النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد
د. عبدالله أبوهيف
منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000م
محمد حسن عبدالمحسن الأدب الشعبي في موسوعة حلب للأسدي 1983
محمد الصالح محفوظ البطل في القصة القصيرة الجزائرية 1987
عبدالناصر مباركية الثورة التحريرية في الأدب القصصي الجزائري 1987
عبدالله تزروتي المرأة في روايات نجيب محفوظ 1987
عبدالله بن قرين اتجاهات النقد الأدبي الحديث في الجزائر 1987
حسين محمد قحام صورة الأرض في الأدب القصصي العربي في الجزائر 1987
إالهام طه نجار المنهج الواقعي في النقد الأدبي في سورية ولبنان 1987
محمد علي يحيى القصة القصيرة في اليمن 1939-1980 1989
سهام عبدالقادر
الفصل الثاني :
العوامل المؤثرة في تكوين الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية
نهض النقد الأدبي في الخمسينيات والستينيات نهضته المعتبرة، باتجاه أصالته، وانتشاره، وعلميته، معرفياً ومنهجياً، مصطلحياً ونظرياً وتخصيصاً، (النقد النوعي والمتخصص للأجناس الأدبية). غير أن اتجاهات نقد القصة والرواية الجديدة، بدأت بالتشكل والظهور في السبعينيات، وقد ساعد على هذا التشكل والظهور عوامل كثيرة أثرت تأثيراً بالغاً في الرواية والقصة ونقدهما بنهاجيات حديثة، مثل الترجمة، ووسائل الاتصال وثورة المعلومات، وتطور العلوم والنهاجيات المعرفية، وأبحاث الهوية، والتطلع إلى الحديث والحداثة، وهي العوامل الأهم، بالإضافة إلى الاتصال الشخصي بمصادر الاتجاهات الجديدة ومراجعها مباشرة، نتيجة لتعلم اللغات الأجنبية، ولوفرة الروافد العلمية والأكاديمية العربية، ممن درسوا في الجامعات والمعاهد الأجنبية.
وتسارعت عوامل أخرى لدى جمهرة عريضة من النقاد والباحثين، وهي في غالبيتها نتاج العلاقة المؤرقة بين الذات والآخر، بين التقليد العربي والمؤثرات الغربية، مثل التأليف المعجمي والمصطلحي والموسوعي في الأدب بعامة، والقصة والرواية بخاصة، والعلاقات بين الفنون، وأبحاث نظرية الأدب ونظرية القصة والرواية بعد ذلك، والبحث عن نظرية نقدية عربية:
1- الترجمة:
لقد نشطت الترجمة كثيراً خلال فترة البحث، ولاسيما ترجمة القصة والرواية وبحثهما. ويشير الكتاب الذي أصدرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بجزأيه «دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي» (1985) إلى النضج الذي بلغته الترجمة في أقطار عربية كثيرة، فقد «استأنف العرب، بتعبير شحادة الخوري، سعيهم في ميدان الترجمة، بعد أن حققت البلدان العربية استقلالها، وملكت حريتها، فجعلوا منها رافداً لثقافتهم الخصبة الأصلية التي يعتزون بها». و«المهم في الوقت الراهن معرفة الواقع والانطلاق منه إلى حال أفضل، بإحداث المؤسسات، وإصدار التشريعات، وسد الثغرات، واستنباط الوسائل التي تكفل التقدم والنجاح وتحقيق الهدفين الكبيرين: تعريب العلم والتعليم والمجتمع، والتواصل مع الثقافة الأجنبية إغناء لثقافتنا العربية، وتعريفاً بالعبقرية العربية وقدراتها الإبداعية في الأمس واليوم، وفي الغد»([41]).
إن شحادة الخوري، وهو الخبير المعروف في ميدان الترجمة، يؤكد بلوغ العرب مستوى النضج في الترجمة، استعادة للفترة الذهبية في عصر المأمون وبيت الحكمة في القرنين الثاني والثالث للهجرة، ويأمل الانطلاقة إلى حال أفضل تجعل الترجمة رافداً أساسياً من روافد الإبداع. ولعلنا ندرك هذا المستوى من النضج حين نقارن واقع الترجمة خلال فترة البحث، بواقعها في الفترات السابقة، فقد أقر حسام الخطيب (فلسطين) لدى دراسته لسبل المؤثرات الأجنبية في القصة السورية، أن الترجمة «قطعت شوطاً عظيماً في الخمسينيات، ولاسيما في المجال القصصي، وترجمت روايات وقصص كثيرة عن الفرنسية، وأحياناً عن الإنكليزية، وعن طريق هاتين اللغتين ترجمت آثار قصصية كثيرة عن آداب (أوروبية) أخرى كالروسية والألمانية والإيطالية والهندية والأسبانية والصينية وغيرها»([42]).
وما ذكره الخطيب لا يتجاوز عشرات الكتب، أما في فترة البحث فجاوز العدد المئات، ناهيك عن النضج في مستوى الترجمة وتخصصها، بفضل التطور في معرفة اللغات الأجنبية، إذ لم تعد مقتصرة على اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وفي احترافها وتطور تقاناتها، وتوافر الأعداد الكبيرة من مترجمي النصوص الأدبية الذين يتحلون بالشروط اللازمة لمثل هذه الترجمة([43])، وفي تعدد دور النشر العامة والخاصة التي زادت على المئات في بعض الأقطار العربية.
ونورد إشارات عن ترجمة القصة والرواية ونقدهما في فترة البحث:
1-1- ترجمة الرواية والقصة:
اقتصرت ترجمة الرواية على روايات ومجموعات قصصية قليلة في كل عقد حتى نهاية الستينيات، ولكن الانطلاقة الكبيرة حدثت في السبعينيات بتخصيص سلاسل خاصة بالرواية والقصة العالمية لدى عدد من دور النشر العربية، أو اعتماد سياسة نشر مستمرة للروايات والقصص العالمية.
كانت دار الهلال، تنشر رواية كل شهر، من الروايات البوليسية أو الاستهلاكية أو المقتبسة، ونادراً ما نشرت روايات أو قصصاً مما يعد نماذج طيبة لهذين الجنسين القصصيين. وشرعت دور نشر عامة وخاصة بنشر رواية أو روايتين كل عام، على تفاوت في الستينيات، مثل «دار اليقظة العربية» (دمشق)، و«دار الآداب» (بيروت)، و«المكتبة الحديثة» (بيروت)، و«دار المعارف» (القاهرة)، و«مكتبة الأنجلو المصرية» (القاهرة)، و«الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي ـ سلسلة الألف كتاب» (القاهرة) و«الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ سلسلة الجوائز العالمية» (القاهرة)، و«دار الكاتب العربي ـ سلسلة من الأدب العالمي ـ وسلسلة من الشرق والغرب» (القاهرة)، و«دار مجلة شعر» (بيروت)، ثم كانت الانطلاقة الأكبر في السبعينيات والثمانينيات، واذكر بعض الملامح:
· الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة): سلسلة «روايات عالمية»، بالإضافة إلى عشرات الروايات، ومثلها عشرات المجموعات القصصية، والأعمال الكاملة لديستويفسكي.
· وزارة الثقافة (دمشق): سلاسل «روايات عالمية» و«القصة العالمية»، بالإضافة إلى عشرات الروايات والمجموعات القصصية، والأعمال الكاملة لليو تولستوي.
· دار الآداب (بيروت): أصدرت مئات الروايات العالمية، من اليابان وفرنسا وأمريكا وغيرها.
· دار عويدات (بيروت): أصدرت عشرات الروايات الفرنسية.
· دار الهلال (القاهرة): تابعت سلسلة «روايات الهلال» نشر الروايات العالمية، وقد عدلت في سياسة النشر كثيراً، فنشرت روايات ومجموعات قصصية هامة وجادة.
· دار النهار (بيروت): نشرت بعض الروايات العالمية، ومنها «جناح السرطان» لسولجنتسين.
· مؤسسة الأبحاث العربية (بيروت): نشرت سلسلة «ذاكرة الشعوب»، وفيها أكثر من أربعين رواية عالمية مزودة بمقدمات نقدية شارحة، وبعض المجموعات القصصية.
· دار الفارابي (بيروت) ودار العودة (بيروت) ودار ابن رشد (بيروت) ودار سعاد الصباح (الكويت)، وعشرات دور النشر المماثلة: نشرت عشرات الروايات والمجموعات القصصية.
· دار التقدم ودار رادوغا (موسكو): نشرتا مئات الروايات والمجموعات القصصية الروسية والسوفييتية، والأعمال الكاملة أو شبه الكاملة لبعض القصاصين والروائيين مثل انطون تشيخوف وديستويفسكي وتورجينيف ومكسيم غوركي.
· المكتب الإعلامي البلغاري (دمشق): نشر عشرات الروايات والمجموعات القصصية البلغارية لدى دور نشر صغيرة بدمشق.. الخ.
وتحتاج حركة نشر القصة والرواية المترجمة إلى دراسة خاصة للتعرف النوعي والكمي والأسلوبي والفكري لاستقبالهما في الوطن العربي، استمراراً لما فعله عبده عبود (سورية) في دراساته المتعددة لاستقبال الرواية الألمانية في الثقافة العربية، كما في كتابيه: «الرواية الألمانية الحديثة: دراسة استقبالية مقارنة» (1993) و«هجرة النصوص: دراسات في الترجمة الأدبية والتبادل الثقافي» (1995).
1-2- ترجمة نقد القصة والرواية:
نشطت ترجمة نقد القصة والرواية أيضاً، فظهرت عشرات الكتب المترجمة للمنظرين والنقاد والباحثين أمثال جورج لوكاتش، وبيرسي لبوك، وايان واط وارنولد كيتل، وروجر ألن، وفرانك كيرمود، وجان ايف تادييه، وجان ريكاردو، ومارت روبير، ويانكولافرين، وريتشارد فريبورن، وللروائيين والقصاصين أمثال انييس نن وآلان روب جرييه وميشيل بوتور وغابرييل غارسيا ماركيز ونغوجي واثيونغو.
مثلما ترجمت عشرات الكتب عن روائيين وقصاصين ومنهم أمثال ديستويفسكي (ظهرت عنه أكثر من خمس كتب مترجمة) وتولستوي وبلزاك ومارسيل بروست واندريه مالرو وتشيخوف.
ويلاحظ، أن الكتب المترجمة اتجهت إلى الموضوعات التالية([44]):
1- الرواية الإنجليزية.
2- الرواية الفرنسية.
3- الرواية في أوروبا.
4- القصة في أوروبا.
5- القصة والرواية الروسية.
6- القصة في أوروبا.
7- الرواية الجديدة الفرنسية.
8- الرواية والقصة في أمريكا اللاتينية.
9- القصة والرواية العربية، أي ما كتبه المستشرقون والأجانب عن القصة والرواية العربية.
10- القصة والرواية في اليابان.
2- الروافد الأكاديمية:
مارست الروافد الأكاديمية من خريجي الجامعات والمعاهد العليا بأطروحاتها العلمية تأثيراً متزايداً في تنمية نقد القصة والرواية، وفي إشباع البحث العلمي بالمنهجية المعرفية الحديثة. إن نظرة إلى حجم الأطروحات والرسائل الجامعية في الدراسات الروائية والقصصية في فترة البحث قياساً إلى الفترة ما قبلها يوضح حركة حركة النقد القصصي والروائي، ففي دراسة لمختار بوعناني (الجزائر) عن «بيبلوغرافيا الرسائل الجامعية في الدراسات الروائية» (تجليات الحداثة 1994) بين أن عدد الأطروحات بلغ اثنتين وعشرين أطروحة في مختلف الجامعات العربية والأجنبية حتى عام 1970، بينما نوقشت أكثر من مائة وخمسين أطروحة فيما بين عامي 1970 و 1984، بعد استدراكي لبعض الأطروحات التي غفل عنها الثبت، وقدم عدد مماثل من الأطروحات حول القصة القصيرة. ويلاحظ أن اهتمامات الأطروحات وفق التالي:
اهتمامات بالطفل: 3 أطروحات.
اهتمامات بالمرأة: 8 أطروحات.
اهتمامات بالمجتمع: 10 أطروحات.
اهتمامات بالأرض: أطروحتان.
اهتمامات بالشخصية الروائية: 9 أطروحات.
اهتمامات بالاتجاهات الروائية: 16 أطروحة.
اهتمامات بالأثر الروائي والتطور الاجتماعي: 7 أطروحات.
اهتمامات بالمؤثرات الأجنبية: 5 أطروحات.
اهتمامات بالدراسة المقارنة: 3 أطروحات.
اهتمامات بالصورة من خلال الرواية: 7 أطروحات.
اهتمامات بالبناء الروائي: 21 أطروحة.
اهتمامات بالقضية الجزائرية: أطروحتان.
اهتمامات بالرواية المكتوبة بالفرنسية: 3 أطروحات.
اهتمامات لها صلة بفن الرواية: 6 أطروحات.
اهتمامات بالبطل الروائي: 7 أطروحات.
اهتمامات بالتطور الروائي: 3 أطروحات.
اهتمامات بالرواية التاريخية: 7 أطروحات.
اهتمامات بالرواية والروائي: 13 أطروحة.
اهتمامات بالرواية الخاصة ببلد عربي: 5 أطروحات.
اهتمامات بالمكان والزمان: 5 أطروحات.
اهتمامات بالتأثر والتأثير وبالصراع بين الرواية العربيةوالرواية الغربية: 3 أطروحات.
اهتمامات بقراءة الرواية: أطروحتان.
اهتمامات بالخطاب الروائي: 5 أطروحات.
اهتمامات بالرواية الجديدة: 10 أطروحات.
ولو تأملنا هذه الاهتمامات لوجدنا أن العناية بالفن وقضاياه تفوق العناية بالموضوعات وقضاياها، واذكر ملمحين لذلك، فقد كانت دراسات الرواية التاريخية، باستثناء دراستين، قد نوقشت في الجامعات قبل عام 1970:
· روايات جرجي زيدان التاريخية ودورها في الرواية المصرية ـ همداني علي ـ جامعة القاهرة 1961 (ماجستير).
· الرواية التاريخية في الصحف المصرية ـ محمود الشريف ـ جامعة القاهرة 1969 ـ (ماجستير).
· الرواية التاريخية في الأدب ـ عبد الرحمن أبو علي 1968 (دكتوراه).
· الرواية وتطورها في الأدب العربي الحديث في مصر 1891-1939 ـ محمود الشريف (ماجستير).
· الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث ـ منصور إبراهيم الحازمي ـ جامعة لندن 1966 (دكتوراه).
· الرواية التاريخية عند جورجي زيدان ـ حسين التلباني ـ جامعة الجزائر 1983 ـ (دكتوراه).
· الرواية التاريخية في الأدب العربي في سورية ـ عبد الرحمن برمو ـ معهد الاستشراق ـ بموسكو 1993.
أما الملمح الثاني فهو أن دراسات الخطاب الروائي، على سبيل المثال، جرت في التسعينيات:
· مكونات الخطاب الروائي في «شكاوى المصري الفصيح» ليوسف القعيد ـ إلهام الإدريسي القاسمي ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط 1991 (ماجستير).
· مكونات الخطاب الروائي ـ فاطمة بنطاتي ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط 1991 (ماجستير).
· خطابات المستنسخ في الرواية العربية: نموذج حليم بركات ـ أحمد حفيظ ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط ـ 1991 (ماجستير).
· الخطاب الروائي: نشأته وتطوره في الأدب العربي الحديث 1834-1980 ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط ـ 1991 (ماجستير).
· بحث في الأنساق الخطابية للواقعي والتخييلي في الخطاب الروائي العربي من خلال: الوجوه البيضاء. بدر زمانه. مالك الحزين. عبد الفتاح الحجمري ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط ـ 1991 (ماجستير)([45]).
ولعلنا نذكر قائمة تفصيلية للأطروحات (الماجستير والدكتوراه) التي قدمت في جامعة حلب وحدها، على سبيل تدعيم القول في مدى تأثير الروافد العلمية في الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، وتوكيد أن هذا الثبت غير دقيق في الوقت نفسه:
الباحث الموضوع عام المنح
محمد حسن عبدالمحسن الأدب الشعبي في موسوعة حلب للأسدي 1983
محمد الصالح محفوظ البطل في القصة القصيرة الجزائرية 1987
عبدالناصر مباركية الثورة التحريرية في الأدب القصصي الجزائري 1987
عبدالله تزروتي المرأة في روايات نجيب محفوظ 1987
عبدالله بن قرين اتجاهات النقد الأدبي الحديث في الجزائر 1987
حسين محمد قحام صورة الأرض في الأدب القصصي العربي في الجزائر 1987
إالهام طه نجار المنهج الواقعي في النقد الأدبي في سورية ولبنان 1987
محمد علي يحيى القصة القصيرة في اليمن 1939-1980 1989
سهام عبدالقادر
ناصرنقد القصة القصيرة في سورية من نشوئه إلى عام 1985 1990
أحمد عبدالرحيم الحسن
أحمد عبدالرحيم الحسن
دراسة في نقد الرواية السورية من 1930 إلى 1985 1990
أمية ترمانيني
المرأة وصورتها في الأدب الروائي السوري إلى 1967 1990
خالد أعرج المؤشرات البنيوية في النقد العربي في سورية ولبنان 1991
يوسف اسماعيل النزوع الوطني في سيرة الأميرة ذات الهمة 1991
مرشد أحمد جماليات المكان في روايات عبدالرحمن منيف 1992
محمد عادل حمادة عرب
المعالجة الفنية للتاريخ في الرواية السورية حتى عام 1961 1992
نضال الصالح
الأرض في الرواية العربية الفلسطينية من 1965 إلى 1982 1992
محمد رياض وتار
شخصية المثقف في الرواية العربية السورية من 1967 إلى 1990 1996
خالد أعرج النقد العربي المعاصر في مصر والمشرق العربي 1999
سهام ناصر المصطلح النقدي وعلاقته بالتيارات الأدبية والاجتماعية 1999
أمية ترمانيني
المرأة وصورتها في الأدب الروائي السوري إلى 1967 1990
خالد أعرج المؤشرات البنيوية في النقد العربي في سورية ولبنان 1991
يوسف اسماعيل النزوع الوطني في سيرة الأميرة ذات الهمة 1991
مرشد أحمد جماليات المكان في روايات عبدالرحمن منيف 1992
محمد عادل حمادة عرب
المعالجة الفنية للتاريخ في الرواية السورية حتى عام 1961 1992
نضال الصالح
الأرض في الرواية العربية الفلسطينية من 1965 إلى 1982 1992
محمد رياض وتار
شخصية المثقف في الرواية العربية السورية من 1967 إلى 1990 1996
خالد أعرج النقد العربي المعاصر في مصر والمشرق العربي 1999
سهام ناصر المصطلح النقدي وعلاقته بالتيارات الأدبية والاجتماعية 1999
ويستفاد من هذه المقارنة تعاظم النقد القصصي والروائي المستند إلى الاتجاهات الجديدة في فترة البحث بتأثير الروافد العلمية لحركة النقد والبحث الأدبي بنهاجيات علمية حديثة.
3- تطور العلوم والنهاجيات المعرفية:
ثمة علاقة ظاهرة للعلوم وتكنولوجيا المعلومات بالأدب، وقد اخترت جانبين لهذه الظاهرة، الأولى هي تأثير العلوم والعلم، والثانية هي تأثير تكنولوجيا المعلومات:
3-1- تأثير العلوم والعلم:
عولج تأثير العلوم والعلم على الأدب والنقد في عدة مصنفات ترجمت إلى العربية خلال العقدين الأخيرين، مثل: «على مشارف القرن الواحد والعشرين: الثورة التكنولوجية والأدب» (بالروسية 1984) لفالنتينا ايفاشيفا([46])، بترجمة فخري لبيب (مصر)، و«الفن في عصر العلم» (بالروسية 1978) لأرسيني غوليكا([47])، بترجمة جابر أبي جابر ومراجعة شوكت يوسف (سورية)، و«النقد الأدبي الحديث بين الأسطورة والعلم» (1988) لعدة مؤلفين([48])، بترجمة محي الدين صبحي (سورية).
وكانت هذه المعالجات عامة لمفاهيم التقدم والنمذجة والجمالية والأخلاق في استخدام العلوم والعلم في الأدب، ولتقصي آفاق العلم في الفن والأدب، فدرس غوليكا، على سبيل المثال، التقدم في الفن وجمالية الكشف العلمي وموقف الفن من العلم والأخلاق، ووصف المؤلف عمله بأنه «دراسة معضلة وشاملة، لتفاعل الفن مع التقدم العاصف للمعرفة العلمية، إذ يتميز الفن بقدرته على استباق الزمن في تصويره للواقع، وهذه الصفة بارومتر المناخ الروحي. فالفنان لا يرى فحسب، بل ويتنبأ، وحين تكون ظواهر الحياة في بداية تشكلها، يتفاعل حدس الفنان مع النتائج المحتملة. إن الفن في عصر الثورة العلمية التقنية هو فن القرن العشرين الذين يشارف على نهايته، وقد حان الوقت لاستخلاص بعض النتائج التمهيدية في ضوء سيرة الفن السالفة»([49]).
ولا يختلف اثنان على التأثير العميق للعلم على الأدب، كأن تكون فكرة الفن أسلوباً في المعرفة، أو أن تكون الرواية بحثاً كما عند ميشيل بوتور وروائيي الرواية الجديدة، أو أن تكون الرواية سجلاً للواقع والمجتمع كما في الرواية التاريخية والإنسيابية، أو أن تكون الرواية تفسيراً للسلوك الإنساني والنفسي، أو أن تكون الرواية أو القصة وثيقة تاريخية، أو أن تصاغ الرواية أو القصة وفق النظرة النسبية، وقد مارسها عدد من روائيي العصر ممن كان لهم تأثيرهم البالغ على الرواية العربية ونقدها، وأخص بالذكر وليام فولكنر ولورنس داريل، ولا سيما روايتيهما «الصخب والعنف The Sound and the Fury» (ترجمها جبرا إبراهيم جبرا إلى العربية عام1961)، و«رباعية الإسكندرية Al-Exandrian Quartrian» (ترجمت الجزأين الأول والثاني ـ سلمى الخضراء الجيوسي عام 1962، ثم ظهرت الأجزاء الأربعة عام 1993 من قبل مترجم آخر).
ويؤكد عدد من نقاد داريل، على سبيل المثال، أن اكتمال فهمنا لمؤلف «رباعية الإسكندرية» غير ميسور ما لم نحط علماً بنظرية النسبية التي يدعو إليها، ويطبقها في أدبه. ويستمد داريل هذه النظرية من نظريات اينشتاين في الرياضة. ويشرح لنا هذا الكاتب نظريته الأدبية في النسبية التي يسميها «استمرار الزمان والمكان». ويضيف رمسيس عوض في كتابه «دراسات تمهيدية في الرواية الإنجليزية المعاصرة» (1971)، أن ديرل دافع عن نفسه بقوله: إنه أراد بكل بساطة أن يقوم بأداء بعض الألعاب الشعرية على فكرة نسبية الزمان والمكان بوصفها إحدى الأفكار الكونية الهامة في العصر الحديث. ويقول ديرل: إنه يعبر في رباعيته عن هذه النسبية، وإنه يتوسل إلى ذلك بالشخصيات، بدلاً من الأرقام التي يستخدمها علماء الرياضة([50]).
3-2- تأثير تكنولوجيا المعلومات:
أوردت فالنتينا ايفاشيفا في كتابها المذكور شهادات عدد من الأدباء عن تأثير التكنولوجيا على الأدب، ففي نهايات الستينيات، عبر البرتو مورافيا عن حنقه من أن الأدب سيصبح أكثر فأكثر وثيقة أو سجلاً، وأن الرواية الخيالية ستختفي تدريجياً، وأن العنصر الروائي الخيالي سيجتث، أو على الأقل، سيختزل لحده الأدنى، ولخصت الباحثة السوفييتية أثر التكنولوجيا الحديثة على الأدب في ثلاثة توجهات رئيسة: توجه الأدب والدراما نحو الوثائقية، ورواج روايات الخيال العلمي، وميل الأدب إلى الفلسفة([51]).
والتفت النقاد إلى تعاظم هذا الأثر على الأدب، فترجم أحمد المديني (المغرب) بحث كربال سبينغ «التكنولوجيا والرواية» (الثقافة الأجنبية (1984). غير أن النقاش الأهم لهذا الأثر ومداه في الأدب العربي الحديث، قام به نبيل علي (مصر) في مقالته «ذات صنع الله إبراهيم من منظور معلوماتي» (إبداع 1992)، وكتابه «العرب وعصر المعلومات» (1994)، فقد خص هذه القضية بفصل مطول في كتابه، واستنتج فيه الخلاصات التالية:
- بروز الوثائقية كإحدى ظواهر أثر التكنولوجيا الحديثة على الأدب.
- فقر الأدب العربي بأدب الخيال العلمي، لأن معظم كتابه من العلماء خاصة، ويفتقدهم الأدب العربي الحديث.
- الكتابة الروائية في نظر أهل الذكاء الاصطناعي نوع من توليد النصوص **** Generation، وهم قانعون، على الأقل حالياً ـ بأن تكون حدود مغامراتهم في مجال الإنتاج، لا الابتكار، ولكن لا يفوتهم أن يذكرونا بأن معظم الروايات الاستهلاكية، بل ومنها تلك الأكثر رواجاً، تندرج تحت فصيلة الإنتاج، لذا فلا يقلل من طموح الآلة في رأيهم أن تحذو حذوها.
- إمكانية إنتاج قصص عبر النظم الآلية: صانع الحبكة Plot Maker، صانع عالم الرواية World Maker، محاكي الأحداث Events Simulator، ناظم السردNarrator، مولد النص **** Generator.
- تصاعد الاتجاه نحو التركيز على دراسة «أدبية» النصوص من داخلها، وتشترك نظرية الأدب والذكاء الاصطناعي في العديد من الأسئلة المتعلقة بطبيعة المعنى والفهم([52]).
4- وسائل الاتصال وثورة المعلومات:
4-1 وسائل الاتصال والرواية الاستهلاكية:
إن التطور الهائل في وسائل الاتصال وثورة المعلومات قد أثر في الإبداع العربي برمته، ولا سيما الرواية ونقدها، فطالت التبدلات العميقة التعبير الروائي والقصصي ونقدهما، وهي تبدلات عنيفة لا سبيل إلى الفكاك منها، لأنها مست الثقافة العالمية، وآدابها في الجوهر وفي الشكل. والتمس لملاحظة مثل هذه التبدلات مثالين هما الرواية الاستهلاكية للتعرف إلى تأثير وسائل الاتصال، واللغة العربية للتعرف إلى تأثير ثورة المعلومات.
لم تصل موجة الروايات الاستهلاكية إلى السوق الأدبية العربية إلا متأخرة على استحياء وظهرت بوادرها في الثمانينيات في الكتابة لوسائل الاتصال بالجماهير كالصحافة والإذاعة والتلفاز والسينما، ويدل هذا التوصيف الواقعي والتاريخي على أن الكتابة الروائية العربية ما تزال بعيدة عن ضغوط السوق التجارية، أن ثمة شروطاً يفرضها الآن منتج البرامج والأشرطة التلفزيونية والسينمائية أو ممول المسرح أو ناشر الجريدة أو المجلة لقبول إعادة إنتاج الأدب عبر هذه الوسائل وقنوات الاتصال، ومما يؤيد مثل هذا الرأي أن بعضاً من أهم الروائيين العرب ما زالوا بعيدين عن قوانين السوق التجارية، فلم تتأثر جماليات الرواية عندهم بمعطيات التغيير الثقافي الكلي كما هو الحال في أوروبا وأمريكا، ونذكر منهم عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وغالب هلسا وادوار الخراط وعبد السلام العجيلي والياس الديري ومحمد الصالح الجابري وعبد الرحمن مجيد الربيعي ونبيل سليمان، وإنما بدأت تداخل أساليبهم أنواع من الاهتمام بتأثير وسائل الاتصال.
ويقودنا مثل هذا الاستنتاج إلى أن إسهام الروائي العربي أكبر في تحديد جماليات روايته، وأن هذا الإسهام أكبر بعد ذلك في تثمير أدوار الأديب في عمليات التفكير الثقافي العاصفة في حياتنا. على أننا سنذكر إشارات أخرى حول موجة الرواية الاستهلاكية بالنظر إلى تأثير التغير الثقافي في صياغة معايير الرواية وتوجيه جمالياتها ونقدها في الوقت نفسه من أجل قرائن أكثر مع جماليات الرواية العربية وانبثاقها من عمليات التغير الثقافي الواسعة والعميقة منذ الخمسينيات، وما يستدعيه من حساسية نقدية جديدة.
كيف تنتشر الرواية الاستهلاكية؟ وما هي محاولات ترويجها باللغة العربية؟.
لاحظنا أن الرواية الاستهلاكية العالمية، وهذه هي حدود نشأتها، قد ترافقت مع نمو الحس الاستهلاكي فيما سمي ملء أوقات الفراغ بادئ الأمر، والاندراج في التسلية التي شرع المشتغلون بعمليات الاتصال يحسبون لها حساباً في برامجهم لكسب الجمهور، ثم شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حمى محاولات كسب الجمهور عن طريق وسائل الاتصال، ولاسيما فنون الصوت والصورة المكتشفة آنذاك من جهة، وفنون الصحافة الراسخة من جهة أخرى، فتطورت الكتابة الروائية في منحى الاستهلاك الذي يراد منه التسلية وتزجية أوقات الفراغ بالدرجة الأولى إلى إدخال الرواية والقصص بشكل عام في دائرة تزييف الوعي، أي تفريغ هذا الجنس الأدبي من الفكر والتاريخ والمجتمع خلل صياغة كتابات روائية وقصصية خاضعة لتصنيفات موصوفة مسبقاً لا تبتعد عن إدهاش السرد والمقدرة الحكائية الجذابة التي يقدم من خلالهما أو بوساطتهما حبكات مدروسة بعناية بما يجعلها نفورة من الهموم أو الاهتمامات الجدية، وقد تصدر هذا التصنيف مجموعة من التوابل أولها التركيز على العواطف المنفصلة غالباً عن جذرها الاجتماعي والنفسي، فيجري الولع بالأفعال العاطفية وردودها ضمن آليات رتيبة متوقعة، مثلما يحرص كّتاب هذه القصص والروايات على أن تدور الأحداث والوقائع، إن وجدت وقائع، لأن الوقائع مما ينتمي إلى التاريخ، في بيئات ثرية لا يعاني أفرادها الفاقة أو البؤس أو الحرمان، اللهم إلا الحرمان من فقدان التوافق في الحب.
وثمة خصائص أخرى نذكر منها تجميل الواقع من أجل قبوله، ووضع المتلقي في بهرج التعلق بنمط الحياة الذي تعرضه هذه الكتابات الروائية والقصصية، وغالباً ما يسمون هذا التعليق بأنه أحلام، فالمرء قادر بتقديرهم، على تغيير وضعه، واللحاق بهذا النمط، والذين تابعوا الأفلام «الهوليودية» في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات يدركون ذلك الحرص على ترويج هذه الخصائص ولوازمها مثل الرجال الوسيمين الجذابين، والنساء الساحرات، والطبيعة الخلابة، والطابع السياحي الجميل للأماكن الباذخة. والشعور بالوفرة إلى حد التخمة غالباً، والحرية المطلقة بعيداً عن قيود المجتمع والأسرة والدين والالتزامات الأخرى.. الخ، ولقد عاشت السينما المصرية على تقليد هذه الأفلام إلى وقت قريب اقتباساً أو تعريباً بشكل من الأشكال، ومع طغيان الأنماط الاستهلاكية على الحياة العربية مع مطلع السبعينيات بدأ تيار الرواية الاستهلاكية العربية يتشكل إثر هجمة التلفزيون على مختلف أجهزة الثقافة والإعلام واكتساحه لفنون الاتصال الأخرى، ولا سيما السينما والمسرح.
ثم تفاقمت هيمنة التلفزيون مع استتباب التبعية للغرب الذي بات متحكماً بالخبر والصورة معاً، ومحتكراً لصناعتهما عبر الشركات الاحتكارية الكبرى المشهورة إلى جانب وكالات الأنباء المصورة وسواها. ومن أمثلة المسلسلات التلفزيونية الرائجة والمنتشرة في الوطن العربي كله «دالاس» و«داينتسي» و«سفينة الحب» و«سانتينال»، بالإضافة إلى مئات البرامج والمسلسلات المأخوذة عن الروايات المعروفة باسم «الأكثر رواجاً» أو «بست سيللر Best Seller».
بدأ إقبال الروائيين والقصاصين العرب على الكتابة لوسائل الاتصال بالجماهير على استحياء غير أن الهبّة النفطية، وانتشار محاولات توظيف رأس المال العربي ولا سيما النفطي في مراكز البحوث والمشروعات الإعلامية، ودخول مخاطبة الإنسان العربي، ولا سيما بعض الجماهير الخاصة مثل النساء والأطفال والفتيان في برامج الدوائر الإعلامية الأجنبية، قد جعل غالبية الروائيين والقصاصين في تطلع مستمر لتوظيف إنتاجهم في آلة التلفزيون وبقية وسائل الاتصال الأخرى، وفي سورية، على سبيل المثال، يندر أن نجد روائياً أو قاصاً معتبراً لم يكتب المسلسلات التلفزيونية، أو أن يخضع فنه الروائي والقصصي لحاجات الوسائل الإعلامية مثل هاني الراهب وعلي عقلة عرسان وخيري الذهبي وعبد الكريم ناصيف ودياب عيد وحنا مينة وألفت الإدلبي وناديا خوست وعبد النبي حجازي وغيرهم، بل أننا، وضمن دراسة متقصية، نلمس حساب هذه الوسائل الاتصالية كالتلفزيون والسينما في تفكير الروائي والقاص الأدبي ذاته، فتأثرات جماليات الرواية والقصة بشروط هذه الوسائل، أي أن الكاتب صار معنياً بقابليات ظهور روايته أو قصته في مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي أو مسلسل إذاعي قبل مراعاته لصدورها في كتاب!([53])
ومن المفيد أن نشير إلى روائيين وقصاصين رائجين من كتاب الرواية الاستهلاكية في سورية أيضاً، نذكر محمد حسين شرف ووفاء حمارنة. وقد يستغرب المرء غزارة إنتاج هذين الكاتبين وسرعة انتشار رواياتهم وقصصهم حتى إن بعض رواياتهم طبعت طبعتين أو ثلاث طبعات خلال عشر سنوات، أما الروايات والقصص التي لم يعد طبعها فقد نفذت طبعتها خلال أقل من عامين، ولو استعرضنا عنوانات رواياتهما وقصصهما وموضوعاتها، لوجدنا إلحاحاً على تعابير الحب والمرأة والعبارات الوجدانية الموحية أو الغامضة من جهة، وموضوعات الميوعة العاطفية وطوابع المشجاة (الميلودراما) من جهة أخرى. فقد نشر محمد حسين شرف خلال السبعينيات والثمانينيات أكثر من عشر روايات نذكر منها: «قمر الغرباء» (1970). و«فينوس» (1973)، و«همس الغروب» (1976)، و«ملح على جرح» (1978)، و«دستور الحب» (1980)، و«الغزل عطر النساء» (1985)، و«هؤلاء الأوغاد» (1986)، و«تنهدات العذارى» (1987)، و«لابد من المرأة» (1991).
أما وفاء حمارنة فقد نشرت خلال الثمانينيات أكثر من خمس روايات نذكر منها: «خواطر عن الحب والحياة» و«مملكة الحب الدامية» و«موعد مع السعادة» و«صراع مع النساء» (ولم نذكر تاريخ الطبعات، لأنه غالباً غير مذكور).
ويبدو أن موجة الرواية الاستهلاكية تحتاج إلى تعديل في خطط النشر، تأليفاً وتعريباً وطباعة وتنويعاً، وهذا ما يفسر تعدد السلاسل والحرص على ابتكار أساليب جديدة للمخاطبة لتحقق أهدافها كاملة، لأن القيمين عليها غالباً ما يجرون دراسات وبحوثاً مطولة تسبق إصدارها، أو في أثناء إصدارها، فقد أجريت استطلاعات رأي بين الشباب العربي، ولا سيما الفتيات والنساء لمعرفة مدى تقبل هذا النوع من الرواية. ولزيادة التأثير، فقد رأى القيمون على «سلسلة عبير» إصدار سلسلة «روايات عبير العربية»، فطلب إلى العديد من الكتاب والروائيين العرب إنتاج روايات تناسب هذه الموضوعات، فبادر عدد منهم إلى الكتابة بأسمائهم الصريحة أو المستعارة، وقد صدرت بعض الروايات، ولكن المشروع أخفق، لأن قارئات «عبير» و«قلوب عبير» وقراءها مشدودون إلى أرض الأحلام أو الأوهام، لا فرق، وليس إلى واقعهم الذي يدركون أنه لا ينبت الأحلام، ولا تكتمل فيه صياغة الأوهام، فالتفتوا عن المخاطبة العربية مكتفين بالترجمة، أو الاقتباس، أو الاختصار أو الهزال، لأنها الأقرب للرواج والربح السريع.
غير أن نمط الرواية الاستهلاكية، وهو لاشك، إفراز لنمط الحياة الاستهلاكية وأساسها تأثير وسائل الاتصال، قد انتشر في الحياة الثقافية العربية بأشكال متعددة. كان الروائي أو القاص العربي معزولاً عن وسائل الاتصال بالجماهير، أو «هوجة» مخاطبة الجماهير مباشرة، لأن وسائل الاتصال بالجماهير نفسها لم تكن لها مثل هذه السلطة المتفاقمة التي نراها عليها اليوم، ولأن الجماهير نفسها لم تكن موضع الحفاوة والتقدير والاهتمام التي يجري الحرص عليها اليوم، فأخلص الروائي أو القاص العربي من قبل لفنّه، واستغرق في صومعة أفكاره، ولعل تأمل رسائل توفيق الحكيم إلى زوج ابنه حتى مطلع الثمانينات تكشف عن العوز الذي واجهه مفكر وأديب وروائي ومسرحي عربي كبير([54]). وثمة أنموذج آخر أكثر سطوعاً يتبدى في مسيرة نجيب محفوظ، فهو كتب حتى أواخر الستينيات الرواية بعيداً عن حسابات الإيصال الإعلامي، وغّلب في أدبه حاجات الفنّ والفكر على شهوة الانتشار، وإن خصّ السينما بوصفها فناً رائجاً بقصص كثيرة مكتوبة خصيصاً لهذا الفن الجماهيري الواسع الانتشار، فلم يثنه عمله أو كتابته لوسائل الاتصال عن سعيه الأصيل لإنجاز فنه الروائي العظيم، فميّز بين الرواية ومثل هذه الكتابة. وثمة كثيرون، كما أشرت، لا يعرفون أن نجيب محفوظ كتب عشرات الأفلام أو الأعمال الإذاعية لهذه القنوات مباشرة، وما تزال هذه الأعمال مخصوصة بما كتبت له، ولم تظهر نصوصها في كتب.
وظل هذا الوضع سارياً حتى مطلع السبعينيات حين صارت بعض روايات نجيب محفوظ، بتأثير شهوة الانتشار وهيمنة الإعلام، قابلة بيسر للإندراج في طبيعة وسائل الاتصال بالجماهير، فخالط روايات كثيرة له شيء من لوازم الرواية الاستهلاكية، كغلبة الإخبار على السرد، أو العناية برسم الشخصيات على حساب الوصف أو التأملات الفكرية، أو صوغ الرواية برمتها بأسلوب «السيناريو»، أو اختزال الوقائع إلى تركيب مشهدية ما.. الخ، وهذا واضح في روايات كثيرة له مثل «حب تحت المطر» و«يوم قتل الزعيم» و«الحرافيش».
ونستطيع أن نجد روائيين وروايات عربية كثيرة، قد تأثرت بنيوياً وسردياً وهيكلياً بتقنيات الإيصال وشهوة مخاطبة أوسع الجماهير بدغدغة مشاعرهم، وطلب التواصل العاطفي أو الاندماجي في تلقيهم. وكان برع في ذلك من قبل روائيون كثر أمثال إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي اللذين راجت أعمالهما منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الستينيات على وجه الخصوص. لقد خاطبت رواياتهما العواطف والمشاعر إلى أبعد ما تفعله الاتجاهات الرومانسية الهادئة أو المغالية، وإلى أبعد ما تعتمله اتجاهات المشجاة (الميلودراما) المتطرفة، ونادراً ما عبرت هذه الأعمال عن الوجدان العام أو الضمير القومي أو الوعي بالتاريخ. وفي هذه الأيام بتأثير حاجات التلفزة والقنوات الفضائية يعاد إنتاج روايات إحسان عبد القدوس في مسلسلات وسهرات تلفزيونية مثل: «لا أكذب ولكني أتجمل»، و«لن أعيش في جلباب أبي».
من الواضح، أن الرواية الاستهلاكية تنتشر عربياً بتسارع متزايد، لأن المعرفة نفسها في تصارع متصاعد مع الإعلام، ولا يماري أحد أن الثقافة الرفيعة الحّقة هي اليوم أشبه باليتيم على مائدة «اللئيم» الذي هو «الإعلام». وليس تأثير الرواية الاستهلاكية في جماليات الرواية العربية هيناً خلال نصف قرن من الزمن، فهو يدخل في تفكير الروائي العربي، وفي بناه السردية، وفي نسيج حبكه، وفي تشكل صوغه الفني، وما يزال التصارع قائماً بين النزوع الاستهلاكي إلى منتهاه، ونزوع الجمالي إلى منتهاه. وثمة روائيون يمثلون هذا الفريق أو ذاك. ولكننا يندر أن نجد روائياً عربياً معتبراً بمنجاة من هذا التصارع، وهذا واضح في أعمال جبرا إبراهيم جبرا وحنا مينه ووليد إخلاصي ونبيل سليمان (سورية) وعبد الرحمن الربيعي (العراق) وبهاء طاهر وفتحي غانم (مصر) ومحمد صالح الجابري (تونس) وغيرهم.
وقد استدعى ذلك مواكبة نقدية تراعي طبيعة التغير الثقافي، ولاسيما تأثير وسائل الاتصال في الأدب والنقد.
4-2- اللغة العربية والمعلوماتية:
تبدلت النظرة إلى اللغة العربية تبدلاً كبيراً خلال العقدين الفائتين بتأثير ثورة المعلومات، بل جاوز التبدل إلى التأثير العميق في خصائص منظومة اللغة العربية وعلائقها الداخلية والتعبيرية والوظيفية في الكتابة الإبداعية الروائية والقصصية، وفي نقدها الذي مال إلى المناهج الحديثة وطرائقها البحثية، وقد ساهم التفجر المعلوماتي في تكونها من الحاسوب، إلى «المالتي ميديا»، إلى الأنترنت، وهي شبكة معلوماتية كونية ومحلية جعلت التواصل المعرفي ونهاجياته وتقاناته وإجراءاته مختلفة عما كانت عليه قبل هذين العقدين، وصار الحديث عن الكتاب الإلكتروني باستعمال الكتابة الحاسوبية وقابليات التأليف والتوثيق وثراء تعدد الوسائط، في متناول اليد، مما يتدخل إلى حدّ كبير في تنظيم عمل المخيلة الإبداعية، وفي انتظام منهجية محددة للعمل النقدي في آن واحد.
ويظهر هذا التبدل العميق في اللغة العربية في تأملنا لتطور استجابة اللغة العربية لهذا التفجر المعلوماتي، منذ الدورة السابقة لمؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي (الرباط 1989)، فقد تفاقمت الحساسية العربية إزاء التحديات التي تواجه اللغة العربية، فحملت الدورة شعاراً شديد الدلالة هو «اللغة العربية هويتنا القومية».
قدم لهذه الدورة أكثر من عشرة بحوث لعدد من كبار الخبراء والاختصاصين أمثال شكري فيصل وتمام حسان وعلي الشابي وإبراهيم عبد الله رفيدة وجميل عيسى الملائكة والطيب البكوش وإبراهيم بن مراد ومحمد رشاد الحمزاوي ومحمد مصطفى بن الحاج وزكي الجابر، ومحمد السويسي ومحمد خليفة الدناع ويوسف الخليفة أبو بكر، وطبعت هذه الأبحاث في كتاب «من قضايا اللغة العربية المعاصرة» (1990).([55])
إن ثمة نظرة جديدة وتعاملاً جديداً للغة العربية في البحث العلمي، ومنه النقد، لابدّ من أخذهما بالحسبان، فقد توصل الباحثون العرب إلى نتائج هامة تتعلق بالمعالجة الآلية للبيانات العربية، منها:
- طرق تخزين البيانات واسترجاعها.
- المعاجم العربية لإصلاح التهجئة.
- برامج تدقيق الإملاء الصرفية والنحوية.
- المحلل الصرفي.
- برامج تحليل الإعراب النحوي.
- برامج التحليل الدلالي.
- برامج توليد الكلمة في اللغة العربية([56]).
ثم صدر مؤلف من «قضايا فكرية» عن «لغتنا العربية في معركة الحضارة» (1997)، والبارز في مقالاته وأبحاثه المكتوبة بأقلام نخبة من المفكرين والعلماء والأدباء والنقاد، ثلاثة أمور، الأول توكيد منزلة اللغة العربية في تدعيم أبحاث الهوية، والثاني هو مقدرتها على التجدد والأصالة، وفي صلب ذلك مواجهتها للتحدي الاتصالي والمعلوماتي، والثالث هو استجابتها البطيئة والقاصرة والتخلف على الرغم مما تحقق لها من تجديد وتطوير وتطويع نسبي لمقتضيات العصر وحاجات التطور المجتمعي العربي بجوانبه الإبداعية والتنموية والإنتاجية جميعها.
وكانت شهادة خليل النعيمي (سورية)، وهو روائي وطبيب وجراح. درس الطب والفلسفة في جامعة دمشق، ويعمل حالياً في مستشفيات باريس، في منتهى الأهمية عن ثراء اللغة العربية واستجابتها الدائمة للتجدد والتأصيل، مما يفسر سيرورتها وبقاءها واحتضانها للغة العلوم والمعلوماتية:
«أما الصبغيات (الكروموزوم)، والمعلوماتية (الأنفورماتيك)، والعصب الودي (السمبتاوي)، والبطين (فالتريكول)، وهو بطين القلب التشريحي، والشغاف (بيريكارد) وهو الذي يحيط بالقلب، ويحميه، أي شيء أكثر تعبيراً عن هذه المهمة من الشغاف؟. ولابد أن كلمة الشغف، اشتقاقاتها جاءت من هذه الإحاطة الحميمة، وغير هذه من التعابير والكلمات المعربة التي درسناها في جامعة دمشق، وهي التي باستطاعتها أن تضفي بعداً جديداً على اللغة، وتعبر، في الوقت نفسه، عن طاقة هذه اللغة على التجدد والتطور»([57]).
وتحدث النعيمي عن فضل اللغة عليه كاتباً وطبيباً جراحاً، لأن «اللغة بلا علم هي لغة خرساء»، ولأن التعريب ليس دائماً تخريباً، «إنه، على العكس سلاح إضافي بالنسبة للطبيب العربي مثلاً، و«لغة الدراسة ولغة الممارسة هي نفسها، وإذا ما قرر أن يتخصص، فإنه بالتأكيد سيكون قادراً على تخطي عوائق تعلم لغة جديدة»([58]).
وتميز بحث نبيل علي (مصر) «نحو نظرة أشمل للغة»، في تصديه المبكر والدقيق للغة العربية والمعلوماتية، وهو صاحب أول مؤلفين باللغة العربية عن هذه القضية الشائكة والهامة: «اللغة العربية والحاسوب» (1988)، و«العرب وعصر المعلومات» (1994). وقد عالج علي اللغة ضمن المحاور التالية:
· الدور الأكثر خطورة الذي تلعبه اللغة في مجتمع المعلومات.
· الموقع الأكثر أهمية الذي تحتله اللغة حالياً على خريطة المعرفة الإنسانية.
· الإشكالية الأكثر تعقيداً التي تصاغ في قالبها قضية اللغة.
· التوجهات الأكثر تعدداً لتناول إشكالية اللغة وأمور معالجتها آلياً بواسطة الكمبيوتر([59]).
لقد وضع نبيل علي الملح على الجرح، على أن السبيل متاح لمجاوزة الراهن غير المرضي، باللجوء إلى المجالات التالية:
· تكنولوجيا المعلومات كأداة للإحصاء اللغوي.
· استخدام تكنولوجيا المعلومات في معالجة الكتابة العربية.
· تكنولوجيا المعلومات كأداة للصرف العربي.
· تكنولوجياالمعلومات كأداة للنحو العربي.
· استخدام تكنولوجيا المعلومات في الفهم الأتوماتي للسياق اللغوي.
· تكنولوجيا المعلومات في تحليل النتاج الأدبي وأساليب الكتاب.
· تكنولوجيا المعلومات كأداة لمكننة المعجم العربي.
· تكنولوجيا المعلومات كأداة لدعم العمل المصطلحي.
· تكنولوجيا المعلومات في مجال الترجمة الآلية.
· توليد الكلام العربي وفهمه آلياً([60]).
أجل، تبدلت النظرة إلى اللغة العربية وممارستها في المجالات كافة بتأثير ثورة المعلومات، ولم يكن الأدب والنقد الأدبي بمنجاة من ذلك.
5- تنامي أبحاث الهوية:
تفاقمت المخاطر المحدقة بالذات القومية أثر هزيمة 1967، مما دعا إلى أمرين متلازمين في الفكر العربي، الأول هو موجة نقد الذات، وأطلقه صادق جلال العظم (سورية) في كتابه الشهير «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1969)، والثاني تنامي أبحاث الهوية وعياً بالذات، وبالتاريخ العربي، وبالآخر الأجنبي، الذي صار إلى تأزم ضاغط على الوجدان المهيض، وكنت بينت في بحثي «أزمة الذات في الرواية العربية» (عالم الفكر 1996) أن الرواية هي الفن الحديث الأكثر تعبيراً عن تحديات الحداثة في المجتمع العربي، حتى صار الفن سجلاً دقيقاً للصراع الحضاري الذي تعرف فيه العرب إلى ذاتهم، وإذا كان الفكر العربي في عصر النهضة قد عكس ـ صراحة ـ تباين الموقف من الهوية العربية الحضارية، وتصاعد مللاً واتجاهات وتيارات عصفت بالعرب، في محن الموقف من الخلافة، أو الصدام مع الغرب الاستعماري، أو امتحان الاستقلالات الوطنية وتعارض المشروع العربي مع المشروع الصهيوني بقيام الكيان الإسرائيلي في قلب الوطن العربي، وفي المحن المتتالية مع استقطاب العرب الدولي، عسكرياً وإيديولوجياً وسياسياً، فصار العرب أكثر من عرب، متوزعين على معسكرات خارجية، ومنقسمين على أنفسهم في تحالفات أو متاريس غذتها أوهام ومصالح لم تكن عربية في صميمها، وكانت الخلافات العربية ـ العربية التي تطورت إلى الاقتتالات العربية بين قطرين عربيين أو أكثر، أو بين فئات القطر العربي الواحد، في حروب أهلية، أو مسلسلات الإرهاب، والاغتيال على «الهوية»، ويا لها من هوية مغدورة! وكان العجز الصريح عن الوفاء لأهداف المشروع العربي في التوحيد والحرية والدمقرطة والعلم والعدالة والمساواة والتقدم الاجتماعي، وهي مجموعة قيم المجتمع المدني التي لا تزال جوهر التحدي الحضاري، وكانت الهزائم العربية المتتالية أمام «إسرائيل» والغرب الأوروبي والأمريكي، وانتعشت الدولة القطرية، واعترف العرب بعجزهم، وبالتباس مفهوم الهوية في ممارستهم السياسية، وصار ذلك واقعاً جديداً مع حرب الخليج الثانية التي وضعت الذات العربية في أزمة([61]).
ناضل العرب طويلاً من أجل حريتهم إزاء الغرب الغازي، المحتل، المستعمر، في حركات الاستقلال التي استمرت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الحرب العالمية الثانية في بعض الأقطار العربية، وإلى الخسمينيات والستينيات في أقطار أخرى مثل المغرب وتونس والجزائر واليمن الجنوبي. وعرفوا أثناء مقاومتهم المديدة للاستعمار الغربي أن عليهم أن يواجهوا أعداء في الداخل عششوا بتأثير قرون من استعمار مختلف هو الاحتلال العثماني، في ذلك الانحطاط الداخلي والتخلف المروع للعرب عن مستعمريهم الغربيين الجدد، وفي تلك المفارقة الفظيعة بين التقدم الأوروبي، والتخلف العربي، عولجت ثنائية التقدم والتخلف، وفي مقابلهما ثنائية التنمية والتبعية. ويطرح كتاب خالد زيادة (لبنان) «اكتشاف التقدم الأوروبي ـ دراسة في المؤثرات الأوروبية على العثمانيين في القرن الثامن عشر» (1981) السؤال الجوهري في سياقه التاريخي، ففي «نهاية القرن الثامن عشر والبدايات الأولى للقرن التاسع عشر، كان التقدم الأوروبي قد أحاط العالم الإسلامي برمته. فنشأ التفكير في هذا الإقليم أو ذاك بضرورة الأخذ بالتقنيات الحديثة، والتعرف إلى الأنظمة التي جعلت من الدول الأوروبية بلداناً متفوقة على غيرها من بلدان العالم. في هذا الإطار تكتسب التجربة العثمانية أهميتها الخاصة، لأن العثمانيين كانوا من أوائل الذين تنبهوا إلى التقدم الأوروبي، وعملوا على الاستفادة منه، ولأن الدولة العثمانية كانت لا تزال تمثل حتى ذلك الوقت الدولة الإسلامية الأقوى»([62]).
وليس بمقدورنا أن نحصي المقالات والأبحاث التي تصدت لهذه الثنائية، ولكننا نتعمد الوقوف عند بعض الصوى للاسترشاد بسبل التصدي لها في الثقافة العربية الحديثة، وقد ارتفعت وتيرتها في فترة البحث، رفضاً للتبعية، ونشداناً للتنمية والتنمية المستقلة، على أن ذلك هو الطريق الصعبة القاسية التي ينبغي على العرب أن يسلكوها لمواجهة تلك المفارقة الفظيعة بين التقدم الأوروبي والتخلف العربي.
ولا شك في أن البحث في قضايا التبعية بدأ قبل ذلك بوقت، ولكنه لم يصبح ضاغطاً إلا في السبعينيات والثمانينيات، وكان كتاب عواطف عبد الرحمن (مصر) «قضايا التبعية الإعلامية والثقافية» (1984) ريادياً في بابه، متساوقاً مع هيمنة الإعلام على سلطة المعرفة، والاستخدامات السريعة والمباشرة لوسائله المختلفة في آليات التبعية الإعلامية والثقافية، فيما عرف بالغزو الثقافي. وقد أخذت هذه الآليات مفاهيم مختلفة ومتطورة مثل الاختراق والتغريب والتغطية، وبرز في هذا المجال إدوار سعيد (فلسطين) في كتبه الأساسية، فعرى الاستشراق بوصفه سلطة معرفية في خدمة الاستعمار في كتابه «الاستشراق» (1978)، وفضح التضليل الإعلامي الغربي ضد الإسلام في كتابه «تغطية الإسلام في وسائل الإعلام» (1981)، وكشف عن التواطؤ الكلي والتشابك الحميمي بين الإمبريالية والثقافة التي أنتجتها مجتمعاتها، وعن الأبعاد المقموعة للثورة ضد السيطرة الإمبريالية في جميع بقاع العالم غير الأوروبي، بتعبير كورنل ويست، في كتابه «الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism» (1993). ويخبرنا إدوار سعيد نفسه أن كتبه هذه تؤلف مشروعاً واحداً لوعي الواقع العربي والفلسطيني، ولتحقيق التقرير الذاتي للمصير. «إن تاريخ الإمبريالية ليعلمنا أنه ليس في وسع شيء سوى فكرة حقيقية للتحرير والمساواة أن يقاوم قوة الإمبريالية ويصدّها»( ).
وقد شرع المفكرون والكتاب العرب في وعي مخاطر الغزو الثقافي منذ مطلع الثمانينيات، وكان الحدث الأكبر في هذا المجال هو انعقاد مؤتمر «مواجهة الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني للأمة العربية» (تونس 29 آذار ـ 3 نيسان 1982)( )، وشارك فيه عدد كبير من المفكرين والباحثين والمثقفين العرب من الأقطار العربية جميعها، وقدم إليه أكثر من ثمانين بحثاً في محاوره الخمسة: الخصائص القومية للشخصية الثقافية العربية، الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني والاستلاب الفكري في الوطن العربي، الجذور التاريخية للغزو الثقافي، الغزو الثقافي الصهيوني للأمة العربية في الوقت الحاضر، مواجهة الغزو الثقافي في الوطن العربي. وسمي المؤتمر، بمؤتمر التحدي، وصدر عنه «إعلان تونس» الذي حمل خلاصة ما تزال صالحة للمواجهة.
وتوالت الكتب المؤلفة والمترجمة التي تتناول الغزو الثقافي والثقافة المقاومة، أشير إلى بعضها لفهم السياق الذي آل إلى معركة تالية هي معركة التطبيع، فقد جمع عزيز الحاج (العراق) بعض مقالاته في كتابه «الغزو الثقافي ومقاومته» (1983)، وهي مقالات تنصرف إلى معاينة ظاهرة الغزو الثقافي، وموضوع الهوية الثقافية، ومخاطر الهيمنة الثقافية الأمريكية المرتبطة بالتطور الرأسمالي المتصاعد، وأوجه نضالنا الثقافي ومهماته، وثمة مقالات أخرى عن مشكلات إعلامية واتصالية وثقافية واجتماعية أخرى. وعرّب غسان إدريس (سورية) كتاباً خطيراً هو «غزو العقول ـ جهاز التصدير الثقافي الأمريكي إلى العالم الثالث» (1985)( ) لمؤلفه إيف أود. لفت هذا الكتاب النظر إلى الهيمنة الأمريكية الآخذة بالتوسع، والامتداد إلى أجهزة الثقافة.
وخطا الباحثون العرب خطوات أعمق في دراسة جذور ظاهرة الغزو الثقافي، كما في كتاب مسعود ضاهر (لبنان) «مجابهة الغزو الإمبريالي الصهيوني للمشرق العربي ـ دراسة في الثقافة المقاومة» (1989). ومن المفيد، أن نذكر أن الكتاب يلتزم بمنهج تاريخي نقدي في رؤية الظاهرة من أجل ما سماه «إصلاح السياسة بالثقافة النقدية المقاومة» و«التحليل الكيفي للظاهرات الثقافية» و«استشراف المستقبل بالثقافة العربية المقاومة»، ومثل هذا المنهج، كفيل، برأيه، في التصدي «لإشكالية الغزو الثقافي الصهيوني الإمبريالي للمشرق العربي في علاقتها الجدلية مع نقيضها إشكالية المجابهة، وهما إشكاليتان لا تلتقيان إلا في حقل الصدام المباشر. لذلك أعلنت هذه الدراسة انحيازها الكامل إلى جانب مجابهة الغزو ورسم الطريق العلمية الموصلة إلى المجابهة بالثقافة العربية الوحدوية، ثقافة التغيير الجذري والتنمية الشاملة»( ).
إنها عود إلى ثنائية التبعية والتنمية حين تغدو مواجهة الغزو الثقافي إقراراً بضرورة نقد المركزية وتعددها من جهة، وبحث الاختلاف على أساس سلطان العقل النقدي وحده من جهة أخرى، وهو ما ينادي به نوفل نيوف (سورية) في بحثه «مواجهة الغزو الثقافي ـ نموذج تطبيقي» (أدب ونقد 1996)، فقد ختم بحثه بعبارة دالة لهشام شرابي من كتابه «النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين» (1990):
«في غياب الحريات والحقوق الأساسية، لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق أهدافه الإنسانية.. ولم يعد التخلف مجرد وضع اقتصادي أو سياسي، بل أصبح نظاماً وحشياً، ونمطاً من العيش الحيواني اللاإنساني»( ).
إن التبعية ليست قدراً، ولئلا تكون كذلك، فإن مواجهتها بالتنمية الشاملة والمستقلة هي السبيل. وقد تعددت المواجهات الفكرية لفكر التبعية، وكان جلال أمين (مصر) من أوائل المفكرين الذين تصدوا لإشكالية التبعية الاقتصادية والثقافية في كتابه «تنمية أم تبعية اقتصادية وثقافية» (1983)( )، ويشير العنوان الثاني للكتاب إلى محتواه «خرافات شائعة عن التخلف والتنمية وعن الرخاء والرفاهية».
ليس بوسعنا الإحاطة بالقضايا المتصلة بالهوية وتحدياتها. وباستجابات المفكرين والكتاب العرب تأليفاً أو تعريباً، ولكنني أورد إشارات أو علامات لتنامي الوعي بها، ولا سيما التعريب الناجم عن استهداف الموضوعات المعربة، كما هو الحال مع علي وطفة (سورية) في تعريبه لكتاب إليكس ميكشيللي Alex Mucchielli «الهويةL’Identite » (1993)، فقد أراد إخراجه باللغة العربية ووضعه في متناول من تعنيه مسألة الهوية، وذلك أملاً منا في خدمة إنسان العروبة، حول مسألة الهوية وقضاياها. وحرص المعرب على شرح مفهومه للهوية، في مقدمته، مرتكزاً على العناصر المتغيرة، بالإضافة إلى الأخرى الثابتة، «فالهوية ليست كياناً يُعطى دفعة واحدة وإلى الأبد. إنها حقيقة تولد وتنمو، وتتكون وتتغاير، وتشيخ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب»( )، وهي نظرة قابلة للحوار إزاء معضلات خطيرة في تكون الهوية مثل الثابت والمتغير، والتاريخي والراهن، ناهيك عن جدل الخاص والعام في عناصر الهوية، ولعل هذا هو مفهوم المؤلف الخاص والعام بقوله: «لقد استطعنا، عبر تحليل مفهوم الإحساس بالهوية إلى عناصره الحسية الأولية والتي تتمثل في الإحساس المادي، والإحساس بالانتماء، والتماسك، والاستمرارية الزمنية، والاختلاف، والتقدير، والاستقلال والثقة، والإحساس بالوجود أن نسلط الضوء على مختلف الأزمات التي تتعرض لها الهوية، والتي تنشأ عندما تتعرض إحدى هذه الأحاسيس، أو بعضها للإصابة والتمزق»( ).
لقد صار هذا الحوار إلى التمعن في تأثير المتغيرات على الهوية في نزوعات التغريب على وجه الخصوص، حيث تستطيل في امتدادات الهيمنة والمركزية الغربية، فقد ترجم خليل كلفت (مصر) كتاب سيرج لاتوش Serge Latouche«تغريب العالم l'Occedentalisation du Monde ـ بحث حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم» (1989وظهرت ترجمته بالعربية عام 1992)، والكتاب أشبه بتقرير عن حال الاغتراب بما هو اكتمال هيمنة المركزيات، ولكنه في الوقت نفسه انفراجة الأمل بالتغيير: «وتحت هراسة التغريب يبدو أن كل شيء قد تمّ تدميره وتسويته وسحقه بالفعل، لكن في كل مكان، في الوقت ذاته، يكون كل ما هنالك في كثير من الأحيان أن تضاريس الأرض مشقوقة، فهي تقاوم أحياناً، وهي متأهبة لإعادة تكوين أديمها. والواقع أن استبعاد المكاسب المادية والرمزية للتحديث، وهي وفيرة دائماً، يمكن ويجب أن يبتكر حلولاً جديدة من أجل البقاء كمكان وكإنسانية، وهذه التطلعات المغايرة تستكشف نفسها من خلال الارتجال والتلفيق. ويمكنها أن تنتج مسوخاً، أو أن تستردها الآلهة، لكنها كذلك تغذي الأمل في ألا يكون حصار الآلة نهاية العالم، بل فجر بحث جديد عن الإنسانية التعددية»( ).
وهذا الأمل هو عاضد الاتجاه إلى الاستقلال الذاتي عبر نقد الذات ومجاوزة الراهن والإكراهات المتعددة في وجه الهوية القومية. ونجد تعبيراً عن ذلك في كتاب ناصيف نصار (لبنان) المسمى «طريق الاستقلال الفلسفي» (1996)، وثمّر هذه الدعوات محمد جابر الأنصاري (البحرين) بانتظام وعي الذات في المسار النهضوي، في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف التراث ونقده» (1992)، ثم أدغم مصطفى خضر (سورية) أسئلة وعي الذات جميعها بنقدها المتواصل داخل عمليات نقد الآخر. الحداثة في كتابه «الحداثة كسؤال هوية» (1996).
لقد صارت الهوية إلى وعي حاد لتحدياتها في أتون المتغيرات العاصفة بعد حرب الخليج الثانية (1991) التي تزامنت مع متغيرات دولية أشمل، أو عجلت بهذه المتغيرات، وأفرزت ضغوطات أشد على الهوية تمثلت بالنسبة للعرب في أمرين، أولهما العولمة، وهي تطوير لآليات الاستقطاب والاستلاب والتغريب والتبعية والغزو والاختراق والتغطية، وثانيهما التطبيع الذي يعني إكراه العرب على القبول بعدوهم العنصري التوسعي المحتل «إسرائيل الصهيونية»، والتحالف معه، وتأبيد احتلاله للأرض، واقتسام الثروات العربية من السماء إلى الماء إلى الخيرات الأخرى.
إن القبول بالأمرين معاً يندرج في البحث الواسع لما يسمى بإكراهات الهوية نحو الإذعان والاستسلام لشروط القاهر على المقهور، ويعني ذلك ـ فيما يعنيه ـ المحو الذاتي ليس بجعل الهوية واستحقاقاتها أوهاماً فحسب، بل بتكييف شروط الهوية لإملاءات الهيمنة العالمية (المركزيات الغربية وحليفتها إسرائيل).
وهكذا، لا تفترق غائية العولمة عن توظيف التطبيع لنفي الذات القومية عندما تبلغ إكراهات الهوية حدودها القصوى، فتنعدم قابليات المقاومة وثقافة المقاومة، وهي في جوهرها الوعي بالذات داخل الممارسة القومية والوطنية لمختلف مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكنت أوضحت في بحثي «الخطاب الثقافي العربي وتحدي التطبيع» (1997) أن «نضوج الخبرة النضالية في مقاومة التطبيع يندرج في العمل القومي وكفاح الأمة العربية في حفاظها على الهوية، وفي تحصينها للذات، متجاوباً مع عمليات المقاومة الأخرى: الغزو الثقافي في مفاصله الملتبسة والواضحة من التبعية الجائرة إلى العولمة القاهرة»( ).
أثار تنامي أبحاث الهوية إشكاليات متعددة تمثلت في تشريح عنيف ومباشر وتحليل نقدي متواصل لإكراهات الهوية، ولا سيما التغريب والتبعية والغزو والتطبيع والعولمة تعزيراً للعناصر الباقية للذات القومية وللتراث العربي الحي ولمعوقات التقدم في العلاقات بالسلطة والديمقراطية والعلم والعقل والقومية، وقد تجاوبت أصداء ندوة مركز دراسات الوحدة العربية «العرب والعولمة» (1997) مع هذه الإكراهات تدعيماً للوعي الذاتي، فقد قدم إلى الندوة تسعة بحوث عن مفهوم العولمة وعلاقتها بالتطور التقاني وثورة المعلومات والدولة والمركز (نموذج الولايات المتحدة)، والهوية الثقافية والاقتصاد والتنمية، بيد أن الهام هو النقاش الاستطلاعي عن العرب والعولمة ومفاده التوكيد إياه على مواجهة إكراهات الهوية بتعضيد الخصائص العربية وتدعيم التنمية المستقلة في خضم تيار الاستجابة الفاعل في مواجهة التحديات المصيرية.
6- التطلع إلى الحديث والحداثة:
كان التطلع إلى الحديث، والرغبة في التحديث والحداثة أحد أبرز المؤثرات في اشتداد عود الاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية. وفهمت الحداثة ملتبسة مع مفاهيم كثيرة سادت الحياة الثقافية والأدبية والنقدية والعربية مثل «الجديد» أو «التجريب» أو «الطليعية» في مواجهة القديم، وهي صراعات مستمرة برزت على نحو خاص مع ما سمي بعصر الانبعاث في أوائل القرن التاسع عشر، ولم يستقم استعمال مصطلح الحداثة إلا في وقت متأخر.
6-1- من صراع القديم والجديد إلى الحداثة:
نُظر على الدوام إلى الصراع بين القديم والجديد في بعده القومي( )، وفي بعد المثاقفة (الاتصال بثقافة الآخر الغازي المستعمر)، وفي بعده الحضاري الشامل، وقد وضع محمد الكتاني (المغرب) كتاباً كبيراً، هو أشبه بالموسوعة يقع في 1360 صفحة من القطع الكبير، يحمل عنوان «الصراع بين القديم والجديد» (1982). وقد وجد «ظاهرة الصراع في أدبنا الحديث متصلة بالتحولات الاجتماعية، وبالتحديات الحضارية، وبالمؤثرات الاستعمارية، وبالغزو الفكري، وبكل ما تواجهه أمة ذات حضارة عريقة أمام أمة غازية غالبة تفرض على الأولى منطق الغالب، وتحاول تذويب كيانها في دوامة من الاستلاب والتبعية».
خصص الكتاني فصولاً مطولة لفحص مفهوم القديم والجديد وظهوره في الأدب العربي الحديث ومستويات تصوره في ضوء الوعي الديني والأدبي والقومي والوضعي والاجتماعي، ومحاوره الأساسية: الصراع حول العامية والفصحى، الصراع حول الأساليب الأدبية، الصراع حول البلاغة العربية، الصراع حول قضايا الشعر، الصراع حول مناهج الدراسة وتقويم التراث، وختم بحثه بأسس الرؤية التقويمية للصراع، ولاحظ أن النثر العربي يحقق التوازن والتلاؤم في عالم الحداثة أكثر من الشعر، وفشل المحاولات التجديدية الفاقدة للجذور الإيديولوجية العربية، وانحسار المد الكلاسي والرومانسي، واسترجاع الأدب العربي لتوازنه بين القديم والجديد، واستمرار الصراع بين المثالي والمادي في فكرنا العربي.
لقد وضعت مصنفات كثيرة، ناهيك عن المقالات والأبحاث، في صراعات الأدب العربي الحديث في مظاهره المتعددة: القديم والجديد أو التجريب أو الطليعية، وتدور غالبيتها حول الأدب، ولا سيما الشعر، وذكر الكتاني في مقدمة كتابه اثني عشر كتاباً.
واعتقد أن كتاب الكتاني الأشمل في مجاله. وعندما حرر محمد كامل الخطيب (سورية) إعداداً وتقديماً، كتابه «القديم والجديد» (1989) كان شاحباً إزاء كتاب الكتاني، لأنه يحمل المنظورات الشاملة إياها في رؤية الصراع بين القديم والجديد، وإن اختلفت الرؤى والأفكار الموجهة والناظمة لفهم حركة الصراع ومحاوره ونتائجه، وعلى تباين المستوى بين الكتابين، فالأول دراسة مستوعبة وناقدة، والثاني مختارات لبعض الكتّاب والمفكرين مزودة بمقدمة قصيرة، أشار فيها إلى أن «قضايا عصر النهضة ما تزال قضايانا، من تحديد مفهوم الأمة، إلى تنظيم مؤسسات المجتمع، إلى الأجناس الأدبية، وشخصيات عصر النهضة ما تزال حية بيننا، من أبي الهدى الصيادي والرافعي، إلى سلامة موسى والعقاد ومحمود أحمد السيد إلى علي عبد الرازق وسليم خياطة والصراع الذي جرى آنذاك ما يزال يجري الآن»( ).
واختار الخطيب لكتابه تصنيفاً آخر حوى مقدمات حول مسألة القديم والجديد، ومشكلة كتاب «في الشعر الجاهلي» مثالاً للمعارك الفكرية، ونقاشات وحوارات حول القديم والجديد في مجالات فكرية واجتماعية وأدبية مختلفة.
ثم اكتشفت «الحداثة» ومصطلحها في خضم هذه الصراعات، وقابله، فيما بعد، مصطلح «القدامة»، وصار التطلع إلى الحداثة، في واجهة الاهتمامات الثقافية والأدبية والنقدية، مرتهناً بالأبعاد إياها التي طبعت الصراعات السابقة: البعد القومي، بعد المثاقفة، البعد الحضاري الشامل. وبين 152 مرجعاً لدراسة الفكر العربي الحاضر عالجها بولس الخوري (لبنان) في كتابه «التراث والحداثة» (1983) ربما كانت هي الأهم بين مثيلاتها، يظهر بجلاء القلق الفكري العنيف الذي يهز وجدان المثقف العربي إزاء قضايا التأصيل في موازاة التحديث: كيف نخلق التركيب الجديد، أو هو التأمل العملي الذي أطلقه صادق جلال العظم ثم تبناه آخرون: العالم القديم يمثل «الأطروحة»، واقتحام الغرب يمثل «النقيض»، فيما «التركيب» يمثله عالم جديد عربي أوروبي. وهكذا.
وعندما وصف الخوري هذه المراجع، توصل إلى نتيجة محددة هي أن التحرر في المجال الثقافي يكون «بالتخلص من نير الأجنبي الذي يسعى إلى فرض ثقافته ليحلها محل الثقافة الوطنية العربية. قد يؤدي هذا الإصرار على حماية الهوية الثقافية إلى نوع من الاختناق الذاتي، وذلك برفض الاتصال والانفتاح والانغلاق على الذات والانخداع بالاكتفاء الذاتي. بالمقابل يأتي التحديث موازياً لهذا الاتجاه، وهادفاً إلى إخراج الثقافة التقليدية من شكلها القديم. ويكون هذا الإخراج بالإقرار بأن للثقافة هوية ثابتة، من جهة، وطابعاً تاريخياً من جهة ثانية، فيمكن، بالتالي، تطوير الثقافة كي تتحول من شكلها القديم إلى شكل حديث»( ).
6-2- الحداثة في الأدب أولاً:
كانت الاستجابة العربية للحداثة في الأدب بعامة، وفي الشعر بخاصة بالدرجة الأولى. وخاض شعراء مجلة «شعر» البيروتية معركة الحداثة الأولى الذين بدوا لأول مرة وكأنهم يغنون خارج السرب، وجمع مقدمهم يوسف الخال (لبنان) مقالاته في كتابه «الحداثة في الشعر» (1978)، وعدّ البيان الشعري «مستقبل الشعر في لبنان» الذي ألقاه يوسف الخال في الندوة اللبنانية عام 1956 بياناً نظرياً للحداثة الشعرية، على أنها «نتاج عقلية حديثة تبدلت نظرتها إلى الأشياء تبدلاً جذرياً وحقيقياً انعكس في تعبير جديد»( ).
وتلاه أدونيس (علي أحمد سعيد ـ سورية) في الدعوة إلى الحداثة في مجلته «مواقف» البيروتية (اللندنية فيما بعد)، وانتقل من التقليد إلى الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة، إلى قصيدة النثر إلى الكتابة. وبلغت وطأة الحداثة عند أدونيس أن سماها «صدمة الحداثة»، وهو عنوان الكتاب الذي جمع فيه مقالاته وأبحاثه عن «تنظيره» للحداثة. وضع الحداثة في مواجهة القدم، (القدامة عند الناقد محمد لطفي اليوسفي)، ومثلما وضع الخطابة، سمة ثقافية عربية، في مواجهة الكتابة، سمة حداثية. واستعان بوصف حداثة شعراء النهضة: البارودي، جماعة الديوان، خليل مطران، حركة أبو للو، وعاين مسائل الانتقال إلى الكتابة: الكلام القديم والكلام الحديث، جبران خليل جبران، الارتداد والتنميط، الارتداد وشكلانيةالإيصال، وكثف وجهة نظره في دواعي أن تكون الحداثة تجاوزاً للإتباع أو الثابت في الثقافة العربية طلباً للإبداع أو المتغير المتجدد، وهي الفكرة المركزية لكتابه «الثابت والمتحول: بحث في الإتباع والإبداع عند العرب» (1978).
وحذا محمد بنيس (المغرب) حذوه، فأصدر أيضاً «بيان الكتابة» (1981)، وأعاد نشره مع مقالات وأبحاث وشهادات أخرى في كتابه «حداثة السؤال: بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة» (1985). وتميزت دعوة بنيس بطلب التغاير الثقافي مع الآخر الغربي ومع السلف، في خطاب يستند إلى قواعد هي المغامرة والنقد والتجربة والممارسة والتحرر و«هذه القواعد تمس ثلاثة مجالات، اللغة والذات والمجتمع. يصعب أن تنفصل قواعد الكتابة عن مجالاتها، وهي التي تريد مفاجأة وتركيب المغاير، الانتقال من بنية السقوط والانتظار إلى بنية التأسيس والمواجهة»( ).
ومن البحرين نشر قاسم حداد وأمين صالح بيانهما الحداثي باسم «موت الكورس» (1984)، وكان محمد لطفي اليوسفي (تونس) أعاد نشر بعض بيانات الحداثة في كتاب «البيانات» (1993)، ووجد فيها جميعاً، وربما «موت الكورس» على وجه الخصوص، هاجس إلغاء الحدود القائمة بين الأجناس الأدبية: «ظلت محافظة على ملامحها كبيانات تنهض على السرد، وتقول أشد الأسئلة حرقة وإلحاحاً في الثقافة العربية. ولكن السرد تزيّا، في السّر بملامح الشعر، حتى ليكاد الشعر يتماهى مع السرد. وإذا البيان لحظة خطرة تضعنا في حضرة نمط من الكتابة آخذ في التشكل، نمط يعصف بالحدود جميعها»( ).
واقترب عبد السلام المسدي من قضية النقد والحداثة مساءلة وتصنيفاً، وأصدر كتابه الموسوم «النقد والحداثة: مع دليل ببليوغرافي» (1983)، تقصى، فيه، موضوعة الحداثة بين الأدب والنقد، وتوقف عند بعض قضاياه الملحة: اللسانيات والأدب، في تعريف الخطاب الأدبي، التضافر الأسلوبي وإبداعية الشعر، الأدب العربي ومقولة الأجناس الأدبية. ويؤشر هذا الكتاب إلى رسوخ الحداثة في الأدب العربي المعاصر اتجاهات تتأصل في حركة النقد بخاصة، فقد رأى مؤلفه أن «الملحق الببليوغرافي خير شاهد على أن مسار حداثتنا مسار غالب أصيل»( ).
وكنت وضعت كتاباً حول معضلة الحداثة سميته «الأدب العربي وتحديات الحداثة» (1987)، ويضم مقاربات حية عن سيرورة التقاليد الثقافية وشجون تأصيلها، تعريب الحداثة، معضلات التنمية الثقافية والقلق الفكري، التفكير الأدبي العربي المعاصر واقتحام الغرب. وفي عام 1994، جمع فاضل العزاوي (العراق) مقالاته وشهاداته حول الحداثة في كتاب حمل عنوان «بعيداً داخل الغابة: البيان النقدي للحداثة العربية» (1994)، وحوى، فيما حواه، «بيان 1969 «الشعري» الذي ركز على ارتباط الحداثة بتغير الحياة وإعادة تركيب العالم داخل رؤيا شعرية جديدة»( ).
ونلاحظ أن المصنفات عن الحداثة في الأدب والشعر والقصة قد تضاعفت أثر ذلك، كما هو الحال مع هذه العنوانات: «قضايا الحداثة في الشعر والقصة القصيرة» (1993) لأحمد فضل شبلول، و«الحداثة الشعرية» (1995) لمحمد عزام، و«وعي الحداثة: دراسات جمالية في الحداثة الشعرية» (1997) لسعد الدين كليب.
6-3- نقل أو تعريب فكرة الحداثة:
انتشر فكر الحداثة في الأوساط الثقافية والنقدية نقلاً أو تعريباً له، وكان تعريب كاظم جهاد لكتاب هنري لوفيفر H.Lovever «ما الحداثة» (1983)، نشداناً لتعريف الحداثة في أكثر من كونها مجرد فكرة، وعلى الرغم من أن لوفيفر رأى تجلي الحداثة في ممارستها بالأساس، إلا أنه لا يمكن، تعريف الحداثة، كفكرة، «أو للتعمق أكثر كأفق لآفاق تكشف عن نفسها تدريجياً»( ).
لقد أدرك النقاد والباحثون العرب أن الحداثة لا تقتصر على مجالات الأدب، فهي فلسفية، وأنها ظاهرة غربية، فعكفوا على تعريب الكتب الرئيسة في فهم الحداثة، وسياقها التاريخي والمعرفي، وقد ترجمت فاطمة الجيوشي كتاب هابرماس J.Habermas «القول الفلسفي للحداثة Le Discours Philosophique de la Modernite» (صدر بالألمانية عام 1985 وترجم إلى العربية عام 1995)، قصد الإجابة على الأسئلة الشائكة والمعقدة. وقد حوى الكتاب تتبعاً لمفهوم الحداثة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وحفل بتحديدات مهمة لعلائقها الداخلية وعلاقاتها الزمنية والموضوعية، فدرس وعيها للزمان وحاجتها إلى إيجاد ضمانات خاصة في داخلها، ومفهوم هيجل ونيتشة لها، وعلاقاتها بالأنوار، وما آلت إليه في المجالات المتعددة: نقد الميتافيزيقا، نقد الأدب والفن، نقد العقل، إنتاج المجتمع.
يتطلب هذا الكتاب إعمال التأمل في نظرته للحداثة المتشربة لتطورات العالم الحديث الأوروبي، ولا يخفى أن أسئلة هذا المصنف تنفتح على خصوصيات التجربة الأوروبية، وينبغي ألا نغفل عن ذلك في قراءة تعاين جذور الحداثة وتطوراتها في ثقافة شديدة التنوع والثراء في مفصل خطير، تبدو فيه الحداثة مهددة من داخلها، مثلما تواجه مخاطر خارجية من مركز الهيمنة الأمريكي، ونلاحظ أن المؤلف يعي مأزق الحداثة في إيماءات السيطرة: «إن حلم هذه الهوية الأوروبية المختلفة كلياً التي تتلقى بحزم إرث العقلانية الغربية، ينمو في الزمن حيث تستعد الولايات المتحدة، تحت راية ثورة أمريكية ثانية، للوقوع مجدداً في أوهام بدايات النزوع للحداثة. إن طوباويات الروايات السياسية القديمة كانت قد أنشأت تناضحاً خداعاً بين أشكال الحياة العاقلة. السيطرة التقنية على الطبيعة والتعبئة الفظة لقوة العمل الاجتماعية. إن تصور الحداثة لذاتها، منذ بداياتها، كان مشغولاً بهذا التطابق بين السعادة والتحرر من جهة، والسلطة والإنتاج من جهة أخرى. الأمر الذي أدى إلى قرنين من النقد الذاتي»( ).
أثار المؤلف في كتابه تحديات الحداثة العلمية والمعرفية، ولا سيما إحلال العقلنة النظمية محل العقل المتمركز على الذات الأوروبية والأمريكية، وهو مسار حداثة لا يوافي تحدياتها العربية، ولكن فهمها وفهم هذا المسار قمين برؤية أفضل لحداثة تداهم ولا تفهم تماماً.
لقد ترجمت مصنفات كثيرة، ولكنني آثرت التوقف عند نماذج أكثر دلالة على سيرورة الحداثة ونقدها في الغرب، وقد كان آلان تورينAlain Touraine في كتابه «نقد الحداثة Critique de la Modernite» (1992وظهرت ترجمته بالعربية عام 1997) من أكثر مفكري الغرب تصدياً لخطاب الحداثة الذي قام على الحرية (الإنسان هو ما يفعله)، وانتصار العقل وسيادة القانون والدولة محل التعسف والعنف، بيد أن الحداثة اندرجت في السلطة، «فما نسميه مملكة العقل، أليس هو السيطرة المتنامية للنظام على الفاعلين، ولفرض السوية والتنميط Normalization الذي، بعد أن أطاح باستقلال العاملين، امتد إلى عالم الاستهلاك والاتصال؟ تمارس هذه السيطرة بطريقة ليبرالية أحياناً، وأحياناً أخرى بطريقة تسلطية»( ). وهذا معنى الحداثة بوصفها سيطرة قائمة على العقل وعلى العلم وعلى التقنية، «فقد أطاحت الحداثة بوحدة عالم خلقته الإرادة الإلهية، أو العقل أو التاريخ، وحلت محله العقلنة وتحقيق الذات»( ).
إن ثمة افتراقاً بين الحداثة اليوم، ومعارضاتها: الانفصال الكامل بين المجتمع كتيار جارف من التغييرات التي يبلور الفاعلون في غماره استراتيجياتهم للغزو أو للبقاء على قيد الحياة، وبين خيال ثقافي ما بعد حداثي. وبالمقابل، انتشار في الوقت نفسه وفي كل مكان هوس هوية لم تعد تحددها الملاحظ الاجتماعية. وما يقترحه آلان تورين هو «إعادة تعريف الحداثة كعلاقة يسودها التوتر بين العقل والذات، بين العقلنة وتحقيق الذات، بين روح النهضة وروح الإصلاح، بين العلم والحرية. وهو موقف بعيد عن حداثة اليوم التي دخلت في مرحلة الانهيار، وعن ما بعد الحداثة التي يجول شبحها في كل مكان»( ). إن نقد الحداثة عند تورين بالسعي إلى تخليصها من التراث التاريخي الذي اختزلها في العقلنة، وإلى إدخال فكرة الذات الشخصية وتحقيق الذات إليها.
6-4- فهم الحداثة ونقدها عربياً:
غير أن الاستجابات العربية للحداثة جاوزت خلال العقدين الأخيرين حدودها في الأدب بعامة، وفي الشعر بخاصة إلى عمليات فهم الحداثة ونقدها من منظورات شاملة. وكان زكي نجيب محمود (مصر)، وحليم بركات (سورية)، وهشام شرابي (فلسطين) من أوائل المفكرين العرب الذين صدروا في فكرهم عن فهم للحداثة ومآزقها في الحياة العربية المعاصرة، وعن تمحيص لتجلياتها المؤرقة على الوجدان القومي، وأذكر على سبيل المثال كتاباً واحداً دالاً لكل منهم: «تجديد الفكر العربي» (1971) لزكي نجيب محمود، و«المجتمع العربي المعاصر» (1984) لحليم بركات، و«النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين» (1990) لهشام شرابي.
ولعل حنا عبود (سورية) أول ناقد عربي يتصدى لمفهوم الحداثة من منظور شامل في كتابه «الحداثة عبر التاريخ: مدخل إلى نظرية» (1989)، فتختلف الحداثة عن التجديد الذي يتخلق يومياً، وهذا ما دعاه لاختبار مفهوم الحداثة عبر التاريخ، فتوقف عند حداثتين الأولى زراعية في العالم القديم، والثانية صناعية في أوروبا الحديثة، وتلمس لعرضه مؤلفات وأفكار وظواهر اجتماعية وسياسية ترى في الحداثة صيغة شمولية تسود المجتمع، وليس تجريداً مرحلياً، والعرض جريء يستند إلى ثقافة ثرة ورأي مستقل وحذر في تناول منعكسات الحداثة على الفكر العربي والثقافة العربية.
مهد عبود لمدخله إلى نظرية الحداثة بالتعريف بالنظريات التطورية وغير التطورية، أو النظريات المتعارضة على حدّ تعبيره، متجنباً التعريج على المؤلفات التي ظهرت في العربية عن الحداثة، لأن مرامه هو إضاءة وجهة نظره المحددة، لا إرهاق كراسته بمناقشات هامشية لا تسهم في إبراز ما يريده. ثم عالج النظريات الوظيفية والحداثة، وصور تماهي الذات، والحداثة الأولى، وعصر الوحدانية، والحداثة الثانية، وخلص بالرأي إلى أن الباحثين لا يتفقون على زمن معين للحداثة، وعرض لآراء كريستوفر كودويل وهنري لوفيفر وادموند ولسون ومالكولم برادبوري وجيمس مكفرلين وارنولد هاوزر.
ثم استنبط عبود قانوناً للحداثة، بالاعتماد على مصطلحين يونانيين هما الانانكي Ananke والمويرا Moira، وقد اعتقد اليونان أن الأنانكي هو القدر الأعظم أو القانون الأكبر أو النظام الذي ما بعده نظام، حيث تخضع له الآلهة والبشر معاً، أما المويرا فهي في عرفهم القدر الأصغر الذي يخضع له البشر وتفرضه الآلهة. فتكون الحداثة خطوة تقترب إلى الأنانكي، والحداثة تزداد طرداً مع الاقتراب من الأنانكي. وإذا ساد الفكر الوحداني، تباطأت الحداثة أو تعثرت أو تلاشت، وذكر بعض الملامح الأخرى:
- تشتمل الحداثة على نوع من الخرق للزمن والتاريخ.
- ليست الحداثة مكوناً في الذات. إنها خروج منها، فالأنانكي لا يعترف بالذات. إن الذات من ضمن موجوداته التي يسري عليها قانونه.
- الحداثة لا تستهويها «الإنسانية»، ولا تختبئ وراء هذا الشعار وأمثاله. إنها مواجهة وخرق للوصول إلى الأنانكي.
- فيما يتعلق بالإنسان أو المجتمع أو الطبيعة، تسعى الحداثة للوصول إلى الأنانكيات المتحكمة والطبقة الآسرة التي لا فكاك منها، فتكتشف التدمير المحيق من غير أن تعد بعصر ذهبي ومن غير فرض إيديولوجياً معينة، فكل إيديولوجيا عبارة عن وحدانية.
- تسعى الحداثة إلى الحرية من خلال معرفة الأنانكي، وليس من تجاهله، أو تزيينه أو شرحه شرحاً متحيزاً، إن الاستلاب الذي يخضع له الإنسان لا يرجع فقط إلى الأنظمة الاجتماعية والأيديولوجيات الوحدانية، بل يرجع أيضاً إلى الأنانكيات المتحكمة به.
- لا يخفى أن الحداثة تدفع بالشكل إلى أبعد حدوده، ليتطابق مع مقتضيات الأنانكي، ولا ينطبق هذا على الأدب، بل على كل شيء. ولهذا تسعى الحداثة وراء الأشكال التي تؤمن تأدية مثلى للوظيفة، فنحن دائماً أمام محاولة المقاربة، مما يعزز دور الجمالية الفوضوية، التي تسعى دائماً إلى التجاوز من أجل أنانكية أشد إقناعاً( ).
وكانت المحاولة الثانية المكتملة لدرس الحداثة فلسفياً في كتاب «فلسفة الحداثة» (1992) لمؤلفيه فتحي التريكي ورشيدة التريكي (تونس). وقد صدر فيه مؤلفاه عن فكرة مفادها أن الأخذ من الغرب لا يعني قطيعة معرفية مع الموروث، لأن الغرب نهض في حداثته على العلم العربي والحضارة العربية. إن الحداثة، في رأيهما، «مصيرنا، وأن علينا فتح كياننا على تاريخيتنا لا من حيث أنها تربط حاضرنا بجذورها، وبالحضارات التي تعاقبت علينا فقط، بل وأيضاً من حيث أنها انفتاح على الإقبال والمصير، لهذا لم نعد بحاجة إلى تأصيل كياننا بقدر ما نحن بحاجة إلى فتحه على الحداثة، وعلى مسارها في تمظهرات الفكر العالمي.. فلسفة الحداثة في كنهها ما هي إلا تسرب الوعي في الذات بضرورة انتصار الحياة والوجود على الموت والعدم، نعني وجودنا التاريخي الذي يحدد مصيرنا العربي الإسلامي»( ).
وجد مؤلفا «فلسفة الحداثة» أنها معضلة مجاوزة «مجموعة من العمليات التراكمية التي تطور المجتمع بتطوير اقتصاده وأنماط حياته وتفكيره وتعبيراته المتنوعة معتمدة في ذلك على جدلية العودة إلى الأصل وتجاوز التقاليد المكبلة ومحررة الآنا في الآن نفسه من الانتمائية الضيقة للماضي، لتجعل من الآنية فاعلاً حقيقياً في الذات والمجتمع، ومن الإقبال عنصراً معياراً للفكر والعمل»( ).
وعندما ناقشا الحداثة والهوية، تصور استراتيجية ممكنة للخروج من أزمة الوعي العربي، في أمرين أولهما تهافت فكرة توحيد العيش وأنماطه، ورفض الهيمنة الغربية، والتحديث كتكريس لهذه الهيمنة، ويكون ذلك بالإبداع العلمي والتقني والثقافي، وبالفكر المتحرر البناء، وثانيهما إن إثبات هويتنا لا يكون بتأصيل كياننا فقط، بل بتحديثه، وجعله قابلاً للتأقلم مع أنماط الحياة الجديدة ولتحدي مساوئها.
ومن الواضح أن فلسفة الحداثة عندهما لا تخرج عن المحاولات التوفيقية التي أثارها مفكرو النهضة العربية. أما التنظير للحداثة والمخيال فلا يواجه الأسئلة القائمة، وكانت اختارت رشيدة التريكي مجالين أكثر تعقيداً والتباساً هما الحداثة في الرسم وجمالية الزمن التصويري.
وارتفعت وتيرة أسئلة الحداثة مع مصنف «الحداثة» (1996)، وهو من إعداد محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (المغرب). وقد ميزا فيه بين الحداثة الكلاسيكية التي تتميز بعقلانية أداتية صارمة، وبنزعة تقنية وبقدرات لا متناهية على السيطرة على الطبيعة والإنسان، وبين ما بعد الحداثة التي تحاول تقديم صورة أكثر إنسانية عن الحداثة بحيث تدمج في منظورها الذات البشرية الفاعلة والمعاني الغائبة، والأبعاد الأكثر جمالية محاولة الحدّ من بعض مظاهر أداتيتها، ولاحظا أن «المجتمع التقليدي الذي تعرض لهذه الصدمة يشهد اهتزازات وتحولات في كل مستويات نسقه الاجتماعي، إما في اتجاه التكيف مع الحداثة أو في اتجاه رفضها، مطلقة في هذه المجتمعات صراعاً عسيراً بين مقومات التقليد ومقومات الحداثة. وهذا الصراع ليس اختيارياً أو إرادياً، بل هو مخاض موضوعي ناتج عن مظاهر تقدم الحداثة التي تتحول إلى تيار كاسح يغزو كل الآفاق والفضاءات بمختلف الوسائل والآليات كما أنه صراع مفتوح لأنه يقحم هذه المجتمعات في مخاض من التحول الطويل المدى»( ). ويفيد هذا الرأي اتصال الحداثة بالهوية بالنسبة إلينا، غير أن الباحثين، في مختاراتهما لنصوص أو أجزاء من نصوص، أدغما نصوص المفكرين والنقاد العرب في نصوص المنظرين والباحثين الغربيين، دون أن يدققا بين مفاهيم «الجديد» و«الحديث» و«الحضارة» و«الأنوار» و«الحداثة»، واتجه تصنيفهما إلى التحديدات اللازمة المفهومية والزمنية، والأسس الفلسفية، والمظاهر السياسية والاجتماعية، والعرب والحداثة وما بعد الحداثة. وقد زادت المختارات على ستين نصاً تناولت مختلف جوانب هذه الظاهرة الشائكة، من منظورات متعددة. ولعل وصف جانب العلاقة بالحداثة يشير إلى مدى اضطلاع الفكر العربي بمواجهة أسئلة الحداثة. فكانت الاختيارات التالية:
• التيارات الحداثية في الفكر العربي (محمود أمين العالم).
• مقومات الحداثة في الإسلام (حسن حنفي).
• ابن رشد: إشكالية الحداثة والإسلام (محمد أركون).
• تحديث وليس حداثة (محمد أركون).
• النظرة المشوهة (داريوش شايغان).
• تحولات الحداثة (برهان غليون).
• هل يمكن التعبير عن الأفكار الحديثة بلغة تقليدية (هشام شرابي).
• تحدي روح الحضارة الحديثة (حسن صعب).
• تحديث أم تغريب أم تأصيل (فضل الرحمن).
• فكر الحداثة (عبد الله العروي).
وعلى أي حال، تكشف هذه المختارات عن الانشغال الجذري والواسع لإشكالية الحداثة في الثقافة العربية المعاصرة، وعن النزوع العميق للتحديث في مجالات الحياة العربية كافة، على الرغم من التعارضاتالكثيرة التي ما تزال في حاجة إلى حلول.
لقد آلت أسئلة الحداثة في العمق إلى أسئلة هوية دون مواربة في كتاب مصطفى خضر (سورية) الموسوم «الحداثة كسؤال هوية» (1996)، فالحداثة إذن سؤال هوية «تنجز زمنها الذاتي والمستقل، أو يمكن أن تنجزه في أثناء تفاعلها الإيجابي والملهم مع زمن العالم الحديث، بالقدر الذي تنتمي فيه إلى أصول عبرت عن تاريخ جماعة قومية، وتعبر عنها..»(45). ولا يخفى أن خضر وضع عنواناً ثانياً لكتابه هو «بعض الملاحظات حول مشروع الحداثة العربية»، والحق أن الكتاب بمجمله مقالات وأبحاث تتردد في جنباتها أصداء فكرته عن اندغام الحداثة بالهوية، فقرن خطاب الهوية بوعي الذات، مثلما قرن مشروع الوعي بمشروع النهضة وبمشروع النقد. إنها انشغالات مشروع الهوية بعد ذلك، في التوكيد على اشتداد عود الفكر العربي من أجل الاستجابة لمهماته الحضارية الضاغطة، إذ «يضمر الخطاب الفلسفي العربي المعاصر والحديث بمكوناته المختلفة والمتنوعة والمنقسمة أدلة إيجابية على حيويته وتفاعله مع الآخر والعالم. ويعلن بحثه عن طريق المستقبل ووعيه بذاتيته... ويشكل تساؤله عن هويته موضوعاً رئيساً للبحث عن مستقبله الذاتي والمستقل»(46).
ثم تنفتح أسئلة الحداثة عند خضر على هذه المهمات: «ولكن ألا يستدعي ارتقاء هذا الخطاب ونموه ارتقاء الوعي الذاتي أو نموه بعامة، بالقدر الذي يتطلب فيه تقدم الجماعة القومية وتكوين مجتمعها المدني؟»(47). ويعزو تعثر الحداثة وتراجع مشروع النهضة إلى اضطهاد الكتلة الاجتماعية أو استبعادها من المشاركة:
«وما زال الحوار مع الذات حول مشكلة الهوية والنهضة ينتج الأسئلة الكبرى نفسها، ويقدم تجليات مختلفة وتظاهرات متنوعة، قد توظف بعض مناهج العلوم، ولكن دون أن تمس أعماق الكتلة الاجتماعية ومصائرها. إنه حوار ينفصل ويتصل بين مرحلة وأخرى، ويحمل في ثناياه التناقض بين الإيديولوجي والمعرفي والمجتمعي والنخبوي، وبين سلطة الثقافة وثقافة السلطة!»(48).
وعول خضر طويلاً على النقد في إنجاز وظائف الحداثة. «بالنقد المتعدد، وبالتعددية النقدية إذاً يتجه العقل أو الفكر أو الثقافة نحو وعي الذات! ومن اللحظة النقدية المتعددة يبتدئ مشروع تأسيس الهوية في عالم متعدد ومتغير، ليبتدئ مشروع الأمل الثقافي!»(49).
إن خضر يستغرق في فكرته، ويلتمس لها المؤيدات والحماسة المتدفقة لإعلان آرائه الجريئة، والملتبسة بمفاهيم «الإنشائية» وبمفاهيم «الشعارية» الطاغية على بنية النص.
لقد آلت أسئلة الحداثة في العمق إلى أسئلة هوية دون مواربة في كتاب مصطفى خضر (سورية) الموسوم «الحداثة كسؤال هوية» (1996)، فالحداثة إذن سؤال هوية «تنجز زمنها الذاتي والمستقل، أو يمكن أن تنجزه في أثناء تفاعلها الإيجابي والملهم مع زمن العالم الحديث، بالقدر الذي تنتمي فيه إلى أصول عبرت عن تاريخ جماعة قومية، وتعبر عنها..»(45). ولا يخفى أن خضر وضع عنواناً ثانياً لكتابه هو «بعض الملاحظات حول مشروع الحداثة العربية»، والحق أن الكتاب بمجمله مقالات وأبحاث تتردد في جنباتها أصداء فكرته عن اندغام الحداثة بالهوية، فقرن خطاب الهوية بوعي الذات، مثلما قرن مشروع الوعي بمشروع النهضة وبمشروع النقد. إنها انشغالات مشروع الهوية بعد ذلك، في التوكيد على اشتداد عود الفكر العربي من أجل الاستجابة لمهماته الحضارية الضاغطة، إذ «يضمر الخطاب الفلسفي العربي المعاصر والحديث بمكوناته المختلفة والمتنوعة والمنقسمة أدلة إيجابية على حيويته وتفاعله مع الآخر والعالم. ويعلن بحثه عن طريق المستقبل ووعيه بذاتيته... ويشكل تساؤله عن هويته موضوعاً رئيساً للبحث عن مستقبله الذاتي والمستقل»(46).
ثم تنفتح أسئلة الحداثة عند خضر على هذه المهمات: «ولكن ألا يستدعي ارتقاء هذا الخطاب ونموه ارتقاء الوعي الذاتي أو نموه بعامة، بالقدر الذي يتطلب فيه تقدم الجماعة القومية وتكوين مجتمعها المدني؟»(47). ويعزو تعثر الحداثة وتراجع مشروع النهضة إلى اضطهاد الكتلة الاجتماعية أو استبعادها من المشاركة:
«وما زال الحوار مع الذات حول مشكلة الهوية والنهضة ينتج الأسئلة الكبرى نفسها، ويقدم تجليات مختلفة وتظاهرات متنوعة، قد توظف بعض مناهج العلوم، ولكن دون أن تمس أعماق الكتلة الاجتماعية ومصائرها. إنه حوار ينفصل ويتصل بين مرحلة وأخرى، ويحمل في ثناياه التناقض بين الإيديولوجي والمعرفي والمجتمعي والنخبوي، وبين سلطة الثقافة وثقافة السلطة!»(48).
وعول خضر طويلاً على النقد في إنجاز وظائف الحداثة. «بالنقد المتعدد، وبالتعددية النقدية إذاً يتجه العقل أو الفكر أو الثقافة نحو وعي الذات! ومن اللحظة النقدية المتعددة يبتدئ مشروع تأسيس الهوية في عالم متعدد ومتغير، ليبتدئ مشروع الأمل الثقافي!»(49).
إن خضر يستغرق في فكرته، ويلتمس لها المؤيدات والحماسة المتدفقة لإعلان آرائه الجريئة، والملتبسة بمفاهيم «الإنشائية» وبمفاهيم «الشعارية» الطاغية على بنية النص.
__________________
[1]. مصطفى، أحمد أمين: «المناظرات في الأدب العربي إلى نهاية القرن الرابع» ـ دار النمر للطباعة ـ القاهرة 1984 ـ ص232.
[2]. المصدر نفسه ص9.
[3]. التطاوي، عبد الله: «الجدل والقص في النثر العباسي» ـ دار الثقافة والنشر للتوزيع ـ القاهرة 1988 ـ ص7.
[4]. المعاملي، شوقي محمد: «السيرة الذاتية في التراث» ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة 1989 ـ ص1.
[5]. المصدر نفسه ص3.
[6]. المصدر نفسه ص52.
[7]. حافظ، صبري: «أفق الخطاب النقدي» ـ دار شرقيات ـ القاهرة 1996 ـ ص248.
[8]. خليل، خليل أحمد: «مضمون الأسطورة في الفكر العربي» ـ دار الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت 1973 ـ ص7.
[9]. المصدر نفسه ص35.
[10]. علي، فاضل عبد الواحد: «الطوفان في المراجع المسمارية» ـ جامعة بغداد ـ مطبعة أوفست الإخلاص ـ بغداد 1975 ـ ص7.
[11]. علي، فاضل عبد الواحد: «سومر: أسطورة وملحمة» ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1997 ـ ص6.
[12]. حسن، حسين الحاج: «الأسطورة عند العرب في الجاهلية» ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت 1988 ـ ص ص117-132.
[13]. عجينة، محمد: «موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها» ـ دار الفارابي ـ بيروت والعربية محمد علي الحامي للنشر والتوزيع ـ تونس 1994 ـ الجزء الثاني ـ ص ص233-340.
[14]. ناصف، مصطفى: «رمز الطفل: دراسة في أدب المازني» ـ الدار القومية للطباعة والنشر 1965 ـ ص5.
[15]. المصدر نفسه ص113.
[16]. المصدر نفسه ص286.
[17]. الفيصل، سمر روحي: «نقاد الرواية في سورية: الدكتور حسام الخطيب» في «الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 121 ـ أيار 1981 ـ ص ص 56-58.
[18]. الخطيب، حسام: «سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية الحديثة» ـ معهد البحوث والدراسات العربية ـ القاهرة 1973 ـ ص3.
[19]. المصدر نفسه ص116.
[20]. المصدر نفسه ص ص125-126.
[21]. الخطيب، حسام: «القصة القصيرة في سورية: تضاريس وانعطافات» ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1982 ـ ص6.
[22]. المصدر نفسه ص10.
[23]. المصدر نفسه ص78.
[24]. الزيات، لطيفة: «نجيب محفوظ: الصورة والمثال» ـ كتاب الأهالي رقم 22 ـ القاهرة 1989 ـ ص7.
[25]. المصدر نفسه ص14.
[26]. المصدر نفسه ص16.
[27]. المصدر نفسه ص90.
[28]. الزيات، لطيفة: «فورد مادوكس فورد و.. الحداثة» الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1996 ـ ص188.
[29]. الزيات، لطيفة: «من صور المرأة في القصص والروايات العربية» ـ دار الثقافة الجديدة ـ القاهرة 1989 ـ ص ص 90-91.
[30]. طرشونة، محمود: «مباحث في الأدب التونسي المعاصر» ـ المطابع الموحدة ـ تونس 1989 ـ ص8.
[31]. صبحي، محي الدين: «البطل في مأزق ـ دراسة في التخييل العربي» ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1989 ـ ص206.
[32]. المصدر نفسه ص8.
[33]. المصدر نفسه ص82.
[34]. صبحي، محي الدين: «أبطال في الصيرورة ـ دراسات في الرواية العربية والمعربة» ـ دار الطليعة ـ بيروت 1980 ـ ص5.
[35]. المصدر نفسه ص185.
[36]. المصدر نفسه ص7.
[37]. عبد القادر، فاروق: «من أوراق التسعينيات: نفق معتم ومصابيح قليلة» ـ المركز المصري العربي ـ القاهرة 1996 ـ ص11.
[38]. المصدر نفسه ص12.
[39]. المصدر نفسه ص22.
[40]. عبد القادر، فاروق: «أوراق أخرى من الجمر والرماد ـ متابعات مصرية وعربية 1986-1989» ـ مؤسسة العروبة للطباعة والنشر ـ القاهرة 1990 ـ ص8.
[41]. عدة مؤلفين: «دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي» (جزءان) ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـ تونس 1985 ـ ج2 ـ ص272.
[42]. الخطيب، حسام: «سبل المؤثرات الأجنبية» ـ مصدر سابق ـ ص44.
[43]. أشارت سامية أسعد إلى شيوع مثل هذه الشروط وتمثل المترجمين لها، وهي: 1- معرفة اللغة الأجنبية، 2- معرفة اللغة التي يترجم إليها النص، 3- القدرة على التحليل والإدراك الأدبي، 4- رؤية النص من الداخل.
انظر بحثها «ترجمة النص الأدبي» في «عالم الفكر» (الكويت) المجلد 19 ـ العدد 4 ـ يناير ـ فبراير ـ مارس 1989 ـ ص24.
[44]. في إحصاء أولي تقريبي زاد عدد الكتب النقدية المترجمة عن الرواية والقصة عن تسعين كتاباً.
[45]. بو عناني، مختار: «بيبلوغرافيا الرسائل الجامعية في الدراسات الروائية» في مجلة «تجليات الحداثة» (وهران) ـ العدد الثالث ـ يونيو 1994 ـ ص ص204-220.
ويلاحظ أن حركة تعريب الكتب الأجنبية عن القصة والرواية العربية بازدياد خلال فترة البحث، مما يدل على المكانة التي بدأت تتبؤأها في إطار عالمية القصة والرواية، وأذكر بعض هذه الكتب:
- الن، روجر: «الرواية العربية ـ مقدمة نقدية» (ترجمة حصة منيف) ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1988.
- كربوشويك، ب. م: «الإبداع القصصي عند يوسف ادريس» (ترجمة وتقديم رفعت سلام) ـ دار سعاد الصباح ـ الكويت 1993.
- عدة مؤلفين: «الإبداع الروائي اليوم» (ترجمة ابراهيم العريس) ـ (وهو عن أعمال لقاء الروائيين العرب والفرنسيين في معهد العالم العربي بباريس 1988) ـ دار الحوار ـ اللاذقية 1994.
- ستاغ، مارينا: «حدود حرية التعبير: تجربة كتاب القصة والرواية في مصر في عهدي عبد الناصر والسادات» (ترجمة طلعت الشايب) ـ دار شرقيات ـ القاهرة 1995.
- براجوكينا، سفتيلانا: «حدود العصور، حدود الثقافات: دراسة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية» (ترجمة ممدوح أبو الوي وراتب سكر) - اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1995.
وميزة الكتاب الأخير أنه نظرة منصفة لتطور الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية ورحلته من أدب استعماري إلى أدب قومي استهداءً بانفتاحات النقد الماركسي في فهم النظرية الأدبية للعلاقة المتبادلة بين الفن والواقع.
[46]. ايفاشيفا، فالنتينا: «على مشارف القرن الواحد والعشرين ـ الثورة التكنولوجية والأدب» ـ (ترجمة فخري لبيب) ـ دار الثقافة الجديدة ـ القاهرة 1984.
[47]. غوليكا، ارسيني: «الفن في عصر العلم» (ترجمة جابر أبي جابر ـ مراجعة شوكت يوسف) ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1985 ـ ص ص5-6.
[48]. عدة مؤلفين: «النقد الأدبي الحديث بين الأسطورة والعلم» (ترجمة محي الدين صبحي) ـ الدار العربية للكتاب ـ ليبيا ـ تونس 1988 ـ ص ص14-15.
[49]. الفن في عصر العلم - ص ص 5-6.
[50]. عوض، رمسيس: «دراسات تمهيدية في الرواية الإنجليزية المعاصرة» ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1971 ـ ص ص253-254.
[51]. على مشارف القرن الواحد والعشرين ص18.
[52]. علي، نبيل: «العرب وعصر المعلومات» ـ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت 1994 ـ ص ص310-317.
[53]. كنت قمت بدراسة معمقة لرواية عربية من سورية تنتمي إلى موجة الرواية الاستهلاكية، وهي رواية «المدينة الأخرى» لخيري الذهبي. انظر كتابي: «الأدب والتغير الاجتماعي في سورية» ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1990،ص ص307-314.
[54]. نشرت الرسائل في كتاب عن «أخبار اليوم» ـ القاهرة 1978.
[55]. الراوي، مسارع حسن وآخرون: «من قضايا اللغة العربية المعاصرة» ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـ تونس 1990.
[56]. المصدر نفسه ص6.
[57]. النعيمي، خليل: «فضل اللغة: تجربة ذاتية في تدريس الطب بالعربية». في «قضايا فكرية ـ لغتنا العربية في معركة الحضارة» ـ القاهرة 1997 ـ ص175.
[58]. المصدر نفسه ص177.
[59]. علي، نبيل: «نحو نظرة أشمل للغة» ـ المصدر نفسه ـ ص298.
[60]. «العرب وعصر المعلومات» ـ مصدر سابق ـ ص ص 369-380.
[61]. أبو هيف، عبد الله: «أزمة الذات في الرواية العربية» في مجلة «عالم الفكر» (الكويت) ـ المجلد 24 ـ العدد 4 ـ إبريل ـ يونيو 1996 ـ ص ص 25-26.
[62]. زيادة، خالد: «اكتشاف التقدم الأوروبي ـ دراسة في المؤثرات الأوروبية على العثمانيين في القرن الثامن عشر» ـ دار الطليعة ـ بيروت 1981 ـ ص10.
7- التأليف المعجمي والمصطلحي والموسوعي:
يكاد يختفي التأليف المعجمي والمصطلحي والموسوعي من ساحة النقد الأدبي الحديث حتى نهاية الستينيات، إذ لا يقع المرء إلا على كتاب صغير لناصر الحاني (العراق)، عنوانه «المصطلح في الأدب الغربي» (1968). ثم بادر مثقف موسوعي هو مجدي وهبه (مصر) لوضع «معجم مصطلحات الأدب» (1974)(1) واتبعه بعدة معاجم أخرى في الفنون واللغة والبلاغة مع نقاد وباحثين آخرين.
وقد حاول مجدي وهبه نفسه بالاشتراك مع كامل المهندس إن يستدركا الإجابة على بعض الأسئلة، بعد خمس سنوات، في عملهما المشترك «معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب» (1979)، ولكن النتيجة توفيقية، جمعت بين مصطلحات عربية وأخرى أجنبية، وخسر المعجم الإحاطة بالمصطلح العربي، ولا سيما المتكون في النقد الأدبي العربي الحديث، وكنت أجريت تدقيقاً لمصطلحات القص والسرد فيه، فوجدتها قليلة لا تذكر، فثمة مصطلحات كثيرة غائبة عنه(2). ولربما كان السبب عائداً إلى فقدان الاختصاص، وروح فريق العمل، والانغمار بالحركة الأدبية والنقدية، إذ لا يكفي أن تجيد اللغات الأجنبية، وأن تتسم بالدأب على البحث، ليكون من ذلك تأليف معجمي واصطلاحي وموسوعي. فيحتاج هذا التأليف أيضاً إلى اختصاص أدق، على التداخل بين هذه المجالات والفضاءات، وإلى تقص لمدى التغير في الاستعمال الأدبي من خلال النصوص نفسها، لأنّ مجالات اللغة وحدها تستلزم تأليفاً خاصاً عن مجالات البلاغة والبيان، أو عن مجالات الأدب ونظريته.
وأقبل كمال عيد (مصر) إلى التأليف المعجمي والمصطلحي في كتابه «فلسفة الأدب والفن» (1978)، ولا يدل العنوان على المحتوى، ولربما كان تواضعاً، فقد عمد مؤلفه إلى وضعه، تلبية لحاجات معرفية وثقافية وواقعية، إزاء الخلط الحاصل في الممارسة الأدبية والفنية العربية بين مصطلحات ومفاهيم كثيرة، فعرض «للآراء الفلسفية التي بحثت في الآداب والفنون والنظرية عند كل منهما، وهو ما لم يكن منه بد من التعريف أيضاً ببعض آراء هؤلاء الفلاسفة والنظريين، استكمالاً لتحرير الكتاب، وربطاً للقارئ الكريم»(3).
وقد كان «المعجم الأدبي» (1979) لجبور عبد النور (لبنان) فضفاضاً تاريخياً أكثر من المحاولتين السابقتين، ورأى فيه صاحبه كتاباً متواضعاً (يقع في 664 صفحة من القطع الكبير، بينما بلغت صفحات معجم وهبه الأول (703) صفحات بالحجم نفسه)، واقتصر المعجم «على عدد معين من المفردات، مكتفياً بتعريفات موجزة، متبعاً منهج المعاجم المألوفة في التوضيح والإيجاز، بعيداً عن الإفاضة والتعميق الشائعين في الموسوعة العامة أو المتخصصة»(4).
وعلى العموم، فإن معجم عبد النور أقل فائدة من سابقيه، لغلبة الشرح العام للألفاظ على متنه، مما لا يرضي رغبة المتخصصين.
وظهر معجم صغير لحمادي صمود (تونس) ضمن العدد الخامس من «حوليات الجامعة التونسية»، سماه «معجم مصطلحات النقد الحديث» (1977). ورأى سعيد علوش (المغرب) في هذا المعجم «أنه لا يملك من المعجمية، غير اسمها، لأن عدد المصطلحات التي نشرت، قليلة من جهة، ولا تخرج عن المجال البنيوي من جهة أخرى، إلا أنها تتسم بدقة التعريف والكيف»(5).
ثم خطا سعيد علوش خطوة في التأليف المعجمي والمصطلحي في كتابه «المصطلحات الأدبية المعاصرة: عرض وتقديم وترجمة» (1984)(6)، وأعاد طباعته في العام التالي تحت عنون «معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ـ عرض وتقديم وترجمة» (1985)، على الرغم من التباين في عدد الصفحات بين الطبعتين، ومرد ذلك إلى حجم الحرف الطباعي والإخراج الفني. وقد حوى المعجم مقدمة حول وضعية وموضعة المعاجم الأدبية، والمصطلحات الأدبية المعاصرة (متن المعجم)، ومسرداً بالمصطلحات العربية ـ الفرنسية، ومسرداً آخر بالمصطلحات الفرنسية ـ العربية، وببليوغرافيا موجزة للأدب المعاصر.
وكما أشرنا لدى عرض معجم صمود، فقد ضمت مقدمة علوش نظرة نقدية على معاجم المصطلحات الأدبية في العالم المعاصر، فأضاف إلى ما ذكر:
* «مساهمة في دراسة الألفاظ العربية للنقد الأدبي» لشارل فيال ومجدي وهبة (1970 بالعربية).
* «دليل الطالب إلى المصطلحات الأدبية» (1960).
* «المعجم الموسوعي لعلوم اللغة» لاوزوالد ديكرو، بالاشتراك مع تودروف (1972).
* «معجم النقد الأدبي المعاصر» لمارك أنجريا (1972).
* «المعجم العالمي للمصطلحات الأدبية، للجمعية العالمية للأدب المقارن» (1979).
* «السيميائية: معجم مختصر لنظرية اللغة» لغريماس (1979).
وصدر في عام 1984 أيضاً «قاموس اللسانيات» لمؤلفه عبد السلام المسدي (تونس)، باللغتين العربية ـ الفرنسية، وشمل هذا المصنف، ربما لأول مرة في مثل هذه المصنفات، «مقدمة في علم المصطلح»، يتشكل كتاباً بذاتها، (66 صفحة من القطع الكبير). وتصح أن نرى في هذا المصنف نقلة في التأليف المعجمي والموسوعي، لأنه يتجه إلى التخصص، مواكبة للمناهج المعرفية والنقدية الحديثة.
عالج المسدي في كتبه العلوم ومصطلحاتها، وأعراض القضية الاصطلاحية، واللسانيات وعلم المصطلح، والاصطلاح والحركة الذاتية، ومراتب التجريد الاصطلاحي، ومصطلح العلم وعلم مصطلحه، والجهود العربية في المصطلح اللساني، والقاموس المختص ونماذجه.
وتفيد مقدمة المسدي إلى عراقة علم المصطلح في التراث النقدي العربي ركيزة لتدعيم الجهود العربية في المصطلح بعامة، والمصطلح اللساني بخاصة، أثر توزع سبل استعماله في مصطلحات كثيرة أورد كشفاً لها بفوارقها الكلية والجزئية:
اللانغويستيك.
فقه اللغة.
علم اللغة.
علم اللغة الحديث.
علم اللغة العام.
علم اللغة العام الحديث.
علم فقه اللغة.
علم اللغات.
علم اللغات العام.
علوم اللغة.
علم اللسان.
علم اللسان البشري.
علم اللسانة.
الدراسات اللغوية الحديثة.
الدراسات اللغوية المعاصرة.
النظر اللغوي الحديث.
علم اللغويات الحديث.
اللغويات الجديدة.
اللغويات.
الألسنية.
الألسنيات.
اللسنيات.
اللسانيات.(7)
ولعل ذكر هذا الشاهد يكشف عن قلقلة المصطلح النقدي والمعرفي عموماً في اللغة العربية بتأثير المناهج الجديدة.
ونحا التأليف الموسوعي منحى خاصاً مع نبيل راغب (مصر) في كتابه «موسوعة الفكر الأدبي» (1988 جزءان)، وتكمن خصوصيتها في أنها تعالج مفاهيم فكرية تشكل جوهر الأدب والفن، وتشمل خمسين مفهوماً أو قضية فكرية، مثل الأبوة، الأرض، الأسرة، الاغتراب، البخل، التطور، الحرب، الحرية، الخلود، الشيطان، العنف، الأحلام، الأشباح، الجنس، العدم، القدر، الوهم.. الخ.
كان الدافع الأساسي وراء تأليف هذه الموسوعة، حسب تعبير راغب نفسه، خلو المكتبة العربية من الدراسات الأدبية والنقدية التي تتناول القضايا أو المضامين أو «الثيمات» الأساسية التي تشكل المحتوى الفكري للأعمال الأدبية. ولاحظ، أن كل مفاهيم الأدب العالمي تتفرع، بطريقة أو بأخرى، من هذه القيم: الحق والخير والجمال. ولذلك تبدو المضامين الأدبية المتعددة، وكأنها مستمدة من نسيج عضوي واحد، يتمثل في التجربة الإنسانية من أجل حياة أفضل على هذه الأرض عبر التاريخ.
وقد استهدف من هذه الموسوعة ترسيخ مناهج الأدب المقارن من خلال تتبع المفهوم الفكري الواحد عبر عصور متتابعة، ومن خلال أعمال أدبية متنوعة، وفي مناطق جغرافية مختلفة، مما يمكن القارئ من تلمس الأساليب المختلفة للمعالجة الفنية التي تتخذ من المضمون الواحد مادة أولية للصياغة والتشكيل، مما يفتح آفاقاً جديدة للأدب العربي المعاصر الذي يمكن أن يستفيد من تعدد المعالجات الفنية للمفهوم الفكري الواحد، وذلك بأن يضيف معالجات مستمدة من نسيج الثقافة العربية، ومجسدة لموقف الإنسان العربي من عصره(8).
إن موسوعة نبيل راغب فريدة في بابها، وتفيد القارئ العادي، أما النقاد والباحثون والمتخصصون فلا يقعون فيها إلا على جهد التنسيق لمتواتر القول حول المفاهيم الأساسية في الإنساني والأدبي، لا فرق.
غير أن التأليف المعجمي تطور في التسعينيات باتجاه التخصص الأدبي والنقدي، وهذا واضح على سبيل المثال، في المعجمين اللذين أصدرهما سمر روحي الفيصل عام 1995، الأول بعنوان «معجم الروائيين العرب»، والثاني «معجم القاصات العربيات»، مما يشير إلى رسوخ الفن القصصي والروائي العربي، فقد بلغ عدد الروائيين العرب 1317 روائياً وروائية ممن لهم رواية مطبوعة أو أكثر، وممن تحوز أعمالهم صفة فنية مقبولة، وهو تراث زاخر يدفع إلى مضاعفة الجهود النقدية، ويعزز البحث عن الذات(9).
8- العلاقات بين الفنون:
أثيرت قضية العلاقات بين الفنون في أواخر الستينيات، ولا سيما العلاقة بين الرواية والسينما، والشعر بين الفنون الجميلة، والشعر والدراما والسرد. وبرز ذلك مع نزوعات التحديث الأدبي نحو اختراق التقاليد القائمة لهذا الجنس الأدبي أو ذاك. وعندما ترجم حسن عون (مصر) كتاب «نظرية الأنواع الأدبية» (1956-1958 جزءان)، كان الصراع حول نسب الأجناس الأدبية المستحدثة إلى تقاليد الأدب العربي قائماً، وعندما وضع عفيف بهنسي كتابه الرائد «اتجاهات الفنون التشكيلية المعاصرة» ( 196) كانت فكرة الحديث في الفنون والآداب حاضرة وضاغطة على الوجدان الأدبي العربي الحديث، فتحدث بهنسي عن خصائص الفن الحديث بعامة، إذ يعسر الفصل بين الفنون والآداب، وصار الأديب فناناً، وصارت تسبق الأجناس الأدبية لفظة فنّ، فهناك فن الشعر، وفن القصة القصيرة، وفن الرواية، وهكذا، ولاحظنا أن مقياس التطور في الأجناس الأدبية ارتهنت بالقيمة الفنية، فبحث نقاد القصة عن أول رواية أو قصة ينطبق عليها وصف الرواية الفنية أو القصة الفنية. وغدت خصائص الفن الحديث خصائص للأجناس الأدبية نفسها، ولا سيما الاتصال بين الفنون والآداب.
ولعل أول محاولة منهجية لدراسة العلاقات بين الفنون الجميلة هي بحث نعيم اليافي (سورية) «الشعر بين الفنون الجميلة» (1968)، إذ تعمق في المواقف الكلاسيكية والرومانسية والحالية (يقصد النقد الحديث الراهن)، ثم نقد هذه المواقف بتجلي روح العصر التي تعد المؤثر الأكبر في هذه العلاقات:
«وسواء اقتربت الفنون من بعضها البعض، و اختلفت، أو وضعت في سلم تعلو درجاته، أو كانت في عجلة دائرة بلا توقف.. وسواء قرب الشعر من الرسم أو من الموسيقى، أو من غيرهما، فإن ذلك كلّه رهن ظروف طارئة هي روح العصر السائدة، ولكن تبقى وراء الفنون وحدتها واختلافها، وفوق العصر وروحه الواسطة تملك طبيعتها الخاصة وتاريخها الخاص، وهي تتحكم بهما، وعن طريقهما في الفنان وفي عمله»(10).
وتصاعدت وتيرة الحوار النقدي حول العلاقات بين الفنون والآداب، وطبيعة الفنّ الحديث أو الأدب الحديث، وتبادل التأثير بين مجالاتها التي تسارعت بفضل التطور العلمي الهائل، وهذا جلي في كتابي علي الشوك (العراق) «الأطروحة الفنطازية» (1971)، و«الدادائية بين الأمس واليوم» (1972) وقد حفلت النماذج الأدبية المعروضة بتداخل التقانات التي تنتمي لأكثر من فن، الرسم، الموسيقى، النحت، الزخرفة، الخط العربي، السرد، ولا يتسع المجال لعرض مثل هذه النماذج التي تستلزم شيفرات خاصة لقراءتها، فظهرت في السبعينيات قصائد تشكيلية أو صورية (تستخدم الصور الفوتوغرافية في تشكيلها، أو تنوع رسم القصيدة بأشكال مختلفة، مثلما ظهرت نصوص قصصية وسردية تستعمل تقانات السينما مثل التوليف والتقطيع والمشهدية والعرض الشامل والانتقال التدريجي والتقريب والتبعيد.. الخ.
ونما هذه الفكرة تطور النقد الفني الخاص بفنون الأداء للكلمة، مثل المسرح والسينما على وجه الخصوص، فهي فنون تستند إلى نصوص، وقد شهدت الساحة الثقافية الغربية نقاشات واسعة حول منزلة الكلمةفيالفنون، ونشطت اتجاهات الفن التشكيلي الحروفي، أي استخدام الحرف العربي في بناء اللوحة، وصارت الفنون والأجناس الأدبية تتبادل التقانات والعناصر التعبيرية، ثم بادر قصاصون إلى تعزيز اشتغالهم على خصائص اللغة الشعرية واللوازم الدرامية، ومسرحيون من جماعة المسرح الوثائقي أو التسجيلي، إلى استخدام تقانات السرد التاريخي والأدبي بحكم طبيعة الوثيقة المكتوبة، مما أشاعه بيتر فايس، ومن سار على دربه في المسرح العربي الذين وسعوا استخدام المقاطع الروائية أو العبارات الوصفية في تركيب المشهدية، فواكب النقد هذه التطورات الفنية، التي تستدعي نهاجيات حديثة وفكراً نقدياً جديداً، ومثل هذه التطورات في النقد جلال العشري (مصر) في كتابه «المسرح أبو الفنون» (1974) الذي بنى نقده، مثل نقاد كثيرين أمثال بهاء طاهر وسمير سرحان وفؤاد دوارة ورياض عصمت، على رؤية النص وأشكال تجسيده. فبدأ نقاش العلاقات بين الفنون والآداب في النقد الأدبي العربي الحديث بالمسرح والأدب ثم انتقل إلى النثر القصصي والفنون الأخرى.
لقد أفرزت الحداثة، في ما أفرزت، ما يسمى الآن بقضية الاتصال والانفصال بين الفنون بتأثير تطور الثقافة والعلوم من جهة، وتطور وسائل الاتصال بالجماهير من جهة أخرى، فصار لعلاقة الأدب بالفنون الأخرى معضلات متعددة تتعلق بمنزلة الكلمة أساساً في الأدب والفن، ولعل علاقة الأدب بالمسرح توضح بعض جوانب هذه المعضلات.
أننا نلاحظ أن مفاهيم كثيرة قد تطورت في علاقة المسرح بالأدب، إلا أن ثمة حقيقة ما تزال راسخة، وهي أن الكلمة هي الأساس في الأدب والمسرح، وأن الفعل أساس نسيج المسرحية، مثلما هو أساس نسيج الفنون السردية الأخرى كالقصة والرواية، فلاحظنا استفادة الرواية والقصة من الإمكانات الفنية والتقنية للمسرح، حتى أن كتاباً مسرحيين راسخين مثل توفيق الحكيم قد كتب في مطلع الستينات ما سماه «مسرواية» هي «بنك القلق»(1964)، أما تقصي أشكال الاتصال بين الفنون القصصية والمسرحية في الأدب العربي الحديث، فهي أكثر من أن تحصى، وربما كان شيوع القصص والروايات التي تحمل عنوان «حواريات» مفيدة في هذا المجال كما عند فارس زرزور وفاضل العزاوي وجمال أبو حمدان، ومحمد زفزاف ومحفوظ أيوب وعز الدين المدني وغيرهم.
ثم أصدرت مجلة «فصول في النقد الأدبي» عدداً خاصاً عن الموضوع «الأدب والفنون» (1985) استجابة إلى حضور هذه القضية في النقد الأدبي الحديث مما يتطلب مواجهة أسئلتها المتشابكة التي عزاها عز الدين إسماعيل في افتتاحية المجلة إلى تعقيد الظاهرة اللغوية، على أن هذه الظاهرة تجاوز الدائرة الإنسانية ولا تقتصر عليها، فالإنسان يتكلم اللغة، ولكن اللغة تعم الكون على أنحاء وضروب مختلفة. فإذا كانت اللغة في جوهرها أداة توصيل وتواصل من أجل الفهم والتفاهم، أو من أجل المعرفة والتعرف، لأنها تتخذ ـ على مستوى التعين ـ وسائط مختلفة، وتتشكل في مفردات وأبنية مختلفة كذلك. ومن ثم تنحل اللغة بما هي جوهر إلى مجموعة لا تكاد تحصى من اللغات الكلامية من جهة، واللغات غير الكلامية من جهة أخرى»(11).
بينما وجد المحرر أن مواجهة أسئلة العلاقات بين الفنون والآداب تكمن في التباس مصطلح «الفن»، «فالشواهد المدونة القليلة نسبياً، التي خلفها لنا التاريخ، تؤكد أن المفهوم الموحد والمحدد لهذا المصطلح كان غائباً أو كان مضطرباً. ومع ذلك فإن المهتمين بالفن لم يكفوا منذ القدم حتى اليوم عن الكلام عن الفنون المختلفة، وعن محاولة تصنيفها»(12). لقد ضم هذا العدد الخاص أبحاثاً مترجمة ومؤلفة، تناولت: «تصنيف الفنون»، و«العلاقات المنهجية بين الأدب والفنون الأخرى»، و«التصوير والشعر الإنجليزي الحديث»، و«جماليات اللون في القصيدة العربية»، و«شاعرية الألوان عند امرئ القيس»، و«الإيقاع الحيوي ونبض الإبداع»، و«هل هناك دور للفنون في رأب فجوة التخلف»، و«تعدد التصويت في الموسيقى»، و«بين الأدب والموسيقى»، و«شوستاكوفيتش والترجمة الأوبرالية: الأنف»، و«فن الباليه والأدب». ولا يخفى أن مثل هذه الاتجاهات النظرية التطبيقية تساعد على فهم أفضل للعلاقات بين الفنون والآداب. ولعلنا نشير تالياً إلى علاقة الرواية بالفنون التشكيلية نموذجاً ثانياً لنقاش هذه العلاقات في النقد الأدبي العربي الحديث.
عربت مي مظفر (العراق) كتاب جيفري ميزر «اللوحة والرواية» (1987)(13)، ويضيء هذا الكتاب قضية العلاقات بين الفنون والآداب كثيراً وقبل الدخول في موضوع الكتاب، أشير أن فنانين عرب كثر قد مارسوا الكتابة أو الكتابة الوجدانية التي تقترب من شكل الرواية والسرد كرفيق شرف (لبنان)(14) وحسن سليمان (مصر). أما الروائيون الذين استندوا إلى الفن أو اللوحة في رواياتهم وقصصهم فقلة كجبرا إبراهيم جبرا وسحر خليفة ومحمود دياب، حتى أن روائيين وقصاصين جعلوا أبطالهم فنانين ورسامين، ولكن رواياتهم وقصصهم تفتقر إلى منظور الفن في بنيتها (أعني الفن الذي يمارسه بطل الرواية أو القصة). ثم لا يجد المتتبعون بعد ذلك رؤية اللوحة أو العمل الفني في الوعي بالفن، ونذكر مثالاً لذلك «الظلال في الجانب الآخر» (1968) لمحمود دياب. أما رواية «السفينة» (1969) لجبرا إبراهيم جبرا فهي حافلة بالحديث عن الفن والتماثيل واللوحات، ولكنها أيضاً لا تشكل محوراً أساسياً في بناء الرواية.
أما هذا الكتاب فهو محاولة لكشف التواصل والتناظر بين هذين الفنين: اللوحة والرواية، من خلال متابعة مجموعة روايات تضمنت متونها بحثاً مسهباً عن أعمال فنية شهيرة، بل إن هذه الأعمال تشكل أساساً للرؤية بحيث يغدو مقدار الوعي بالعمل الفنّي لبّ الرواية مما يساعد على إضفاء بعد آخر للشخصية داخل الروية للكشف عن خفايا أعماقها، «فالروائي بعد هذا يريدنا أن نرى» كما تقول فرجينيا وولف، وعبر هذا التواصل مع الفّن يشكل الكاتب رؤيته الخاصة.
ولا يتسع المقام لعرض هذا الكتاب وما حواه من قضايا، ولكنه، على العموم، نموذج نقدي مدهش في إضاءة العلاقات بين الفنون والأدب، ينفع كثيراً في تطوير التفكير الأدبي، وتوسيع الثقافة الفنية، وإثراء تجربة النقد نحو اتجاهاته الجديدة.
9- أبحاث نظرية الأدب ونظرية القصة والرواية بعد ذلك:
9-1- أسئلة فهم القصة:
عندما ترجم محمود الربيعي (مصر) كتاب فرانك أوكونور Frank O’connor «الصوت المنفرد: مقالات في القصة القصيرة The Lonely Voice» (1962 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1969) كان يقصد إلى مواجهة أسئلة فهم القصة، وكان ينظر في تعريفها، وفي طبيعتها وفي عناصرها الرئيسة، وفي ما يميز هذا الكلام أو هذه اللغة ويجعلها قصة أي أنَّ الربيعي أراد أن يطرح على التفكير الأدبي العربي «بضعة نتائج عامة عن تاريخ القصة القصيرة. أي نوع من الفهم هي؟ والاتجاه الذي يمكن أن تأخذه»(15). وتميزت هذه المحاولة في فهم القصة، وربما تكمن أهميتها في هذا الأمر بالذات، بأنّ مؤلف الكتاب يعاين نظرته إلى فن القصة من خلال تمحيصه لأعمال بعض أفضل كتابها في تاريخ الأدب الحديث، وهم: «ترجنيف» و«موباسان» و«تشيكوف» و«روديارد كبلنغ» و«جيمس جويس» و«كاثرين مانسفيلد» و«د. هـ. لورانس» و«ارنست همنغواي» و«كوبارد» و«ماري لافن». وأعتقد أنّ هذا الكتاب مارس تأثيراً كبيراً في الشغل النقدي الخاص بكتابة القصة القصيرة، ولا سيما فكرة الكاتب التي تقول إن القصة القصيرة هي تعبير عن جماعة مغمورة أو التوكيد على العناصر الرئيسة في القصة وهي: العرض والنحو والعنصر المسرحي، «وأن الفرق بين الرواية والقصة القصيرة أساساً ليس فرقاً في الطول. إنه فرق بين القصص الخالص والقصص التطبيقي»(16).
وتشعبت أسئلة فهم القصة، وطالت في رحابتها الأسئلة حول نظرية القصة، وهذا ما فعله معربان آخران بترجمتهما لكتاب فرانك كرمود Frank Kermod«الإحساس بالنهاية: دراسات في نظرية القصة» (1966 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1979)، وعمد فيه مؤلفه إلى الكلام «على العلاقة بين الرؤيا والخيال القصصي عند الإنسان الذي يولد و يموت في الوسط. إنه موضوع واسع، لأن أداة التغيير هي خيال الإنسان، فهو لا يغير العقدة المغرية فحسب، بل يغير بنية الزمن والعالم أيضاً»(17). وقد أثار الكتاب باتساع ونفاذ بصيرة كثيراً من الأسئلة الأساسية حول نظرية القصة: النهاية، القصص الخيالي، العالم بلا بداية أو نهاية، الرؤى الحديثة، القصص الأدبي و الواقع، الحبس الإنفرادي.
ويتبدى تأثير هذا الفهم في نقاد القصة في إقدام «كتاب العربي»، وهو الكتاب الأكثر انتشاراً في الوطن العربي، على تخصيص القصة العربية باهتمامه وتكليف إحسان عباس، وهو أحد شيوخ النقد العربي وصاحب واحد من الكتب الريادية عن القصة في النقد الأدب العربي الحديث، بوضع مقدمة الكتاب المذكور «القصة العربية: أجيال وآفاق» (1989)، وقد شكا عباس (فلسطين) في دراسته إشكالية التعريف، ولوى عنه بقوله: «ولهذا كان الوصول إلى تعريف شامل للقصة القصيرة إثر محاولة غير ذات جدوى، مثلما أن حصر الأشكال الناجمة منها يفوت كل محاولة. فقد أثبتت الأيام أن هذا اللون الأدبي في تطور مستمر، وأن أشكاله تتعدد وتتكاثر كلما اختلفت التجربة، أو تغيرت زاوية التركيز عند كاتب دون آخر. فإذا وجدنا تعريفات كثيرة للقصة القصيرة فليس ذلك إلا دليل على أن كل تعريف سابق كان قاصراً من إحدى الزوايا، ومن ثم فلا نستبعد أنه كان مضللاً لمن حاول من الكتاب الناشئين أن يلتزم به، أو يمشي على هديه»(18).
ثم تطورت عمليات فهم القصة باتجاه نظريتها بتأثير النهاجيات الحديثة لنقد القصة والرواية، وظهر ذلك جلياً في الكتاب الآنف الذكر «مدخل إلى نظرية القصة» (1985) لسمير المرزوقي وجميل شاكر(تونس)، وكانت ترجمة كتاب روبرت شولز Robert Scholes «عناصر القصة Elements of Fiction» (1986 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1988) من العلامات الفارقة في تدعيم البحث في نظرية القصة، لأنه «يعالج الأساسيات بدلاً من التحسينات فلا يقدم أنساقاً معقدة من التصنيفات، أو معجماً نقدياً مفصلاً، بل بعضاً من الأدوات المفهومية لتحليل القصة وتفسيرها»(19)، ويقدم القسم الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان «العناصر»، غالبية مكونات نظرية القصة: الخيال والواقع والحقيقة، التجربة والتحليل، طيف القصة، الأشكال والنماذج القصصية، الحبكة، الشخصية، المعنى، وجهة النظر، المنظور واللغة، التصميم: المجاورة والتكرار في بنية القصة.
ولا يخفى أن حركة التعريب عن كتابة القصة القصيرة لم تتوقف مما يؤكد الحاجة المستمرة لفهم فكرتها وطبيعتها وأساليبها، وأشير في هذا المجال إلى كتابين مميزين في بابهما هما «كتابة القصة القصيرةShort Story Writing » (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1992) لمؤلفه ولسن ثورنللي Wilson R. Thornley، وضع الترجمة مانع حماد الجهني (السعودية) إسهاماً في إضاءة مفهوم القصة وطرائق كتابتها التي تطورت كثيراً بتأثير طبيعة الحياة المعاصرة وأشغال الإنسان المعاصر بالتلفزة والسينما وغيرها، «وقد عزا هذا الوضع، برأيه، إلى حركة برزت في الولايات المتحدة سميت الحدّ الأدنى Minimalism نادت بكتابة مختصرة لحياة مختصرة. ولا شك أن القصة القصيرة هي خير تطبيق لهذا المبدأ»(20).
وذكر الجهني أسباباً أغرته بتعريب الكتاب تلتم جميعها حول التعريف بتجربة الكتابة القصصية من خلال خبرة طويلة لها ولتدريسها في الولايات المتحدة، أما الأسباب فهي:
* خلو الساحة من دليل يساعد على كتابة القصة القصيرة رغم رواج سوقها وكثرة ما ينشر في المجلات والصحف من قصص ينقصها الكثير مما يتعلق بمكونات القصة التي ينبغي مراعاتها.
* بساطة الكتاب ووضوح منهجه وشمولية معالجته مع التركيز الشديد على الأمثلة والتحليل المصاحب لعدد من الفقرات القصصية التي عرضها.
* خبرة مؤلف الكتاب الطويلة في تدريس القصة القصيرة.
* احتواء الكتاب على منهج متكامل لإنتاج القصة تخطيطاً وكتابة ومراجعة.
* اشتمال الكتاب على ثلاث قصص جرى تحليلها فقرة فقرة من حيث أسلوب وتقنيات كتابة القصة القصيرة(21).
والكتاب الثاني «كتابة القصة القصيرة On Writing the Short Story» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1996) لهالي برنت Hallie Burnett، وقام بترجمته أحمد عمر شاهين (فلسطين)، ونشر في الكتاب المنتشر «كتاب الهلال»، ويعزز ذلك الحاجة المستمرة إياها لفهم فكرة القصة وأساليبها من خلال تجربة معتبرة لكاتبة أمريكية عرفت بخبرتها الطويلة أيضاً، فهي قاصة ومشرفة على مجلة «القصة Story» الأمريكية لمدة تقارب الأربعين عاماً.
وتكمن أهمية محاولتها التعريفية والتحليلية من اعترافها «بأن القصة القصيرة من مراوغ، ومحاولة شرحها والتعريف بها، كمحاولة وصف مرآة لشخص همجي لم ير مرآة في حياته، وأن الخبرة بالقصة القصيرة تتأتى بالدرجة الأولى بقراءة العمالقة في هذا الفن، لكن يبقى هناك خط أحمر لا يمكن تجاوزه، حتى يمكننا اعتبار ما نقرؤه قصة قصيرة: خط يتعلق بالأسلوب، والشخصية، دوافعها وحركتها، والبدايات وأهميتها، ووجهة النظر التي تحملها القصة وماذا تريد أن تقول، فقصة بلا وجهة نظر مع بناء فني جيد لا تساوي شيئاً»(22).
وقد بينت بيرنت أن جودة القصة تتعلق بفنيتها «سواء كتبت بالطريقة التقليدية المسماة بالقصة القوس Arc Story التي تكون ذروتها في منتصفها، ثم يقودنا المؤلف إلى الحل بالتدريج حتى النهاية، أو قصة مكونة من عدد من الذروات كسلسلة جيلية، أو قصة التجلي Epiphany كما أسماها جيمس جويس، وهي التي تتبلور فيها الفكرة، وتتضح في الصفحة أو الأسطر الأخيرة من القصة، أو فيما يسمى بالقصة الحديثة، حيث تكون الفكرة مسيطرة من البداية للنهاية المفتوحة غالباً، دون ذروة أو تجل، ويطلق عليها Falt Story. وما زالت القصص تكتب بهذه الطرق الأربع، التي تشكل مراحل تطور القصة القصيرة منذ البدايات حتى عصرنا الحالي» (23).
إن الحاجة، كما يبدو من عرضنا، قائمة لفهم القصة، وأن النقاد والباحثين العرب مستمرون في محاولات تعريفها وتحديد عناصرها ومكوناتها إلى وقت متأخر.
9-2- أسئلة النظرية الأدبية:
انطلقت أسئلة النظرية الأدبية مع تعريب محي الدين صبحي (سورية) لكتاب رينيه ويلك وأوستن وارين Rene Wellek and Astin Warren «نظرية الأدب Theory Of Literature» (1949 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1972)، وقد ميز الكتاب بين الأدب والدراسة الأدبية، «فهما فعاليتان متمايزتان: إحداهما خلاّقة، فن والأخرى، إذا لم تكن بالضبط علماً، فهي ضرب من المعرفة أو التحصيل»(24). لقد عرض الكتاب، لأول مرة على هذا القدر من المنهجية والاتساق التعريفات والفروق حول الأدب والدراسة الأدبية، وطبيعة الأدب ووظيفته، ونظريته إزاء النقد والتاريخ، والأدب العام والمقارن والقومي، وتنظيم البنيات وتأسيسها. ثم عني بالاتجاه الخارجي لدراسة الأدب أو علاقة الأدب بالسيرة وعلم النفس والمجتمع والأفكار والفنون الأخرى، وخص الأدب من الداخل بمعالجات مستفيضة للطبيعة الفنية للعمل الأدبي بالإضافة إلى السلاسة والإيقاع والوزن والأسلوب والأسلوبيات والصورة والمجاز والرمز والأسطورة، وطبيعة السرد القصصي وأنماطه، والأنواع الأدبية، والتقييم وتاريخ الأدب.
اهتمّ واضعا هذا الكتاب باستقلال الأدب وبروزه كفن أي إيلاء شكله العناية اللائقة التي غالباً ما أهملت بتأثير الاتجاهات الخارجية في دراسة الأدب، وهي اتجاهات أعاقت أو حدّت من المقاربة العلمية للأدب في نظرياته ومذاهبه المختلفة. مما جعله كتاباً موسوعياً يندر أن يشبهه، على حد تعبير مؤلفيه، أي كتاب آخر شبهاً وثيقاً: «وعلى كل حال فقد تجنبنا ـ خلافاً للألمان ـ إعادة عرض آراء الآخرين، وبالرغم من أننا وضعنا في اعتبارنا نظرات الآخرين ومناهجهم فقد كتبنا من وجهة نظر متسقة، وخلافاً لتوماشفسكي، فإننا لم نهتم بتقديم تعليمات أولية حول موضوعات معينة كالعروض. إننا لسنا انتقائيين كالألمان، ولا وثوقيين كالروس»(25). لم يؤثر عملهما تأثيراً عميقاً في مجرى الحركة النقدية في الوطن العربي فحسب كما توخى مترجمه، بل إنه فعل ذلك في حركة النقد الأدبي المعاصر برمته، ولا سيما اهتمامه بالشكل والصنعة ومنزلتهما في الأدب والنقد بعامة وفي النظرية الأدبية الحديثة المتأثرة بالاتجاهات الجديدة المعرفية والنقدية بخاصة، إذ سادت عمليات فهم النظرية الحديثة خلال العقدين الفائتين على المشتغلين بالنظرية على وجه العموم، وقد اعترف آن جفرسن وديفيد روبي Ann Jefferson and David Robey واضعا كتاب «النظرية الأدبية الحديثة: تقديم مقارن Modern Literary Theory: A Comparative Introduction» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1992) بهذا التأثير العميق لكتاب رينيه ويلك وأوستن وارن. ذكر المؤلفان في مقدمتهما أن النظرية الأدبية تطورت في غضون القرن الحالي إلى فرع من الدراسات الأدبية يدرس ويعلم كموضوع متميز قائم في ذاته»(26). ولا يخفى أنهما يكرران رأي ويلك ووارن، في أن السمة المميزة للنظرية الأدبية الحديثة هي صلتها بالنقد الأدبي العملي والدراسة الأدبية، واستنكرا المقاربات العرضية للنص التي لا تحفل بملامح النص الأدبي ذاته إلا من وجهة نظر لغوية وتاريخية، و«لما كانت أغلب النظريات الأدبية تعنى بالخصائص الخاصة أو القيمة الخاصة للأدب فإن ما تستطيع هذه النظريات تقديمه للدراسة الأدبية هو قاعدة لبناء فرع أكثر عقلانية ومنهجية يحسن تقدير المكانة الفريدة التي يحتلها الأدب عادة»(27)، وعلل المؤلفان أن النظرية الأدبية نشأت بصورة رئيسة كاستجابة للمشاكل التي واجهها القراء والنقاد والدارسون في احتكاكهم العملي بالنصوص، وحصر الأسئلة التي تشكل الإطار الرئيس لنظرية الأدب: النص بما هو أدب، النص والمؤلف، النص والقارئ، النص والواقع، النص واللغة. وكان المعول في رأيهما هو «طرح التساؤلات حول إمكان، بل ضرورة، التوصل إلى موضوعية وعلمية كاملتين في حقل النظرية الأدبية»(28)، فحوى كتابهما ستة فصول عن الاتجاهات الجديدة في النقد الحديث وهي: الشكلانية الروسية، اللسانيات الحديثة، النقد الجديد، البنيوية وما بعد البنيوية، نقد التحليل النفسي الحديث، نظريات الأدب الماركسية.
وقد صنع تيري ايغلتون Terry Eagleton، وهو الناقد الماركسي كتاباً مشابهاً لما سبق ضمن مذهبه الاجتماعي في النقد هو «نظرية الأدب Literary Theory, An Introduction » (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1995)، ويتجلى هذا الاتفاق في تقدير منطلق التحول الذي لحق بالنظرية الأدبية في هذا القرن، ويحدد تاريخاً لبداياته في عام 1917، وهو الذي نشر فيه الشكلاني الروسي الشاب فيكتور شكلوفسكي مقالته الرائدة «الفن كصنعة»، وانسجاماً مع عقيدته دافع ايغلتون عن النظرية، فقد «سبق لعالم الاقتصاد ج. م. كينز أن أخذ على أولئك الاقتصاديين الذين لا تروق لهم النظرية أو الذين يزعمون القدرة على تدبر أمرهم بصورة أفضل من دونها، أنهم واقعون في قبضة نظرية أقدم ليس إلا. وهذا ينطبق أيضاً على النقاد ودارسي الأدب: ومن غير نوع ما من النظرية، مهما تكن متسرعة أو ضمنية لن تعرف ما هو العمل الأدبي أصلاً، أو كيف يجب أن نقرأه. إن العداء للنظرية يعني عادة معارضة نظريات الآخرين ونسيان المرء لنظريته الخاصة. وإن واحداً من أغراض هذا الكتاب هو أن يزيل هذا الكبت، ويتيح لنا أن نتذكر»(29).
وتكاد أبواب كتابته تتطابق مع الكتاب السابق باستثناء تعديلات بسيطة على مخطط الدراسات، وقد حاول أيغلتون أن يضع تعريفاً للأدب لم يخرج عن مدار الشكلانيين الروس. وتقصى نشوء الأدب في إنجلترا، فيما سماه نشوء الدراسات الإنجليزية، ليعالج المذاهب التالية: علم الظاهرات، التأويل، نظرية الاستقبال، البنيوية والسيميائية، ما بعد البنيوية، التحليل النفسي، النقد السياسي.
ومن الواضح، أن أبحاث نظرية الأدب غدت في صلب الحركة النقدية الأدبية العربية، فصدر التعريب عن نقاد ذوي موقف نقدي، وهذا واضح في تعريب سعيد الغانمي لكتاب رامان سلدن Raman Selden«النظرية الأدبية المعاصرة A Reader’s Guide to Contemporary Literary Theory » (1985 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1996)، والكتاب يهتم بتقديم صورة موسعة وشاملة وموجزة عن نظرية الأدب في مختلف المناهج الحديثة. ولاحظ المعرب أن المؤلف أحسن في مقدمته، «حين استثمر مخطط جاكوبسون في عناصر الفعل الاتصالي، وعدّله لتقديم تصنيف للمناهج النقدية في نظرية الأدب. وهكذا، أنتج ستة فصول في النظريات الحديثة هي الشكلانية الروسية، والنظريات الماركسية، والنظريات البنيوية، ونظريات ما بعد البنيوية، والنظريات المتجهة إلى القارئ، والنقد النسوي، وباستثناء النقد النسوي، فإن كل منهج من هذه المناهج يركز على عنصر من عناصر المخطط الاتصالي»(30).
وأبان المعرب أن هذا التعديل على مخطط جاكوبسون لم يكن سلدن فيه أبا عذرته، فقد سبقه إليه الناقد روبرت شولز في كتابه «السيمياء والتأويل»، وإن يكن المؤلف أغفل الإشارة إلى ذلك. وحرص المعرب بعد ذلك على إضافة المراجع المعربة مما أورده المؤلف في نهاية كل فصل، عوناً للقارئ على «غزارة نظرية الأدب الحديثة وتعددها وأهميتها»(31).
ويتساءل المرء عن إهمال النقد الأسطوري، عند غالبية نقاد نظرية الأدب، غير أن سلدن الذي اعترف بتركه لهذا المنهج، عزا ذلك إلى «أن النقد الأسطوري لم يدخل التيار الرئيسي للثقافة الأكاديمية أو الشعبية، ولم يتحد الأفكار المتداولة كما تحدتها منهجياً النظريات التي سنتفحصها فيما يأتي»(32).
ولا ننسى في هذا المقام أن نعرج على جهد الناقد حنا عبود (سورية) في تعريب نصوص أساسية من النقد الأسطوري الذي يعد تعبيراً ساطعاً عن وعي الناقد الأدبي العربي للنظرية الأدبية الحديثة، فقد عرب فصلاً طويلاً من كتاب نورثروب فراي «تشريح النقد»، وسماه «نظرية الأساطير في النقد الأدبي» (1987)، وزوده بمقدمة عن نظرية شارحة للأنماط الأولى، ومعجبة بها، ومدافعة عن الرجل ونظريته في وجه المنتقدين وانتقاداتهم.( 33) ثم أتبعه بكتاب كامل عن النظرية، حمل عنواناً واضحاً هو «النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري» (1999)، بيّن فيه، إثر تصحيح المصطلح وتدقيقه، العوامل التي أخّرت ظهور النقد الأسطوري عندنا إلى أواخر السبعينيات. فقد «كانت الساحة النقدية ملكاً للنظريات الأدبية الحديثة الأخرى من أمثال الماركسية والوجودية والفرويدية»(34). وقد عرض عبود الدراسات السابقة للأسطورة، وهي تذهب جميعها لدراسة الفكر بعامة، والشعر بخاصة، ورأى أنها تتفهم الأسطورة وتدغمها في سياقات النقد الأسطوري، وتتفاوت في مقاربتها لنظرية فراي، كما عند النقاد ريتا عوض (فلسطين) في كتابها «أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث» (1978) ومحي الدين صبحي (سورية) في كتابه «الرؤيا في شعر البياتي» (1986)، وعلي البطل (فلسطين) في كتابه «الأداء الأسطوري في الشعر العربي المعاصر» (1992).
ويُظهر عبود انشغاله العميق بالتعرف على النظام الأدبي الذي تؤكد عليه النظرية الأدبية الحديثة، ولاسيما اعتماد النقد الأسطوري على الأنثروبولوجية الثقافية، ويؤكد على ثراء النقد الأسطوري في تحديث الأدب والنقد.
وكان عبود نفسه مال كثيراً إلى الاتجاهات الجديدة في فهم النظرية الأدبية في كتابه «فصول في علم الاقتصاد الأدبي» (1997)، وقوام هذه الاتجاهات الجديدة: النقد الأسطوري ونظرية الأنماط الأولية، والتحليل النفسي الحديث، والماركسية ونظرية السلعة الأدبية. والكتاب برمته دفاع بين الأدب في مواجهة استشراء الحياة المادية، وسندها الاقتصاد السياسي، أما الاقتصاد الأدبي فرائده التربية الجمالية. ويستعير عبود لكتابة لغة كاسندرا بنت بريام ملك طروادة، ويترجم لغتها القديمة إلى لغتنا القرعشرينية(35).
ويظهر هذا النزوع النقدي في تعريب نظرية الأدب، لدى ناقد آخر هو محمد العمري (المغرب) الذي عرب كتاب «في نظرية الأدب: مقالات ودراسات» (1997)، ويتميز الكتاب بأمرين، الأول استيعابه لنظرات نقاد علم النص، والثاني اختياره لمقالات ودراسات تحيط، إلى حدّ ما، ببعض الاتجاهات الجديدة، وإضافة لمقال كتبه بنفسه عن أحد الموضوعات. والموضوعات والاتجاهات هي:
- «نظرية الأدب في القرن العشرين» (تأليف الرود إيش ـ د. و. فوكما).
- «النص بنياته ووظائفه: مدخل أولي إلى علم النص» (تأليف فان ديك).
- «الهزلي والشعري» (جان كوهن).
- «المقام الأدبي» (كبدي فاركا ـ محمد العمري).
- «نحو جمالية للتلقي» (جان ستاروبنسكي).
ومن الملاحظ، أن هذا الكتاب يستدرك تطورات كثيرة في النظرية الأدبية، كانت ترد جزئياً، أو إشارات في الممارسة النقدية العربية، مثل علم النص وجمالية التلقي، إن مقدمات المعرب ناقداً لبعض المقالات والدراسات، مما يشي بتغيرات الموقف من مجرد نقل النظرية الأدبية إلى وعيها، كما في مقدمته للهزلي والشعري:
«يدعم ما ذهبنا إليه كون متن الأمثلة التي شغلها الباحث بكل تنوعاته هو المتن نفسه الذي تداوله دارسو السخرية. والنظريتان المعروضتان: نظرية التردي ونظرية التناقض هما النظريتان المعتمدتان عند دارسي السخرية قديماً وحديثاً. ومع ذلك كله فقد سكت المؤلف عن الرصيد البلاغي التنظيري الملتصق بكلمة سخرية Ironie»(36).
مع ترجمة كتابي «النظرية الأدبية المعاصرة» و«في نظرية الأدب» يتعزز الاشتغال النقدي العربي بنظرية الأدب في تطوراتها وآخر تجلياتها الحديثة استفادة من الاتجاهات الجديدة المعرفية والنقدية.
9-3- أسئلة فهم الرواية:
تصاعد الإحساس بأهمية أسئلة فهم الرواية جنساً أدبياً في التفكير الأدبي العربي الحديث في مطالع السبعينيات، وكانت أنجيل بطرس سمعان (مصر) من أوائل الباحثين النقاد الذين صاغوا هذه الأسئلة في كتاب هام في بابه هو «نظرية الرواية» (1971)، وتكمن أهميته في إثارته للأسئلة من قلب تجربة الرواية الإنجليزية ذات التراث العريق والتقاليد الراسخة، فقد وجدت أن الرواية تعاني من قلة النقد الجاد الموجه إليها نظراً لحداثتها النسبية بالقياس إلى فنون الأدب الأخرى، ولطالما شكا الروائيون ونقاد الرواية من صعوبة النقد الروائي وقلة الموجود منه، مما كان يمكن أن يجد فيه كل من الروائي والناقد نبراساً يضيء له الطريق الذي يرتاده. ولذلك لجأت إلى الرواية الإنجليزية، «فقد أخذ كبار الروائيين على عاتقهم منذ نشأة الرواية في القرن الثامن عشر مهمة التعريف بها، والدفاع عنها وشرح أساليبها وصعوباتها»(37). ولذلك كانت محاولتها «مساهمة في حركة الترجمة الأكاديمية من ناحية، ولتعريف القارئ العربي بجانب هام من جوانب الأدب الإنجليزي من ناحية أخرى»(38).
ثم بدأت سمعان بموضوع نظرية الرواية حين وجدت أن كثيراً ما يعاب على الرواية أنها تفتقر إلى نظرية عامة محددة ترتكز عليها. وأقرت بصعوبة قيام نظرية للرواية، لأن «النظريات المجردة لا تتفق مع طبيعة الفن بوجه عام، وتتعارض مع طبيعة الرواية وتباين طرق كتابتها وعملية التجديد والتطوير المستمرة بها بوجه خاص. غير أنه (وهنا تكمن حيرتها المنهجية) من الممكن بالرغم من ذلك، تبين بعض الخطوط العريضة أو المبادئ الرئيسية التي يمكن القول: بأنها تشكل نظرية للرواية أو فلسفة عامة لها»(39).
إن المهم في كتاب سمعان هو أنها أثارت أسئلة فهم الرواية، كما ذكرنا، وتلمست لها صوغاً نظرياً في تجربة راسخة هي الرواية الإنجليزية، من خلال كتابات بعض أبرز أعلامها الروائيين، والنقاد، وهم هنري جيمس وجوزيف كونراد وفرجينيا وولف ود. هـ. لورنس وبرسي لبوك، فترجمت هذه الكتابات، وعلقت عليها في مقدمة طويلة تشكل كتيباً بذاتها، لتخلص إلى نتيجة مفادها أن نظرية الرواية تنطلق من فروق الشكل، وأن النظرية مرتبطة بالدراسة الأدبية والنقد: «وهكذا نرى في النهاية أن البحث عن الشكل مرتبط بالتعبير عن الموضوع، وأن نظرية النقد الروائي حتى وأن بدأت بالشكل، فستنتهي حتماً بارتباطه بالموضوع، فقوام نظرية الرواية الحديثة أن الرواية عمل فني، والعمل الفني وحدة مترابطة لا يمكن الفصل بين أجزائها»(40).
وبعد عقد من الزمن، ظهر كتاب أشمل وأدق في مقاربة النظرية للناقد المعرب محي الدين صبحي، وكان ترجم من قبل «نظرية الرواية»، والكتاب هو «نظرية الرواية: مقالات جديدةThe Theory of the Novel: New Essays» (1974 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1981)، لمحرره جون هالبراين John Halperin، وقد حوى عشرين مقالة ودراسة لثمانية عشر ناقداً أمريكياً وبريطانياً، بالإضافة إلى مقدمة المحرر الطويلة نسبياً لنظرية الرواية حتى زمنها. وتوزعت المقالات والدراسة على محاور: النوع الأدبي اليوم، العودة إلى النوع هذه الأيام، التخييل وفنّ السينما، الواقعية الأدبية وواقع الحياة، الواقع والقصد وزاوية، الأوروبيون: اتجاهات النظرية الروائية الأوروبية في القرن العشرين. وختم المحرر كتابه الضخم (542 صفحة من القطع الكبير) بنخبة موصوفة من المراجع في بابها، سماها «تناولات للتخييل»، وهي قوائم لمزيد من الكتب والمقالات التي تتناول مسائل الرواية النظرية والشكلية.
ولما كنا نهدف إلى تعيين المؤثرات الداخلية التي أثرت في تكوين الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فإننا نكتفي بإلماحات جوهرية عن الدور المتعاظم الذي لعبته بحوث نظرية الرواية. وغني عن القول، إن هذا الكتاب أسهم إسهاماً أساسياً في تطوير النظرة النقدية إلى الرواية، والتخلص من أوهام المحتوى أو المضمون باتجاه شكلها في تعبيره عن مجتمعها الخاص، وقد أوجز هالبراين خلاصة رأيه بقوله:
«وإذا أخذنا نظرية الرواية في القرن العشرين من النقاد الأوروبيين وجدنا اهتمامها بالصلة بين القارئ والنص أقل من اهتمامها بالصلات بين مختلف العناصر البنيوية، ضمن الرواية ذاتها. وبعبارة أخرى أن نقد الرواية النظري الحديث أقل انشغالاً بالرواية من حيث هي إنجاز خلقي يقوم على المحاكاة من انشغاله بها على أنها مخلوق تلقائي مستقل عن العالم الواقعي، أو على الأقل لا يعتمد عليه اعتماداً كلياً. إن عالم الرواية المستقل لابد من أن يشابه عالمنا. لكنه لم يخلق على أنه تمثيل واع لأي شيء خارج ذاته. إن النظرة الحديثة تشدد على بنية العمل، وعلى تكامل العناصر المكونة له بدلاً من أن تشدد على التخييل ذاته من حيث تمثيله، أو عدم تمثيله للواقع الخلقي أو الواقع المحاكي»(41).
وشهدت التسعينيات انفتاح البحوث في نظرية الرواية باتجاه فنيتها وسرديتها، وأتوقف في هذا المجال عند تعريب كتاب كان له أثر كبير في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية. هو «أبعاد الرواية الحديثة: نصوص ألمانية وقرائن أوروبية» (1994) لمؤلفه تيودور زيولكوفسكي ومترجميه إحسان عباس وبكر عباس.
وينحو الكتاب منحى آخر في النظر إلى فن الرواية، هو «الطريقة التحليلية المتدرجة العميقة التي تصلح أن تكون نموذجاً في تحليل الرواية، ولكن هذه الطريقة كثيراً ما تغفل التسلسل الأصلي في الرواية من أجل التشويق، والتشويق قد يعتمد الحذف والتقديم والتأخير، ومع ذلك فهذه ميزة من خلال الميزة الأولى، إذ تحليل الرواية ليس سرداً أو شبيهاً بالسرد، وإنما هو نظرات نافذة في بنيتها وشخصياتها، وأهم العناصر المكونة لها»، وكان هذا هو رأي المترجمين، أما المؤلف، فيدرج نقده في تحليل البنية، قصد «تكوين وحدة فنية من كلية العالم»(42).
إن كتاب «أبعاد الرواية الحديثة» يضمر معرفة عميقة بنظرية الرواية، ويستفيد من الإمكانات الكبيرة «للنقد الجديد» الأنكلوسكسوني حتى صارت إلى مكون من مكونات النقد والممارسة النقدية.
ثم صار فهم الرواية مديناً للاتجاهات الجديدة، مثلما يظهره كتاب: «الرواية في القرن العشرين» (1998) لمؤلفه جان إيف تادييه، وقد عرّبه محمد خير البقاعي (سورية). والكتاب عرضٌ لفن الرواية في آخر تطوراتها مستفيداً من الاتجاهات الجديدة بالدرجة الأولى. ويكشف فهرس المصطلحات المستخدمة في تأليف الكتاب هيمنة الاتجاهات الجديدة على ميادين النقد، ولاسيما نقد القصة والرواية والسرديات في الغرب.
9-4- أسئلة نظرية الأدب عربياً:
انشغل النقاد والباحثون العرب بأسئلة نظرية الأدب عربياً ليكون لهم رؤاهم، مجاوزة لمجرد النقل عن الآخر الغربي، أو الدوران في مدارات الفهم الغربي لنظرية الأدب. وكانت المحاولة الأولى للنسج على منوال الدراسات السائدة ما جاء في كتاب شكري عزيز ماضي «في نظرية الأدب» (1986)، فأثار عشرات الأسئلة، وأجاب عنها: نظرية الأدب: حدودها ومهامها، نظريات الفن الأدبي، نظرية المحاكاة، نظرية التعبير، نظرية الخلق، نظرية الانعكاس، نظرية الأنواع الأدبية، التطور في الأدب، الأدب والإيديولوجيا، الأدب وعلم النفس، الأدب وعلم الاجتماع، نظرية الأدب في التراث العربي، وختم كتابه بملحق يضم نصوصاً في نظرية الأدب لنقاد أوروبيين وعرب، من مختلف العصور.
واعترف شكري عزيز ماضي (فلسطين) بأن دافعه إلى تأليف الكتاب هو «الشكوى المستمرة من قلة المراجع في مادة نظرية الأدب»(43)، وهو ما ذكرته إنجيل بطرس سمعن أيضاً، وأضاف ماضي أنه استفاد من كتاب عبد المنعم تليمة «مقدمة في نظرية الأدب» (1976).
حاول ماضي في البداية أن يبين التمايز والتداخل بين ميادين نظرية الأدب والنقد الأدبي وتاريخ الأدب، وأفرد محوراً للحديث عن البنيوية على اعتبار أنها تمثل اتجاهاً جديداً، وتقدم فلسفة جديدة للأدب مستندة إلى معطيات علم اللغة العام. وأخيراً كان لابد من الحديث، برأيه، عن نظرية الأدب في التراث العربي. ولعلها من المحاولات الأولى أن يبحث باحث عن ملامح نظرية الأدب في تراثنا النقدي، وإن غلب على عرضه الإيجاز.
ثم خص حمادي صمود كتاباً بأكمله لنظرية الأدب عند العرب إسهاماً «في بناء ثقافة وطنية وقومية أصلها ثابت وفرعها في السماء. وكنا نحمل في أحضاننا بلدنا ونحلم بأن نصل به مرفوعاً على أيدينا وعلى صلب عزمنا إلى آفاق وذرى عالية شاهقة، في كبد السماء»(44)، وقد سمى صمود كتابه «في نظرية الأدب عند العرب» (1990)، وحوى الكتاب دراسات في قضايا الأدب «موزعة على ثلاثة محاور تمثل الأوجه المختلفة للعلم والمعرفة، وهي النظرية والمنهج والإجراء»(45).
درس صمود في القسم الأول من كتابه جوانب من نظرية الأدب عند العرب: نظرية المعنى في التراث العربي وأثرها في فهم وظيفة الصورة، ملاحظات حول مفهوم الشعر عند العرب، المفاضلة بين الشعر والنثر في التراث العربي ودلالتها، الشعر وصفة الشعر في التراث. وعالج في القسم الثاني المخصص لمناهج الأدب المناهج اللغوية في دراسة الظاهرة اللغوية، بينما جعل القسم الثالث تطبيقياً، واختار فيه قصيدة للشاعر أبي القاسم الشابي.
ثم سعى نقاد وباحثون إلى تأطيرات نظرية للأدب أو أحد أجناسه عند العرب، في هذا المجال الكتاب الذي حرره محمد كامل الخطيب وعنوانه «نظرية الرواية» (1990)، وقد اتجهت عنايته إلى ملاحقة النصوص الدالة على عمليات تكون الرواية وتكوين فكر النهضة، فكان الكتاب تقصياً للنصوص التي عنيت بنظرية الرواية في التراث العربي الحديث «مفهوماً ونظرية وجنساً لتأخذ مكانها في السلسلة الثقافية النهضوية العربية، وما هو تاريخ تكون واستقرار مصطلح ومفهوم الرواية في الثقافة العربية؟»(46).
أشار الخطيب إلى أن مفهوم الرواية مصطلحها «نظرية الرواية» مرّ بمراحل متعددة، قبل أن يستقر في اللغة العربية، ويأخذ دلالته المتعارف عليها الآن «حكاية نثرية متخيلة طويلة». كان الجنس الروائي «قد اكتسب برأيه، مشروعيته ومكانته في السلسلة الثقافية العربية، وهما ما ناضلت الرواية في سبيله ما يقارب مائة عامة، كما سيظهر في هذه المختارات حول نظرية الراوية: مفهوماً ومصطلحاً وقيمة»(47).
والكتاب هو حصيلة مسح تقريبي للمقالات في المجلات والكتب والمصادر العربية التي اهتمت بموضوع الرواية العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواسط الخمسينيات، أي حتى مرحلة استقرار هذا الجنس ونضوجه. وقد قسم المحرر المختارات إلى ثلاثة أقسام:
1- القسم الأول: وفيه تقديم وشرح الجنس الروائي والدعوة إليه، ثم الحوارات التي تمت حول ذلك. وهي الحوارات والنقاشات التي من خلالها، وجنباً إلى جنب مع إبداع الروائيين والكتاب العرب للروايات، جرى تكوين نظرية الرواية العربية.
2- القسم الثاني: وفيه دعوة الكتاب القصصيين والروائيين لفنّ الرواية عبر المقدمات التي يكتبونها، أو التي يكتبها النقاد لأعمالهم.
3- القسم الثالث: وفيه شهادات لكتاب عاشوا مرحلة التكون الهامة باعتبار هذه الشهادات تكثيفاً لتاريخ هذا الجنس الأدبي الجديد، وأخذه مكانه ومنزلته في السلسلة الثقافية العربية الحديثة.
على أن الكتاب الأهم في بابه في النقد الأدبي العربي هو «نظريات معاصرة» (1997) لجابر عصفور، لتعبيره الصريح عن الشأو العالي الذي وصل إليه النقد الأدبي في الثقافة العربية الحدثية وعياً بالنقد، وبنظريته، وبآخر تجلياتها الراهنة. إنه الناقد الذي لا يعرب أو ينقل النظرية ولعاً أو انبهاراً من بعيد، في التوقيت أو المكان، بل ينقدها عن معرفة دقيقة بالنظر إلى حاجة النقد والناقد العربي إليها، وبالنظر إلى قيمتها في مسيرة النقد وتطوره في زمنه، أي أن جابر عصفور يلتفت عن أوهام التابع والمتبوع ليقوم بخلخلة المركزية الأوروبية التقليدية، وما تفضي إليه في خطاب العولمة، ويعري ما سماه «مخايلاتها الأيديولوجية»(48)، فيصير كتابه إلى «ارتفاع درجة الوعي الذاتي لممارسة النقد الأدبي في العالم الثالث الذي ننتمي إليه في موازاة غيرها من ممارسات النقد الأدبي، انطلاقاً من توتر العقل المحدث للطليعة المثقفة في هذا العالم، ووعياً بمشكلاتها النوعية التي تضع عقلها في مواجهة مشكلات التخلف والتقدم معاً، وفي مواجهة أسئلة الماضي الذي لا يزال يغلب على الثقافات التقليدية السائدة، وأسئلة المستقبل الذي يخايل باحتمالاته وممكناته»(49).
حدد جابر عصفور دوافع تأليفه لكتابه إلى أمر جوهري هو التحرير من أوهام الإتباع أو التبعية بالحضور الفاعل للنقد الشارح ونقد النقد ووعي النظرية في الوقت، لا من حيث هي معارف جديدة أو مجالات عصرية، وإنما من حيث هو أدوات ومجالات للمساءلة التي تسهم في تحرير الممارسة النقدية من سجن الضرورة، وقيود التقليد، وواحدية المركز، وضيق أفق الرؤى السائدة.
لقد قام عصفور بممارسة فعل المراجعة الذي لا تفارقه المساءلة بغية «الانتقال بهذا الواقع من ذهنية الإتباع إلى ذهنية الابتداع، فإن هذا العقل لا يكف عن تأكيد صفته المدنية بوصفه عقلاً يواجه كل أنواع الأصولية، ويضع نفسه موضع المناقضة للنظريات التي تغترب بالنقد عن واقعه، أو تغترب بالواقع عن وعيه النقدي»(50).
تحكم كتاب عصفور وحدة معرفية على الرغم من كتابته على مدار عشرين عاماً، فقد نشر أول فصوله «نظرية التعبير» عام 1977، و«البنيوية التوليدية» عام 1981، «البنيوية والشعرية» عام 1995، و«وعي النظرية» عام 1996، وظهرت عزيمة عصفور على تثمير وعيه النقدي في أثناء زيارته الأولى الطويلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1977، أستاذاً زائراً لتدريس الأدب العربي في قسم اللغات الأفريقية وآدابها في جامعة وسكنس ماديسون، إذ أتيح له أن يعاين «التجاوب الملحوظ في مدى هذا التطلع بين الدراسات الأفروأمريكية وغيرها من دراسات الأقطار الخارجة من ليل الاستعمار الطويل. وهي دراسات كان لها حضورها البارز في جامعة وسكنس التي أسهمت أكاديمياً، في تشكل خطاب ما بعد الاستعمار، وأبرزت بواكير ما جسده من قلق البحث عن أفق نوعي مختلف، أفق يسعى إلى تسليط الضوء على الخصوصيات الثقافية للخصوصيات الثقافية للهويات القومية في مناخ حمل دعاوى التعددية الثقافية والتحرر السياسي»(51).
يتميز شغل جابر عصفور في ثلاث مسائل، الأولى معرفته المنهجية لتطور النظريات النقدية المعاصرة التي تشكل مبعث الاتجاهات الجديدة برمته، والثانية حساسيته النقدية المرهفة لمآل هذه النظريات ومحاججته الصارمة لشروطها ولتحولاتها، والثالثة القيمة الهائلة لمقالات وعي النظرية في معنى وعي الذات. ولعلي أشير إلى مثالين لشغله، الأول مناقشته لمصير الشعرية من خلال تحولات علمها الأبرز تودوروف، من حلمه في الستينيات بتأسيس أجرومية عامة للأدب، إلى ذوبان الأدبي الخالص في التاريخ والثقافية في كتبه «غزو أمريكا» (1982) و«التنوع الإنساني» (1989)، و«أخلاق التاريخ» (1991)، فكتب:
«ولكن علينا أن لا ننسى أن انتهاء الشعرية الاسم كان يعني بقاء الشعرية الصفة، فعندما تراجعت الأولى الدالة على العلم الأدبي الثابت، تقدمت الثانية الدالة على مبادئ الصنع المتغير، وغدت قرنية التعديد والتنوع والمغايرة حسب المجال الذي يمكن أن يتصف بها، وحيث الفعل الإنساني الذي يواجه ما يظل في حاجة إلى الكشف، بحثاً عن أسرار الصنعة التي لا تنفصل عن الفاعل الذي ينتج خطابها أو المتلقي الذي يستقبل هذا الخطاب»(52).
أما ذروة تنامي نقد النظرية، فيبدو جلياً في فصول وعي النظرية، دلالة مشرقة على حضور الناقد العربي في ميدان هو علامة من علامات الحداثة في عصرنا الراهن، خلل هذه الدرجة العالية من الوعي بالأخر، والوعي بالذات.
10- البحث عن نظرية نقدية عربية:
بلغت حساسية النقاد والباحثين العرب أشدها في مطالبتهم بنظرية نقدية عربية، مباشرة، أو في سياق معاناتهم لمشكلات النقد الأدبي العربي الحديث إزاء الاتجاهات الجديدة بخاصة، والمناهج الحديثة بعامة. وظهرت أول صياغة لهذه المطالبة في مقالة حسام الخطيب (فلسطين) الرائدة «مقترحات مبدئية باتجاه نظرية عربية في الأدب» (الموقف الأدبي 1981). وقد اعتذر الخطيب، بادئ ذي بدء، عن أي نوع من التضخيم أو الادعاء في العنوان، فالقضية قائمة، والسعي إليها منشود، وهي تعبير عن حاجة نقدية عامة. وقد عالجها من خلال مصطلحي نظرية الأدب ونظرية النقد أولاً، ومن خلال ضرورتهما في الحياة الأدبية والنقدية العربية الراهنة والمستقبلية، ومن خلال مكوناتها التي وجدها توجز فيما يلي:
1- الانطلاق من الواقع الأدبي المعاصر.
2- الانطلاق من موقف تراثي محدد.
3- الانطلاق من المناخ الأدبي العالمي المعاصر.
ودعا إلى إخراج تركيب كيماوي كاشف منها، فثمة علاقة دائمة الحركة ودائمة الصيرورة في هذا المثلث، و«إذا يمكن للمرء أن يتصور نظرية الأدب على شكل مثلث تتفاعل أضلاعه الثلاثة في جدلية دائمة تضمن لكل عنصر أن يوازن العنصر الآخر، ويتداخل معه، ويؤثر فيه. فالموقف من التراث مثلاً يتحدد بفعل تصادمه وتوازنه مع العنصرين الآخرين: الساحة الأدبية الفعلية والمؤثرات الأجنبية، والموقف من المؤثرات يتحدد بفعل العاملين الآخرين، وهكذا دواليك. فهناك إذن حركة ديالكتيكية تصادمية توالدية تتداخل عناصرها المثلثة، وتتفاعل، لتخرج تركيباً جديداً حياً ديناميكياً قادراً على توظيف العناصر الثلاثة في نزوع مستمر إلى الخلق والإبداع والتجدد»(53).
إن حسام الخطيب لم يخرج في مقترحاته عن ذلك النزوع المتأصل لدى غالبية النقاد العرب في رؤية هذه القضية في طرفين متجاذبين متصارعين هما التقليد النقدي العربي في فهم الأدب والنقد، والمؤثرات الأجنبية الداهمة. وفي ساحتهما تثار المشكلات الكثيرة المؤرقة: التفكير بالمنهج، بالمصطلح، بالاتجاهات الجديدة، بالعناصر الذاتية وتطويرها، بصوغ تقاليد أدبية ونقدية. وتكشف شهادات النقاد العربية، إجابة على أسئلة جهاد فاضل (لبنان) في كتابه «أسئلة النقد» (1994) عن هذا كله، أمثال أحمد هيكل (مصر)، وبشير القمري (المغرب)، وجابرعصفور (مصر) وجورج طرابيشي (سورية)، وخليفة التليسي (ليبيا) وسعيد يقطين (المغرب)، وتوفيق بكار (تونس).. وغيرهم.
فقد عني أحمد اليابوري (المغرب)، على سبيل المثال، إلى وحدة الفكر النقدي العربي:
«إذن ليس لدينا بديل سوى المعرفة، وليس لنا حل إلا تجاوز الإقليمية، ومصيرنا الحقيقي هو في وعينا بأن الأمة العربية لها رصيد حضاري هام جداً. وهذا الرصيد رصيد فكري موحد، رصيد لغوي موحد، تاريخ موحد، مصالح آنية ومستقبلية. يجب أن يتوحد العرب، لأن العالم أصبح يعيش الآن عصر تكتلات لا على مستوى الشعارات والخطاب، ولكن على مستوى ضبط المصالح وتحديد الأهداف، ورسم استراتيجية في الميدان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي والعسكري. العلم والثقافة والوحدة، هذه هي الركائز التي يمكن أن يقوم عليها العالم العربي. وإلا ففي النهاية سنكتشف بعد فوات الأوان أننا ما زلنا في نقطة البداية ندور حول أنفسنا، بينما العالم يتقدم»(54).
وعلى الرغم من النبرة السياسية الشعارية التي تلفع حديث اليابوري، فإنها تؤكد هذا السعي المشترك بين النقاد العرب، فهذا هو جابر عصفور (مصر) ينادي بتأسيس منهجية عربية:
«نحن نفتقر إلى هذه المنهجية أصلاً، ونحن نفتقر إلى الصيغة التي تجعل من النقد علماً. فلنؤسس أولاً هذه الصيغة، ولنعمل على أن يسلم الجميع أولاً بضرورة أن يكون النقد علماً بالمعنى الموجود في العلوم الإنسانية، ثم بعد ذلك تختلف في المنهج الذي أتحمس له أنا والذي تتحمس له أنت»(55).
إن هذا الوكد المعرفي والنقدي في البحث عن نظرية نقدية عربية هو الذي يفسر اشتغال النقاد والباحثين العرب على تراثهم النقدي في هذه الفترة، واكتفي بالإشارة إلى عنوانات هذا الاشتغال، فقد كان المجلدان اللذان أصدرتهما مجلة فصول عن «تراثنا النقدي» (1986) التعامل المنهجي الأولي الواسع لهذه القضية، إذ جرى تناول الموضوعات التالية: روافد النقد الأدبي عند العرب، اللفظ والمعنى في البيان العربي، الإطار الشعري وفلسفته في النقد العربي القديم، مفهوم العلامة في التراث، الشعر وصفة الشعر في التراث، طبيعة الشعر عند حازم القرطاجني، قراءة محدثة في ناقد قديم (ابن المعتز)، النقد اللغوي في التراث العربي، عن الصيغة الإنسانية للدلالة، دراما المجاز.. الخ.
ثم أصدرت «الموقف الأدبي» (دمشق) عدداً مزدوجاً عن «تراثنا النقدي» (1986)، تناول موضوعات أخرى: البنيوية والنقد العربي القديم، آراء قديمة حديثة في لغة الشعر، مصطلحات النقد التطبيقي في الشعر الحديث، النقد والنظرة الشمولية في شرح الواحدي، دراسة صوتية لنظام المعجم العربي، نظرية أبي تمام في النقد الشعري، مفاهيم النقد العربي الحديث بين التقليديين العربي والغربي، النقد اللغوي القديم واستمراره في النقد اللغوي في سورية، اللسانية ومنهج التفكير عند العرب..الخ.
ثم أصدر النادي الأدبي الثقافي بجدة، وقائع ندوته العربية الكبرى «قراءة جديدة لتراثنا النقدي» (1990) في مجلدين كبيرين، وضم المجلدان الموضوعات التالية: قراءة التراث النقدي: مقدمات منهجية، أبحاث في المصطلح النقدي، أبحاث عن دور البلاغة في التراث النقدي، أبحاث عن التراث النقدي بين الماضي والحاضر، أبحاث عن التمايز بين الشعر والنثر، أبحاث عن قضايا محورية في التراث النقدي، أبحاث عن مشكلات في الدلالة والأسلوبية. وقد بين عبد الفتاح أبو مدين، مدير النادي، في تقديمه للمجلدين، أن هذا الهاجس النقدي، سيكون مشروعاً طويلاً لوعي تراثنا النقدي(56).
لعل هذه الإشارة إلى جانب واحد من هذا البحث الذي يراه الناقد العربي طويلاً تفصح عن مدى اعتماله بوعي الذات في النظرية الأدبية والنقدية.
الهوامش والإحالات:
1. وهبه، مجدي: «معجم مصطلحات الأدب» ـ مكتبة لبنان ـ بيروت 1974.
2. انظر الثبت الذي وضعته لمصطلحات القصة العربية ملحقاً في ذيل كتابي «القصة العربية الحديثة والغرب» ـ منشورات اتحد الكتاب العرب ـ دمشق 1994 ـ ص ص 264-275.
3. عيد، كمال: «فلسفة الأدب والفن» ـ الدار العربية للكتاب ـ ليبيا ـ تونس 1978 ـ ص ص 7-8.
4. عبد النور، جبور: «المعجم الأدبي» دار العلم للملايين ـ بيروت 1979 دون ذكر رقم الصفحة، لأن المعجم يضع الرقم الأول صفحة فعلية من المعجم، ويترك صفحات المقدمة دون ترقيم.
5. علوش، سعيد: «معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: عرض وتقديم وترجمة» دار الكتاب اللبناني ـ بيروت وسوشبريس ـ الدار البيضاء 1985 ـ ص9.
6. علوش، سعيد: «المصطلحات الأدبية المعاصرة: عرض وتقديم وترجمة» منشورات المكتبة الجامعية ـ الدار البيضاء ـ 1984.
7. المسدي، عبد السلام: «قاموس اللسانيات ـ مع مقدمة في علم المصطلح» ـ الدار العربية للكتاب ـ ليبيا ـ تونس 1984 ـ ص72.
8. راغب، نبيل: «موسوعة الفكر الأدبي» (جزءان) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988 ـ ص ص 4-5.
9. من المفيد أن نشير إلى جهدين آخرين في تراكم المعرفة النقدية حول المصطلح؛ الأول هو «موسوعة المصطلح النقدي» التي ترجمها عبد الواحد لؤلؤة (العراق)، وصدر منها ثلاثة مجلدات في أعوام 1983-1984 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت. والثاني هو إصدار مجلة «علامات» (جدة) عدداً خاصاً عن «المصطلح: قضاياه وإشكالاته» (يونيه 1993).
10. اليافي، نعيم: «الشعر بين الفنون الجميلة» سلسلة «المكتبة الثقافية» ـ دار الكاتب العربي ـ القاهرة ـ 1968 ـ ص ص 93-94.
11. إسماعيل، عز الدين: «أما قبل» في مجلة «فصول» (القاهرة) ـ المجلد الخامس ـ العدد الثاني ـ يناير ـ فبراير ـ مارس 1985 ـ ص4.
12. المصدر نفسه ص4.
13. كنت نشرت دراسة معمقة عن كتابة رفيق شرف السردية في «الحياة التشكيلية» (دمشق) عام 1982.
14. ميزر، جيفري: «اللوحة والرواية» (ترجمة مي مظفر) ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1987 ـ ص7.
15. اوكونور، فرانك: «الصوت المنفرد: مقالات في القصة القصيرة» (ترجمة محمود الربيعي) ـ وزارة الثقافة ـ سلسلة المكتبة العربية ـ القاهرة 1969ـ ص179.
16. المصدر نفسه ص22.
17. كرمود، فرانك: «الإحساس بالنهاية: دراسات في نظرية القصة» (ترجمة عناد غزوان) ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1979 ـ ص40.
18. عباس، إحسان: «القصة العربية: أجيال وآفاق» ـ كتاب العربي ـ الكويت 1989 ـ ص9.
19. شولز، روبرت: «عناصر القصة» (ترجمة محمود منقذ الهاشمي) ـ دار طلاس ـ دمشق 1988 ـ ص9.
20. ثورنللي، ولسون: «كتابة القصة القصيرة» (ترجمة مانع حماد الجهني) ـ النادي الثقافي الأدبي بجدة ـ جدة 1992 ـ ص8.
21. المصدر نفسه ـ ص ص 11-12.
22. برنت، هالي: «كتابة القصة القصيرة» (ترجمة أحمد عمر شاهين) ـ دار الهلال ـ كتاب الهلال ـ القاهرة ـ 1996 ـ ص6.
23. المصدر نفسه ص7.
24. وارن، اوستن (ورينيه ويلك): «نظرية الأدب» (ترجمة محي الدين صبحي ومراجعة حسام الخطيب) ـ المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ـ دمشق 1972 ـ ص11.
25. المصدر نفسه ص4.
26. جفرسن، آن (وديفيد روبي): «النظرية الأدبية الحديثة: تقييم مقارن» (ترجمة سمير مسعود) ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق 1992 ـ ص5.
27. المصدر نفسه ص17.
28. المصدر نفسه ص27.
29. ايغلتون، تيري: «نظرية الأدب» (ترجمة ثائر ديب) منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق 1995 ـ ص8.
30. سلدن، رامان: «النظرية الأدبية المعاصرة» (ترجمة سعيد الغانمي) ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1996 ـ ص5.
31. المصدر نفسه ـ ص6.
32. المصدر نفسه ـ ص12.
33. فراي، نورثروب: «نظرية الأساطير في النقد الأدبي» (ترجمة حنا عبود) دار المعارف بحمص - حمص 1987 - ص8.
34. عبود، حنا: «النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري» - اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1999 - ص ص8-9.
35. عبود، حنا: «فصول في علم الاقتصاد الأدبي» اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1997 - ص13.
36. العمري، محمد: «في نظرية الأدب: مقالات ودراسات» ـ كتاب الرياض ـ مؤسسة اليمامة الصحفية ـ الرياض ـ ص12.
37. سمعان، أنجيل بطرس: «نظرية الرواية في الأدب الإنجليزي» ـ دار الكاتب العربي ـ القاهرة ـ ص3.
38. المصدر نفسه ـ ص5.
39. المصدر نفسه ـ ص ص 6-7.
40. المصدر نفسه ـ ص67.
41. هالبراين، جون: «نظرية الرواية» (ترجمة محي الدين صبحي) ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق 1981 ـ ص29.
42. زيولكوفسكي، تيودور: «أبعاد الرواية الحديثة: نصوص ألمانية وقرائن أوروبية» (ترجمة إحسان عباس وبكر عباس) ـ المؤسسة العربية للدراسات ـ بيروت 1994 ـ ص7.
43. ماضي، شكري عزيز: «في نظرية الأدب» ـ دار الحداثة ـ بيروت 1986 ـ ص5.
44. صمود، حمادي: «في نظرية الأدب عند العرب» ـ منشورات النادي الثقافي الأدبي بجدة ـ جدة 1990 ـ ص8.
45. المصدر نفسه ـ ص7.
46. الخطيب، محمد كامل: «نظرية الرواية» ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق 1990 ـ ص6.
47. المصدر نفسه ـ ص ص7-8.
48. عصفور، جابر: «نظريات معاصرة» ـ مكتبة الأسرة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1997 ـ ص12.
49. المصدر نفسه ـ ص ص15-16.
50. المصدر نفسه ـ ص20.
51. المصدر نفسه ـ ص193.
52. المصدر نفسه ـ ص264.
53. الخطيب، حسام: «مقترحات مبدئية باتجاه نظرية عربية في الأدب» في مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق) 1981 ـ ص26.
54. فاضل، جهاد: «أسئلة النقد» ـ الدار العربية للكتاب ـ ليبيا ـ تونس 1994 ـ ص11.
55. المصدر نفسه ـ ص67.
56. عدة مؤلفين: «قراءة جديدة لتراثنا النقدي» (مجلدان) ـ منشورات النادي الثقافي الأدبي بجدة ـ جدة 1990 ـ ص8.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق