قراءة كتاب جمع الجواهر في المُلَح والنوادر 6
أبي أسحاق إبراهيم الحصري القيرواني
من نوادر المجانين
وقال هارون المخزومي: رأيت مجنونين يتنازعان رغيفاً يقول أحدهما: هذا أنت تأكله، ويقول الآخر: بل أنت تأكله. قال: فقلت لهما وأنا أظن أن أربح عليهما : أنا آكله. فقالا: يا أحمق، إنه مع أدم. فقلت: وما أدمه ؟ قالا: وجء الحلق وصفع العنق. فوليت عنهما، فقالا: يا مجنون؛ لولا بشاعة الأدم لكنا أكلناه منذ حين.
وقيل لسعيد العامري وكان من أصحاب النوبهاري : لقد حظيت بكثرة المال. قال: فإني بعتك مالي كله بحبة من عقل غفار الموسوس. قلت: وأي شيء رأيت من عقله ؟ قال: رأيته يوماً وقد وقف عليه رجلان أحدهما سكران، فجعل السكران يفتري عليه وهو يفتري على الصاحي؛ فقلت له: لم لا تشتم الذي يشتمك ؟ قال: لأن معه شيطاناً لا أقوى عليه، فالتفت إلي السكران وقال: يابن الفاعلة؛ أتحرضه علي ؟ ورفع رجله من الأرض فشيعني بها موضحة ومر يعدو. فقال غفار: من هذا فررت.
من نوادر أبي نواس
ومر عثمان بن حفص الثقفي بأبي نواس وقد خرج من علة وهو مصفر الوجه، وكان عثمان أقبح الناس وجهاً. فقال له عثمان: ما لي أراك مصفراً ؟ فقال أبو نواس: رأيتك فذكرت ذنوبي. قال: وما ذكر ذنوبك عند رؤيتي ؟ فقال: خفت أن يعقابني الله فيمسخني قرداً مثلك.
ولما حبس الأمين أبا نواس دخل عليه خال الفضل بن الربيع، وكان يتعهد المحبوسين، ويسأل عنهم وكانت فيه غفلة، فأتى أبا نواس وقال: ما جرمك حتى حبست في حبس الزنادقة ؟ أزنديق أنت ؟ قال: معاذ الله. قال: أتعبد الكبش ؟ قال: ولكني آكله بصوفه. قال: أتعبد الشمس ؟ قال: والله ما أجلس فيها من بغضها، فكيف أعبدها ! قال: أفتعبد الديك ؟ قال: لا والله، بل آكله، ولقد ذبحت ألف ديك، لأن ديكاً نفرني مرة، فحلفت ألا أجد ديكاً إلا ذبحته. قال: فلأي شيء حبست ؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة، وأنام خلف الناس. قال: وأنا أيضاً أفعل ذلك، ثم خرج إلى الفضل فقال: ما تحسون جوار الله تحبسون من لا ذنب له، سألت رجلاً في الحبس عن خبره، فقال كذا وكذا، وعرفه بكل ما جرى بينه وبين أبي نواس، فضحك ودخل على الأمين فأخبره الخبر، فأمر بتخليته للحال.
الأمين يحبس أبا نواس
وكان أبو نواس حبس في أيام الأمين مرتين؛ إحداهما أنه بلغ الأمين قوله:
ومستعبد إخوانه بثرائه ... لبست له كبراً أبرّ على الكبر
إذا ضمّني يوماً وإياه مجلسٌ ... رأى جانبي وعراً يزيد على الوعر
أُخالفه في شكله وأجرّه ... على المنطق المنزور والنّظر الشّزر
فواللّه لا ألوي لساني بحاجةٍ ... إلى أحدٍ حتى أُوسّد في قبري
وقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فلو لم أنل فخراً لكانت صيانتي ... فمي عن جميع الناس حسبي من فخر
فلا يطمعنّ في ذاك منّي طامعٌ ... ولا صاحب التاج المحجّب في القصر
فقال: وبلغ بك الأمر إلى أن تعرض بي في شعرك يابن اللخناء ! فقال سليمان بن أبي جعفر: هو والله يا أمير المؤمنين زنديق، وقد شهد عندي جماعة أنه شرب ماء مطر مع خمر، فقيل له: لم فعلت ذلك ؟ قال: لأشرب الملائكة فإنه كان مع كل قطرة ملك، فأمر بحبسه فقال:
يا ربّ إنّ القوم قد ظلموني ... وبلا اقتراف خطيئةٍ حبسوني
وإلى الجحود بما عليه طوّيتي ... بالزور والبهتان قد نسبوني
أما الأمين فلست أرجو دفعه ... عنّي فمن لي اليوم بالمأمون
(1/62)
فقال المأمون لما بلغه ذلك: والله لئن أدركته لأحسنن إليه، فمات قبل دخول المأمون بغداد.
ولما دخل بها سنة أربع ومائتين وأتاه الشعراء يمدحونه قال: ما فعل أبو علي الحسن بن هانىء؟ قالوا: توفي، فلم يسمع منهم شعراً وتوجع وقال: لقد ذهب ظرف الزمان بموته، وانحطت رتبة الشعر بذهابه.
وكان أبو نواس في آخر أيام الأمين مستخفياً فلم يظهر حتى قتل؛ لأنه كان أملح الناس وجهاً، وكان أبو نواس إذا نظر إليه بقي باهتاً فقال فيه:
عذّب قلبي ولا أقول بمن ... أخاف من لا يخاف من أحد
إذا تفكّرت في هواي له ... مسست رأسي هل طار عن جسدي
إني على ما ذكرت من فرقي ... لآمل أن أناله بيدي
وقال:
يا قاتل الرجل البريّ ... وسالباً عزّ المليك
كيف السبيل للثم سا ... لفتيك أو تقبيل فيك
اللّه يعلم أنني ... أهوى هواك وأشتهيك
وأصدّ عنك حذار أن ... تقع الظنون عليّ فيك
فظهر الشعر، فلم يزل أبو نواس مستخفياً.
وحبسه الأمين قبل ذلك: وذلك لأن المأمون لما خلعه بخراسان ووجه طاهر بن الحسين إليه ليحاربه، كان يعمل بعيوب الأمين كتباً لتقرأ على المنابر بخراسان، وكان مما عابه به أنه قال: احتبس شاعراً ماجناً كافراً يقال له الحسن بن هانىء، واستخلصه معه لشرب الخمر وارتكاب المآثم وانتهاك المحارم، وهو القائل:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذّات من دونها ستر
قال أبو علي محمد بن المظفر الحاتمي: هذا معنى ظريف، يقول: إن الملاذ بالحواس الخمس وهي: النظر والسماع والشم والذوق واللمس؛ فقد استمتعت حاسة البصر بالنظر إليها، وحاسة الشم بتضوعها وطيب نكهتها، وحاسة الذوق بطعمها، وحاسة اللمس بلين اللمس، وبقي حاسة السمع معطلة. فقال: وقل لي هي الخمر؛ لتلتذ حاسة السماع فيكمل الاستمتاع.
ثم يذكر الأمين في خطبة العراق، فيقول: أهل فسق وخمور وفجور وماخور، ويقوم رجل بين يديه فينشد أعابيس أبي نواس كقوله:
يا أحمد المرتجى في كل نائبةٍ ... قم سيدي نعص جبّار السموات
فقام والليل يجلوه النهار كما ... يجلي التبسّم عن غرّ الثنيّات
ومن هنا أخذ ابن الرومي، فجاء بأبدع عبارة، وأنصع استعارة، وأصح تشبيه، وأملح تنبيه. فقال يصف سوداء:
يفترّ ذاك السواد عن يققٍ ... من ثغرها كاللآلىء اليقق
كأنّها والمزاح يضحكها ... ليلٌ تعرّى دجاه عن فلق
فاتصل بالأمين خبر المأمون، فأغراه الفضل بن الربيع بأبي نواس فحبسه، فكتب أبو نواس إلى الفضل من الحبس:
أنت يابن الربيع علّمتني الخي ... ر وعوّدتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وعاودني حل ... مي وأحدثت رغبةً وزهاده
لو تراني شبهتني الحسن البص ... ريّ في حال نسكه أو قتاده
المسابيح في ذراعي والمص ... حف في لبّي مكان القلاده
فإذا شئت أن ترى طرفةً تع ... جب منها مليحةً مستفاده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمّل بعينك السّجّاده
ترى أثراً من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنّها من عباده
لو رآها بعض الرائين يوماً ... لاشتراها يعدّها للشهاده
ولقد طالما شقيت ولكن ... أدركتني على يديك السعاده
فلما بلغ الشعر الفضل ضحك، وقال: من علم أن السجادة تصلح للشهادة بعد؛ وكلم فيه الأمين فتركه بعد أن أخذ عليه ألا يشرب الخمر فقال:
ما من يدٍ في الناس واجدةٍ ... كيدي أبي العباس مولاها
نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمّنني ... من أن أخافك خوفك اللّه
فعفوت عنّي عفو مقتدرٍ ... وجبت له نقمٌ فألفاها
ومن قوله في ترك الشرب:
أيّها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلاّ شميما
(1/63)
نالني بالملام فيها إمامٌ ... ما أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإنّي ... لست إلاّ على الحديث نديما
فكأني وما أزيّن منها ... قعديٌّ يزيّن التّحكيما
كلّ عن حمله السّلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألاّ يقيما
والقعد: فرقة من الخوارج يأمرون الناس بالخروج وهم لا يخرجون. وزعم المبرد أنه لم يسبق إلى هذا المعنى. وقال في ذلك أيضاً:
غنّنا بالطّلول كيف بلينا ... واسقنا نعطك الثناء الثمينا
من سلافٍ كأنها كلّ شيءٍ ... يتمنّى مخيّر أن تكونا
أكل الدهر ما تجسّم منها ... وتبقّى لبابها المكنونا
فإذا ما اجتليتها فهباءٌ ... يمنع الكفّ ما تبيح العيونا
ثم شجّت فاستضحكت عن لآلٍ ... لو تجمّعن في يدٍ لاقتنينا
في كئوسٍ كأنهنّ نجومٌ ... دائراتٌ بروجها أيدينا
طالعاتٌ مع السقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا
لو ترى الشّرب حولها من بعيد ... قلت قومٌ من قرّةٍ يصطلونا
وغزال يديرها ببنانٍ ... ناعماتٍ يزيدها المزج لينا
كلما شئت علّني برضابٍ ... يترك القلب للسرور قرينا
ذاك عيشٌ لو دام لي غير أني ... عفته مكرهاً وخفت الأمينا
وقال أيضاً:
أعاذل أعتبت الإمام وأعتبا ... وأعربت عمّا في الضمير وأعربا
وقلت لساقيها أجزها فلم يكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوّزها عني سلافاً ترى لها ... إلى الأفق الأعلى شعاعاً مطنّبا
إذا عبّ منها شارب القوم خلته ... يقبّل في داجٍ من الليل كوكبا
ترى حيثما كانت من البيت مشرقاً ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
يدور بها رطب البنان ترى له ... على مستدار الخدّ صدغاً معقربا
سقاهم ومنّاني بعينيه منيةً ... فكانت إلى قلبي ألذّ وأطيبا
بين أبي نواس والحسين بن الضحاك
قال الحسين بن الضحاك: أنشدت أبا نواس قولي:
وشاطريّ اللسان مختلف السّ ... سكرة شاب المجون بالنسك
فلما بلغت فيه:
كأنّما نصب كأسه قمرٌ ... يكرع في بعض أنجم الفلك
نعر نعرة منكرة. فقلت: ما لك فقد رعتني ! فقال: هذا المعنى أنا أحق به، ولكن سترى لمن يروى ثم أنشدني بعد أيام:
إذا عبّ منها شارب القوم خلته ... يقبّل في داجٍ من الليل كوكبا
فقلت: هذه مطالبة يا أبا علي. فقال: أتظن أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة ! وقال فيه ابن الرومي فجاء بأحسن منهما:
ومهفهف كملت ملاحته ... حتى تجاوز منية النفس
تصبو الكئوس إلى مراشفه ... وتضجّ في يده من الحبس
أبصرته والكأس بين فمٍ ... منه وبين أناملٍ خمس
وكأنها وكأنّ شاربها ... قمرٌ يقبّل عارض الشمس
من غزل بشار
وإنما اتبع أبو نواس في هذه الأشعار التي وصف فيها ترك الشرب وطاعته لأمر الأمين مذهب أبي معاذ بشار بن برد وذلك أنه لما قال:
لا يؤيسنّك من مخبّأةٍ ... قولٌ تغلّظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرةٍ ... والصعب يركب بعدما جمحا
فبلغ ذلك المهدي فغاظه، وقال: يحرض الناس على الفجور، ويسهل لهم السبيل إليه. فقال له خالد بن يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، ق افتتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تصبو إلى مثل قوله:
عجبت فطمة من نعتي لها ... هل يجيد النعت مكفوف البصر
بنت عشرٍ وثلاثٍ قسّمت ... بين غصن وكثيب وقمر
درّة بحريّة مكنونةٌ ... مازها التّاجر من بين الدّرر
أذرت الدّمع وقالت ويلتي ... من ولوع الكفّ ركّاب الخطر
(1/64)
أُمتي بدّد هذا لعبي ... ووشاحي حلّه حتى انتثر
فدعيني معه يا أُمّتي ... علّنا في خلوةٍ نقضي الوطر
أقبلت في خلوةٍ تضربها ... واعتراها كجنون مستعر
بأبي واللّه ما أحسنه ... دمع عيني غسّل الكحل قطر
أيها النّوام هبّوا ويحكم ... وسلوني اليوم ما طعم السهر
فأمره المهدي ألا يتغزل؛ فقال أشعاراً في ذلك منها:
يا منظراً حسناً رأيته ... من وجه جاريةٍ فديته
واللّه ربّ محمدٍ ... ما أن غدرت ولا نويته
أعرضت عنك وربّما ... عرض البلاء وما اتّقيته
إنّ الخليفة قد أبى ... وإذا أبى شيئاً أبيته
ويشوقني بيت الحبي ... ب إذا غدوت وأين بيته
ومخضّبٍ رخص البنا ... ن بكى عليّ وما بكيته
قام الخليفة دونه ... فصبرت عنه وما قليته
ونهاني الملك الهما ... م عن النساء فما عصيته
بل وقد وفيت فلم أضع ... عهداً ولا وأياً وأيته
وأنا المطلّ على العدا ... وإذا غلا الحمد اشتريته
وقال:
واللّه لولا رضا الخليفة ما ... أعطيت ضيماً عليّ في شجني
قد عشت بين النّدمان والرّا ... ح والمزهر في ظلّ مجلسٍ حسن
ثم نهاني المهديّ فانصرفت ... نفسي صنيع الموفّق اللّقن
وقال:
أفنيت عمري وتقضّى الشباب ... بين الحميّا والجواري الأواب
فالآن شفّعت إمام الهدى ... وربما طبت لحبّ وطاب
لهوتن حتى راعني داعياً ... صوت أمير المؤمنين المجاب
لبيك لبيك ! هجرت الصّبا ... ونام عذّالي ومات العتاب
أبصرت رشدي وتركت المنى ... وربما ذلّت لهنّ الرقاب
وفي هذه الكلمة يقول:
يا حامد الفعل ولم يبله ... سبقت بالسّيل سيل السحاب
الفعل أولى بثناء الفتى ... ما جاءه من خطأٍ أو صواب
دع قول واءٍ وانتظر فعله ... ينبي عن اللّقحة ما في الحلاب
إذا غدا المهديّ في جنده ... وراح في آل الرسول الغضاب
بدا لك المعروف في وجهه ... كالظّلم يجري في الثنايا العذاب
ومن شعره المطرب في الغزل قوله:
أيّها السّاقيان صبّا شرابي ... واسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الصّدى وإنّ شفائي ... شربةٌ من رضاب ثغرٍ برود
عندها الصبر عن لقائي وعندي ... زفراتٌ يأكلن قلب الجليد
ولها مبسمٌ كثغر الأقاحي ... وحديثٌ كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبّة القل ... ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت: نلقاك بعد ليالٍ ... والليالي يبلين كلّ جديد
لا أبالي من ضنّ عنّي بوصلٍ ... إن قضى اللّه منك لي يوم جود
وقوله:
لو عاينوها لم يلوموا على البكا ... كريماً سقاه الخمر بدرٌ محلّق
فكيف تناسى من يكون حديثه ... بأذني وإني غيبت قرطٌ معلّق
وقوله:
كأنّها حين لاحت في مجاسدها ... فارتجّ أسفلها واهتزّ أعلاها
حوراء جاءت من الفردوس تفتنه ... كالشمس طلعتها والمسك ريّاها
من اللواتي غدت فرداً وشقّ لها ... من ثوبه الحسن سربالاً فردّاها
راحت ولم تعطه برءاً لقرحته ... منها ولو سألته النفس أعطاها
تغمّه نفسه من طول صبوتها ... حتى لو اجتمعت في الكفّ ألقاها
ما شاهد القوم إلا ظلّ يذكرها ... ولا خلا ساعةً إلاّ تمنّاها
وقول بشار: عجبت فطمة من نعتي لها قد احتذاه محمد بن مناذر:
قد جدّ بي في اللعب ... ذو راحة من تعب
جسم من الفضة قد ... أُشرب ماء الذهب
(1/65)
جارية صغيرة ... مشغولة باللعب
صاحت وقد روّعتها ... بقبلة واحربي
أنت وربّي يا فتى ... تريد أن تصنع بي
إيّاك أن يدعو علي ... ك اليوم أمّي وأبي
فلم أزل أختلها ... حتى علوت مركبي
وهي كغصن مالت الرّ ... يح به مضطرب
تجود عيناها بجا ... ري دمعها المنسكب
من مليح ما قيل في الصغار
ومن مليح ما قيل في الصغار قول أبي نواس الحسن بن هانىء:
حين أوفى على ثلاث وعشر ... لم يطل عهد أذنه بالشنوف
وبه غنّة الصبا تعتليها ... بحّة الاحتلام للتشريف
حين رام أنسنا منه بعين ... وثنى أختها من التخويف
وقال عبد الله بن الحسين الكاتب:
جاريةٌ أذهلها اللعب ... عمّا يقول الهائم الصبّ
شكوت ما ألقاه من حبّها ... فأقلت تسأل ما الحبّ
وقال ابن المعتز:
الآن زاد على عشر بواحدة ... وزاد أخرى وشاب الحبّ بالخدع
وجاوب اللحظ منه لحظ عاشقه ... وجرّر الوعد بين اليأس والطمع
وكان غرّاً بقتلي ليس يحسنه ... والآن بدّع في قتلي على البدع
وقال غيره:
إني بليت بطفلة ... هيفاء جائلة الوشاح
ومليحة يا ويلتي ... ماذا لقيت من الملاح
ما جاز عشراً سنّها ... بيضاء كالقمر اللّياح
وقال أعرابي في جارية صغيرة وعده أبوها أن يزوجها منه:
أعلقني بعشقها أبوها ... مليحة العينين عذبٌ فوها
قليلة الأيام إن عدّوها ... لا تحسن السبّ إذا سبّوها
وقال قيس بن الملوح:
وعلّقت ليلى وهي غرٌّ صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا ... إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
من نوادر مزيد المديني
مزيد المديني، قالت له امرأته يوماً ليس شيء أربح من عمل النبيذ، فعملته، فأتاها برجل معه درهم واحد. فقالت له: لا أبيعه إلا جملة، فأتى صاحب الشرطة فقال له: إن امرأتي عندها نبيذ؛ فوجه الحرس، وقال: كونوا معه، فإن كان في بيته نبيذ فاطرحوه وامرأته في الحبس، وإن لم يكن فيه شيء فردوه إلي.
فجاءوا فدخلوا منزله فوجدوا النبيذ. فقال لامرأته: قد جئتك بمن يأخذه جملةً، فكسروا جرار النبيذ وجلدوهما جميعاً، ومضوا بهما إلى الحبس، فلما حصلا فيه قال لامرأته: وأزيدك فائدة نحن فيه لم تخطر ببالك. قالت: وما هي يا مشؤوم ؟ قال: استرحنا من كرى البيت.
وزفت إليه امرأة فأتته الماشطة وهي تجلي، فقالت: انحلها شيئاً. قال: قد نحلتها تطليقة.
ودفع قميصه إلى الغسال، فرده إليه وقد نقص شبراً. فقال: ليس هذا قميصي؛ قميصي أتم من هذا شبراً. قال: جعلت فداك ! إنما تقلص في الغلس لأنه قطن. فقال له مزيد: اقعد حاسبني، في كم غسلة يرجع جرمازاً.
ودخل على بعض الموالي وكان المولى ذا مال كثير وهو على سرير ممتد، وبين يديه ولد من ولد أبي بكر الصدق وآخر من ولد عمر بن الخطاب وهما على الأرض. فتجهمه وقال: قبحك الله يا مزيد، فما أكثر إلحافك، وأشد إجحافك ! كل يوم تأتيني سائلاً ! قال: لم آتك في مسألة، وإنما أتيتك أسألك عن معنى قول الحارث بن خالد المخزومي:
إنّي وما نحروا غداة منىً ... عند الجمار تؤودها العقل
لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو
فلما رأيتك فوق ورأيت هذين تحتك عرفت معنى البيتين.
فقال: اعزب عليك لعنة الله، وارتج المجلس ضحكاً.
شعر ابن أبي ربيعة والحارث المخزومي
(1/66)
وذكر بحضرة ابن أبي عتيق شعر عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي؛ فقال رجل من ولد خالد بن العاص: صاحبنا أشعر يعني الحارث فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يابن أخي ! فلشعر ابن أبي ربيعة لوطةٌ بالقلب، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة، ليس لشعر الحارث، وما عصير الله قط بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عني ما أصف لك: أشعر قريش من رق معناه، ولطف مدخله، وسهل مخرجه، وتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن صاحبه. فقال الذي من ولد خالد بن العاص: صاحبنا يقول:
إنّي وما نحروا غداة منىً ... عند الجمار تؤودها العقل
لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ... فيردّه الإقواء والمحل
لعرفت مغناها بما احتملت ... منّي الضلوع لأهلها قبل
فقال ابن أبي عتيق: يابن أخي، استر على صاحبك، ولا تشاهد المحاضر بمثل هذا؛ أما تطير عليها الحارث، حين قلب ربعها، فجعل عاليه سافله؛ ما بقي عليه إلا أن يسأل الله حجارةً من سجيل وعذاباً أليماً. ابن أبي ربيعة كان أحسن للربع مخاطبةً وأجمل مصاحبة حيث يقول:
سائلاً الربع بالبليّ وقولاً ... هجت شوقاً لنا الغداة طويلا
أين أهلٌ حلّوك إذ أنت مسرو ... رٌ بهم آهلٌ أراك جميلا
قال ساروا وأمعنوا واستقلّوا ... وبكرهي لو استطعت سبيلا
سئمونا وما سئمت مقاماً ... واستحبّوا دماثةً وسهولا
وإنما أخذ الحارث قوله: لعرفت مغناها بما احتملت... البيت من قول امرىء القيس.
قال علي بن الصباح وراق أبي محلم: قال لي أبو محلم: أتعرف لامرىء القيس أبياتاً سينية قالها عند موته في قروحه والحلة المسمومة، غير القصيدة التي أولها:
ألمّا على الربع القديم بعسعسا ... كأني أنادي أو أكلّم أخرسا
فقلت: لا أعرف غيرها. فقال: أنشدني جماعة من الرواة، وأنشد أبياتاً أولها:
لمن طلل درست آيه ... وغيّره سالف الأحرس
تنكّره العين من حادثٍ ... ويعرفه شغف الأنفس
حديث الأطلال والدمن
وأخذه طريح بن إسماعيل الثقفي فقال وأحسن:
تستخبر الدّمن القفار ولم تكن ... لتردّ أخباراً على مستخبر
فأخذه أبو نواس، إلا أنه قلبه فجعل الإنكار للقلب فقال:
ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم ... تعرّفه عيني ويلفظه وهمي
أتت صور الأشياء بيني وبينه ... فظنّي كلا ظنّ وعلمي كلا علم
قال ولو قال: تنكره عينين ويعرفه وهمي، لكان كالأول وكان أجود فلعل أبا نواس قصد الخلاف وأعجبه قوله: ويلفظه وهمي؛ لأنها لفظة جرت ملحيةً.
وقد ملح الحسن بن وهب في هذا المعنى إلا أنه ألم به وأجمله ولم يذكر القلب فقال:
أبليت جسمي من بعد جدّته ... فما تكاد العيون تبصره
كأنّه رسم منزلٍ خلقٍ ... تعرفه العين ثم تنكره
وزعم يحيى بن منصور الذهلي أنه يعرف معهد أحبابه بقلبه ويكتمه عينه فقال:
أما يستفيق القلب إلاّ انبرى له ... تذكّر طيفٍ من سعاد ومربع
أُخادع عن عرفانه العين إنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع
وقال غيره:
هي الدار التي تعر ... ف أم لا تعرف الدارا
ترى منها لأحباب ... ك أعلاماً وآثارا
فيبدي القلب عرفاناً ... وتبدي العين إنكارا
من التقعير
وحصلت لأبي علقمة النحوي علة، فدخل عليه أعين الطبيب يعوده. فقال: ما تجد ؟ قال: أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة، فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق، فما زال يزيد وينمى حتى خالط الخلب والشراسف، فما ترى ؟ قال: خذ خربقاً وسلفقاً وشبرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه.
فقال: ما تقول ؟ فقال: وصفت لي من الداء ما لا أعرف، فوصلت لك من الدواء ما لا تعرف. قال: ويحك فما أفهمتني. قال: لعن الله اقلنا إفهاماً لصاحبه.
من نوادر النحويين
(1/67)
وقال رجل اسمه عمر لعلي بن سليمان الأخفش: علمني مسألةً من النحو ؟ قال: تعلم أن اسمك لا ينصرف. فأتاه يوماً وهو على شغل. فقال: من بالباب. قال: عمر. قال: عمر اليوم ينصرف. قال: أوليس قد زعمت أنه لا ينصرف ؟ قال: ذاك إذا كان معرفة وهو الآن نكرة ! وقال الصولي: سكر هارون النديم عند المعتضد سكراً شديداً، ونهض الجلساء كلهم سواه فقال له الخادم الموكل بالندماء: انصرف. فقال: أمير المؤمنين أمرني بالمبيت هاهنا. فقال: يا أمير المؤمنين؛ هارون ينصرف. قال: لا ينصرف.
فلما أصبح رآه المعتضد، فقال: من هذا ؟ قيل: هارون بن علي. فقال للخادم الموكل بالندماء: متى تقدم للجلساء المبيت هنا ؟ فقال: أنت أعزك الله قلت: هارون لا ينصرف، قال: إنا لله ! إنما أردت النحو.
قال أبو العبر: قال لي أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الظبي معرفة أو نكرة ؟ فقلت: إن كان مشوياً على المائدة فمعرفة، وإن كان في الصحراء فهو نكرة. فقال: ما في الدنيا أعرف منك بالنحو.
أبو الحسن علي بن سليمان كتب إلى بعض إخوانه يستعير دابة ودابة لا تجيء بوزن الشعر؛ لأنه جمع بين ساكنين:
أردت الركوب إلى حاجةٍ ... فجد لي بفاعلةٍ من دببت
فأجابه الفتى وكان ظريفاً:
زيد بها وجعٌ غامز ... فكن أنت لي فاعلاً من عذرت
ومن ملح النحويين:
أفي الحقّ أن يعطى ثلاثون شاعراً ... ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي !!
كما سامحوا عمراً بواوٍ مزيدةٍ ... وضويق باسم اللّه في ألف الوصل
وقال أبو الفتح البستي:
حذفت وغيري مثبتٌ في مكانه ... كأنّي نون الجمع حين تضاف
المتوكل وعبادة المخنث
وكن المتوكل قد بسط من عبادة المخنث للدخول معه على كل حال، فدخل عليه وهو نائم مع سواد كان يحبها؛ فلما رآه أمرها أن تغطي وجهها. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ومن معك ؟ قال: ويلك ! وبلغ فضولك إلى هذا الموضع !، ومدت الجارية رجلها فبانت سوداء. فقال: يا أمير المؤمنين؛ تنام ورجلك في الخف. فقال المتوكل: قم عليك لعنة الله ! وضحك وأمر له بصلة فأخذها وانصرف.
وكان عبادة يشرب بين يديه ويترك في القدح فضلة. فقال: يا عبادة؛ ما تدري ما يقول الناس ؟ قال: وما هو ؟ قال: يقولنه إن شارب النبيذ إذا شرب وعبس وجهه وفضلت في القدح فضلة فإن إبليس يضرب قفاه ويقول: اشرب فضلة ما استطبت.
فمضت الأيام واصطبح المتوكل وعبادة حاضر، وشرب قدحاً كان في يديه وفضلت فضلة. فقال: يا أمير المؤمنين، جاءك الرجل.
وتجارى الجواري بحضرة المتوكل فسبقتهن جارية ممشوقة. فقال المتوكل لعبادة: اجر معها حتى ننظر من يسبق صاحبه. فقال عبادة: إن سبقتها فما لي ؟ قال: هي لك، وإن سبقتك صفعتك. فجرت معه الجارية فسبقته مرة بعد أخرى، فقال: يا أمير المؤمنين؛ كيف لا تسبقني وهي تجري بمدادين وأنا أركض بخرجين؛ فضحك المتوكل ووهبها له.
وغفل عنه المتوكل مرة فكتب له رقعة يسأذنه في الحج فضحك. وقال: عبادة يحج ؟ علي به، فلما دخل عليه قال له: ما خبرك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين؛ لقد تواضعت حتى ما آكل إلا الخشكار، ولا أشرب إلا نبيذ الدردي، ولا أسمع إلا غناء حواء، فأمر له بصلة.
جحظة يصف ضيق العيش
ألم جحظة البرمكي بهذا المعنى فقال:
إنّي رضيت من الرحيق ... بشراب تمرٍ كالعقيق
ورضيت من أكل السمي ... ذ بأكل مسودّ الدقيق
ورضيت من سعة الصحو ... ن بمنزلٍ ضنكٍ وضيق
وجعلت تغريد الحما ... مة منزلي عند الشروق
فغدوت كسرى صاحب ال ... إيوان والعيش الأنيق
وحجبت نفسي عن حجا ... ب الباخلين ذوي الطريق
القاطعين مخافة ال ... إنفاق أسباب الصّديق
جيران يتشممون الأماني
قال ابن أبي عتيق لامرأته: تمنيت أن يهدى إلينا مسلوخ، فنتخذ من الطعام لون كذا ولون كذا، فسمعته جارة له، فظنت أنه أمر بعمل ما سمعته، فانتظرت إلى وقت الطعام، ثم جاءت فقرعت الباب، وقالت: شممت رائحة قدوركم فجئت لتطعموني منها. فقال ابن أبي عتيق لامرأته: أنت طالق إن أقمنا في هذه الدار التي جيرانها يتشممون الأماني.
التمني والحلم أخوان
(1/68)
ولبس مزيد جبة فقيل له: أتتمنى أن تكون لك ؟ قال: نعم ! وأضرب عشرين سوطاً. قيل: ولم؟ ويحك ؟ قال: لا يكون شيء إلا بشيء.
قال الأصمعي: طلب الحجاج رجلاً فهرب منه، فمر بساباط فيه كلب نائم في ظله. فقال: يا ليتني مثل هذا الكلب، فما أتت ساعة حتى مر به الكلب وفي عنقه حبل، فسأل عنه فقالوا: جاء كتاب الحجاج وبه يأمر بقتل الكلاب.
وفي كتاب للهند أن ناسكاً كان له سمن وعسل في جرة؛ ففكر يوماً فقال: أبيع هذه الجرة بعشرة دارهم فأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، فيبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأزرع وينمى المال في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد، ويولد لي ولد، فأسميه كذا وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه، وكانت في يده عصا فرفعها كالضارب، فأصابت الجرة، فانكسرت وتبدد السمن والعسل.
قال يزيد بن معاوية: ثلاث يخلقن العقل، وفيهن دليل على الضعف: سرعة الجواب، وطول التمني، والاستغراب في الضحك. وكان يقال: التمني والحلم أخوان. وقالوا في نقيض ذلك: الأمل رفيق مؤنس، إن لم يبلغك فقد ألهاك. وأنشدوا:
أتاني من ليلى جوابٌ كأنّما ... سقتني به ليلى على ظمأٍ بردا
منىً إن تكن حقّاً تكن أحسن المنى ... وإلاّ فقد عشنا بها زمناً رغدا
وقال أعرابي:
رفعت عن الدنيا المنى غير حبها ... فما أسأل الدنيا ولا أستزيدها
وتحت مجاري الصدر منّا مودّةٌ ... تطلّع سرّاً لا ينادى وليدها
وقيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا ؟ فقال: ممازحة الحبيب، ومغالطة الرقيب، وأمان تقطع بها أيامك، وأنشد:
علّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
ودعيني أفوز من ... ك بنجوى تطلّبه
فعسى يعثر الزما ... ن بحظّي فينتبه
عزة توازن بين شعر الأحوص وكثير
ودخل كثير بن عبد الرحمن على عزة؛ فقالت: ما ينبغي أن نأذن لك في الجلوس. قال ولم ذلك؟ قالت: لأني رأيت الأحوص ألين جانباً عند القوافي منك في شعره، وأضرع خداً للنساء وأنه الذي يقول:
يأيها اللائمي فيها لأصرمها ... أكثرت لو كان يغني عنك إكثار
أقصر فلست مطاعاً إذ وشيت بها ... لا القلب سالٍ ولا في حبّها عار
ويعجبني قوله:
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوّاراً ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور
لقد منعت معروفا أمّ جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير
ويعجبني قوله:
كم من دنيٍّ لها قد صرت أتبعه ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا
لا أستطيع نزوعاً عن محبّتها ... أويصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني ... حتى إذا قلت هذا صادقٌ نزعا
وزادني رغبة في الحب أن منعت ... أشهى إلى المرء من دنياه ما منعا
وقوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
وما العيش إلاّ ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا
وإني لأهواها وأهوى لقاءها ... كما يشتهي الصادي الشراب المبرّدا
علاقة حبٍّ لجّ في سنن الصّبا ... فأبلى وما يزداد إلا تجدّدا
هذان البيتان ألحقهما الضبي وغيره بهذا الموضع من شعر الأحوص، وأنشدهما أبو بكر بن دريد لأعرابي.
فقال لها كثير: والله لقد أجاد فما استجفيت من قولي ؟ قالت: فذلك قولك:
وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأظهرن مني هيبة لا تجهّما
يحاذرن مني غيرةً قد عرفنها ... قديماً فما يضحكن إلاّ تبسّما
تراهنّ إلاّ أن يؤدين نظرةً ... بمؤخر عينٍ أو يقلّبن معصما
كواظم ما ينطقن إلا محورة ... رجيعة قول بعد أن تتفهما
وكنّ إذا ما قلن شيئاً يسرّه ... أسرّ الرضا في نفسه وتجرّما
وقولك:
وددت وبيت اللّه أنك بكرة ... هجان وأني مصعب ثم نهرب
(1/69)
كلانا به عرٌّ فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدي وأجرب
نكون لذي مالٍ كثير مغفّل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
إذا ما وردا منهلاً صاحب أهله ... علينا فما ننفكّ نجفى ونضرب
ويحك ؟! لقد أردت بي الشنعاء، ما وجدت أمنية أوطأ من هذه ؟ فخرج من عندها خجلاً.
وكثير إن قبح في هذا فقد ملح في قوله:
فليت قلوصي عند عزّة قيّدت ... بقيد ضعيفٍ غرّ منها فضلّت
وغودر في الحيّ المقيمين رحلها ... وكان لها باغٍ سواي وندّت
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... وأخرى رمى فيها الزمان فشلّت
وكنت كذات الظّلع لمّا تحاملت ... على ظلعها بعد العثار استقلّت
أريد ثواءً عندها وأظنّها ... إذا ما أطلنا عنده المكث ملّت
وكان كثير على حدة خارطه وجودة شعره أحمق الناس. ودخل عليه نفر من قريش يعودونه وهو عليل ويهزأون به؛ قال بعضهم فقلت له: كيف نجدك ؟ قال: بخير. ثم قال: هل سمعتم الناس يقولون شيئاً ؟ قلت: نعم سمعتهم يقولون: إنك الدجال. قال: أما لئن قالوا ذلك إني لأجد في عيني اليمنى ضعفاً مذ أيام.
من نوادر الحمقى والممرورين
قال الجاحظ: حدثني ثمامة بن أشرس قال: كان ممرور يأتي ساقية لنا سحراً فلا يزال يمشي مع دابتها ذاهباً وراجعاً في شدة الحر والبرد، فإذا أمسى توضأ وصلى وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهم فرجاً ومخرجاً، ثم انصرف إلى بيته؛ فكان كذلك إلى أن مات.
قال وحدثني ثمامة قال: مررت في غب مطر، والأرض ندية، والسماء مغيمة، والريح شمالية، وإذا شيخ أصفر كأنه جرادة، وقد جلس على قارعة الطريق وحجام زنجي يحجمه، وقد وضع على كاهله وأخدعيه محجمة كأنها قعب وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه. قال: فوقفت عليه وقلت: يا شيخ، لم تحتجم في مثل هذا اليوم ؟ فقال: لمكان الصفار الذي فيّ.
من علامات الحمق
قال الجاحظ: ما رأيت رجلاً عظيم اللحية إلا وجدته كوسج العقل.
وقالت أعرابية لقاض قضى عليها: عظم رأسك، فبعد فهمك؛ وانسدلت لحيتك، فانشمر عقلك، وما رأيت ميتاً يقضي بين حيين قبلك.
وعاب كوسج ألحى، فقرأ: " البلد الطيب بخرج نباته بإذن ربه والذي خَبثُ لا يخرج إلا نكداً " فقرأ الكوسج: " قل لا يستَوِي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " .
قال هشام بن عبد الملك يوماً في مجلسه: يعرف حمق الرجل بخصال أربع: بطول لحيته وشناعة كنيته، ونقش خاتمه، وإفراط شهوته. ثم رمى بصره إلى رجل طويل اللحية في أقصى المجلس فدعا به. فقال: هذه واحدة، ثم سأله عن كنيته فقال: كنيتي أبو الياقوت الأحمر. فقال: وما نقش خاتمك ؟ قال: " وتفقّد الطير " ، فقال: " ماليَ لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " .
وخرج مهزم بن الفرج القبعسي فقال: أيها الأمير، إني قد قلت بيتاً، وأنشد:
كفى حزناً أن الفراء كثيرة ... وأني بمرو الشاهجان بلا فرو
فقال طاهر: هذه والله قافية شرود، أجيزوا؛ فأرتج عليهم. فقال مهزم: أنا أولى بإجابة نفسي. وقال:
صدقت لعمري إنها لكثيرة ... ولكنها عند الكرام أولي الثرو
فضحك طاهر، وقال: أما لئن أغفلناك حتى حملناك على سوء القول لنفسك سنستدرك، وأمر له بعشر أثواب من وبر الخز والوشي؛ فباع منها تسعاً بتسعين ألف درهم وأمسك واحدة.
من الأجوبة المضحكة
قال الجاحظ: كان جعيفران الموسوس يماشي رجلاً من إخوانه على قارعة الطريق، فدفع الرجل جعيفران على كلب فقال: ما هذا ؟ قال: أردت أن أقرنك به. قال: فمع من أنا منذ الغداة؟ شرب طوقان المغني عند الشريف الرضي فسرق رداؤه، فلما أصبح افتقده؛ فقال: قد سرق ردائي. فقال له الشريف: سبحان الله ! من تتهم منا ؟ أما علمت أن النبيذ بساط يطوى عليه. فقال: انشروا بساطكم حتى آخذ ردائي واطووه إلى يوم القيامة.
ودخل رجل أكول على قوم، فأكل أكلاً ذريعاً. فقال أحدهم: عجبت من أكله وسرطه. وقال الآخر: وشقه دجاجة ببطة، وقال آخر: وأكله دجاجة وبطة. وقال آخر: كأن جالينوس تحت إبطه.
فقالوا له: أما الذي قلناه فمفهوم، فما معنى قولك: كأن جالينوس تحت إبطه ؟ قال: لكي يناوله الجوارشن لئلا يتخم.
(1/70)
قيل لمخنث: كم ورثت أختك من زوجها ؟ قال: أربعة أشهر وعشراً يريد العدة.
قال بعض العلويين لأبي العيناء: يقتضي وقد أمرت بالصلاة علي أن تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. قال: نعم ! فإذا قلت: الطيبين الأخيار خرجت أنت منهم.
أخذه يزيد بن محمد المهلبي فقال في صاحب الزنج بالبصرة:
أيها الخائن الذي دمّر البص ... رة أبشر من بعدها بدمار
إن تقل جدّي النبيّ فما أن ... ت من الطيبين والأخيار
قد نفى اللّه في الكتاب ابن نوح ... حين كان ابنه من الكفار
وإنما قال المهلبي هذا له قبل أن ينكشف أمره أن دعي.
صاحب الزنج
قال أبو بكر الصولي: وحدثني محمد بن أبي الأزهر وقد أذكرته خبر علي ابن محمد صاحب الزنج، فقال: ادعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم، فنظرت مولده ومولد محمد بن أحمد الذي ادعاه فكان بينهما ثلاث سنين، وكان لمحمد بن أحمد ولد اسمه علي مات بعد هذا المدعي اسمه ونسبه بزمان، ثم رجع عن هذا النسب فادعى أنه علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب بن يحيى المقتول بخراسان من زيد بن علي. قال أبو عبد الله محمد بن علي بن حمزة: لم يكن ليحيى ولد يقال له رحيب ولا غيره لأنه قتل ابن ثماني عشرة سنة ولا ولد له. وقال بشر بن محمد بن السري بن عبد الرحمن بن رحيب: هو ابن عم أبي لحاً وهو علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب، ورحيب رجل من العجم من ضياع الري. وكانت مدته من حين نجم إلى أن قتل أربع عشرة سنة، وجملة من قتل ألف ألف وخمسمائة ألف، وله شعر حسن مطبوع، وزعم أبو بكر بن دريد أنه عمل له أكثره وما أرى هذا يصح؛ لأنه لا يشاكل طريق ابن دريد: فمنه:
ما تغطّي عساكر الليل منّي ... ما تجلّي مضاحك الصبح عنّي
جسم سيف في جوف غمد ثيابٍ ... صدر إنسٍ من تحته قلب جني
ميت حسٍّ وحيّ نفسٍ كما الشم ... س يرى مشيها بعين التظنّي
شمّريّ إذا استقلّ بعزمٍ ... لم يعرّج بليتني ولو أنّي
ما ينال الكرى سويداه إلاّ ... حسوة الطائر الذي لا يثنّي
إن رماه خطب قرى الخطب رأيٌ ... فيه روع النّجا وحكم التأنّي
كم ظلام جعلته طيلساني ... صاحبي همّتي وقلبي مجنّي
كم حبال قطعت في وصل أخرى ... تاركاً ما أخاف من سوء ظنّي
مستخفّ بذا وذاك وهذا ... لم أُسمع ندامتي قرع سنّي
أنا روض الرّبيع في كل زهرٍ ... فيلسوف الزّمان في كل فنّ
وقال:
لقد علمت هاشمٌ أنّنا ... صباح الوجوه غداة الصّياح
وأنّا إذا زعزعت في الوغى ... ذيول الرّياح ذبول الرماح
نسوق السّيوف بدفع الحتوف ... وننكي الجراح بكفّ الجراح
ونسمو سماحاً أكفّ السّماح ... بقسم رماح وبيض صفاح
وقرم صبحناه في داره ... بكل أقبٍّ ونهدٍ وقاح
فغودر بعد عناق الملاح ... ضجيع النّجيع مرح الجراح
كليل الأنين مذال الجبين ... مهين السّلاح مهيض الجناح
صلى نور عيني بنور الأقاح ... وراح الأكفّ بماء وراح
فما طول عشقي مزاح الملاح ... بمشتغل عن صياح الصباح
وقال:
أسمعاني الصياح بالإمليس ... وصياح العيرانة العيطموس
واتركاني من قرع مزهر ريا ... واختلاف الكئوس بالخندريس
ليس تبنى العلا بذاك وهذا ... لكن الضرب عند أزم الضروس
عيّفت عن كل اللبانات نفسي ... وسمت نحو غير ذلك حدوسي
وخلا من هواجس النأي قلبي ... كخلوّ الطلول بعد الأنيس
واسبطّرت حمالق القوم للمو ... ت وصارت نفوسهم في الرّؤوس
رب سيد يحمي الخميس بعضبٍ ... ويجلي ظلام ليل الخميس
عمّمته يمنى يديّ بعضبٍ ... تركت جنبه كجنب العروس
(1/71)
تخبرنك الكماة عن غدواتي ... في غداة الوغى أبا قابوس
فسلوا عامراً وعارض لمّا ... أن لقوا بالفجور والتدليس
أتروني أقرّ بالنّوم غمضاً ... يا عبيد الصليب والناقوس
وقال:
وإنّا لتصبح أسيافنا ... إذا ما اصطبحنا بيوم سفوك
منا برهنّ بطون الأكف ... وأغمادهنّ رؤوس الملوك
وما لي في الخلق من مشبهٍ ... ولا في اكتساب العلا من شريك
وقال يخاطب بني العباس:
بني عمنا لا توقدوا نار فتنة ... بطيء على مرّ الليالي خمودها
بني عمّنا إنا وأنتم أناملٌ ... تضمّنها من راحتيها عقودها
بني عمّنا ولّيتم التّرك أمرنا ... بديئاً وأعقاباً ونحن شهودها
فأُقسم لا ذقت القراح وإن أذق ... فبلغه عيش أو يبار عميدها
وقال:
لهف نفسي على قصورٍ ببغدا ... د وما قد حوته من كلّ عاص
وخمور هناك تشرب جهراً ... ورجالٍ على المعاصي حراص
لست بابن الفواطم الزّهر إن لم ... أُقحم الخيل بين تلك العراص
وقتله الموفق بعد أن جرت له معه مواقعة عظيمة، وجرح الموفق جرحاً في صدره أشرف منه على الموت، ولذلك قال ابن المعتز:
شقّ الصفوف بسيفه ... وشفى حزازات الإحن
دامي الجراح كأنها ... وردٌ تفتّح في غصن
ومن ملح النوادر
قال الجاحظ: سمعت رجلاً يقول لآخر: ضربنا الساعة زنديقاً. قال: وأي شيء الزنديق ؟ قال: الذي يقطع المزيقة. قلت: وكيف علمت أنه يقطع المزيقة ؟ قال: رأيته يأكل التين بالخل.
وهذا كما قال النظام لرجل: أتعرف فلاناً المجوسي ؟ قال: أعرفه، ذاك الذي يحلق وسط رأسه مثل اليهود. قال: لا مجوسياً عرفت ولا يهودياً وصفت.
باع مزيد المديني دابة، فلما كان من الغد أتاه النخاسون طمعاً، فلما نظر إليهم قد أقبلوا نحوه قام يصلي فأطال الصلاة، فقالوا له وهم لا يعفرونه : يا عبد الله؛ قد ذهب يومنا، فأطمعهم طول قيامه، وكان أحسن الناس سمتاً وأظهرهم هدياً، فانفتل من صلاته فقال: ما بالكم ؟ فقد قطعتم علي صلاتي. فقالوا له: قد ظهر بالدابة عيب. قال: وما عيبه قالوا: يخلع الرسن. قال: لا أعرفه بهذه الصفة؛ فماذا تريدون ؟ قالوا: خصلة من ثلاث؛ إما الحطيطة، وإما رد الثمن وأخذ الدابة، وإما اليمين بالله أنك ما تعرف هذا فيه.
فقال: أما الثمن فقد فرقناه، وأما الحطيطة فما تمكننا، وأما اليمين فإني ما حلفت قط على حق ولا على باطل، فاعفوني منها؛ فإنها أصعب الخطط عندي. قالوا: ما من ذلك بد؛ فانطلق بنا إلى الوالي. فقام معهم، فلما بصر به الوالي ضحك، وقال: ما جاء بك أبا إسحاق ؟ فقص عليه القصة. فقال: قد أنصفك القوم. فقال: أعز الله الأمير، أحلف وأنا في هذه السن، وضرب يده على لحيته وبكى. وقال: ما حلفت على حق ولا على باطل والتوى. قال: لا بد، فالتوى ساعة؛ ثم قال: أصلح الله الأمير فإن حملت نفسي على اليمين وحلفت وأعنتوني بعد ؟ قال: أوجعهم ضرباً، وأحبسهم. فلما سمع ذلك استقبل القبلة وقال: بلغت السماء، وكورت الشمس، ونثرت الكواكب، وشربت البحر، ولطعت ما في المصحف من الذكر الحكيم، وتوليت عاقر الناقة، وسرقت عصا موسى عليه السلام، ولقيت الله بذنب فرعون يوم قال: أنا ربكم الأعلى؛ وغير ذلك من محرج الأيمان، لقد كان عندي دواب كلها تخلع أرسانها، فكان هذا الحمار يقوم فيعديها عليها ويصلحها بفمه قليلاً قليلاً. فضحك الوالي حتى فحص برجليه، وبهت النخاسون، وعجبوا منه وانصرفوا عنه.
وقال بعض الشعراء:
سألوني اليمين فارتعت منها ... كي يغرّوا بذلك الارتياع
ثم أرسلتها كمنحدر السي ... ل تهادى من المحلّ اليفاع
قاض دفع مالاً لمن توجّه إليه باليمين
(1/72)
ومن ظريف ما في هذا الباب ما حكاه الصولي قال: كنت يوماً بين يدي أمير المؤمنين الراضي بالله إذ دخل عليه بعض الخدم برقعة دفعها صاحب الخبر الملازم لمجلس أبي عمر القاضي، يذكر أن رجلاً أحضر خصماً للقاضي، وادعى عليه مائة دينار؛ فألزم القاضي الغريم اليمين؛ إذ لم يجد الخصم بينة؛ فأخذ الدواة وكتب بيتين فدفعهما إلى القاضي، فأمر القاضي غلامه فأحضر مائة دينار ودفعها إلى الرجل، والبيتان هما:
وإني لذو حلفٍ كاذب ... إذا ما اضطررت وفي الأمر ضيق
وهل من جناحٍ على مسلمٍ ... يدافع باللّه ما لا يطيق
فعجب الراضي من الرجل وديانته، لخلاصه من الحكم؛ وعجب من كرم القاضي وحسن ما فعله، ثم أمرني بالركوب إلى القاضي ومسألته في البحث عن صاحب البيتين وإحضاره إليه. فلم نزل أياماً حتى حصل لنا، فجئنا به إلى دار السلطان، فمر له بألف دينار وخمس خلع ومركوب حسن، وأمره بملازمة الدار؛ ثم قلده الأهواز وأعمالها.
من نوادر اللصوص
وخرج أبو سعيد الحربي مرة وهو شارب، فجلس يبول وعليه طيلسان خلق إبريسمي، فمر به بعض المكارين في الليل، وتناول طيلسانه، فصاح به أبو سعيد: فقال له الفتى: ما تريد ؟ قال: أصرف الله عنك الأذى.
ودخل على أبي سعيد اللصوص فأخذوا كل ما في داره، فلما مضوا حمل أبو سعيد البارية ومضى في أثرهم فنظر إليه أحدهم فقال: أي شيء تصنع معنا ؟ قال: نطلب بيتاً نتحول فيه بمرة، فضحك اللصوص وردوا عليه ما أخذوه منه.
من نوادر الأطباء
وكان ببغداد طبيب اسمه نعمان لا ينجح مريض على يديه، فقال فيه بعض الشعراء:
أقول لنعمانٍ وقد ساق طبّه ... نفوساً نفيسات إلى داخل الأرض
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال كشاجم لعيسى بن نوح النصراني:
عيسى الطبيب ترفّق ... فأنت طوفان نوح
يأبى علاجك إلاّ ... فراق جسمٍ لروح
شتّان ما بين عيسى ... وبين عيسى المسيح
هذاك محيٍ لميتٍ ... وذا مميت صحيح
هذا منقول من قول رجل من بني تميم، لما دخل هلال بن أحوز البصرة بعد إيقاعه بني المهلب، وقد أطافت به بنو تميم، فقال شيخ من الأزد: رجالهم يطيفون به كما يطيفون بعيسى ابن مريم. فقال التميمي: هذا ضد عيسى ابن مريم؛ فإن ذاك يحيي الموتى وهذا يميت الأحياء.
من نوادر الفقهاء
قال رجل للشعبي: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليه دم، أترى له أن يحجم ؟ فقال: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وقال له رجل: ما تقول في رجل شتمني في أول يوم من شهر رمضان، أتراه يؤجر ؟ قال: إن قال لك يا أحمق رجوت له ذلك.
دخل زاهر بن العلاء على الحجاج فنسي التسليم، فقال: التحيات لله الطيبات الصلوات لله. ثم ذكر التسليم فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.
من طرف المعزين
ودخل بعض الهاشميين على الرشيد معزياً. فقال: يا أمير المؤمنين، أحسن الله عزاك، وربك عزاك، وأحاله علينا وعليك بخير، ورحم فلاناً ولا عرفه قليلاً ولا كثيراً، تأمر بشيء يا أمير المؤمنين ؟ قال: نعم ! آمر أهلك أن يدفنوك؛ فإن موتك حياة وحياتك موت.
مات أخ لأبي علقمة النحوي، فأتى ابنه يعلم أبا علقمة بموت أخيه. فقال: ما كانت علته ؟ فقال الغلام: تورمت رجلاه فانتهى الورم إلى ركبتاه. فقال أبو علقمة: لحنت؛ فقل: إلى ركبتيه. فقال الغلام: لقد شق عليك موت أبي حيث لم تدع بغضك ساعة !
من نوادر المحبين
ومرت بداود بن المعتمر امرأة جميلة، فقام يتبعها حتى أدركها. فقال: لولا ما رأيت عليك من سيماء الخير لم أتبعك، فضحكت حتى استندت إلى الحائط. فقالت: إنما يمنع مثلك من الطمع في مثلي ما يرى من سيماء الخير، فإذا كان هذا هو الذي يطمع في النساء فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(1/73)
وتعشق أبو القماقم السقا قينة فبعث إليها: حضر عندي إخوان فابعثي إلي بجام لوزينج آكله على ذكرك. فبعثت إليه به. فلما كان من الغد بعث إليها: أرسل لي بطبق مازاورد آكله على ذكرك. فقالت: جعلت فداك، ذكروا أن منبع الحب من القلب، فإذا تناهى بلغ إلى الكبد، وأنا أرى حبك لا يتجاوز معدتك. فقال: إنما فعلت هذا لأقوى على محبتك، ألم تسمعي قول الشاعر:
إذا كان في قلبي طعامٌ ذكرتها ... وإن جعت لم تخطر ببالي ولا فكري
وإن كان هذا العام قد قلّ بقله ... فقبح من يهواك يا ربّة الخدر
ويزداد حبّي إن شبعت تجدّداً ... وإن جعت يوماً لم تكوني على ذكري
ومن مليح ما في هذا الباب أن أبا مسعود الأعمى كان جالساً في صحن داره، فأشرفت عليه جارية ظريفة، فعضت تفاحة ورمت بها في حجره. فتناولها وقال:
أيا تفاحة رمّت ... فؤادي للهوى رمّا
لقد أهداك إنسان ... وأهداك لأمرٍ ما
ليهدي لاعج الشوق ... إلى من عضّ أو شمّا
فلم تكن إلا ساعة حتى وافت جارية لها، معها جام لوزينج وهي تقول: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: قد سمعت شعرك، ورأيتك بدأت بالعض قبل الشم، فعلمت أنك جائع؛ فتبلغ بهذا الجام حتى يدرك طعامنا. قال: وكيف كنت أقول ؟ قالت: كنت تقول:
أيا تفّاحة رضّت ... فؤادي للهوى رضّا
لقد أهداك إنسانٌ ... وأهداك لما يرضى
ليهدي لاعج الشوق ... إلى من شمّ أو عضّا
وكان أحمد بن أبي طاهر قبيح الوجه، وكان له جارية من أحسن النساء، فضحك إليها يوماً فعبست في وجهه، فقال لها: أضحك في وجهك فتعبسين في وجهي ؟ فقالت: نظرت أنت إلى ما سرك فضحكت ونظرت إلى ما ساءني فعبست.
وليس هذا كقول حمرة امرأة عمران بن حطان وكان قبيحاً وكانت جميلة: إني لأرجو أن نكون جميعاً في الجنة. فقال: ولم ؟ قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأعطيت أنا مثلك فصبرت؛ فالصابر والشاكر في الجنة.
وخطبت بعده فلبس بعض ثيابه وخرجت تتمثل بقوله:
تلبس يوماً عرسه من ثيابه ... إذا قيل هذا يا حميرة خاطب
فانصرفوا عنها.
وكان أبو الحسن جحظة البرمكي أطيب الناس غناء، وأحسنهم مجالسة، وأمتهم مؤانسة، وكان قبيح المنظر جداً جاحظ العينين وفيه يقول ابن الرومي:
نبئت جحظ يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
يا رحمتي لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذّة الآذان
وعد بكفن بعد أيام !
قال المدائني: جاء رجل إلى جار له من الأشراف فقال له: جارك فلان توفي ولا كفن له فتأمر له بكفن، فقال: والله الآن ما عندي شيء، ولكن تعاودنا بعد أيام. قال: فنملحه أصلحك الله إلى أن يتيسر الكفن !
دينار يلد
وجدت امرأة أشعب ديناراً فأتته به، فقال: ادفعيه إلي حتى يلد لك في كل أسبوع درهمين، فدفعته إليه، فصار يدفع إليها في كل أسبوع درهمين؛ فلما كان في الأسبوع الرابع طلبته منه، فقال لها: مات في النفاس، فقالت: ويلي عليك ! كيف يموت الدينار ؟ فقال لها: الويل لك على أهلك ! كيف تصدقين بولادته وتنكرين موته في نفاسه.
سقط أحدب في بئر، فذهبت حدبته وصار آدر، فدخل إليه جيرانه يهنئونه، فقال: لا تفعلوا فالذي جاء شر من الأول.
قال ابن خالويه: استعرضت جارية فقلت لها: أبكر أنت أم أيش ؟ قالت: أيش، فاشتريتها.
من نوادر المعزين أيضاً
قال أبو العالية: لما مات سعيد بن مسلم الباهلي قال لي الرشيد: علم فلاناً تعزية يعزي بها ولد سعيد لفتى من بني هاشم. فقلت للفتى: إذا صرت للقوم فقل: عظم الله أجركم، وأحسن عزاءكم، ورحم سعيداً. قال: هذا طويل. فقلت فقل: أعظم الله أجركم، وختم بالصبر على قلوبكم. قال: هذا أطول من ذاك. قال فقلت: أعظم الله أجركم وكررته عليه يومين، فلما كان اليوم الثالث ركب وركبنا معه، فلما قرب من باب القوم خرجوا إليه حفاةً إعظاماً له، فلما رآهم قال: ما فعل سعيد ؟ قالوا: مات، قال: جيد وما أظن ذلك، فإيش عملتم به ؟ قالوا: دفناه. قال: أحسنتم. ثم انصرف.
(1/74)
لما مات سليمان بن وهب لقي الناس عبيد الله بن سليمان يعزونه، فأتاه بعض أولاد الأشراف؛ فقال: مات سليمان ؟ قال: نعم ! وقال: ومات أبو علي قبله ؟ قال: نعم ! قال: ومات أبوهما ؟ قال: نعم ! قال: هذا كما قال الله تعالى: " وإنْ منكم إلا وارِدُها كان على ربك حَتْماً مقضيّاً " ؛ " فأوردهم النار " ، " وبئس القَرار " .
بنو وهب من الظرفاء والكتاب
وبنو وهب من ظرفاء الكتاب وأدبائهم، ولهم الرسائل الحسان، والشعر الجيد، وفيهم يقول أبو تمام:
كلّ شعب كنتم به آل وهبٍ ... فهو شعبي وشعب كلّ أديب
إنّ قلبي لكم كالكبد الحر ... رى وقلبي لغيركم كالقلوب
وكان الحسن بن وهب يهوى بنان جارية ابن حماد، وكان من ظريف أخباره معها: أن الواثق تقدم إلى إيتاخ باتخاذ حلتين من رفيع الوشي على صفة دفعها إليه وأمره بتعجيلهما؛ فتقدم إيتاخ في ذلك إلى سليمان بن وبه كاتبه، فجد في الحلتين حتى فرغ منهما الصانع وأحضرتا، فعرضتا على الواثق فاستحسنهما وأمر بقطعهما، فتشاغل عن قطعهما، وسأل أخاه الحسن بالنيابة عنه في ذلك، فقطع الحسن منهما قميصاً لبنان وانصرف إلى منزله فأحضرها وخلعه عليها وجلس يشرب معها. واتصل الخبر بسليمان، فقامت عليه القيامة وأمر بإحضار الوشائين وطلب شكلاً لهما فتعذر عليه، فابتاع حلةً تقاربهما بخمسة آلاف درهم وصدق إيتاخ عن خبره، فطلبهما الواثق فدافعه إيتاخ بهما، وتعلل عليه إلى أن فرغ الخياطون من الحلة التي ابتاعها سليمان بن وهب، وأحضرت للواثق، فلما لبسها أنكرها، ودعا إيتاخ فسأله عن السبب فصدقه، فضحك ضحكاً كثيراً، ودعا خادماً فأمره بإحضار الحس وبنان على الصورة التي يجدهما عليها، فأحضرهما في قبة، فلما رآهما الواثق قال للحسن: ويلك تأخذ ثوبي تقطعه لهذي بغير أمري؛ قال: أنت يا أمير المؤمنين تقدر على مثله، وأنا لا أقدر عليه، وأنا والله أحبها وأعجبني الثوب فتقربت منها به. فضحك ووصله وصرفهما.
وفيها يقول الحسن:
أقول وقد حاولت تقبيل كفّها ... وبي رعدةٌ أهتّزّ منها وأسكن
ليهنئك أني أشجع الناس كلّهم ... لدى الحرب إلاّ أنني عنك أجبن
وحضرت عنده يوماً وقرب منها ناراً فتأذت منها؛ فقال الحسن:
بأبي كرهت النار حتى أُبعدت ... فعلمت ما معناك في إبعادها
هي ضرّةٌ لك في التماع بهائها ... وهبوب نفحتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها ... بسيالها وأراكها وعرادها
شركتك في كل الأمور بفعلها ... وضيائها وصلاحها وفسادها
قال أبو فراس: قال لي عبيد الله بن سليمان بن وهب وهو وزير: أنشدني مما تحفظه من شعر عمي أبي علي فأنشدته:
بنفسي وأهلي ساحر الطرف فاتره ... محكّمة أجفانه ومحاجره
فقال عبيد الله: لقد كان رحمه الله كثيراً ما يضع خده على خدي وأنا غلام وينشد هذا الشعر ويبكي. فقلت: يا سيدي، كان يتعشقها ليقول شعراً. ومن طبع كلامه قوله: شربت البارحة على وجه الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما أفقت حتى لفحني قميص الشمس.
تضمين أبيات مالك بن الريب
وأنشدونا في تضمين أبيات مالك بن الريب المازني في قصيدته:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بذات الغضا أُزجي القلاص النواجيا
وسمعت من ينشدها لابن الرومي وأخلق بها أن تكون له:
تعرّض لي بعد القطيعة مالكي ... وأظهر فضلاً بعد ما كان جافيا
وقد كدّر الإنبات ماء شبابه ... فأصبح رنقاً بعد ما كان صافيا
فقلت له جرّعت بالشعر نسوة ... فقال أجل كلّ العيال رثى ليا
فمنهن أختي وابنتاها وخالتي ... وباكية أخرى تهيج البواكيا
فبينا يعاطيني الكلام بدا له ... حريفان عن بعدٍ فصاح مناديا
خذاني فجرّاني بدمعي إليكما ... فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا
معاوية بن مروان وحمار الرحى
(1/75)
كان معاوية بن مروان أخو عبد الملك بن مروان مغفلاً؛ فبينا هو واقف بباب دمشق ينتظر عبد الملك على باب طحان إذ نظر إلى حمار يدور بالرحى، وفي عنقه جلجل. فقال للطحان: لم جعلت في عنق الحمار جلجلاً. قال: لربما أدركتني سآمة أو نعسة، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت بأنه قد قام فصحت به. فقال له معاوية: أرأيت إن قام ومال برأسه هكذا وهكذا وحرك رأسه ما علمك أنه قائم ؟ فقال الطحان: ومن لحماري بمثل عقل الأمير أعزه الله تعالى !
في مرض الجاحظ
قال بعض البرامكة: كنت بالسند، فاتصل بي أني صرفت عنها، وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار؛ فخفت أن يجفوني الصارف ويسعى إليه بالمال، فصغته عشرة آلاف إهليلجة، كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل، وجعلتها في حمل إهليلج، ولم أبعد أن جاء الصارف، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة؛ فأخبرت أن بها الجاحظ وأنه عليل؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته؛ فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف؛ فقرعته، فخرجت إلي جارية صفراء، فقالت: من أنت ؟ قلت: شيخ غريب؛ أحب أن أدخل إلى الشيخ فأسر بالنظر إليه؛ فأدت الجارية ما قلت، وكانت المسافة قريبةً لقصر الدهليز والحجرة؛ فسمعته يقول: ما يصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل ؟ فأخبرتني، فقلت: لا بد من الوصول إليه. فقال: هذا رجل اجتاز بالبصرة، فسمع بي وبعلتي، فقال: أراه قبل موته لأقول قد رأيت الجاحظ.
فدخلت فسلمت، فرد رداً جميلاً، واستدناني وقال: من تكون أعزك الله ؟ فانتسبت إليه، فقال: رحم الله آباءك وقومك السمحاء الأجواد، الفصحاء الأمجاد، فلقد كانت أيامهم روض الأزمنة، ولقد انجبر بهم قوم كثير، فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت: أنا أسأل الشيخ أن ينشدني شيئاً من ألذ الشعر أذكره به، فأنشدني:
لئن قدّمت قبلي رجالٌ لطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدّما
ولكن رأيت الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنفض مبرما
ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز صاح بي: يا فتى، أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج ؟ قلت: لا ! قال: أنا ينفعني الإهليلج الذي معك فأهد لنا منه. فقلت: السمع والطاعة. وخرجت مفرط التعجب من وقوفه على خبري حتى كأن بعض أحبابي كاتبه بحالي وقت أن صغته، فأنفذت إليه مائة إهليلجة.
وهذا يدل على كثرة بحثه وتنقيره؛ إذ كان وهو في هذه السن العالية والفالج الشديد تنشر عنده الأخبار، ولا تطوى عنه الأسرار، فكيف كان قبل هذا ؟ ومن إحدى عجائبه أنه ألف كتاب الحيوان وهو على تلك الحال.
وقيل لأبي العيناء: ليت شعري؛ أي شيء كان الجاحظ يحسن ؟ فقال: ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن ؟ وفيه يقول الشاعر:
ولقد رأيت العلم يو ... ماً ما حواه اللاّفظ
حتى أقام طريقه ... عمرو بن بحر الجاحظ
وأتى أبو العيناء الجاحظ يسأله في رجل أن يكتب له كتاب عناية إلى صاحب البصرة. فقال: نعم ! لا تنصرف إلا به، وكتب له الجاحظ الكتاب وختمه ودفعه إليه، فأتى إلى أبي العيناء بالكتاب؛ فقال: افضضه واقرأه علي؛ لأرى ما كتب وأعيده إليه ليختمه، ففتحه فإذا فيه: كتابي إليك سألني فيه من أخافه لمن لا أعرفهن فافعل في أمره ما تراه، والسلام. فغضب ونهض إلى الجاحظ، فقال: أعرفك باعتنائي بهذا الرجل فكتبت له مثل هذا ! فقال: لا تنكر ذلك فإنها أمارة بيني وبينه إذا عنيت برجل. فقال: بل أنت ولد زنا لم تك قط لرشدة. قال: أتشتمني ؟ قال: لا، إنها أمارة لي عند الثناء على إنسان.
ومن نوادر المتنبئين
ادعى رجل النبوة في زمن المهدي وأدخل عليه. فقال: أنت نبي ؟ قال: نعم ! قال: إلى من بعثت. قال: أوتركتموني أن أبعث إلى أحد ؟ بعثت بالغداة وحبست بالعشي. فقال: صدقت، أعجلناك ! وضحك منه ووصله وأطلقه.
طمع أشعب
قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك ؟ قال: ما رأيت عروساً تزف إلا وظننتها لي، ولا رأيت جنازة إلا وظننت أن صاحبها أوصى لي بشيء. ولقد أطاف بي مرة صبيان فنادوا: يا أشعب ! يا أشعب ! فأضجروني، فدفعتهم عني بأن قلت لهم: دار فلان تهب، فبادروا. فلما ولوا ظننت أني صادق، فتبعتهم.
من نوادر الولاة
(1/76)
قال الشافعي: رأيت بالعراق أربعة أشياء لم أر مثلها؛ رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيت قلنسوة قاض وسعت ثمانية نوى، ورأيت شيخاً ابن نيف وتسعين سنة يمشي على القيان يعلمهن الغناء وضرب العود، وإذا صلى صلى قاعداً، ورأيت والياً سأل بعض من يلم به: لم لا يجتمع الناس على بابي ؟ فقال: لأنك عدل لا تضرب أحداً؛ فوجه إلى إمام مسجد الجامع، فأمر بضربه بالسياط؛ فاجتمع الناس على بابه وأقبلوا يتزاحمون، والرجل يقول: ما ذنبي، أيها الأمير؟ والأمير يقول له: جملني بنفسك قليلاً يا شيخ.
وولى الحجاج أعرابياً على تبالة فجمع أهلها وقال: إن الأمير أوصاني عليكم؛ ووالله لا أحسن أن أقضي بين خصمين مرتين، وواله لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا وضربته حتى أقتله، فتناصف الناس بينهم.
من ملح أبي الأسود
قال المدائني: كان لأبي الأسود الدؤلي دكان إلى صدر الرجل يجلس فيه وحده، ويضع بين يديه مائدة ويدعو إليها كل من يمر به، وليس لأحد أن يجلس؛ فينصرفون عنه.
وكان أبخل الناس، فمر به صبي من الأنصار؛ فقال له أبو الأسود: هلم إلى الغداء يا فتى؛ فأتى إليه، فلم ير موضعاً يجلس فيه، فتناول المائدة فوضعها في الأرض ثم قال: يا أبا الأسود، إن كان لك في الغداء حاجة فانزل؛ وأقبل الفتى يأكل حتى أتى على جميع ما في المائدة، وسقطت آخر الطعام من يده لقمة على الأرض فأخذها وقال: لا أدعها للشيطان. فقال أبو الأسود: والله ما تدعها للملائكة المقربين، فكيف تدعها للشياطين ! ثم قال له: ما اسمك ؟ قال: لقمان. فقال أبو الأسود: أهلك كانوا أعلم زمانهم إذ سموك بهذا الاسم، ولم يعد بعد إلى ما كان يصنع.
واسم أبي الأسود ظالم بن عمرو من بني الدئل من كنانة، وكان قد أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسافر إلى البصرة على عهد عمر رضي الله عنه، واستعمله علي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة وكان شيعياً، وهو أول من وضع العربية وهو القائل:
أمنت على السرّ امرءاً غير حازم ... ولكنه في الودّ غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار آذنت بثقوب
وما كلّ ذي لبٍ بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب
ولكن متى ما جمعا عند واحدٍ ... فحقّ له من طاعة بنصيب
وكان مجاوراً لبني قشير وهم عثمانية وكانوا يرجمونه، فإذا أصبح شكاهم؛ فيقولون: ما نحن رجمناك، الله تعالى رجمك. فيقول: كذبتم يا فعلاء، أنتم ترمون فتخطئون ولو كان الله رماني ما أخطأني؛ ثم باع داره وانتقل عنهم. فقيل له: أبعت دارك ؟ فقال: بل بعت جاري، وفيهم يقول:
يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر ما تنسى عليّا
أحب محمداً حبّاً شديداً ... وعبّاساً وحمزة والوصيّا
فإن يك حبّهم رشداً أصبه ... ولست بمخطىءٍ إن كان غيّا
فقالوا له: أشككت ؟ فقال: مما شك الله تعالى إذ يقول: " وإنا أو إياكم لعلى هُدَّى أو في ضلالٍ مبين " .
وقال عمر بن شبة: لما وقعت الفتنة أيام ابن الزبير بالبصرة مر أبو الأسود على مجلس ابن قشير، فقال: على ماذا أجمع أمركم في هذه الفتنة ؟ قالوا: لم تسألنا يا أبا الأسود ؟ قال: لأخالفكم، فإن الله لم يجمعكم على حق.
وأنشد ابن شبة في هذا المعنى لبعض المحدثين:
إذا أشبه الأمران يوماً وأشكلا ... عليّ فلم أعرف صواباً ولم أدر
سألت أبا بكر خليل محمّدٍ ... فقلت له ما تستحبّ من الأمر ؟
فإن قال قولاً قلت شيئاً خلافه ... لأنّ خلاف الحقّ قول أبي بكر
رسالة أبي العيناء في أحمد بن الخصيب
ومن هنا أخذ أبو العيناء قوله في أحمد بن الخصيب: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب يطلبها.
(1/77)
وهذا مما يقرأه أبو العيناء في كلام طويل عمله على ألسنة القواد والكتاب والرؤساء وغيرهم لما نكب أحمد. فقال: قال محمد بن عبد الله بن طاهر: غدر بمن آثرهن وتخطى ما لا يقدره، فحل به ما يحذره. وقال ابن طالون: تكبر وتجبر ودبر فدمر. وقال موسى بن بغا الكبير: لولا أن القدر يغشى البصر لما نهى ابن الخصيب فينا ولا أمر. وقال فارس بن بغا: لم تتم له نعمة، لأنه لم تكن له في الخير همة. وقال سليمان بن يحيى بن معاذ: كان يأمر ولا يأتمر، وينهى ولا يزدجر، ويعبر ولا يعتبر. وقال جعفر أبو عبد الواحد: أحسن حسناته سيئة وأصغر سيئاته كبيرة.
(1/78)
وقال مروان بن عيسى بن جعفر الهاشمي: كانت دولته دولة المجانين، خرجت من الدنيا والدين. وقال أبو عبد الله محمد بن زبيدة: بعد من الشرف؛ فتحامل عليه؛ وقرب من ضده فمال إليه. وقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: كان إذا دنوت منه غرك، وإذا بعدت عنه ضرك. وقال داود بن إسحاق بن محمد بن العباس: ما أحسن قط إلا أخطأ، ولا أصاب إلا تعدى. وقال ابن أيوب: نعمته أعجب من نكبته. وقال ميمون بن إبراهيم: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب أن يطلبها. وقال الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي: كان يحسد المحسنين ويجتنب أفعالهم، ويذم المسيئين ويعمل أعمالهم. وقال عيسى بن فرخان شاه: أعقل منه مجنون، وأجن منه لا يكون. وقال برد الخيار: ما كان أقرب وليه مما يكره وعدوه مما يحب ! وقال ابن حمدون: لئن منحته القدرة لقد حملته النكبة. وقال أحمد بن أبي الأصبغ: ما علمت أن خدمة الشياطين أيسر من خدمة المجانين؛ كان غضبه إذا أطعناه أكثر من غضبه إذا عصيناه. وقال إبراهيم بن رباح: كان لا يفهم ولا يفهم، وينقض ما يبرم. وقال سعيد بن حميد: كان يخافه الناصح ويأمنه الغاش، ولا يبالي أن يراه الله مسيئاً. وقال جعفر بن الفضل الجرجرائي: ما زال يستوحش من النعمة حتى أنس بالنقمة. وقال إبراهيم بن الجراح: كان إذا أحسن اعتذر، وإذا أساء امتن. وقال محمد بن مجمع: مجامعه ردية وأوانيه دنية، ضاعت بينهما الرعية. وقال عبد الله بن منصور: كنت أرثي للسلطان في قربه، كما أرثي للأمة من ظلمه. وقال إبراهيم بن المدبر: لئن كان حكمه بالخطإ نافذاً، لقد اصبح الحكم فيه بالصواب ماضياً. وقال عطية الكاتب: قد عرف غب ما صنع وما حصد إلا ما زرع. وقال سلمة بن سعيد: عرف نصيحتي فعاداني واجتهادي فنافاني. وقال ابن فراشة: كنت إذا نصحته زناني، وإذا أخشنته مناني. وقال محمد بن داود التستري: كان لا يرى درهماً في يد سواه إلا حسبه حقاً له تخطاه. وقال أيوب بن سليمان: كان لا يعلم ولا يتعلم ويستصغر من يتعلم. وقال يعقوب بن أحمد: كان وليه على وجل وعدوه على أمل. وقال ابن ثوابة الكاتب: أساء عشرة الأحرار فأصبح مقفر الديار. وقال عريب: لم يجاور النعمة بالشكر فحل به ما استحقه بالكفر. وقال شاربه: ما أنور بفقده الأيام وأسر بهلاكه الإسلام ! وقال محمد بن الزيات: قال المعتصم: لسان بذيء وخلق رديء وطبع مسيء. وقال سعيد بن هارون: لقد رحم الله عباده إذ طهر منه بلاده. وقال سليمان بن بشار: اشتد طغيانه فبعدت أوطانه. وقال ميمون بن هارون: كتب الله له البلاء صراحاً فأنبت له كالنملة جناحاً. وقال سليمان بن وهب: كان سفلة المحضر، سيىء المنظر، رديء المخبر. وقال حجاج بن هارون: والله ما كان له في الشرف أسباب متان، ولا في الخير عادات حسان. وقال بعض الندماء: ما رأيته سمى على طعام قط، ولا استثنى في يمين، ولا حمد الله على نعمة. وقال تمام بن كثير الهاشمي نديم المتوكل من ولد الحارث بن العباس: كان البذاء عنده عادة، والسخف مروءة، وقذف المحصنات فرض. وقال سعيد الصغير: حمل حتفه بكفه ورمى نفسه بسهمه. وقال صالح الحريري: لا يسعى إليه حر وإن مسه الضر. وقال إسحاق بن صالح بن مرشد: تعرض لسخط الله فأصبح في لعنة الله. وقال أبو الفرج بن نجاح: ما سمعته قط إلا زارياً على الزمان، عاتباً على الإخوان، آمناً من الحدثان. وقال محمد بن نصر بن منصور بن بسام: صار سلطان البغي إليه فحلت دائرة السوء عليه. وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي: جهله عامر الغفلة، وسفهه قاهر الحملة. وقال إبراهيم بن سعيد: إن من عجائب الدهر أن يكون له في الأمة نهي أو أمر. وقال نمرة الرائض: لو كان ابن الخصيب دابة لكدح بلجامه، وتقاعس في عنانه، وحرن في ميدانه. وقال ابن مزينة: كنت إذا وقع شعره على صدري أحسست النقصان في عقلي. وقال أبو عبد الله الصفار: ما أكثر خطإ ابن الخصيب، وأحوجه إلى ما نحن فيه حتى يصيب. وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب وهو أطول من هذا.
الكلمات التي قيلت بعد وفاة الإسكندر
وهذا ضد هذه الكلمات التي قيلت بعد وفاة الإسكندر نبه بها حكماء زمانه، اخترت منها هنا قطعة:
(1/79)
لما جعل في تابوت ذهب تقدم إليه أحدهم فقال: كان الإسكندر يخبأ الذهب فقد صار الذهب الآن يخبؤه. وقال الآخر: انظر إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى. ودخل عليه آخر فقال: قد أمات هذا الميت كثيراً من الناس لئلا يموت، وقد مات الآن. وتقدم آخر فقال: ما لك لا تقل عضواً من أعضائك، وقد كنت تستقل بملك العباد. ودخل آخر فقال: ما لك لا ترغب بنفسك عن الجحر الضيق، وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد ! ودخل آخر فقال: كان لا يقدر عنده على الكلام، فالآن لا يقدر عنده على السكوت. وقال آخر: كان غالباً فصار مغلوباً، وآكلاً فصار مأكولاً. وقال آخر: ما كان أقبح إفراطك في التجبر أمس مع شدة خضوعك اليوم. وقالت بنت دارا بن دارا: ما ظننت غالب أبي يغلب. وقال رئيس الطباخين: نضدت النضائد، وألقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد القوم. وقال آخر: حركنا الملك يسكونه. وقال آخر: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس.
أخذ قوله: حركنا بسكونه أبو إسحاق بن القاسم أبو العتاهية، فقال:
يا عليّ بن ثابت بان منّي ... صاحبٌ جلّ قدره يوم بنتا
قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحرّكتني لها وسكنتا
وأخذ قوله الآخر فقال:
كفى حزناً بموتك ثمّ إني ... نفضت تراب قبرك عن يديّا
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
أحمد بن الخصيب وبعض أخباره
وكان أحمد بن الخصيب القائم بأمر المنتصر بعد قتله أباه المتوكل واستيلائه على الخلافة، فلما مات المنتصر أقره المستعين أحمد بن المعتصم على ما كان، ولم يطل عمر المنتصر بعد أبيه.
ومن عجائب الاتفاقات ما حكاه بعض أصحاب التواريخ: أن المنتصر لما أصبح في الخلافة وجلس للبيعة، فرش في الدار بساط جليل كسروي، فوقف أحد رجال المنتصر على بعض صنائعه، وقد نظر إلى دارة فيها صورة رجل ميت مسجى على سريره، وقدامه ملك منتصب على سرير الملك، على رأسه التاج، والمرازبة قيام بين يديه، وعلى رأسه سطور بالفارسية؛ فلما نظر الرجل إلى الصورة وقرأ ما عليها دمعت عيناه، فدعا به وقال له: ما هذا الذي تنظر إليه ؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: فلم بكيت ؟ قال: طرفت عيني بثوبي. قال: لا بد من الصدق عما رأيت. قال: وقعت عيني يا أمير المؤمنين على هذه الصورة، فبقيت أعجب من حسن تصويرها، ثم قرأت ما عليها مكتوب فإذا هو: هذه صورة شيرويه بن كسرى قتل أباه فلم يعش بعده إلا تسعة شهور.
فانخذل المنتصر ووجم، ولم يعش إلا هذا القدر، فأقام أحمد بن الخصيب مع المستعين على ما كان عليه. وكانت حال أوتامش التركي قد توافت في أيام المستعين فاستخف به ابن الخصيب، وجاءه بعض كتابه فأسمعه ما كره فجاء إلى صاحبه فعرفه ما جرى، فكرب إلى المستعين، فحمله إلى مكروهه، فأمر بهدم داره واستصفاء أمواله وبعثه إلى أقريطش.
وكان ابن الخصيب غبياً جاهلاً. قال إبراهيم بن المدبر: كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه، فقلت: أراك راغباً في الهليون، فقال: بلغني أنه يزيد في السهاد، ويؤيد في الباه، ثم جلسنا للشرب فغنت بعض القيان:
إنّ العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق اللّه أركانا
فقال: هذا الشعر لأبي. فقلت: قاتل الله جريراً ما كان أسرقه لشعر أبيك ! وماتت له بنية، فخرج إلى جلسائه يعصر عينيه، وقال: قد قلت في هذه الصبية:
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال له بعض جلسائه: أعز الله الوزير هذا مشهور في شعر جرير. فقال: لعله وافقه.
(1/80)
وكان كاتب أوتامش شجاع بن القاسم، وابن الخصيب عنده سحبان وائل، وكان شجاع أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم، وإنما علم علامات يكتبها في التواقيع. قال الحسن بن مخلد: وصفني محمد بن عبد الله بن طاهر للمستعين وسأله أن يدخلني في جملة من ينادمه؛ فدعاني لمنادمته يوماً، فإنا لقعود بين يديه ومعنا أوتامش إذ دخل شجاع بن القاسم ومعه شيء يريد عرضهن فنظرت إليه، وقد أخرج سراويله من خفه، ووقع على قدميه، ودخل تحت عقبه من إحدى رجليه وهو يسحبه ويدوسه، فغمزت محمد بن عبد الله فضحك، ورأى المستعين ذلك؛ فسأله عن سبب ضحكه فدافعه. فقال له: بحياتي. فقال له: سل الحسن يا سيدي، فنظر إلي وقال: هيه يا حسن !! فأومأت إلى سراويل شجاع؛ فضحك حتى استلقى، وقال: ويلك يا شجاع !! ما هذا؟ قال: الساعة يا سيدي داسني كلب فخزقت سراويله وثيابه، فازداد ضحك المستعين وأهل المجلس، وضجر أوتامش من ضحكهم بكاتبه.
وسأل شجاعاً بعض الهاشميين حاجة؛ فقال لهم: ليس الأمر فيها إلي وهو للأمير يعني أوتامش وهو يجلس أول من أمس يعني بعد غد.
وكانت جميع أتباع شجاع تخاليط، وجملة كلامه أغاليط.
قال ابن عمار: عملت شعراً رائجياً لا معنى له، وواقفت سعيد بن عبيد على أن يروي الشعر رجلاً من الهاشميين، وكان لنا صديقاً، وكان جلداً شهماً، على أن ينشده شجاع بن القاسم ويعرفه أنه مدح له، وضمنا له على ذلك ألف درهم. والشعر:
شجاعٌ لجاعٌ كاتبٌ لاتبٌ معاً ... كجلمود صخر حطّه السيل من عل
خبيصٌ لبيصٌ مستمرٌ مقوّم ... كثيرٌ أثيرٌ ذو شمال مهذّب
بليغٌ لبيغٌ كلّما شئت قلته ... فإن كنت مسكاتاً عن القول فاسكت
فطينٌ لطينٌ آمرٌ لك زاجرٌ ... حصيفٌ لصيفٌ كل ذلك يعلم
أريب لبيب فيه فهم وعفّة ... عليم بشعر حين أنشد يشهد
كريم حليم قابض متباسط ... إذا جئته يوماً إلى البذل يسمح
فوقف إليه. وقال: أيها الوزير؛ ليس العشر من صناعتي، ولكنك أحسنت إلي وإلى أهلي بما أوجب شكرك، فتكلفت أبياتاً مدحتك فيها، فتفضل بسماعها. فقال: قد أغناك شرفك وحالك عن الشعر. فقال: لا بد أن يتفضل الأمير بسماعها، فأنشد الأبيات فشكره عليها وسر بها سروراً زائداً؛ ودخل إلى المستعين فأخرج له صلة عشرة آلاف درهم، وأجرى له ألف درهم في كل شهر. فقال لهما الطالبي: أنتما أوصلتما ذلك إلي، والله لا أخذت منكما شيئاً، ولولا اتساعكما لوصلتكما بما وصلت به.
وقدم إليه شاعر محسن فقال له: قد سبق إلي من الوزير وعد وتلاه شكر، والوزير حقيق بإنجاز وعده وقبول شكري وأنشده:
أبو حسن يزيد الملك حسناً ... ويصدق في المواعد والمقال
جبانٌ عن مذمّة آمليه ... جريءٌ في العطّية والنّوال
أجلّ اللّه في سرٍّ وجهرٍ ... فأعطاه المهابة بالجلال
فقال له: وما يدريك أني جبان ! ولم يفهم معناه. فقال. أعزك الله، إنما قلت إنك تجبن عن البخل ولا تبخل بشيء، وإلا فأنت شجاع كاسمك. فقال: ما أعطيك على هذا الشعر شيئاً، ولكن على ميلك وشكرك، ووقع له بألف دينار، ولو فهم ما قال لجعل مكان الألف ألوفاً.
وفي المستعين يقول البحتري من قصيدة طويلة:
وما لحية القصّار حين تنفّشت ... بجالبة خيراً على من يناسبه
يجوز ابن جلاّد على الشعر عنده ... ويغدو شجاعٌ وهو للجهل كاتبه
الحسين بن مخلد لم يكن كاتباً ولا منادماً
وكان الحسن بن مخلد مضطلعاً بأمر الدواوين عالماً بالدخل والخرج، ولم تكن له صناعة في الكتابة ولا استحقاق للمنادمة.
قال أبو الفضل أحمد بن سليمان: جمعني والحسن بن مخلد مجلس فيه أبي، فسألني عن سني فأخبرته وأخبرني عن سنه، فرأيته أكبر مني بعشر سنين. فقلت له: قال لي الزبير بن بكار: كانت العرب تقول العشرة بين المشايخ لدة. فغضب وظن أني قد شتمته، والتفت إلى أبي فقال: يا أبا أيوب، ليس كل من علم شيئاً من العربية يطلق لسانه في الناس بالشتم. فقال له أبي: إنه لم يرد مكروهاً، وإنما أراد التقرب منك، ومعنى لدة ترب؛ فلم يسكن إلى أن افترقنا.
من نوادر أبي الحارث
(1/81)
سقط أبو الحارث حمير من سطح؛ فقيل له: أكان السطح مرتفعاً ؟ قال: لا تسأل عن شيء ؟ استطبت برد الهواء قبل الوصول إلى الأرض.
وقال رجل: أشتهي أن أرى خلفي. فجاءه أبو الحارث بمرآة فجعلها تلقاء وجهه.
وتشهى قوم ضروباً من الطعام. فقالوا: ما تشتهي يا أبا الحارث ؟ فقال: الوفاء بهذا.
وأكل يوماً مع قوم رؤوساً، فتبادروا إلى الأعين ليقتلعوها فتنحى ناحية. فقالوا: مالك ؟ قال: ظننتكم ناساً فإذا أنتم نسور.
وجلس يتغدى مع الرشيد وعيسى بن جعفر فأتي بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث رغيفه قبلهما. وقال: يا غلام، فرسي ! ففزع الرشيد وقال: ويلك ! مالك ؟ قال: أريد أن أركب إلى ذلك الرغيف الذي بين يديك، فضحك الرشيد وأمر له بجائزة.
ومال أبو الحارث على زفر بن الحارث وعنده جوار يغنين وأبو الحارث جائع. فقال: اسقوا أبا الحارث وغنينه ما يقترح. فقال: بحياتي غنين:
خليليّ داويتما ظاهراً ... فمن ذا يداوي باطنا
فقال زفر: غنين:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل اللّه لا يخيب
ونظر أبو الحارث إلى برذون يستسقى عليه الماء فقال:
وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
لو أن هذا البرذون هملج لما فعل به هذا.
ونصب مع رفقاء له قدراً وجعل فيها لحماً. فلما تلهوجت نشل بعضهم قطعةً وقال: تحتاج إلى ملح، ونشل آخر قطعة وقال: تحتاج إلى أبزار، ونشل آخر قطعة وقال: تحتاج إلى بصل، فرفع أبو الحارث القدر وقال: والله تحتاج هذه القدر إلى لحم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق