الخميس، 29 أكتوبر 2015

النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد - يتبع الفصل الأول - د. عبدالله أبوهيف

النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد


د. عبدالله أبوهيف

منشورات اتحاد الكتاب العرب

2000م



إن فكرة السحار عن القصة (بوصفها تشمل أنواع النثر القصصي كله) هي السائدة في فهم القصاصين والروائيين في تلك الفترة، وهي فكرة تنهل من المعين التقليدي لفكرة القصة كما تلقاها هؤلاء الكتاب عن الغرب بالدرجة الأولى.


1-2-4- التعريف بفن القصة:

  بادر الباحثون والنقاد إلى التعريف بفن القصة وطبيعتها وسماتها الأسلوبية وعناصرها الفنية، وهذا واضح في كتب رشاد رشدي «في القصة القصيرة» (1959)، ومحمد يوسف نجم «فن القصة» (1959)، وشاكر النابلسي «تشيكوف والقصة القصيرة» (1963)، وحسين القباني «فن القصة» (1965).
  وقد استمد هؤلاء النقاد هذا التعريف من التقليد الغربي لفهم القصة التي غدت راسخة بتقاليدها ومعاييرها وعناصرها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. ومنها صاغ هؤلاء النقاد رؤاهم.
   أشاع رشاد رشدي فهمه للقصة القصيرة المأخوذ عن الغرب في مطلع كتابه، على أن «القصة القصيرة ليست مجرد قصة تقع في صفحات قلائل، بل هي لون من ألوان الأدب الحديث ظهر في آواخر القرن التاسع عشر، وله خصائص ومميزات شكلية معينة»([1]). ثم بنى كتابه على تطبيقات نقدية لقصص غربية، باستثناء إشارة سريعة لقصة «لقيطة» (1952) لمحمد عبد الحليم عبد الله، قاصداً إلى شرح بناء القصة ونسيجها ووحدة البناء والنسيج.
    وسار على منواله غالبية النقاد والباحثين الذين عنوا بتعريف فنها مثل شاكر النابلسي في كتابه: «تشيكوف والقصة القصيرة_» على أنه مثال يحتذى، ولا غضاضة في ذلك، وذكر بعض الكتاب العرب الشبان الجادين الذين كانوا أوفياء واعين لفنّه أمثال يوسف إدريس ومحمد أبو المعاطي أبو النجا. وكان النابلسي جزم أن الدراسة الوحيدة لفن القصة القصيرة عامة في المكتبة العربية هي كتاب رشاد رشدي([2]).

1-2-5- انطلاقة الدراسات الواقعية:

   انطلقت الدراسات الواقعية للقصة والرواية في هذه الفترة، ولا سيما جوانبها المضمونية الأبسط والعقائدية الأكثر تشابكاً وتعقيداً، وقد كرست هذه الدراسات مع كتاب محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس «في الثقافة المصرية» (1955)، وكتاب حسين مروة «دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي» (1965).

2- مدخل لفهم نقد القصة والرواية في المرحلة المدروسة:

   بدأت الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية بالتكون في مطلع السبعينيات، وحملت معها بذور الصراع مع اعتمال النقد بهويته وتعرفه إلى مقوماته التراثية. فنشط النقد، وتوسعت فعاليته في حياة منتجيه وحياة الجمهرة العريضة من الكتاب والقراء. وامتد إلى الساحات الأكاديمية والعلمية والاتصالية، وانتظم في صفوفه عشرات النقاد في غالبية الأقطار العربية، وانتشر تعليم اللغات الأجنبية وارتفعت أعداد الموفدين إلى جامعات ومعاهد أجنبية لدراسة الأدب والنقد، وتضاعفت أعداد المستعربين والمستشرقين المقبلين على دراسة الثقافة العربية وأدبها ونقدها، وقويت حركة التنظيمات الأدبية في الوطن العربي، باتحاداتها وروابطها وجمعياتها ولجانها ومؤتمراتها وأنشطتها الدورية على نطاق قومي عربي أو قطري، وحظيت القصة والرواية ونقدهما بعناية يعضدها تقدم هذين الجنسين الأدبيين على بقية الأجناس الأدبية، القصة منذ الخمسينيات، وتبوأت الرواية المكانة الأولى بوصفها ديوان العصر وموئل التبدلات الاجتماعية والحضارية، والأكثر تعبيراً عن الذات القومية والمصير الإنساني. 
وأشير في هذا المدخل بإيجاز إلى ملامح نقد القصة والرواية في هذه المرحلة المدروسة، تمهيداً لمعرفة منزلة الاتجاهات الجديدة: 

2-1- استمرار التأليف في نشأة القصة والرواية وتاريخها:

   شغل الباحثون والنقاد بدراسة نشأة القصة والرواية وتاريخهما وتطورهما في أقطارهم، واهتموا بالجانب الفني أكثر مما كان في المرحلة السابقة بقليل أو كثير حسب الباحث أو الناقد، فظهرت عشرات الكتب مثل: «القصة التونسية: نشأتها وروادها» (1975) لمحمد صالح الجابري (تونس)، و«تطور النثر الجزائري الحديث» (1978) لعبد الله ركيبي (الجزائر)، و«القصة الجزائرية المعاصرة» (1986) لعبدالمالك مرتاض (الجزائر- يكتب مرتاض اسمه عبدالملك على كتاب، وعبدالمالك على كتاب آخر)، و«فن القصة القصيرة بالمغرب في النشأة والتطور والاتجاهات» (1980) لأحمد المديني (المغرب)، و«خلفيات التكوين القصصي في ليبيا ـ دراسة ونصوص» (1984) لبشير الهاشمي (ليبيا)، و«فن القصة في الأدب السعودي الحديث» (1983) لمنصور إبراهيم الحازمي (السعودية)، و«البناء الفني في القصة السعودية المعاصرة ـ دراسة نقدية تحليلية» (1983) لمحمد نصر عباس (مصر)، و«الرواية السورية» (1984) لفيصل سماق (سورية)، و«القصة القصيرة في الخليج العربي ـ الكويت والبحرين ـ دراسة نقدية تحليلية» (1981) لإبراهيم عبد الله غلوم (البحرين)، و«الأدب القصصي في العراق، منذ الحرب العالمية الثانية» (1977 جزءان) لعبد الإله أحمد (العراق)، و«القصة اليمنية المعاصرة 1939-1976» (1977) لعبد الحميد إبراهيم (مصر)، و«دراسات في القصة والرواية الأردنية» (1985) لسليمان الأزرعي (الأردن)، وغيرها. واختار بعض النماذج المتباينة للتعرف إلى هذا التأليف في هذه المرحلة، فبعد أن خص ركيبي القصة بكتاب كامل (1968)، عاد إلى درس «الحداثة» (يقصد الجديد) في النثر الجزائري الحديث، وهذا واضح في مقدمته، «فالحداثة التي نقصدها في النثر تعني أن هناك جديداً في الموضوعات وفي الأساليب والأشكال الأدبية، أو بتعبير آخر تعني الجديد في الصياغة والشكل، والواقع أن التجديد الذي نعنيه هو أن هناك تغييراً حدث في لغة النثر وطريقة التعبير فيه منذ عام 1930، ذلك أن أسلوب النثر في الفترة السابقة على هذا التاريخ هو أسلوب تقليدي، بل أسلوب ضعيف فيه تكلف وتحمل، يكثر فيه السجع والصور الجامدة المخطوطة والروح الفقهية والصياغة الركيكة فيما عدا النادر والقليل» ([3]).

    واستعان ركيبي لدراسته بمنهج النقد التحليلي وبالتاريخ إلى حد ما، حسب تعبيره، وعرض للأشكال النثرية التقليدية، وهي: الخطب والرسائل وأدب الرحلات والمقامات والمناظرات والقصة الشعبية، وللأشكال النثرية الجديدة، وهي: المقال الأدبي والقصة القصيرة والرواية العربية والمسرحية والنقد الأدبي. ويحفل هذا الكتاب بتعليلات الناقد ركيبي لعوامل نشأة هذه الفنون وتطورها من وثائقها ومخطوطاتها ومتونها، وعن ظهور الرواية، يرى أنها ظهرت متأخرة في السبعينيات، بالرغم من أن هناك بذوراً بذرت «بعد الحرب العالمية الثانية يمكن أن نلحظ فيها بدايات ساذجة للرواية العربية الجزائرية سواء في موضوعاتها أو في أسلوبها وبنائها الفني، فهناك قصة مطولة بعض الشيء كتبها أحمد رضا حوحو واسمها «غادة أم القرى»، وتعالج وضع المرأة، ولكن في البيئة الحجازية، ثم هناك قصة كتبها عبد المجيد الشافعي، وأطلق عليها عنوان «الطالب المنكوب»، وهي قصة مطولة أيضاً، رومانسية في أسلوبها وموضوعها فهي تتحدث عن طالب جزائري عاش في تونس في أواخر الأربعينيات، أحب فتاة تونسية، وسيطر عليه حبها حتى إنه كان يغمى عليه من شدة الحب، ومضمونها ساذج مثل طريقة التعبير فيها»([4]).
وازدادت العناية بالشكل الفني في غالبية المؤلفات التالية، لذلك عمد النقاد والباحثون إلى تصدير مؤلفاتهم بكلمة تشير إلى ذلك، مثل «فن القصة»، أو وضع عنوان فرعي يشير إلى أنها «دراسة نقدية تحليلية». وينتمي إلى هذه النماذج النقدية عمل الحازمي والمديني وغلوم، فقد تقصى الحازمي معالم التجديد بين الحربين العالميتين في الأدب السعودي الحديث، ولا سيما الرواية والقصة القصيرة، وعاين ملامح تطور الرواية، وأبدى وجهة نظر خاصة حول التفاعل الحضاري والثقافي بالنسبة إلى المؤثرات الأجنبية وطوابع البيئة المحلية. 

   و«تطبيقاً لهذا القانون، يقصد محاكاة أو تقليد المغلوب للغالب، مما وضعه ابن خلدون، فإننا نرى أن العالم العربي لا يزال منذ يقظته في أوائل القرن الماضي يستورد من مواطن القوة في العالم الغربي العديد من الأفكار والقوالب والاتجاهات. وهذا هو شأن كافة الشعوب النامية التي تستورد الأشكال والفنون، كما تستورد السلع والتكنولوجيا. وإذا كانت مصر ولبنان قد تفوقتا في القصة والرواية والمسرحية فما ذلك إلا لأن اتصالهما بمواطن هذه الفنون الغربية المستحدثة كان أسبق من اتصال بقية الشعوب العربية الأخرى. ومن المعروف أن اتصال أدبائنا بالحضارة الغربية قد جاء متأخراً، ولم يكن في معظمه اتصالاً مباشراً، بل عن طريق الوسيط اللبناني أو المصري أو المهجري» ([5]).

   وصنف الرواية إلى تعليمية إصلاحية ورواية تاريخية ورواية مغامرات ورواية فنية، أما مصطلح «الفنية» فقد استخدمه للتمييز بين الرواية الفنية والأنواع الأخرى، والرواية الفنية. بهذا المفهوم([6]) ينبغي أن تكون نسيجاً محكماً لا ينفصل فيه الفعل عن الشخصية الفاعلة، ومن أهم سماتها تماسك البناء وتوافر الصراع، وتقيدها بقانون السببية وتطوير الشخصية، واكتفاؤها بمعالجة قطاع معين من المجتمع أو قضية محددة من القضايا الإنسانية»([7]). وبالنظر إلى «الفنية» إياها، ذهب أحمد المديني إلى القول «بأن المحاولات الأولى في انتهاج الكتابة القصصية القصيرة انطلقت بين أواخر الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات، وبأن هذه الفترة هي التي تشهد ميلاد مرحلة التأسيس»([8]). ويؤكد المديني أن نهاية الستينيات هي المرحلة التي قطعت فيها القصة القصيرة «شوطاً برزت فيه خطوطها، وتحددت فيه مياسمها، فتكامل معمارها، واستقام هيكلها الفني»([9]).
ثم سار المديني في مسار ركيبي في دراسته للقصة الجزائرية، فأوضح أسباب تأخر ظهور الفن القصصي بالمغرب، والعوامل التي أدت إلى النشأة، والمقامة، ومنزلتها من نشأة الأقصوصة وتطورها، والمقالة القصصية الرومانسية والاجتماعية والصورة القصصية التاريخية والاجتماعية والنضالية، والتداخل بين الصورة والأقصوصة الفنية وخطوات التطور القصصي وأسبابه، وهذا كله بمرتبة تمهيد لدرس الاتجاهات: الاجتماعي، الواقعي النقدي، الواقعية الجديدة، وختم مجلده الكبير بفصل عن البطل في القصة القصيرة.

   ويلاحظ عند المديني احتذاء المصطلح النقدي الغربي في رسم الاتجاهات وتحديد طوابعها الفنية إلى حدود الابتسار والتضييق، كما هو الحال مع مصطلح الواقعية الجديدة دون أن يوضح مفهومه، وعندما تحدث عن محمد زفزاف صنف كتابته ضمن الاتجاه الواقعي النقدي، ثم ما لبث أن صنفها في الواقعية الجديدة، ونلاحظ التضييق في استخدام المصطلح في محاولة استيعاب تطور أدواته الفنية: «ولذلك فنحن نعتبر كل قصة كتبت في الطور الثاني من عمر القصة المغربية محاولة لاستكمال النقص وإشادة البنيان ورأب ما حدث من صدع أو شروخ في الطور الأول، كل قصة نعتبرها مساهمة في رفع خطى هذا الجنس الأدبي نحو الطريق الفني السليم والصحيح، الخالي من التردد والهنات والعثرات، وفوق ذلك كله، وكمنشد أساس تجاوز المرحلة تقويم الأعوجاج وربط المتمزق في البناء والرؤية إلى خلق البديل واقتراح الجديد وصوغ الإبداع القصصي ذي النظرة الجديدة التي تساوق التطور الذي يعرفه الفرد والتبدل الذي يجنح نحوه المجتمع»([10]).

    ولا يخفى ما تعانيه لغته النقدية في اندراجها في لغة النقد الأدبي، وهي سمة تلازم غالبية النقد المكتوب بتأثير هوس التأريخ والأيديولوجية. غير أن نقاداً آخرين مثل إبراهيم عبد الله غلوم تخففوا إلى حد كبير من هذا الهوس باتجاه نقد قصصي وروائي أمين للغته ومصطلحه ونهاجياته، فقد كتب غلوم مجلداً ضخماً يقع في (736) صفحة من القطع الكبير عن نشأة القصة في الكويت والبحرين نموذجاً لمنطقة الخليج العربي، فعالج أثر التغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وأثر البيئة الثقافية العامة والصحافة المحلية، تمهيداً لبحث القصة الاجتماعية ومعالجاتها الإصلاحية والتعليمية، والرومانسية وصورها الشديدة الخيبة، وبوادر القصة الواقعية. ثم رأى تطور القصة في استمرار الرومانسية مع قلق التغير في المجتمع أولاً، والتعايش بين الرومانسية والواقعية وتطور الموقف والشكل في القصة ثانياً، والواقعية الفنية وتنويعات النزعة التحليلية ثالثاً، والواقعية الفنية بين نقد الواقع والرغبة في تغييره رابعاً، ونحو تجربة واقعية جديدة للقصة خامساً.
     
   وتتميز لغة غلوم بابتعادها عن النزوع الأيديولوجي، وبمقاربتها الأكثر للنقد القصصي، فلا قسر على تطبيق المفاهيم أو المذاهب على تجربة قصصية لها خصائصها، ما دام لا مفر من المقايسة النقدية في ظل «المثاقفة»، كما في هذا المثال: «وتكشف دراستنا للقصة القصيرة في الفترة الثانية أن تطور هذا الفن شكلاً ومضموناً في الكويت والبحرين لم يقترن بشيء قدر اقترانه بظهور القصة الواقعية ووضوح تصوراتها الفكرية والجمالية، فقد ارتبطت هذه الواقعية منذ بوادرها الأولى بتطور حركة القوى الاجتماعية فاستمدت من وضوح الشخصية المحلية ومن رغبتها في إدراك خصائص استقلالها، وتفردها، تنويعات الأسلوب التحليلي الذي رصد لنا تفاصيل نفسية دقيقة تعمل عملها في تكوين الشخصية المحلية في مجتمع الخليج العربي، واستفادت من أجل ذلك بكل ما يعينها على هذا الرصد الداخلي من التحليل النفسي، وأسلوب تيار الوعي، والوسائل التعبيرية، والمزج بين الواقع والرمز، ونحو ذلك»([11]). واهتدى سمر روحي الفيصل (سورية) بأسلوب حسام الخطيب (فلسطين) (سنعرض لأعماله في مكان آخر من بحثنا) الذي وضع كتاباً عن «الرواية السورية في مرحلة النهوض» (1975)، فكان كتاب الفيصل «نهوض الرواية العربية الليبية» (1990) مثالاً آخر على البحث في نشأة الرواية وتطورها في قطر عربي، من خلال الاحتكام إلى القيمة الفكرية والقيمة الفنية التي سادت ساحة النقد القصصي والروائي في الثمانينيات والتسعينيات، أي انتظام نقد القصة والرواية، على تباين في المستوى والمنهج بين ناقد وآخر، في سيرورته الخاصة والمتميزة، فلا جور على الفن، ولا تضييق في استخدام المصطلح، ومقاربة أفضل لطبيعة النقد القصصي والروائي.

2-2استمرار النقد التعريفي والنظري التقليدي:

   لم تتوقف عناية الباحثين والنقاد العرب بالنقد التعريفي والنظري التقليدي بفهم القصة والرواية، فوضع يوسف الشاروني (مصر) كتابه الهام في بابه «القصة القصيرة نظرياً وتطبيقياً» (1974)، وتنبع أهميته من صدوره عن قاص وناقد في الوقت نفسه، يفهم القص ظاهرة ملازمة للإنسان منذ طفولته وطفولة البشرية، ثم تطورت معها وحملت في تطورها خصائص الأمم والشعوب التي أنجبتها، وكان ذلك مدخلاً لأول مقاربة علمية أفادت كثيراً في فهم مغاير للمثاقفة. صحيح إن فاروق خورشيد (مصر) ـ أشار إلى مثل ذلك في سياق بحثه للرواية العربية، ولكن الشاروني جعلها منطلق فهمه الحديث للقصة. 
    وفي ظل هذا المناخ، شرع النقاد العرب يطرحون أسئلة القصة القصيرة في سياقها الثقافي العربي، وفي علاقتها بالتراث الإنساني والتراكم المعرفي حول نظريتها، ويظهر ذلك جلياً في كتاب الطاهر أحمد مكي «القصة القصيرة: دراسة ومختارات» (1977)، وحاول مؤلفه فيه أن يستعيد شيئاً من تاريخ القصة العربية، وأن يشرح بعض ملامح القصة الجديدة من خلال أعلامها الكبار، وأن يحدد خصائص القصة القصيرة: ماهيتها، بناءها، صلتها بالرواية. على أنّ مكي تجنب الخوض في النظرية، فما سعى إليه هو تقديم نماذج مميزة من القصة الجديدة والجيدة، «ثم أدعه معها، يفهم منها ما يريد، في ضوء إمكاناته الثقافية، وأبعاده المزاجية، وحركة عمره، ولحظة تأمله، ولست أرى للفن تفسيراً واحداً هو الصحيح. إنه متجدد دائماً ومتطوراً أبداً»([12]).

   ثم وضعت عزيزة مريدن (سورية) كتابها «القصة والرواية» (1980) الذي يورد فهماً تقليدياً متكاملاً لفن القصة والكتاب، كما صاغها النقد القصصي والروائي حتى حينه.

2-3- ارتفاع نبرة الحديث عن التجربة القصصية والروائية:

    نما وعي القاص والروائي العربي بفنه، ولا سيما علاقته بموروثه القصصي والحكائي وعلاقته بالقص الغربي، وعلاقته بالطرائق الفنية وبالتعبير عن الأفكار وشاعت أحاديثهم عن تجاربهم الإبداعية في بحوث ومقالات ومقابلات وشهادات لا تحصى، واكتفي بالتدليل على ذلك، ببعض ما ورد في الكتب بالدرجة الأولى، فوضع صبري حافظ (مصر) كتابه «أتحدث إليكم» (1977)، وهو مجموعة حوارات مع نجيب محفوظ، وكتب يوسف الشاروني ملاحظات على مجموعتيه «العشاق الخمسة» و«رسالة من امرأة» في كتاب «الخوف والشجاعة_ ـ دراسات في قصص يوسف الشاروني» (1971) وجمع عبد السلام العجيلي (سورية) بعض كتاباته عن تجربته القصصية والروائية في كتابه «السيف والتابوت» (1971).

   ويعد حنا مينه (سورية) وعبد الرحمن مجيد الربيعي (العراق) وإدوار الخراط (مصر) أكثر القصاصين والروائيين حديثاً عن تجاربهم الإبداعية. إن الروائيين والقصاصين ليسوا بدعاً في ذلك، بل إن عنايتهم بمعاني تجاربهم الإبداعية وشروطها واستحقاقاتها، وبإثارة أسئلتها ومحاولات الإجابة عليها، مما يحمدون عليه. ولا شك، أن الأدب والنقد يتجهان إلى استقلاليتهما نحو التقليل من تبعية النقد للأدب، غير أن النقد في سعيه لاستقلاليته يحتاج إلى بعض البيانات حول النص الأدبي في تاريخه وظروف تشكله، وقد باتت الحاجة إلى ذلك أكثر راهنية واستجابة لمتطلبات إنتاج المبدعات الأدبية مع شيوع النقد النصي وانتشار الاتجاهات النقدية الجديدة التي تعول كثيراً على فهم الظاهرة الأدبية، ولا سيما عمليات إنتاجها ضمن تاريخها وحاضنتها الاجتماعية والفكرية، فليس النص الأدبي نبتاً شيطانياً غريباً عن تاريخه واستحقاقات إنتاجه. إن مثل هذه البيانات أو الشهادات عن تجربة إبداعية ما من شأنها أن تعزز النقد، ومثله الدراسة النصية والنقد النصي.
   
 على الرغم من تواضع حنا مينه المعلن، في حرجه الشديد من الحديث عن تجربته، إذ لم يقتنع «أن ثمة تجربة روائية خاصة بي يمكن أن أتحدث عنها، أو يمكن أن أنّظر للعمل الروائي من خلالها»([13])، فإنه من أكثر الروائيين العرب حديثاً عن تجربته، وتنظيراً لفن الرواية مستعيناً بمعرفته البسيطة والعميقة في آن واحد بالنظرية الواقعية الاشتراكية، كما في حديثه عن عناصرها من خلال تجربته في كتابه «هواجس في التجربة الروائية» (1982)، مثل: البطل الإيجابي، أهمية المعاناة والمعرفة، البراءة والدهشة، الواقعية والمأساة الاجتماعية، صداقة الرجال، الفرح والكفاح والرومانتيكية، محاوراتي مع أبطالي، حلاق وكاتب مسلسلات (الإشارة إلى منبته العمالي الكادح).. الخ.

    وأضاف أحاديث أوسع عن تجربته وتنظيره الروائي والفني في كتابه «كيف حملت القلم» (1986) الذي يعد توسيعاً لآرائه في كتابه الآنف الذكر، وعالج فيه الموضوعات التالية: الأديب والمعاناة والموهبة ـ الأديب والشباب والحس التاريخي ـ الأديب والنقد والحس التاريخي ـ الرواية والزمن والحلم والالتزام ـ الرواية والحياة والواقع والانعكاس ـ الرغبة في الكتابة غير الكتابة ذاتها ـ الثقافة أساس السياسة والتراث ثروة قومية ـ غوركي والناس.. الخ.

    كشف حنا مينه الكثير من أسرار صنعته الروائية، ولكنه، وهذا هو الغالب على كتابيه، مدافع عنيد عن مذهبه الإيديولوجي، وإن افترقت ممارسته في الكتابة عن حدود هذا المذهب. وقد عضد آراءه بتجارب كتاب آخرين مثل فلوبير وبلزاك وغوركي وسواهم في كتابه الثاني. وجمع محمد دكروب (لبنان) كتاب حنا مينه الثالث في هذا المجال، وهو «حوارات.. وأحاديث في الحياة والكتابة الروائية» (1992)، وحوى الكتاب سبعة وعشرين مقابلة أجراها معه صحفيون ونقاد عرب من أكثر من قطر عربي، أمثال حليم بركات ومحي الدين صبحي، ونصر الدين البحرة وفيصل دراج وأبو المعاطي وأبو النجا وسهيل الخالدي وبدر الدين عرودكي وعبد الرزاق عيد وفايز سارة وعبد الله صخي ونديم جرجورة. ومن المستغرب، أن حنا مينه، ومحمد دكروب محرر الكتاب، أعادا نشر بعض المقابلات مما ورد في كتابه «كيف حملت القلم» مثل مقابلتي بدر الدين عرودكي وعبد الرزاق عيد.

    وقد وجد محرر الكتاب الثالث محمد دكروب في حنا مينة ناقداً أدبياً ومنظراً للرواية، على العكس مما يرى حنا مينة في نفسه: 
«أما نحن فنزعم أنه في هذه الكتابات إضاءات لامعة في النقد الأدبي، وتنظيرات عفوية رهيفة في فنّ الرواية، وكشوفات في التقنية والأساليب، واستشرافات في الرواية العربية وآفاقها، وفيها أيضاً نقد النقد الأدبي عندنا.. وهذه الرؤى النقدية إنما جاءت استجابة لطروحات وتحديات وتساؤلات جابهها الفنان، وتحدث فيها وحاور وأجاب.. ودائماً من قلب التجربة الروائية نفسها»([14]).

    ولا شك في أن شهادة حنا مينة عن فنه الروائي والقصصي الأكثر بلاغة ووعياً فكرياً وجمالياً بفنه بين الروائيين العرب لما حفلت به من تفاصيل حياتية وعناية بالتكون المعرفي والفني، وبالانشغال الفكري والعقائدي، وبفهم المذهب الذي يمضي في إهابه مبدعاً. ويقارب إدوار الخراط حنا مينة في إقباله على النقد والتنظير لتجربته القصصية والروائية، على أن الخراط يجاهر بممارسته للنقد، وله فيه أكثر من كتاب في النقد الأدبي والتشكيلي ومئات الأبحاث والمقالات النقدية، ومنها كتابه «الحساسية الجديدة ـ مقالات في الظاهرة القصصية» (1993) الذي يفسر فيه الملامح التي أفضت إلى الاتجاهات الحداثية، ويناقش تقنيات الحساسية منذ الثلاثينيات إلى اليوم، متوقفاً عند مجلة «جاليري 68» التي أسهمت إسهاماً كثيراً في توجيه الحداثة وما بعد الحداثة في الأدب القصصي في مصر، ومنها انبثقت تيارات الحساسية الجديدة.
   
   وقد رأى الخراط في سياق الحساسية الجديدة تيارات أساسية خمسة هي: تيار التشييء أو التبعيد أو التغريب، والتيار الداخلي أو تيار التورط على الطرف الآخر النقيض من الحياد والتشييء، وتيار استيحاء التراث العربي التقليدي التاريخي أو الشعبي حيث يضفر الكاتب عمله بشرايين الفولكلور، أو يبتعث الحكاية الشعبية، ويمتح، على الحالين، من رصيد غني في الذاكرة الجماعية للناس، والتيار الواقعي السحري أو تيار الفانتازيا والتهاويل، حيث تسقط الحدود بين «ظاهرية» الواقع العيني المرئي المحسوس، وبين شطحات الخيال والاستيهامات المضفورة أحياناً بنسيج الواقع، والتيار الواقعي الجديد، ولا يسميه بذلك إلا افتقاراً منه لتسمية أدق وأوفى، فهو يدرك كم هذه التسمية فضفاضة ومرواغة([15]).

    وقد آثرت أن أدمج الحديث عن هذا الكتاب بوعي القصاصين والروائيين، لأن إبداعه القصصي والروائي أدخل في هذه الحساسية الجديدة، ومن علاماتها المميزة، وعرض الخراط نظرته لمفهوم الحساسية الجديدة، وسماها، تجوزاً، منهجاً. ثم عالج نماذج ما قبل الحساسية الجديدة لدى محفوظ وإبراهيم عبد القادر المازني وطه حسين ومحمود البدوي ويوسف إدريس ويحيى حقي، وصوراً من الحساسية الجديدة لدى عدد كبير من الكتاب مثل بهاء طاهر وعبده جبير ومحمد حافظ رجب وإبراهيم أصلان وعلاء الديب ومحمود الورداني وخيري عبد الجواد وربيع الصبروت، وختم دراسته بتذييل على مشهد الحساسية الجديدة الآن، في محور التغير والقص. ولا يخفى أن الخراط كان يتحدث في كتابه عن أسلوبه ومفهومه ونظرته للكتابة القصصية والروائية. وما لبث أن أوضحه، فيما بعد، في كتابين، هما «أنشودة الكثافة» (1995)، و«مهاجمة المستحيل ـ مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة» (1996).

   نفى الخراط في كتابه «أنشودة الكثافة» أن تكون مقالاته أو تأملاته مما يدخل في باب التنظير الأدبي أو التقرير النقدي، بمعناهما الدقيق، وهذا ما قاله حنَّه مينا أيضاً، ولعلنا سنجد أيضاً أنها مقالاتٌ وتأملاتٌ أدخل في التنظير. وجد الخراط أن مقالاتِهِ ينتظمها، «على تنوعها، قدرٌ من الاتساق نابع من أنها تندرج في إطارٍ فكريٍ وشعوري واحد مهما تباينت صياغات التعبير عنه»([16]).

   وميز بين النظر والنظرية داعياً إلى التحريض على التفكير في التجربة الأدبية، ووعد أنه ببوحه الشخصي سينظر في تجربته الإبداعية، أمَّا مقالة «أنشودة للكثافة» فتتناول موقفه من الصنعة القصصية والروائية، ولا سيما اللغة، لأنها جوهر كتابته، وقد كان محقاً في قوله: «في واقع الأمر أتصور أن الكثافة اللغوية التي لا تنفصل عن كثافة المادة القصصية، لا تنفصل أيضاً عن مادة الخبرة الفنية التي تنبع منها، ولا تفرض عليها»([17]).

    وناقش الخراط في بقية المقالات مشكلات التعبير الفني، ومفهومه للرواية والقصة القصيرة، وفهمه لوظيفة الأدب والرواية اليوم، والقاص ناقداً، وأهمية ألف ليلة وليلة بالنسبة إلى أمثاله، وكتابته في زمن متغير، والأصالة الثقافية والهوية القومية ودور الأدب في التغيرات الاجتماعية، وتنوع الثقافة العربية ووحدتها، ومعنى أن يكون عربياً، والقمع والحرية، وما وراء العامية، والشكل الأسطوري المعاصر في الفن، والدفاع عن التجريبية والتجديد، والكتاب الأقباط والموضوعات المسيحية.. الخ.
ومن المفيد، أن نشير إلى صراحة الخراط وجرأته في عرض مواقفه السياسية والفكرية والفنية، ففي حديثه عن معنى أن يكون عربياً، أعطى العروبة صفة نضالية فالعربي عريق مستمر من سبعة آلاف سنة، بقوله: «أنا العربي المصري خلال سبعة آلاف عام غيرت ديانتي ثلاث مرات، لكنها ظلت في صميمها واحدة أو متقاربة، وغيرت لغتي ثلاث مرات، لكنها ظلت لغتي أنا مصرية وعربية في آن. وهي لغة قدسية وأرضية، موسيقية وصارمة الدقة، استطاعت حمل فلسفة اليونان وعلومهم من اليونانية إلى اللاتينية، ومنها إلى لغات اليوم المعاصرة، لغة هي اليوم على تعدد مستوياتها ولهجاتها رباط وثيق بين كل أخوتي من المغرب الأقصى إلى الخليج»([18]).

    غير أن الخراط ألف كتابه الثالث في هذا المجال «مهاجمة المستحيل ـ مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة» توضيحاً لأسلوبه في الكتابة، من خلال مفهومه للقص، وحرية الإبداع، وفعل الكتابة، وانهيار الاشتراكية أم سقوط القناع. وثمة تكرار لآراء كثيرة بين الكتابين، وفي الكتاب نفسه، كما هو الحال مع هذه الآراء، على سبيل المثال لا الحصر من فصل واحد:

ليست القصة واقعة سرد وحكاية.
لا أكتب القصة إلا بعد أن تعيش معي.
التدفق اللغوي العضوي والرؤيوي الشعري.
التضافر بين الواقع الخارجي والواقع الداخلي.
العمل الفني له لغة خاصة.
خصوصية اللغة العربية.
الإسكندرية: ماذا تعني؟
القيم الأساسية هي قيم الإيمان المحرق بحرية الإنسان.
الفن، في ظني، خبرة من أعمق خبرات السعي إلى معرفة كلية.
ليس ما اكتبه قصة تقليدية.
الكتابة سلاح تغيير.
لمن أكتب؟
الناقد الكاتب.

   مثلما كرر رأيه في اللغة العربية وسيلة تعبير صالحة للفنون المستحدثة:

   «إنني لعميق الإيمان، وعميق العشق أيضاً. بهذه اللغة التي ورثناها، ونكاد نبددها أو نهملها. هذه اللغة العربية بارعة المدخل إلى النفس، وأظن أننا لا نكاد نعرف منها إلا أطرافها. العلاقة بيني، على الأقل، والعربية ليست فقط علاقة عشق وتدله، بل هي علاقة تشابك حياتي غني أطمح أن يكون مثرياً من الجانبين. إن سعيي هو أن انطق بهذه اللغة حساسيتي وفكري في سياق العصر، بل في ما آمل أن يكون سياق المستقبل أيضاً»([19]).

   أما الربيعي فيخصص كتاباً بعينه لبياناته أو شهاداته عن كتابته الإبداعية، فقد وضع جانباً منها في كتبه النقدية الكثيرة، مثلما بادر إلى جمع بعض الحوارات التي أجريت معه في كتاب حمل عنوان «مدخل لتجربة عبد الرحمن مجيد الربيعي في 38 حواراً» (1984)، ولعل التأمل العاجل لبعض كتبه النقدية يشير إلى اتساع عنايته بمثل هذا النوع من الكتابة التي تفتقر إليها حركة التأليف العربي، أو هي قليلة لا تفي بالحاجة. وأورد إحصاء لهذه الكتابات مما حوته كتبه:
· «الشاطر الجديد: قراءة في كتاب القصة العربية» (1979)، وفيه مقالة واحدة هي «القصة ضمن حدود تجربتي الخاصة: محاولة للإضاءة» (ص36-42).
· «رؤى وظلال: نقد ودراسات» (1994) وفيه مقالتان هما: «مداخل لاختيار شخصيات قصصي» و«حكايتي مع القمر والأسوار» (ص237-260).
· «من النافذة إلى الأفق: قراءات ومواقف» (1995)، وفيه أربع شهادات (ص391-407).
· «من سومر إلى قرطاج: قراءات في الأدب العربي المغاربي» (1997)، وفيه عشر شهادات (ص331-353).
   إنها حصيلة وافرة في الكم والنوع، وهي تُعنى، بالأساس، بالتقنية ومصادر الكتابة وحرية التعبير، وأوهام الكتابة والكاتب. فقد اهتم الربيعي بتقنيته القصصية والروائية، وبذل جهوده مبكراً لوعيها وتطوير الخصائص الفنية، مثلما التفت إلى قضية الاتصال بين الفنون واستفادته من تقنيات الرسم. وصرح دائماً أن اهتمامه الكبير باللغة هو الذي قرب بعض صفحات قصصه ورواياته من التداعيات الشعرية: «كما أنني لا أتوانى عن وضع مقاطع شعرية داخل القصة وإن وجدت ذلك يخدم الفعل القصصي»([20]).
ويستفاد من توكيد الربيعي على الاتصال بين الفنون على أن التقنية مفتوحة: و«ليست هناك تقنية جاهزة يمكن تعريفها، أو الحديث عنها، فالتقنية ليست موديل بدلة ولا خارطة بيت. إنها إبحارٌ، انشغال، دأب، استشراف، حركة، رصد، استنتاج، وكل كاتب محمل بخصوصياته وتجاربه وحياكة أساطيره»([21]).
يوضح استطلاع آراء الربيعي، مثل كثيرين من أبناء جيله، أن لديه نزوعاً إلى الأصالة وتثمير أشكال قصصية من تقليدها الموروث، ولكنه ما يلبث أن تداخله حيرة في الممارسة وفي النظر. 

2-4- القضايا الأساسية التي عالجها نقد القصة والرواية:

   عالج نقد القصة والرواية قضايا رئيسة تتصل بالمحتوى وبالشكل هي الأكثر دوراناً على أقلام النقاد بالإضافة إلى ما ذكرنا، ولعلنا نشير إلى بعض هذه القضايا.

2-4-1- قضايا تتصل بالمحتوى:

   اتجهت عناية الباحثين والنقاد إلى الموضوعات القومية أولاً والموضوعات الاجتماعية ثانياً، وما يتصل بها، واذكر جملة منها:
احتل الموضوع القومي المنزلة الأولى، فنوقشت موضوعات السجن السياسي، مثل «أدب السجون» (1981) لنزيه أبو نضال (الأردن)، و«السجن السياسي في الرواية العربية» (1982) لسمر روحي الفيصل (سورية)، ثم موضوعات الآخر الغربي، مثل «المغامرة المعقدة» (1977) لمحمد كامل الخطيب، و«شرق وغرب: رجولة وأنوثة» (1977) لجورج طرابيشي (سورية)، و«وعي الذات والعالم ـ دراسات في الرواية العربية» (1985) لنبيل سليمان (سورية)، و«الرحلة إلى الغرب في الرواية العربية الحديثة» (1991) لعصام بهي (مصر)، و«الأنا والآخر في الرواية العربية الحديثة» (1994) لمنصور قيسومة (تونس). ثم موضوعات المثقف والحرية والسلطة، مثل «المثقفون العرب والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصرية» (1992) لسماح إدريس (لبنان)، و«شخص المثقف في الرواية العربية المعاصرة» (1993) لمحمد الباردي (تونس)، ثم الموضوع القومي في إطاره العام، مثل «انكسار الأحلام ـ سيرة روائية» (1987) لمحمد كامل الخطيب. و«الاتجاه القومي في الرواية العربية» (1994) لمصطفى عبد الغني (مصر)، أما الدراسات التي تناولت القضية الفلسطينية وجوانبها المختلفة فكثيرة أيضاً.
   ثم موضوعات المدينة والريف مثل «أزمة الجنس في الرواية العربية» (1972) لغالي شكري (مصر)، و«الريف في الرواية العربية» (1989) لمحمد حسن عبد الله (مصر).

2-4-2- قضايا تتصل بالشكل:
   وعني الباحثون والنقاد في الوقت نفسه بقضايا الشكل، وبدأوا بدراسة المؤثرات الأجنبية مثل «سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية ـ دراسة تطبيقية في الأدب المقارن» (1974) لحسام الخطيب، و«أثر الأدب الفرنسي على القصة القصيرة» (1985) لكوثر عبد السلام البحيري (مصر)، ثم دراسة قضايا فنية محددة مثل «الرواية الإنسيابية وتأثيرها عند الروائيين العرب» (1985) لأحمد سيد محمد (مصر)، و«الذات والموضوع ـ قراءة في القصة القصيرة» (1994) لمحمد قطب عبد العال (مصر) و«جماليات المكان في الرواية العربية» (1994) لشاكر النابلسي (الأردن)، و«درسات في الأدب المقارن والنقد» (1996- يوجد في الكتاب أكثر من دراسة عن القصة والرواية) لغسان السيد (سورية) و«تداخل النصوص في الرواية العربية» (1997) لحسن محمد حماد (مصر)، و«فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب» (1998) ليمنى العيد (لبنان) و«في بناء النص ودلالته: محاور الإحالة الكلامية» (1998- يوجد عدة قراءات نقدية لبنية السرد في بعض الأعمال القصصية والروائية بالإضافة إلى ممهدات نظرية حول مفهوم القصة والخطاب والقص..الخ) لمريم فرنسيس (سورية). 
   ثم دراسة تكون الرواية العربية وتطورها، مثل «تكوين الرواية العربية ـ اللغة ورؤية العالم» (1990) لمحمد كامل الخطيب (سورية)، و«محتوى الشكل في الرواية العربية: 1- النصوص المصرية الأولى» (1996) لسيد البحراوي (مصر)، ثم دراسة القصة والرواية الأجنبية: مثل: «جارسيا ماركيز وأفول الديكتاتورية: دراسة في رواية خريف البطريرك» (1988) لحسين عيد (مصر)، و«ملامح من أدب أمريكا اللاتينية ـ الرواية نموذجاً» (1994) لبدر عبد الملك (البحرين).
أما الدراسات الفنية الأكثر فهي المخصوصة بدراسة روائي أو قاص أو رواية أو عمل قصصي بعينه، وشاع ذلك في الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، وهو ما سنقف عليه في الفصول التالية.

2-5- هيمنة دراسات المذهب الواقعي:
   هيمنت دراسات المذهب الواقعي ورؤية الواقع على حركة نقد القصة والرواية لفترة طويلة، وقد دشن في هذه الفترة محمد حسن عبد الله في كتابه «الواقعية في الرواية العربية» (1971) وعبد المحسن طه بدر (مصر) موجة الدراسات الواقعية، استمراراً لجهود محمود أمين العالم وحسين مروة على وجه الخصوص في الخمسينيات والستينيات. وقد انطلق من فرض «يتمثل في أن الأديب يرتبط بالواقع الذي يعيشه بعلاقة إيجابية ودينامية يتبادل فيها طرفا العلاقة التأثر والتأثير»([22]).
   
   ولاشك في أن بدر ليس استثناء من مجموعة النقاد التبشيريين الأيديولوجيين الذين نظروا للواقعية في النقد الأدبي الحديث، إذ عمد بنفسه إلى «إلقاء بعض الضوء على أهم العقبات التي تحول بين بعض أدبائنا العرب المحدثين وبين الإحساس العميق بواقعهم»([23]).
   وفي مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (عام 1981) أبدى بدر ضيقه من هيمنة الاتجاهات الجديدة التي لم تتح فرصة اختبار فروضه، لتتحول هذه الفروض من مجرد كونها فروض إلى «دراسات علمية جادة، ينشأ عنها تأصيل نقدنا، وظهور مدارسه المتميزة، بدلاً من اللهاث المستمر المحموم خلف ما تطرحه علينا الثقافة العالمية، مما لا يدع لنا فرصة التجريب والتأصيل»([24]).
   ومن الملاحظ، أن الكتابة النقدية عن الواقع والواقعية هي السائدة في السبعينيات والثمانينات، ويشير كتاب عمر الطالب (العراق) «الاتجاه الواقعي في الرواية العربية» (1971) في اطمئنان الناقد المذكور، في اختياره لموضوعه وحماسته في مباشرته دون ممهدات نظرية، إلى شيوع الفكرة النقدية الأيديولوجية عن الواقعية ورؤية الواقع، فهو لم يعن بإشكاليات النظرية أو المصطلح أو المنهج، ودخل في موضوعه على عجل، وأطلق آراء وأحكاماً تفتقر إلى التعليل الفكري أو الفني، كمثل قوله:
   «ولا تصور الرواية الواقعية واقع الحياة بخيره وشره تصويراً تسجيلياً، وإنما هي تفهم الحياة والأحياء، وتفسرها من وجهة نظر خاصة ترى منها الحياة، ولكنها تتغذى من الواقع وتتزاوج وإياه في الشخصيات، وتستمد منه مطلع الطريق، لتنتهي إلى خلق الأثر الذي هو في الظاهر يماثل الواقع، ولكنه في الخفاء ينفصل عنه انفصالاً تاماً، وجوهر الواقعية في الرواية العراقية ليس ما يحدث بالفعل، وإنما الكشف عن الدلالة الكبرى لما يحدث، وليس تصويراً فوتوغرافياً، ولا صدقاً خلفياً، بل التصوير الممكن والصدق الفني»([25]).
   وأعاد حسين مروة (لبنان) طباعة كتابه «دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي» (1976)، طبعة مزيدة ومنقحة، وأراد من استبعاد بعض الفصول أن يكشف عن التطور في منهجه، فتلك «الفصول المستبعدة كانت قاصرة عن استيعاب شروط المنهج نفسه الذي أجهد دائماً أن أكون أميناً له في عملي النقدي، وعملي الفكري على السواء»([26]).
   وأضاف مروة محورين هما «الموقف الثوري في الأدب» و«الموقف الثوري من التراث»، «أي أن هناك قضيتين تدفع بهما أزمة الواقع العربي في هذه المرحلة ذاتها، إلى مكان الصدارة من قضايا الأدب والفكر والأيديولوجيا التي هي الوجه الآخر غير المباشر لقضايا الواقع العربي المباشرة، من هنا تتحدد ضرورة خروج هذه الطبعة بهذه الإضافة»([27]).
   واستدرك مروة بالنظر إلى غياب مسألة النقد الأدبي عن كلامه، أن مسألة «النقد الفكري ـ الأيديولوجي تقع في الصلب من اهتمام كلا المحورين، فهما بمضمونهما وبتوجههما ـ أساساً ـ دراستان نقديتان، بمعنى أنهما يشكلان محاولة جديدة في مجال إعادة النظر بكثير من المقولات النقدية التي كانت، في المرحلة السابقة لهذه المرحلة ـ الأزمة، أساس التعامل النقدي مع الإبداعات الأدبية المعاصرة من جهة، ومع الأدب والفكر التراثيين من جهة أخرى»([28]).
  إن كلام مروة ينفي النقد الأدبي لصالح النقد الفكري ـ الأيديولوجي كلياً، ولا شك، إن نقداً غير قليل أوغل في التبشير والإيديولوجي إيغالاً أفضى إلى معارك أدبية وفكرية ونقدية بين التيارات المختلفة لم يهدأ أوارها إلى وقت قريب، ولكن بعض النقاد تداعوا إلى تمحيص «منهج الواقعية في الإبداع الفني»(1978)، وفي مقدمتهم صلاح فضل (مصر) الذي درس وجوه الواقعية من خلال نشأة المذهب الواقعي وتطوره والرؤية الغربية للواقعية النقدية وأصول الواقعية الاشتراكية، والأسس الجمالية للواقعية، ولا سيما فكرة المحاكاة وفكرة الانعكاس الموضوعي والنموذج والنمذجة، ونقد الواقعية للمذاهب الأخرى، وعمليات الانتقال من السياق الأدبي إلى السياق الاجتماعي. ودعا إلى أخذ التطورات التي ألمت بالواقعية بعين الاعتبار، فقد اقتصرت الواقعية في نقدنا العربي على تيارين:
«أحدهما: يعرض لها بشكل مبتسر عام، ويخلط بينها وبين الطبيعة التي تتسم بالتشاؤم، وتغرق في مستنقع السلبيات الآسن، وتغفل ما في الحياة من قدرة على التفوق والشعر.
والثاني: يغرقها في الحمام الإيديولوجي الماركسي بطريقة مذهبية متعصبة، متجاهلاً انتصار الواقعية النقدية في الآداب الغربية والعربية على السواء»([29]).
  واستشهد فضل بالتنويعات الإقليمية لتطورات الواقعية، في منطقتين هما: أوروبا تعيد تقييم الماضي، وأمريكا اللاتينية والواقعية السحرية، بالإشارة إلى نموذج العالم الألماني إيريش أورباش في كتابه «الواقع كما يتجلى في الأدب»، حيث نقطة الانطلاق في منهجه هي النص نفسه، «فلا ينبغي أن نصدر عن مجموعة من القيم نحملها إلى العمل، أو نحمل العمل عليها وننسقه طبقاً لها، وإنما يجب أن ننطلق من خاصية تاريخية تكشفها فيه وتبرزها وتطورها بشكل تضيء به العمل نفسه في أدق ملامحه، ويغمر ضوؤها أشياء أخرى ترتبط علائقها به، لذلك فإن المنطلق النموذجي دائماً بالنسبة له هو تفسير مشاهد ونصوص بذاتها»([30]).
   إن مثل هذه التنويعات الإقليمية أدت إلى إثراء مفهوم الواقعية برؤى فنية وحضارية جديدة، مما يجعلنا، برأي فضل، نتساءل عن موقفنا في الأدب العربي من الواقعية: «ماذا أخذنا من مبادئها وأصولها الجمالية؟ وماذا أضفنا إليها من روحنا القومي الخاص؟»([31]).
   ثم جاوزت دراسة فيصل سماق (سورية) «الواقعية في الرواية السورية» (1979) مدى التبشير العقائدي الذي يسربل في إهابه النقد الأدبي برمته، فنحت دراسته، على حد تعبير حسام الخطيب، «منحى منهجياً بالغ الدقة، إذ تبدأ بتحديد المفهومات النظرية ثم تنتقل إلى دراسة البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نبتت الرواية الواقعية السورية في إطارها، وبعد ذلك تدرس الظواهر المشتركة التي تجمع الروايات المدروسة، وتصنف اتجاهاتها بين واقعية انتقادية وواقعية طبيعية وواقعية اشتراكية، وتقدم بين يدي ذلك الأمثلة والشواهد المجتزأة، ثم تردف دراسة كل اتجاه بنموذج مدروس بالتفصيل»([32]).
   يتصف نقد سماق بتحليل معمق للظاهرة الفنية المدروسة، وبربطه لها بتطورات البيئة من حولها، وبدقة في الأحكام، كما في حكمه على تأثر الروائيين جميعاً بالتقنيات الروائية الغربية، «كما استفادوا من التجربة الواقعية في الأدب الاشتراكي العالمي بدرجات متفاوتة أظهرت تبايناً في قدرتهم على استيعاب التقنيات الحديثة وتجسيدها في أعمالهم الفنية. ويكاد يجمعهم مسار مشترك واضح المعالم، وهو الانفتاح على المؤثرات الأجنبية المختلفة، ولا سيما ما كان متصلاً منها بالنواحي الفنية، وفي الوقت نفسه محاولة الدخول عمقاً في فهم الواقع المحلي ومعالجته. وكان أوفرهم حظاً من النجاح هم أولئك الذين أحسنوا توظيف المؤثرات الفنية الأجنبية من أجل معالجة قضايا الواقع من حولهم»([33]).
  وفي الفترة نفسها، تصاعد النقد الموجه للدراسات الواقعية، فأصدر محي الدين صبحي (سورية) كتاباً جريئاً سماه «دراسات ضد الواقعية في الأدب العربي» (1980)، وقصد به «أن يعلن نهاية مرحلة الأدب الواقعي ويدعو إلى بداية جديدة»([34]). وما دعا إليه صبحي هو «أن الأدب بناء لفظي يقدم رؤيا، وأن وظيفة النقد الكشف عن تماسك البناء واتساق الرؤيا»([35]). وقد حوى الكتاب دراسات عن «أزمة الواقعية في واقع الأدب العربي»، و«سيزيف العربي يمشي على محيط الدائرة: دراسة في خواتيم رواية السبعينيات»، و«في المضمون القومي والطبقي لفكرنا الحديث»، و«ماذا تعني مشكلة المضمون عند حسين مروة»، و«الحداثة ضد الحداثة»، و«الحكيم عند سرير بروكروست»: نقد كتاب جورج طرابيشي عن توفيق الحكيم، و«قصيدتان وقضية»: «بابي يار» لايفتوشنكو و«السفح الآخر غربي القدس» ليوسف الخطيب.
  يفصح استعراض الأسس التي رأى صبحي أنها قمينة باستعادة النقد، بمعناه الكلاسي، ومنزلته الأدبية عن تصحيح كامل الفكرة الواقعية، كما صاغها النقد الجديد الأنكلوسكسوني، ومن هذه الأسس نذكر:
«- بما أن الأدب أدب والواقع واقع، فإن هذا ينطوي على مفارقة أن الأدب شمولي والواقع محلي مرحلي. وللتوفيق بينهما وإدراجهما ضمن المرحلة التاريخية التي نعيشها ـ وهي مرحلة النضال القومي في سبيل إنشاء مجتمع عربي اشتراكي ديموقراطي موحد ـ اقترحنا أن تدور الرؤيا حول مستقبل الدولة القومية المرتجاة. وبذلك يسهم الكاتب في كسر حدود القطر والمرحلة في الرؤيا على الأقل علماً بأن من حق الأدب أن يحمل أي رؤيا، ولكن ليس من حقه ألا يحمل أي رؤيا»([36]).
   ولا يخفى أن صبحي قد ناهض الإيديولوجيا بإيديولوجيته القومية، أي أن نقده لا يختلف عن النقد الإيديولوجي في مراميه التبشيرية أيضاً.
  ثم توالت الدراسات النقدية التي تعيد، بأشكال ومستويات مختلفة، وصف الأزمة العامة التي تعاني منها الواقعية، وقد عزاها حنا عبود (سورية) في كتابه «واقعية ما بعد الحرب في الأدب والنقد والشعر» (1980) إلى عدة مصادر هي الأيديولوجيا والسياسة، والجماهيرية، وضعف الاهتمامات الفنية. ولعلها تلتقي جميعاً عند التبشير العقائدي الذي أُدينت ممارسته المتطرفة في المنهج الواقعي بتطبيقاته في النقد الأدبي العربي الحديث فقد «ارتبط الإنتاج الإبداعي بإطار عام للإيديولوجيا. هذه العلاقة بين المصدر الإيديولوجي والأثر الإبداعي تشكل مظهراً من مظاهر أزمة الواقعية... والواقعية من بين جميع المذاهب الأدبية الأخرى، متهمة بالرضوخ السياسي، حتى قيل لا واقعية بلا سياسة. إلا أن هذه التهمة تنقلب إلى فضيلة للواقعية على غيرها، إذا استطاع الواقعيون «تأديب» السياسة بحق، كما استطاع أعلام الواقعية المشهورون تحقيق ذلك»([37]).
   وقال عبود عن الجماهيرية إنها جرت «كثيراً من السلبيات، لعل أهمها حجب نظر الكاتب عن رؤية الأعماق النفسية التصارعية. إن الإيمان بمقولات إيديولوجية وسياسية مسبقة جعل الجماهيرية ذاتها تصبح مقولة فنية، فتفرض البراءة والإدانة، والصفاء والفساد. وتغدو بحد ذاتها مقياساً فنياً.. ما تبعد الأدب الواقعي بذلك عن الواقع بدلاً من أن يتعمقه من خلال شمولية النظرة الإيديولوجية والسياسية»([38]).
  وتبين دراسة عبد القادر الشاوي (المغرب) «سلطة الواقعية» (1981) ميل الدراسات الواقعية إلى النقد الاجتماعي، فتعددت معالجاته الواقعية من الواقعية الاجتماعية (عبد الكريم غلاب نموذجاً) والواقعية في الذاتية (إدريس الخوري نموذجاً) إلى بلاغة برجوازية (محمد زفزاف) والسيرة القاسية (محمد شكري) والرواية في الرواية (خناثة بنونة).
  وجد الشاوي أن الواقعية في القصة وفي الأدب المغربي الحديث عموماً، تحددت في الممارسة الأدبية الإصلاحية كممارسة سياسية. وعرض لذلك ثلاث فرضيات:
1.إن وجود الأدب المغربي الحديث جاء في شروطه تعبيراً عن وجود البورجوازية الوطنية الناهضة، وكان هذا الأدب هو الناطق الرسمي بوجود وعي بورجوازي بأهمية الأدب ودوره.
2.إن الواقعية في القصة ـ كاختيار أدبي ـ فني، يتناسب مع واقع التطور الثقافي الذي كان عليه المجتمع، ومع التوجه البورجوازي الوطني على عهده في نفس الوقت. كان اختياراً أدبياً أساسياً في مواجهة التأثير الثقافي ـ العربي ـ الاستعماري، وذلك ما حدد توجهها إلى الوقع بما فيه.
3.وبأن الواقعية في القصة وفي الأدب بشكل عام، إنما جاءت كوعي بضرورة ربط القصة والأدب بمستوى النهضة الوطنية، وتحددت الإصلاحية في الممارسة السياسية والاجتماعية»([39]).
  إن الواقعية عند الشاوي تنفتح على المجال السوسيو ـ ثقافي والتاريخ أيضاً، بالنظر إلى «ما عانت منه الواقعية/ الواقعيات من اختلاف وتنوع»([40])، وقد نتج عن ذلك ثلاث ظواهر هي: تشوه المفهوم الواقعي عن الواقع، وغياب الخصائص الفكرية والفنية المحددة للواقعية، وطغيان التناول الشعبوي، وهو يستمد عناصر وجوده في القصة من أمرين: التناول السياسي المباشر والتصور الذاتي للواقع، أي أن سلطة الواقعية في النص نفسه، وليس في المرجع، ما دام لها طابعها الرمزي أيضاً وهكذا، تميز نقده بعنصرين: الأول هو أن التجربة الواقعية في القصة المغربيةلا يمكن دراستها إلا كتجارب واقعية، أي كنماذج إبداعية تستقل برؤيتها الخاصة للعالم، والثاني هو أن الواقعية نفسها، في التجربة الأدبية المغربية الحديثة، لم تحظ بأي اهتمام، ولم يتفرغ للنظر في أحوالها أي باحث، برأيه([41]).
  وطور عبد القادر الشاوي رؤيته للواقعية في كتابه «النص العضوي- سلخ الجلد نموذج دراسي» (1982)، وهو دراسة نقدية تحليلية لمجموعة محمد برادة القصصية لا تحيل إلى الواقع، بل تتعامل مع واقع تصوغه القصة، لتصح «أن تكون خصوصية الواقع مترادفة مع خصوصية التعبير عنه»([42]). ولتتحدد بنية النص الواقعي حسب تحليله بكونها بنية التناقض والتغيير([43]). 
  لقد خفتت أصوات التبشير العقائدي في نقد الثمانينيات، بفضل التعرف إلى نظرية الأدب ومفاهيم المحاكاة والتطورية والاتجاه الاجتماعي. ونلمس في كتاب حلمي بدير (مصر) «الاتجاه الواقعي في الرواية العربية الحديثة في مصر» (1981) نبرة تكاد تكون حيادية إزاء تطور مفهوم الواقعية، ولكن الناقد يتوقف عند إقرار المؤتمر الأول لاتحاد الكتاب السوفييتي (وليس الروس كما كتب!) عام 1934 لمصطلح الواقعية الاشتراكية. وثمة واقعيات أخرى، جديدة أو سحرية أو تعبيرية، بما يجعل الواقعية مذهباً فضفاضاً! إن عرض حلمي بدير لمفهوم الواقعية بأنواعها ليس كافياً أو دقيقاً في قوله:
   «فتناولت المفهوم العام للواقعية من حيث كونها المذهب الأدبي الذي يلجأ للواقع وللعادي المألوف من الحياة اليومية يستقي منه مادته، بعد أن اقتصرت الأعمال الأدبية، ومنها الروائية على الأبطال الكلاسيكيين فترة طويلة، حتى أصبح الأدب جزءاً من الأبراج العاجية للفكر. ثم عرضت للواقعية النقدية ومفهومها الذي حمل لواءه بلزاك في الأدب الفرنسي، والذي طوره من بعده أميل زولا ليصل به إلى حدود العلم التجريبي فيما عرف بالطبيعة، ثم عرجت على الواقعية الاشتراكية والتي وجدت لها أرضاً خصبة في الأدب الروسي ووجدت لأفكارها متسعاً لدى الروائيين الروس، قبل أن تتحول لتصبح دعوة عامة يشارك فيها المفكرون الروس جميعاً، وامتدت إلى أنحاء العالم المختلفة بعد المؤتمر الأول للكتاب في روسيا سنة 1934»([44]).
   درس بدير بدايات الواقعية في الرواية العربية من حيث المضمون والشكل الفني، وانتقل إلى مرحلة تالية تتنازع فيها الواقعية والرومانسية، وخصص الباب الثاني لدراسة الواقعية النقدية في روايات لتوفيق الحكيم (يوميات نائب في الأرياف) ويحيى حقي (قنديل أم هاشم) ونجيب محفوظ (خمس روايات والثلاثية)، وكان الباب الثالث للواقعية الاشتراكية، وعالج فيها روايتين لعبد الرحمن الشرقاوي (الأرض) وإبراهيم عبد الحليم (أيام الطفولة).
  وعلى الرغم من ملاحظته أن الدراسة لا تزعم أنها قدمت ثبتاً متقصياً لما ظهر في الرواية العربية في مصر من أنواع الواقعية المختلفة كافة، فإنه قصر دراسته على نماذج قليلة، وتعسف في تقليص حدود مفهومه للواقعيات التي عالجها.
   ويظهر هذا التخفف من وطأة الايديولوجية على استحياء في كتاب محمد مصايف (الجزائر) «الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والالتزام» (1983)، ومرد ذلك أن الناقد رأى في الواقعية سبيلاً إلى الالتزام بقضايا مجتمعه، وليس التعبير العقائدي، في نشدانه لمنهج يقوم على الموضوعية في البحث، والاعتدال في الحكم، واحترام شخصية الكاتب ومواقفه الفنية والايديولوجية، منطلقاً قدر الامكان من النص الذي يدرسه.
   وكانت دراسة سمر روحي الفيصل (سورية) «الاتجاه الواقعي في الرواية العربية السورية» (1986) خطوة أكبر في تخليص الدراسات الواقعية من نزعة التبشير العقائدي، وعزا الفيصل جانباً من ذلك إلى التأليف المشترك في لجنة تأريخ القصة والرواية في اتحاد الكتاب العرب التي تألفت عام 1980، برئاسة حسام الخطيب، وعضوية عبد الله أبوهيف ومحمود منقذ الهاشمي ومحمود موعد وسمر روحي الفيصل، حين راحت هذه اللجنة تتفق على مصطلحات الدراسة وحدودها وطبيعتها ومنهجها.
   حدد الفيصل في مدخله سمات لمفهوم الواقعية رافضاً تقييدها «وتضييق الخناق عليها، وهي (يقصد الواقعية) الاتجاه الأدبي الواسع الشامل الذي يصعب حصره ضمن حدود لا فكاك منها. لهذا السبب لم يكن هناك بد من المرونة في أثناء تطبيقها، ومن مراعاة موهبة الروائي التي يصعب تقنينها ووضع مقاييس ثابتة لها»([45]).
   ويغلب على حديث الفيصل عن المنهج الفني للواقعية تكييفه لمقتضيات دراسة الرواية العربية السورية، اعتماداً على كتاب صلاح فضل الآنف الذكر، كما في هذه المبادئ الجمالية الأساسية التالية للواقعية النقدية.
«- الكشف الشامل عن العالم الداخلي للإنسان كما يطرحه العالم الاجتماعي.
- تعميم الحياة في شخصيات وظروف نموذجية.
- التحليل الاجتماعي والنفسي للشخصيات في صلاتها بعضها ببعض.
- النظرة التاريخية.
- موضوعية التصوير.
- إعادة خلق حقائق الحياة في أشكال الحياة الواقعية ذاتها».
   بينما استند المنهج الفني للواقعية الاشتراكية إلى المبادئ التالية: الروح الشعبية ـ الالتزام ـ النزعة الإنسانية ـ الروح الحزبية ـ النزعة التاريخية ـ الروح الاجتماعية ـ النزعة النفسيانية ـ نموذجية التصوير الأدنى»([46]).
ثم ما لبث أن وسع الفيصل المعاني المتداولة للمنهج الفني للواقعية، فيما يلي دون التفصيلات التي أوردها:
الالتزام في الواقعية الاشتراكية.
التاريخية (النظرة التاريخية.
التطور الذاتي للشخصية.
الحتمية الاجتماعية.
الحتمية السيكولوجية (تبعية الإنسان للتطور الذاتي للشخصية).
الخلق الفني (ثقافة الكاتب وموهبته).
الروح الاجتماعية.
الروح الحزبية في الواقعية الاشتراكية.
الروح الشعبية (الشعبية).
الشخصية النموذجية (النموذج).
الصدق الفني.
الظروف النموذجية (انطواؤها على صفات اجتماعية تاريخية مهمة).
المجتمع الروائي.
المعرفة الفنية.
منظور المستقبل.
الموضوعية (قدرة الفنان على أن يفهم الموضوعات كما هي بمعزل عن شخصيته).
النزعة الإنسانية (الإنسانية).
النزعة النفسانية في الواقعية الاشتراكية.
النمذجة الفنية (قدرة الفنان على أن يضّمن الصورة الفنية أكمل تعبير وأقواه عن جوهر الظاهرة أو الشخصية التي يصورها).
الواقع الموضوعي([47]).
   تألفت دراسة الفيصل من الاتجاه المضموني، فاصلاً بين الشكل والمضمون، ويتضمن الرواية الاجتماعية والرواية الوطنية والسياسية، والرواية التاريخية، وعالج في الرواية الاجتماعية: الرواية الاجتماعية الوصفية، ورواية الصيغة الاجتماعية، والرواية الوصفية الشخصية، ورواية الصيغة الشخصية، والرواية الريفية والرواية المدينية. وعني في الباب الثاني والأخير من كتابه بالاتجاه الفني للرواية الواقعية، فيما يخص تطور المضمون وتطور الشكل الفني والمنهج الفني والتأثر الفني بالرومانسية والكلاسية، وبالاتجاهات الأدبية الأخرى، وبالاتجاه الواقعي العربي، وبالاتجاه الواقعي في العالم.
  وأدغم نجيب العوفي، الدراسة الواقعية بنهاجيات الاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية في كتابه «مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية، من التأسيس إلى التجنيس» (1987)، ولعله نتيجة وعيه الحاد بالهوية، إذ جعل المنهج الواقعي إطار قراءة وبوصلة هادية للبحث، تعين على رؤية «التشظي السردي، آية على التشظي الاجتماعي والتاريخي الذي لا حت بوادره، وتتالت مظاهره منذ مطلع القرن العشرين»([48]). وأعتقد أن العوفي أفلح كثيراً في قراءة واقعية النصوص من خلال قصصيتها، وقصصيتها من خلال واقعيتها، وتتضمن هذه الممارسة النقدية اختلافاً بيناً عن "الدوغما" السائدة في فهم الواقعية.
   غير أن دراسات الواقعية شهدت تراجعاً عن المستوى الفني والفكري الذي وصلت إليه، كما لاحظنا، فظهرت أعمال نقدية تعاني من التبشيرية وغلبة الإنشاء اللفظي على لغة النقد والانطلاق أحياناً من التماهي بين الروائي وعمله، والفصل بين المضمون والشكل، واخترت لذلك نموذجاً هو كتاب «الرواية العربية الجزائرية ورؤية الواقع: دراسة تحليلية فنية» (1993) لعبد الفتاح عثمان (مصر)، وقد اتصل الناقد بموضوعه أثناء تدريسه، معاراً، في جامعة وهران (1985-1988). 
   عمد عثمان إلى دراسة نقدية لبعض الروايات على أساس موضوعاتها: «واقع الكفاح الثوري المسلح»، و«واقع الثورة الزراعية»، و«واقع النقد الذاتي»، و«واقع الاغتراب». ويظهر حرصه على التماهي في قوله: «إن الدراسات النقدية الحديثة تحاول الآن إيجاد توازن حقيقي بين المضمون الاجتماعي الأيديولوجي، والشكل اللغوي الجمالي للنص، كما يتمثل عند أصحاب المنهج النقدي الجدلي، خاصة عند جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان. وقد آثرنا اختيار العنوان «الرواية العربية الجزائرية ورؤية الواقع»، لأن الروائي لابدّ أن تكون له رؤية، فمهما اختفى وراء شخصياته، وزعم الحيدة يبقى أنه في النهاية يمسك الخيوط كلّها في يده، فيصنع المواقف ويحرك الأحداث، ويحدد المصائر، ويبتكر الشخصيات، ويعرف النهاية سلفاً»([49]).
  وتجنب عثمان الموضوعية في درس المتن الروائي الجزائري حين أبعد روايات رشيد بو جدرة «لأن رؤيته للواقع الجزائري مشوشة مضطربة ضبابية»([50]).
   وثمة آراء قبلية تحكمت في نقد عثمان كمحاكمة إلى عقيدة الكاتب أو إلى تحزبه أو انتمائه السياسي، وهي تحكميات جاوزها النقد العربي الحديث منذ زمن، كما في رأيه برواية «الزلزال» للطاهر وطار:
   «ويذكر أنه لجأ إلى الرمز في استخدام كلمة الزلزال التي تعبر عن الخطر الداهم والعالم السفلي الذي يرمز إلى الطبقة الكادحة المطحونة، والعالم العلوي الذي يرمز إلى الطبقة الإقطاعية التي ينتمي إليها أبو الأرواح. إن تضخم شخصية أبو الأرواح، والإكثار من اللوحات الوصفية، والابتعاد عن ميدان المعركة الحقيقي، وهو الأرض، وبروز أفكار الكاتب في تبني الاتجاه الشيوعي قلل من القيمة الفنية لهذه الرواية، وإن كان هذا لا يعني الغض من تأثيرها وقيمتها المرموقة في تطور الرواية الجزائرية الحديثة»([51]).
  وينبغي علينا أن نشير إلى أن التحليل الفني لا ينتظم في منهج معين، ولا يخضع لترابط ما من قواعد النقد ومعاييره، فهو يمزج بين داخل النص وخارجه.
   واستكمل سمر روحي الفيصل دراسته للاتجاه الواقعي في الرواية العربية السورية بمعاينة التطور الفني في كتابه «التطور الفني»، وذكر أسباباً ذاتية كثيرة دفعته إلى اختيار موضوعه، ومنها اهتمامه بفن الرواية، واعتقاده أن الرواية الواقعية في سورية لم تعبر عن الواقع الموضوعي، إضافة إلى قلة الدراسات التي عالجت الواقعية في الرواية العربية السورية، وعزوفها عن الخوض في التطور الفني، وانصرافها إلى تحليل المضامين دون أي نزوع انتقادي أو معرفة بالمنهج الفني الذي يضبط عمل المضامين والأشكال الفنية، وإيمانه بأن تحليل التطور الفني يخدم النقد الأدبي العربي حين يقدم له منهجاً نقدياً نابعاً من التطور التاريخي للواقعية في العالم، صالحاً لتعديل الفهم السائد لعلاقتها بالواقع العربي عموماً والسوري خصوصاً.
  عرف الفيصل الرواية بأنها اسم اصطلاحي للفن النثري الحكائي الذي يخلق عالماً فنياً يوازي العالم الحقيقي، وأن حدها الأدنى هو النص النثري الحكائي الذي يوفر شيئاً من الحوادث والشخصيات والصراع والسرد، وقدراً من التماسك الداخلي، على أن يرتضي صاحبه تدوين كلمة «الرواية» عليه. وليس هذا التعريف نافعاً كله، فماذا لو رضي كاتب أن يضع كلمة «رواية» على كتاب في الرياضيات أو الأحياء الدقيقة. 
   واختار منهجاً ملائماً لدراسة الروايات التي صح انتسابها إلى الواقعية هو المنهج التحليلي الكلي الذي يوفر نظرة فلسفية للموضوع مستندة إلى نتائج تحليل النصوص. ومهد لدراسته بالتعرف إلى نشأة الواقعية واتجاهاتها ودلالة مصطلحها، وتطوراتها بين الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية، ونشأة الواقعية في مصر ولبنان وسورية، والواقعية في الخمسينيات، والاتجاه الواقعي في الرواية العربية السورية: من نشأته ونقده إلى المنهج الفني في دراسته. ثم درس طبيعة التطور الفني والتأثر الفني بالاتجاهات الأدبية، وألقى نظرة نقدية في التطبيقات الروائية لاتجاهين واقعيين هما الانطباعية الواقعية، والواقعية النقدية.
   يؤشر كتاب سمر روحي الفيصل (1996) إلى انشغال نقد القصة والرواية الواسع بالواقعية، وإلى نمو عمليات انتقاد النقد الواقعي من خلال بعض مستوياته المتأرجحة بين الاندراج في السائد أو محاولة مجاوزته، وإلى مدى حرية التعبير في النقد والدراسات النقدية، كما في مثل هذه الملاحظة: 
  «أثرت في الاتجاه الواقعي تأثيراً سلبياً قضية التبعية للماركسية لدى طائفة من الروائيين السوريين. فقد اعتنقت هذه الطائفة الأفكار الماركسية، وانتمت في الغالب إلى الحزب الشيوعي السوري، وعملت ما وسعها الجهد على جعل الرواية تعبر عن الأفكار المستمدة من النظرية السياسية، وحاربت من أجل ذلك الداعين إلى معرفة الواقع الموضوعي السوري أو الباحثين فيه عن صحة هذه الأفكار. وقد شوهت هذه الطائفة الاتجاه الواقعي في سورية حين جعلته نسخة من الاتجاه الواقعي في الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى ادعائها نسبة أفرادها إلى الواقعية الاشتراكية ليس غير. وقد عنيت بتوضيح الآثار السلبية لهؤلاء الماركسيين في الرواية الواقعية، وأكدت أن الاتجاه الواقعي في سورية لم يعرف الواقعية الاشتراكية، وليس هناك احتمال لوصوله إليها في المستقبل، لأن المجتمع السوري لا يعبر عن نسيج اشتراكي على الرغم من حرص النظام على ادعاء ذلك»([52]).
   ولا يخفى أن مثل هذا النقد يبتعد عن داخل النص وعلائقه الخاصة ليخوض في مسائل خارجية تجوز عن منهجية الدراسة المعلنة.
   ولعل أهم نقد واجهته الدراسات الواقعية، ولاسيما الواقعية الاشتراكية، ما كتبه وائل بركات (سورية) في كتابه «الواقعية الاشتراكية: المغامرة والصدى- دراسة مقارنة» (1997)، وكأنه يعلن أفول هذا المذهب الذي حظي بانتشار واسع بين الكتاب، وحافظ على حضور دائم في الأبحاث الأدبية القديمة والحديثة، «وما تزال الواقعية بأشكالها المتعددة ونزعاتها المختلفة تشكل مادة خصبة للدراسات الأدبية والنقدية رغم ما شهدته الساحة الأدبية في العقود الأخيرة من توجه نحو الاعتناء بقضايا الشكل والبنية والأسلوب والنص تحت أسماء كثيرة مثل البنيوية واللسانية والأسلوبية والعلامية ونقد النص وغيرها من التسميات التي تركز جل اهتمامها على مسألة الصياغة الأدبية وطبيعة النص الأدبي»([53]).
   نظر بركات إلى الواقعية الاشتراكية بوصفها مغامرة «أرادت تسخير الأدب لخدمة السلطة، لكنها فشلت في صياغة كيانها المستقل الذي يضمن لها الاستمرار والإبداع، ولأن هذه التجربة انتقلت إلى الكتاب التقدميين الفرنسيين في صيغتها المشوهة، ثم كرس الحزب الشيوعي الفرنسي هذا التشويه بقراراته الملزمة لكتابه، رأينا أن الواقعية الاشتراكية في فرنسا اتخذت شكل الصدى، مع بعض التعديل، للمغامرة السوفيتية»[54].
   وقد اعتمد بركات على المصادر السوفيتية والفرنسية المطبوعة باللغة الفرنسية، وكأنه يقول أيضاً أن صدى الواقعية الاشتراكية في فرنسا لا يختلف عنه في بقية البلدان التي قلدت هذه المغامرة، فتتبع نشوء المذهب من الجذور إلى الأدب البروليتاري ومن البروليتكولت إلى قرار عام 1932، تأسيس اتحاد الكتاب السوفييت، وما تلاه من توجيه كامل للأدب من السياسة، إلى مرحلة تكون النظرية والمنظرين لمفهوم الواقعية الاشتراكية، إلى تمحيص عناصرها، إلى جهود منظريها الكبار، إلى عودتها ونهايتها، بعد الحقبة الستالينية، حيث أصبحت تنتمي فعلاً إلى الزمن الماضي. 
   وعالج بركات في القسم الثاني من كتابه التلقي الفرنسي من الأدب البروليتاري إلى الواقعية الاشتراكية الفرنسية، وقد تميزت معالجته لإشكالية الشكل ببصيرة حاذقة ولغة نقدية دقيقة ومستوى فكري رفيع، وتعليل صائب لتحولات النظرية الأدبية في الممارسة، واستخلص الأسباب التي أدت إلى تشويه هذه النظرية وانحرافها عن المسار الصحيح لها، وأجملها فيما يلي:
  خضوعها لسياسة الإرهاب الستالينية وتعرض الكتاب لضغوطات مختلفة، وهذا ناتج عن الخلط غير الواعي بين السياسة والأدب، واستغلال هذا الأخير في سبيل خدمة مصالح ذاتية سياسية.
   رُبطت الرواية الواقعية الاشتراكية مباشرة وآلياً بوجهات نظر القادة السياسيين والحزبيين، وهذا ما أفقدها موضوعيتها ومصداقيتها.
  الخلط بين انعكاس الواقع في تطوره الثوري الذي هو من الواقعية الاشتراكية، والتصوير الحرفي للواقع الذي هو من الطبيعة، رغم التحذير من الوقوع في هذا الخلط، فإننا نراه حاصلاً في معظم الروايات السوفيتية التي كتبت وفق منهج الواقعية الاشتراكية([55]).

2-6- البحث عن التراث القصصي ووعيه:
   غدا النقد القصصي والروائي للتراث السردي على مفترق طرق في الستينيات مع صدور بحث فاروق خورشيد «في الرواية العربية ـ عصر التجميع» (1959). ويعد هذا الكتاب انعطافة أشرت إلى أهمية البحث عن التراث السردي العربي ووعيه اعتماداً على نصوص تنتمي إلى ما قبل التدوين والتجميع حيث التراث الشفاهي والأسطوري مثل «التيجان في ملوك حمير» لوهب بن منبه، و«أخبار ملوك اليمن» لعبيد بين شرية الجرهمي، و«السيرة النبوية» لابن إسحاق الذي رواه ابن هشام وسواها، ولعل هذه الإشارة تفصح عن اختلافها المضمر غالباً، والصريح أحياناً، مع النقد التقليدي الذي يرى القصة والرواية فنوناً سردية ذات مواصفات خاصة أخذت من التقليد الغربي لفهم هذه الفنون السردية المرافق لنشأتها وتطورها منذ مطلع عصر النهضة الأوروبية حتى مطلع القرن العشرين.
  أطلق فاروق خورشيد نظرة مختلفة في فهم القصة والرواية تعترف بالتقليد العربي المتكون في ذلك التراث الشفاهي والأسطوري الطاعن في القدم والعراقة مما صار إلى قدامة لابد من فهمها، وهي مستمرة وموصولة في الممارسة القصصية والسردية في العصور التالية. إن هذه النظرة ساعدت على وصل السرديات الحديثة وتطورها بالسرديات العربية القديمة.

2-6-1- التراث السردي الشعبي:
  عني فاروق خورشيد، أكثر من سواه بالإضافة إلى سبقه وريادته بوعي التراث القصصي والسردي العربي في إطاره الثقافي العام، وفي إطاره الفني الخاص كما في كتبه المتتالية «أضواء على السيرة الشعبية» (1959) و«الجذور الشعبية للمسرح العربي» (1992) وقبله «فن كتابة السيرة الشعبية» (1978) بالاشتراك مع محمود ذهني، و«في الأصول الأولى للرواية العربية» (1993)، ويلخص الكتاب الأخير نظرته إلى الموضوع، مثلما يبين باختزال واضح، جهوده المبكرة والدؤوبة لترسيخ هذا الوعي. يعيد خورشيد الفهم القصصي والروائي المغلوط والسائد للتراث السردي بوصفه قضية وعلامة هوية إلى خطأ الدارسين في اعتبارهم للأشكال الدرامية المختلفة للأدب العربي وافدة مع معالم الحضارة الغربية([56]). وعد دعوات ربط المنطقة بحضارة البحر الأبيض المتوسط، رفضاً للارتباط بالمعنى الحضاري العربي، ومن ذلك الدعوات التي تقفز فوق الفترة العربية والإسلامية، لتثير انتماءات إلى ما قبل الوجود الإسلامي في هذه الأقاليم، فهي مرة فرعونية، ومرة بابلية، ومرة آشورية، ومرة فينيقية، بل ومرة حميرية أيضاً. ووصل الأمر إلى الضجر من اللغة العربية نفسها ونحوها وصرفها، بل وحروف كتابتها، وظهرت الدعوة إلى التبسيط، وإلى إحياء العاميات، وإلى هجر الحروف العربية إلى حروف لاتينية في الكتابة نفسها([57]).
   وعزا خورشيد ذلك إلى رسوخ قناعات غير سليمة تجافي طبيعة التراث القصصي، ونقد أسبابه، ملاحظاً أن دراسة الأدب الشعبي قد أسهمت في تغيير بعض هذه القناعات، لأن التراث القصصي محمل بالآثار الطقسية القديمة، وبمعطيات أسطورية وملحمية ودرامية وعقائد وثنية، ثم أثر الإسلام كثيراً، فيما بعد في صياغة ولادتها الجديدة، مؤكداً، أن الموروث العربي الروائي الذي وصل إلينا كان ثرياً وغنياً، وكان مليئاً بالعطاء الفني القصصي الذي يسر للكثيرين من المؤلفين أن يقدموا لنا كتب عصر التجميع التي احتوت هذه الأعمال بصياغتها الجديدة، كما يسرت لنا الإطلاع على مؤلفات عصر الإبداع الفني في السير الشعبية والحكايات المهمة، حاملة عطر شبه الجزيرة العربية وفنها الروائي، الذي لم يفقده العلاج الإسلامي شيئاً، بل لعله وظفه توظيفاً إنسانياً قريب الروح للمعنى الإسلامي، وقريب الدفاع من موقف الإنسان من الكون والله والإنسان الآخر، كما يفهمه الإسلام ويقره([58]).
   أمعن خورشيد النظر في منابع الرواية العربية مطمئناً إلى وجود الفن الروائي العربي، ضارباً بجذوره في عمق التاريخ، مثل قصص الجنوب حول ملوك اليمن الحميريين التبابعة وغزواتهم وفتوحاتهم وأبطالهم، وقصص الفتوة والحروب قبل الإسلام بين القبائل العربية، ومنها أيام العرب، وقصص الأنبياء في كتب التفسير والتاريخ على أن هذا النوع من القصص قومي، وانتقد كعب الأحبار والإسرائيليات، وربط تفسير القرآن بالتوراة، ومثلها الطرائف، ومنها سجع الكهان وتفسير الأحلام والحكايات والنوادر وقصص الحيوان، ليخلص إلى نتائج هامة، ما تزال قيد الرفض والقبول، وهي «أن القصص الجنوبي يمثل بطولة الجنوب المتفوقة وموقف سيادة ملوك الجنوب القحطانية، وأن قصص الفتوة تمثل مرحلة الانتماء والتعرف على مكونات بطولة العربي، وإذا قلنا أن القصص الديني يمثل التبشير بالأديان والعقائد، فإننا نستطيع أن نقول: إن حكايات النوادر تمثل العمق الاجتماعي والمتبقيات السلوكية والقيم الأخلاقية للإنسان العادي في تفاعله مع الأحداث ومع عمقه التاريخي، ومع الموروث المعروف في عالمه كلّه بحثاً عن الرؤية الواضحة لمسيرة الإنسان»([59]).
  وقد تزامن نقاش هذه الأطروحات على استحياء ونبرات تقليدية، في أعمال نقدية مبكرة أو تالية تسبح في مائها، مثل: «تاريخ القصة والنقد في الأدب العربي» (1956) للسباعي بيومي و«القصة في الأدب العربي القديم» (1960) لمحمود ذهني، و«القصة في الأدب العربي القديم» (1968) لعبد المالك مرتاض، و«القصص في أدب العرب» (1978) لمحمود تيمور، و«الفن القصصي العربي القديم» (1975) لعزة غنام، و«القصة العربية في العصر الجاهلي» (1977) لعلي عبد الحليم محمود، وغيرها.
   ويعد الكتاب الأخير أكمل نموذج للمحاجة الصادقة والمتحمسة دفاعاً عن أصالة القصة العربية على الرغم من غلبة المنظور التقليدي في فهم القصة على البحث، كما في تعريفاته للقصة والقصة القصيرة والرواية والحكاية والأسطورة والخرافة، والتزامه بهذه التعريفات، في مجادلته من ينكرون هذه الأصالة، مما جعله يقع في تناقضات مع أطروحته المركزية، كما في قوله عن القصة القصيرة: «هذه التسمية لنوع من القصة لم يعرف في الأدب العربي إلا حديثاً، متأثرة بالأدب الغربي، ثم أخذت تنمو وتتطور حتى أصبح لها كيانها الخاص وموقعها المستقل وموضوعها الأصيل الذي تستقيه من واقعنا بما فيه من آمال وآلام، ومن وجداننا مما ينطوي عليه من أحاسيس ومشاعر»([60]). لا يعول المختصون كثيراً على بحث علي عبد الحليم محمود إلا في فائدته التوثيقية لآراء بعض المستشرقين في القصة العربية وتعليقه على هذه الآراء ومناقشته لها من جهة، وعلى جمعه لأنواع القصص الباقي من العصر الجاهلي، وجذورها من جهة أخرى. وبلغت العناية بوعي التراث القصصي والسردي إلى ذرى متعددة نشير إلى ذروتين منها، الأولى هي وعي التراث السردي الفولكلوري، ولا سيما السير الشعبية، والثانية هي وعي التراث الأسطوري.
   شهدت الستينيات انطلاقة البحث في التراث الشعبي ولا سيما القصص والسير بفضل جهود عبد الحميد يونس ومحمد فهمي عبد اللطيف (وكان أصدر أول دراسة في مصر عن الأدب الشعبي هي «أبو زيد الهلالي»)، وفؤاد حسنين، وشوقي عبد الحكيم، ونبيلة إبراهيم وأحمد مرسي وغيرهم.
  ويوجد أمثال لهؤلاء الرواد والباحثين في أكثر الأقطار العربية، ففي سورية نشير إلى جهود إلفة الإدلبي في كتابها «نظرة في أدبنا الشعبي» (1972) وعادل أبو شنب في كتابه «كان يا ما كان» (1972)، وبسام ساعي في كتابه «الحكايات الشعبية في اللاذقية» (1974) وغيرهم، وفي فلسطين نذكر جهود عمر عبد الرحمن الساريسي في كتابه «الحكاية الشعبية في التجمع الفلسطيني: دراسة ونصوص» (1980)... الخ.
  ومن المفيد أن نشير إلى غالبية هذه البحوث لم تصدر عن متخصصين بالأدب الشعبي، أي أن تنبيه الرواد إلى قيمة الأدب الشعبي الحكائي والملحمي والسيري دفعت هؤلاء الأدباء والباحثين إلى وعي هذا الموروث السردي جمعاً بالدرجة الأولى، وتحليلاً فنياً على نحو قليل.
  لقد صرح عادل أبو شنب في مدخل دراسته المشار إليها، وهي دراسته اليتيمة في هذا الميدان، إلى انبثاقها من وعي بالهزيمة في حرب حزيران 1967، مما يشير إلى ارتباط مثل هذه الأبحاث بمعاني وعي هذا التراث في تعضيد الذات القومية، وهي نغمة مكرورة في غالبية أبحاث وعي التراث الشعبي، وقد قطع أبو شنب جازماً بسلبية قيمة المتوارثة على نحو شعاري مما يتعارض مع بحوث آخرين، «فالحكاية إرث متوارث معشش في كل بيت، يبث الخرافة، ويعلم ما هو غير منسجم مع عصر التكنولوجيا، ويعود بالإنسان العربي إلى عصر الانحطاط»([61]).
  واعترف محمد بسام ساعي في كتابه «الحكايات الشعبية في اللاذقية» (1974) أن بحثه حصيلة خمسة أعوام من البحث تمتد ما بين عامي 1965 و 1969، هي الفترة نفسها التي اتجه فيها الرواد والباحثون إلى دراسة السرد الشعبي، ومهد ساعي للحكايات التي جمعها بدراسة إجمالية لا تعنى بالفن أو السرد إلماحاً إلى تعبير هذه الحكايات الاجتماعي، وهو ما يطبع غالبية الدراسات آنذاك، وقد التفت ساعي عن طرق تصنيف الحكايات المعروفة عالمياً، مكتفياً بتقسيم الحكايات إلى ثلاثة أقسام بالنظر إلى موضوعها، ثم أحس بوقوع ثغرات «عندما كنت أقف طويلاً أمام بعض الحكايات، وأنا حائر في أية فئة أصنفها»([62])، مما يوضح ذلك الإقبال على وعي التراث السردي الشعبي دون عدة كافية لدى دارسيه وباحثيه. وكذلك فعل محمد خالد رمضان في جمعه لـ«حكايات شعبية من الزبداني» (1977) حين عني بجمع الحكايات دون أن يبذل، أدنى مجهود، في بحثها وتبيان قيمتها الفنية.
   غير أن وعي التراث السردي الشعبي تطور خلال فترة قصيرة إلى أبعد من جمع الحكايات، باتجاه بحثها فنياً ودرسها دراسة مقارنة، كما في كتاب عمر عبد الرحمن الساريسي «الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني: دراسة ونصوص» (1980). ولا شك في أن دوافع هذه الأبحاث المعلنة مخصوصة بتزجية البعد القومي، حين ذكر الساريسي بين يدي بحثه أنه دلف «إلى مكتب الدكتورة نبيلة إبراهيم في كلية الآداب بجامعة القاهرة في يوم قائظ من صيف عام 1969 (لاحظ التاريخ!) وطلبت إليها أن تساعدني في خدمة قضية وطني المنهوب، عن طريق الإشراف على بحث في المأثورات الشعبية «الفولكلور» الفلسطينية»([63]).
   كان عبد الحميد يونس الرائد الأكثر أهمية في التنبيه إلى القيمة السردية والفنية للقصص الشعبي من خلال كتابيه «الهلالية في التاريخ والأدب» (1968)، و«الظاهر بيبرس في القصص الشعبي» (1969). وتتلامح في شغل يونس أمور ثلاثة أولها العناية، بعد إهمال، للأدب الشعبي بوصفه الأدل على بيئته من أدب الخواص وأشباه الخواص، والذي يترجم مشاعر عامة أكثر مما يترجم عن مشاعر خاصة، لأن الأدب الشعبي هو الوحيد الذي يندرج فيه الأدب الجماعي، وثانيها بعده القومي، فالأدب الشعبي يدعم البحث التاريخي، ويعزز جهود الأصالة الثقافية، ويقارب قيمة الوثائق التاريخية التي لا يرقى إليها الشك، في أسلوبها، من باب ارتباط الأدب بالتاريخ، فالآثار الأدبية لا يمكن أن تفهم على وجهها الصحيح إلا على أساس من التاريخ، مثلما يصبح الأدب الشعبي مصدراً من مصادر التاريخ، وكان عبد الحميد يونس أصدر كتابه الشهير «دفاع عن الفولكلور» (1973) لمواجهة النزعات المعادية لدراسة الأدب الشعبي، وللتوكيد على أن الأدب الشعبي حافظ للهوية القومية، وليس مشتتاً لها، وثالثها الحرص على القيمة الجمالية والتعبيرية للأدب الشعبي عبر الأخذ بمنهج النقد الفني، «وهي تقتضينا كذلك أن نتعرف إلى المنشئ، وأن نرصد مدى المطابقة بينه وبين ما أنتج من صور التعبير، ثم تتخطى ذلك إلى مرحلة أخرى، فنقيس انعكاس صور التعبير هذه في نفس المتذوق»([64]).
  ويبدو اهتمام يونس بالبعد القومي للأدب الشعبي الأكثر جلاء في مقارناته للهلالية بين التاريخ والمجتمع والأدب، وبين الهلالية وسيرة الظاهر بيبرس، كما في قوله: «وتزاوج هذين العنصرين الغنائيين الأساسيين الغرامي والحربي، أو الحب والبطولة هو الذي تكونت فيه سيرة بني هلال في صورتها الأخيرة، وقد بلغ هذا التزاوج أوجه في الديوان الخاص بالجازية الذي يقوم على إيثار الحبّ القومي العام على الحب الخاص»([65]).
  ولم يغفل يونس، وهو يتقصى الأبعاد القومية والجمالية والحكائية للهلالية، عن مناهضة آراء بعض المستشرقين الجائرة بحق الموروث السردي للشعب العربي، فنافح عن السير الشعبية العربية إزاء رأي المستشرق الفرد بل Bel، الذي زعم أن سيرة بني هلال لا تبلغ أغنية رولاند، لا من حيث التركيب، ولا من حيث الأبطال، ولا من حيث الواقع. و«هو يرى أن الفرنسية قد صدرت عن إيمان عميق ووطنية خالصة، في حين أن العربية إنما هي في أغلب أجزائها حلقات متصلة من الغدر والاغتصاب والسرقة. فإن تتبع القصائد المعبرة عن الوقائع والحروب المشجعة عليها تنقض هذا الزعم من أساسه»([66]).
  وتوج يونس جهوده في البحث عن الفولكلور وتشجيع الوعي به، إصداره لـ«معجم الفولكلور» (1983).
  وتمثل أبحاث شوقي عبد الحكيم (مصر) الوعي بالتراث السردي الشعبي بما هو وعي بالتاريخ، فأفاد أن منطلقات البحث التراثي التاريخي الذي يجري تطبيقاته على نماذجه العينية الميدانية والمستهدف إعادة التبصير بالتراث، وصنوه التاريخ، أثنوغرافية لعلم الثقافة.
   لقد عمد عبد الحكيم في كتابته لسيرة الزير سالم إلى جعل الحكايات رموزاً وعلامات وشعائر، إذ «عادة ما يتوارى التاريخ في ثنايا مثل هذه السير والملاحم الأسطورية العربية، ذلك أن التاريخ الأسطوري أو الطوطمي، تخالط الخرافة فيه التاريخ العيني أو الأركيولوجي»([67])، ليبدو الزير سالم تجسيداً للبطل الشعبي المقاتل و«ما أشبه هذا البطل الشعبي الفلسطيني المقاتل المهلهل بشعبه الذي نبت من صفوفه، في افتقاده لكلا أرضه وتراثه»([68]).
  استفاد عبد الحكيم قليلاً من العلامية والأسلوبية ولم يوضح سنده أو مرجعيته العلمية، معولاً على الارتهان السياسي لهذه العلامات، كأن يقول:
  «فلعلنا بإزاء ملحمة فلسطينية موغلة من القدم، بطلها الزير سالم، وسلم، الذي يشير اسمه إلى تسمية القدس أو أورشاليم، أو مدينة سالم، كما أنه نبت وتربى في وادي بير سبع أو بئر سبع، قبل تواجدها التاريخي ـ الفلسطيني الحالية، واتخاذها، كما ستخبرنا السيرة موطناً ومنفى»([69]).
  وجه عبد الحكيم اهتمامه الرئيس إلى الأساطير والحكايات الشعبية العربية، في كتبه «أساطير وفولكلور العالم العربي» (1974)، و«الفولكلور والأساطير العربية» (1978)، و«الحكايات الشعبية العربية» (1980)، وحذا حذو يونس، فوضع «موسوعة الفولكلور والأساطير العربية» (1982)، وقد أكد في كتابه «الفولكلور والأساطير العربية» على أن «معظم السير والملاحم والقصص الشعرية الطقوسية التي يجمعها دارس الفولكلور في مصر، يمكن أن يعثر على متنوعاتها زميله التونسي والعراقي والليبي في بلاده، مثل: سيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية أو بني هلال، وسير وملاحم التبابعة ـ جمع تبع ـ مثل الزير سالم، وعزيزة ويونس، ويوسف وزليخة، وسارة وهاجر، والقميص، قميص النبي محمد(ص)، وزرقاء اليمامة، وبراقش، وعلي الزيبق، والأميرة ذات الهمة»([70]). كان عبد الحكيم صريحاً في إعلان موقفه القومي الصريح في بحثه عن الأدب الشعبي العربي في موسوعته، مثلما طور هذا الموقف ذاته من الإطار المصري إلى رحاب العروبة، فاختار موضوعات موسوعته «من منطلق عربي قومي، خاصة التراث الموغل في كلا العراقة والقدم للجزيرة العربية بأوطانها وكياناتها المختلفة، وما كان يسود تراثها منذ أقدم العصور من سمات وخصائص وإخصاب جارف، تمثل في أن وطننا العربي يعتبر اليوم من أهم المخزونات الإنسانية على المستوى القاري»([71]).
   وثمة إسهامات أخرى لعدد من الباحثين والنقاد في دراسة الأدب الشعبي، متضمنة استعادته في أشكال سردية حديثة، مثلما فعل أحمد عباس صالح (مصر) في كتابه «ثأر ابن عنترة ـ دراسة تطبيقية في الأدب الشعبي» (1973)، وقد أراد أحمد عباس صالح، من معالجته الجديدة للسيرة، نفحة إرادة قومية، لأن «البطل العربي المعاصر، وإن يكن في مأزق حقاً، إلا أن عليه أن يفتش عن مخرج، وبما أن ليس هناك مأزق كامل، فلابد من وجود المخرج. إن روح الإصرار، والذكاء الخارق الذي تقدحه الأزمة. هو ما يمثله عنترة، وهو دائماً، وكما تصوره العقل العربي، يجد مخرجاً، ويحقق الانتصار»([72]).
   وتندرج في هذا الاتجاه عشرات الأبحاث والدراسات العربية الأخرى، كما في دراسة علي الخليلي «البطل الشعبي في الحكاية الشعبية» (1979) «التي تلح على تكريس وجودنا التاريخي بالتشبث الواعي والمدروس بتراثنا الشعبي»([73]). وقد آثرت أن أشير إلى هذه الدراسة لأنها مكتوبة بقلم فلسطيني يعيش في ظل الاحتلال الصهيوني في مدينة نابلس، علامة من علامات وحدة الوعي العربي.

2-6-2- البحث عن التراث السردي الأدبي:
   طفق الباحثون والنقاد العرب يبحثون عن تراثهم السردي، وتميز عقدا السبعينيات والثمانينات بوفرة الجهود العلمية في هذا المنحى، وكانت «المقامة» الفن الأقرب منالاً والأكثر مقاربة لمفهوم السرد الناجز، فتعددت محاولات تصنيفها وشرحها ودرسها، وكان كتاب شوقي ضيف (مصر) التعريفي الموجز «المقامة» (1954) منطلقاً لدراسات هذا الفن السردي جنساً قصصياً وأدبياً عربياً، كما في أعمال «فن المقامات في الأدب العربي» (1970) لعبد المالك مرتاض (الجزائر)، و«أثر المقامة في نشأة القصة المصرية الحديثة» (1971) لمحمد رشدي حسن (مصر)، و«فن المقامات بين المشرق والمغرب» (1979) ليوسف نور عوض (مصر)، و«مقامات بديع الزمان الهمذاني» (1982) لفاروق سعد (لبنان)، و«مقامات بديع الزمان الهمذاني وعلاقتها بأحاديث ابن دريد» (1983) لإكرام الفاعور (لبنان)، و«أزمة الذات في مقامات الهمذاني» (1996) للمنصف شعرانة (تونس).
   وربما كانت دراسة عبد المالك مرتاض «فن المقامات في الأدب العربي» الأنموذج الأكمل في البحث عن هذا الفن السردي الموروث، فهي تمثل دراسة مرتاض مزايا النقد التقليدي ومحدوديته، ولا سيما تكرار متواتر القول حول الموضوعات المدروسة، إذ تغلب على الدراسة حدود المقامة اللغوية وتطورها عن النثر العربي القديم من سجع الكهان إلى الشبه بين الاسكندري وخالد بن يزيد، بطل الجاحظ، إلى تلمس أصولها في أحاديث ابن دريد، وهي صلات شاحبة واهية لصلتها بمقامات الزهاد. وقد استطرد في تقصيه دون أن يجزم في رأي، أو يضيف إلى الآراء المعروفة، وعلى الرغم من عثوره على مقامات غير معروفة، فإن تتبعه لنشأة المقامات لا تغطي ذلك التباين الواسع في أنواع المقامات وأعدادها، فهو أشار على سبيل المثال إلى مقامة السيوطي الإيروتيكية، ثم جاوزها، وجاوز مقامات أخرى عند حديثه عن تطور فن المقامات مقتصراً على طرائق ابن قتيبة والبديع والزمخشري، وعلى إلماحة عجلى لمقامات سارت على خطط فنية مختلفة غير مستوعبة لبقية خطط المقامات. 
   ونلاحظ أن معالجة مرتاض للخصائص الفنية للمقامات عنيت بالمضمون أولاً، وبالخصائص الفنية للشكل ثانياً، تغليباً للغة على حساب البنية القصصية، وعندما ناقش نصيب القصة والخيال في المقامة سار على غرار الشكل القصصي الغربي الناجز، مرتهناً لأدوات النقد التقليدي وتواضعه الإبداعي حين يحصر تأثير المقامات في الأسلوب واللغة فحسب، كدراسة التشبيهات وإبراز خصائصها الفنية، ودراسة الاستعارة والكناية في المقامات، وفن البديع ولا سيما المقابلة والطباق والتورية والجمع والألغاز والسجع والاقتباس والتضمين والقلب ورد العجز على الصدر، وتعليل انعدام الموازنة.. الخ، ومن شأن هذا الاستغراق اللغوي أن يغيّب السرد وخصائص الحكائية، ويتضح ذلك في مجموعة العناصر التي تقوم عليها المقامة، وكانت حوصلة بحثه:
«أولاً: القالب العام للمقامة ودراسته من مختلف النواحي.
ثانياً: الأسلوب والصياغة، وقد تضمن دراسة اللغة والتراكيب بتوسع، مع وقوف عند الغريب، والأنيق من اللفظ.
ثالثاً: التصوير البياني، وقد تضمن:
- دراسة التشبيهات وإبراز خصائصها الفنية بتوسع.
- دراسة المجازات والاستعارات، بشيء من التوسع.
رابعاً: فن البديع في المقامات، وتضمن البحث فيه دراسة معظم المحسنات البديعية الواردة في المقامات مع الإتيان بأمثلة لها، وقد تناولت الدراسة ما يلي:
- المقابلة.
- الطباق.
- التورية.
- الجمع.
- الألغاز.
- الجناس بتوسع، مع الإتيان بأمثلة كثيرة من مختلف المقامات.
- السجع، بتوسع أيضاً، ويجلب طوائف كثيرة من الشواهد النصية من المقامات.
- الاقتباس والتضمين، بتوسع وتفصيل.
- الموازنة.
- القلب، أو ما لا يستحيل بالانعكاس.
- رد العجز على الصدر.
- العكس»([74]).
   ثم استدرك مرتاض فيض بحثه اللغوي والنحوي والبديعي الخالص إلى دراسة خجولة لقضية القصة في المقامة، ومدى قوة الخيال فيها أو ضعفه، ليخلص إلى اشتمالها على الحبكة والشخصيات والعقدة، ولكنه درسها أيضاً من منظور لغوي وبلاغي.

2-6-2-1- القصة:
   وما لبث البحث عن التراث السردي أن وقع على نماذج من القصص العربي بصورها الأولى من الجاهلية أو المتطورة عنها بتأثير الإسلام، اعتماداً على تصنيف دارسي الأدب العربي القديم المتمثل في جهود محمد أحمد جاد المولى وزملائه في كتابهم المعروف «قصص العرب» (1939)، أو تثميراً لاجتهادات دارسين متأخرين أمثال موسى سليمان في كتابه الضخم «الأدب القصصي عند العرب» (1983)، وحسين أحمد أمين في كتابه «ألف حكاية وحكاية من الأدب العربي القديم» (1984). ورضوان السيد في تحقيقه لـ حكاية «الأسد والغواص» (1978).
   أما الأبرز في جهود البحث عن التراث السردي فهو موسى سليمان في كتابه السالف الذكر، ويقع في خمسة مجلدات، حوى المجلد الأول دراسة نقدية للقصص العربي في أنواعه وألوانه جميعها، وخصص المجلدات الأربعة الأخرى لمختارات من القصص العربي الدخيل (لاحظ التسمية!) والأصيل، لأنه يوزع القصص إلى دخيل أو منقول، وهو الذي اقتبسه العرب عن غيرهم اقتباساً، وقصص موضوع أو عربي صميم، وهو من وضع العرب، ومن نماذج المنقول «كليلة ودمنة» و«هزار افسانه» عن الفارسية، و«سندباد الكبير والصغير» و«ألف ليلة وليلة» أو بعض حكاياتها عن الهندية، وهذا رأي لم يعد مقبولاً إثر اكتشاف أصول عربية لهذا السفر الخالد([75]).
    ولا نغفل في هذه الإلماحة عن قصص العشاق النثرية التي دعمت البحث في التراث السردي، وتزخر كتب التراث بهذا النوع القصصي الذي نشأ في أحضان الإسلام الأول، واتسع في العصرين الأموي والإسلامي، ونفع في تطور الفن القصصي الذي كان يواجه الاستنكار والإكراه، ويلحظ عبد الحميد إبراهيم (مصر) في كتابه «قصص العشاق النثرية في العصر الأموي» (1972) أن شخصية الراوي ظهرت في هذا النوع القصصي أقرب إلى النضوج، إذ فقد اسم «الراوي» المعنى الحقيقي، وهو الحرص على صحة الخبر، والرجوع به إلى مصادره الحقيقية، و«أصبح ـ كما في القصص الشعبي ـ خيالاً يخترع للحلية والتمويه. وهذا يجعلنا نتحرج أشد الحرج في قبول أسماء كثير من الرواة فما أسهل أن يخترع اسم راو، كما يخترع بطل قصة، أو كما يخترع أي عنصر من عناصر القصة، وإذا كان أحد الشعراء قد سئل عن ليلى التي يشبب بها، فقال هي قومي، فليس ببعيد أن يسأل رجل عن هذا الراوي الذي ذكره، فيقول: هو عصاي»([76]).

2-6-2-2- الخبر:
   وعني الباحثون والنقاد بفن الخبر على أنه مقاربة لفن القصة مقايسة للقصة القصيرة في معمارها الغربي، كما أوضحت في كتابي «القصة العربية الحديثة والغرب» (1994)، ونمت نظرة جديدة إلى فن الخبر على أنه فن قصصي، كما في الأبحاث التالية «فن الخبر في تراثنا القصصي» (فصول 1984)، و«النص الأدبي: مظاهر وتجليات الصلة بالقديم» (1988) لصدوق نور الدين (المغرب).

2-6-2-3- المسامرة والمنادمة:
  رأى الباحثون في أخبار الجلساء والندماء مادة سردية غنية بالأحاديث والحوارات، بل إن كثيراً منها يتلفع بمتن حكائي. وقد صوب جمال سرحان (فلسطين) في كتابه الرائد في هذا المجال «المسامرة والمنادمة عند العرب حتى القرن الرابع الهجري» (1981) النظرة إلى مفهوم مجالس المسامرات والمنادمات، إذ لم تكن مخصصة للعبث واللهو ومعاقرة الخمر، ولكن، وبعد عرض تاريخي استطاع الدارس أن يزيل ذلك عندما تناول المجالس المختلفة في بلاط ذوي السلطان، فوجد أن جانباً من تلك المجالس كان مخصصاً لإنشاد الشعر أو المناظرات العلمية، أو الأحاديث الدينية أو الدنيوية، هذا بالإضافة إلى جانب آخر عني بالغناء والعبث والمجون»([77]).
   ومن الواضح أن سرحان اهتم بأثر المسامرات والمنادمات على الأدب بعامة، دون أن يتقصى طابعها السردي، بينما حفل كتابه بمسامرات ومنادمات على هيئة الخبر أو الحكاية أو القصة.

2-6-2-4- المناظرات:
   ووجد الباحثون في المناظرات والجدل مادة قصصية وسردية، مما جعلها مجالاً من مجالات البحث عن التراث السردي. ولا يخفى أن النقد الأدبي غفل عنها باستثناء إشارات لدى مؤرخي الأدب العربي القديم، وقد غمط بعض الباحثين قيمة المناظرات السردية والقصصية ، وإن أقروا باتساع الخيال ضمن خصائصها، وفي أحاديثها الحكائية، كما في كتاب أحمد أمين مصطفى (مصر) «المناظرات في الأدب العربي إلى نهاية القرن الرابع» (1984) الذي يؤكد مؤلفه «أن المناظرات كانت سبباً مهماً من الأسباب التي عملت على وضع قواعد علم البلاغة وتأليف صحائف في علم البلاغة، حيث كان المتناظرون حريصين على كلّ ما يمكن لهم عند المستمعين، ويجعل كلامهم يصل أعماق القلوب»([1])، ويفيد هذا الرأي أن أمثال هؤلاء الباحثين لم يلتفتوا إلى القيمة السردية للمناظرات على الرغم من أن غالبيتها تصاغ بأساليب السرد. وثمة آراء مضللة لدى أحمد أمين مصطفى بتأثير الاستشراق حين تعريفه للمناظرة، أو حين حديثه عن نشأتها، جازماً «أن فن المناظرة لم يعرف إلا بعد ظهور الإسلام»([2]).


ثم تطور البحث في المناظرات نحو الاهتمام بما تحمله من أصول الأجناس الأدبية السردية كالقصة والرواية، وفي اكتناز نصوصها للتخييل، كما في كتاب عبد الله التطاوي (مصر) «الجدل والقص في النثر العباسي» (1988). وقد أعلن في مقدمته عن وقفته المتأنية «عند ملامح القص باعتبارها ظواهر فنية متميزة لدى بعض مثقفي العصر ممن أعجبتهم مواهبهم الخاصة، فراحوا يرصدونها فناً جماهيرياً يستمتعون بانعكاساته على الناس»([3]).
   وغني عن القول، إن الانتباه لقابليات الجدل القصصية، وهي مادة المناظرات الأساسية، ساعد في معرفة الانتقالات الكبرى في مناهج الكتابة النثرية باتجاه تطور فنّ القصّ، ويوضح التطاوي كيفية تأثير الجدل على تطور عناصر القصة في المقامة المغيرية مثالاً، وتطور أسلوب القص الواقعي في مقامات الحريري من خلال «المقامة الإسكندرانية» وطبيعة القص الخيالي في «رسالة الغفران»، وهي كتابات تندرج في ذلك الجدل الذي استخدم باتساع في الأدب العربي القديم.

2-6-2-5- السيرة الذاتية:
   ونشط البحث عن السيرة الذاتية بذاتها، ثم بوصفها سرداً، وأطلق لأول مرة شوقي ضيف (مصر) في كتابه «الترجمة الشخصية» (1956)، وتلاه محمد عبد الغني حسن (مصر) في كتابه «التراجم والسير» (1957). وتعزز البحث في السيرة عبر إقدام نشر سير تراثية أو إعادة صوغها، مثلما فعل فريد جحا ومحمود فاخوري (سورية) في نشرهما «لسيرة ابن سينا» (1981)، أو مصطفى نبيل (مصر) الذي أعاد صوغ بعض السير في كتابه «سير ذاتية عربية» (1992).
   غير أن شوقي محمد المعاملي (مصر) خطا خطوات واسعة في البحث عن التراث السردي من خلال السيرة الذاتية في كتابه «السيرة الذاتية في التراث» (1992)، أقر بأن السيرة الذاتية اصطلاح مستحدث، في الوقت الذي رأى فيه أن تراثنا حامل نتاج غزير ينتمي إلى هذا الجنس الأدبي، مثلما لاحظ تسرع بعض النقاد والدارسين في إنكار وجود عدد من الفنون في تراثنا كالقصة والمقالة والسيرة الذاتية، وفي هذا كله شيء من التناقض، سرعان ما بدده إيمانه أثناء دراسته «للترجمة الذاتية في أدبنا الحديث أن مجرى هذا الفن في ثقافتنا العربية موصول لا ينضب، وليس صحيحاً ما يتوهمه بعضهم من أن الذين ترجموا لأنفسهم في العصر الحديث كانوا مقلدين للغربيين في جميع الأحوال»([4]).
   غدا المعاملي مدافعاً عن أصالة السيرة الذاتية في الموروث السردي، فانتقد آراء المستشرقين أمثال فرانز روزنتال وكارل بروكلمن، ومن احتذاهم أمثال شوقي ضيف في كتابه «الترجمة الشخصية» (1956)، كما انتقد المعاملي نقاداً ممن سبقوه أمثال إحسان عباس في كتابه «فن السيرة» (1956)، وهي، برأيه، دراسة «لم ترسم الخط البياني لتطور السيرة بالإضافة إلى إغفالها الكثير من النماذج الهامة»([5]).
   أوضح المعاملي بعض ملامح تطور السيرة الذاتية في الأدب العربي، فأشار إلى أن استخدام العرب لكلمة «سيرة» أسبق من استخدامهم لكلمة «ترجمة»، لأن أول من استخدم كلمة «ترجمة» هو ياقوت الحموي (ت 626 هـ)، غير أن حصيلة المعاملي من بحثه لم تكن بالشأو الذي طمح إليه نفسه، سواء في التوصل إلى تعريف جامع مانع للسيرة الذاتية، أو في حدود ممارسة العرب لكتابة السيرة الذاتية، وفيها بعض التأثير الفارسي واليوناني المبكر على أن ذلك «تعميم لا يؤيده دليل قوي، فالسير الذاتية قد تعددت مناهجها بعد ذلك، وتباينت أغراضها وغايتها، فمنها ما كتب لاجترار (؟!) الذكريات استمتاعاً باستحضار الماضي، ومنها ما كتب للاعتبار، ومنها ما كتب للتطهير والتخفف من ثورة وانفعال، ومنها ما كتب للتحدث بنعمة الله وشكره على مننه كما... في سيرة عبد الوهاب الشعراني»([6]).
   ربما كان كتاب المعاملي هو الأوسع استقصاء للسيرة الذاتية في التراث، ولا سيما السيرة المغمورة أو البعيدة عن الأضواء، كالسير في إطار التكوين الفكري والنتاج العلمي (سير العلماء)، وسير الإحساس بالذات إزاء الكون (سير المتصوفة)، وسير الاعترافات، وسير صور الذات ملتحمة مع الآخرين، كالسيرة المؤيدية ومذكرات الأمير عبد الله بن زيري، وسيرة عمارة اليمني، ورحلة ابن خلدون. ثم محص المعاملي عناصر الفن القصصي في السيرة الذاتية الموروثة، بأدواته النقدية التقليدية، واعتماداً على متواتر القول لنقاد سابقين مثل إحسان عباس، الذي وجه إليه في مقدمته، نقداً قاسياً، بينما أعاد بعض آرائه النقدية (انظر ص 240 على سبيل المثال)، ناهيك عن غلبة الدراسة اللغوية الوصفية لأساليب السيرة الذاتية، غافلاً مصطلحات نقد السيرة كالسرد والحكائية وسواه، مؤثراً التعامل مع أدوات النقد التقليدي، كتقصي الدلالة والدوافع والغايات، والكشف عن أثر الوراثة والبيئة والصدق والصراحة وتصوير الصراع والبناء بعبارات عامة.
   ثم وضعت مها فائق العطار (سورية) كتاباً كبيراً عن السيرة في جزأين، الأول «السيرة الفنية في الأدب العربي حتى أوائل الثمانينيات» (1995)، والثاني «فن السيرة الذاتية في الأدب العربي حتى أوائل الثمانينيات» (1997). وقد فعلت العطار، مثل بقية دارسي السيرة الفنية والسيرة الذاتية، فعرفت بالسيرة، وتتبعت نشوئها في الغرب وعند العرب، ودوافع كتابتها عند العرب، وارتباط ذلك بسيرة الرسول الكريم (ص)، وأنواع السيرة العربية القديمة، وموازنة بين السيرة العربية والغربية، والأسباب التي أدت إلى تأخير ظهور السيرة الفنية في الأدب العربي الحديث، ونشأتها وأهم السير الفنية، ومناقشتها من جوانبها المختلفة وتحليلها تحليلاً نقدياً. ودرست في الكتاب الثاني السيرة الذاتية، والسيرة الذاتية العربية ونشأتها في الأدب العربي الحديث، وأهم السير الذاتية عند طه حسين وميخائيل نعيمة وكاظم الداغستاني وسلمى الحفار الكزبري ومراد السباعي، والخصائص الفنية. إن كتاب العطار بجزأيه هو الأوفى والأشمل حتى وقت صدوره، ويتميز عن سواه بتحليلاته الفنية الغنية.

2-6-2-6- العجائب والغرائب:
   واهتم الباحثون والنقاد العرب بالسرد العجائبي والغرائبي بذاته أيضاً. إن ثمة عجائبية وغرائبية في كثير من النصوص السردية التراثية، ولكن التراث السردي العربي عرف ألواناً من السرد العجائبي والغرائبي ما تزال موضع إدهاش حتى يومنا هذا، وهي مبثوثة في المصنفات العربية القديمة، ولا سيما الجغرافية أو ما يتصل منها بأدب الرحلات. وقد أعاد عدد من النقاد والباحثين العرب نشر مختارات منها، مثل «عجائب الهند» (1992) ليوسف الشاروني و«جغرافية الوهم» (1993) لحسني زينة، و«ذخيرة العجائب العربية ـ سيف بن ذي يزن» (1993) لسعيد يقطين. وقد ذكر صبري حافظ أن كتاب حسني زينه تعبير عن «الأقاليم التي ابتدعتها المخيلة العربية. تصنع عالماً كاملاً، ينهض من ثنايا تلك المختارات المدهشة، ليرد عن المخيلة العربية الكثير من الاتهامات الظالمة التي لحقت بها»([7]).
   وأورد سعيد يقطين في تقديمه لمختاراته أسماء بعض المصنفات الكثيرة في هذا المجال، وحقق بعضها، ونشر مثل «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني في عام 1973.

2-6-2-7- الأسطورة:
   وقد اشتدت العزيمة لبحث الأسطورة تالية لعمليات وعي التراث السردي الشعبي والأدبي، ومتداخلة معها، لاكتناه آفاقها في الذهنية العربية من جهة، وتثميراً لإمكاناتها السردية من جهة أخرى. وثمة أبحاث ودراسات كثيرة حاولت الإحاطة بالبعد الأسطوري في المكونات الثقافية العربية وامتدادها المستمر والراهن، وهذا واضح في الأعمال التالية على سبيل المثال، لا الحصر: «في طريق الميتولوجيا عند العرب» (1958) لمحمود سليم الحوت (فلسطين)، و«المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (1970) لجواد علي (العراق)، و«الطوفان في المراجع المسمارية» (1975) لفاضل عبد الواحد علي (العراق)، و«مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» (1976) لفراس السواح (سورية)، و«الأساطير: دراسة حضارية مقارنة» (1979) لأحمد كمال زكي (مصر)، و«البطل في الأدب والأساطير» (1979) لشكري محمد عياد (مصر)، و«ملاحم وأساطير من أوغاريت» (1980)، و«ملاحم وأساطير من الأدب السامي» (1989) لأنيس فريحة (لبنان)، و«من الأساطير العربية والخرافات» (1980) لمصطفى الجوزو (لبنان)، و«إمبراطورية إبلا» (1989) لعلي القيم (سورية)، و«الوعي الجمالي عند العرب قبل الإسلام» (1989) لفؤاد مرعي (سورية)، و«الأسطورة عند العرب في الجاهلية» (1988) لحسين الحاج حسن (لبنان)، و«الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة» (1992) و«العنف والمقدس والجنس في الميتولوجيا الإسلامية» (1994) لتركي علي الربيعو (سورية)، و«موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها» (1994) لمحمد عجينة (تونس).. الخ.
كان خليل أحمد خليل من أوائل المفكرين العرب الذين طرحوا أسئلة الأسطورة على الثقافة العربية الحديثة في كتابه «مضمون الأسطورة في الفكر العربي» (1973). وعلى الرغم من تأثره الواضح بأفكار عالم الإناسة البنيوي المعروف ليفي شتراوس، فإنه مس عدداً من القضايا الراهنة حول حضور الأسطورة في نسيج التعبير الشعبي والسلوك الاجتماعي في الوقت نفسه، على أن الأسطورة، بعد ذلك «تشكل جزءاً مهماً من البنية الأيديولوجية للمجتمع يمكنها من أن تغير أو تؤخر المجتمع حسب موقعها من بنيته الحتمية»([8]) حسب تقديم فؤاد شاهين للكتاب، وما يعنينا هو ارتياد خليل أحمد خليل لمناطق بحث بكر، ولا سيما دراسته للأسطورة بوصفها فلسفة العرب الأولى، من خلال أسطوريتين عربيتين صرف هما «ناقة الله»، و«ارم ذات العماد»، ومتابعته «لمسلسل الأساطير الإسلامية والشرقية الذي ظل يتكرر حتى أواخر العصور الوسطى»([9]).
وثمة رأي قابل للنقاش حول التجارة محوراً للاحتفالية العربية القديمة، مما سيكون مثار أبحاث تالية مثل بحث فكتور سحاب (لبنان) «إيلاف قريش: رحلة الشتاء والصيف» (1992)، وبرهن خليل عن نظرته بتخصيص الفصل الأطول من كتابه «لأسطورية الجنس والتجارة في ألف ليلة وليلة»، وهي نظرة لا تخلو من آثار المثاقفة بالتركيز على الفنطزة والغرائبية.
وتحتل أبحاث فاضل عبد الواحد علي (العراق) أهمية خاصة في الكشف عن السرد الأسطوري القديم، كما في كتابه «الطوفان في المراجع المسمارية» (1975)، ويقدم فيه نصوصاً أدبية وسردية عن قصة الطوفان، لا تسجل فقط «تفاصيل وافية عن هذه الكارثة المروعة التي تعرض لها الجنس البشري في قديم الزمان، وإنما لأنها تحتوي أيضاً ـ وخاصة النسخة البابلية ـ على تفاصيل دقيقة في غاية الأهمية عن معتقدات السومريين والبابليين بخصوص خلق الإنسان»([10]).
وتابع علي جهوده بعد قرابة عقدين من الزمن، في كتابه «سومر أسطورة وملحمة» (1997)، ويحوي الكتاب آخر ما استجد في حقل النصوص الأدبية المسمارية التي دونت بالسومرية والأدبية/ البابلية. ويؤكد في كتابه أن نظرة سريعة على تفاصيل محتويات هذا البحث «ترينا أن السومريين لم يتركوا ضرباً من ضروب الأدب إلا طرقوه: الملحمة والأسطورة، أدب الحكمة وأدب السخرية، كما أنهم ألفوا في الغزل، وكتبوا التراتيل والصلوات لتمجيد آلهتهم، ونظموا قصائد في رثاء ذويهم وأعزائهم، وفي رثاء مدنهم»([11]).
ويؤشر كتاب حسين الحاج حسن (لبنان) «الأسطورة عند العرب في الجاهلية» (1988) إلى آفاق البحث العربي عن الأساطير العربية القديمة، تطويراً لشغل باحثين سابقين أشرنا إلى أبرزهم، فيخصص فصلاً لتعريف الأسطورة ونشأتها، وفصولاً للأساطير الاجتماعية، الحياتية والخيالية، والأساطير الدينية، العبادات المختلفة وعبادة الأصنام. ومن تفصيله للأطوار التي مرت بها الشعوب البدائية، يذكر حسن: عبادة الأشخاص، عبادة الجن، تشكل الجن، عبادة الملائكة، عبادة الروح، عبادة الشمس، عبادة القمر، عبادة النار، عبادة الأشجار، عبادة الكواكب([12]).
غير أن «موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها» لمحمد عجينة هي الأوفى في بابها، إحاطة شاملة بموضوعها: مدخل إلى الأساطير، أساطير الخلق والأصول، أساطير الكواكب، أساطير المظاهر الطبيعية، أساطير الكائنات اللامرئية، أساطير البطولة والمؤسسات الإنسانية، مميزات الكون الأسطوري عند العرب ودلالاته. ولا يماري أحد في الثراء الأسطوري العربي، فثمة تعريفات لكل نوع، وتفريعات لهذه التفريعات، وسأذكر نموذجاً من أساطير المظاهر الطبيعية، فهي تحوي الأنواع الرئيسة التالية:
الأساطير ذات الصلة بالتربة والحجارة والجبال. 
الأساطير ذات الصلة بالماء والآبار ومنابع المياه.
الأساطير ذات الصلة بالنار.
الأساطير ذات الصلة بالشجر والنبات.
الأساطير ذات الصلة بالهواء والريح.
أساطير الحيوان.
الأساطير ذات الصلة بالحيوانات الوحشية.
تقديس الحية ـ الجان.
الطير في الأساطير.
حيوانات أسطورية.

أما النوع الفرعي الأخير، فيضم:
الهامة.
أسطورة العنقاء.
العنقاء وخالد بن سنان العبسي.
العنقاء وحنظلة بن صفوان.
العنقاء والبوم وسليمان في قصة رمزية.
البراق([13]).
إنه بحث واسع وعميق عن الموروث السردي العربي، وهو شديد الثراء، في تنوعه وتعدد دلالاته. صحيح أننا عرضنا لأشكال من التراث الأدبي الشعبي، ولكن هذه الأشكال جميعها سردية، وهي في أساس تطور السردية العربية القديمة، وكان ظهر كتابٌ شاملٌ عن «التراث القصصي عند العرب» (1991) لمؤلفه مصطفى عبدالشافي الشوري (مصر) يرى فيه أن هذا التراث ممتد بجذوره في الثقافة العربية وممتد في العصور الأدبية كلها، غير أنه لا يضيف شيئاً إلى جهود البحث عن هذا التراث، لأنه مسبوق وغير دقيق. ومن المفيد أن نشير إلى أن الغربيين أنفسهم صاروا يعترفون بقيمة هذا التراث وتأثيره على تراث الإنسانية عموماً، كما في كتاب ا.ل. رانيلا «الماضي المشترك بين العرب والغرب: أصول الآداب الشعبية الغربية» (1986- وقامت بترجمته نبيلة ابراهيم عام 1999).

2-7- تأصيل النقد القصصي والروائي:
لم تبدأ الاتجاهات الجديدة من فراغ، ولم تتكون فجاءة. وإذا كانت الاتجاهات الجديدة في جوهرها تعبيراً عن نزوع علمي ومعرفي، وتعبيراً عن التطلع إلى التحديث، فإن عشرات النقاد المنتشرين في الوطن العربي قد مثلوا الانعطافة إلى الاتجاهات الجديدة من خلال سعيهم إلى تأصيل المناهج النقدية طلباً للموضوعية والعلم والتقليدية، بمعنى إدراج النقد ضمن تقاليده الأدبية والنقدية، والتأصيل يعني في الوقت نفسه استنهاض الأصول والاستمرار في السعي المشترك لتحديثها. وقد اخترت في هذا المنحى نقاداً ألمعيين عرفوا بجهودهم في تأصيل النقد العربي الجديد في رحلة التحديث الشائكة والمعقدة، لا تشغلهم الاتجاهات الجديدة المغالية، ولا يلتزمون بنهاجياتها، مؤثرين تثمير الأنساق الثقافية والنقدية واللغوية معرفة نقدية أصيلة، بما يتيح في الوقت نفسه المناخ لإدغام الاتجاهات الجديدة في اعتمال الناقد العربي الحديث بتاريخه وذاته، وهذا جلي في أعمال خلدون الشمعة ومحي الدين صبحي وانطون مقدسي (سورية)، وجبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي وإحسان عباس وحسام الخطيب (فلسطين)، وخليفة التليسي (ليبيا)، وعبد العزيز المقالح (اليمن)، وعبد الواحد لؤلؤة (العراق) ولويس عوض وغالي شكري وعز الدين إسماعيل ورجاء النقاش وشكري عياد وعبد القادر القط ومصطفى ناصف وفاروق عبد القادر (مصر) ومحمود طرشونة (تونس) وسواهم. واكتفي بعرض نماذج تمثيلية لشغل بعض هؤلاء النقاد للتدليل على طبيعة التأصيل وشؤونه ومناحيه ومراميه.
وابدأ مع مصطفى ناصف، وهو ناقد صاحب مؤلفات نظرية وتطبيقية في النقد والقضايا النقدية، دعا فيها إلى تطوير التراث النقدي بالاستفادة من المناهج الحديثة، ولا سيما النقد الأنجلوسكسوني في عنايته بالمعنى ومعنى المعنى، والكشف عن المستويات المتعددة لفهم النص، انطلاقاً من النص بالدرجة الأولى. وقد توقفت عند كتاب مبكر له، لأهميته في هذا السياق، ولا سيما نقد القصة والرواية، هو «رمز الطفل في أدب المازني» (1965). إنه عمل ريادي في النقد الحديث للقصة والرواية، لا يقطع وشائجه مع تراث النقد النقدي والبلاغي، ولا يسقط على النص المؤثرات الخارجية، بل يبدأ من الأعمال ذاتها باحثاً عن البعد الآخر للمعنى في دراسة قائمة على مسألة الرمز والاستعارة والمعنى وقضية التفسير. لا يثقل ناصف نقده بالمراجع والحواشي أو التمهيد المنهجي أو معاضلة تنسيب الكاتب إلى اتجاه أو مدرسة أو مذهب معين، مستعيناً بقدر من التعاطف والمحبة، ومتسلحاً برؤية نقدية وبآلياته التفسيرية والشارحة، تلمساً لفكرة أبعاد المعنى. إنه نقد تأويلي يستخدم لغة النقد الموضوعي وبعض إجراءاته، ويثير هذا الشغل مدى نضوج الاتجاهات النقدية. وقد أوضح ناصف أنه ليس معنياً بمجادلة «الذين أحسنوا إلى أدب المازني بدراستهم له، وإنما عناني أن أقدم تفسيراً أو قراءة متميزة بوجه ما فيما أعتقد. ومن حق كل كاتب أن يقرأ قراءات مختلفة، ومن الممكن أن يحمل أدبه على وجوه متنوعة. ومن أجل ذلك وقفت، في بعض الأحيان، عند أعمال معينة تثير مسائل أساسية في فن القراءة وفهم المازني. لم يكن مقصدي ـ إذن ـ هو ما نسميه التكنيك، وإنما قصدت ـ دائماً ـ إلى أن أقرأ النص قراءة متعمقة، أو أن أبحث عن المعنى»([14]).
أعلن ناصف أن هدفه من مناقشة المازني هو قراءة العمل قراءة تحليلية من أجل الكشف عن أغواره ودلالته على عقل المازني([15])، وهو لا يأتي العمل من خارجه، بل من داخله، مقاربة لشبكة علاقاته في مستواها البسيط، والعميق المجازي. وغالباً ما يبعث ناصف في نقده وفرة معرفية قوامها خزانة ثقافية ينهل منها الناقد ما يعين على سبيل القصد وعلى ثراء اللغة بالمعنى. كما في مثل هذا التحديد الصارم:
«مقصد الساخر إذن يختلف عن مقاصد غيره من الكتاب. حقاً إن الكتاب الساخرين يختلفون، كثيراً، في المزاج والتناول. ولكن مقصدهم جميعاً مقصد عملي واحد، هو التأثير في اتجاه القاريء واعتقاداته أو أفعاله»([16]).
وتتضح لغة ناصف في استعماله المحدد لمصطلحات النقد الجديد، الموضوعي في عنوانات فصول كتابه: النظام والتجربة الفردية، التوتر والمفارقة في تجربة الفنان، الحب ومعنى الثقافة، الموت: رمز العودة إلى الطفولة، أبعاد فكرة الموت، المعرفة والتعاطف، متاعب الطريق إلى الفن، المازني الناقد ومشكلات فنه، رمز الطفل. غير أن ناصف أخضع هذه المصطلحات لصوغه الخاص بما يجعل قراءته شديدة الجاذبية والثراء، وبما يساعد على إدغام نقده في جهود جيله التأصيلية. ويفيد مثل هذا الرأي أن الناقد لا يتأثر باتجاه محدد، أو يكون أميناً له.
ووضع حسام الخطيب مؤلفات نقدية كثيرة في نظرية الأدب والأدب المقارن والأدب الأوروبي، ونقد النقد، بالإضافة إلى ثلاثة كتب في نقد الرواية والقصة، هي علامات في مسيرة النقد الأدبي العربي الحديث على تأصيل النقد المخصص لهذه الأجناس الأدبية الحديثة، والكتب الثلاثة، هي «سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية الحديثة» (1973)، و«الرواية السورية في مرحلة النهوض» (1975)، و«القصة القصيرة في سورية: تضاريس وانعطافات» (1982). وقد سمى الخطيب منهجه تكاملياً جديداً، يستند إلى إنجازات النقد الأنجلوسكسوني الجديد، غير أنه يشد الركاب إلى منهجه الخاص خلل تفاعل مكونات شغله النقدي الذي يقوم على التحليل والتفسير والتقييم والتذوق والانتقائية([17])، ومراعاة خصائص الجنس الأدبي المنقود في فنيته ونظامه الداخلي وانتمائه إلى نسق ثقافي تاريخي، وهذا واضح في إيضاحاته المسبقة لمصطلحاته ومنهجه وأهداف دراسته، فهو متمكن من آلياته النقدية، ومتملك لفكر نقدي متواصل مع أصول النقد العربي واستمراريته، بالقدر نفسه الذي يتفاعل فيه مع التراث النقدي العالمي، وربما لهذا السبب كانت دراسته النقدية الأولى المعتبرة بحثاً في «المؤثرات الأجنبية» أمام ناقد معني بالهوية الثقافية لأدبه ولنقده العربيين. إنه مولع بالنقد الأصيل الذي يستجيب لطبيعة الأعمال الأدبية العربية، ويحافظ على محليته وهو يتحرك في فضاء الإنجاز النقدي العالمي الحديث. ولنلاحظ شيئاً من دقته وحدوده الصارمة ولغته النقدية الصافية: 
«بالنسبة للمؤثرات الأجنبية، يعنى البحث الحالي بإبراز المؤثرات القصصية المباشرة والتركيز على دراسته الشكل الذي اتخذته في القصة السورية الحديثة، مع إظهار المؤثرات الأخرى الفكرية الفنية بمقدار ما يكون لها من علاقة بالموضوع المدروس. أما المقدمات الطويلة عن تأثير الغرب في الشرق، وعن تاريخ عصر النهضة، وعن التأثيرات العقائدية، فتلك أمور، على الرغم من أهميتها في بحث كالبحث الذي أقدمه، تدخل في نطاق اختصاص باحثين من نوع آخر. ومن واقع الدراسات الأدبية العربية التي قرأتها يخيل إلي أن الباحث الأدبي لا يستطيع أن يعطي في مثل هذه الأمور إلا آراء ذات طابع عام من جهة، ومن جهة ثانية هناك خطر الانزلاق وراء مثل هذه البحوث والتركيز عليها أكثر من التركيز على الظاهرة النوعية المدروسة»([18]).

ومن المأمول ألا يوحي ذكر هؤلاء المؤصلين بأنهم ينتمون إلى اتجاه واحد، فهم يتفقون في الاشتغال على التأصيل، ويختلفون في مناهجهم ويتفاوتون في تمثلهم أو تمثيلهم لهذا المنهج أو ذاك.
مهد الخطيب لنشأة القصة السورية الحديثة وتطورها في إطار القصة العربية، وأجاب عن أسئلة التطورات الثقافية والمؤثرات الأجنبية في المراحل الثلاثة لهذا التطور: المرحلة الأولى (1937-1949)، المرحلة الثانية (1950-1958)، المرحلة الثالثة (1959-1967)، وتقصى الملامح الخاصة للتيار الوجودي وأدب الضياع في القصة السورية، إذ برز التيار الأول ابتداء من الخمسينيات في المرحلة الثانية، بينما شاع أدب الضياع على أقلام القصاصين والروائيين منذ أواخر الخمسينيات في المرحلة الثالثة.

وأورد دراستين تطبيقيتين للمؤثرات الأجنبية من خلال مثالين متباينين هما «في المنفى» (1963) لجورج سالم مقارنة مع «المحاكمة» (1963) لفرانز كافكا، والمثال الثاني هو «العصاة» (1964) لصدقي إسماعيل والمؤثرات الأجنبية، وقد اختارهما مثالاً للتأثر المباشر عند جورج سالم، ومثالاً للأبعاد المختلفة التي تمثلت فيها المؤثرات فكراً وفنّاً. وقد تميز نقد الخطيب، بوجه عام، بتحليله العميق وتقييمه الحصيف لطبيعة العمل الأدبي ولاستهدافه الفكري، كمثل قوله: «الحاكم في رواية سالم، كالقاضي في رواية كافكا، ظل مختفياً ومجهولاً، ولم يستطع أحد أن يعرفه أو يتوصل إليه، وكان يُعرف بأعماله وآثاره، لا بشخصيته، وفي رواية كافكا بوجه خاص تبذل جهود مضنية لمعرفته أو التوصل إليه، وتنتهي بإخفاق تام»([19]).
ويلفت النظر في نقد الخطيب أنه لا يبتسر تحليله، أو يمده فيما لا طائل وراءه في اللغة أو إبداء الرأي، بل يجعل من نقده صوغاً مكثفاً دالاً على طبيعة العمل ومعناه، كما في تحليله لرواية «العصاة»: «إنها رواية أفكار، لا رواية ناس، وحتى من الناحية الكمية الخالصة، يمكن أن نقول إن صفحات المناقشة والتحليل الفكري تغلب كثيراً على صفحات القص، وفي الوقت نفسه تتغلب المادة السياسية حجماً وعمقاً على ما سواها. وإن كان لها منافس آخر في الرواية، وهو المادة السيكلوجية التي حسب لها الكاتب حساباً كبيراً خلال الرواية حتى لنحسب أنه أسرف فيها إسرافاً لا تحتمله رواية ذات موضوع شامل كهذه مما يجعل الحديث عن هذا العنصر يشكل مستقل ضرورياً عند الحديث عن شخصيات الرواية»([20]).
من الواضح، أن الخطيب يستعمل مصطلح «القصة» للدلالة على أشكال النثر القصصي كلها، ما لم يردف المصطلح بوصف «القصيرة» تمييزاً لها من «الرواية». وكذلك فعل في كتابيه التاليين.
انطلق الخطيب على الدوام من إيمانه المطلق بوحدة المناخ الثقافي العربي، وهو ما أكده في كتابه «الرواية السورية في مرحلة النهوض»، فإن أية دراسة إقليمية لابد من أن يفضي بالضرورة إلى بيان عمق الرابطة بين الإطار المحلي والإطار القومي الشامل، بل لابد من أن تفضي إلى تأكيد وجود هذه الرابطة، مثلما أعلن حرصه على هذا المنهج القومي، فليست العبرة في أية دراسة حدود موضوع، وإنما منهجها، ويجب أن يوجه النقد إلى تلك الدراسات التي تتعمد التناول المنفصل للظواهر المحلية، وترتكب في ذلك بالطبع، حسب تعبيره، مخالفة منطقية ومنهجية شديدة، بالإضافة إلى المخالفة القومية.
يشابه نقد الخطيب ما سماه ف. ر. وليمز التمحيص «Scrutiny»، وهو اسم المجلة النقدية التي احتضنت تجربة النقد الجديد، ولذلك ظهرت عنايته الفائقة بالنظرية الأدبية، ولا سيما جلاء الموقف من قضية المؤثرات الأجنبية، ومن قضية التقاليد الأدبية والنقدية وأهمية تجذيرها في الفعالية النقدية. وتتسم أعمال الخطيب النقدية جميعها بهذه السمات: العمق، الوضوح، صواب الاتجاه، والعزيمة في السعي إليه، المعايير الدقيقة، ولا يقصر هذه السمات على مصنفاته التي صُنفت على أنها كتاب، وإنما في مقالاته وأبحاثه التي جمعها في كتاب مثل «القصة القصيرة في سورية: تضاريس وانعطافات»، وقد صرح الخطيب في مقدمة هذا الكتاب بسمة أخرى من سماته النقدية، أعني بها الانتقائية بقوله: «إن المحاولة الحالية ـ بوصفها انتقائية ـ لا يمكن أن تكون حصرية»([21])، ولعل دراسته الأولى عن مجموعة عبد السلام العجيلي «بنت الساحرة» (1948) نموذج طيب لشغله النقدي، فهو يضع العجيلي في مقامه الأدبي، والمجموعة في منزلتها الفنية والفكرية، ثم يفرد حكمه التقييمي، لتكون الدراسة برمتها برهاناً: «إن الفن عند العجيلي هو محاولة دائمة لاستكشاف الحياة وأسرارها، والحياة في عالمه القصصي مفعمة بالغرابة والغموض والتعقيد والتداخل»([22]).

ولا يخفى أن الخطيب دبج بحثاً نقدياً في خمسين صفحة من القطع الكبير ليعلل هذا الحكم التقييمي. وكان البحث الثاني، مختلفاً، تقصى فيه ظاهرة محددة هي «نهوض القصة القصيرة في الخمسينيات»، فحدد منهجه والخطوط العامة للمرحلة ونشاط الإنتاج القصصي، ونشوء تجمعات وقيم أدبية، لتتبوأ القصة القصيرة بعد ذلك الصدارة. ويتبدى في هذا البحث، على وجه الخصوص، اندغام إجراءاته النقدية، ما بين التحليل والتقييم، كما في مثل هذا الرأي المعلل أو المبرهن عليه:

«على أنه يمكن القول إن معظم كتاب المرحلة ادعوا الصلة بالواقعية بطريقة أو بأخرى، وأحبوا دائماً أن يزعموا لقرائهم أنهم منبثقون عن الواقع متحمسون بحرارة مشكلاته. وكما يمكن أن يستنتج من كل ما ذكر سابقاً كان التياران السائدان في الكتابة الأدبية، وهما التيار القومي والتيار الواقعي الاشتراكي، يؤكدان مسوغ وجودهما في التصاقهما الملح بالوقائع السياسية والاجتماعية للمرحلة»([23]).
وتمتح لطيفة الزيات (مصر) من المعين الأنجلوسكسوني إياه، مع ملاحظة التنازع بين اتجاه النقد الموضوعي في مؤلفات مثل «نجيب محفوظ: الصورة والمثال» (1989)، و«فورد مادوكس فورد و.. الحداثة» (1996)، وبين الميل الإيديولوجي في مؤلفات مثل «من صور المرأة في القصص والروايات العربية» (1989).
يوصف نقد الزيات بأنه أشبه بالإضاءة الفنية والفكرية لاحتفائه بالتحليل والتفسير العقلاني المنطقي لعناصر النص، فيعنى نقدها بالتقنية أولاً، وبالمضمون لاحقاً. بيد أن الزيات تسارع إلى إيضاح فترة كتابتها لغالبية مقالات وأبحاث كتابها التي تعود إلى مطلع الستينيات، وكانت في حينها شديدة الافتتان بمنجزات الرواية الأوروبية الحديثة، فاتجهت لدراسة تقنيات الرواية قصد «محاولة فهم المعنى العام للنص، واستنباط هذا المعنى من أطره الفلسفية المدرجة في كل رواية، وتأصيل الأسس الفلسفية لهذه الأطر»([24]).
عمدت الزيات إلى التصريح بأسلوبها النقدي، وهو إلقاء الضوء على عالم نجيب محفوظ القصصي من زوايا جديدة تقنية ومضمونية، ورهنت تحليلها إلى أهمية تحديد قيمة نجيب محفوظ تقنياً وفنياً مثل: «أن يخرج من نطاق التسجيل الفوتغرافي إلى نطاق التصوير الرمزي الذي يغني التجربة الواحدة بمستويات مختلفة من المعاني»([25])، فاستخدم نجيب محفوظ في «اللص والكلاب» (1965) ألوان التكنيك التي تتبع مجرى الشعور، وتمثل إنجازه في «إحداث التوازن المطلوب بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الداخلية، ربما لأول مرة في تاريخ القصة المصرية»([26]).
اعتنت الزيات بوجهة النظر للكشف عن نفسية الشخصية وطريقة تفكيرها، وعالجت بعمق وبنفاذ بصيرة تقنية توارد الخواطر: الذاكرة والحواس والمخيلة، والتفتت إلى المونولوغ الداخلي المباشر وغير المباشر. وانتقلت في مقالتها الثانية إلى معاينة نقدية للشكل الروائي من «اللص والكلاب» إلى «ميرامار» (1967).
رهنت الزيات بحثها عن المعنى بصوابية المنهج وسلامة التحليل وانسجامه، أما استخلاص الرؤية فتؤول إلى انبثاق ما يدعم الوعي من حقائق موضوعية. لا تورد الزيات المعلومات النظرية لذاتها، فتسري في نسغ النص بما ينفع في إضاءة تقنيات الرواية المدروسة التي تتمحور حول «الأغراض» وسبل بلاغتها وإبلاغيتها: وجهة النظر، المنازع النفسية، النجوى والحوار، البنيان والأسلوب، مستويات المعنى، مسار الشخصية، مفاهيم القدرية والحتمية، الحدث كوحدة فنية، نمط التوليف أو «المونتاج الروائي»، وعي الشخصية، النسق الفكري.
ولا تباشر الزيات أيضاً إطلاق أحكامها في تحديد فكر العمل الأدبي أو «غرضه» أو «قصده»، كما في هذا الرأي في رواية «الطريق» (1964): «في ظل هذه الخلفية في الطريق نستطيع أن نتبين مستويين للمعنى، أحدهما سطحي وملموس، والآخر أكثر تأصيلاً، وأن استخفى، وينطوي التعارض بين المستويين السافر منهما والمستقر على مفارقة حادة تعلق على طبيعة الوجود»([27]).
أفلحت الزيات في تأصيل النقد القصصي والروائي العربي الحديث، بمقدرتها العالية على استشفاف مطاوي الروايات ومعانيها، وبفطنتها الرحيبة على رؤية عالم هذا الروائي العظيم وتنازعه بين الواقع والمثال، وتحديد مصادره في فلسفة هيجل.
ونشرت الزيات كتابها «فورد مادوكس فورد و.. الحداثة» (1996) بعد قرابة عقدين من الزمن من كتابته الأولى باللغة الإنكليزية فيما بين عامي 1964 و 1970. وتعطي هذه المقالات فكرة دقيقة عن منهجها الموضوعي الذي ينهض من تراث نقدي أسهم بفعالية في مسعى الحداثة. والكتاب، بعد ذلك، برمته، إضاءة لاتجاه الحداثة من السياق النقدي والتنظيري للأدب في الغرب. تناولت المقالات ما يلي:
فورد رائداً من رواد المفارقة بمعناها الحديث كعنصر بناء في العمل الفني.
مقومات الحداثة في النقد الأدبي لتوماس هيوم وفورد: النظرة للحقيقة.
أسبقية فورد على اليوت فيما يخص العمل الفني وعضويته.
نظرية فورد النقدية ونقده التطبيقي والانفصام بين النظرية والتطبيق.
التفسير التحليلي لروايته شديدة الحداثية: «العسكري الطيب» (1915).
لا يماري أحد في نصاعة لغة الزيات النقدية، ودقتها، وتجنبها لغواية الإنشاء أو الذاتية، وتقليلها من الاعتماد على ملكة التذوق، إذ يندرج نقدها في المنهج الموضوعي. لنلاحظ هذا النموذج: ويتيح «استخدام ضمير المتكلم للراوي أهدافاً أخرى، كما ذهبت في تحليلي للرواية، وهو كحيلة أسلوبية يسبغ على الرواية طابعها البنائي القائم على اللبس والازدواج والأوجه المتعددة للتجربة الواحدة، كما يمدها بعدد لا نهاية له من التعديلات والتبديلات المبنية على المفارقة»([28]).
وبالقدر الذي كانت فيه وجهود الزيات النقدية جسراً إلى الحداثة، فإن كتابها عن فورد مادوكس فورد يسهم في توطين الاتجاهات الجديدة في وعي نظري جديد، وفي تطبيق مقارب لحدود الموضوعية التي تجعل من النقد الأدبي معرفة بذاتها.
بينما كان كتابها «من صور المرأة في القصص والروايات العربية» أقرب إلى التبشير العقائدي على إيمانه بتعدد المناهج، فالغالب على نقدها ميله الاجتماعي والأيديولوجي والتبشير الصريح. يرضي هذا الكتاب التوظيف المباشر للأدب في صراع الأفكار، وهي صفة غالبية هذه المقالات، وهي جعلت من موضوع المرأة مادة دراسية لتبيان مدى تأثير الأفكار في البناء الفني: المرأة كبش فداء، وبلغت وطأة الأفكار حداً أقصى، حين صار النقد الموضوعي أيضاً إلى نقد موضوعات، كمثل مناقشتها لأسلوب زكريا تامر، الذي يمسك «بالحقائق الرئيسية في مجتمعنا العربي الراهن، وهو يخوض أزمته الراهنة في إيجاز موجع، (لاحظ الخروج عن النقد!) وفي تصوير كاريكاتوري صارم يخرج بقصصه من باب التخصيص إلى باب التعميم. وكل قصة من قصص زكريا تامر عالم صغير متكامل مستقل بذاته يوحي إيحاءً دالاً ومكثفاً بالواقع العربي الذي نعيشه. وكل جزئية يتناولها زكريا تامر تحمل بذور الكلية أو بذور المجتمع مكتملاً، والكل هو جماع جزئياته، والكاتب يهتم بكل جزئياته، ويتمتع بالبصيرة التي تتيح له إدراج كل جزئية من الجزئيات في كليتها أياً كانت هذه الجزئية. وزكريا تامر إذ يحكي قصة حب أو زواج، أو جوع أو قتل، أو لحظة صفاء يكدرها عنف، يحكي قصة واقع بأكمله بكل مقوماته»([29]).
وبعد ذلك كله، يبين نقد الزيات كم تفسد الأيديولوجيا والتبشير بها النقد. قد يكون رأيها في قصص زكريا تامر صائباً، ولكنه إسقاط على النص دون تحليل، ولو في حدّه الأدنى، بينما استوى نقدها في كتابيها السالفين في المنهج الموضوعي الذي ترسخ خلال السبعينيات إشارة إلى أصالة نقدية.
ويمثل محمود طرشونة (تونس) نموذجاً آخر من نماذج تأصيل النقد، كما في كتابه «مباحث في الأدب التونسي المعاصر» (1989)، رابطاً بين التراث والحداثة داعياً إلى قراءة شمولية شرع بممارستها منذ دراسته للتراث السردي «مائة ليلة وليلة» (1979).
يعتمد طرشونة في تحليله الأسلوبي تسميات قصصية من التراث، ولا يجازف باستعمال مصطلحات السرد، فالحداثة عنده موصولة بلغتها وخصوصياتها الأدبية والثقافية، ورأى أن تضافر أربعة عناصر من شأنه أن ينشئ أدباً كونياً ذا إشعاع عالمي، وهي:
«- استلهام التراث.
- الانطلاق من قضايا المحيط الذي يعيش فيه الأديب.
- البعد الإنساني.
- القيمة الفنية»([30]).
وقد تحققت هذه العناصر في أدب محمود المسعدي الذي خصه بقسم من كتابه، شمل خمسة أبحاث وحواراً، والمسعدي رائد كبير من رواد التحديث بالموروث السردي العربي. أما منهج طرشونة فعماده التحليل والتفسير النصي أساساً، والعوامل المساعدة قليلاً.
أما محي الدين صبحي (سورية) فيغلب عليه المنهج الموضوعي مع ميل لا يخفى إلى إحلال التذوق مكانة أكبر في التطبيق، وقد خصّ نقد الرواية بكتابين هما «البطل في مأزق ـ دراسة في التخييل العربي» (1979)، و«أبطال في الصيرورة ـ دراسات في الرواية العربية والمعربة» (1980)، وهما يظهران جهده التأصيلي في مقاربة المنهج الموضوعي في بواكير تمثله الأولى في النقد الأدبي العربي الحديث، حيث تمازجه نزوعات نفسية أو فكرية، وأحياناً شعارية حين يجعل من الموقف الاجتماعي قيمة فنية في نقده لليلى بعلبكي، وهي روائية عربية من لبنان شغلت الساحة الأدبية والنقدية في الستينيات في أعمالها «أنا أحيا» (1958)، و«الآلهة الممسوخة» (1960)، و«سفينة حنان إلى القمر» (1962). وتخترق مثل هذه النزوعات كينونة العمل الأدبي، فتنزلق إلى اختلاطات التماهي بين الروائي أو القاص وأبطاله، وإلى التداخل بين مجتمع الرواية، وفعالية الكاتب، كما في هذه العبارة الختامية لنقد أعمال بعلبكي:
«وفي النهاية لابد من الاعتراف، بأن ليلى بعلبكي قد أضافت شيئاً أصيلاً إلى الرواية العربية.. وحاولت أن تكون فتاة طليعية في معركة التحرر الاجتماعي»([31]).
ويشير وضع العنوان ذاته إلى طريقة النقاد الموضوعيين حين يختزل أهم ما في الكتاب، أو يكون عاماً يدل على منحى الدراسة وموضوعها، وفكرة البطل في مأزق تختصر، برأيه، تصور الروائي للوضع البشري في مجتمعه، فالقاسم المشترك الذي يجمع بين أبطال الروايات والقصص جميعها هو أنهم كلهم في مأزق لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. وما يلبث صبحي أن يدلل على ظاهرة غالبة على أبطال التخييل العربي، عندما يجد السرد يتوقف عند المأزق ويترك البطل فيه. ثم يوسع الدلالة لتغدو أوضاع هؤلاء الأبطال مستوعبة لحال الإنسان العربي، إذ تعكس عجزه عن تغيير الواقع، «ولذلك، فإن الأبطال جميعهم يذهبون ضحايا تصديهم لهذا الواقع ومحاولة تغييره»([32])، وهذا أحد وجوه الظاهرة، وما يريده صبحي هو التحليل الذي يكشف عن المعنى، وليس مجرد الأحكام، غير أن هذا التحليل يحيل إلى المجتمع، ويسقط إحالاته على مجتمع الرواية. ولعل صوغ القصة القصيرة لا يبيح النظر إلى مقدرتها الفنية على صوغ مجتمعها الخاص مثل الرواية. وينطوي هذا الرأي على أن صبحي لا يعتني العناية اللازمة بالتجنيس الأدبي أو معياريته، فهو لا يكتفي بالنص، بل غالباً، يحيل إلى خارجه، إلى حدّ اتهام المؤلفة ليلى بعلبكي في الدراسة السالفة الذكر بالجهل، فالفوز دائماً لنقد الأفكار، كما يؤمن بها صبحي نفسه، وهذا واضح في نقده لعبد النبي حجازي، فقد جعل رواية «قارب الزمن الثقيل» (1969) تمثيلاً لهزيمة حزيران بين الانخلاع الطبقي والانحلال الخلقي، ورواية «الياقوتي» (1977) رواية التعطيل نحو المطابقة بين احتقار الذات واحتقار المجتمع، ويلفت النظر أنه يورد «التعطيل» ترجمة عربية صحيحة لمصطلح Suspense، ويضيف أن علماء الكلام المعتزلة استعملوه، ومن المثير أن المعنى يمتد إلى تعليق الفعل أو إرجائه، وقد مدّه صبحي إلى «التعطيل» أو «العطالة»، ولكنه يمضي في التحليل قليلاً أو كثيراً ليكشف عن أفكار العمل الأدبي وحدها، وليست هذه طريقة نقدية مرغوبة أو مأمونة في عرف النقاد الموضوعيين أنفسهم، ولا يكتفي النقد عادة بأسطر قليلة عن التقنية في ذيل النقد، كأن يقول الناقد: «والتقنية في الرواية مبسطة جداً، فالروائي خجول يستنكف عن عرض مهاراته التقنية بحيث يقتصر على طريقة واحدة في السرد دون تغيير يراد به إرباك القارئ»([33]).
ولا يختلف في كتاب «أبطال في الصيرورة» كثيراً عن سابقه، بل إنه يعيد نشر دراستين منه، وهما الدراستان المكتوبتان عن أحمد إبراهيم الفقيه (ليبيا) وعادل أبو شنب (سورية). وقد حاول صبحي تسويغ دراساته في كتاب لتندرج جميعها في عنوان كتابه الجديد الذي وجده «أصلح تعبير عن الشخصية العربية، في المرحلة الراهنة، كما صورتها مخيلة الروائيين العرب، فهذه الشخصيات جميعها غير مكتملة الملامح إلى حدّ بعيد. إنها في صميمها تعيش وضعاً انتقالياً بين ذاتها وذاتها، وبين وضعها ووضع آخر تتطلع إليه وبين مجتمعها كما هو والمجتمع الذي تصبو إليه، وهي تعي هذا الانتقال وتتقصده وتكافح من أجله»([34]).
ثمة آراء متداخلة وأحكام غير معللة، ولكن صبحي جاوز حدود الدراسة المفردة مما حواه الكتاب إلى إثارة قضايا نابعة من استعمال المنهج الموضوعي من أجل تصليبه ونفوذه في السيرورة النقدية الحديثة، ومنها الاستعانة بالتحليل النفسي، أو الولع بأحكام القيمة، أو البحث عن الهوية، أو استخدام مصطلحات وعبارات في غير محلها.. الخ، وتتلامح بعامة في كتابه مظاهر الإلحاح على الموضوع، وكأن الحرص على تجنب المنهج غاية بذاته، فيصير الناقد معلماً شارحاً لموقفه، ففي نقده لرواية رشاد أبو شاور «العشاق» (1979) يخرج عن النقد إلى حديث سياسي مباشر، حيث يشرح فترة العشرين عاماً الفاصلة بين الاحتلالين، واقتطفت منه بضعة أسطر:
«أما الأراضي العربية المعرضة للعدوان فتلقى كل قرية مصيرها وحدها دون نصير ولا معين. لذلك يخرج القارئ من الروائيين مظللاً بسحابة سوداء من الشك في المستقبل العربي، بعد أن يرى أن ثلاثين عاماً من الصراع لم تطور الاستجابة العربية كثيراً»([35]).
ينشغل صبحي بالأفكار كثيراً، ولكنه لا يغفل عن السرد كلية، وإن بدا أن اهتمامه بالسرد مطية أحياناً لقول هذه الأفكار، كما في تعليقه على «رباعية الإسكندرية» (1957-1960) للورنس ديرل. وفي دراسات أخرى يوازن صبحي في قراءة الرواية بين طوابع السرد ونداء الأفكار، كتحليله الماتع والمفيد عن مستويي السرد وصلتهما بالبطل الإشكالي في رواية عادل أبو شنب (سورية) «وردة الصباح» (1976).
نقد محي الدين صبحي نموذج لمجاهدة تكون المنهج الموضوعي في النقد إزاء مشكلات التعبير عن الأفكار والأخلاق والموقف القومي والمرحلية والمحلية والسيرة (طلب التماهي بين سيرة المؤلف وأبطاله)، ولعلها مشكلات تضاعفت وطأتها في إلحاحه على رؤية التخييل العربي في مدار ضاغط هو «البحث عن الهوية» كما في نصحه للروائيين العرب في كلمة كتابه([36]).
وأختتم حديثي عن تأصيل النقد ونماذج النقاد العرب الذين عنوا بفعالية النقد مستقلة، منهجية، كاشفة عن رؤية معرفية وجمالية وذوقية بفاروق عبد القادر (مصر)، وهو ناقد محترف ومدقق وجريء وشجاع، ولا ينساق وراء عقيدته والأيديولوجيا التي يؤمن بها، على الرغم من إعلانه لها، فيظهر ميل إيديولوجي شفيف في تلافيف نقده متلفعاً بحساسية نادرة إزاء التاريخ والراهن، إنه لا يخشى في الحق لومة لائم، وإن بدا له أن هذا الحق هو ما يراه وما يعتقده، وقد خاض عبد القادر معارك طويلة ومديدة مع رموز السلطان الثقافي في مصر، وهم على سدة عروشهم، ونشر مقالاته وأبحاثه في الدوريات الثقافية في مصر، وأعادها في كتب صدرت في مصر أيضاً، وتشير عنوانات كتبه إلى موقفه الفكري الجريء في رؤية واقع الثقافة العربية في مصر، وهي «أوراق من الرماد والجمر» (1988)، و«أوراق أخرى من الرماد والجمر» (1990)، و«من أوراق الرفض والقبول: وجوه وأعمال» (1993)، و«من أوراق التسعينيات: نفق معتم ومصابيح قليلة» (1996)، ويضيء موقفه الفكري والنقدي انتماء صريح وثابت للعروبة، وابدأ عرض صورة النقد عند عبد القادر من مقدمة كتابه الأخير، التي تحمل عنوان «مقتطفات من سيرة ذاتية ثقافية»، وكان منطلقه في الكتابة نبرة قلما يعترف بها المشتغلون في الفكر والأدب والنقد، وقلما يمارسونها:
«ليس للحقيقة وجه، وأن نفس الهدف يمكن بلوغه من أكثر من سبيل»([37])، ولعل أهم ما في هذه المقتطفات ثلاثة أمور، أولها تكوينه التربوي والثقافي حيث الشأو العالي للوالد، عاشق القرآن، «يرتله في الفجر وقبل الغروب، وكان حسن الصوت، سليم النطق، إنما عن ترتيله هذا، بشكل أساسي، حفظت معظمه، وألفته، وقرّ في قلبي»([38])، وتعلقه بالتراث العربي القديم والحديث، ودراسته لعلم الاجتماع والنفس، وأساتذته الذين أخذ عنهم ووجهوه إلى دروب العلم والنقد: مصطفى زيور ويوسف مراد ومصطفى صفوان، رواد علم النفس في الجامعة المصرية، وثانيها تجربته مع الأحزاب والعمل ومعترك الحياة: الأخوان المسلمين والماركسيين وفرص العمل الضائعة، ربما بسببهما، والأمن والوظيفة في الإعلام ومجلة «الطليعة» القاهرية التي صدّرت أعدادها بعبارة: «طريق المناضلين إلى الفكر اليساري المعاصر»، وثالثها اعتزازه بالحرية وصلابته في الدفاع عن الفكر التقدمي والقومي ومكابدته من أمثال يوسف السباعي «إيان سميث أو مكارثي الثقافة المصرية»([39])، لأنه ليس ثمة أثمن من الحرية بالنسبة إلى الكاتب.
سعى عبد القادر إلى منهجية النقد الموضوعي، وقد حقق أشياء، وفاتته أشياء، وهذا شأن مخاض تأصيل النقد، فهو يستغرق في النقد التطبيقي وينفر من التنظير، ويمتاز بالتحليل الفني والفكري الذي لا يفرط بالصوغ الفني، ولا يستسلم لشرح الموضوع أو الأفكار، ولا يمعن في الخروج عن نقد النص إلى خارجه لدواعي التبشير أو العقائدية، التي نلمح ظلالها على قلة في مطاوي نقده. إن عبد القادر يخرج عن نقد الأعمال الروائية والقصصية إلى معاينة وطأة الراهن لأسباب تتعلق ببروز نبرته الشخصية واعتزازه برأيه في تزجية أحكام القيمة، لأن منهج عبد القادر يقوم على التقييم، بمراعاة الميل النفسي والأيديولوجي قليلاً، والأهم بمراعاة الصوغ الفني. فقد ذكر في مقدمة كتابه «أوراق أخرى من الرماد والجمر» بعض أشجان المشتغل بالنقد، وشخص واقع النقد، رافضاً اجتلاب المناهج الغربية، وانتقد النقد البنيوي، ومن أمثلته صلاح فضل وكمال أبو ديب لإغفالهما الالتزام بقضايا المجتمع والواقع، وانتقد أيضاً الاعتماد على النص وحده في القراءة النصية أو النقدية، ودافع عن عناية النقد بسياقه، ومنها مجمل أعمال الكاتب، وطالب بالوقوف عند رسالة العمل، وبالاستعانة بشتى الأدوات والمناهج التي تقوم عليها العلوم الإنسانية، وبالوضوح الفكري في النقد، متجنباً تسمية الإيديولوجيا باسمها، وبالاقتصاد والتركيز، وبجمال الصياغة في اللغة العربية، ونفر من الاستغراق في استعمال المصطلحات، ودافع، دائماً، عن رسالة الكتابة «تلك الشهوة القديمة المتجددة لإصلاح الكون الفاسد.. إنما نحن ـ مثلما قال واحد من شعرائنا الراحلين ـ نلهث كي نكتب شعرنا في الليل، قبل أن يسفر النهار عن نثر أيامنا البغيض. وإنما القابض على يقينه ـ هنا والآن ـ مثل القابض على الجمر»([40]).
فاروق عبد القادر نسيج وحده في النقد، وعلامة على أصالته دون فذلكة أو ادعاء. وقد ضمّ كتابه، الأول، لأن كتبه تضم مقالات في الأجناس الأدبية المختلفة وفي الواقع الثقافي العربي، «أوراق من الرماد والجمر» إحدى عشرة مقالة نقدية عن نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف ويوسف إدريس وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وحيدر حيدر ولطيفة الزيات وسليمان فياض، وحوى كتابه الثاني «أوراق أخرى من الرماد والجمر» ثماني عشرة مقالة عن نجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وفتحي غانم، ويوسف إدريس، وسحر خليفة، وجبرا إبراهيم جبرا، وعلاء الديب، ومحمد شكري، وحنان الشيخ، وجمال الغيطاني، ونعيم تكلا، وضم كتابه الثالث «من أوراق الرفض والقبول» مقالات عن وجوه أدباء عرب، ومنهم روائيون وقصاصون، بالإضافة إلى قرابة عشرين مقالة عن نجيب محفوظ وفتحي غانم وحنا مينه واميل حبيبي ويوسف إدريس وبهاء طاهر وعبد الفتاح الجمل وأبو المعاطي أبو النجا وأحمد إبراهيم الفقيه وعلاء الديب وجميل عطية إبراهيم وسلوى بكر وسحر خليفة. أما الكتاب الأخير «نفق معتم ومصابيح قليلة» فحوى قرابة ثلاثين مقالة عن عبد الرحمن منيف ولطيفة الزيات وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي وحيدر حيدر ويوسف الشاروني واعتدال عثمان وفؤاد التكرلي وفتحي غانم وأبو المعاطي أبو النجا ومحمد شكري وأمين معلوف وإبراهيم الكوني وغيرهم.
ويتميز الكتاب الأخير بتنامي عناية عبد القادر بالصوغ الفني، وبالتدقيق في لغته ومصطلحه، وبارتفاع نبرة الصراحة في مواجهة مشكلات الحياة الثقافية، وبميل نادر إلى التواضع، وبخلفية ثقافية معمقة، دون أن يثقل النص بالمراجع والمصادر، مما يجعل مثل هذا النقد مختلفاً عن النقد السائد، ومحتفظاً بقدر عال من العلمية والمنهجية والمسؤولية.
ولعلنا نشير في خاتمة حديثنا عن هؤلاء النقاد المؤصلين أنهم سعوا، وبدرجات متفاوتة، إلى منهجية النقد الموضوعي التي عرفت في النقد الانجلوساكسوني، فتلونت هذه الموضوعية بأساليب ممارستهم، لغةً ومصطلحاً وإجراءات نقدية.
____________________

[1]. رشدي، رشاد: «فن القصة القصيرة» ـ دار العودة ـ بيروت ـ الط2 ـ 1975 ص7.

[2]. النابلسي، شاكر: «تشيكوف والقصة القصيرة» ـ دار الفكر القاهرة 1963 ـ ص ص 12-13.

[3]. ركيبي، عبد الله: «تطور النثر الجزائري الحديث» المؤسسة الوطنية للكتاب- الجزائر- 1978 ص ص 5-6.

[4]. المصدر نفسه ص ص 199-200.

[5]. الحازمي، منصور إبراهيم: «فن القصة في الأدب السعودي الحديث» دار العلوم للطباعة والنشر- الرياض، ص39.

[6]. يستند الحازمي هنا إلى أدوين موير في كتابه المعروف باللغة العربية «بناء الرواية»، ولكنه عاد إليه في نصه الإنجليزي.

[7]. المصدر السابق نفسه ص52.

[8]. المديني، أحمد: «فن القصة القصيرة بالمغرب ـ في النشأة والتطور والاتجاهات» ـ دار العودة بيروت 1980 ـ ص ص 7-8.

[9]. المصدر نفسه ص8.

[10]. المصدر نفسه ص ص 257-258.

[11]. غلوم، إبراهيم عبد الله: «القصة القصيرة في الخليج العربي ـ دراسة نقدية تحليلية» ـ منشورات مركز دراسات الخليج العربي ـ جامعة البصرة ـ مطبعة الإرشاد ـ بغداد 1981 ـ ص713.

[12]. مكي، الطاهر أحمد: «القصة القصيرة: دراسة ومختارات» ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ الط2 ـ 1978 ـ ص5.

[13]. مينة، حنا: «هواجس في التجربة الروائية» ـ دار الآداب ـ بيروت ـ 1982 ـ ص5.

[14]. مينة، حنا: «حوارات: وأحاديث في الحياة والكتابة الروائية» (تحرير وتقديم محمد دكروب) ـ دار الفكر الجديد ـ بيروت 1992 ـ ص7.

[15]. الخراط، أدوار: «الحساسية الجديدة ـ مقالات في الظاهرة القصصية» ـ دار الآداب ـ بيروت ـ 1993 ـ ص ص 15-19.

[16]. الخراط، أدوار: «أنشودة الكثافة» ـ دار المستقبل العربي ـ القاهرة ـ 1995 ـ ص5.

[17]. المصدر نفسه ـ ص9.

[18]. المصدر نفسه ـ ص121.

[19]. الخراط، إدوار: «مهاجمة المستحيل ـ مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة» ـ منشورات المدى ـ دمشق 1996 ـ ص4.

[20]. الربيعي، عبد الرحمن مجيد: «رؤى وظلال: نقد ودراسات» ـ نقوش عربية ـ تونس 1994 ـ ص256.

[21]. الربيعي، عبد الرحمن مجيد: «من سومر إلى قرطاج: قراءات في الأدب العربي المغاربي» ـ دار المعارف للطباعة والنشر ـ سوسة ـ تونس 1997 ـ ص235.

[22]. بدر، عبد المحسن طه: «حول الأديب والواقع» ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ الط2 ـ 1981 ـ ص6.

[23]. المصدر نفسه ص10.

[24]. المصدر نفسه ص3.

[25]. الطالب، عمر: «الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية» ـ دار العودة ـ بيروت 1971 ـ ص11.

[26]. مروة، حسين: «دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي» ـ دار الفارابي ـ بيروت ـطبعة ثانية مزيدة ومنقحة ـ 1976 ـ ص6.

[27]. المصدر نفسه ص7.

[28]. المصدر نفسه ص7.

[29]. فضل، صلاح: «منهج الواقعية في الإبداع الفني» ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1978 ـ ص8.

[30]. المصدر نفسه ص273.

[31]. المصدر نفسه ص333.

[32]. سماق، فيصل: «الواقعية في الرواية السورية» ـ مطابع دار البعث الجديدة ـ دمشق 1979 ـ ص7.

[33]. المصدر نفسه ص223.

[34]. صبحي، محي الدين: «دراسات ضد الواقعية في الأدب العربي» ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشرـ بيروت 1980 ـ ص7.

[35]. المصدر نفسه ص6.

[36]. المصدر نفسه ص8.

[37]. عبود، حنا: «واقعية ما بعد الحرب في الأدب والنقد والشعر» ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1980. ص ص 5-8.

[38]. المصدر نفسه ص ص 8-9.

[39]. الشاوي، عبد القادر: «سلطة الواقعية ـ مقالات تطبيقية في الرواية والقصة» ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1981 ص12.

[40]. المصدر نفسه ص27.

[41]. المصدر نفسه ص34.

[42]. الشاوي، عبد القادر: «النص العضوي ـ سلخ الجلد نموذج دراسي» ـ دار النشر المغربية ـ الدار البيضاء 1982 ـ ص5.

[43]. المصدر نفسه ص131.

[44]. بدير، حلمي: «الاتجاه الواقعي في الرواية العربية الحديثة في مصر» ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1981 ـ ص7.

[45]. الفيصل، سمر روحي: «الاتجاه الواقعي في الرواية العربية السورية» ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 1986 ـ ص24.

[46]. المصدر نفسه ص28.

[47]. المصدر نفسه ص ص 33-37.

[48]. العوفي، نجيب: «مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية من التأسيس إلى التجنيس» ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت ـ الدار البيضاء ـ 1987 ـ ص7.

[49]. عثمان، عبد الفتاح: «الرواية العربية الجزائرية ورؤية الواقع ـ دراسة تحليلية فنية» ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1993 ـ ص10-11.

[50]. المصدر نفسه ص14.

[51]. المصدر نفسه ص147.

[52]. الفيصل، سمر روحي: «التطور الفني للاتجاه الواقعي في الرواية العربية السورية» ـ دار النفائس ـ بيروت 1996 ـ ص ص 225-226.

[53]. بركات، وائل: «الواقعية الاشتراكية ـ المغامرة والصدى ـ دراسة مقارنة» ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق 1997 ـ ص3.

[54]. المصدر نفسه ص6.

[55]. المصدر نفسه ص194.

[56]. خورشيد، فاروق: «في الأصول الأولى للرواية العربية» ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1992 ـ ص7.

[57]. المصدر نفسه ص ص 14-15.

[58]. المصدر نفسه ص ص46-47.

[59]. المصدر نفسه ص ص158-159.

[60]. محمود، علي عبد الحليم: «القصة العربية في العصر الجاهلي» ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ الط2 ـ 1979 ـ ص19.

[61]. أبو شنب، عادل: «كان يا ما كان ـ دراسة أدبية اجتماعية للحكايات الشعبية وأثرها في تكوين شخصية الفرد» ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1978 ـ ص ص7-8.
ونلاحظ أن لغة الباحث تعاني من هيمنة الشعارات، ناهيك عن قلق التعبير، وافتقاده لدلالته الاصطلاحية، كما في استعمال «يبث الخرافة»، على أنها صفة مذمومة، بينما «الخرافة» نوع من أنواع النثر القصصي القديم.

[62]. ساعي، أحمد بسام: «الحكايات الشعبية في اللاذقية» منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق 1974 ـ ص37.

[63]. الساريسي، عمر عبد الرحمن: «الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني ـ دراسة ونصوص» ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1980 ـ ص5.

[64]. يونس، عبد الحميد: «الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي» ـ دار المعرفة ـ القاهرة ـ الط2 ـ 1968 ـ ص15.

[65]. المصدر نفسه ص159.

[66]. المصدر نفسه ص158.

[67]. عبد الحكيم، شوقي: «الزير سالم أبو ليلى المهلهل» ـ ابن خلدون ـ بيروت 1981 ـ ص8.

[68]. المصدر نفسه ص9.

[69]. المصدر نفسه ص17.

[70]. عبد الحكيم، شوقي: «الفولكلور والأساطير العربية» دار ابن خلدون ـ بيروت 1978 ـ ص17.

[71]. عبد الحكيم، شوقي: «موسوعة الفولكلور والأساطير العربية» ـ دار العودة ـ بيروت 1982 ـ ص19.

[72]. صالح، أحمد عباس: «ثأر ابن عنترة ـ دراسة تطبيقية في الأدب الشعبي» ـ كتاب روز اليوسف ـ القاهرة 1973 ـ ص34.

[73]. الخليلي، علي: «البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية» ـ دار ابن خلدون ـ بيروت ـ الط2 ـ ص1979 ـ ص8.

[74]. مرتاض، عبد الملك: «فن المقامات في الأدب العربي» ـ المؤسسة الوطنية للكتاب ـ الجزائر والدار التونسية للنشر ـ تونس ـ الط2 ـ 1988 ـ ص ص 544-545.

[75]. لا يماري أحد اليوم في نسبة «ألف ليلة وليلة» إلى الثقافة العربية الشعبية، فقد كشف محسن مهدي (العراق)، أستاذ الدراسات العربية بجامعة هارفرد عن مخطوطات عربية قديمة، طبعها في شركة بريل للنشر بليدن (هولندا ـ 1984) تحت عنوان كتاب «ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى»، وقد كتبت عن هذه القضية مقالة فاحصة في كتابي «عن التقاليد والتحديث في القصة العربية» ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1993 ـ ص ص285-298.

[76]. إبراهيم، عبد الحميد: «قصص العشاق النثرية في العصر الأموي» ـ دار الثقافة ـ القاهرة 1972 ـ ص125.

[77]. سرحان، جمال: «المسامرة والمنادمة عند العرب حتى نهاية القرن الرابع الهجري» ـ دار الوحدة ـ بيروت 1981 ـ ص5.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة