الأحد، 6 مارس 2016

قراءة كتاب جمع الجواهر في المُلَح والنوادر 5 - أبي أسحاق إبراهيم الحصري القيرواني

قراءة كتاب جمع الجواهر في المُلَح والنوادر 5

أبي أسحاق إبراهيم الحصري القيرواني 

بدن بلا رأس

وأخذ رجل من لحية مديني شيئاً، فانتظر أن يقول له: قطع الله عنك القذى، فقال له: لم لم تقل لي قلع الله عنك الأسواء ؟ قال المديني: بأبي أنت وأمي ! إني نظرت فلم أر شيئاً أقبح من وجهك، فكرهت أن أقول: قلع الله عنك الأسواء؛ فأكون قد دعوت عليك فيتركك الله بدناً بلا رأس.
قال أبو العيناء: استودع رجل عند إمام حلته قارورة زنبق فجحده إياها، وقام يصلي بهم شهر رمضان وقرأ: " قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون " وكررها. فقال الرجل: قارورة زنبق.
المهدي ينفرد من عسكره
انفرد المهدي من عسكره فاجتاز برجل على ماء، فقال: ألك طعام ؟ قال: نعم ! وقدم إليه سفرة كانت معه، فأكل المهدي ثم غسل يده. فقال له الرجل: أصلحك الله ! معي شراب فهل لك فيه؟ قال: نعم ! فشرب، فلما انتشى قال للرجل: أتعرفني ؟ قال: لا. قال: أنا صديق لوزير أمير المؤمنين، وسأسأله في أن يسبب لك أسباباً تنتفع بها؛ ثم شرب قدحاً ثانياً، وقال: أتعرفني من أنا؟ فقال: لقد قلت إنك صديق لوزير أمير المؤمنين. فقال: أنا وزير أمير المؤمنين. ثم شرب ثالثاً. وقال: أتدري من أنا ؟ فقال: قل لكي أرى. قال: أنا أمير المؤمنين. فسد الرجل ركوته ونحاها ناحيةً، فقال له المهدي: ما لك عجلت برفعها ؟ قال: شربت ثلاثة أقداح فادعيت الخلافة؛ فإن شربت الرابعة ادعيت النبوة، فليس بيني وبينك عمل. فضحك المهدي وأدركته الخيل فجعلوا يترجلون ويسلمون عليه بالخلافة، ثم ركب المهدي وأمرهم بالتحفظ على الرجل؛ فلما تيقن الرجل الأمر سألهم أن يقربوه من أمير المؤمنين، فقربوه منه. فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، فأدناه، فقال: ما رأيت أصدق منك في دعواك، وغن ادعيت الرابعة، فأنا أول مؤمن بك. فضحك المهدي منه وأمر له بصلة وضمه إلى ندمائه.
من شعر إسماعيل بن جامع
قال سفيان بن عيينة وقد رأى إسماعيل بن جامع السهمي وعليه بزة وأثواب حسان؛ فقال: لقد أثرى هذا الفتى، فعلام يحيا ويعطى ؟ قالوا: إنه يغني هؤلاء الملوك، قال: بماذا يغنيهم ؟ أتحفظون شيئاً مما يقول ؟ فأنشده بعضهم:
أطوف نهاري مع الطائفين ... وأرفع من مئزري المسبل
قال: أحسن، ثم ماذا ؟ فأنشدوه:
وأسجد بالليل حتى الصّباح ... وأتلو من المحكم المنزل
قال: أجاد والله. ثم ماذا ؟ فأنشدوه:
عسى فارج الكرب عن يوسفٍ ... يسخّر لي ربّة المحمل
فقال: آه آه آه ! أمسك عليك، اللهم لا تسخرها له.
ابن جامع أطيب الناس غناء
وكان ابن جامع أطيب الناس غناءً، فاعتقد بغنائه عقداً نفيسة، وأموالاً جزيلة. حكى عن نفسه قال: ضمني الدهر ضماً شديداً وأنا بمكة، فانتقلت بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً وما أملك إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، وأنا جالس مع بعض أهل المدينة على مناقشة ومذاكرة إذ قال بعضنا: إنه ليبلغنا أن الرشيد يتشوق إليك وأنت ضائع في بلدنا. قال: فما لي من نهوض. قالوا: نحن ننهضك. فقمت مولياً فإذا بجارية حميراء على رأسها جرة تريد الركي، وهي تسعى بين يدي وتترنم بصوت شج في غنائها وتقول:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقال لنا ما أقصر اللّيل عندنا
إذا أقبل الليل المضرّ بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
وذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا
(1/47)



فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فأخذ غناؤها بمجامع قلبي، ولم أدرك منه حرفاً. فقلت: يا جارية؛ ما أدري أوجهك أحسن أم صوتك ؟ فلو شئت أعدت علي الوصف. قالت: حباً وكرامة. ثم أسندت ظهرها إلى الحائط ثم غنته، فوالله ما دار لي منه حرف. فقلت: يا جارية؛ فلو شئت أعدت علي الصوت مرة أخرى. قالت: حباً وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى الجدار ووضعت الجرة ثم غنته؛ فوالله ما دار لي منه حرف. فقلت: يا جارية؛ لقد أحسنت وتفضلت، فلو شئت أعدت الصوت مرة أخرى؛ فغضبت وكلحت وقالت: ما أعجب أحدكم يأتي إلى الجارية عليها غلة فيقول: أعيدي علي، فضربت بيدي إلى الثلاثة دراهم فدفعتها إليها فأخذتها شبيهة المتكرهة؛ وقالت: أنت تريد أن تأخذ مني صوتاً أحسبك تأخذ عليه ألف دينار وألف دينار وألف دينار. فقلت: أرجو أن يؤول الأمر إلى ما تحسبين، فانبعثت تغني، وأعملت فكري في غنائها حتى داري لي الصوت وفهمته، فانصرفت مسروراً إلى منزلي أردده حتى خلف على لساني، ثم أقبلت أريد بغداد، فنزل بي المكاري على باب المحول أولاً ولا أدري أين أتوجه، ولا من أقصد ؟ حتى انتهى بي السير إلى الجسر، فرأيت الناس يعبرون؛ فعبرت معهم، حتى انتهيت إلى شارع الميدان، إلى باب الفضل بن الربيع. فرأيت هناك مسجداً مرتفعاً. فقلت: هذا مسجد قوم سراة، وحضر المغرب فلم ألبث أن جاء المؤذن، فأذن وأقام الصلاة فصليت، ثم أقمت مكاني حتى عاد المؤذن للعشاء، فأقام الصلاة فصليت على تعب وجوع، ثم انصرف الناس وبقي في المسجد رجل، فصلى خلفه جماعة، وجماعة من الخدم جلوس، وقوم ينتظرون فراغه، فصلى ملياً ثم انصرف إلي بجمع جسده، وقال لي: أحسبك غريباً. قلت: أجل، وليس لي بهذا البلد معرفة، وليست صناعتي من الصنائع التي يتيمم بها إلى أهل الخير. قال: وما صناعتك ؟ قلت: الغناء. فوثب مبادراً ووكل بي بعض من معه، فقلت للموكل بي: من هذا ؟ قال: سلام الأبرش. ثم انتهى إلى دار من دور الخلافة؛ فمشى بي في دهليزها ساعةً، حتى انتهى إلى مقصورة من مقاصيرها، فأدخلني فيها، ودعا لي بطعام؛ فأتينا بمائدة عليها من كل طعام، فأقبلت على الأكل حتى ترادت نفسي إلي؛ ثم سمعت ركضاً في الدهليز، وإذا إنسان يقول: أين الرجل ؟ فقيل: هوذا. فقال: ادعوا له بغسول وطيب وخلعة حسنة، ففعل ذلك بي وخلقت. وأخذ بيدي الرجل وحملني على دابته، وأتى بي إلى دار الخلافة، فلم يزل يجاور بي داراً بعد دار، حتى انتهى إلى دار قوراء، فيها أسرة منصوبة بعضها إلى بعض، فلما انتهى بي إلى تلك الأسرة، أمرني بالصعود فصعدت، وإذا رجل جالس وعن يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان، وفي حجر الرجل عود، فرحب بي ذلك الرجل، وإذا مجالس قد كان فيها قوم فقاموا عنها، ثم لم ألبث أن أخرج خادم من وراء الستر؛ فقال للرجل: تغن؛ فغنى الصوت فوالله ما أحسن الغناء ولا أحسن الصوت، وهو هذا:
لم تمش ميلاً ولم تركب على جملٍ ... ولم تر الشمس إلاّ دونها الكلل
فقام الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل، فقال: تغني؛ فغنت بصوت لين كانت فيه أحسن من الرجل حالاً، ثم قال للثانية فغنت، وللثالثة فغنت بصوت لحنين؛ ثم عاد الخادم فقال لي: تغن رحمك الله ! فغنيت بصوت الرجل على غير ما غناه، فإذا نحو من خمسين خادماً يحضرون إلى الأسرة، فقال لي: ويحك ! لمن هذا الغناء ؟ قلت: لي، فانصرفوا وخرج الخادم فقال: كذبت، هذا الغناء لإسماعيل بن جامع. قال: فسكت، ثم دار الدور، فلما انتهى إلي خرج الخادم فقال: تغن رحمك الله ! فقلت في نفسي: أي شيء أنتظر، فاندفعت أغني بصوت لا يعرف إلا لي:
عوجي عليّ فسلّمي جبر ... كيف الوقوف وأنتم سفر
ما نلتقي إلاّ ثلاث منى ... حتى يفرّق بيننا الدّهر
(1/48)



قال: فزلزلت عليهم الدار، وخرج الخادم فقال: لمن هذا الغناء ؟ فقلت: لي. فقال: كذبت، هذا غناء إسماعيل بن جامع، فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم. فقال لي الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل عليك. فلما صعد السرير وثبت على قدم أمير المؤمنين أقبلها، فقال: ابن جامع ؟ قلت: ابن جامع، جعلني الله فداك. قال: اجلس يابن جامع، وجلس أمير المؤمنين وجعفر في المواضع الخالية. فقال لي: يابن جامع؛ أبشر وابسط أملك؛ فدعوت له. ثم قال لي: غنّ يابن جامع، فخطر ببالي صوت الجارية المدنية فغنيته، فنظر أمير المؤمنين إلى جعفر، وقال: أسمعت كذا قط ؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما خرق سمعي مثل هذا. فرفع الرشيد رأسه إلى خادم وقال له: كيس فيه ألف دينار، فمضى الخادم فلم يلبث أن جاء بكيس فيه ألف دينار، فصيرته تحت فخذي. ثم قال: يا إسماعيل؛ غنّ ما حضرك؛ فأقبلت أقصد إلى الصوت بعد الصوت، فلم أزل كذلك إلى أن عسعس الليل. فقال: يا إسماعيل، قد أتعبناك هذه الليلة للسرور بغنائك؛ فأعد على أمير المؤمنين الصوت الذي تغنيت أولاً، فغنيته؛ فرفع رأسه إلى الخادم، فقال له: كيس فيه ألف دينار، فذكرت قول الجارية لي: إني أحسبك تأخذ فيه ألف دينار وألف دينار وألف دينار. ثم قال: انصرف، فبقيت لا أدري أين أقصد في ذلك الوقت؛ فما هو إلا أن نزلت عن الأسرة حتى وثب إلي فراشان فأخذ أحدهما بيدي، فمضيا بي ولا أدري إلى أين يتوجهان، حتى وقفا على باب داري هذه، فإذا أمير المؤمنين قد أمر سلاماً الأبرش فابتاع داراً، وحشاها بالجواري والخدم والوصفاء والفرش والطعام والشراب. ورفع إلي أحدهما إضبارة مفاتيح. فقال: ادخل، بارك الله لك. هذا مفتاح بيت مالك، وهذا مفتاح حجر جواريك، وهذا مفتاح بيت فرشك وآنيتك؛ فدخلت الدار وأنا أيسر أهل بغداد وأحسنهم حالاً، والحمد لرب العالمين.
من مليح ما جاء في المغنيات والغناء
ومن مليح ما جاء في المغنيات والغناء قول بشار بن برد:
وصفراء مثل الزعفران شربتها ... على وجه صفراء الترائب رود
حسدت عليها كلّ شيءٍ يمسّها ... وما كنت لولا حسنها بحسود
كأنّ مليكاً جالساً في ثيابها ... تؤمّل رؤياه عيون وفود
من البيض لم تسرح على أهل ثلّةٍ ... سواماً ولم ترتفع حداج قعود
إذا نطقت صحنا وصاح لها الصّدى ... صياح جنودٍ وجّهت لجنود
تميت به ألبابنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهنّ بعد همود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كلّه ... كأنّا من الفردوس تحت خلود
ولا بأس إلاّ أننا عند أهلها ... شهودٌ وما ألبابنا بشهود
وقال:
لعمر أبي زوّارها الصّيد إنّنا ... لفي منظرٍ منها وحسن سماع
تصلّي لها آذاننا وعيوننا ... إذا ما التقينا والقلوب دواعي
وقال:
وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش ... ببؤسٍ ولم تركب مطيّة راعي
جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها ... لزوّارها من مزهرٍ ويراع
إذا قلّدت أطرافها العود زلزلت ... قلوباً دعاها للوساوس داع
كأنهم في جنّةٍ قد تلاحقت ... محاسنها من روضةٍ ويفاع
يروحون من تغريدها وحديثها ... نشاوى وما تسقيهم بصواع
لعوبٌ بألباب الرجال إذا رنت ... أُضيع التقى والغيّ غير مضاع
والشعر في هذا المعنى واسع الذرع، سابغ الدرع؛ ولأبي الفتح كشاجم فيه كل شيء مليح، فمن ذلك قوله:
جاءت بعودٍ كأنّ الحبّ أنحله ... فما يرى فيه إلاّ الوهم والشبح
فحرّكته وغنّت في الثقيل لنا ... صوتاً به النار في الأحشاء تنقدح
بيضاء يحضر طيب العيش إن حضرت ... وإن نأت عنك غاب اللهو والفرح
كلّ اللّباس عليها معرضٌ حسنٌ ... وكلّ ما تتغنّى فيه مقترح
وهذا مقول عبد الله بن المعتز:
وغنّت فأغنت عن المسمعي ... ن وارتجّ بالطرب المجلس
(1/49)



محاسنها نزهةٌ للعيون ... ومعرضها كلّ ما تلبس
ولأبي الفتح:
جاءت بعودٍ كأنّ نغمته ... صوت فتاةٍ تشكو فراق فتى
محفّفٍ حفّت النفوس به ... كأنّما الزهر حوله نبتا
دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف اليدين شبّكتا
لو حرّكته وراء منهزمٍ ... على بريدٍ لعاج والتفتا
يا حسن صوتيهما كأنهما ... أُختان في صنعةٍ تراسلتا
تراه عنها ينوب إن سكتت ... طوراً وعنه تنوب إن سكتا
وله:
آه من بحّةٍ بغير انقطاع ... لفتاةٍ موصولة الإيقاع
أتعبت صوتها وقد يجتنى من ... تعب الصوت راحة الأسماع
فغدت تكثر الشّحاج وحطّت ... طبقات الأوتار بعد ارتفاع
كأنين المحبّ ضعّف منه ... صوت شكواه شدّة الأوجاع
وله:
أشتهي في الغناء بحّة حلقٍ ... ناعم الصوت متعبٍ مكدود
لا أُحبّ الأوتار تعلو كما لا ... أشتهي الضرب لازماً للعمود
وأحبّ المجنبات كحبّي ... للمبادي موصولةً بالنشيد
كهبوب الصّبا توسّط حالاً ... بين حالين شدةٍ وركود
وله أيضاً:
غنّت فخلت أظنّني طرباً ... أسمو إلى الأفلاك أو أرقى
لو لم تحرّكه أناملها ... كان الهواء يعيده نطقا
جسّته عالمةً بجسّتها ... جسّ الطبيب لمدنفٍ عرقا
فحسبت يمناها، وقد ضربت ... رعداً وخلت يسارها برقا
وأبو الفتح كشاجم هذا اسمه محمود بن الحسن بن السندي، من أهل هذه الصناعة، وله في الغناء كتاب مليح. وقد دل على فعاله بمقاله:
أفدي التي كلف الفؤاد من أجلها ... بالعود حتى شفّني إطرابا
باهت بجمع صناعتين فأظهرت ... كبراً لذاك وأُعجبت إعجابا
قالت فضلتك بالغناء وأنت لا ... تشدو، وكنّا مثلكم كتّابا
فعبثت بالأوتار حتى لم أدع ... نغماً ولم أعقل لهنّ حسابا
وألفتها فأغار ذاك على يدي ... قلمي وعاتبها عليه عتابا
فجعلت للقرطاس جانب صدره ... وجعلت جانب عجزه مضرابا
وكان كامل آلات الظرف، جامعاً لخلال الأدب واللطف، وله تآليف ملاح، تدل على معرفته وتوسعه، وقد ذكروا أنه سمى نفسه كشاجم لما يعلمه؛ فالكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من منجم، والميم من مغن.
وقال أبو عثمان سعيد بن الحسن الناجم:
لقد جاد من عابثٍ ضربها ... وزاد كما زاد تغريدها
إذا نوت الصوت قبل الغنا ... ء أنشدنا شعرها عودها
وقد قال أستاذه ابن الرومي في نحوه:
ضربك في عودك لم يخرجا ... عن حاله، والعود في الضرب
كأنّما وقعهما في الحشا ... وقع الحيا في زمن الجدب
أخذ هذا أبو الحسن المنجم بن يونس المصري فقال:
غنّت فأخفت صوتها في عودها ... فكأنّما الصوتان صوت العود
غيداء تأمر عودها فيطيعها ... أبداً ويتبعها اتباع ودود
أندى من النّوّار صبحاً صوتها ... وأرقّ من نشر الثنا المعهود
فكأنّما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقود
ومثل هذا:
سلامة بن سعيد ... يجيد حثّ الراح
إذا تغنّى زمرنا ... عليه بالأقداح
وقال الناجم:
تأتي أغاني عابث ... أبداً بأفراح النفوس
تشدو فترقص الرؤو ... س لها وتزمر الكؤوس
وقال:
وما صدحت عابث ومزهرها ... إلاّ وثقنا باللهو والفرح
لها غناءٌ كالبرء في جسد ... أضناه طول السّقام والتّرح
تعبدها الراح فهي ما صدحت ... إبريقنا ساجداً إلى القدح
وقال:
إذا أنت ميّزت بين الغنا ... ء ميّزتها الأحذق الأطيبا
تهزّ القريض بألحانها ... كما هزّت الغصن ريح الصّبا
وقال:
(1/50)



ما تغنّت إلاّ تكشّف همٌّ ... عن فؤادٍ وأقلعت أحزان
تفضل المسمعين حسناً وطيباً ... مثل ما يفضل السماع العيان
وقال:
ما نطقت عابث ومزهرها ... إلاّ ظللنا للراح نعملها
تطلب أوتارها الهموم بأو ... تارها فما تستفيق تقتلها
وقال:
لها غناء مطرب معجب ... يفعل ما تفعله الخمره
تشوق الأُذن إلى شدوها ... تشوّق العين إلى الخضره
كأنما فرحة من زارها ... فرحة من طارت له القمره
لو أن إسحاق شدا شدوها ... لخلت من يسمع في سحره
مندرةٌ في كل ألحانها ... لا كالتي تحسن في النّدره
وقال:
لقد برعت عابث في الغنا ... وزادت فأربت على البارع
يسبّح سامعها معجباً ... وأصواتها سبحة السامع
وقال:
شدوٌ ألذّ من ابتدا ... ء العين في إغفائها
أحلى وأشهى من منى ... نفسٍ وصدق رجائها
وقال ابن الرومي في بستان جارية أم علي بنت الراسبي:
واهاً لذاك الغناء من طبق ... على جميع الأنام مقتدر
أضحت من الساكني حفائرهم ... سكنى الغوالي مداهن السرر
يا مشرباً كان لي بلا كدرٍ ... يا سمراً كان لي بلا سهر
أصبحت بالترب غير راجحة ... عنه وقد ترجحين بالبدر
وتبعه الناجم، فقال في عجاب جارية أبي مروان:
أضحى الثرى بجوارها ... عطر المسالك والمسارب
حلّت حفيرتها حلو ... ل المسك في سرر الكواعب
يا درّة كانت تضي ... ء لناظري من كلّ جانب
وهذا من قول بشار:
درّةٌ حيثما أديرت أضاءت ... ومشمٌّ من حيث ما شمّ فاحا
وجنانٌ قال الإله لها كو ... ني فكانت روحاً وروحاً وراحا
وله:
تلقى بتسبيحةٍ من حسن ما خلقت ... وتستفزّ حشا الرائي بإرعاد
كأنّما صوّرت من ماء لؤلؤة ... فكلّ جارحةٍ وجهٌ بمرصاد
والبيت الأول من هذين قد تقدم نظيره من قول الناجم.
من ظن به خير فانكشف عن شر
رجع ما انقطع: ممن ظن به خير فانكشف عن شر، قال يزيد بن هارون: كنت بالحيرة فرأيت شيخاً عليه طيلسان، وعلى رأسه طويلة، وله سمت حسن، فرجوت أن يكون عنده حديث فقلت: يا شيخ؛ عندك حديث ؟ فقال: أما حديث فلا، ولكن عندي قديم طيب؛ فإذا هو خمار.
وسال العقيق في بعض السنين، فخرج الناس إلى الصحراء وفيهم سفيان الثوري؛ فلما كثر الناس انكفأ يريد منزله، فبصر بشيخ ضرير قد أهدف على المائة وبيده عصاً يخترق صفوف النساء، وهو يبكي بكاءً شديداً؛ فظن سفيان أن بكاءه لما فرط له معهن، فنظر إليه حتى إذا صار في آخر الصفوف جنح على محجته واستقبلهن بوجهه، وكفكف عن عبرته وأنشأ:
عليكنّ السلام فليس منّي ... لكنّ فدعنني غير السلام
تحالفت العصا لتشدّ ظهري ... وتجبر عثري عند القيام
فقال له سفيان: أما كان لك فيما مضى من عمرك عظة عن معاصي الله عز وجل ؟ فقال: بأبي أنت ! تمنعني من تلك الحوراء الطرف، الوافية الردف، الحسنة التبختر، الوانية التكسر، كالظبي الغرير، والمهاة عند الغدير، التي يقول في صويحباتها الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما يرى ... فإذا عطلن فهنّ خير عواطل
يرمينني لا يستترن بجنّةٍ ... إلاّ الصّبا أين مقاتلي
يلبسن أردية الشباب لأهلها ... ويجرّ باطلهنّ حبل الباطل
فمضى سفيان يستعيذ بالله منه.
ومثل قوله قول كشاجم:
يقولون تب والكاس في يد أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي
فقلت لهم لو كنت عاينت توبةً ... وعاينت هذا في المنام بدا لي
من ظريف الصفات
وما جرى ههنا شوطاً في ظريف الصفات، يطيب مغناه ويحسن معناه. قال أشجع بن عمرو:
وماجت كموج البحر بين ثيابها ... يميل بها شطرٌ ويعدلها شطر
إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردّت شهادتها الأزر
(1/51)



البحتري:
رددن ما خفقت منها الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا
إذا نضون شغوف الريط آونةً ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا
ابن الرومي:
النار في خدّيه تتّقد ... والماء من برديه يطّرد
ضدّان قد جمعا كأنّهما ... دمعي يسحّ ولوعتي تقد
وقال:
صدور فوقهنّ حقاق عاجٍ ... ودرٌّ زانه حسن اتّساق
يقول القائلون إذا رأوه ... أهذا الدرّ من تلك الحقاق ؟
أخذه من قوله عبد الله بن السمط:
كأن الثدي إذا ما بدت ... وزان العقزد بهنّ النحورا
حقاقٌ من العاج مكنونةٌ ... حملن في الدرّ شيئاً يسيرا
أبو النجم الكاتب:
فيا عجبي من صورةٍ آدميّةٍ ... علاها بياض الشمس في صفرة القمر
فجاءت كمثل الدرّ يشرق لونها ... وريحانة البستان للشمّ والنظر
يذكرني رؤياك ريحاً مريضة ... جرت بنسيم الروض في غلس السّحر
ابن الرومي:
فالعين لا تنفكّ من نظرٍ ... والقلب لا ينفكّ من فكر
ومحاسن الأشياء فيك معاً ... فملالتيك ملالتي بصري
وقال:
لا شيء إلاّ وفيه أحسنه ... فالعين منه إليه تنتقل
فوائد العين فيه طارفة ... كأنما أخرياتها الأول
وقال عبد القادر بن شعيب السلمي:
يا حصن مسلمة الذي أهدى لنا ... حور الظباء سقيت صوب الماطر
قد كان يبلغني فكنت مكذباً ... عن حسن أهلك في الزمان الغابر
حتى رأيت الشمس أشرق نورها ... في الحيّ بين خلاخلٍ وأساور
ورأيت غزلان الخدور سوافراً ... يبسمن عن كالأقحوان الزاهر
فجنيت من ثمر الصبابة والهوى ... وشممت من ورق السرور الناضر
فرمين منّي مقتلاً فقتلنني ... يا من رأى ليثاً قتيل جآذر
ومر أعرابي بأبي نواس وهو ينشد بعض الأمراء:
ويلي على نجل العيو ... ن النّهد والقبّ البطون
الكاتبات عن الضمي ... ر لنا بألسنة الجفون
فقال الأعرابي: ويلك أنت وحدك من هذا ؟ بل ويلي أنا وويلي أبي وأمي وبني عمي، وهذا الفاعل القائم بين يديك.
التقعر في الكلام
كان رجل من التجار له ولد يتقعر في كلامه، ويستعمل الغريب؛ فجفاه أبوه استثقالاً له وتبرماً به، ومما كان يأتي به، فاعتل أبوه علةً شديدة أشرف منها على الموت. فقال: أشتهي أن أرى ولدي، فأحضروهم بين يديه وأخر هذا ثم أخر حتى لم يبق سواه، فقالوا له: ندعو لك بأخينا فلان ؟ فقال: هو والله يقتلني بكلامه، فقالوا: قد ضمن ألا يتكلم بشيء تكرهه؛ فأذن لهم. فلما دخل قال: السلام عليك يا أبت، قل أشهد أن لا إله إلا الله، وإن شئت قل أشهد أن لا إله إلا الله؛ فقد قال الفراء: كلاهما جائز، والأولى أحب إلى سيبويه. والله يا أبتي ما شغلني غير أبي علي، فإنه دعاني بالأمس، فأهرس وأعدس، وأرزز وأوزز، وسكبج وسبج، وزربج وطبهج، وأبصل وأمصل، ودجدج وافلوذج ولوزج.
فصاح أبوه العليل: السلاح السلاح، صيحوا لي بجارنا الشماس لأوصيه أن يدفنني مع النصارى وأستريح من كلام هذا البندق.
وهاج بأبي علقمة النحوي دم فأتوه بحجام؛ فقال له: اشدد قصب المحاجم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً، ولا تردن أتياً.
فقال الحجام: ابعث خلفي عمرو بن معديكرب، وأما أنا فلا طاقة لي بالحرب.
وهاج به مرار فسقط فأقبل قوم يعضون إبهامه، ويؤذنون في أذنه؛ فقام من غمرات غشيته، فقال: ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة؛ افرنقعوا عني. فقال بعضهم: اتركوه فإن جنيته تتكلم بالهندية.
(1/52)



وقال أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن اليتيم: كنت أماشي أبا جعفر بن النحاس حتى وقفنا على بائع تمر، فقال له أبو جعفر: كيف تبيعني ؟ قال: ثلاثة ونص بدرهم. قال له: قل ثلاثة ونصف بدرهم. قال: ثلاثة ونصف بدرهم. فقال له: قل ثلاثة ونصف بالكسر، فضجر وقال: ونصف، أفرغ لسانك فنحن في بيع وشراء لسنا في نحو. قال: فاجعله أربعة ؟ قال: أفعل يا بغيض، فوزن له بدرهم؛ فقال له أبو جعفر: أدر الصنجة من الكفة إلى الكفة، فقال: أنا أعرف ابن النحاس فإنه أحمقكم، قال ابن اليتيم فقلت له: أبيت أن تنصرف إلا مصفوعاً.
وكان أبو العباس مليح الشعر وهو القائل:
لا لأني أنساك أُكثر ذكرا ... ك ولكن بذاك يجري لساني
أنت في القلب والجوانح والرو ... ح وأنت المنى وأنت الأماني
كل عضوٍ منّي يراك من الشو ... ق بعينٍ غنيةٍ عن عياني
ودخل بستان حسين بن الماذرائي فعلق بثوبه غصن ورد فقال:
علق الورد بي وقال إلى أي ... ن وعندي روائح الأحباب
قلت آليت لا أشمّك حتّى ... أتروّى من الثنايا العذاب
وقال:
يا زائري في ظلمة ال ... ليل البهيم على وجل
حافٍ وقد جعل القنا ... ع على النهار من الخجل
هلاّ انتعلت بوجنت ... يّ فكان يضرب بي المثل
سبحان من جعل الخدو ... د عذاب قلبي والمقل
الفرزدق وخالد بن صفوان
قال خالد بن صفوان للفرزدق: يا أبا فراس، لو رأتك صويحبات يوسف لما أكبرنك ولا قطعن أيديهن ؟ فقال: وأنت يا خالد، لو رأتك صاحبة موسى لما قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين.
ووهب رجل لابن سيابة ديناراً، ثم بعث إليه ليأنس به، فكتب إليه: شغلتنا أموالنا وأهلونا.
وجاور ابن سيابة قوماً فأزعجوه. فقال: ولم تخرجوني من جواركم ؟ قالوا: أنت مريب، قال: فمن أذل من مريب وأحسن جواراً.
وفيه يقول عتبة الأعور:
يابن الذي عاش غير مهتضمٍ ... يرحمه اللّه أيّما رجل
له رقاب الملوك خاضعةٌ ... ما بين حافٍ منهم ومنتعل
أبوك أوهى النّجاد عاتقه ... كم من كميّ أردى ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من دائر على وجل
في كفّه صارمٌ يقلّبه ... يقدّ أعناق سادةٍ نبل
وهذا بديع في وصف حجام.
وقال آخر يصف حجاماً:
له جونةٌ فيها ثلاثون مخلباً ... مناقيرها بيضٌ وأجوافها حمر
إذا عوّج الكتّاب يوماً سطورهم ... فليس بمعوجّ له أبداً سطر
وصف بعض المزينين
وقد قال بعض المزينين:
قصصت بموسى الغدر ناصية العهد ... وأجريت شرط البين في جبهة الودّ
قططت بمقراض الجفا طرّة الوفا ... فجبهة وجه الودّ مكشوفة الجلد
وما زلت مصّاصاً بجمجمة القلى ... أخا النأي في العتبى على القرب والبعد
كلام مستطرف لأهل الصناعات من طريق صناعاتهم
ولأهل الصناعات من طريق صناعاتهم كلام مستظرف؛ وربما اتفقت الاستعارة مطردة للشاعر على معنى في صناعة، حتى كأنه عانى تلك الصناعة بما جرى على لسانه من البراعة، في وصف حقائقها، ونعت طرائقها؛ كقول عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع.
غرست الهوى حتى إذا أورق الهوى ... فأينع في أغصانه ثمر الوصل
وحفّت به أنهاره في غياضه ... فأصبح ملتفّ الحدائق بالحمل
ولم يبق إلا المجتنى من ثماره ... سرور التصافي والمودة والبذل
أطاف بنا ريح الوشاة فهيّجت ... سحابة هجران تكفّ على رسل
فمالت عزاليها عليه فأحرقت ... غصون الهوى والودّ منّا بلا دخل
ودبّت سيول الهجر حول أصوله ... فأغصانه فاستقلعته من الأصل
وقال علي بن هشام:
حصد الحبيب وصالنا بمناجلٍ ... طبع المناجل من حديد البين
والشوق يطحنه بأرحية الهوى ... والعين تعجنه بماء العين
والقلب يخبزه بنيران الأسى ... والنفس تأكله بلونٍ لون
(1/53)



قال الجاحظ: سألت وراقاً عن حاله ؟ فقال: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس أشد سواداً من الحبر بالزاج، وحظي أخفى من شق القلم، وجسمي أضعف من قصبة، وطعامي أمض من الحبر، وشرابي أمر من العفص؛ وسوء الحال ألزم بي من الصمغ. فقلت: لقد عبرت ببلاء عن بلاء.
وللجاحظ في هذا النوع رسالة كتب بها إلى المعتصم، وقيل إلى المتوكل في الحض على تعليم أولاده ضروب العلوم وأنواع الأدب وهي: يا أمير المؤمنين: علم بنيك من أنواع الأدب ما أمكن؛ فإنك إن أفردتهم بشيء واحد ثم سئلوا عن غيره لم يعرفوه؛ وذلك أن حزاماً صاحب خيلك حين سألته عن الوقعة ببلاد الروم، قال: لقيناهم في مقدار الإصطبل، فما كان إلا بمقدار ما يحس الرجل دابته حتى قتلناهم؛ فتركناهم في مثل نثير السرجين، فلو طرحت روثة لما سقطت إلا على ذنب برذون.
وكان قد أنشد في الغزل:
غن يهدم الصدّ عن قلبي مذاوده ... فإنّ قلبي بقتّ الصبر معمور
ويح امرىءٍ في وثاق الحبّ يكبحه ... لجام هجرٍ على الأسقام مقرور
أنل خليلك نيلاً من وصالك أو ... حسن الرقاد فإنّ النوم مأسور
أمنت فتل شكالي حين ودّعني ... ومبضع الحب في كفيه مطرور
لبست برقع هجر بعد ذلك في ... إصطبل ودّ فروث الحبّ منثور
وسألت بختيشوع الطبيب عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار ساحة البيمارستان؛ فما كان إلا بمقدار ما يختلف الرجل مقعدين حتى تركناهم في محقنة ثم قتلناهم، فلو طرحت مبضعاً لما وقع إلا على أكحل رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شرب الوصل بجنح الهجر فاستط ... لق بطن الوصال بالإسهال
ففؤاد المحبّ ينحله السّه ... د وقلبي معلّقٌ بالمطال
وفؤادي مبرسمٌ ذو زحيرٍ ... يابن ماسويه ضاق احتيالي
لو ببقراط بعض ما بي وجالي ... نوس ماتا منه بأسوأ حال
وسألت جعفر الخياط عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مثل سوق الخلقان؛ فما كان إلا بقدر ما يخيط الرجل درزاً، حتى تركناهم في أضيق من جربان، فلو طرحت إبرة لما وقعت إلا على درز رجل.
وكان قد قال في الغزل:
فتقت بالهجران درز الهوى ... بإبرة من إبر الصدّ
فالقلب من ضيق سراويله ... يعثر بي في تكّة الجهد
حسدتني يا طيلسان الهوى ... منه على سوءٍ شقا جدّي
أزرار عيني فيك موصولةٌ ... بعروة الدّمع على خدّي
يادستبان القلب يا زيقه ... عذّبني الدركنز بالوعد
قد قصّ ما أعرف من وصله ... مقراض بين مرهف الحدّ
يا حجزة النفس ويا ذيلها ... ما لي من وصلك من بدّ
ويا جرّبان سروري ويا ... جيب غرامي حلت عن عهدي
وسألت إسحاق بن إبراهيم عن ذلك وكان زارعاً فقال: لقيناهم في مثل جريب من الأرض؛ فما كان إلا بقدر ما يسقي الرجل مشارة حتى قتلناهم عن آخرهم، فلو طرحت منجلاً لما سقط إلا على رأس رجل؛ فصاروا مثل أكوام التبن إذا خرج عن الحب.
وكان قد قال في الغزل:
زرعت هواه في جريبٍ مثلّثٍ ... وأسقيته ماء الدوام على العهد
فلما تعالى النبت واخضرّ يانعاً ... وأفرك حبّ الحبّ في سنبل الودّ
أتته أكفّ الهجر فيها مناجلٌ ... فأسرعن فيه حين أدرك بالحصد
فيا شؤم مالي إذ يعطل للشقا ... ويا ويح ثوري صار معلفه كبدي
وسألت فرجاً الرخجي عن مثل ذلك وكان خبازاً فقال: لقيناهم في مثل مقدار جفنة، فما كان إلا بقدر ما يعجن الرجل قفيزاً أو يخبز أرغفة، حتى صيرناهم في أضيق من جحر التنور، فلو طرحت جردقاً لما وقع إلا في خوان الخبز على كثرة القتلى.
وقد كان أنشد في الغزل:
قد عجن الهجر دقيق الهوى ... في جفنةٍ من خشب الصدّ
فاختمر البين فنار الهوى ... تزجي بشوك الهجر من بعدي
وأقبل الصدّ بهجرانه ... يفحص عن أرغفة الوجد
جرادقاً للوعد مسمومةً ... مثرودةً في قصعة الجهد
(1/54)



وسألت عبد الله بن عبد الصمد عن مثل ذلك وكان مؤدباً فقال: لقيناهم في مقدار كنف، فما كان إلا بمقدار ما يقرأ الصبي إمامة، حتى تركناهم في أضيق من فم الرقم، فلو طرحت دواةً لما سقطت إلا على حجر قتيل.
وقد كان قال في الغزل:
قد أمات الهجران صبيان قلبي ... ففؤادي مولّهٌ ذو خبال
كسر البين لوح وصلي فما أط ... مع ممن هويته في وصال
وقع الرقم عن دواتي فمذ أطل ... ق مولاي حبله من حبالي
مشق الحبّ من فؤادي لوحي ... ن فأغرى جوانحي بالسلال
لاق كبدي دواته فمداد ال ... عين مذ صدّ مالكي ذو انهمال
وسألت الجهم بن بدر عن مثل ذلك وكان صاحب حمام ت فقال: لقيناهم في مثل بيت الابتذال، فقاتلناهم بقدر ما تخلف النورة، ثم ألجأناهم إلى أضيق من الأبزن، فهزمناهم بقدر ما يغسل الرجل وجهه؛ فلو طرحت ليفة لما وقعت إلا على ظهر رجل.
وقد كان قال في الغزل:
يا نورة الهجر غلفت الصفا ... بما بدا من ليفة الصدّ
يا مبذر الأسقام حتّى متى ... تنقع في حوضٍ من الجهد
انقل ذيول الوصل لي مرة ... منك بزنبيلٍ من الودّ
فالبين مذ أوقد حمّامه ... هيّج قلبي مشلّح الوجد
أفسد خطمي الهوى والصفا ... بحاله الناقض للعهد
وسألت الحسن بن أبي قماش وكان أبوه كناساً فقال: لقيناهم بقدر ما يكنس الرجل زنبيلاً، حتى تركناهم في أضيق من جحر المخرج، فلو رميت بنت وردان لما وقعت إلا على ظهر قتيل.
وكان قد قال في الغزل:
أصبح قلبي للهوى مخرجاً ... تسلح فيه فقحة الهجر
خنافس الهجران أثكلنني ... نومي فولّى معرضاً صبري
وبنت وردان الهوى تيّمت ... عقلي فما أعقل ما أمري
وسألت أحمد الشرابي، فقال: لقيناهم في مقدار بيت شراب، فلم يكن إلا بمقدار ما يبزل الرجل دنا، حتى تركناهم في أضيق من رطلية، ثم سالت دماؤهم كالدردي، فلو طرحت كأساً لما وقع إلا في كف رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شربت بكأس اللّهو من راحة الهوى ... ورقرقت خمر الوصل في قدح البين
فسالت دنان الحبّ يدفقها الصبا ... وكرّت قرابات دمعي على عيني
وسألت عبد الله الطاهري وكان طباخاً فقال: لقيناهم في مقدار مطبخ أمير المؤمنين، فما كان إلا بمقدار ما يشوي الرجل حملاً أو جدباً، أو يفرغ من طبخ ثلاثة ألوان، أو يعقد فالوذجةً، حتى تركناهم في أضيق من أثافي القدر، فلو طرحت ملعقة لما وقعت إلا على بطن قتيل.
وكان قد قال في الغزل:
شبه الفالوذج في حمرة الخ ... دّ ولوزينج النفوس الظماء
أنت جوزينج الفؤاد وفي اللي ... ن كلين الخبيصة الصفراء
أنت مستهترٌ بسكباج ودّ ... بعد جوزابة بجنب شواء
يا قتار القدور في يوم عرسٍ ... وشبيهاً بشهدةٍ بيضاء
أنت أشهى إلى الفؤاد من الزب ... د مع البرسيان وقت الغداء
أطعم الحاسدين ألوان غمّ ... في قصاع الأحزان والضراء
قد غلا القلب مذ خلت منك داري ... غليان القدور بعد الصّلاء
هام لمّا كسرت فيك غضارا ... ت سروري مفارق الشّحناء
إنّ إسفيداج وجهك يشفي ... من رقيق الأحزان أي شفاء
فتفضل على العميد بماء ... ورد يكبت قلوب العداء
وسألت داود الفراش عن مثل ذلك قال: لقيناهم في مثل تربيع الفسطاط، فما كان إلا بقدر ما يفرش الرجل بيتاً أو بيتين، حتى تركناهم في أضيق من صاريات ثم قتلناهم، فلو رأيت نجار التراب عليهم وقد سالت دماؤهم في حمرة الأرمني.
وكان قد أنشدني في الغزل:
كنس الهجر ساحة الوصل لمّا ... عثر البين في وجوه صفائي
فلقد بثّ في فراش همومي ... تحت خدّي وسائداً لضنائي
حين هيأت بيت حسن من الوص ... ل لأثوابه ستور إخاء
(1/55)



فرش الهجر لي بيوت مسوحٍ ... متّكاها مطارح الحصباء
رقّ للصبّ من بواعث وجدٍ ... قد تخالسنه صباح مساء
يا أمير المؤمنين: إنما ينطق اللسان بما يتصور الجنان، ويظهر في الكلام ما يخطر على الأوهام، فمن لم يعرف إلا شيئاً واحداً لم يتكلم إلا عليه، ومن كثر علمه كثرت خواطره، واتسعت مذاهبه، ورب هزل أنفع من جد؛ إذا أصيب به موضع الحاجة إليه، ووضع بحيث تقع همم النفوس عليه، والسلام.
والجاحظ صنع هذه الأشعار لما وضع هذه الأخبار، وكان قديراً على الشعر سراقاً له. روى أبو مسلم الكشي قال: حدثني إبراهيم بن رباح قال: مدحني حماد بن أبان اللاحقي بشعر فيه هذان البيتان:
بدا حين أثرى بإخوانه ... ففلّل فيهم شباة العدم
وذكّره الحزم غبّ الأمور ... فبادر قبل انتقال النعم
فروي هذا الشعر وعرف بالبصرة، ثم جاءني الجاحظ فمدحني بشعر أدخل فيه هذين البيتين، فاحتملت ذلك وأثبته؛ فبينما أنا جالس يوماً في مجلس أحمد بن أبي دواد والجاحظ في مجلسه، إذ قال لي أحمد ما وصفت بشيء أحسن مما مدحني به أبو عثمان، وأنشدني البيتين. فقلت: إن مادحك أعزك الله يجد فيك مقالاً والجاحظ ملأ عينيه مني ولا يستحي مني.
وله في رسالة إلى أبي الفرج محمد بن نجاح قصيدة مستحسنة أولها:
أقام يداً والخفض راضٍ بحظّه ... وذو الحظّ يسري حيث لا أحد يسري
يظنّ الرضا بالقوت شيئاً مهوّناً ... ودون الرضا كأسٌ أمرّ من الصبر
وقد طعن أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني بديع الزمان على بلاغة الجاحظ فقال: هو في أحد شقي البلاغة يقف، وفي الآخر يقتطف، والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره ولم يزر كلامه بشعره، أفترون للجاحظ شعراً رائقاً ؟ قالوا: لا. قال: فهلموا إلى نثره تجدوه قريب العبارات، بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من بديعه يهمله.
وليس هذا موضع الكلام على بلاغته، وإلا فكنت أنبه على معايب كلامه ومقابحه، ومحاسن خطابه وممادحه.
وهذه أوصاف بليغة في البلاغات، على ألسنة قوم من أهل الصناعات
اجتمع قوم من أهل البلاغات، فوصفوا بلاغاتهم من طريق صناعاتهم: فقال الجوهري: أحسن الكلام نظاماً ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، ونضد جوهر معانيه في سموط ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة.
وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه؛ ففاح نسيم نشقه، وسطت رائحة عبقه؛ فتعلقت به الرواة، وتعطرت به السراة.
وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكور الفكرة، وسبكته بمشاعل النظر، وخلصته من خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز في معنىً وجيز.
وقال الصيرفي: خير الكلام ما نفدته يد البصيرة، واجتلته عين الروية، ووزنته بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيفه، ولا سماع يبهرجه.
وقال الحداد: خير الكلام ما نصبت عليه منفخة الروية، وأشعلت فيه نار البصيرة، ثم أخرجته من فحم الإفحام، ورققته بفطيس الإفهام.
وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار التدبير، فصار باباً لبيت البيان، وعارضةً لسقف اللسان.
وقال النجاد: أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه، وحسنت مطارح معانيه؛ فتنزهت في زرابي محاسنه عيون الناظرين، وأصاخت لنمارق بهجته آذان السامعين.
وقال الماتح: أبين الكلام ما علقت وذم ألفاظه بكرب معانيه، ثم أرسلته بقليب الفطن، فمنحت به سقاءً يكشف الشبهات، واستنبطت به معنى يروي من ظمأ المشكلات.
وقال الخياط: البلاغة قميص فجربانه البيان، وجيبه المعرفة، وكماه الوجازة، ودخاريصه الإفهام، ودروزه الحلاوة، ولابسه جسد اللفظ، وروحه المعنى.
وقال الصباغ: أحسن الكلام ما لم تنصل بهجة إيجازه، ولم تكشف صبغة إعجازه، وقد صقلته يد الروية من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألف عذارى الألباب.
وقال البزاز: أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه، فلم يستعجم عنك نشر، ولم يستبهم عليك طي.
وقال الحائك: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوفاً منيراً، وموشى محبراً.
(1/56)



وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج عن حد التخليع إلى منزلة التقريب إلا بعد الرياضة؛ وكان كالمهر الذي أطمع أول رياضته، في تمام ثقافته.
وقال الجمال: البليغ من أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالاً، والإيجاز له مجالاً، لم يند عن الأذهان، ولم يشذ عن الآذان.
وقال المخنث: خير الكلام ما تكسرت أطرافه، وتثنت أعطافه، وكان لفظه حلةً، ومعناه حليةً.
وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم، وصفاه راووق الفهم، وضمته دنان الحكمة، فتمشت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقته، وفي العقول حدته.
وقال الفقاعي: خير الكلام ما روحت ألفاظه غباوة الشك، ورفعت رقته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته، وعذب مص جرعته.
وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر بيانه سقم الشبهة، استطلقت طبيعة الغباوة؛ فشفي من سوء التفهم، وأورث صحة التوهم.
وقال الكحال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فالشبهة قذى الأبصار، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
ثم قال: أجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام، ما إذا أشرقت شمسه، انكشف لبسه، وإذا صدقت أنواؤه، اخضرت أحماؤه.
وهذا المعنى كثير، وإنما آخذ من كل فن اليسير.
من مستطرف الأخبار
وقال رجل لغلامه: التمس لي داراً لا تكون بجوار مسجد فإني أحب الأفراح، فاكترى له داراً بين مسجدين. فقال له: ما هذا ؟! قال: يا مولاي، لا تدري المعنى؛ أهل هذا المسجد يظنونك في هذا، وأهل ذا يظنونك في ذا، وأنت قد ظفرت بما تحب.
وقال أبو الجهم أحمد بن بدر للمتوكل وذكر نجاح بن سلمة أو غيره:
إمام الهدى وابن الدعاة إلى الهدى ... ومنهج خير العالمين محمّد
أعنّي على والٍ يجوز تعبّداً ... عليّ عسوف الظلم غير مؤيّد
وما لي ذنبٌ عنده غير أنني ... عليم بما يختار لليوم والغد
ولا خير للطّرار في قرب نائب ... ولا للمريب الفعل في قرب مسجد
صحب الغاضري رجلاً من قريش من مكة إلى المدينة فقال القرشي: يا غلام؛ أطعمنا دجاجةً، فأتى بها باردة، فقال: ويحك أسخنها. ورفع غداؤهم ولم يؤت بالدجاجة، فلما كان العشاء قال: يا غلام، عشاءنا. فلما أتاهم العشاء قال: هات تلك الدجاجة، فأتى بها باردة، فقال: أسخنها. فقال الغاضري: أخبروني عن دجاجتكم هذه أمن آل فرعون هي ؟ فإني أراها تعرض على النار غدوةً وعشياً.
فقال: ويحك يا غاضري اكتمها علي، ولك مني مائة دينار. فقال: والله مما كنت لأبيعها بشيء.
طيلسان ابن حرب
أخذه الحمدوني فقال في طيلسان ابن حرب:
يابن حرب أطلت ظلمي برفوي ... طيلساناً قد كنت عنه غنيّا
هو في الرّفو آل فرعون في العر ... ض على النار بكرةً وعشيّا
زرت فيه معاشراً فازدروني ... فتغنّيت إذ رأوني زريّا
جئت في زيّ سائلٍ كي أراكم ... وعلى الباب قد وقفت مليّا
وكان أحمد بن حرب المهلبي من المحسنين إليه، المنعمين عليه، وله فيه مدائح كثيرة، فوهبه طيلساناً أخضر، فوجد فيه فزراً ولم يرضه. قال أبو العباس المبرد: فأنشدنا فيه عشر مقطعات ضمن أواخرها أبيات أغان ملاحاً، فاستحلينا مذهبه فيها فجعلها خمسين شعراً فطارت كل مطير، وسارت كل مسير، حتى قال:
طيلسان لابن حربٍ ... ذو أيادٍ ليس تحصى
أنا فيه أشعر النّا ... س إذا ما الشعر نصّا
وأراني صرت أدنى ... بعد ما قد كنت أقصى
واتقاني النّاس وازدا ... دوا على شعري حرصا
ولكم قد حاز لي ... أردية تترى وقمصا
كان دهراً طيلساناً ... ثم قد أصبح شصّا
وقال ابن الرومي في هجائه عمراً الكاتب الملقب بخرطوم، وكان من خاصة القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير:
أغلقت حانوتي لطو ... ل كساده وفتحت عمرا
يا طيلسان الحمدن ... يّ شفعت فيّ وكنت وترا
عمرا أخوك جعلته ... لي مكسباً فأفدت وفرا
لا تبعدا من صاحبي ... ن لقيتما ضعةً وفقرا
(1/57)



قال ابن أبي عون: مر الحمدوني بابن حرب وهو جالس على باب داره وعلى كتفه وسادة. قال: لأي شيء هذه يا حمدوني ؟ قال: أرقع بها طيلسانك. قال: ما تزال تهجونا منثوراً وموزوناً !!.
ومن طريف شعره فيه:
يا طيلسان ابن حربٍ قد هممت بأن ... تودي بجسمي كما أودي بك الزمن
ما فيك من حيلة تغني ولا ثمنٍ ... قد أوهنت حيلتي أركانك الوهن
فلو تراني لدى الرّفّاء مرتبطاً ... كأنني في يديه الدهر مرتهن
أقول حين رآني الناس ألزمه ... كأنّما لي في حانوته وطن
من كان يسأل عنّا أين منزلنا ؟ ... فالأقحوانة منّا منزلٌ قمن
البيت للحارث بن خالد المخزومي.
وقال:
قل لابن حرب طيلسا ... نك قوم نوحٍ منه أحدث
أفنى القرون ولم يزل ... عمّن مضى من قبل يورث
فإذا العيون لحظنه ... فكأنّه باللحظ يحرث
يودي إذا لم أرفه ... وإذا رفوت فليس يلبث
كالكلب إن تحمل علي ... ه الدهر أو تتركه يلهث
وقال:
وهبت لنا ابن حرب طيلساناً ... يزيد المرء في الضعة اتضاعا
يسلّم صاحبي فيقدّ شبراً ... له وأقدّ في ردّي ذراعا
أجيل الطّرف في طرفيه طولاً ... وعرضاً ما أرى إلاّ رقاعا
فلست أشكّ أن قد كان قدماً ... لنوحٍ في سفينته شراعا
فقد غنّيت إذ أبصرت منه ... جوانبه على بدني تداعى
قفي قبل التفرّق يا ضباعا ... ولا يك موقفٌ منك الوداعا
البيت للقطامي عمير بن شييم التغلبي: وقال فيه:
قل لابن حرب طيلسانك قد ... أوهى قواي بكثرة القدم
متبيّنٌ فيه لمبصره ... آثار رفو أوائل الأُمم
فكأنّه الخمر التي وصفت ... في يا شقيق النفس من حكم
فإذا رممناه فقيل لنا ... قد صح قال له البلى: انهدم
مثل السقيم برا فعاوده ... نكسٌ فأسلمه إلى سقم
أنشدت حين طغى فأعجزني ... ومن العناء رياضة الهرم
والخمرة التي وصفت فيما ذكر لأبي نواس:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فاسقني الخمر التي اعتجرت ... بخمار الشيب في الرّحم
ثمّت انصات الشباب لها ... بعد أن جازت مدى الهرم
فهي لليوم الذي بزلت ... وهي تلو الدهر في القدم
عتّقت حتى لو اتصلت ... بلسانٍ ناطقٍ وفم
لاحتبت في القوم مائلة ... ثم قصّت قصة الأمم
فرعتها بالمزاج يدٌ ... خلقت للكأس والقلم
في ندامى سادة نجب ... أخذوا اللذّات من أمم
فتمشّت في مفاصلهم ... كتمشّي البرء في السقم
صنعت في البيت إذ مزجت ... كصنيع الصّبح في الظلم
فاهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السفر بالعلم
وزعم ابن قتيبة أن هذا الشعر لوالبة بن الحباب، وإنما يخاطب به أبا نواس الحكمي. وقال غيره: بل الشعر لأبي نواس وإنما أغار على والبة في قوله:
يا شقيق النفس من أسد ... لم تنم عيني ولم تكد
وقال الحمدوني:
طيلسانٌ لابن حرب جاءني ... قد قضى التمزيق منه وطره
أنا من خوفي عليه أبداً ... سامريٌّ ليس يألو حذره
يابن حربٍ خذه أو فابعث بما ... يشتري عجلاً بصفر عشره
فلعلّ اللّه يحييه لنا ... إن ضربناه ببعض البقره
فهو قد أدرك نوحاً، فعسى ... عنده من علم نوحٍ خبره
أبداً يقرأُ من أبصره ... أئذا كنّا عظاماً نخره
وكان يقول: أنا ابن قولي، يريد أنتسب إليه كما أنتسب إلى أبي. وقال:
يابن حرب كسوتني طيلساناً ... ملّ من صحبة الزمان وصدّا
فحسبنا نسج العناكب إذ قي ... س إلى ضعف طيلسانك سدّا
(1/58)



إن تنسمت فيه ينجرّ جرّاً ... أو تبسمت منه ينقدّ قدّا
طال ترداده إلى الرّفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدّى
وكان أبو تمام يقول: أنا ابن قولي:
نقّل فؤادك أين شئت من الهوى ... ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأوّل منزل
وقال الحمدوني في الطيلسان:
ولي طيلسانٌ إن تأمّلت شخصه ... تيّقنت أنّ الدهر يفنى وينقرض
تصدّع حتّى قد أمنت انصداعه ... وأظهرت الأيام من عمره الغرض
فلو أنّ أصحاب الكلام يرونه ... لماروك فيه وادّعوا أنه العرض
وقال:
يابن حربٍ كسوتني طيلساناً ... أمرضته الأوجاع فهو سقيم
فإذا ما لبست قلت سبحا ... نك تحيي العظام وهي رميم
طيلسانٌ له إذا هبّت الرّي ... ح عليه بمنكبيّ هميم
لو يدبّ الحوليّ من ولد الذ ... رّ عليه لأندبته الكلوم
وقال:
إن ابن حرب كساني ... ثوباً يطيل انحرافه
أظلّ أدفع عنه ... وأتّقي كلّ آفه
فقد تعلمت من خش ... يتي عليه الشقافه
من الملح
وقف أبو العيناء على باب صاعد بن مخلد فقيل له: إنه يصلي فانصرف، ثم عاوده، فقيل له: إنه يصلي. فقال: لكل جديد لذة. وكان صاعد نصرانياً ثم ارتقت به الحال أن توزر للموفق بن أحمد بن المتوكل، وكان أخوه المعتمد الخليفة ولم يكن له مع الموفق أمر ولا نهي، وقد قال المعتمد لما ملك عليه أخوه الأمر، أو قيل على لسانه:
أليس من العجائب أنّ مثلي ... يرى ما قلّ ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيءٌ في يديه
ولما أجاب الصولي أبا القاسم بن عبد الله ملك المغرب اقتضى ذكر ولد العباس والخلفاء خليفةً خليفةً حتى انتهى إلى المعتمد فقال:
ومعتمدٌ من بعدهم وموفّقٌ ... يردّد من إرث الخلافة ما ذهب
موازٍ لهم في كل فضلٍ وسؤددٍ ... وإن لم يكن في العدّ منهم لمن حسب
ولما احتاج الصولي إلى ذكر الموفق لشهامته وحزامته، وكأن القصيدة إنما أجاب بها على المقتدر بن جعفر بن المعتضد بن الموفق، فلو لم يذكره لانقطع عليه ما أراد.
وكان المعتمد مضعوفاً، وكان أمره قبل تمكن الموفق في يد وصيف حتى قال باذنجانة الكاتب:
يا دولة بائرة ... كاسفة ما تبتغى
خليفة مستضعف ... بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببّغا
ودخل أبو خالد يزيد المهلبي على المعتمد مرات، فأنشده قصائد على الدال؛ فقال: يا يزيد؛ ما أراك تعدو الدال ؟ فقال: وكيف أعزك الله يا أمير المؤمنين واسمي يزيد، وأبي محمد وأكنى بأبي خالد، وأنت المعتمد، وتسمى بأحمد، ومن صفاتك السيد والماجد والجواد، فأين أدع الدال؟ وهذا كقول أبي صدقة المدني وقد قيل له: ما أشد إلحافك ؟ فقال: تلومونني على ذلك وأنا اسمي مسكين، وكنيتي أبو صدقة، واسم أبي صدقة، واسم امرأتي فاقة.
من طرف أبي العيناء
ووقف أبو العيناء على باب إبراهيم بن رباح فقيل: هو مشغول. فقال: إذا شغل بكأس يمناه، وبحر يسراه، وانتسب إلى أب لا يعرف أباه، لم يحفل بحجاب من أتاه.
(1/59)



ودخل أبو العيناء على المتوكل؛ فقال: أي شيء تحسن ؟ قال: أفهم وأفهم، وآخذ من المجلس ما حوى، مرة أغلب ومرة أغلب. قال: كيف شربك للنبيذ ؟ قال: أعجز عن قليله وافتضح عند كثيره. قال: فما تقول في بلدك البصرة ؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. قال: ارفع حوائجك إلينا. قال: قد رفعتها إلى الله، فما أحب نجاحه فليس ينفعني شرحه. قال: نحب أن تلزم مجلسنا. قال: يا أمير المؤمنين، إن أجهل الناس من يجهل نفسه؛ أنا امرؤ محجوب والمحجوب تختلف إشارته، وقد يجوز قصده، فيصغي إلى غير من يحدثه، ويقبل بحديثه على غير من يسمع منه، وجائز أن يتكلم بكلام غير راض، ومتى لم أفرق بين هذين هلكت. وأخرى: كل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم، ولم أقل هذا جهلاً مني بما في هذا المجلس من الفائدة، ولكني اخترت العافية على التعرض للبلاء. قال الفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، هذا رجل عاقل عارف بنفسه وبحق الملوك. قال: فيلزمنا في كل الأوقات لزوم الفرض الواجب.
وبلغ أبا العيناء أن المتوكل قال: لولا أن أبا العيناء ضرير لنادمناه. فقال: إن أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص فأنا أصلح للمنادمة. وإنما هذا تولع منه بلسانه؛ واقتدار على الكلام، وإلا فقد تعافى من ذلك المقام.
ودخل على إبراهيم بن المدبر وعنده الفضل اليزيدي معلم ولده وإبراهيم جالس. فقال للمعلم: في باب هذا ؟ قال في باب الفاعل والمفعول به. فقال: هذا بابي وباب الوالدة أعزها الله. فغضب اليزيدي ونهض.
أخذه البحتري فقال لإبراهيم بن المدبر:
أي شيءٍ ألهاك عن سرّ من را ... ء وظلّ للعيش فيها ظليل
إقتصار على أحاديث فضل ... وهو مستكرهٌ كثير الفضول
لم تكن نهزة الوضيع ولا رو ... حك كانت لفقاً لروح الثقيل
فعلام اصطنعت منكسف البا ... ل معار الحذاق نزر القبول
إن ترده تجده أخلق من شي ... ب الغواني ومن تعفّي الطلول
مسرجاً ملجماً وما متّع الصب ... ح إدلاجاً للجسّ والتطفيل
غير أنّ المعلمين على حال م ... قليلي التمييز ضعفي العقول
فإذا ما تذكّر الناس معنى ... من مبين الأشعار أو مجهول
قال هذا لنا ونحن كشفنا ... غيبه للسؤال والمسؤول
ضرب الأصمعي فيهم أم الأح ... مر أم لحقوا... الخليل
أبداً شأنه التردّد في الفا ... عل من والديه والمفعول
ظريف مملق
قال الصولي: كان بالبصرة رجل مهلبي ظريف مملق، وكان له إخوان فقالوا له: ألا تدعوننا ؟ فقال لهم: ألا تدعونني ؟ فألحوا عليه فارتهن قطيفةً له على دراهم، فاشترى لهم ما يصلحهم، ودعا مغنيةً فكان اقتراحهم عليها:
ليت الذين تحمّلوا أحنوا ... أمّا أنا فأضرّ بي الحزن
فقال المهلبي: أما هذا الذي تقولونه فما أدري ما هو ؟ أما أنا فقطيفتي رهن؛ فضحكوا وغرموا له ما أنفق.
ودعا رجل قوماً، فما كان مع المغرب أراد انصرافهم، وأرادوا المقام عده، فاقتضوه في السراج. فقال لهم: أما سمعتم قول الله تعالى: " وإذا أظلم عليهم قاموا " .
من نوادر المتنبئين
وادعى رجل النبوة في أيام المأمون، فأحضره المأمون وقال له: ما دليل نبوتك ؟ قال: أن أعلم ما انعقد عليه ضميرك. فقال: ما هو ؟ قال: في نفسك أصلحك الله أني كاذب؛ فضحك منه وتركه.
وأتي المعتصم برجل ادعى النبوة. فقال: ما آيتك ؟ قال: آية موسى. قال: فألق عصاك تكن ثعباناً مبيناً ؟ قال: حتى تقول: أنا ربكم الأعلى.
وادعى آخر النبوة بالكوفة، فأدخل على واليها. فقال: ما صناعتك ؟ قال: حائك، قال: نبي حائك؟! قال: فأردت نبياً صيرفياً ؟ الله يعلم حيث يجعل رسالته.
ومن نوادر الفقهاء والمغفلين والمرائين وغيرهم
وسأل رجل بعض الفقهاء عن القبلة للصائم في رمضان ؟ فقال: تكره للشاب ويرخص فيها للشيخ. قال: إنها في معشوقة ؟ قال: يابن أخي، هذا يكره في شوال.
قيل لمغفل: قد غلا الدقيق. فقال: وما أبالي؛ إني أشتري الخبز من السوق.
(1/60)



قال حيان بن غضبان العجلي وقد ورث نصف دار أبيه : أريد أن أبيع نصف حصتي من الدار وأشتري الباقي، فتصير الدار كلها لي.
وشكا أهل بدلة إلى المأمون والياً عليهم؛ فقال: كذبتم عليه، قد صح عندي عدله فيكم وإحسانه إليكم. فقال شيخ منهم: يا أمير المؤمنين؛ فما هذه المحبة لنا دون سائر رعيتك، قد عدل فينا خمس سنين فانقله إلى غيرنا حتى يشمل عدله الجميع، وتريح معنا الكل؛ فضحك منهم وصرفه عنهم.
قال دعبل: ما غلبني إلا مخنث؛ قلت له: والله لأهجونك. قال: والله لئن هجوتني لأخرجن أمك في الخيال.
ورئي بعض المرائين على باب بعض الملوك، وبين عينيه سجادة عظيمة، فقيل له: مثل هذا الدرهم بين عينيك، وأنت محتاج إلى أبواب الملوك ! فقال: إنه ضرب على غير السكة.
وعمل بعض المرائين بين عينيه سجادة دلكها بنواة وثوم، وعصب الثوم بين عينيه ونام؛ فتحركت العصابة؛ فصارت في ناحية صدغه سجادة كبيرة. فقال له ابنه: ما هذا يا أبت ؟ فقال: أصبح أبوك ممن يعبد الله على حرف.
ومن أملح ما في هذا قول أبي نواس وقد نهاه الأمين عن الخمر:
عين الخليفة بي موكّلةٌ ... عقد الحذار بطرفها طرفي
صحّت علانيتي له وأرى ... دين الضمير له على حرف
ولئن وعدتك تركها عدةً ... إني عليك لخائفٌ خلفي
وقال ابن المعتز:
يأيها الجاني ويستخفي ... ليس تجنّيك من الظرف
إنّك والشوق إلينا كمن ... يؤمن باللّه على حرف
محوت آثارك عن ودّنا ... غير آثارك في الصّحف
فإن تحاملت لنا زورةً ... يوماً تحاملت على ضعف
وأتى ابن عائشة إلى بعض الملوك فأنشده:
اعطف عليّ فالكريم يعطف ... قد غلق الرّهن وملّ المسلف
وارتهني الدفّ وبيع المصحف
فقال: يا فاسق، أترهن دفاً وتبيع مصحفاً ! قال: اتكلت في المصحف أعزك الله تعالى وأجلك.
من نوادر بهلول
قال رجل لبهلول المجنون: قد أمر أمير المؤمنين لكل مجنون بدرهمين. فقال له بهلول: فهل أخذت نصيبك.
وأودع بهلول بعض الأفنية بالكوفة عشرين درهماً ورجل خياط ينظر إليه من حيث لا يعلم به بهلول؛ فلما انصرف أخذ الخياط الدراهم، فعاد بهلول يطلبها فلم يجدها، فعلم أنه لم يؤت إلا من الخياط. فمر به فقال: يا فلان؛ خذ بيدك عشرة دراهم وخذ ثلاثين وخذ كذا... حتى بلغ المائة. قال: وزدها عشرين كم يكون المال ؟ قال: مائةً وعشرين. قال: أصبت ومضى. فقال الخياط في نفسه: ما أظنه إلا يمضي بهذه الدراهم التي حسبها ليزيدها على العشرين فلأردنها إلى موضعها، فإذا زاد عليها أخذت الجميع ففعل؛ فكر بهلول إلى الموضع، فأخذ الدراهم وأحدث في موضعها ثم مضى؛ فقام الرجل مسرعاً، فلما أدخل يده امتلأت حدثاً، ولم يجد شيئاً؛ فعارضه بهلول، وقال: خذ في يدك كذا وكذا. كم في يدك ؟ قال: مائة وعشرون. قال: ما في يدك إلا حدث، فانتشر خبر الخياط، وولع الصبيان فيه حتى هرب من الكوفة.
ولبهلول هذا حكم؛ وكان يتشيع فقيل له يوماً: أيما أفضل أبو بكر أم علي رضي الله عنهما ؟ فقال له: أما وأنا في كندة فعلي، وأما وأنا في ضبة فأبو بكر. وكندة بالكوفة من غلاة الرافضة، وبنو ضبة أهل سنة.
ولما دخل الرشيد الكوفة خرج الناس للنظر إليه، فناداه بهلول ثلاثاً. فقال: من المجترىء علي في هذا الموضع ؟ قيل: بهلول المجنون. فرفع السجافة وقال: بهلول ؟ قال: لبيك يا أمير المؤمنين، روينا عن أيمن بن نائل قال: حدثنا قدامة عن ابن عبد الله العامري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد ولا قيل بين يديه إليك إليك؛ وتواضعك في سفرك هذا خير لك من تجبرك وتكبرك. قال: فبكى الرشيد حتى جرت دموعه على الأرض، وقال: أحسنت يا بهلول، زدنا يرحمك الله.
(1/61)



قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل آتاه الله مالاً وجمالاً وسلطاناً فأنفق في ماله وعف في جماله وعدل في سلطانه كتب في خالص ديوان الله من الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، وأمر له بجائزة سنية، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ردها على من أخذتها منه؛ فلا حاجة لي بها. فقال: يا بهلول؛ إن كان عليك دين قضيناه. قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء أهل الرأي بالكوفة أجمعوا على أن قضاء الدين بالدين لا يجوز. قال: فنجري عليك ما يكفيك؛ فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا وأنت في عيال الله، ومحال أن يذكرك وينساني؛ فأرسل الرشيد السجف وسار.
وقيل: إن بهلولاً كان يستعمل الجنون ستراً على نفسه.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة