخل، ويتوضح ذلك في مواقع كثيرة مثل المقارنة بين هذه الرواية، ورواية اميلي برونتي «مرتفعات وذرنج» Wuthering Heights التي لا تحتل إلا صفحة واحدة( ).
ولا يختلف محمد الصالحي (المغرب) وسعيد الحنصالي (المغرب) عن سابقهما في إظهارهما لنهاجيات الاتجاهات الجديدة، غير أنهما يتميزان بسوية علمية أقرب منالاً، وأكثر انسجاماً في التحليل السردي. وقد وضع محمد الصالحي كتابه «قنديل أم هاشم: قراءة وتحليل» (1995) قاصداً تحليل السارد في هذا النص الروائي، وطبيعة المحكي، والتعرف الزمني. ومن الواضح، أن الكتاب تعليمي، موجه لإرواء حاجات الدرس النقدي المشبع بالاتجاهات الجديدة، فغالباً ما نظر إلى الأعمال الأدبية «باعتبارها أعمالاً فكرية ذات بعد تاريخي أكثر، نظر إليها كأعمال أدبية». لقد نظر إلى هذا النص الروائي «كسرد حادثة ذات صبغة تاريخية حضارية، من خلال مجموعة أحداث صغرى تتعاقب في الزمن، وأنها بداية ونهاية، وكذلك مساءلتها كنص ذي بناء ووظائف، أي النظر في البنية والشكل ومحاولة فهم معنى النص من خلال شكله»( ).
استملح الصالحي التبسيط، وقصر استخدامه في التحليل السردي على جوانب دون أخرى، واستعاد وظائف السارد الخمسة، كما حددها جينيت: الوظيفة السردية، وظيفة التوجيه، وظيفة التواصل، وظيفة الشهادة، الوظيفة الإيديولوجية.
وفعل ذلك في درسه لطبيعة المحكي، سواء محكي الأحداث ومحكي الكلام ومحكي الأفكار، ونسب ترسيمة تحدد ثلاثة أنواع ضمن محكي الأفكار، إلى دوريت كوهن "Dorit Cohen”، وهي المحكي السيكولوجي والمونولوغ المستحضر والمونولوغ المسرد، وعندما ننعم النظر في شرحه للمحكي السيكولوجي لطبيعته، وذكر نموذجيه: التنافر والتناغم، نجد أن أمثلة الصالحي كانت من نصوص روائية مغربية مثل «تجاعيد الأسد» لعبد اللطيف اللعبي، و«العشاء السفلي» لمحمد الشركي؛ ولا يتسق هذا مع تحليل نصي محدد هو «قنديل أم هاشم»، وكأن نقده شارح لتقنيات سردية.
إن الصالحي يتعامل مع هذه التقنيات السردية في نقده التطبيقي على أنها تسود المشهد النقدي، فيأخذ من باحثين ونقاد عرب بادروا إلى التعريف بها مثل وليد نجار وعبد اللطيف محفوظ وحميد لحمداني وسيزا قاسم، ولاحظنا من قبل ما يعتريها من تداخل، والأولى أن يعود إلى المصادر الأساسية. ولربما كانت مناقشته للتصرف الزمني خير تمثيل لطريقته في النقد:
1- مهد الصالحي لنقده التطبيقي بشروح عن زمن السرد وزمن الحكاية، من أجل الحديث عن زمن السرد وزمن المحكي في «قنديل أم هاشم»، ثم ما لبث أن أثقل شروحه برسوم وأشكال لا تنفع ولا تضر، شأن الكثيرين المولعين بالشكلية ومجاراة ضروب الادهاش بحجة العلمية ومبالغات ما يسمى بعلم النص.
2- عرض الصالحي أن رهان نقده التطبيقي هو الانتقال من القراءة الطامسة إلى القراءة العالمة، ولا أعرف ما الفائدة من نهاجية تمضي بشكليتها إلى حدود قصوى؟ وكيف تصبح قراءة عالمة مع الرسوم التوضيحية للسرد الأربعة: السرد المتداخل، السرد المتزامن، السرد اللاحق، السرد الاستباقي، ودوائرها وأسهمها وإنهاك البنية السردية بما يؤدي إلى إبهام الدلالة؟ إن المضي إلى القراءة العالمة يفيد الكشف عن الدلالة، وما حصلنا عليه هو تناثر الدلالة في تحليل شكلي ينغلق على المعنى الشمولي، أو ما يسمى عند الشكلانيين الروس «الأغراض»، وفي هذه الحال يصير الحديث عن تحليل اللعبة السردية غاية بذاته، ويحتاج إلى إدغامه في القراءة الشمولية، ولعلنا نأخذ مثالاً لذلك في حديثه عن الوقفة من تقانات السرعة السردية، واذكر هذا المثال عن «التردد المفردي» برمته، ولنلاحظ أنه منقطع عن مدى التحليل الشمولي باتجاه الوصول إلى «الأغراض»:
«التردد المفردي، وهو عكس التعددي، وفيه نذكر مرة واحدة ما حدث مرة واحدة، ويبرز خاصة في بداية النص حيث يفصل الكاتب المشهد العام للرواية قبل الدخول في تفاصيل الحكاية:
«... فما كاد يرى ابنه الأكبر يتم دراسته في الكُتّاب حتى جذبه إلى تجارته ليستعين به..».
«.. ولكن الشيخ رجب سلمه بقلب مفعم بالآمال إلى المدارس الأميرية..».
«ومال الرجل للفتى واختصه بحنانه، هذا الحنان هو الذي حمله ذات ليلة على الإفضاء إليه بسر لم يُفض به إلى أحد غيره...».
وكلما تقدمنا في قراءة النص، قلّ التردد المفردي وكثر التردد التعددي»( ).
وقد دافع الصالحي عن طريقته في خاتمة بحثه، بقوله أنه «لا يكفي أن نعرف ماذا قال يحيى حقي في قنديل أم هاشم، لكن المطلوب والضروري، أن نعرف كيف قال. والسؤال عن الكيف يدفع إلى، وضع اليد على التقنيات السردية الموظفة، من غير وعي غالباً»( )، أما سؤالنا فهو أن السؤال عن الكيف ينبغي أن يكون غائياً في النقد التطبيقي، لأن النقد في أساسه وطبيعته ومرتجاه: قراءة وظيفية للكشف عن المعنى.
ويندرج كتاب سعيد الحنصالي «بداية ونهاية: قراءة وتحليل» (1995) في الإطار نفسه لشغل محمد الصالحي، فالكتاب يتبنى نهاجيات الاتجاهات الجديدة، نفوراً من «قراءة انطباعية عفوية»، واشتغالاً على «قراءة تدعي أنها تتبنى حداً أدنى من شروط العلم: قيام التحليل على بنية مفهومية، ثم انسجام هذه البنية مع أوضاع النص اللغوية والتعبيرية والجمالية والمعرفية. السؤال الذي ألح علينا قبل وأثناء هذا التحليل هو: كيف نمارس القراءة بوعي أداتي منهجي؟»( ).
وانسجاماً مع هذه النهاجية الجديدة، أعلن الحنصالي أنه اختار الوجهة التحليلية التي تراعي الشكل والمحتوى والوظيفة، وقسم كتابه تبعاً لذلك إلى:
• ما قبل النص، ويتضمن مدخلين، مدخل تعريفي، ومدخل تأطيري.
• البنيات، ويدرس فيها: البنى الكبرى، البنى الفوقية، بنيات التحول.
• الوظائف، درس فيها السياق التواصلي التداولي للنص.
• المكونات: ودرس فيها الزمان والمكان والمنظور.
• الموضوعات.
• خلاصة تركيبية.
غير أن الحنصالي، وهو يستعين «بالعديد من المفاهيم الجديدة التي تنتمي إلى نظرية الخطاب ونظرية السرد، والتي تفسح مجال التعرف على الداخل النصي وخارجه وفهمه بالشكل الذي يوافق سياقه الاجتماعي والنفسي والتاريخي واللغوي وكشف المكونات الأساسية للخطاب وتفكيكه بنيوياً ودلالياً وتداولياً»، لا يخفي عنايته بالشكل بالدرجة الأولى، فهو ضروري و«ناقل لما يتضمنه النص من محتويات ومعارف ومرتبط بها، وإن مقاربة هذا الشكل لا يمكن أن تتم دفعة واحدة، لأن عناصر العمل متراكبة»( )، وهذا يعني أن الحنصالي مهتم بالتحليل النصي كما أوضح بنفسه: زمن الخطاب، مضمون الخطاب، مقاصد الخطاب، صياغة الخطاب، متلقي الخطاب.
وضع الحنصالي مدخلاً تعريفياً لمفاهيم الرواية التي آلت مع الاتجاهات الجديدة إلى خطاب سردي مرتهن لتطورين: «تطور طبيعي محكوم بقوانين التكون وتطور نصي يتلاعب بهذه القوانين وتحكمه الفوضى. هذا التلاعب بالدلائل هو الذي يؤدي إلى التباسها وكثافتها داخل النص الأدبي»( )، ثم ألحقه بمدخل تأطيري عن نجيب محفوظ والواقعية ومبدأ الاحتمال السردي، ومكانة «بداية ونهاية» في تطور كتابته الواقعية الاجتماعية الكلاسيكية، وكان الأنسب أن يسميها «واقعية نقدية»، لأنها كذلك، بينما يعتري هذا التصنيف خلل في نسبتها بين الكلاسيكية والواقعية، فالكلاسيكية (الإتباعية) سابقة على الواقعية، ومتميزة عنها.
ولدى مقاربة النص ودرس بنياته، استعاد شروح نقاد علم النص وشعرية السرد، ولا سيما فان ديك وجيرار جينيت، لمعالجة الحكاية من خلال الغلاف والعنوان، والخطاب من خلال البنى الفوقية والخطاطة السردية الكبرى للنص، والخطاطات المتفرعة، وبنيات التحول، ونلاحظ هنا استغراق الحنصالي، شأن الصالحي، في شكلية لا يسهل إدغامها في البنية الدلالية، ما دام يحرص على «ما ينقله النص» بجلاء. وهذا مثال لذلك مأخوذ من تحليله لإحدى بنيات التحول:
«من حالة مُرضية إلى حالة غير مرضية (أو العكس) حسن: حالة مرضية: ما قبل الانحراف. الرغبة: اختراق جدار الفقر.
العائق: غياب إمكانية العمل.
إمكان الرغبة: العمل (مغني، فتوة).
التحول: تجارة المخدرات.
المصير: الهروب.
من الصعب هنا التمييز المطلق بين حالة مرضية وأخرى غير مرضية، لأن أي واحدة منهما هي كذلك بالنسبة لحالة سابقة، فحالة حسن مرضية عند موت الأب بالنسبة لما سيأتي من انحراف، وغير مرضية بالنسبة لما سبق من تمرده على الأسرة وعدم الرغبة في الدراسة أو العمل»( ). ومما يجدر ذكره أن هذا هو نموذج جينيت، وبالنسبة لفان ديك فقد أخذ عنه، في تحليله للوظائف، السياق التداولي أو النص كفعل كلامي، وفيه مقاربة أفضل للدلالة، عوداً على البنية العميقة للنص، بوصفها «بنية تحولية تعكس كيف يواجه الأفراد قدرهم ومصائرهم، ويحاولون تغييرها انطلاقاً من مجمل الأفعال التي يمارسونها، والتي تمثل الطبيعة التكوينية للغة: التواصل ضمن مجال إنساني اجتماعي اقتصادي»( ).
أما الموضوعات، فقد اعتمد الحنصالي على نقاد المنهج الموضوعي، طلباً أعمق لدلالية النص، وهو استدراك مفيد، لولا انفصامه عن الآليات والطبيعة المنهجية لنقاد علم النص وشعرية السرد. ومن نافل القول، أن نشير إلى أن المنهج الموضوعي يلبي ما ينشده الحنصالي من تحليليه السردي دون اللجوء إلى مثل هذا التلازم المنهجي. ولعل الاستخلاصات التي أوردها في خاتمة بحثه ناتجة عن استخدامه للمنهج الموضوعي، بأفضل مما فعل في الاستغراق الشكلي.
إن نقد الحنصالي التطبيقي مثال للولع بالاتجاهات الجديدة، وللحيرة المنهجية، التي تجعل من هذا النقد باحثاً عن صوته، على أن هذا البحث سبيل لابد منه من أجل الهوية والاستقلال الفكري.
ولعل استعراض بعض الدراسات النقدية التطبيقية خلال السنوات الأخيرة يوضح مدى الأخذ بالاتجاهات الجديدة ميلاً أكبر وانتشاراً أكبر، ففي كتاب «مكونات السرد في الرواية الفلسطينية» (1999) ليوسف حطيني (فلسطين) انطلاقة واضحة من عناصر السرد الروائي، وهي بعض مكونات علم السرد وتوثيقها مع النقد القصصي والروائي السائد مثل بناء الشخصيات ونمذجتها وتصنيفها، والحدث الواقعي والتخيلي، والحوافز المشتركة والحوافز الحرة، والفضاء الروائي (المواصفات والمكونات والوظائف)، والزمن الروائي، واللغة في مستوياتها المجازية والاجتماعية والرؤيوية والإيقاعية، والتناص.
واعتمدت أمينة رشيد (مصر) في كتابها «تشظي الزمن في الرواية الحديثة» (1998) على التقسيم الباختيني «بين مبدأي المعمار L,archite ctonique والإنشاء La composition للرواية، يمثل المعمار المبدأ الشكي التأسيسي للرواية الذي يحكم بنيتها الفنية، وقيمتها الجمالية، بينما يقوم الإنشاء على إبداع وتنظيم وترتيب التقنيات التي تحقق إنجاز هذه البنية المعمارية»( ).
واستخدم مراد عبدالرحمن مبروك (مصر) في كتابه «بناء الزمن في الرواية المعاصرة» (1998) مصطلحات النقد الموضوعي، ولوّنها ببعض مفاهيم الشكلانيين الروس وخلاصات علم السرد لدراسة مفهوم الزمن في قضاياه الرئيسة: الترتيب والتتابع والتواتر والدلالة.
وتبنى صالح سليمان عبدالعظيم (مصر) إلى حد كبير التحليل البنيوي التكويني في كتابه «سوسيولوجيا الرواية السياسية» (1998)، مثل البنية الدالة، والوعي الفعلي والوعي الممكن، ورؤي العالم بين الرواية والواقع والأديب، وهي مصطلحات مستمدة من مناهج: الشكلانيين الروس والبنيوية، والبنيوية التكوينية.
وتعمق خيري دومة (مصر) في منهجية الاتجاهات الجديدة في دراسته التطبيقية «تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 1960-1990» (1998)، وحاول تفسير تطور الأنواع القصصية فيما يشبه التمرد على الشكل الدرامي للقصة القصيرة بتقاليدها الكلاسيكية ومجاوزتها لاستيعاب الغنائية بما هي أدوات شعرية كالإيقاع والمجاز من جهة، وإدراج الأشكال السابقة كاللوحة والنجوى والحكاية في نسق سردي جديد، والتفاعل مع الأشكال والأجناس الأخرى مثل الرواية والقصيدة والمشهد الدرامي والحكاية والمقال من جهة أخرى، واستخدم دومة في محاولته تحليلات النص لا تحليلات النوع، حواراً بين النص المفرد والنوع الجامع، مازجاً بين النقد التقليدي والاتجاهات الجديدة وما أعطته لعلم السرد عند الشكلانيين الروس وبارت وجينيت وتودوروف وغيرهم.
وأظهر سليمان حسين (فلسطين) ميلاً كبيراً للأخذ من الاتجاهات الجديدة وتوفيقها مع الاجتماعي والسياسي في الخطاب الروائي في كتابه «مضمرات النص والخطاب: دراسة في عالم جبرا ابراهيم جبرا الروائي» (1999)، فقد درس روايات جبرا من خلال النص وبنيته، أو ما سماه هيكلية النص، وأفرد التحليل للمكان والسرد والحوار والحدث الروائي والشخصيات واللغة الروائية والتصوير الروائي، فيمتزج التحليل بأدوات النقد القصصي والروائي التقليدي السائد مع معطيات كثيرة لعلم السرد، داعياً إلى منزع تكاملي في دراسة النص الروائي.
4- ملاحظات ختامية:
يفيد نقدنا للنقد التطبيقي المتأثر بالاتجاهات الجديدة الملاحظات التالية:
1. لانقع على ناقد يأخذ كلياً باتجاه أو آخر.
2. يعسر علينا أن نفصل بين النقد النظري والنقد التطبيقي، إذ يجمع غالبية النقاد بينهما، على تباين في المستوى والتوجه.
3. غلب على النقاد الآخذ بالاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها، بينما ضعف تأثير الاتجاهات الجديدة المتصلة بالعلوم الإنسانية كالنقد النفسي والاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق