الاغتراب والحلم في أدب أحمد إبراهيم الفقيه القصصي
د . شعبان عبد الحكيم محمد
الفصل الأول
الاغتراب وانتظار الزمن الذى لا يأتى فى الثلاثية :
1-الإبحار فى ذاكرة الماضى
2-الحلم بمدينة مثالية
3-الحلم بقصة حب
1-الإبحار فى ذاكرة الماضىالاغتراب حالة نفسية ووجدانية ناتجة من اتخاذ صاحبها موقفا من الحياة والواقع لشعوره بعدم الانسجام معه ولذا يشعر بغربته وبعده عن مجتمعه وإذا كان المعنى للاغتراب النوى والبعد والتغريب الفنى عن البلد وغرب أى بعد ويقال اغرب عنى أى تباعد (1) .
غير أن هذا المعنى اللغوى لا يتعارض مع المعنى الاصطلاحى فالبعد المكانى كثيرا ما يكون مسببا للغربة الروحية التى يشعر فيها صاحبها بانفصام عرى المودة والألفة مع مجتمعة مما يؤدى بدوره إلى عدم الانسجام والتوافق مع الواقع والحياة وقد ورد فى المعاجم العربية ما يقرب من المفهوم الاصطلاحى للاغتراب فيذكر ابن منظور قول الرسول (ص) بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ويشرح معناه بقولة : أى أنه كان فى أول امرأة كالغريب الوحيد الذى لا أهل عنده لقلة المسلمين يومئذ وسيعود غريبا كما كان أى يقل المسلون فى آخر الزمان فيصيرون كالغرباء(2).
وما غربة المسلمين فى بداية الاسلام وفى اخر الزمان إلا لشعورهم ببعدهم عن مجتمعه لاعتناق الاغلبية مبادئ وقيم مختلفة عن مبادئ الاسلام ولذا يشعر المسلمون بهذا البون الشاسع مما يوطن شعورهم بالغربة عن مجتمعه وعدم التوافق والانسجام معه .
وقد ظهر مصطلح الاغتراب أول ما ظهر مرتبطا بالسياسة وناتجا طبيعيا من فساد الواقع السياسى وكان جان جاك روسو أو من استخدام تعبير الاغتراب فى ثقافة الغرب فقد رأى فى تولى بعض النواب تمثيل الشعب أكذوبة كبرى لان هذا الشعب لا يمارس من سيادته بنفسه(3) بيد أن هذا المصطلح لم يكن غريبا على المفكرين العرب القدامى فورد عن أبى حيان التوحيدى قولة أغرب الغرباء من صار غريبا فى وطنه ونجد قريبا من هذا التصور فى فكر ابن ماجه(4).
وقد تضافرت مجموعة من العوامل فيما بنها أدت إلى ترسيخ هذا الشعور (الاغتراب) وفى النفوس فى عصرنا الحديد منها العامل السياسى الذى تجلى فى شعور الفرد العادى ببعده عن السلطة وتهميش دوره فى تشكيل الواقع السياسى والعامل الاقتصادى فقد ادى ظهور الطبقات الرأسمالية وضياع الفرد الذى لا يملك مما ادى إلى افتقاد الانتماء وسيطرة النزعة المادية فى التعامل مما أدى إلى تغير القيم وموت الضمائر اضافة إلى عامل ثالث هو التقدم العملى الذى أذهل الناس وجعلهم يعيشون فى رعب لانتظار مصائرهم فى اى لحظة عندما يقرر أحد الحمقى الذين يمتلكون القوى المدمرة قتل الآلاف والملايين من البشر ومن صور التقدم العلمى الذى أثر فى ترسيخ الاغتراب فى النفوس تحكم الآلة فى إنتاج وافتقاد الشعور الوجدانى فى أداء العمل اضافة إلى المنجزات العلمية التى صنعت لاراحة الناس ولكنها وفى الوقت نفسه أفقدت الإنسان الجانب الروحى وقربه من طبيعته وفطرته السليمة.
وقد فرق هيجل بين نوعين من الاغتراب اغتراب ايجابى واغتراب سلبى الأول من شأنه أن يدفع صاحبه إلى ان يخرج من غيرته إلى استدماجه بالآخرين وذلك من خلال وعى الإنسان بذاته وهذا ( الاغتراب) يمكن أن يؤدى إلى التمازج والانسجام بعد ذلك بخلاف الثانى الذى يجعل صاحبه يتقوقع داخل ذاته فتسوء حالته النفسية ويصبح مريضا نفسيا (5).
وقد صور الأدب العالمى وكذلك العربى هذا الملمح ولعل من أبرز الأدباء العالميين الذين برز فى انتاجهم هذا الملمح كافكا فى روايته وت.س اليوت فى قصيدته الأرض الخراب (6) وقد جورج لوكاش فى الرواية الشكل الأدبى الرئيس فى تجسيد اغتراب الإنسان سواء فى وطنه أو خارج وطنه لما تمتلكه من شكل ملحمى يعكس لنا التعارض النهائى الإنسان والعالم وبين الفرد والمجتمع وهذا التعارض بدوره يشكل ملمح الاغتراب (7) .
الاغتراب عند الفقيه اغتراب سلبى فشخصيات الكاتب شخصيات مهزومة لا تستطيع مواجهة الواقع لذا تهرب منه متأزمة وقد يخلف هذا الهروب أزمة نفسية رهيبة كما حدث لخليل الامام فى الثلاثية وإن برر الفقيه ذلك بأنه لا يستطيع أن يصنع قد ابطاله كما يريد(8) ونحن لا ندين الكاتب أكثر من رصدنا لظاهرة فنية فى أدبه وربما يكون هذه التبرير مراعاة للصدق الفنى فلا يقحم (الكاتب) نفسه فى تغيير مجرى الأحداث كما يشاء ولا تقتصر الشخصيات المهزومة على قصص الكاتب التى تجسد ملمحى الاغتراب والحلم بل نجدها ظاهرة تستقطب كل قصص الكاتب وروايته فمحمود فى قصة (هموم صغيرة) لا يستطيع أن يواجه والدة الذى خطب له وبغير علمه ابنه عمه (عيشة) من والدها (أخوه سليمان) بفتاة أخرى (ابنه الساكن الجديد فى شارعهم) فالحب لم يستطع أن يعضد من شكيمة محمود وقوة إرادته للمواجهة ثم الاصرار على حبه والزواج ممن يحب(9).
ومصطفى (العيد) فى رواية حقول الرماد يهرب من القرية إلى المدينة تاركا محبوبته (جميلة) التى لا تؤهله إمكانات المادية الارتباط بها ليضيع مغتربا فى المدينة بين الشرب والوقوع فى الخطيئة رغم أن الحب يفعل المستحيل يترك جميلة لمواجهة قدرها لوحدها ضعيفة أمام سلطة الأب الذى يرغب فى تزويجها من المتصرف لاهدافه الخاصة فى مجد مادى مهيض
وخليل الامام بطل الثلاثية يفتقد الانسجام مع الواقع لتردى القيم وتغير الزمان فيشعر أنه يعيش فى زمن غير زمانه يترقب مجيء الزمن الذى لا ياتى زمن يسود فيه الصفاء والنقاء الحب والرخاء ويظل خليل الامام متأزما فى حالة مرضية هاربه من واقعة حتى نهاية الثلاثية وفى النهاية يعترف بسقوطه وفشله فى زمن الرذيلة والوصوليين زمن الخلاعة والساقطين وقد اتخذ هروب خليل الامام من واقعه وانتظاره الزمن الذى لا يأتى فى الثلاثية ثلاث صور هى :
1-الإبحار فى ذاكرة الماضى فى رواية (سأهبك مدينة أخري).
2-الرحيل فى حلم طويل إلى مدينة مثالية فى رواية (هذه تخوم مملكتي).
3-الحلم بقصة حب تغسل أدران النفس فى رواية (نفق تضيئه امرأة واحدة) .
تبدأ رواية (سأهبك مدينة أخرى) وقد وصلت نفسية خليل الأمام قمة تأزمها وانسلاخها عن المجتمع برفضه الحياة فى هذا الزمن فقد عاش حياته فترتين زمن مضى مازالت ذاكرها ندية عطرة حيث المشاعر النضرة والإقبال على الحياة وتأجج العاطفة وزمن حاضر أو رثة السقم والمرض ولذا ينتظر زمنا أخر لا يأتى أو لنقل حياة جميلة فيها النضارة والاشراف والصفاء والحب هذا الزمن عله ينشله من الرمضاء التى يحترق فيها لانه يعيش مغتربا وحيدا فى صحراء قاحلة تأكله الشمس تسيطر عليه الكوابيس والهواجس المزعجة يصف (الفقيه) حالته (خليل) النفسية فى الزمن الذى يعيشه على لسان خليل الامام والرواية تروى بضمير المتكلم مفازة من الرمال الحمراء تحرقها شمس تقف دون حراك وسط سماء لها لون الرصاص أتمدد نائما فى سريرى أنا أسير عبر الأرض المحروقة تأتيها عن الظل والماء ينبثق فوق رأسى طائر يخفق بجناحيه الأسودين أركض لاهثا كى أحتمى بظله ألا حق ظله الهارب يواصل الطائر حركته الدائرة حول عين الشمس أتقلب فى سريرى يأكل الطائر قرص الشمس ويطوى الأرض تحت جناحيه وأسقط فوق الصحراء ميتا (10) لقد بلغ به المرض مرحلة الهلوسة وتصور الأوهام شرقا وغربا فيتصدع الإمام خوفا ويسقط ميتا على سريره وتتقطع كل أواصر الصلة بينه وبين الواقع الذى كان سببا لأمراض الروح وسقم النفس وربما يكون هذا الطائر رمزا لقوى المجتمع وقيمة الجديدة التى تسحق من يقف نفى مواجهتها حتى ولو لم تكن المواجهة مباشرة لترداد أزمته النفسية تأزما وكما يقول "لن تنتهى إلا عندما اهتدى إلى منبع الماء المدفون تحت الرمال (11) وأصبحت جملة (كأنك لا تعيش معنا) أسطوانة كثيرا ما ترددها الزوجة ومن يعيش معه لأنه يعيش معهم بجسده فقط ولم تعد حياته إلا انتظارا لزمن لا يأتى " أصبحت أكره أن اعيش معهم وأرى أن حياتى إلا انتظارا لزمن يرفض المجيء فأهرب إلى الزمن الذى مضى أبحث عن فسحة شهيق وزفير (12) هذه هى حالة خليل الإمام بطل الثلاثية الذى تروى الأحداث على لسانه انفصل عن الواقع فأخذ يتغيب عن عمله (محاضر فى الجامعة) ولم يعتن بإعداد دروسه فى تدريس مادة اللغة الإنجليزية لأنه يرى أن هذا العمل " عمل زائد عن الحاجة لا نفع منه ولا ضرر له وما هذه اللغة الأجنبية التى أول تدريسها إلا لغة إضافية لا جدوى منها ولا حاجة لأحد بها(13).
هذه الرؤية العبثية التى تشك فى جدوى كل شئ فى الحياة مهما كانت قيمته فتدريس لغة أجنبية بها نطلع على أدب وفكر أصحابها بها ننمى ثقافتنا ونعيش الحاضر واصبحت عنده لا جدوى لهل.
تبدأ الرواية من نهايتها بعد حصوله على الدكتوراه وعمله بالجامعة وزواجه برغبة أسرته واستقامته فى الحياة أخذ حصته من ميراث أبيه وقايض به بشقة فى الدور الرابع بالقرب من الجامعة كل هذه تمائم وتعويذات للتآلف والانسجام مع الواقع ولكنه كان انسجاما ظاهريا فى " بدا كل شيء يتقوض وينهار عدما صرت أسمع طرقا على باب البيت أثناء الليل أقوم مفزوعا من نومى أسال من وراء الباب فلا اسمع ردا وأفتحه فلا اجد أحدا (14) اضطراب خليل الأمام يصور لما عدم التوافق والانسجام وهذه الحالة من الاضطراب يطلق عليها علماء النفس اضطراب الإدراك imperceptiion الذى " يعتبر أحد أعراض الاضطرابات أو الأمراض النفسية وينجم عنها كإدراك أشياء لا وجود لها فى الواقع الفعلى مثل الهلاوس ففى حالة الهلوسة يحس الفرد أحاسيس ليس لها تنبيهات خارجية حقيقة كأن يحس المرض بأن شخصا يناديه أو يحدثه وهو فى هذه الحالة يراه ويسمع صوته ويتلقى عنه ويرد عليه ويكون المريض فى مثل هذه الحالات مصدقا لكل ما يحس به(15) أراد (خليل الامام) ان يهرب من هذه الكوابيس التى تكتم أنفاسه وتؤرق حياه فاستعاض عن الزمن الذى لا يريد أن يأتى بالزمن الماضى حيث رحلته إلى اسكتلندا للحصول على درجة الدكتوراه فى الآداب من جامعة أدنبرة وهنا يستحضر أحداث الماضى فى هذه الرحلة المثيرة والجميلة والمؤسية والتى ينطبق كثير من الأحداث فيها مع حياة الفقيه الشخصية فقد سافر إلى ادنبره وحصل على درجة الدكتوراه فى الأدب الحديث وكان ابوه يأمل أن يراه رجلا ذا شأن كجده الفقيه وبالفعل نجد فى الرواية قريبا من هذه الأحداث ففى زيارته لقبر ابيه يغفو على القبر فيحلم بغضبه عليه ولكن عندما يظهر له شهادة يقرأ اسمه فيها يهدأ غضبه ويشعر بالارتياح الخ من الأحداث.
لقد املى هذا التشابه على بعضهم اضافة إلى رواية الأحداث على لسان خليل الامام إلى وصف هذه الرواية بسير ذاتية أكثر من كونها رواية موضوعية وأن ادخل الامام هو أحمد الفقيه وقد رد على هذا الاتهام أحمد الفقيه بالنفس ولكنه قال " كل قصة كتبتها فيها شئ من نفسى دون أن تكون فصلا من حياتى (16) فالكاتب لا يعيش فى عالم برزخى وشخصياته ليسوا مقطر على الصلة عن الواقع وفى الوقت نفسه ليس الفن استنساخا للواقع أو صورة كربونية له فشخصيات الكاتب لها جذور فى الواقع وإن نفخ فيها الفنان من روح الفن لذا نرى ان شخصية الامام بها كثير من الفقيه ولكن ليست هى هى إنها شخصية فنية تحمل كثيرا من صفات الواقع وفى هذا يقول إنريكى أنرسون امبرت " علينا ألا نبالغ فى وضع الفروق بين الشخصية المتخيلة والشخص العادى فالكاتب هو شخص فعلى من عالم الواقع يقوم بإبداع شخصياته على رسمه هو إنه يراقب نفسه ويراقب الجيران ويجمع هذه الملاحظات ثم يتصور شخصيته مثله ومثل جيرته وأيا كانت درجة الخيال عند المؤلف فلا يمكن التخلى عن طبيعته الانسانية (17).
إننا نلمح الأديب وراء عمله الفنى ونشرع بنبضه فى خفقان شخصياته ولكن من الخطأ الجزم بأحكام قاطعة كتطابق العمل مع حياته أو يتطابق شخصية من الشخصيات مع شخصية المؤلف وفى هذا يقول د. عبد الملك مرتاض " أى قارئ مستنير يدرك أن المؤلف متخف وراء السرد فهو حاضره بقوة فهو يشبه المخرج السينمائى فالساذج وحده هو الذى يتعامل شخصيات الشريط السينمائى دون التفكير فى المخرج الذى كان وراء كل حركة وصوت لكن الذى يفهم العمل السينمائى يرى المخرج من خلال الممثلين والممثلات أنه هم وهم هو إن الذهاب إلى القطع بذوبان المؤلف فى الشخصية الخيالية للرواية ليس حكما سليما بحيث يصدق على كل الأطوار السردية(18).
لقد حاول خليل الامام معالجة نفسه بنفسه تاركا الواقع الموبوء ليعيش فى عالم ذكرياته وأحلامه الجميلة عندما كان فى رحلته العلمية والترفيهية لاسكتلندا للحصول على الدكتوراه لتظهر بشائر ندية تثير قلبه المظلم عند تذكره لهذه الأيام يقول " تسطع فى قلب الظلام أضواء مدينة بعيدة أستعيد مع تراتيل الموج ذكرى تلك الأيام حلقة من حلقات زمن بهيج تفوض وانتهى أملأ صدرى من هواء البحر وأنا أحس بشيء من الارتياح لأننى منحت ذاكرتى مدينة أخرى تهرب اليها من قسوة المدن التى يطاردها (19) اغتراب الامام يضرب بجذوره فى أعماقه منذ عه سيحق فمنذ صباه قد نشأ مكبلا بتقاليد مجتمع أملى عليه عادات وتقاليد ملزمة تحد من الحرية والانطلاق وإذا كانت امرأته اعتادت على تكرار قول (كأنك لا تعيش معنا) فكثيرا ما يسمع فى اسكتلندا ممن يعاشرونه(ما هذا الذى تفعله ايها البدوي؟!) أو قول لارى (أحد المحاضرين) متهكما لماذا سمحت لوالديك بأن ينجباك هناك ؟! (20) هذه البيئة القاسية التى لا تحفل بالمشاعر والعواطف فتحجم علاقة الرجل بالمرأة بسياج غليظ شائك فلا تسمح لهما بالتلاقى إلا تحت مظلة مؤسسة الزواج الاجتماعية وربما يدفع هذا بأحد الطرفين على السقوط فى أول القاء مع الجنس الأخر ، وهذا ما حدث لخليل الامام الذى "يحمل ميراث مجتمع ظل لعصور طويلة يخبئ النساء داخل عباءة ثقيلة من التقاليد والقيم المستعارة من عصر الحريم والسلاطين باعتبارها مخلوقات هشه ضعيفة أعرف اننى سعيت إلى المرأة تلبية لاحتياج إنسانى متجاوزا أى موقف فكرى أو فلسفى أو أخلاقى منها احتياج انسانى تصبح معه المرأة شرطا أساسيا لتحقيق العافية النفسية والجسدية وكتميمة لطرد أمراض الوحدة والكآبة (21) فهذا البدوى يحمل تحت جلده نارا متاججة من الحرمان والجوع الحنسى والعاطفى لذا يقول " العلاقات السريعة لا تحقق شوقى للالتقاء بالمرأة التى تروى عطش القلب عن صديقة واحدة لا تستطيع أن تملأ فرغ هذه الصحراء التى تمتد بلا حدود تحت أضلعى (22) ويؤكد مرجع ذلك على التربية التى نشأ عليها حيث الكبت والحرمان والتداعى ظاهرياً بالالتزام الأخلاقى والتمسك بالقيم ولكن ما فى غور النفوس ثورة متأججة وشوق عارم لا يحد وعند لحظة المواجهة مع المرأة وتجاوز شعور الحياء يظهر خلاف ذلك فى سلوك منحرف يقول خليل الامام " أنقم على نفسى لأننى لم أستطع أن أتجاوز التربية التى أورثنتى تكوينا نفسيا لا يقوى على إنشاء العلاقات السوية وما إن جاءت ليندا حتى أذابت هذا الاحساس تحررت من ميراث الخوف الغزيزى وخرجت من اصداف نبع من الماء والضوء تغتسل فيه الروح عارية بمثل ما يغتسل الجسد(23).
لقد القى الاغتراب ظلاله على حياة خليل الامام فكريا وعاطفيا وسقوطا فى الرذيلة فأخذ يقيس حياته فى هذا المجتمع "بالحجر المتدحرج فوق هذه الحقول (24) فحياته تفتقد النفس الطويل لانه يصعب التصالح مع هذا المجتمع الذى يختلف عن مجتمعه وتربيته الفكرية والنفسية يقول " لم يكن سهلا أن أحقق توازنا مع هذه البيئة التى تتباين وأساليب الحياة فيها مع الأساليب التى تربيت عليها (25) وعندما تداهمه لحظات حرجة كان يقول أنه " لم يبق من الوقت إلا بمقدار ما انتهى من هذه الأوراق (26) يعيش فى خواء روحى وفكرى فاختار موضوع (العنف والجنس فى ألف ليلة وليلة أطروحة دكتوراه) وقد آثر هذا الاختيار على فكرة ومنهجه فى الحياة يقول " استحضرت عوالم ألف ليلة وليلة ونقلتها على دارى وتسكعت ما بين القرون الوسطى والعصر الحديث وبين مدن الشرق ومدن الغرب أبحث عن مساحة خالية أقف فيها واضع رايتى فوقها وأقول هذه تخوم دولتى فلا أجد سوى الخواء(27).
وأصبحت حياته عبثا لا قيمة لها وعبر عن ذلك فى قوله " أجد هذا الاحساس بالعبث ينسحب على بحثى ها هى البطاقات التى تمتلئ بالازواج الذين ينقمون من عشاق زوجاتهم بقطع أحاليل العشاق والنساء اللاتى يستدرجن المرأة ثم يقتلونها وغير ذلك من أحداث يختلط فيها العشق بالجنس بالعنف والموت (28) رغم أن استاذه قد أبان له الغرض البعيد من بحثه أن يكون هذا البحث إضاءة لعبقرية الخيال عند العرب وكشفا للحظة الحضارية التى ابدعت هذا النص (29) ورغم إدراكه ما يريده استاذه ومحاولته النفاذ من سطح الاثارة والتسلية إلى القضايا الجادة التى يريدها الاستاذ (30) ولكن لم نر ذلك ولم يوضحه لنا اللهم إلا اشارة استاذه بعلامة (صح) فى نهاية الرسالة وبعد إنجازها مما يدلل على رضاه على بحثه (31) وهنا تتساءل هل العبقرية الخيال عند العرب تتجلى فى العنف والجنس والوان الدعارة والمتعة الجنونية كما فعل الامام ؟! فألف ليلة وليلة بدأت بالقتل وانتهت بإدراك قيمة الحياة عندما تسمو العواطف وتتحرر من جنون الانتقام والقتل لقد استطاعت شهرزاد أن تكبح جماح شهريار فى الانتقام بسماعه اقاصيصها التى لا تنتهى عند كل ليلة الا وهناك شوق لتكمله الحكاية الليلة التى تليها لتتغلب العاطفة على الشهوة والجنون ويبقى شهريار على شهرزاد المحبوبة أم ابنائه ويتغلب الشوق إلى العلم والمعرفة على الخواء الروحى الذى كان يعيشه شهريار .
لقد حاول خليل الامام قتل السأم والعبث باشباع رغبته الجنسية والعاطفية من خلال علاقاته النسائية غير الشرعية التى هدفها اشباع رغبته وارضاء شهوته لذا لم يكن ارتباطه بالمرأة كما قال لا بدافع فكرى ولا فلسفى ولا اخلاقى انما ليروى عطشا يكون جسده ويحرقه من الداخل فتعددت علاقاته الجنسية مع نساء عدة لإشباع هذا الكتب الدفين ومحاولة للانسجام مع نفسه ومجتمعه وكانت أول امرأة يخوض معها هذه العلاقة ليندا التى يسكن فى غرفة بالدور الثانى بمنزلهم وربطته بالأسرة علاقة صداقة أملت عليهم تناول بعض الواجبات ومشاهدة التلفاز معا وقد وجد ضالته فى ليندا " أنوثتها عواطفها امرأة اللحظات الحميمة التى تجيد لغة القلب وتدخر فى جسمها فاكهة كل المواسم (32) وكان اللقاء بها فى مواعيد شبه منظمة فى غرفته بالدور الثانى ترتدى له قميصا مثيرا لغزائزه ومضمخا بالعطر الشرقى ككلمة السر التى تجمع بينهما سواء فى وجود زوجها (دونالد) أو عدم وجوده وكان دونالد يعانى من ضعف جنسى فتمتع بجسدها ومفاتنها الجمالية ليروى هذا العطش ويطفئ هذا اللهيب المتأجج مع تهيئة الجو المثير لهذه المتعة وترك فى بطنها جنينا ( غير شرعى ) أنجبته له (اسمه آدم) بعدما تركها زوجها ثم رفضت الزواج من خليل فى نهاية الرواية ثم علاقته بساندرا التى وجد فيها صفات لا تتوافر فى ليندا فهى " امرأة مصنوعة من جمر مواقد الفكر قادرة على اطلاق الشرارات التى تضيء الذاكرة والوجدان(33) لقد حقق معها ما يطفئ شوقه ولهيبه تحت أنغام الموسيقى والأغانى الجنسية فى لقاءات عدة اتبعها بعلاقات أخرى مع مادلين وبعض النساء من فرقة موسيقية جاءا لحضور مهرجان أدنبره للفنون الشعبية .
لقد عاش (خليل الإمام) فى خواء دفعه إلى التسكع ومضاجعة النساء والايمان بالغاية تبرر الوسيلة فيتأثر بكلام الدكتور لارى إنشاء حانة للشرب فى بلاده- بعد الرجوع – لولا أن قوانين البلاد التى ترفض مثل هذا (34) وعرفانه لجميل والديه يقابله بالجحود فيوم موت أبيه كان (مشغولا بالرقص والنبيذ والغناء والنساء(35)لقد نسى تعاليم الشيخ فى جامع الباشا وتعاليم الأب الذى كان يفرض على أولاده حضور صلاة الفجر نسى كل الشعائر فى لندن حتى شهر الصوم كان لا يتذكره إلا عندما يهاتفه أخوه من طرابلس ويكذب عليها بأنه يصوم وهو فاطر (36) شخصية بهذه الصورة افتقدت سويتها وهذا ما سنتحدث عنه بعد ذلك لقد سقط خليل الإمام وانتهت رحلته بالفشل رغم نجاحه العلمى بالحصول على الدكتوراه وترك أبنه أدم بعد محاولات متكررة مع ليندا للزواج منها ورفضت الزواج رغم طلاقها من دونالد لقد كانت مقنعة فى ردها وفى تماسك شخصيتها فغيرت مشاعرها اتجاهه عندما طلب منها الزواج قالت له : لا أستطيع سعادتك واعترف خليل الامام نفسه فى ذلك فى مقارنة نفسه بعدنان الذى ظهر قويا متخذا موقفا من الحياة والواقع ظل متمسكا باصوله الشرقية مع احترام فكر عادات المجتمع الذى يعيش فيه ما اعتراض أبيه ( الامام) على تصرفاته (خليل ) إلا اعتراف حقيقى بإدانة نفسه على سلوكياته المنحرفة فبعد علمه بموت أبيه رجع إلى طرابلس وعند زيارة قبر انتابته إغفاءة فحلم بابيه " يركب جوادا مصنوعا من السحب البيضاء يطارد به طيف امرأة تركض فى حقول السماء تصورتها ليندا صحت به كلا ليست هى الخزينة وإنما أنا المذنب (37) ورفع أبوه متوعدا بالضرب ولم ينجه من الضرب إلا إشهارة لشهادة مقرون اسمه باسمه وهنا انبسطت ملامحه(38)
تدور أحداث الرواية حول رحلة شرقى إلى الغرب وبديهى أن تعكس لنا (الرواية) فى أعماقها صورة لاحتكاك الشرق بالغرب وهذا الاحتكاك اتخذ الروايات العربية صورا متعددة فى الصراع لمحاولة اثبات الذات العربية وكشف طبيعة العلاقة بين الشرقى والغربى وتحديد الهوية وقد قسم الدكتور محمد نجيب مستويات هذا الصراع فى ثلاث المستوى الأول لم يستطيع الابطال تحديد الهوية ووقعوا فى عبثية وغربة واغتراب وكان الصراع داخليا مما ساعد على فشل مواجهتهم مثل أديب لطه حسين المستوى الثانى كانت الهوية غائمة عند البطل لكن المواجهة مع الاخر قد أوقفته على الحقيقة وتحديد الهوية ويعلن عنها بشكل غير فنى كما فى رواية فينيا 60 ليوسف إدريس الحى اللاتينى لسهيل إدريس والمستوى الثالث حيث وجدنا الأبطال يتمتعون بنضج وثقافة تمكنهم من تحديد الهوية كما فى رواية نيويورك 80 ليوسف ادريس وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح(39).
وإذا كان اغتراب خليل الامام أدى إلى ضياع هويته فلا يعنى ذلك تصنيف رؤية الفقيه فى اطار المستوى الأول فأديب طه حسين الذى يتفق وخليل الامام فى الهدف تحقيق شيئيين (العلم والمتعة الجنسية) ينبهر (أديب) بالحضارة الغربية لقد كان مدهشا لرجل صعيدى أن يرى أوربا مقارنة بالمجتمع المصرى فيعكف على الشراب ويترك شراب الماء ويسمه (شراب الحمار) ويجرى وراء فرننده خادمة الفندق والفتاة الين وينسى زوجته حميدة ويرفض العودة إلى مصر والنتيجة غرقه فى بحر الاغتراب وتوهمه أنه ألمانى يطارده الحلفاء حتى صار مريضا وما لبث أن تطور مرضه إلى جنون أو ما يشبه الجنون مقتنعا أن قلبه كالإناء العميق يستقر به الدنس لا يطهره مرور ماء البحر هذا ما أدى اليه الاغتراب الناجم عن التغير المفاجئ (40) بيد أن الإمام يحمل فى أعماقه لبنات المرض لان اصطدامه بالمتجمع الغربى هو المسبب لمرضه لقد أورثه مجتمع مهيض بقيم بالية أمراض النفس واسقام الروح وهنا يبدو التصدع فى شخصية خليل للصراع بين الماضى والحاضر ماضى ترك أثارا غائرة فى النفس وحاضر يحاول فيه خليل الامام الانسجام معه محاولا التملص من الشرك الذى يربطه بأدغال الماضى لقد تغلب الماضى عليه (أو قل تغلب إنسان الماضى على إنسان الحاضر ) يقول خليل الامام "هاربا من إنسان لا أعرف كيف أهرب منه لأنه يقيم فى دمى ويحتل جانبا مظلما من نفسى هذا الكائن المجبول من طين السنين العجاف ورماد أزمنة الجفاف والقحط وبقايا الجحيم المتفجر فى حقول الألغام وبكاء النساء النائحات فى مأتم الموت الفجائى هذا الذى يستيقظ بغتة وسط أدغال الروح ويفتك بالإنسان الاخر المصنوع من كتب الأدب وأساطير الليل والذى يبقى دائما ضعيفا وهشا لا يقوى على الوقوف مدافعا عن نفسه (41) لقد شكل الماضى الأليم علق المرض فى نفسه مع زملائه وكان يدفع لامرأة ثلاثين قرشا للمرة الواحدة وارتبط بامرأة جميلة تعود على معاشرتها وعرض عليها بعد ذلك ترك بين الدعارة للزواج بها ولكن اغلاق الحكومة لهذا البيت حال دون تحقيق مأربه فرجع بعد ذلك ليجد البيت مغلقا ولا أحد بداخله (42) تقاليد المجتمع التى تحول دون التقاء الجنسين إلا تحت مظلة اجتماعية التى تنظم مراسم الزواج مجتمع ظل لعصور طويلة يخبئ النساء داخل عباءة ثقيلة من التقاليد والقيم المستعارة من عصور الحريم والسلاطين باعتبارها مخلوقات هشه ضعيفة (43) لذا كان سعيه للمرأة لم يكن نابعا عن فلسفة معينة اللهم إلا لحاجة الجسم فى قضاء حاجته البيولوجية بدونها يكون المرض يقول "أعرف أننى سعيت إلى المرأة تلبية لاحتياج انسانى متجاوزا أى موقف فكرى أو فلسفى أو خلاقى منها احتياج انسانى معه المرأة شرطا أساسيا لتحقيق العافية النفسية والجسدية (44) .
رجوع خليل الامام فى النهاية له دلالته إنه يدل على وعيه وارتباطه بالجذور رغم أنه قد ترك فى هذا الوطن ابنه (أدم) فلذة كبده فى "العود إلى الوطن يدل على أن رغبته الانتماء أكبر من مغريات الأخر ويعنى عدم الرغبة الضمنية فى الطرف الأخر فالعودة تعنى وجود هوية لوطن يختلف عن الأخر اختلافا نوعيا وحضاريا (45) وهذا على خلاف أديب طه حسين .
على الرغم من العنف والجنس مملح فنى يستقطب الاعمال الروائية ومنها رواية الفقيه التى تجسد احتكاك الشرق بالغرب الا معالجة الكاتب هنا كانت طابع مميز عن بقية الروايات التى دارت فى هذا الشكل الحضارى فالفقيه كما فى الرواية يؤمن بأن علاقة الشرقى بالغربى علاقة تبعية لا علاقة الندية حتى ولو خفى هذا الشعور فى كثير من المواقف التى لم تصل إلى درجة الاصطدام المباشر وهذا ما حدث مع خليل وليندا فبعدما قضت حاجتها معه طاقة جنسية وعاطفية أرسلت لها فى موعد ومكان لا تكاد تحلم بهما زوجها (دونالد) يعانى من ضعف جنسى وخليل الامام بدوى فحل الرجولة يحمل تحت أضلاعه قلبا عامرا بالحب لم يجد فتاة فى بلده يغمرها به فكان اللقاء بليندا فى غرفته بالدور الثانى لمنزل دونالد وليندا وتوالت اللقاءات وعندما ازدادت حالة زوجها تأزما بعد معرفته اضطر (زوجها) إلى ترك البيت وأعقبه بالطلاق ورغم إنجابها طفلا من خليل لكنها رفضت أن تتبعه إلى بلده رفضت أن يكون قواما عليها إنها علاقة حاجة مؤقتة انتهت الحاجة فانتهت العلاقة مع تذكير الطرف الأخر (خليل هنا) بموضعه بالنسبة إليها .
لم يلجأ الفقيه إلى ثنائيات مغالط فى فهمها بين الشرق والغرب كالشرق روحانى والغرب مادى بطبعه فليست هناك أحكام مطلقة والشرق لم يخل من النظرة المادية ولا من التجرد من الروحانية عند كثير من أفراد مجتمعه هذه المغالطة اشار اليها توفيق الحكيم فى قصته (عصفور من الشرق) التى تعد من أوائل القصص التى تناولت للصراع بين الشرق والغرب وقد ألمح إلى أفول هذا الجانب الذى توهمه ايفان ( الروسى صديق محسن) حين توهم السعادة الحقيقة فى الشرق لروحانيته لطلب من صديقه محسن أن يرحل معه إلى الشرق وكان رد محسن " مهلا ايها الصديق ان ذلك المنبع الذى تريد أن تراه وتلك الانهار التى تريد ان تشرب منها قد تسممت كلها (46) فهذه الثنائيات تقوم على مغالطة وهمية تنبه اليها الطيب صالح فى موسم الهجرة إلى الشمال فمصطفى سعيد يذهب عازيا للغرب فى عقر داره لا بقوة السلاح لكن بالجنس لقد كان سببا فى موت ثلاث نساء زوجته (جين موريس) وقد أشار الطيب صالح إلى عدم مصداقية هذه الفكرة (الشرق الروحى والغرب المادي) حين قال " إن جوهر روايته هو فكرة العلاقة الوهمية بين عالمنا الاسلامى وبين الحضارة الغربية الأوربية إن هذه العلاقة تبدو من خلال مطالعاتى ودراساتى علاقة قائمة على أوهام من جانبنا ومن جانبهم والوهم يتعلق بمفهومنا عن أنفسنا أولا ثم نظن فى علاقتنا بهم ثم نظرتهم الينا ايضا من ناحية وهمية (47).
لم يلجأ الفقيه إلى مثل هذه الثنائيات المردودة عل أصحابها باسم المواجهة الحضارية كإجراء مع مومس (كما فعل يوسف ادريس فى نيويورك عام 1980) لتعريه الطرف الأخر بامتلاك الذات لزمام أمرها والقدرة على مواجهة والانتصار على الأخر إن اغلبية الروايات التى تصدت لهذا القضية اعتمدت على العلاقة الجنسية لبرز ( الكاتب) من خلالها الانتصار لفحولة البطل كرمز للشرقى المنتصر او كبح جماح الشهوة والتعالى عن مثل هذا السلوك وهذا قليل ما يحدث ولكن فى الغالب كان الشبق والانحراف والشذوذ محور روايات هذا النوع مما يدفعنا إلى تقليل شأن الاتجاه فى تصوير منحى فكرى وحضارى فليس التقاء الحضارات وتصارعها يجسده لنا الشواذ والمومسات فى أبيات الدعارة وقد لاحظ أحد الباحثين " أن تشثت (الأبطال) الذات العربية بفكر أيديولوجى يتطاير بسرعة شديدة فما أن يطأ أرض (الأخر) الأوربى حتى يتبخر الفكر أنهم يسعون إلى اقتناص فرصة الحرية لممارسة الجنس : اكتشاف / اشتهاء / تعويضا عن كبت / انتصار لفحولة (48).
يرى الفقيه أن طبيعة هذه العلاقة بين الشرقى والغربى ترجع إلى طبيعة الشخص نفسه الذى يتعامل مع الغربى فإذا هذا الشخص سويا عقليا وذهنيا ونفسيا يكون التعامل بثقة مع هذا المجتمع يأخذ منه الأفضل مع احتفاظه بقيم ومبادئ شرقنا وبذلك يحافظ على الذات العربية وينتصر لها وهذا المستوى من التعامل أفضل أشكال التعامل الثلاثة التى حصرها أحدهم فى مستويات التعامل بين الشرق والغرب كالأتى :
1-الرفض الكامل .
2-التسليم الكامل .
3-أخذ الأحسن من هذه الحضارة مع النظر الدائم لشخصيتنا ومعطياتنا الروحية والفكرية (49).
لقد تجلت هذه الرؤية فى تعامل عدنان مع المجتمع الغربى وامتلاكه لزمام نفسه ولذا وبخ الامام نفسه فى مقارتنا لنفسه مع صاحبه عدنان الذى ذهب إلى الغرب ونبضه بقيم الشرق ما تزال تدق صوتها فى روعه وكأنها تنبئه بأن يظل دائما متمسكا بهذه القيم وبالذات العربية فقد قضى تسع سنوات فى الغرب منها أربع سنوات فى اعداد اطروحة دكتوراه عن فلسفة هيجل يطلب الثقافة ولم ينس فى الوقت نفسه أن يعيش الحياة من قلبه يلهو ويغنى مع التزامه بأداء واجبه واشباع طموحاته الفكرية والأيديولوجية فقد " كان نجم سهرات العزف والغناء فى الأندية الطلابية وعضو المكتب التنفيذى لاتحاد الطلاب العرب وسكرتير جمعية اليسار الراديكالى فى الجامعة (50) تزوج من هذا المجتمع ولكن عندما خانته زوجته طلقها ولم يقل أنها كانت صادقة مع نفسها كما برر خليل تصرفات ليندا ورفضها عدنان وعدها خيانة عاش متمتعا بحياته يدرس ويحب ويعمل وينتمى للتنظيمات الفكرية الطلابية يعزف ويغنى أغانى شرقية جميلة مثل (طلعت يا محلى نورها – خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب سالمة يا سلامة وكان يمتلك مقدرة لنقل زملائه إلى الجو الشرقى فى المرح والغناء وإن كان يساريا فى مستهل حياته (هناك) ولكنه بمرور الوقت اخذ يتخلى عن ارتباطه العقائدى بجمعيات اليسار ويمنح وقتا أكثر لاهتماماته الروحية (51) وكان على خلاف مع الامام فى موافقة الفكرية منها عدم حضور الامام لاجتماع اتحاد الطلاب العرب ولم يعجبه تبرير الامام بوجوب انفصال رسالة الادب عن رسالة السياسية(52)لقد تزوج من أنا (الهندية) للتقارب الفكرى والروحى بينهما " لان وجد عندها اهتماما بالقيم الروحية وانضمامها للجمعيات الروحية التى تنتشر فى كل مكلان لكى تعيد التوازن إلى هذا المجتمع الذى احتفل بإنجازات العقل وتناسى جلال الروح (53) اتخذ موقفا من نظام دولته (لم يذكر اسمها) وقاطع منحتها الدراسية وأكمل دراسته على حسابه الخاص عمل لاكثر من عامين مع القوات الفدائية جنوب لبنان ورجع إلى هذا المكان مرة أخرى لالقاء المحاضرات العقائدية فى صفوف المتطوعين هناك ورجع مرة أخرى إلى لندن بعدما اهتدى إلى مراجع تفيده فى موضوع دراسته من مكتبة لبنان (54) لقد اعترف خليل الامام بالبون الشاسع بينه وبين عدنان أو لنقل بين الشخصية التى تسقط فى الاختبار عند الالتحام مع الغرب (خليل الامام هنا) والشخصية الراسخة فى التعامل لانها اسست على مبادئ وقيم لا تحيد عنها ( عدنان) يقول خليل الامام فى خطاب سردى طويل " بعيدة هى المسافة بينى وبين عدنان بعيدة هى المسافة بين روحى وروحه من أين يأتى أمثاله من الرجال بهذه الطاقة الهائلة التى تحيل الاقوال إلى الافعال وتجعلهم يقتحمون حقول النار ويسافرون باختيارهم إلى أرض المعارك والمواجهات الساخنة يجاهرون بعدائهم لاكثر أنواع الحكام شراسة وعنفا يجدون بعد ذلك وقتا للدراسة ووقتا لالتقاط الرزق وأخر لعلاقات حب هادئة تنتهى بالزواج (55).
وإذا كانت شخصية خليل الإمام الذات (الأنا) لأن الأحداث تروى على لسانها فى نغمة صادقة نرى فى عدنان الأخر والأخر كما يعرفه أحد الباحثين ليس موضوعا لواقعة فحسب كما أنه ليس نموذجا فحسب بل هو انقسام على (الذات) أحيانا (الأخر) مفارقة ذاتية بمعنى أن ثمة ( الأنا) أخرى تفترض وجودها فى مقابل (الأنا) إن (الأنا) لأخرى هى القطب الذى يقدح شرارة الجدل مع نظيره ويقيم حوارا عنيفا وشائكا (56) فعدنان هو الشخص الذى يتمناه خليل الامام فى داخله أو ذات أخرى منشطرة على الذات أو يمكن أن نطلق عليه إذا كان خليل الامام الأنا Ego فعدنان يمثل الأنا الأعلى Super Ego والذى يعرفه علماء النفس بأنه " جانب من الأنا أصابه التعديل اعتناق الشخص وامتصاصة للأوامر والنواهى والمثل العليا والمعايير والأنا الأعلى يطالب الشخصية بالتزام المثل العليا والأخلاقيات فى أفعالها وسلوكها وتصرفاتها (57).
____________
الهوامش
1-ابن منظور (جمال الدين محمد بن مكرم) : لسان العرب طبعة مصورة عن طبعة بولاق –المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر –الدار المصرية للتأليف والترجمة د.ت 2/130
2-انظر المصدر نفسه 2/131
3-د. نبيل راغب : موسوعة الفكر الأدبى ط الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1998 ج1 ص 33
4-انظر المرجع السابق ص 33: 34
5-انظر : د. فرج عبد القادر طه ود .شاكر عطية قندير ، د. حسين عبد الله القادر محمد والعميد مصطفى كامل عبد الفتاح موسوعة علم النفس والتحليل النفسى ط دار سعاد الصباح ط ا 1993 ، ص104:105 1990 ص7
6-انظر د. نبيل راغب : المرجع السابق ص 35: 36
7-انظر حسن بحرواى : بنية الشكل الروائى ط المركز الثقافى العالمى ط 1 1990 ص7
8-انظر مجلة العربى العدد 483 فبراير 1999 وجها لوجه حوار أجراه معه د.عبد الهادى حنيش ص 73
9-انظر القصة فى : ثلاث مجموعات قصصية مجموعة البحر لا ماء فيه منشورات قطاع الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع طرابلس ط1 1981 من ص 178 :1983
10-أحمد إبراهيم الفقيه : سأهبك مدينة أخرى ط رياض الريس للكتب والنشر لندن وقبرص ط 1991 ص7
11-المصدر نفسه ص8
12-المصدر نفسه نفس الصفحة
13-المصدر نفسه نفس الصفحة
14-المصدر نفسه ص5
15-انظر د. فرج عبد القادر وآخرين : موسوعة علم النفس والتحليل النفسى : المرجع السابق ص94
16-انظر مجلة العربى المرجع السابق ص 75
17-إنريكى اندرسون إمبرت : القصة القصيرة النظرية والتقنية ترجمة على إبراهيم منوفى مراجعة د. صلاح فضل ط المجلس الأعلى للثقافة عام 2000 ص334
18-د. عبد الملك مرتاض : فى نظرية الرواية سلسلة عالم المعرفة رقم 240 ديسمبر 1998 ص 242
19-أحمد الفقيه : المصدر السابق ص 10
20-المصدر نفس ص 78
21-المصدر نفس ص41
22-المصدر نفس ص 13
23-المصدر نفس ص 42
24-المصدر نفس ص84
25-المصدر نفس ص83
26-المصدر نفس ص 84
27-المصدر نفس ص203
28-المصدر نفس ص204
29-المصدر نفس ص 84
30-المصدر نفس ص 85
31-المصدر نفس ص230
32-المصدر نفس ص 108
33-المصدر نفس ص 107
34-انظر :المصدر نفس ص 78
35-المصدر نفس ص 73
36-المصدر نفس ص 166
37-المصدر نفس ص 74
38- أنظر : المصدر نفس ص75
39-انظر د. محمد نجيب التلاوى : الذات والمهماز (دراسة التقاطب فى صراع روايات المواجهة الحضارية) مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ص45
40-انظر د. يوسف نوفل : تجليات الخطاب الأدبى ط دار الشروق ط1 1997 ص180
41-أحمد الفقيه والمصدر السابق ص 131
42-انظر : المصدر نفسه ص 191 : 196
43-المصدر نفسه ص 41
44-المصدر نفسه نفس الصفحة
45-د. محمد نجيب التلاوى : المرجع السابق
46-توفيق الحكيم عصفور من الشرق : المطبعة النموذجية – القاهرة د. ت 204
47-انظر د. سيزا قاسم : تجربة نقدية موسم الهجرة إلى الشمال –مجلة فصول المجلد الأول – العدد الثانى يناير 1981 ص 225
48-د. محمد نجيب : المرجع السابق ص60
49-انظر د. عصام بهى : أيديولوجيا المصالحة فى قنديل أم هاشم وموسم الهجرة إلى الشمال –مجلة فصول – المجلد الخامس العدد الرابع يوليو –أغسطس – سبتمبر 1985 – المقال من ص 177: 201
50-أحمد الفقيه : المصدر السابق ص 32
51-المصدر نفسه ص 85
52-انظر : المصدر نفسه ص 115
53-المصدر نفسه ص 57
54-انظر : المصدر نفسه ص 200
55-المصدر نفسه ص 202
56-د. وليد منير : دور الأخر فى الإبداع الجمالى –مجلة فصول – العدد العاشر العدد 1،2 يوليو أغسطس سبتمبر 1991 ص 109: 110
57-د. فرج عبد القادر طه وآخرون : موسوعة علم النفس والتحليل النفسى ص115
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق