فاعلية العنوان ومنطقية المنهج نقدياً
د. محمد صابر عبيد نموذجاً
د. سوسن هادي جعفر البياتي
1 ـ الاستهلال:
لم تخل الساحة النقدية من نقاد جادين برزوا في الكشف عن مكامن الإبداع في النص الأدبي والغوص في أعماقه، وإن كانوا قلة، والناقد محمد صابر عبيد أحد الذين ولجوا عتبة النقد الحديث من أوسع أبوابه، نتاجاته النقدية تشهد لـه بالتميز والإجادة وإن كان يجنح إلى الغموض الذي هو سر من أسرار اكتشاف العبقرية النقدية في ناقد منح ـ وما زال ـ الساحة النقدية ما تطمح إليه من إبداع نقدي.
هو ليس بناقد تقليدي، ونظرة فاحصة لمحتويات كتبه تكشف بوضوح على إنه من أولئك الذين اختطوا لأنفسهم طريقاً واضحاً ومنهجاً محدداً...
لست هنا بصدد الحديث عن هذا الناقد، فالحديث عنه سابق لأوانه، فلديه الكثير الكثير الذي يعطي، وإن كان الذي أعطاه كثيراً لكنه غيض من فيض، إنني هنا أمام معالجة نقدية لمشروع دراسي مداره الكتاب لا الكتاب، وهدفه الكشف عن الأسرار والأفكار البارزة في ثلاثة من كتبه النقدية وهي: السيرة الذاتية الشعرية وشعرية القصيدة العربية الحديثة والمتخيل الشعري.... نرجئ الحديث عنه على أمل إنا سنعود إليه ذات يوم...
2 ـ بنية العنوان:
ابتدأ الناقد مشروعه النقدي بكتابه "السيرة الذاتية الشعرية" يستند العنوان فيه إلى مفارقة ذكية، تكمن في ربط الثنائية / النثر والشعر في سطر واحد، فالسيرة على وفق مفهومنا التقليدي فن نثري، ولكن أن ترتبط السيرة بالشعر، وتصبح السيرة شعرية، هنا بالذات تكمن المفارقة وبما أن العنوان يقوم على وصف السيرة بالذاتية فإننا نقف عند الأسس التي طرحها الناقد في كتابه، فالكتاب محاولة لترجمة تجارب وخبرات ذاتية مر بها الشاعر وصورها تصويراً شعرياً أي أننا بإزاء تجربة شعرية لذاتية الشاعر.
مشروعه النقدي الثاني ـ المتخيل الشعري ـ أساليب التشكيل ودلالات الرؤية في الشعر العراقي الحديث ـ وعلى الرغم من أن العنوان يشكل البنية الرئيسية لفهم الكتاب ومادته، ولكني ـ ومن نقطة انطلاق الرؤية الذاتية ـ أجد ثمة تشابهاً واضحاً بين هذا العنوان، وعنوان كتاب آخر ـ المتخيل السردي ـ مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة ـ للناقد عبد الله إبراهيم على الرغم من اختلاف المضمون والمنهج وأساليب المعالجة في كلا الكتابين.
ولنحدد ماهية الرؤية فهي ((خلاصة الفهم الشامل للفاعلية الإبداعية في نواحي النسيج والبنية والدلالة والوظيفة)) (1)، فاختلفت دلالات الرؤية عند الناقد محمد صابر باختلاف مستويات التحليل النصي أولاً، وباختلاف النصوص المنتخبة التي تفرض رؤىً معينة وأفكاراً معينة ثانياً...
وعندما تكون هناك ثمة إشكالية في فهم العنوان، تصبح المهمة الملقاة على عاتق مؤلف الكتاب أعمق وأكبر من مجرد التأليف وهو ما أخذه الناقد بنظر الاعتبار وهو بصدد تأليف كتابه "شعرية القصيدة العربية" فالعنوان ((حاوٍ ـ كما يبدو ـ لأكثر من بعد وأكثر من مصطلح))(2)، فسعى إلى توضيح مفردات العنوان لإزالة الالتباس الحاصل في فهمه، ويبدو أن مفردة (شعرية) عنده تقابل مفردة (جماليات) وهو ما يمكن ملاحظته في مقدمة الكتاب، حتى إنه أطلق تسمية (جماليات القصيدة) بدلاً من (شعرية القصيدة)، ولعل هذا التناقض لا يقلل من أهمية الدراسة بقدر ما يزيل الغموض الحاصل في استخدام مفردة (شعرية)، التي يمكن أن تأخذ أكثر من مدلول وتشير إلى أكثر من معنى. وإذا كنا نجد ثمة تناقضاً في استخدام مفردات العنوان بين ما هو موجود على الغلاف وبين ما هو موجود في المقدمة فإن الناقد يشير إلى أن استخدام مصطلح (القصيدة) قد نجح في إثارة مشكلة؟
إن مصطلح القصيدة (القصيدة) قد جاء بديلاً تعويضياً ناجحاً عن الشعر بمعنى أن ثمة مقاييس للقصيدة في ذهن الناقد تختلف عن المقاييس الموجودة في الشعر. ولعل دخول (أل التعريف) على مصطلح (قصيدة) قد وضع المصطلح في حدود لا يمكن تجاوزها، فمن خلال التعريف يتصل المصطلح بالقصيدة المعينة المنتخبة، ونتساءل: ماذا لو كان مصطلح (القصيدة) نكرة خالياً من أل التعريف؟ هل كان يعني أن المصطلح لن يخضع إلى دراسة وتقويم ونقد؟ وتصبح هذه الدراسة مجرد معطى من معطيات النقد من دون أن تخضع لحدود الدراسة النقدية؟
إن الناقد في توضحيه للمفاهيم التي تشكلت فيما بينها لتكون البنية الرئيسة للعنوان، فمنذ الوهلة الأولى ونحن بصدد القراءة للعنوان تراءى لنا أن المقصود من مفهوم (الحديثة) هو الفرق بين القديم والحديث /بين التراث والحداثة، ومفهومنا هذا كان بعيداً جداً عن المعنى الذي قصده الناقد في استخدامه مفهوم (الحديثة) والذي يرى أنها ((تعني بطبيعة الحال القيمة الجمالية المناسبة للعصر ولجوهر النوع ولا تعني المعطي التاريخي قطعاً))(3) وبهذا قطع الطريق أمام الالتباسات الحاصل في العنوان.
3 ـ إشكالية المنهج:
لابد لكل ناقد من منهج يتبعه أثناء تحليله النقدي، وبغيابه تصبح العملية النقدية وكأنها جهد لا يمكن له أن يبني أو يؤسس تقاليد صارمة لذلك يصبح المنهج في النقد، وكأنه مفتاح لفك آليات النص الإبداعي والحفر في باطنه.
والناقد محمد صابر عبيد كأي ناقد آخر التزم منهجاً محدداً ودقيقاً حاول من خلاله استنطاق القيم المتوافرة في النص، ففي السيرة الذاتية الشعرية استعرض القيم الفنية والجمالية في فني السيرة والشعر بمنهج نصي يفيد من النص ومقارباته من خلال فك رموزه وعوالمه الداخلية، اعتمد على مرجعيات نقدية كرس وجودها في مجال قراءة النصوص الأدبية وتحليلها من خلال ما يمكن أن تعطيه هذه النصوص وما استنتجه هو من تحليله النصي.
ينهض الكتاب على قراءة نقدية في التجربة السيرية/ الشعرية لشعراء الحداثة العربية فيكشف عن أبعاد التجربة الذاتية للشعراء ولاسيما تلك التي دونها الشعراء بأنفسهم شعراً.
في كتابه "المتخيل الشعري" لا يبتعد كثيراً عن هذا المنهج، لكنه يكون أكثر تحديداً في الاستخدام، يشير صراحة إلى المنهج الذي اعتمده في قراءة النصوص هو ((منهج نصي، يفيد من كشوفات المناهج الحديثة ومقترحاتها في حل شفرات النصوص وتأويلها لذا فإن المعالجات النقدية التي سعت إلى مقاربة نصوص متنوعة من الشعر العراقي الحديث، نهضت على تحليل آليات الفعل البشري من الداخل، وتوصيف وظائفها))(4) ويؤكد هذا المنهج في موضوع آخر من الكتاب(5).
في "شعرية القصيدة العربية الحديثة" كان توضيح المنهج: المعضلة الثانية التي حاول الناقد تفاديها، وهو منهج يجتهد أن يكون شخصياً يفيد من منابع الثقافة ومصادرها، يشترط الوضوح في المعالجة والاستقراء والاستنتاج، ويسعى ثانياً ليكون ماثلاً في التطبيق.
لجأ الناقد عند دراسته النصوص المنتخبة إلى الدراسة الفنية من خلال التحليل الفني للنص وإتباع المستويات التحليلية الأسلوبية والسردية والإيقاعية والدلالية كافة، وافتعال طقوس العنونة التي ينطلق منها النص ومدى استجابته للعنوان أو عدم الاستجابة، وفيما إذا كان له دور أساس في تشكيل النص أم أن غيابه لن يؤثر مطلقاً في تحليله.
ونكتشف العلاقة الحميمة بين العنوان والناقد ذاته، ذلك أن فن السيرة من الفنون التي شغلته واستهوته أنماطه ولا سيما السير الذاتية ((التي يقدمها الأدباء والفنانون كانت دائماً أكثر قرباً إلى نفسي مما عداها))(6) كما يصرح بذلك.
إن متابعة الناقد للتطورات الكبرى الحاصلة في جسد القصيدة العربية الحديثة في نهاية الأربعينيات لفتت انتباهه إلى مجموعة لا بأس بها من السير كتبها شعراء الحداثة عن تجاربهم الشعرية، فاعتمد في هذه الدراسة على مجموعة تجارب ابتدأها بصلاح عبد الصبور في كتابه "حياتي في الشعر" وختمها بحميد سعيد في "الكشف عن أسرار القصيدة". وقبل أن نستغور معالم السيرة في هذه التجارب ونطوف في أرجائها لابد من الإشارة إلى نظرة الناقد إلى السيرة ومفهومه عنها، وهو ما يحاول في التمهيد الكشف عنها...
يرى الناقد إن السيرة عانت إهمالاً نقدياً واضحاً، يعود ـ حسب رأيه ـ إلى ((ضيق مساحة الفعل الإبداعي المتمثل في قلة المنتج في مجال كتابة السيرة الذاتية))(7) وبعدها انتقلت إلى مرحلة متطورة على أيدي الكتاب الغربيين الذين أسهمت اعترافاتهم ويومياتهم كثيراً في تطورها.
تعتمد السيرة في تشكيل النوع الأدبي على الذكريات، وعملية التذكر ليست سهلة مجردة تتوقف عند حدود اقتناص أحداث معينة من الماضي وسردها في الحاضر، بل إنها نشاط تذكري خاص ينهض على منهجية معينة تخضعه لضوابط وقوانين محددة، وتستند أيضاً إلى الحدث، فهو الذي يسهم في تطوير فنيتها وشعريتها، فضلاً عن اعتمادها على الزمن الماضي منه تحديداً بوصفه البنية الزمنية الأساسية في السيرة، أما الحاضر فإنه يتطلب استقدام واقعة ماضوية، وتصبح عملية التذكر الجسر الموصل بين الاثنين، لكن الزمنية التي تعتمدها السيرة متحركة غير مستقرة لأن الأحداث التي تستعيدها تفقد الكثير من ملامحها وشكلها وخواصها بمجرد تشكيلها سيرياً، فتفقد خواصها القديمة لتحل محلها صفات وخواص جديدة قابلة للتفكك.
إن المنهج الذي تعتمده السيرة يتمحور حول نوع أدبي يخضع لـه النص السيري، وفي هذه الحالة ـ يقوم الشاعر بعملية استعادة مصادره الذاتية ـ الثقافية والفلسفية والفكرية، كما تستند إلى مرجعيات أساسية في تشكيل النص السيري ـ الشعري، فتصبح السيرة ـ الشعرية سيرة انتقائية، يتدخل الخيال الفني في تعميق الحدث وتشكيله تشكيلاً فنياً يتلاءم والوضع الفني للسيرة الذاتية تشترط الدقة والانضباط والوعي التام وهي من أهم مستلزمات كاتب السيرة وشروطه...
تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة فصول بعناوين تحتل مساحة واسعة وعميقة، يتفرع كل منها إلى عناوين جانبية تشكل في تلاحمها الصورة النهائية لموضوع الدراسة.
"حياتي في الشعر" تجربة صلاح عبد الصبور اعتبرها الناقد تجربة ((وعي أصيل قائمة على وعي هذه التجربة بكل تفاصيلها وخلفياتها مما يوحي بإدراك كامل للأساس الفلسفي الذي تنهض عليه التجربة))(8).
من خلال ثلاثة محاور يحاول الناقد أن يشكل هيكلية هذه الدراسة فالوعي الخارجي للشاعر أو ما سماه الناقد بإدراك المفاهيم الكبرى هو مدار المحور الأول الذي يلخص فلسفة الشاعر في الكون والأشياء وتحليل المفاهيم الكبرى في الحياة، ويقوم هذا المحور على تحديد علاقة وعي الإنسان بالكون /باللغة البشرية/ فكرة الثنائيات التي تنطوي على أهمية كبرى في استيعاب فلسفة الكون والإنسان وعلاقته بالحضارة /بالفن/ بالتراث/ بالقضية.. فتوصل الناقد من خلال هذه العلاقات إلى أن هذا المفصل يمثل حقيقة الوعي الشامل للشاعر، إذ استطاع أن يؤرخ لوعيه ويترجم له أولاً، بمعنى أن هذا المحور بتسلسله المنطقي في الإدراك ما هو إلا سيرة ذاتية للشاعر.
منتقلاً ـ فيما بعد ـ إلى الوعي الداخلي وحدود الشخصية الشعرية والمرتكزات الفلسفية التي ينهض عليه النص الشعري، ووجد أن المصدر الديني كان متزعزعاً عند الشاعر إذ لم يتبلور على شكل تجربة ناضجة تمنحه السكينة والاستقرار، المصدر المادي كان أكثر توحداً وتماسكاً.
توقف الشاعر مدة معينة عن الإبداع الشعري، وكان هذا التوقف هاماً في حياته، إذ وعي جيداً أن القصيدة الشعرية ليست نتاج تجربة حياة مجردة بل نتاج تجربة فنية تنهض على حيثيات تجربة الحياة وتفاصيلها ومن خلال وعي النص يعمد الشاعر إلى توكيد حداثة نموذجه الشعري عبر مناقشة آليات التعبير الفني وتحليلها، كما وقف عند المشاكل الشعرية التي تعترض الشاعر من أبرزها، الصورة بوصفها البؤرة الفنية الأساس التي تنطلق منها خيوط التشكيل الشعري، إن استقلالية النص الشعري عند عبد الصبور يجب أن تنطوي على عمق ثري خارج إطار المباشرة الساذجة في التعبير، بعيداً عن الغموض، أما بنية الشاعر اللغوية فيجب أن تكون بنية خاصة به تقوم فلسفتها وشعريتها في التعبير، وللأسطورة موقع هام في سيرة عبد الصبور الشعرية، وإفادته من التاريخ ثرية وعميقة.
أما الأسلوب السيري، فكان السرد من أبرز الأساليب التي لجأ إليها، وتنطوي سيرته على قيمة سردية عالية تتوهج فيها الذاكرة بالحديث عن مرحلة الطفولة والمكونات الأولى، ونزعة التنظير دفعته إلى الاستغراق في الحديث عن رؤيته النظرية لمسائل فلسفية وفكرية وشعرية، والأسلوب علمي بعيداً عن الإنشائية التي يمكن أن يقع فيها الكثير من الشعراء وهم يكتبون نثراً.
"تجربتي الشعرية" سيرة الشاعر عبد الوهاب البياتي الذاتية الشعرية ينحو فيها منحى خاصّاً مختلفاً عن الآخرين من شعراء الحداثة ممن كتبوا سيرهم، ركز الناقد في دراسة هذه التجربة على أربعة محاور استطاع من خلالها أن يتوصل إلى أن البياتي:
* حاول أن يؤسس كيانه الثقافي اعتماداً على الكتابة والقراءة وبوصفهما المادة الأولية الضرورية لأي شكل من أشكال التكوين الثقافي والفكري، فكرة السفر والرحيل من أبرز القضايا التي تؤرق البياتي في سيرته، إشاعته الجو الأسطوري في مناخ السيرة وسيلة ذكية لخلق تعاطف مبالغ في حماسته للتجربة.
* التأكيد على مصادر خاصة استلهم منها ثقافته منها: المرتكزات المكانية والزمانية وما تقدمه من فضاء/ فكرة التصوف وألم المعاناة والتجربة والمعرفة والخلق/ الأساس الفلسفي.. هذه المصادر يستقدمها بعضها من خزين الذاكرة المتحفزة، اليقظة باستمرار، ويؤلف البعض الآخر انطلاقاً من أمنياته وتطلعاته وأحلامه.
* تحديد مراحل تطور شخصيته الشعرية وإحالتها إلى الموقف بوصفه العامل الهام في صياغة شكل الشخصية الشعرية وقياس مستويات تطورها، والموقف يرتبط بالخارج الشعري لا الداخل الشعري، ويمزج بين الموقف الفكري والحيوي، والموقف الفني والأسلوب، أهمية التمرد في صنع القصيدة البياتية المعروفة.
إن البطل الأسطوري ـ التاريخي يتفق مع الموضوع الأساس الذي كرس البياتي شعره لخدمته، فكان الشكل الفني العنصر الحاسم في تطوير التجربة الشعرية.
* يطمح إلى تكريس فلسفة خاصة تمزج الحياة بالشعر /بالتاريخ/ بالحضارة، لذلك فإن المنجز الشعري له يأخذ بعداً خاصاً يحاول البياتي أن يمنحه صفة كونية بالتحام الرحلتين الكونيتين، الأولى، ذاتية محض، والأخرى: كاشفة عن إنسانيته، وفي ظل الحضارة العربية تكتمل سيرته الذاتية الشعرية.
* اختلاف البنية اللغوية السيرية له عن الشعراء الآخرين في أن لغته تبتعد عن الرصد العلمي الدقيق للظواهر ومعاينتها بطريقة فاحصة، فيلجأ إلى لغة فنية عالية المستوى، وبالتالي تفقد لغته السيرية مواصفاتها الخاصة المتمثلة في قدرتها على توصيف الظاهرة الشعرية بالتجربة، وتقديمها بلغة رصينة لا تخلو من حجة ومنطق ومتصفة بالإبانة والوضوح والدقة...
"قصتي مع الشعر" تجربة الشاعر نزار القباني السيرية / الشعرية، فيها يعي تماماً أهمية بالسير الذاتية بوصفها فناً أدبياً، ينطوي على جرأة وخطورة، يقرر انطواءها على أهمية نقدية كاشفة لعوالم النص الشعري، وهو إذ يقرر كتابة سيرته الشعرية بنفسه، فإنه يستعير أصابع النقاد من جهة، لاغياً دورهم من جهة أخرى إيماناً منه بأنه لا يمكن لأي أحد أن يفهم نصه الشعري كما يفهمه هو...
وفي هذه النقطة ـ تحديداً ـ تكمن المعارضة الحقيقية بين ما ذهب إليه القباني وبين ما سيذهب إليه الناقد في تصوراته النقدية عن سيرة هذا الشاعر، فيعد هذه القضية أكبر وأعقد من أن تعاين بهذه البساطة، فيقول: ((إذا لو إننا سلمنا بما يقوله نزار هنا وبهذه الحدية، إذن لكان بإمكاننا الاستغناء تماماً عن النقد والنقاد والاكتفاء بالسير الذاتية الشعرية التي يكتبها الشعراء، والاطمئنان التام إلى ما يقررونه بشأن شعرهم، بعيداً عن التشكك في حجم الادعاء مقارنة بمستوى الإنجاز عند كل شاعر))(9).
تنطلق فلسفة الناقد من الدور الهام الذي يلعبه الناقد ورؤيته النقدية في النص الإبداعي المكتوب، وهو بهذه الرؤية يفتح آفاقاً واسعة للانطلاق في حكم تقويمي وتحليلي للنص، وأن ما يكتبه الشاعر من سيرة ذاتية قد تخضع لنوع من الشك، إذ لو افترضنا استبعاد الناقد نفسه عن العملية النقدية للسير الذاتية الشعرية فإننا والحالة هذه سنقع في إشكاليات قد نكون بمنأى عنها، لأنه لا يمكن عد كل ما يقوله الشاعر في سيرته صحيحاً، فهناك جوانب مضيئة في حياته، يظهرها بوضوح، ويثني عليها، فضلاً عن وجود جوانب مظلمة وسلبية في حياته، يعمل على إخفائها، وليس كل الشعراء لديه القدرة للكشف عن هذه الجوانب إلا ما ندر منهم، فتصبح المهمة الملقاة على عاتق النقاد أولية وأساسية للإبانة عن صحة كل ما قيل وما يقال في مثل هذه التجارب...
إن دينامية اللغة، وقدرتها الفائقة على الإيهام استطاعت أن تخلق من سيرة نزار مدرسة شعرية متفردة، إذ إنه ((يحتفي بالمفردة احتفاء خاصاً يصل إلى حد خلقها من جديد إيقاعاً ودلالة لقدرته الفائقة على اكتشاف أسرار الكلمة وثرائها وعوالمها الداخلية))(10) وثراء هذه التجربة وتنوعها ينعكس إيجابياً على ثراء لغة الشاعر وشموليتها.
استطاع نزار القباني أن يطرح أنموذجاً لغوياً جديداً في الكتابة الشعرية، قادراً على استيعاب تجاربه وخلق نصه المتميز الخاص.
وتتحدد مصادر تجربته ومرجعياته في قراءاته اللبنانية في الأربعينات من القرن العشرين / تجربة السفر وأهميتها / الذاكرة / المرأة / نكسة حزيران،، وهو على وعي تام بخطورة المكان وأثره في تشكيل الفضاء الشعري للقصيدة، ولم تكن سيرته المكانية مقتصرة على البيت وحده بل انطلق إلى خارج الإطار الميداني للبيت / الشكل والتجربة واللغة من التقانات الشعرية المعتمدة في هذه السيرة، مرتبطة بقضية معينة يستحضرها الشاعر دوماً ألا وهي قضية المتلقي.
يطرح حميد سعيد في "الكشف عن أسرار القصيدة" ملاحظة هامة ودقيقة تعلن عن محاولة إيجاد أو تأسيس علاقة بين البنية الإيقاعية والبنية الدلالية، ويرى الناقد أنه على الرغم من أن هذه الملاحظة تقع في صلب اهتمامات الحداثة في مجال الشعرية العربية للقصيدة إلا أنها مازالت في طور الاختيار، بمعنى إنها ما زالت بحاجة إلى تعميق النظرة القائمة على اكتشاف منطلقات نظرية تؤسس قوانين عامة، مدعمة بقوة علمية يمكن أن يقاس عليها، وتنكر على الشاعر إقامة تشابه وظيفي بين الملصق والتضمين، ويرى أن الملصق الذي أدخله بعد منتصف قصيدة "عن القصيدة" تحت عنوان هوامش يبدو عليها قدر من الافتعال، إذ إن تجربة ((القصيدة لم تكن بحاجة إلى هذا الملصق الذي يختلف عن التضمين اختلافاً يكاد يكون جذرياً على الرغم مما يبدو ظاهرياً من تشابه وظيفي)) (11)، ووقف عند السلبيات التي يمكن أن تسجل على هذا العمل والتي تتحدد بـ ((تلك الرغبة الجامحة في الحضور النقدي الواعي على حساب إظهار أسرار التكوين وخفاياه))(12).
بعد أن استكمل الناقد متطلبات الدراسة الفنية وتحديدها، كان عليه اقتناص اللحظة التثويرية التي تقربه من دراسة جماليات الكتابة والبنية السردية في السير الذاتية الشعرية، إذ نهضت البنية السردية على ((لغة السارد المتكلم أو الراوي العليم))(13)، وهي من الأمور الطبيعية طالما أن المتكلم في هذه السير هو الشاعر نفسه، يدون سيرته الذاتية بنفسه وعن نفسه، فهو أعلم الناس بها، وبما يكشف عنها.
هل ينبغي لنا أن نكتب بطريقة مختلفة؟
بهذا السؤال ابتدأ الناقد مشروعه النقدي في كتابه ـ المتخيل الشعري ـ بعد مقدمة وجيزة عن الشعر العراقي والشاعر العراقي والمنهج المعتمد في فصول هذا المشروع.
في التمهيد يتحدث عن الكتابة المختلفة، فدار الكتاب ـ بمجمله ـ حول أسئلة ثلاثة شكلت رؤية الناقد فيه، والإجابة عن مثل هذه التساؤلات تثير الكثير من الإشكاليات التي لابد منها.
إذن: لابد من كتابة مختلفة...
وهي النقطة الأول التي يبتدئ بها الكاتب، والمنطلق الأساس في الكتابة ولكي تكون مختلفة لابد لها أن تكون ((كاشفة بمعنى أنها ليست خاضعة لقانون ومحددة بإطار))(14) تعتمد على فتح بنية الداخل اللغوية والمكاني والزماني، وهي صناعة الموهوبين الأكثر تميزاً وتفرداً واختلافاً وثقافة، تعتمد التأمل والغوص في أقبية العقل وآلياته وصناعة استجابة تمثل موقفاً.
ظهرت الحداثة بمثابة مرض خطير ابتلي بها العصور الشعري الحديث، فما أن شاع هذا المفهوم في الأوساط الثقافية حتى أظهرت أفكاراً ورؤىً وتنظيرات وبيانات هدمت الكيان الأساس للشعر، فهي وإن كانت لها مساوئها من جهة، فإنها ـ من جهة أخرى ـ حملت إيجابياتها معها وراحت تزهو بها وتفتخر بوجودها، فلقد كانت ـ على المستوى النظري ـ ((المنقذ الاستراتيجي الذي لا بديل لـه لمشكلاتنا الفكرية وأزماتنا الحضارية وعلى المستوى الشعري ـ الحلم الأبهى الذي يخرجنا من الظلمات إلى النور))(15).
بدأ النقد انطباعياً، نابعاً من الأثر الذي يتركه النص الأدبي في نفس المتلقي، وبمرور الزمن ظهرت مناهج نقدية أخذت نصيبها في الأوساط الثقافية، واحتفاء الناقد محمد صابر عبيد بالنقد الظاهراتي كان جلياً وواضحاً، وغيابه في النقد أحدث فجوة كبيرة ويبرر أسفه لغياب هذا المنهج بقوله إن:
((النقد الظاهراتي لا يمثل ثقافة نقدية عالية فقط وطيدة العلاقة بالفلسفة، ولكنه يمثل أكثر من أي نقد آخر، ضمير الناقد وذاتيته...)(16).
ويبرر غيابه في أن الناقد ـ أي ناقد ـ عندما يكتب وينشر ما يكتبه في الصحف فإنه لا يجد مجالاً للتعبير عن وجهة نظر ما فهو لا يستطيع إضافة شيء من رؤيته الذاتية وموقفه الخاص ـ وفي اعتقادنا ـ أن هناك مبرراً آخر لغيابه وهو أنه قد ظهر إلى الوجود مع المناهج النقدية الأخرى فوجد كل ناقد في كل منهج ما يلبي طموحه النقدي، فتمسك به، فيما اختفى البعض الآخر لغموضه وعدم وضوح مفهومه وإجراءاته.
إن الإيقاع بنية هامة في الشعر يسهم في إحداث تحول خطير في شكل اللغة وطاقاته الدلالية، وأي خلل في الموازنة الحرّة بين البنية الإيقاعية والدلالية يصاحبه شرخ في شعرية القصيدة يؤدي إلى خلخلة نظمها وقوانينها، يتوقف عند ركنين أساسيين هما: الصوت والوزن.
إن المصادر الممولة للتجربة الشعرية تتركز في مصدرين، الأول: الذاكرة، والآخر: الحلم. إذ تنطوي الذاكرة على طاقات تاريخية واجتماعية ونفسية متنوعة الشكل والتأثير فيعمل النص على تشكيل أجزاء هامة من كيانه النصي استناداً إلى معطياتها وما تفرزه من قيم، ويصبح النص الشعري ناقصاً إذا كان خالياً من الحلم لأنه يضفي على الفضاء الشعري هيبة إبداعية، وهو مصدر حساس جداً، قابل للتغير بسبب ذاتيته وشخصيته وارتباطه بالتجلي الروحي.
هذه هي فلسفة الناقد النظرية في دراسته السيرة الذاتية/ الشعرية، فمن أين تنطلق فلسفته التطبيقية في النصوص المنتخبة؟
في قصيدة "اللقاء" ليوسف الصائغ تنطلق هذه الفلسفة من طرح أنموذج خاص له دلالته النصية، تعتمد على مفارقة لطيفة تكمن في اختزال اللعبة النصية عند آخر مفردة من مفردات النص الشعري، وعلى الرغم من اختلاف المستويات التحليلية لهذا النص وتفاوتها من مستوى نحوي / دلالي / أسلوبي / وصولاً إلى المستوى السردي، إلا أن الناقد تعامل مع النص وكأنه مشهد سينمائي يحتمل فن التقطيع وتصوير مشاهده بالكاميرا. ويأخذ العنوان في شعرية المكان ودراسته لقصيدة "السياج" للشاعر حسين عبد اللطيف حيزاً أوسع في تحليله النصي، ويكشف عن أسلوبه البنائي وفاعليته في المتن النصي، هذه الفاعلية التي تعمل بشكل سلبي في منطقة النص إذ تبدأ من الحضور الكلي إلى الغياب الكلي بدلاً من أن تكون إيجابياً.
وللمستوى الإيقاعي والدلالي أثر في إبراز شعرية الفراغ أو الفجوة بصورة أكثر في قصيدة "ارتباك" للشاعر عبد الرزاق الربيعي، فيما تستند قصيدة "ورأينا الباب" لفاروق يوسف إلى مفارقة لسانية ـ بنيوية، فهي تقدم مدونة سردية لتأليف حكاية تتفاعل فيها مكونات السرد، وهناك ثمة تداخل بصري مثير للإشكال بين العنوان "ورأينا الباب" وتكراره المباشر في المتن.
في قصيدة "الأقدام" لسامي مهدي يكشف الناقد عن جماليات النص مما تستدعي الفحص الدقيق والحفر في طبقات النص ـ إذ إنه يقوم في بناء نظامه الحركي على الفعالية الظلية للجسد / الأقدام، وبعد دراسته لفعل الرؤية / السمعية والبصرية والذهنية ودراسة الراوي ومصادر بنية الإيقاع الحركي والدلالي والتقفوي وزاوية الرؤية يصل إلى نتيجة مؤداها أن الأقدام بهذا الوصف الشعري ((رمز من رموز "الزوال" عند الشاعر، وهو رمز مضغوط محمل بشفرات تتجاوز حدود فكرة تحول "الأقدام" إلى "أجساد" كاملة، نحو أفق واسع من الاحتمالات قد لا تتوقف عند حد، لأن "الأقدام" بصيغتها الجمعية وبنموذجيها "التنكيري والمعرف" حركة ذاتية لا تهدأ ودائمة لا تتوقف وهي تتواصل عبثها المجدي من أجل هدف موهوم))(17).
تطرح قصيدة خالد علي مصطفى "صوت" جملة من المشكلات الفنية التي يتحدد على أساسها مصير شعرية النص، من أبرزها/ مشكلة النظام الحركي الذي يفرضه أل "صوت" على المكان الشعري المؤول نصياً ((فالصوت حركة في المكان تسهم في منحه فضاء جديداً، ويفضي إلى نظام حركي خاص قائم على طقوس وتقاليد ونظم))(18)، فتقوم فلسفة الناقد على ثنائية الانفتاح والانغلاق مشبهاً النص بصندوق كبير يحوي صناديق أخرى: الليل / الينبوع / الطيور، ومفاتيح هذه الصناديق هي: الصباح / الضفاف / المناقير. وهي صناديق مجازية تستعير حلقاتها من الحالة وليس من الوضع التقليدي.
قصيدة "فن بصري" للشاعر جواد الحطاب تقوم على نظام تقترحه اللغة للنص، تعتمد نظام مشاهد صورية متعاقبة ومتوالدة. ويرى الناقد إن بنية العنوان بنية خادعة لأنها تستدعي ذهن التلقي لكي يستحضر إمكاناته مستعارة من فن السينما من جهة وتقانات التشكيل من جهة أخرى. وبقراءة شاملة ودقيقة لمنظومة الأفعال /الضمائر/ الحروف/ مستويات النظام / الحلم / الرؤية/ عمل الراوي والمستويات السردية كافة يصل الناقد إلى نتيجة تنتهي بذوبان المرأة في المرآة إذ إنها تبقى وحيدة نائية متنازلة عن فضائها، تغير في داخلها كل شيء، فيتحول ((النص إلى استهلال احتفالي مسرحي، إلى إحباط لغوي/ دلالي ينتهي بنقطة تنقذ الفكرة من أدنى احتمال للتحقق والصيرورة))(19).
وتعد آلية الحلم من أخطر الآليات الداخلة في جوهر العمل الإبداعي، لا يتجاوز حدود الأبعاد النفسية والفلسفية وتأثيراتها المتنوعة، ففي قصيدة "عندما انبعث الماضي" تحاول نازك الملائكة ((إيهامنا بأنها لم تكن تحلم وإنما سمعت صوتاً حقيقياً آتياً من الخارج، ولم يكن ذلك الصوت صدى رغبة تتفلت حول قضبان اللاشعور))(20)، والناقد لا يستبعد عن هذا الحكم حينما قرر: أن النص قد دفع الحلم إلى منطقة الغياب وتطرح قصيدة "يوتوبيا في الجبال" أنموذجاً آخر للحلم يصل الذروة، وبها تكتمل دورة النص مستدلاً على إشكالية نازك الشعرية. في قصيدة "الخيط المشدود إلى شجرة السرو" تشتغل آلية الحلم بشكل واسع، فتعمل العين الرائية بوصفها كاميرا موجهة لالتقاط صورة معينة محددة. فيما يكتسب الحلم في قصيدة "الزائر الذي لم يجيء" بعدا ميثولوجياً عبر توظيف تمظهر معين من تمظهرات أسطورة الذي يأتي ولا يأتي. ويتحول الحلم في قصيدة "إلى الشعر" من ملاذ كوني إنساني إلى ملاذ زمني يستوعب حركة الحياة وتموجاتها لنصل إلى نتيجة ثابتة تتحدد في أن نازك ((تطمح إلى الانتقال بالتجربة إلى مستوى الالتحام بالحلم، لنستدل به على قضيتها الشعرية الأساس في أعمق منطلقاتها وأخطر نماذجها))(21).
تقوم الصورة في قصيدة "بقيت لي" للشاعر سامي مهدي على مرتكز فعلي رئيس / بقيت... لي يفصل بين عالمين متعاكسي الاتجاه، فتعتمد الصورة على ((اصطدام "ما تبقى" من الفعل بما "تبقى" من الذات، لتبقى اللقطة الأخيرة في حيز الشروع))(22)، وهي صورة غير مكتملة على مستوى البناء.
في قصيدة "الوهم" يستحضر الشاعر مفردات الخوف والوحشة والارتباك، وتجيء الصورة حركية فاعلة في قصيدة "اطمئنان" وفي قصيدة "الشوط المفتوح" يسهم العنوان إسهاماً فاعلاً في تأسيس مقتربات الصورة وإيقاعاتها. وبعد دراسة الصورة في عدة قصائد ولمجاميع الشاعر المختلفة يستنتج الناقد أن ((الشاعر سامي مهدي، بارع في تركيب هذا النمط من الصور الشعرية))(23).
ولسلطة اللون ومقاربته الجمالية وجود في هذه الدراسة، يقرر الناقد في تمهيده النظري أن المشهد الشعري العراقي الحديث وبحكم عوامل كثيرة ذاتية وموضوعية قد حفل بالكثير من القيم اللونية المباشرة وغير المباشرة، كما بين تأثيرات اللون الأسود وجمالياته في قصائد السياب ويوسف الصائغ، وجماليات اللون الأبيض في قصائد مالك المطلبي، وعيسى حسن الياسري وعلي الحسيني اللذين دمجا اللونين ـ الأبيض والأسود ـ في قصائدهما، فيما ينقل الشاعر مرشد الزبيدي فعالية اللون بواقعه المرمز إلى داخل الداخل في قصيدة "احلم" فيأخذ اللون صفة ذهنية مرتبطة بعرف جمالي تقليدي غير مرئي عند الشاعر فيصل جاسم، ولا نريد الخوض في المسائل التي تطرق إليها الناقد بخصوص اللون وجماليته في القصيدة العراقية جميعها.
في كتابة "شعرية القصيدة العربية الحديثة" يعود إلى اللون مرة أخرى، فيدرس فلسفة اللون عند نزار القباني في ديوانه "الرسم بالكلمات" وسر اختيار هذا الديوان يعود إلى أنه: ((التجسيد الحي للعلاقة الجدلية المباشرة والصريحة بين جزأي العنوان" الرسم / الكلمات" فضلاً عن أن هذا الديوان يعد مرحلة مهمة من مراحل تطور نزار الشعرية))(24)، ويرى أن استثمار طاقة اللون في قصيدة نزار لا يقف عند الحدود الفنية الصرف بل إنه ينتقل به إلى أبعاد جديدة تتصل بأطروحة الشاعر المركزية وفلسفته في الفن والحياة، ويتوصل إلى أن للون الأخضر حظوة كبيرة في قاموس نزار اللوني ووروده مكرراً إنما هو توكيد حضوره وتكريس معطياته اللونية بتدرجاته المعروفة، ويأتي اللون الأزرق علامة وفضاءً شعرياً، وكراهية الشاعر للون الأبيض تتأتى من كونه يوحي الشاعر بأنه اللون الذي يكتب على جدار مقبرة كلسي، فهو ـ على حد تعبيره ـ ضريحي.
وتأتي دراسته عن شعر جبرا إبراهيم جبرا مستوفية نوعاً ما لمضمون العنوان، فتقطيع العنوان على عدة مقاطع وتطبيق آليات السرد عليه تشير إلى إفادة الشاعر من تقانات السرد الحكائي في قصائده.
وتنال قصيدة "وخطير هو البحر" للشاعر خليل الخوري أهمية استثنائية لدى الناقد لقيامها على عدة قراءات أفلح الناقد فيها في بيان الأفكار والرؤى المختلفة في كل قراءة، فهي أفضل نموذج لحضور الرمز وفاعليته الوظيفية يقوم بالبناء الفني على النمط المقطعي ـ المحوري في القراءة الأولى درس الاستهلال ومستويات الحكاية والبنية الإيقاعية للقصيدة. وتحددت القراءة الثانية بشعرية الحركة السردية بين بانوراما المشهد ولسان الحكاية، فيما احتل الراوي فيها موقع الصدارة مستعيناً بمخرجات لسان الحكاية، وتنطوي القصيدة على أكثر من مجال حيوي (جمالي) يوفر مداخل متنوعة لاقتحامها، يفيد البناء الفني فيها من معطيات السرد والتشكيل والمونتاج السينمائي.
نجحت قصيدة "شيخوختان" للشاعر خيري منصور في اعتمادها نمط البناء المقطعي المعتمد أساساً على مقطعين يمثل الرجل / القطب الأول، وتمثل المرأة / القطب الثاني فتصبح العلاقة بين القطبين علاقة تقابل، ومن خلال عملية الالتحام والارتباط يتكون النص الشعري.
يعد الشاعر أمجد محمد سعيد أحد الشعراء الذين قدموا تجاربهم في القصيدة الطويلة، استخدم نظام الثنائيات في قصيدة "ما بين المرمر والدمع" الذي يؤدي ((إلى خلق بنى متصارعة مرة ومتجاذبة مرة أخرى داخل كيان النص))(25) والذي منح القصيدة هذه الروح الغنائية العالية هو كون الشاعر غنائي يولي القضية أهمية بالغة فكان الارتباط بالقوافي وهذه الروح الغنائية واضحاً، فالقوافي كانت بمثابة تعزيز لروح الغنائية وبؤر لتوليدها وزيادة ضخها / بنية الإهداء لا تعد هامشاً اعتباطياً وسريعاً، بل يمكن عدها مفتاحاً هاماً من مفاتيح النص، تعتمد القصيدة على ضميرين: أنا السارد الدال على شخصية المتكلم / الشاعر، وأنت الدال على المخاطبة بصيغتها المؤنثة الصريحة.
وتستلزم قصيدة "أربعة وجوه بصرية تحت القصف" للشاعر كاظم الحجاج دراسة مختلفة لانحراف المستويات الإيقاعية والأسلوبية وتنوعها في مقاطع القصيدة المتعددة، كما أن الجملة الاعتراضية شعرية قد لا نجدها في جمل أخرى، فهي تعمل على إسناد الفكرة الشعرية بقوة أكبر.
في المحور الأخير يعود الناقد إلى دراسة الذاكرة والحلم والمعادلة الشعرية بينهما، في قصيدة "زهرة عباد الشمس" للشاعر عدنان الصائغ، خاتماً رحلة حلمه بالفعل (تنام) إشارة إلى أن الرحلة انتهت لتستلم الذاكرة السلطة مرة أخرى...
4 ـ الخاتمة:
تكمن القيمة الجمالية لعمل إبداعي معين في مدى استجابته لمتطلبات الذوق العام والخاص للمتلقي من جهة، ودرجة تطابقه للواقع واستمداده من خيال المبدع لتشكيل صورة فنية بارعة من جهة أخرى.
واحتمالية وجود نص إبداعي يستحق الدراسة والتحليل لا يتأتى إلا بوجود نص قابل للتفكيك وتشريحه علمياً، ولولا إيمان الناقد بوجود مثل هذا النص لم يكن ليتكلف عناء ومشقة التحليل النقدي؟!
فجاءت هذه الدراسات وافية وشاملة ودقيقة للمنهج المعتمد عليه في قراءة النصوص مستوعبة الأفكار والرؤى، ومستوفية المستويات التحليلية كافة.
اعتمد الناقد منهجاً محدداً ومؤطراً بإطار موحد، جعل نقطة الالتحام بين أجزاء المشروع وترابطها منطقية، فاعتمد على مستويات تحليلية متنوعة، حددت معالم النظرة النقدية وفلسفته القائمة على تطابق مضامين بعض العنوانات، اعتمد التناوب في فكرة الموضوع، فهناك / اللون / الذاكرة / الحلم / البنية الإيقاعية / البنية الدلالية مع اختلاف النصوص المنتخبة.
كما أن خلو هذه الكتب من الخاتمة المتعارف عليها، يبين خلاصة المؤلف ورغبته في أن تكون هذه الدراسات ذات نهايات مفتوحة بمعنى أنها قابلة للاستزادة والإضافة فضلاً عن أن تكون سلسلة متواصلة من الدراسات التطبيقية.
الهوامش:
(1) المتخيل السردي 5
(2) شعرية القصيدة العربية الحديثة 3
(3) المصدر نفسه 7
(4) المتخيل الشعري، 6
(5) المصدر نفسه 91
(6) شعرية القصيدة العربية الحديثة، 5
(7) المصدر نفسه، 11
(8) المصدر نفسه، 35.
(9) قصتي مع الشعر، 83
(10) المصدر نفسه، 83
(11) الكشف عن أسرار القصيدة، 109
(12) المصدر نفسه، 120
(13) المصدر نفسه، 125
(14) المتخيل الشعري، 9
(15) المصدر نفسه، 17
(16) المصدر نفسه، 18
(17) المتخيل الشعري، 101
(18) المصدر نفسه، 104
(19) المصدر نفسه، 117
(20) من الذي سرق النار ـ خطرات في النقد والأدب، 178.
(21) المتخيل الشعري، 133
(22) المصدر نفسه، 138
(23) المصدر نفسه، 156
(24) شعرية القصيدة العربية الحديثة، 15
(25) المصدر نفسه، 121
المصادر والمراجع
1 ـ سيرة الذاتية الشعرية ـ قراءة في التجربة السيرية لشعراء الحداثة العربية، محمد صابر عبيد، ط1، دائرة الثقافة والإعلام ـ الشارقة 1999.
2 ـ شعرية القصيدة العربية الحديثة، محمد صابر عبيد، منشورات رؤى بغداد، 2000
3 ـ قصتي مع الشعر، نزار قباني، ط7، منشورات نزار قباني، بيروت 1984
4 ـ الكشف عن أسرار القصيدة، حميد سعيد، ط1، مكتبة التحرير، بغداد، 1988.
5 ـ المتخيل السردي ـ مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة، عبد الله إبراهيم، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1990.
6 ـ المتخيل الشعري ـ أساليب التشكيل ودلالات الرؤية في الشعر العراقي الحديث، محمد صابر عبيد، ط1، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب، بغداد، 2000.
7 ـ من الذي سرق النار ـ خطرات في النقد والأدب، احسان عباس، جمعتها وقدمت لها: وداد القاضي، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د.م، 1980.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق