الخميس، 29 أكتوبر 2015

النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد - د. عبدالله أبوهيف


النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد

د. عبدالله أبوهيف

منشورات اتحاد الكتاب العرب

2000م

الإهداء
إلى نائلة علي

مقدمة

    هذا بحث في الهوية، ويتوسل إلى غايته خلل نقد النقد القصصي والروائي والسردي العربي على وجه العموم، فيما يطرح من أسئلة الاستقلال الفكري والثقافي والنقدي في عصر شاهت فيه الحدود، وآلت فيه الأمور إلى ما يشبه «استعمار العقل Decolonising the Mind: The Politics of ******** in African Literature» (1986)، بتعبير نغوجي واثيونغو Ngugi wa Thiong’o ([1])، وفي ظل شروط تاريخية عربية تصارعت فيه إرادة الحرية والاستقلال مع الاستعمار والتبعية والتجزئة والتخلف مما صار فيها الحفاظ على الخصائص الثقافية الذاتية دونه أهوال وأهوال. وينطلق الكاتب من مقاربة واضحة هي أن النقد الأدبي تعبير شديد الدلالة عن حركة الفكر وانشغالاته بمسألة وعي الذات الراهنة إزاء الآخر الغربي المهيمن، فالناقد يصدر عن رؤية فكرية، وفي نقده تتصادى أصوات وعي الذات من أجل أصالة ثقافية منشودة. وغني عن القول، إن ثمة مناهضين لمثل هذا البحث في الهوية، حتى إن جورج طرابيشي (سورية) سمى البحث في التراث «عصاباً»([2])، فهو أدخل في المرض، وليس دلالة على عافية.
  لقد شهدت فنون النثر القصصي في الأدب العربي الحديث تطوراً كبيراً، وتبوأت مكانة عالية بين الأجناس الأدبية، غير أن هذه الفنون ما تزال موضع إشكاليات ومشكلات منذ نهوضها المعتبر في مطلع القرن العشرين، وتتصل هذه الإشكاليات والمشكلات بالمؤثرات الأجنبية والمكونات التراثية على وجه الخصوص، فظهرت آراء تفيد أن القصة العربية الحديثة، ومثلها الرواية لاحقاً، تقليد غربي، أي أنها نضجت وأصبحت قصة فنية أو رواية فنية بتأثير الغرب، ولا ينفي ذلك تطور النثر القصصي إلى أشكال سردية مثل القصة والقصة القصيرة والرواية..الخ. ورافق هذا النهوض نقد تقليدي، أكاديمي تعليمي، مدرسي، اتباعي، أو واقعي، أو رومانسي، أو انطباعي، متأثر بالعلوم الإنسانية أحياناً كعلم النفس أو علم الاجتماع، وكان هذا النقد لاحقاً بالنهضة الواضحة لفنون النثر القصصي، أما نقد النقد القصصي والروائي فهو أقل من ذلك بكثير حتى نهاية السبعينيات، حين آل هذا النقد إلى ما يسمى نقد السرديات.
    عرفت الأربعينيات والخسمينيات والستينيات ذروة النتاج التقليدي الذي يقتدي بالغرب، ويقايس النثر القصصي والروائي العربي على مثال صورته في الغرب، كما هو الحال عند رشاد رشدي ويوسف الشاروني وعبد الحميد إبراهيم ويحيى حقي ومحمود أمين العالم ومحمود تيمور وشكري محمد عياد وحسين القباني والطاهر أحمد مكي (مصر)، وسهيل إدريس (لبنان)، وبشير الهاشمي (ليبيا)، وعزيزة مريدن وشاكر مصطفى وجميل سلطان (سورية) ومنصور الحازمي (السعودية)، وأحمد المديني (المغرب)، وعبد الله ركيبي (الجزائر)، وعبد الإله أحمد (العراق)، ومحمد صالح الجابري (تونس)، وإبراهيم الخليل وسليمان الأزرعي (الأردن) وغيرهم، ثم كانت الانعطافة في مسيرة النقد القصصي والروائي مع مطلع السبعينيات استجابة لظروف موضوعية تاريخية في حركة الثقافة العربية واستمراراً لممهدات اتصال النقد بالهوية، ولاسيما اتساع الجهود النقدية، بتأثير وعي الذات القومية، وتصاعد النزوع إلى الأصالة من جهة، والنزوع إلى العالمية من جهة أخرى، فقد خاض الأدب العربي الحديث، ومنه فنون النثر القصصي في التجريب والتحديث إلى منتهاه، وتشكلت مذاهب أدبية في فنون القصة والرواية تتنازعها مؤثرات أجنبية ومكونات تراثية، وأسهمت عوامل كثيرة في تشكل هذه الفنون مثل العلاقة بين الفنون وبروز الأفكار وتعبيراتها الفنية كالأساطير والرموز وميادين العلوم الإنسانية الرحيبة التي اعترف بقيمتها الفنية والفكرية مثل التاريخ والاجتماع وعلم النفس واللغة، وقوة الإعلام وثورة المعلومات، وترافق ذلك كله مع تطور نقد القصة والرواية، ونقد السرد.
   ومهدت لهذه المذاهب والكتابات القصصية والروائية ورافقتها تجارب نقدية جانبت النقد التقليدي، وغدت في بعض الأحيان والحالات والنماذج اتجاهات نقدية جديدة لا غنى عن درس نشوئها وتكوينها ومعرفة العوامل المؤثرة فيها، وتحديد أشكالها، وتحليل هذه الاتجاهات ومناقشة أهم قضاياها، ولا سيما منزلتها في خريطة النقد القصصي والروائي العربي الحديث، ومنزلتها بين التبعية والتأصيل بما يسهم في تعضيد الهوية القومية للنقد العربي الحديث.
  ويستدعي توضيح مفهوم الاتجاهات الجديدة، أن نشير بإيجاز إلى تطور مسار النقد الأدبي الحديث الذي اكتملت صورته في القرن التاسع عشر، مع الإتباعية الجديدة والرومانسية والواقعية، تساوقاً مع نضوج المذاهب الأدبية، غير أن حركة الحداثة دهمت الفكر والأدب والفن في أعمق موجاتها وأوسعها وأكثرها جذرية في مطلع القرن العشرين، وكان حددها بعض النقاد، في المقالات التي حررها مالكولوم برادبري Malcolm Bradbury وجيمس ماكفرلن James Mcarlane في الفترة ما بين 1890 و 1930 في الكتاب الأشهر في هذا المجال المسمى «الحداثة Modernism 1890-1930» (1976)([3])، حين شملت الحداثة الأجناس الأدبية برمتها: الشعر، القصة، الرواية، المسرحية، بالإضافة إلى الفنون ومظاهر الحياة الأخرى، وتشكلت حركات أدبية حدثية مختلفة مثل التصويرية والمستقبلية والتعبيرية والدادائية والسوريالية والانطباعية والوحشية والانحطاطية والتكعيبية وسواها، ثم خاض النقد الأدبي غمار الحداثة، طليعياً حيناً، ومواكباً حيناً آخر، وتميز نقد القصة والرواية لدى مبدعيه أولاً مثل أ. م. فورستر E.M. forster وهنري جيمس H.James وسومرست موم وفرجينيا وولف، ونقاده ثانياً مثل بيرسي لبوك Percy Lubbock وف. ر. ليفز F.R.Leavis ومارك شورر Mark Schorer، وهؤلاء المبدعون والنقاد وأضرابهم هم الذين أطلقوا ما سمي بالنقد الجديد، تطويراً، للإتباعية الجديدة التي مثلت ذروة التقليد الغربي في النقد. ولعل أهم ما تميز به هؤلاء المبدعون هو فهم القص ومكوناته من الراوي إلى السرد والتحفيز والقصد مما كان أساس النقلة التالية في الغرب في الستينيات من نقد القصة والرواية إلى نقد السرد وعلم السرد. ثم آل المشهد النقدي الحديث، فيما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى بروز اتجاهات نقدية جديدة متأثرة بالعلوم الإنسانية، مثل علم النفس وعلم الاجتماع، وعلم اللغة الذي وسم عمليات التحديث برمتها، فكانت الاتجاهات الجديدة المتصلة بالحداثة وما بعدها، مثل الشكلانية الروسية Formaliste du Russe والمعيارية Normative والبنيوية Structuralism، واللسانية Linguistique، والعلاماتية Sémiologiqueوسواها. وقد يثار سؤال حول الشكلانية الروسية، على سبيل المثال، وانتشارها بعد الحرب العالمية الثانية، وهي التي ظهرت في العشرينيات والثلاثينيات. ونكتفي في هذه المقدمة بذكر أن اكتشاف تراث الشكلانيين الروس متأخر عند الغربيين أنفسهم إلى مطالع الستينيات حين ترجم تودروف بعض نصوصهم إلى اللغة الفرنسية([4]).

الاتجاهات والاتجاهات الجديدة:

    يؤثر بعض النقاد والباحثين أن يسمي الاتجاهات النقدية بالمدارس أو المذاهب، غير أنني أوثر مصطلح الاتجاهات، لاقترابه من وصف الحال أو المفهوم مراعياً تغيره في الوقت نفسه، فالمذهب أو المدرسة يشير إلى تكون ناجز للمفهوم النقدي وثباته في مرحلة تاريخية معينة واستقراره في النظرية والتطبيق. وينفر النقاد الغربيون من أمثال هذه المصطلحات، لضيقهم من التأطير، ولمراعاتهم لعنصر التغير في المفهوم وممارسته، ولعلنا نتذكر أن شيخين من شيوخ النقد العربي الحديث، هما إحسان عباس ومحمد يوسف نجم (فلسطين) وضعا تسمية مدارس حديثة لبعض الاتجاهات النقدية التي لم تتأصل بعد لدى تعريبهما لكتاب ستانلي هايمن Stanley E. Haymanالمعنون The Armed Vision (1955، مظهر الترجمة في عامي 58-1960).
    لقد كانت الاتجاهات النقدية التقليدية الراسخة تتمحور حول النقد الإتباعي والنقد الواقعي والنقد الرومانسي، ثم ظهرت أشكال أخرى من النقد الرمزي أو النقد التفسيري أوالنقد اللغوي أو النقد الموضوعي أو النقد الجديد، أو النقد النفسي أو النقد الماركسي ضمن حدود نظرية النقد التقليدي، أي المرتهن لتقاليد النظرية الأدبية فعلى سبيل المثال، انطلق النقد الجديد New Criticism مع ا.ا. ريتشاردز واليوت وجون كرو رانسوم John Crowe Ransom وأقرانه في العشرينيات معتنين بالنص من داخله بالدرجة الأولى، حيث الاهتمام بقراءته قراءة يصحبها الفهم العميق لدلالات الألفاظ، والاهتمام بالأثر الأدبي من حيث بنيته وشكله مستقلين عن شخصية مبدعه أو تأثيره في قرائه المختلفين.
  ويفيد الاتجاه بهذا المعنى ما يجذب الأذهان نحو فكرة معينة أو تذوق خاص أو إجراءات موصوفة تستند إلى مجموعة مبادئ أو معايير متصلة ومنسقة لمنهج محدد، بمعنى الانضواء تحت لواء مسار ما أو مجال للتطور، ويفيد هذا المعنى المصطلحات الدالة في اللغة الإنكليزية مثل Approach, Current, Doctrine, Trend، وأقربها هو المصطلح الأول Trend إذ ينصرف المعنى إلى تشكل ميل أو اتجاه أو مسار معين، بينما يشير المصطلح الثاني Approach إلى البعد الأفقي للاتجاه، ويحتفظ المصطلح الثالث Current لمعنى اندراج الاتجاه في تيار سائد، أما المصطلح الرابع Doctrine فيتصل بمعنى رسوخ الاتجاه في مجموعة المبادئ والآراء.
  ولعلنا نلاحظ لدى عرضنا لتطور النقد الأدبي العربي الحديث، ومنزلة نقد القصة والرواية فيه، أن تأصيل الاتجاهات النقدية التقليدية قد انطلق في الخمسينيات، ليستوي في العقود التالية متنازعاً مع الاتجاهات الجديدة، ما دام النقد ساحة صراع فكري بالدرجة الأولى، بل هو الأكثر تعبيراً عن صراع الأفكار، فعرفت تجربة النقد الأدبي العربي الحديث جهوداً حثيثة لتأصيل النقد والمضي به إلى اتجاهات محددة، مع محمد مندور (مصر) ومحمد روحي الفيصل (سورية) وميخائيل نعيمة (لبنان)، لتترسخ اتجاهات نقدية إتباعية وواقعية وماركسية وموضوعية ولغوية أسلوبية بالدرجة الأولى، وما لبثت أن تلونت هذه الاتجاهات بتلوينات جديدة بتأثير مناهج النقد الأدبي الحديثة، ومن أهم هذه الاتجاهات النقد الاجتماعي Sociocritique، وهو متطور عن علم اجتماع الأدب Sociologie de la Litterature والنقد الواقعي والنقد الماركسي، والنقد النفسي Psychocritique، والنقد البنيوي Structuralisme بتنويعاته المختلفة النصية La Critique ****uelle والشكلانية Foramlism والشعرية La Poetique والتكوينية La critique Genetigue، وثمة الأسلوبية La Stylistique وقرينتها اللسانية Linguistigue، والعلاماتية أو السيميائيةSemiologique والتفكيكية Deconstruction وغيرها.
  وقد اتصل النقد العربي الحديث بهذه الاتجاهات الجديدة عن طريق «النقد الجديد» حتى نهاية الستينيات، باتصال الروافد العلمية الأكاديمية المباشر، أو بالترجمة، حتى أن كتاب أ. م. فورستر «أركان الرواية الحديثة Aspects of the Novel» (1927) ترجم إلى اللغة العربية مرات([5])، وعن طريق «البنيوية Straucturalism» وما بعدها، منذ مطلع السبعينيات، بتأثير الباحثين الذين تحصلوا على علمهم في الجامعات الفرنسية ومعاهدها، في بلدان المغرب العربي وبلاد الشام، ولا سيما المغرب وتونس ولبنان وسورية، ثم مصر، ثم انتشرت الاتجاهات الجديدة في الثمانينيات في أرجاء الوطن العربي.

الدراسات السابقة:

  قليلة هي الدراسات التي عنيت بنقد النقد القصصي والروائي المتأثر بالاتجاهات الجديدة، وربما ظهرت أول مقالة في كتاب عبد الله إبراهيم (العراق) في كتابه «المتخيل السردي: مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة» (1990)([6])، وحملت المقالة عنوان «من أجل نظرية معرفة لتحليل الخطاب الروائي العربي»، وهي موجهة للتعريف بكتابي سعيد يقطين (المغرب) «تحليل الخطاب الروائي: الزمن ـ السرد ـ التبئير» (1989)، و«انفتاح النص الروائي: النص ـ السياق» (1989)، وقصد فيها إلى تقديم عرض موسع للمشروع الأبيستمولوجي (المعرفي) الذي طرحه يقطين، الأول معني بمستوى تركيب الخطاب، والثاني معني بوظائف النص، وأعقب العرض تقديم رؤية نقدية للمشروع التحليلي من أجل بلورة نظرية معرفة لتحليل الخطاب الروائي.
   رأى عبد الله إبراهيم أن الكتابين يتضافران لتقديم رؤية نقدية، تنهض على الموروث النقدي للسرديات الحديثة، بفرعيها، أو تياريها الرئيسين، وهما: السردية اللسانية التي تعنى بدراسة الخطاب السردي في مستواه البنائي، والعلائق التي تربط الراوي بالمتن الحكائي أو القصة المتخيلة، وقد استفاد هذا التيار كثيراً من البحث اللساني الحديث والمعاصر، ويمثله رولان بارت Rouland Parthes وتودروف Tzvetan Todorov وجيرار جينيت G.Genetie ومن يشتغل على نحو مشابه لهم. والتيار الآخر هو السردية السيميائية، ويعنى هذا التيار بسردية الخطاب، من خلال عنايته بدلالاته، قاصداً الوقوف على البنى العميقة التي تتحكم به، ومتجاوزاً المستوى اللساني المباشر، ويهدف هذا التيار إلى تقديم قواعد وظائفية للسرد، ومن أبرز أقطاب هذا الاتجاه فلاديمير بروب Vladimir Propp وكلود بريمون Claude Bremond ، وغريماس A.J.Creimas. 
   اعترف إبراهيم بأن مشروع يقطين جاد، وذكر أمرين لابدّ منهما: أولهما البحث في الأصول التي يتصل بها المشروع، إن كان ذلك على مستوى عرض جهود المعنيين بالسرديات، أو على مستوى النتائج التي توصل الكتابات إليها، ونوه إلى أن شبكة اللسانيات والسرديات معقدة، وغايتها صعبة المسالك، لا يمكن ولوجها دون التسلح بمعرفة جهاز المفاهيم التي تتعامل بها، دون عناية كبرى بما تشتغل عليه، ولهذا يتهمها أعداؤها باللاجدوى والعدمية.
   ونلاحظ أن إبراهيم أطلق، بادئ ذي بدء، حكماً هو موضع نقاش، حين وجد أن السردية فرع من أصل كبير هو الشعرية Poetics، اعتماداً على رأي لتودروف في كتابه «الأدب والدلالة Litterature et Signification» يقول فيه إن الشعرية هي نظرية الأدب، وقرر إبراهيم أن الجانب النظري يستأثر بالجزء الأكبر من متن الكتاب، ويتضاءل إزاء ذلك الجانب التحليلي. ولكن هذا التقسيم الملموس في الظاهر، لا يغيب حقيقة أساسية، وهي أن التحليل، إنما ينهض على استفاضة ضرورية لتوضيح آلية التحليل ذاته. وعليه فإن النتائج المتماسكة تحتاج دائماً إلى أرضية صلبة ومتماسكة، وتحتاج إلى مقدمات منهجية تسوغ ظهورها، وهو ما عني به في مراجعته النقدية لمشروع يقطين. 
   وانتقد إبراهيم في سياق عرضه لمشروع يقطين مرجعيته المطلقة للنقد الفرنسي الحداثي وما بعد الحداثي، غافلاً أو متجاهلاً بعض أهم إنجازات النقد العالمي الأخرى مثل النقد الأنجلوسكسوني، حين يكتفي بالإشارة التاريخية العابرة أو العارضة إلى مثل هذه الإنجازات، كما في حديثه عن نموذج أو «طايبولوجيا Typelogie» للصيغ.
  وخصص حميد لحمداني (المغرب) جهداً أكبر لنقد الاتجاهات النقدية الحديثة في كتابيه «النقد الروائي والأيديولوجيا من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي» (1990)([7]) و«بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي» (1993)([8])، ومما يجدر ذكره أن لحمداني يناقش قضية نقدية أو أدبية، فليس دأبه هو تتبع الأعمال النقدية، ولذلك لا تعدّ كتبه ضمن نقد النقد، وإن تعرضت لهذه الاهتمامات النقدية في سياق معالجتها لهذه القضية النقدية أو الأدبية أو تلك.
  وتتصف آراء لحمداني على العموم بأنها قاسية ومتعسفة أحياناً، ولا تراعي السياق التاريخي والمنهجي لظهور البنيوية في حركة النقد القصصي والروائي العربي.
   وكان الكتاب الثاني الذي تناول جانباً من الاتجاهات الجديدة هو «النقد البنيوي والنص الروائي ـ نماذج تحليلية من النقد العربي:

1- المنهج البنيوي ـ البنيةـ الشخصية» (جـ1: 1991)([9])، و«النقد البنيوي والنص الروائي ـ نماذج تحليلية من النقد العربي: 2- الزمن ـ الفضاء ـ السرد» (جـ2: 1991)([10])، والكتاب بجزأيه، من تأليف محمد سويرتي (المغرب). وأشار مؤلفه إلى أنه أطروحة جامعية بالأصل، وأراد، شأن سواه ممن تصدوا للنقد المتصل بالاتجاهات الجديدة، بأطروحته أن يعالج تمثل النقاد العرب، موضوع البحث، للثقافة النقدية الغربية عامة، وللمنهج البنيوي وأدواته العملية ومصطلحاته النقدية خاصة؟. وأضاف أسئلة أخرى: إلى أي حدّ استشعر هؤلاء النقاد التحولات التي طرأت على المنهج البنيوي عبر مساره الطويل من الجمالية إلى الشعرية؟ ما هي المقولات النقدية التي يمارس هؤلاء النقاد في هديها عملية النقدالأدبي؟ هل اقتصروا على توظيف المنهج البنيوي أم استنجدوا بمناهج أخرى؟ ولاحظ أن مثل هذه الأسئلة تمكنه من رصد مجموعة من العلائق، وهي:

* علاقة النظرية بالممارسة من داخل البنية النقدية ذاتها.
* علاقة المنهج المتوخى ومصطلحاته النقدية بالعمل الروائي المنقود.
* علاقة المنهج البنيوي بالمنهج النفسي والاجتماعي والإيديولوجي والفلسفي، وكذا علاقته بالشعرية.
* علاقة النقد العربي بالنقد الغربي.
  ورصد سويرتي هذه العلائق من خلال المتن الذي يضم الأعمال النقدية التالية:

* «ملامح في الرواية السورية» لسمر روحي الفيصل (سورية) (1979).
* «حركية الإبداع ـ دراسات في الأدب العربي الحديث» لخالدة سعيد (سورية ـ 1979).
* «الألسنية والنقد الأدبي ـ في النظرية والممارسة» لموريس أبي ناضر (لبنان ـ 1979).
* «نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة» لنبيلة إبراهيم سالم (مصر ـ 1980).
* «في معرفة النص» ليمنى العيد (لبنان 1983).
* «بناء الرواية ـ دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ» لسيزا قاسم (مصر 1984).
* «القراءة والتجربة ـ حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب» لسعيد يقطين (المغرب 1985).
* «مدخل إلى نظرية القصة» لسمير المرزوقي وجميل شاكر (تونس ـ 1985).
   وهي اختيارات لنصوص مبكرة نسبياً، ونلاحظ أنها لا تتمثل على نحو مطلق أو كلي الاتجاهات الجديدة، وإنما تلوّنها بمناهج سائدة، تقليدية، أو واقعية، أو نهاجيات العلوم الإنسانية. مثلما انحاز سويرتي إلى الممارسة، وحددها بفترة قصيرة لا تتجاوز ست سنوات، والتزم بالخطوات التالية:

- قراءة النص الروائي والنص النقدي.
- تصنيف البنيات النقدية وفق محاور تطرح إشكاليات حول النقد الروائي.
- استنباط المنهج المعتمد من طرف الناقد من خلال تصريحاته وتحليلاته، فضلاً عن المفاهيم الإجرائية قصد التحاور في شأن هذا المنهج ومصطلحاته، والكيفية التي مورس بها في تحليل النص الروائي.
- تقديم الإضافات الضرورية.
- تلخيص كل محور في تركيب مكثف وتسجيل الاستنتاجات الخاصة، ثم تكثيف كلّ الاستنتاجات الخاصة بكل المحاور.
  ويلاحظ أن سويرتي يحاكم النقاد العرب على المرجعية الغربية، لا أن يكشف عن ممارستهم من داخلها ووفق مفاهيمها وطرائقها. وفعل ذلك في تركيبه الثاني:

«هكذا ينسى هؤلاء النقاد أو يتناسون أنهم إزاء إنجازات تتوسل المناهج البنيوية باعتباره مناهج علمية وضعية تنطلق من البنية الأساسية اللاواعية التي تحكم كل البنيات الداخلية للخرافة وللنص الروائي. وقد تبدو هذه البنية في شكل بسيط أو معقد»([11]).
  وهكذا، يعد حميد لحمداني ومحمد سويرتي من أوائل النقاد الذين نبهوا إلى ظاهرة الاتجاهات الجديدة، ومارسوا عمليتي نقد النقد، في جوانب منها، وضمن فترة محددة هي بداءة تمثل النقد القصصي والروائي العربي لهذه الاتجاهات الجديدة، أو الأخذ بأمشاج منها.
   وتعرض عبد الرحيم الكردي لأصداء البنيوية في الدراسات العربية في كتابه «السرد في الرواية المعاصرة: الرجل الذي فقد ظله نموذجاً» (1992)([12])، ورأى أن الدراسات البنيوية الأوروبية أخذت تغزو المجالات النقدية في الوطن العربي في السبعينيات من هذا القرن، بينما كانت هناك مدرسة نقدية مستقرة تقوم أسسها على دراسة المضامين الأدبية، ولا سيما الأيديولوجية والسياسية، بل إن جمهرة النقاد والباحثين لم تستسغ البنيوية، مثالاً للاتجاهات الجديدة، على أنها ثمرة لترف فكري، وأنها تستغرق في النموذج الألسني والنقد اللغوي، ولا تمتلك أدوات للمفاضلة بين الأعمال الأدبية، لوضعيتها التحليلية، ولإهمالها دور الذوق في الحكم على النصوص، وفي إبراز الجوانب الجمالية فيها، وهي حجج طالما رددها النقاد الاجتماعيون والماركسيون مثل محمود أمين العالم في كتابه «ثلاثية الرفض والهزيمة» (1985).
  وتوفر عرض الكردي على ثلاثة أبحاث عربية تطبيقية، اتخذت من البنيوية منهجاً لها، وقد اختارها لاتصالها المباشر بالنماذج البنيوية الأوروبية بشكل صريح، فهي تمثل الجناح المستغرب من التيار الثقافي العربي في مجال دراسة النص، وهو الجناح الذي أدخل، برأيه، على الدراسات النصية العربية معايير جديدة، وأدوات لم تتح له من قبل، ووقع عليها الاختيار أيضاً لأنها جميعاً اهتمت بالتطبيق أكثر من اهتمامها بالنظريات، ولأنها تنتمي إلى بيئات عربية متنوعة، وهذه الأبحاث هي:

1- «بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ». سيزا قاسم. 1984.
2- «قضايا السرد عند نجيب محفوظ». وليد نجار 1985.
3- «تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي» يمنى العيد 1990.
  ويتسم جهد الكردي بالسمات التالية: الإيجاز وإيضاح مصادر النقد الجديد في الكتب التي تعرض لها بالنقد، والميل إلى إطلاق الأحكام. وورد نقد جزئي لحامد أبو أحمد (مصر) في كتابه «نقد الحداثة» (1994)، والنقد موجه لصلاح فضل (مصر) حول كتابه «بلاغة الخطاب وعلم النص» (1992). فقد حوى كتاب أبي أحمد مقالات نقدية للنقاد العرب الذين يسترشدون بالاتجاهات الحديثة، بالإضافة إلى بعض المقالات والمراجعات النقدية لعدد من النصوص الأدبية العربية الحديثة، وإلى مقالتين حول «الشعر الحديث في أسبانيا وأمريكا اللاتينية» و«شعراء السبعينيات في أسبانيا». أما النقاد الذين وجه نقده السلبي إليهم، فهم كمال أبو ديب (سورية) وصلاح فضل (مصر) ومحمد خطابي (المغرب)، بينما حظي عبد الله الغذامي (السعودية) بنقد إيجابي يستحقه. ويعنينا من كتابه نقده لفضل لاشتغاله على النص السردي.
   استغرق نقد أبي أحمد لفضل فصلاً كاملاً (15) صفحة من أصل (180 صفحة) توزع إلى مقالتين، وتركز نقده السلبي في إبداء نقمة كاملة على النقاد المتعاملين مع الاتجاهات الحديثة، لأن تعاملهم مع العلوم الجديدة أسير منطلقات ثلاثة:

المنطلق الأول: هو التعامل معها من منظور إطلاقي، انبهاراً، أو إدعاء، أو تسرعاً غير مستوعب للظاهرة أو للعلم الجديد.
والمنطلق الثاني: هو سيادة مفهوم لسان حاله يقول «اكتب كلاماً غير مفهوم ينظر إليك على أنك أكبر العلماء»، وقد شهدت، برأيه، الساحة الثقافية العربية خلال عقد الثمانينات ظهور عدد كبير من الكتب لا يفهمها أحد، من القاريء العادي حتى أكثر الناس ثقافة وتخصصاً. 
والمنطلق الثالث: هو قيام الترجمة والتأليف في العلوم الجديدة على العجمة والابتسار أو الإدّعاء بالإسهام في تطوير العلم. واستثنى بعض الجهود النقدية. وذكر أبو أحمد مظاهر كثيرة للعجمة والابتسار، وختم مقاربته في المقالة الأولى بالقول:
«فأي مفهوم علمي، وأي منهجية، وأي ضبط، وأي تجريب في كتابه، لا يربط بينها إلا رابط هش هو فقط مسمى علم النص؟! فضلاً عن أنها ـ كما أسلفنا، فقرات طويلة منتزعة من سياقها انتزاعاً، وموضوعة في سياق جديد، ومن ثم فإنك تقرأ السطور، فتجد حالة من الإبهام بصورة قوية جداً مع طبيعة علم النص»([13]).
    ولعلنا نلمس في نقد أبي أحمد قسوة وإسرافاً في الاتهام، فثمة فضائل لكتاب فضل ولجهوده النقدية الأخرى التي لا تنكر، لا تذهب كلها مع السلبيات. وأضاف أبو أحمد في مقالته الثانية انتقادات أخرى لفضل هي التدليس والتلفيق، فهو ينتقل من فقرة إلى فقرة، ومن باحث إلى باحث آخر، ومن فكرة إلى فكرة حتى يصل بعد خمس عشرة صفحة بالتحديد إلى ما يشبه عرضاً غير سليم لجهود الآخرين:

  «وتصل طريقته في تهميش الآخرين إلى نوع من «التماهي Identification بينه وبين المؤلف الأصلي الذي نقل عنه، فيظن القارئ أن هذه الفقرة أو تلك من كلام الدكتور فضل مع أنه مجرد ناقل لها»([14]).
   وأطلق أبو أحمد صفات سلبية ظالمة على فضل مثل الخلط والتجهيل، وأن هذا هو دأبه في كتبه الأخرى، «فقد كنت دائماً أحس بالتوجس من هذه الكتب الغريبة في مناهجها، والتي يبدو وكأنها ألفت بقصد أن تقيم جداراً يفصل بيننا وبين العلوم الحديثة»([15]).
   وقد آثرت الإشارة لبعض تفاصيل نقد أبي حامد، لأنه يعبر عن نموذج غالب على نقد النقد الأدبي العربي، بما هو نقد متسرع يفتقر إلى التسويغ الفكري والفني والرؤية التاريخية والإطار المنهجي لميله إلى إطلاق الأحكام بالدرجة الأولى.
  ويستفاد من عرض هذه الدراسات السابقة أمران الأول هو التنبيه إلى ظهور مثل هذه الاتجاهات الجديدة، والثاني هو أنها لا تتجاوز حدود الإشارة لما تمثله في حركة النقد الأدبي العربي الحديث. أما قيمتها النقدية فهي محدودة في بابها.

دواعي البحث:

   يستجيب هذا البحث لضواغط فكرية ونقدية على وجداني، لعل أولها هو وطأة الإحساس بالهوية العربية، وما تواجهه من إكراهات شديدة تنعكس، بشكل مباشر أو غير مباشر، على الوعي بالذات القومية، وثانيها اتصال هذه الوطأة بالحاجة إلى إعمال نقد النقد في شؤون حياتنا كافة تعضيداً للفكر النقدي، وإثراء للتجربة النقدية العربية في ميدانها الأقرب، أعني النقد الأدبي الذي يختزن في محمولاتها هذا الفكر النقدي، وثالثها اختيار مجال أدبي نقدي مندغم بالتاريخ هو نقد القصة والرواية، ونقد السرديات فيما بعد.
  أما الدوافع الأخرى لاختيار هذا البحث عن فترته المحددة، فأوجزها فيما يلي:

  الأول هو فقر المكتبة العربية بأبحاث نقد النقد، فثمة كتب لا تصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة تتناول ممارسته في هذا القطر أو ذاك، أو هذا الاتجاه أو ذلك، أو لدى ناقد أو آخر. ولاحظنا مثل ذلك لدى استعراضنا للدراسات السابقة، وهي قليلة جداً. 
  والثاني هو بروز الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، والتأثر الكبير للنقاد والباحثين العرب بها في أقطار الوطن العربي كله، مما يبين شدة المؤثرات الأجنبية الغربية في تكوين الناقد العربي الأدبي الحديث إلى حدّ الاستلاب التام الذي يغيّب معه التواصل مع موروثه الثقافي، ويحدث قطيعة معرفية مع تقاليده الأدبية والنقدية.
  والثالث هو أن هذه الاتجاهات الجديدة ظهرت وتصلب عودها في العقود الثلاثة الأخيرة، فطغت على الممارسة النقدية العربية في الثمانينيات والتسعينيات على وجه الخصوص.
  والرابع هو شمول الاتجاهات الجديدة لمجالات النقد القصصي والروائي والسردي جميعها، وقد تجلت بإسهامات واثقة لنقاد وباحثين معتبرين من أجيال مختلفة في نقد الموروث السردي الشعبي والأدبي، والنقد النظري، والنقد التطبيقي.
   والخامس هو قابلية هذه الاتجاهات الجديدة، في ممارستها النقدية ودورانها على أقلام هذه الكثرة الكثيرة من النقاد والباحثين العرب، على إثارة قضايا ثقافية وفكرية ونقدية في منتهى الأهمية مثل المنهج والمصطلح والتبعية، والعلاقة بالعلوم الإنسانية والمناهج المعرفية والنقدية الحديثة.
  وعلى هذا، فقد توزع بحثي إلى مقدمة وثمانية فصول، وخاتمة، وثبت المصادر والمراجع.

   جعلت الفصل الأول منه للتطور التاريخي والفني لنقد القصة والرواية، وقد وجدت أن مرحلة النشأة تمتد إلى عام 1945، ومرحلة التكون تستمر حتى عام 1970، حيث شهدت السبعينيات انطلاقة الاتجاهات الجديدة، ثم بلغت ذروتها في الثمانينيات والتسعينيات. وأشرت بإيجاز إلى ملامح نقد القصة والرواية وتطوراتها، وهي استمرار التأليف في نشأة القصة والرواية وتاريخها، والاهتمام بالجانب الفني أكثر مما كان في المرحلة السابقة، واستمرار النقد التعريفي والنظري التقليدي، واتساع نبرة الحديث عن التجربة القصصية والروائية بفضل نمو وعي القاص والروائي العربي بفنه، وتقصيت ملامح هيمنة دراسات المذهب الواقعي في صعودها في السبعينيات، وأفولها التدريجي في الثمانينات والتسعينيات، وعاينت ظاهرة البحث عن التراث القصصي ووعيه، وتوقفت عند تأصيل النقد القصصي والروائي لدى بعض وجوهه البارزة.
   وعالجت في الفصل الثاني العوامل المساعدة على في تكوين الاتجاهات الجديدة، مثل الاتصال المباشر، والترجمة، وتطور العلوم والنهاجيات المعرفية، ووسائل الاتصال وثورة المعلومات، وتنامي أبحاث الهوية في الفكر والأدب والنقد، والتطلع إلى الحديث والرغبة في التحديث. والإقبال على التأليف المعجمي والمصطلحي والموسوعي، والعلاقات بين الفنون، ووفرة أبحاث نظرية الأدب ونظرية القصة والرواية بعد ذلك، والانشغال بنظرية الأدب عربياً، وتنامي البحث عن نظرية نقدية عربية.
   وناقشت في الفصل الثالث الاتجاهات النقدية الجديدة المتصلة بالعلوم الإنسانية، ولا سيما التاريخ والأفكار والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، وما تمخض عنها من اتجاهات نقدية.
وبينت في الفصل الرابع انتشار هذه الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها، مثل شعرية السرد، والبنيوية الدلالية، والألسنية، والتفكيكية.
   وصرفت جهدي في الفصول الثلاثة التالية، الخامس والسادس والسابع، لنقد الاتجاهات الجديدة في أهم نماذجها، فكان الفصل السادس لنقد الموروث السردي، الشعبي والأدبي، والسابع للنقد النظري، والثامن لنقد النقد التطبيقي بأنماطه الثلاثة؛ وهي الدراسات ذات الميل الأقل إلى الاتجاهات الجديدة، والدراسات الانتقائية، والدراسات ذات الميل الأكبر، في فئاتها الثلاث أيضاً: الاشتغال السردي النصي، قضايا في السرد، التحليل السردي النصي. 
  وعالجت في الفصل الثامن مكانة الاتجاهات الجديدة إزاء بعض المشكلات النقدية والفكرية، واخترت مشكلتين نقديتين هما الواقعية والحداثة، وعالجتهما في إطار النقد العربي الحديث بعامة، ونقد القصة والرواية بخاصة، ومشكلة فكرية هي التبعية والتأصيل، فأوضحت ظاهرة التبعية الثقافية بوصفها عالمية، وظاهرة التبعية النقدية، وانتقلت إلى تطبيق لها، هو حالة نقد القصة والرواية لدى نموذج نقدي عربي هو عبدالفتاح كيليطو (المغرب) الذي طور المنهج التأويلي الحداثي استناداً إلى التراث النقدي العربي، وأفلح كثيراً في تثمير الاتجاهات الجديدة في تدعيم أبحاث الهوية.

منهج البحث:

   التزمت في هذا البحث بمنهج موضوعي يستفيد من علم السرد، فأنا أؤمن بمقولة تعدد الأصوات وتضاد الآراء، «ففي كل نظرية يوجد، صراحة أو ضمناً، الصوت المضاد لمنظور نظري آخر، فما حث المنظر على التفكير، إنما هو تفكير منظر آخر» كما يقول والاس مارتن Wallace Martin في كتابه «نظريات السرد الحديثة Recent Theories Of Narrative» (1986وظهرت ترجمته عام 1997)([16])، ويقوم هذا المنهج على التحليل متسلحاً بمعرفة نقدية بعلم السرد، متجنباً قدر الإمكان، إبداء الأحكام والآراء على جهود الآخرين وأعمالهم، لأن المعرفة نسبية، ووجهات النظر متباينة، كاشفاً في الوقت عن قيمة هذه الجهود النقدية في ذاتها وفي سياقها التاريخي، ولذلك تعمدت الإحاطة النقدية بالكتب النقدية المعنية بنقد الموروث السردي الشعبي والأدبي، والنقد النظري، والإلمام بالكتب النقدية التطبيقية التي استرشدت بالاتجاهات الجديدة، بيد أنني أجازف إلى القول إن معالجتي لنقد النقد التطبيقي تستوعب غالبية الجهود المبذولة، ولما أدى ذلك إلى ضخامة حجم البحث، فقد اختزلت شيئاً كثيراً من نقدي للنقد التطبيقي، دون الإخلال بغايات البحث.
   ويلاحظ أنني، اتساقاً مع منهجي الموضوعي، عاملت النصوص النقدية من داخلها، ولم أفرض عليها هذا المنهج، فحللتها، وأظهرت أفضل ما فيها، وأشرت، إلماحاً غالباً، أو تصريحاً أحياناً، إلى بعض الملاحظات للهنات أو التناقضات أو إطلاقية الرأي والمرجعية لدى ممارسي ذلك من النقاد والباحثين. ويفيد ذلك أنني لم أحاكم النصوص النقدية على مطابقتها لهذا المرجع أو ذاك، إنما حللت، وفسرت، بما يسعف على تقييم موضوعي غير متعسف.
   وحرصت على التحليل المكثف والتفسير الواضح، على الرغم من التباس الاتجاهات الجديدة، وغموض لغتها غالباً، وولوغها في الشكلانية. وكان دأبي في الإجراءات النقدية أن أعرّف نقدياً بالنصوص النقدية وأصحابها، ولو إشارة، ثم أعالج مكانتها في سياقها الثقافي والتاريخي، وأفصح عن قيمتها النقدية والفنية والمعرفية.
  لقد عمدت إلى العرض النقدي لأهم الإسهامات النقدية (الكتب بالدرجة الأولى) المتأثرة بالاتجاهات الجديدة ومناقشتها، حتى غدا كتابي أقرب إلى موسوعة لكتب نقد القصة والرواية والسرديات، وهو مركب صعب ركبته، لاعتقادي أن السهل هو تتبع قضية نقدية والاكتفاء بإشارات لبعض المشتغلين بها ولبعض جهودهم. وثمة أمر سيلاحظه المهتمون هو أنني ناقشت جهود النقاد المتأثرين بالاتجاهات الجديدة حسب المجال النقدي الذي مارسوه، لا عرض جهد كل ناقد على حدة، فالنقاش حول قضايا النقد الأدبي العربي الجديد، وليس حول النقاد الممارسين له، فنوقش على سبيل المثال جهد عبدالفتاح كيليطو المتصل بنقد الموروث السردي في فصله الخاص، مرةً لدى نقاش الموروث السردي الشعبي وأخرى لدى نقاش الموروث السردي الأدبي، مثلما نوقش جهد سعيد يقطين (المغرب) أو عبدالله ابراهيم (العراق)، مثالين آخرين، في أكثر من فصل.
   ولما كان البحث متصلاً بمراجع الاتجاهات الجديدة ومصادرها، وهي غربية بلغات أوروبية، إنكليزية وفرنسية وألمانية وروسية وأسبانية، فقد أوردت أسماء الأعلام أو المصطلحات باللغة العربية، وبالحروف اللاتينية، حسب استعمالها بلغتها الأصل، الفرنسية أو الإنجليزية، وحسب ذكرها لدى هذا الباحث أو الناقد. وآثرت أن أذكر تاريخ طبعة الكتب الأجنبية لأول مرة بين قوسين، وأوردت اسم الكتاب ومؤلفه بالحرف اللاتيني، كلما تيسر لي ذلك.
   وبالنسبة للنقاد والباحثين العرب، فقد وضعت، بين قوسين، القطر الذي ينتمي إليه لمعرفة انتشار هذه الاتجاهات الجديدة في الأقطار العربية، مثلما وضعت، بين قوسين أيضاً داخل المتن، تاريخ طبعة الكتاب العربية الأولى، محيلاً بقية التوثيق ورقم الصفحات إلى ثبت الهوامش في نهاية كل فصل. وتجنبت إثقال المتن وثبت الهوامش بإحالات كثيرة، ولم أضع في ثبت المراجع والمصادر إلا الكتب التي جرى استخدامها في المتن، وهي كثيرة جاوزت الأربعمائة كتاب. وأغفلت توثيق الدوريات، مكتفياً بذلك في ثبوت الهوامش في نهاية كلّ فصل. ولا شك، أن مكتبة هذا البحث واسعة، مما جعلني أنفر من الشرح المستفيض، وألجأ إلى التحليل والتفسير النقديين، في مواءمة تستقيم مع المنهج الموضوعي، ومع سعة البحث وتشعبه، لأنني لا أسعى إلى التوثيق والإحصاء بالقدر الذي أعد فيه شغلي جدالياً يتلمس ظاهرة جلية في نقدنا العربي الحديث، هي قضية على قدر كبير من الخطورة تسهم، كما أسلفت، في استخلاص نتائج مفيدة في معرفة أدبية ونقدية باتجاه تعضيد الهوية القومية في الأدب العربي الحديث، على أن هذا الاتساع والتشعب ليس سبباً لإغفال نتاج نقدي ذي دلالة في مجال البحث، لذلك اعتمدت على مصادر البحث، وهي:

- الكتب النقدية المتأثرة بالاتجاهات الجديدة، أينما طبعت، وقد فاقت مائة وعشرين كتاباً، لنقاد وباحثين ينتمون إلى مختلف الأقطار العربية، ولاحظت أن بعضها مكتوب بأقلام من موريتانيا واليمن ودول الخليج العربي، مما يؤكد وحدة الثقافة العربية، وسيرورة انتشارها وعمليات إنتاجها.
  وينبغي التمييز في هذا المجال بين الكتب التي تعد نقداً للمصادر والمراجع، وهي قليلة جداً كما أشرنا في ذكر الدراسات السابقة، وبين الكتب النقدية المتأثرة بالاتجاهات الجديدة، سواء كانت مخصوصة بالنقد النظري، أو بنقد الموروث السردي، أو بالنقد التطبيقي، وقد تناولت بالنقد والتحليل الكتب المعبرة أكثر من سواها عن تمثلها للاتجاهات الجديدة.
- المقالات الأساسية في الدوريات الثقافية والأدبية العربية، وقد ذكرتها في المتن، وأجملتها في ثبت الفهارس. أما مراجع البحث المؤلفة والمترجمة فهي كثيرة أيضاً، ولم أعمد إلى مقايسة مصادر البحث بمراجعها الأجنبية في لغاتها الأوروبية، فهذا لا يتناسب مع حاجات البحث، بالإضافة إلى أنه ينوء عن طاقة فريق باحثين، فكيف بباحث فرد.
   لا شك أن الحصول على غالبية هذه المصادر والمراجع كما فصلت، لم يكن ميسوراً، ولكنني ذللت صعوبات كثيرة بالترحال، إلى أكثر الأقطار العربية، وطلب هذه المصادر والمراجع، أو بالمراسلة بمساعدة أصدقاء كثر من النقاد والباحثين أنفسهم من أقطار عربية عديدة، وينوء المقام عن ذكرهم جميعاً.
   وكانت الصعوبة الثانية هو توزع الجهد الترجمي العربي، وما يورثه من تأثيرات سلبية على حركة النقد والأدب، إذ ترجمت نصوص بعينها مرات كثيرة، مثلما اختلف المترجمون في الترجمة، ولاسيما المصطلحات وأسماء الأعلام، مثل ترجمة الحافز Motive الذي يترجم بالوحدة القصصية أو الفاعل أو العامل، وترجمة الإنشائيةPoetic التي ترجمت بالشعرية أو بالأدبية. ومثل ترجمة غريماس أو قريماس أو جريماس. غير أنني حاولت مجاوزة هذه المشكلات بإعمال النظر وبالحوارات الثمينة مع الأصدقاء النقاد، وهم كثر أيضاً على امتداد الوطن العربي.
   وأود أن أشيد في هذا المجال بالحوارات الثمينة مع الأصدقاء النقاد عبد الفتاح كيليطو (المغرب) ومحمد بنيس (المغرب) وسعيد يقطين (المغرب) ومحمد لطفي اليوسفي (تونس) وصلاح الدين بوجاه (تونس) وعبد الملك مرتاض (الجزائر) وعبد الله إبراهيم (العراق) وصلاح فضل (مصر) وحسام الخطيب (فلسطين) وسعيد السريحي (السعودية) ومنذر عياشي وعبد النبي اصطيف وقاسم المقداد (سورية) الذين أمدوني بالمراجع، وأعانونني كثيراً في مناقشاتنا، وفي فهم كتاباتهم وإسهاماتهم النقدية، مما ساعدني على تجنب بعض مزالق البحث.
   وأخص بالشكر الأصدقاء النقاد والأساتذة الدكاترة فؤاد مرعي (سورية) ووجيه فانوس (لبنان) وبسام قطوس (الأردن) ووائل بركات (سورية) الذين استفدت كثيراً من ملاحظاتهم النقدية. وإنني لمدين بالكثير للأستاذ الدكتور فيصل سماق لملاحظاته المنهجية الثمينة، ولفضله العميم عليّ. أما الشكر الأوفى فهو لزوجتي نائلة علي، فقد كان هذا الكتاب بعض دأبها وإخلاصها.

الفصل الأول : 
التطور التاريخي والفني :

  لنقد القصة والرواية في الوطن العربي

1- نظرة إلى نشأة نقد القصة والرواية:

  تُعزّز النظرة إلى نشأة نقد القصة والرواية في الأدب العربي الحديث أن النقد تالٍ للأدب، إذ ظهرت أعمال قصصية وروائية، وكان النقد مقصراً عن بلوغ شأوها الفكري والفني خلال ما اصطلحنا على تسميته المرحلة الأولى، فإذا كانت هذه الفنون شهدت نهوضها باتجاه الحديث والمستحدث في خضم النهضة العربية في القرن التاسع عشر، فإن النقد الأدبي الحديث لم يخرج من مخاضه العسير إلا في النصف الأول من القرن العشرين. ولو أنعمنا النظر في نشأة النقد الأدبي العربي الحديث، لعرفنا أن نقد القصة والرواية كان الأصعب مخاضاً لغلبة نقد الشعر على بدايات النقد ومراحله الأولى. وعلى هذا، فإن نظرتنا إلى نشوء نقد القصة والرواية في الأدب العربي الحديث وأهم ظواهره وقضاياه حتى عام 1970 تتوزع إلى مرحلتين، الأولى منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، والثانية منذ 1945 حتى عام 1970م.

1-1 المرحلة الأولى (حتى عام 1945):

تتسم الأصول الأولى للنقد الحديث باستغراقها في نقد الشعر، ولاحظ أحد نقاد تلك المرحلة، وهو عز الدين الأمين (مصر) في كتابه «نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر» (1957)، أن النقاد في الربع الأول من هذا القرن، مثلوا مذهبين، هما: 

«1- المدرسة القديمة التي تعنى بالنقد اللغوي، كما كان يفعل نقاد العرب القدماء، فتحفل بالصيغ والألفاظ والنواحي البلاغية، وربما تحمل على المذاهب الجديدة في النقد.
2- المدرسة الحديثة التي تعنى بالتجربة الشعرية والصياغة الفنية، وينصب نقدها على الناحية الموضوعية، وتنهج نهجاً غربياً في نقدها، ولا تهمل العناية بالنقد الفقهي»([17])، أي أننا لا نقع على نقد يتصل بالقصة أو الرواية لدى رواد هذا النقد في هذه المرحلة، وهم ينحصرون، حسب تصنيف عز الدين الأمين، بمصطفى صادق الرافعي، والمستشرق الإيطالي كارلو نلينو (درس في مصر وانتخب عضواً في المجمع اللغوي بمصر، وألف أهم كتبه في مصر)، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم المازني، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وزكي مبارك، وأحمد ضيف.
   ولا تختلف كثيراً صورة النقد الأدبي الحديث في ربع القرن الثاني، كما يظهره عبد العزيز الدسوقي (مصر) في كتابه «تطور النقد العربي الحديث في مصر» (1977) ، وهو يعالج موضوعه منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى مشارف الحرب العالمية الثانية، ففي حركة الانبعاث نشأ مناخ أدبي جديد، بعثت فيه مقاييس النقد العربي، وكان عبد الله فكري ونجا الأبياري وصالح مجدي ومصطفى جميعي أهم شخصيات حركة هذا الانبعاث، واتجه اهتمامهم إلى النقد اللغوي للشعر، وكشف الدسوقي عن شخصية مجهولة في حركة النقد آنذاك، هو محمد سعيد وكتابه «ارتياد السمر في انتقاد الشعر»، وكان أحمد فارس الشدياق ومحمد عبده وحسين المرصفي الأهم بين نقاد زمنهم. وتطورت الحركة النقدية إلى حركة التجديد، التي عنيت بالنقد النظري والتطبيقي للشعر: الدعوة إلى تطوير شكل القصيدة العربية ـ التمحيص العلمي للنصوص ـ موسيقى الشعر. وبرز تجديد الدراسة الأدبية في كتاب «منهل الوراد في علم الانتقاد» لقسطاكي الحمصي الذي يعد علامة من علامات تطور النقد الأدبي الحديث، ربما بسبب تأثره بالنقد الأوروبي، وقد تميز الكتاب بما يلي:

1.أول كتاب في النقد النظري باللغة العربية، تعرض فيه نظريات النقد الأوروبي واليوناني والروماني على تلك الصورة المرتبة.
2.أول كتاب عربي في مطلع القرن العشرين يرى أن النقد الأدبي علم له أصول وقواعد.
3.العناية بقواعد النقد الأدبي والناقد والاهتمام بالبيئة الزمانية والمكانية.
4.العناية بالنقد التطبيقي، وتقسيم الفنون الأدبية تقسيماً جديداً يهتم بالمسرحية والملحمة والقصة والرواية والمقالة، أي أن جنس القصة والرواية ورد ذكرهما باسمهما الصريح لأول مرة.
5.وقد قرر في الكتاب «أن الشعر التمثيلي باب لم يؤلف به العرب شيئاً، بل لم يكتب به إلا أفراد من المعاصرين كالشيخ خليل اليازجي وأديب إسحاق والشيخ نجيب الحداد، والثلاثة كانوا من نوابغ الكتاب المعاصرين.. وقد نسجوا على منوال الأفرنج».
6.وفي الكتاب عناية بالفنون الجميلة كالرسم والتصوير والحفر وغيرها من الفنون([18]).
ورأى الدسوقي أن تيارات للنقد العربي الحديث قد تكونت في الربع الثاني من القرن، وهي المدرسي والتاريخي (حمزة فتح الله وسيد المرصفي وجرجي زيدان ومصطفى صادق الرافعي)، وتيار التجديد (طه حسين ومحمد حسين هيكل ومصطفى صادق الرافعي)، وتيار الثورة (عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري)، على أن غالبية النقد اتجه إلى الشعر. وتلمس الدسوقي اتجاهات للنقد العربي الحديث، فوجدها التاريخي والنفسي والموضوعي والجمالي والاجتماعي، وقد «أثيرت، منذ وقت مبكر، معظم القضايا الجديدة التي ترددت فيما بعد على ألسنة رواد التيارات والاتجاهات كقضية الوحدة العضوية في الشعر، والصدق الفني، والتعبير عن الكتاب والجوهر، والاهتمام بالتجربة الفنية. كما اهتم كثير من رواد البعث والتجديد بإثارة قضية موسيقى الشعر والتجديد فيها، وأخذ الاهتمام على نحو ما، بالقصة والرواية والمسرح يظهر في ذلك الوقت المبكر»([19]).
وحدد عبد الكريم الأشتر (سورية) المعالم البارزة في النقد العربي الحديث، ووجدها تتمثل في كتب ثلاثة هي: «الديوان» (1921) للعقاد والمازني، و«الغربال» (1957) ليمخائيل نعيمة (المقالات منشورة في العشرينيات)، و«في الميزان الجديد» (1944) لمحمد مندور. أما نقد القصة والرواية فيها، فبدأ يبرز في ثالثها في نقده لبعض أعمال توفيق الحكيم وبشر فارس ومحمود تيمور وطه حسين، فقد تناول فيها «مسألة الأساطير في الأدب واستخدامها في التعبير عن مقاصد النفس البشرية الكبيرة، ومطامحها وأشواقها، حتى يعمق فهمنا لها، وفهمنا لأنفسنا من خلالها... وتناول في نقده لنداء المجهول (لمحمود تيمور) تيار الواقعية في الأدب القصصي ومعانيها في تصوير الشخصيات وسوق الحوار، ومشاكلة الواقع في نقده لدعاء الكروان (لطه حسين)، وضرورتها في خلق الأحداث ووصفها وحوار شخوصها»([20]).
ولدى معاينته للنقد الأدبي الحديث في سورية فيما بين 1918و1945، توقف سمر روحي الفيصل (سورية) عند المؤثرات الرئيسة في النقد الأدبي، وهي المجمع العلمي العربي والبحوث العلمية، والصحافة، والتراث العربي، والنقاد والأدباء المصريون، والنقاد الأجانب، وعدد أنواع النقد الأدبي، وهي النقد اللغوي والنقد الانطباعي، والنقد التاريخي، ورأى استمرارية للنقد اللغوي القديم وبحثاً دؤوباً عن نظرية لنقد الشعر، وغلبة للمساجلات النقدية، أي أن نقد القصة والرواية كان نادراً، وأن مواكبة النقد في سورية للنقد المتطور في مصر وفي المهجر لم تكن مرضية، فما «كان في قدرة النقاد السوريين تجنب عيوب المرحلة، من اهتمام بالنظرات الجزئية، وبعد عن النظرية النقدية، وإغراق في النقد الانطباعي، وخلط بين النقد اللغوي والنقد البياني، وانصراف إلى المقالة النقدية دون الدراسة والبحث، واهتمام بالنقد الفرنسي أكثر من النقد العربي القديم، وضمور في الخلفية الفلسفية التي تستجيب لتطلعات الشعب الثقافية»([21]).
  وتقصى نبيل سليمان (سورية) واقع النقد الأدبي في سورية خلال الفترة الممهدة للاستقلال (في الفصل الثاني من كتابه)، فرأى صعود فن القصة، إشارة إلى كتاب جميل سلطان «فن القصة والمقامة» (1944)، وكتاب نزيه الحكيم «محمود تيمور رائد القصة العربية» (1944)، والكتابان يتوازيان «من ناحية تحديث أدوات الناقد السوري، لكن لكتاب نزيه الحكيم بعد ذلك ميزات خاصة به. أولى هذه الميزات تتعلق بطبيعة الدراسة نفسها، فهي حقاً كما سجل صاحبها على غلافها الخارجي «دراسة تحليلية»، تتناول علم القصة العربية الأول في حينه. إن دراسة الحكيم، بهذا المعنى تطبيقية، تتصل بالواقع الأدبي الراهن في أدق مفاصله: القصة»([22]).
   ولم يقتصر ظهور طلائع النقد القصصي والروائي على سلطان والحكيم، فثمة نقاد أدب اهتموا بهذا النوع مثل عبد الغني العطري وخليل هنداوي ووداد سكاكيني.
  ولا يخفى أن الدراسات الكاشفة عن المراحل الأولى من النهضة العربية حتى خمسينيات هذا القرن، ما تزال محدودة توثيقاً إحصائياً، أو تحليلاً نقدياً، فقد كشفت عن ناقد مجهول، يدعى الشيخ راغب العثماني (سورية)، ونشرت بحثي عنه عام 1986 في مجلة «المعرفة» الدمشقية، وفي كتابي «الأدب والتغير الاجتماعي في سورية» (1990)، والشيخ العثماني من أهم نقاد القصة والرواية في فترة ما بين الحربين، من خلال كتابه «القصة والقصصي» المنشور خلال الثلاثينيات، و«لا أعرف كتاباً بكامله في النقد الأدبي العربي عن فن القصة حتى تاريخه بهذا الوعي النقدي والنماء الذوقي والبراعة الأسلوبية»([23]).
   ضم كتاب «القصة والقصصي» فصولاً عن الموضوعات التالية: أدب القصة ـ مهمة المؤلف القصصي ـ القصة في الأدب العربي ـ القصة في الأدب الوجداني ـ القصة في الشعر العربي ـ القصة في الأدب الروسي ـ القصة في الآداب الغربية ـ القصة في القرآن الكريم ـ القصة في السير النبوية ـ القصة في تاريخنا القومي ـ القصة في عالم السينما ـ القصة والرواية والتمثيل ـ القصة في العهدين الأموي والعباسي ـ القصة في الأدبين السوري والمصري. ولدى تحقيقي للكتاب ودراسته، وجدت ميزات كتابة الشيخ العثماني في نقده للقصة على النحو التالي:

1.النبرة الذاتية والميل الذوقي.
2.إيثاره لدور المربي في التوجيه الأدبي وتطوير فن القصة.
3.الوعي النقدي بفن القصة وبمصطلحها النقدي.
4.الإيمان بالتطور، وربط الأدب بالمجتمع.
5.نقد واقع القصة العربية.

  «ويبدو أن العثماني كان متابعاً لحركة التأليف القصصي العربية، وأن عزوفه عن النقد التطبيقي عائد إلى مستوى الكتابة القصصية التي لم يكن راضياً عنها، فانصرف إلى كتابة مبحث يسهم في التوجيه الأدبي وتقدم فنّ القصة، كتب العثماني: وقد لا نتجنى على أحد إذا قلنا أن القصة في بلادنا ما زالت في أول مراحل تطورها، وإننا إذا استثنينا بعض قصص متناثرة هنا وهناك لما وجدنا قصصاً حقيقية جديرة بالتقدير الأدبي الصحيح»([24]).
   إن طلائع نقد القصة والرواية تنتمي إلى فترة ما بين الحربين في مصر وبلاد الشام على وجه الخصوص، وهذا ما تؤكده دراسات نشأة القصة والرواية في الأقطار العربية المختلفة كما سنلاحظ فيما بعد لدى استعراض بعض هذه الدراسات. على أنني توقفت عند نموذج مرجعي واحد في قطر عربي هو المغرب، والنموذج هو كتاب عبد الرحمان طنكول (المغرب) «الأدب المغربي الحديث: ببليوغرافيا شاملة» (1984)، إذ تمتد الفترة التي تغطيها ثبوته من سنة 1960 إلى 1984، وعلل اختياره لهذا التاريخ بأن «الكل يعلم أن بداية الستينيات عرفت تكاثف الصراع السياسي وسط القطاعات المضطهدة من أجل تحقق الديمقراطية المنشودة. كما أنها عرفت ظهور عدد كبير من المجلات الثقافية والنصوص الإبداعية التي لعبت دوراً فعالاً في فرض ما يطلق عليه اليوم اسم الأدب الطلائعي بالمغرب، أي الكتابة الأدبية التي تطمح إلى تحقيق التغيير على المستوى المعرفي والاستتيقي والإيديولوجي. لكن تركيزنا على هذه الفترة لم يمنعنا من محاولة رصد بعض الدراسات التي صدرت في نهاية الخمسينيات، نظراً لأهميتها»([25]). 
   لا يماري أحد في منزلة مصر وبلاد الشام في الفكر النهضوي العربي، وهذا ما يؤكده أيضاً هاشم ياغي (لبنان) في كتابه «النقد الأدبي الحديث في لبنان» (1968)، وهو يقع في جزأين، الأول «الحركة النقدية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية» والثاني «المدارس النقدية المعاصرة». وقد تتبع ياغي جهود النقاد الممهدين للمدارس في الجزء الأول أمثال خليل مطران وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، على أن المعالجات النقدية الأبرز ظهرت في الثلاثينيات والأربعينيات عند عمر فاخوري وخليل تقي الدين وتوفيق يوسف عواد. أشار فاخوري إلى شأن القصص في الآداب الغربية وإلى شأنه في الآداب العربية، وبيّن الأثر الذي تركه في القصص عندنا عنصرا اللفظية والبعد عن الحياة في أدبنا، وعرض إلى جانب هذه القضايا، لناحية فنية في القصص تتصل بالحوادث والأشخاص والصدق والتجارب، في أضواء هذه العلاقة بين القصة والحياة.
   أما خليل تقي الدين فيعنى بقضايا في نقد القصة لعل من أهمها صلة القصة بالحياة أيضاً وميزاتها الاجتماعية، وأهداف القصة والقصاص، والقصة في الأدب العربي، والإشارة إلى منزلة القصة في الأدب الغربي، وبعض أمور فنية في القصة كالحوادث والعقدة، ثم تطور القصة بتطور الإنسانية، بينما لاحظ ياغي اهتمام توفيق يوسف عواد بقضية الصلة بين القصة والحياة، ومكانة القصة وسعتها الآن وطبيعتها، ورأيه في أن الأدب العربي لم يعرف القصة بالمفهوم الحديث، وحكمه في قياس الآداب بالجودة لا بالأنواع، وما رآه من تطور في الأدب، ومن ثم في القصة([26]).
   ولدى بحثه عن مصادر نقد الرواية في الأدب العربي الحديث في مصر، وقع أحمد إبراهيم الهواري (مصر) على 930 مادة صحفية، عن الرواية في الدوريات الصادرة بمصر، وكان محرروها غالباً هم الكتاب دون ذكر الأسماء، وظهر لأول مرة اسم كاتب معروف في عام 1910، هو صلاح الدين القاسمي في مقالته «نظرة في النظرات»، ثم توالت مقالات لكتاب على سبيل التقريض أو التعريف مثل محمود كامل (1918)، ومحمود تيمور (اعتباراً من عام 1920)، وعيسى عبيد (اعتباراً من عام 1922)، وحسين فوزي وعباس محمود العقاد (اعتباراً من عام 1925)، وإبراهيم المصري (اعتباراً من عام 1926)، ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى (اعتباراً من عام 1929). غير أن كتب نقد الرواية تأخر ظهورها مثل تطوره، فقد رصد الهواري نماذج من النصوص النقدية حول نظرية الرواية في وحدات ثلاث هي المهمة والطبيعة والنقد التطبيقي، وهي رحلة طويلة حتى بلغ نقد الرواية أشده وقوي ساعده. وقد كانت كلمات الهواري دالة على التطور البطيء لنقد القصة والرواية:

  «وما أحوج التنظير النقدي أن يتسلح بالروح العلمية الهادئة في معالجة قضايا نظرية الرواية من حيث مهمتها (الوجه الاجتماعي) وطبيعتها (الوجه الفني). وقد اتخذت من تاريخ ظهور العمل الروائي نواة تدور حولها الرؤى النقدية المتعاقبة، مما يتيح أمام القارئ أن ينظر من خلال الثابت (العمل الروائي) إلى المتغير (النظرة النقدية) بما يشي بالمنحى التاريخي للفكر النقدي»([27]).
  هذه هي بدايات النقد القصصي والروائي، ومنها انطلقت الجهود النقدية الواسعة تالياً.

1-2 المرحلة الثانية (1945-1970):

   تطورت الكتابة القصصية والروائية في هذه المرحلة، باتجاه تأصيل جنس أدبي هو القصة، كما عبر عن ذلك ناقد معتبر هو شكري محمد عياد (مصر) في كتابه «القصة القصيرة في مصر ـ دراسة في تأصيل جنس أدبي» (1969)، وباتجاه تحول الرواية إلى جنس أدبي مكتمل صارفي نهايات القرن إلى الجنس الأدبي الأول والأهم، والمتوج، بعد ذلك، بفوز نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب عام 1988، وهو اعتراف بقيمة الرواية العربية ورسوخها واندراجها في تقاليد السرد العربي. ويمكننا أن نحدد ملامح نقد القصة والرواية في هذه المرحلة فيما يلي:

1-2-1- التعريف بنشأة القصة والرواية:

  مضى النقد إلى التعريف بنشأة القصة أولاً وبالرواية ثانياً وإثبات تاريخيتها، وتحديد نشأتها وخصائصها في كل قطر عربي، كما هو الحال في مؤلفات شاكر مصطفى «محاضرات في القصة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية» (1957-1958)، ومحمد يوسف نجم «القصة في الأدب العربي الحديث ـ في لبنان حتى الحرب العظمى» (1952)، ويحيى حقي «فجر القصة المصرية» (1966)، وعباس خضر «القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى عام 1930» (1966)، وعبد الله ركيبي «القصة القصيرة في الأدب الجزائري المعاصر» (1969)، ومحمد زغلول سلام «القصة في الأدب السوداني الحديث» (1970).. الخ.
   كان كتاب محمد يوسف نجم (فلسطين) الأسبق في التأليف التعريفي النقدي، ولذلك حمل مواصفات الدراسات الأولى، مما اضطره إلى إجراء تعديلات كبيرة عليه بنفسه في طبعته الثالثة عام 1966، من الحذف إلى الإيجاز إلى أنها لا تمثله اليوم «وإن كنت راضياً كل الرضى عن أكثر ما جاء فيها، وعن الجهد الذي بذلته في إعداد مادتها وتيسيرها للقراء والباحثين»([28]).
واكتفي بذكر بعض الملاحظات التي ما تزال راهنة:

أ- قلق التعليل في تفسير نشأة القصة العربية الحديثة، فهو يرى ظهورها من مدرسة «المقامات» التي تطورت إلى المقالة القصصية، كما في أعمال الشدياق، ثم يجد القصة التاريخية امتداداً للغرب، وليس لعنترة والهلالية، ويعتقد أن النهضة الحقيقية للقصة الغربية في القرن التاسع عشر، وهذا ما جعل طانيوس عبده وأمثاله من أكبر المترجمين، ويتبدى هذا القلق في حكمه على القصص الاجتماعية على سبيل المثال:
«وعيبه الثاني (يقصد قصص سليم البستاني الاجتماعية)، ولعل مرده روح العصر أيضاً، وطبيعة الأدب الذي كان شائعاً في أوروبا والشرق آنذاك، هو خضوعه التام للقيم الرومنطيقية الفنية التي طبعت الأدب بهذه المبالغات التي لم نعد نقرها اليوم، بعد أن نما ذوقنا الأدبي وتهذب بفعل التطور الزمني واختلاف التقاليد والقيم الأدبية. إلا أن تلك القيم كان من الممكن أن تنتج أدباً رائعاً، كما حدث في أوروبا عندما تناولها أدباء عظام مثل هيجو وسكوت»([29]).
ب- يعتمد نجم على التلخيص وإبداء الرأي ومراعاة المستوى الفني في حينه، واقتطف مثالاً من حديثه عن زينب فواز العاملية (1860-1914):
   «أما أسلوبها فهو خليط من النثر البسيط والنثر المسجع، وهي تستعين بالسجع، وهو شعر النثر، في تصوير العواطف المتأججة أو الحوادث المثيرة. وتكثر من التمثيل بالأشعار، على طريقة الرومنطيقيين الذين نشأ في ظلهم سليم البستاني، ونشأت هي في ظله. وأسلوبها يشبه أسلوبه من حيث الركاكة وضعف التركيب وانعدام الشاعرية وضآلة الأوصاف الجميلة الملهمة. وهي تمتاز عنه بقلة الحشو والاستطراد والتخلخل»([30]).
  ومن الواضح، أن أدوات نجم النقدية أدخل في النقد اللغوي منه إلى معاينة الفن القصصي. 
جـ- ارتباك نجم في استخدام المصطلح، ونلمس الحيرة بين التأثير الأجنبي ومقايسة الموروث، ففي حديثه عن جبران خليل جبران، يذكر أنه حاول أن يكتب «رواية»، ويشرح في هامش أنه «يعني بها قصة Novel ويعني بالقصة، أقصوصة Short Story»([31]).
  وتكاد تكون مثل هذه الملاحظات ملازمة لنقد القصة والرواية في هذه المرحلة، وأولها الإلحاح على تعبير القصة الفنية، والقصة «غير الفنية» للكتابات القصصية التي لا تحوز على مستوى جيد، وثانيها الإلحاح على معالجة المضمون بالدرجة الأولى، وثالثها الحيرة الناجمة، بتأثير الملاحظتين السابقتين، من التقليد الموروث أو التقليد الغربي في فهم القصة، وهذا جلي في كتاب عباس خضر (مصر) «القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى سنة 1930» (1966)، وقد صرح في مقدمة كتابه أنه سعى إلى تبيين «القصة من اللا قصة: القصة الفنية الحديثة من غيرها. وقد وجدتني في بحر متلاطم الأمواج من القصص التي كانت تكتب بدوافع ولأغراض مختلفة: بعضها لكسب الرزق، وبعضها خلقي يتخذ وسيلة الحكي للجذب والتشويق، وبعضها للعرض الأسلوبي وإظهار المقدرة التعبيرية، وأقومها ما صدر عن إيديولوجيا إصلاحية، وكانت جميعها تتجه إلى الفن الغربي تحاول احتذاءه، وإن كان الكثير منها يقف على أرض التراث العربي القصصي، وخاصة فنّ المقامة»([32]).
  وعندما رصد تطورات القصة والرواية في مصر صنفها وفق هذه الملاحظات: المحاولات الأولى، القصة القصيرة الفنية المتكاملة، وفيها التفريعات الأصغر: القصة القصيرة الحديثة، القصة العربية الحديثة ولماذا تأخر صدورها، الثورة الفكرية العامة والمدرسة الحديثة، الثورة الأدبية، الثورة الاجتماعية، نشوء القصة القصيرة، الرواد، رواد آخرون. ويتضح هذا النظر النقدي المقلقل في نتائج المحاولات الأولى، كمثل هذه النتيجة:

  «أما الأمر الثاني فهو انشغال كتاب القصة بالتعبير عن المجتمع واهتماماته، باستثناء قليل من قصص التسلية، وقد امتد هذا الانشغال إلى ما جدّ بعد هذه المحاولات من قصص فنية متكاملة، وبهذا لم يرج عندنا مذهب «الفن للفن» في معظم ما كتب من قصص»([33]).
  وحملت الدراسات اللاحقة تطوراً باتجاه النقد القصصي والروائي في مصطلحه ولغته ومنهجه، كما هو الحال مع دراستي عبد الله خليفة ركيبي (الجزائر) ومحمد زغلول سلام (مصر). فقد اهتدى ركيبي إلى مصطلحات نقدية تقارب هذا البزوغ القصصي الجديد في عصر النهضة مستفيداً من الموروث ومن الصحافة ومن التأثير الأجنبي، فصنف الكتابات القصصية إلى البدايات حيث النشأة والمؤثرات والمقال القصصي والصورة القصصية والقصة الفنية. وعلل المقال القصصي بأنه «الشكل البدائي الأول الذي بدأت به القصة الجزائرية القصيرة. وقد تطور المقال القصصي عن المقال الأدبي، بل تطور عن المقال الإصلاحي بالدرجة الأولى، ذلك أن الوظيفة التي وجد من أجلها المقال القصصي هي الوظيفة التي قام بها المقال الأدبي والمقال الديني الإصلاحي. وارتباط الحياة الأدبية بالحركة الإصلاحية هو الذي جعل المقال القصصي يسير في خطها. فلم يكن الدافع إلى كتابته دافعاً فنياً أدبياً بقدر ما كان الدافع خدمة الفكرة والدعوة الإصلاحية أو «التبشير» على حد اصطلاح محمد السعيد الزاهري» ([34]).
   أما الصورة القصصية فقد قامت «بدور واضح لملء الفراغ الذي أحس به الأدباء والكتاب لانعدام هذا اللون من الأدب. ولكن دورها الأساسي كان معالجة موضوعات قد تبدو الآن جاهزة وعادية، ولكن في تلك الظروف التي مرّ بها الشعب كانت موضوعات الساعة التي شغلت أذهان الناس فسجلتها الصورة القصصية كنقد للواقع ومعالجة له، وإن لم تعتمد على المعالجة الفنية التي تتطلبها القصة القصيرة. وعلى كل فإنها شكل من أشكالها، وإن تكن شكلاً لم ينضج بعد»([35]).
   وعلى هذا النحو، سار النقد القصصي والروائي في مسار إجراءاته وأدواته ومنهجه شيئاً فشيئاً، أي افتراقه عن النقد اللغوي والأسلوبي السائد آنذاك. لقد بدأ النقد القصصي والروائي يستقيم في دروبه، ومن مظاهر هذه الاستقامة ما كتبه محمد زغلول سلام إلى حد ما، إذ عني بأطوار القصة السودانية في مقاربة لموضوعاتها وتطور أشكالها، وجهد لإبداء الرأي فيها دون تعسف ظاهر، كما في هذا الشاهد:

   «وتصيب القاص في هذه المرحلة بعض آفات الكتابة القصصية، مثل المبالغة في التصوير، والميل إلى التهويل في العبارة، واستخدام القوالب الإنشائية الجوفاء أو محاولة القاص الظهور والكشف عن نفسه بين السطور ليسوق الموعظة أو ليلقي بالنصح، ويستخرج العبرة، كما يسوؤها سرد الأحداث وإخضاعها للمصادفات أو تدخل الأقدار، وافتعال المواقف المأسوية العنيفة»([36]).
   ولعل سلام من أوائل النقاد الذين عمدوا إلى التحليل الفني لقصص بعينها في دراساتهم عناية بالشكل والموضوع والوصف والحوار وبعض التقانات الفنية مثل المفارقة والسخرية واللون المحلي. ولعله أيضاً من أوائل النقاد الذين حللوا أدب الطيب صالح، فضّم كتابه تحليلاً فنياً لكتابه القصصي «عرس الزين» (1967) الذي ضم الرواية أوالقصة المتوسطة التي تحمل اسم الكتاب، بالإضافة إلى مجموعة قصص، حملت في الطبقة الثانية للكتاب اسم «دومة ود حامد» (1972) بمعزل عن الرواية المذكورة التي صارت تطبع وحدها. ويلفت النظر تدقيقه للمصطلح حين حديثه عن «عرس الزين»، فهي قصة، برأيه، وليست أقصوصة ولا رواية([37]). ونلمس مثل هذا التدقيق في مناقشته لرواية «النبع المر» (1967) لأبي بكر خالد، في حديثه عن واقعيتها، أو روايتها بضمير المتكلم، أو إيقاعها البطيء، وحوارها المتنوع.

1-2-2- محاولات شاملة لرؤية تطور القصة والرواية:

   ثم شرع النقاد في تقديم نظراتهم الشاملة لنشأة القصة العربية وتطورها وقالبها، وظهر هذا جلياً في كتاب عبد العزيز عبد المجيد (مصر) المكتوب بالإنكليزية، وعنوانه «الأقصوصة في الأدب العربي الحديث: نشأتها، وتطورها، وقالبها» (1958)«The Modern Arabic Short Story»، وقد وضع له عنواناً ثانياً هو: «تطور شكلها وتحولاتها Its Emergence Development and Form»، وقد رأى ثلاث مراحل لتطور القصة هي:

المرحلة الأولى ـ البدائية The Embryonic Stage.
المرحلة الثانية ـ التجربة The Trial Stage.
المرحلة الثالثة ـ التشكيل وهي الحاضرة The Formative Stage.

   وربما كانت المرة الأولى التي يمحص فيها ناقد عربي مصطلحات القص الموروثة: قصة Qissa، سيرة Sira، حديث Hadith، حكاية Hikaya، السمر Samar، خرافةKhurafa، أسطورة Ustura، رواية Riwaya، نادرة Nadira، خبر Khabar، مثل Matbal، مقامة Magama ([38]). ومما يجدر أن كتابة هذه المصطلحات بحروف لاتينية من وضعه، وهذا أول اعتراف بخصوصية مصطلحات القصة العربية، لا إملاء مصطلحات أجنبية عليها.
  ولكتاب عبد المجيد أهمية خاصة، كونه يحوي ببليوغرافيا للكتب التي تناولت القصة والرواية حتى وقته، بالإضافة إلى الروايات والمجموعات القصصية، كما ضم الكتاب مختارات قصصية لعدد غير قليل من القصاصين من سليم البستاني ولبيبة هاشم إلى عبد الملك نوري وفكتوريا نجيب.

1-2-3- بواكير محاولات وعي الكتاب لفنهم القصصي والروائي:

  انخرط كتاب القصة أنفسهم في الكتابة عن تجاربهم أو في الكتابة النقدية، مثل كتاب محمود تيمور «دراسات في القصة والمسرح ـ فن القصص» (1964)، وكتاب عبد الحميد جودة السحار «القصة من خلال تجاربي الذاتية» (1966) وعبد السلام العجيلي «أشياء شخصية» (1968)، ويوسف الشاروني «دراسات في الرواية والقصة القصيرة» (1967).
  وتفصح أمثال هذه الكتابات عن وعي القصاصين والروائيين لتجاربهم الأدبية والفنية، وتتداخل فيها المقالة النقدية والبحث الأدبي ومفهوم الشهادة والسيرة الشخصية، على تباين بين الكتاب أنفسهم.
   ونستعرض نموذجاً ما ورد في كتاب السحار، فقد كتب عن أول عهده بالقصص وقصته الأولى، ونظر إلى الكاتب بوصفه ناقداً نفسه، فتناول الفكرة، والأسلوب، والحوار، والعامية والفصحى، وحبكة القصة، وطريقة عرض الحوادث (الترجمة الذاتية، وطريقة السرد المباشر، وطريقة الرسائل المتبادلة أو الوثائق، والمونولوغ الداخلي أو تيار الوعي)، والتفرقة بين القصة والموضوع، والواقعية والقصة، وخلق جو القصة، ,القصة التاريخية، والشخصيات الحية، والصراع والشخصية، مصدر الإلهام، والاقتباس من أكثر من شخصية حية، وخلق شخصيات من الخيال، وتقديم الشخصيات، الموقف من الشخصيات، تمرد الشخصيات، القصة والتحليل النفسي، القصة والجنس، القصة والرمز. الفكاهة والحزن، والنقد.

_____________

[1]. واثيونغو، نغوجي: «تصفية استعمار العقل» (ترجمة سعدي يوسف)- مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت 1987.

[2]. طرابيشي، جورج: «المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي». رياض الريس للكتب والنشر - لندن - بيروت - 1990.

[3].برادبري (مالكوم) وجيمس ماكفارين: «الحداثة» (ترجمة مؤيد حسن فوزي)- دار المأمون للترجمة والنشر 1989.
وقد ظهر الكتاب بالإنجليزية لأول مرة عام 1976، وترجم بعد ذلك إلى العربية أكثر من مرة، آخرها الترجمة التي ظهرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1998.

[4]. انظر مقدمة ابراهيم الخطيب لترجمته لنصوص الشكلانيين الروس في كتاب:
- «نظرية المنهج الشكلي - نصوص الشكلانيين الروس» - الشركة المغربية للناشرين المتحدين - الرباط ومؤسسة الأبحاث العربية - بيروت 1982 ص ص9-13 .

[5]. ظهر الكتاب بالإنجليزية لأول مرة عام 1927، وترجم إلى العربية أكثر من مرة، كان آخرها ترجمة موسى عاصي عام 1993 عن دار جروس بطرابلس- لبنان.

[6]. ابراهيم، عبدالله: «المتخيل السردي: مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة»- المركز الثقافي العربي- بيروت- الدار البيضاء 1990.

[7]. لحمداني، حميد: «النقد الروائي والأيديولوجيا من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي»- دار الثقافة- الدار البيضاء 1990.

[8]. لحمداني، حميد: «بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي»- المركز الثقافي العربي- بيروت- الدار البيضاء 1991 - ط2.

[9]. سويرتي، محمد: «النقد البنيوي والنص الروائي- نماذج تحليلية من النقد العربي- المنهج البنيوي- البنية- الشخصية» (جـ1)- أفريقيا الشرق- الدار البيضاء 1991.

[10]. سويرتي، محمد: «النقد البنيوي والنص الروائي- نماذج تحليلية من النقد العربي-الزمن- الفضاء- السرد» (جـ2)- أفريقيا الشرق- الدار البيضاء 1991.

[11]. المصدر نفسه - ص 129.

[12]. الكردي، عبد الرحيم: «السرد في الرواية المعاصرة: الرجل الذي فقد ظله نموذجاً» - دار الثقافة للطباعة- القاهرة 1992.

[13]. أبو أحمد، حامد: «نقد الحداثة» سلسلة كتاب الرياض- مؤسسة اليمامة الصحفية- الرياض 1994. ص58.

[14]. المصدر نفسه ص63.

[15]. المصدر نفسه ص65.

[16]. مارتن، والاس: «نظريات السرد الحديثة» (ترجمة حياة جاسم محمد) المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة - 1998- ص11.

[17]. الأمين، عز الدين: «نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر» ـ دار المعارف بمصر ـ القاهرة ـ ط2 ـ 1970 ـ ص122.

[18]. الدسوقي، عبد العزيز: «تطور النقد العربي الحديث في مصر» ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1977 ـ ص ص 194-195.

[19]. المصدر نفسه ص492.

[20]. الأشتر، عبد الكريم: «معالم في النقد العربي الحديث: الديوان ـ الغربال ـ الميزان» ـ منشورات دار الشرق ـ بيروت 1974 ص ص 88-89.

[21]. الفيصل، سمر روحي: «النقد الأدبي الحديث في سورية 1918-1945» ـ دار الأهالي ـ دمشق 1988 ص124.

[22]. سليمان، نبيل: «النقد الأدبي في سورية/ الجزء الأول» ـ دار الفارابي ـ بيروت 1980 ص49.

[23]. أبو هيف، عبد الله: «الأدب والتغير الاجتماعي في سورية» ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1990 ص140.

[24]. المصدر نفسه ـ ص151.

[25]. طنكول، عبد الرحمان: «الأدب المغربي الحديث ـ ببليوغرافيا شاملة» ـ منشورات الجامعة ـ الدار البيضاء 1984 ـ ص5-6.

[26]. ياغي، هاشم: «النقد الأدبي الحديث في لبنان» ـ دار المعارف بمصر ـ القاهرة ـ 1968 الجزء الثاني ص ص 144-150.

[27]. الهواري، أحمد إبراهيم: «مصادر نقد الرواية في الأدب العربي الحديث» ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1979 ص10.

[28]. نجم، محمد يوسف: «القصة في الأدب العربي الحديث، في لبنان حتى الحرب العظمى» ـ دار مصر للطباعة ـ القاهرة 1952 ص6.

[29]. المصدر نفسه ص77.

[30]. المصدر نفسه ص137.

[31]. المصدر نفسه ص148.

[32]. خضر، عباس: «القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى سنة 1930» ـ الدار القومية للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة 1966 ص5.

[33]. المصدر نفسه ص69.

[34]. ركيبي، عبد الله خليفة: «القصة القصيرة في الأدب الجزائري المعاصر» ـ دار الكاتب العربي ـ القاهرة 1969 ـ ص53.

[35]. المصدر نفسه ص139.

[36]. سلام، محمد زغلول: «القصة في الأدب السوداني الحديث» ـ معهد البحوث والدراسات العربية ـ القاهرة 1970 ـ ص80.

[37]. المصدر نفسه ص115.

[38]. عبد المجيد، عبد العزيز:
Abdel Al-Mageed, Abdel Aziz “The modern Arabic short story” Dar Al-Maaref. Gairo 1958. ص ص 11-27.


ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة