مستويات التلقي فى الشعر الجزائري
د. خيرة حمر العين
تكريس الطابع النضالي
إذا كان النقد بمفهومه الشامل هو حركة تأمل في متغيرات الكون وتحولات المجتمع فإن النقد الأدبي لا ينفصل عن هذه الحركية غير أن المادة التي يتناولها موضوعاً له لا تؤخد على أنها مادة جاهزة وإنما تعتبر شكلا متغيراً في قلب التاريخ يتضمن نفس متغيرات الوجدان الذى أنتجه .
إن النص في ضوء هذا التصور ليس بنية مغلقة يستلمها الناقد فيشرع في تصنيفها إلي جيد وردئ وصادق وغير صادق … وغيرها من التصانيف وإنما هي حصيلة عدم اكتمال يتطلع القارئ استكمالها بغرض وصل الواقع بالممكن والرمزي باليومي وليس بقصدي فصلهما لذلك كانت تجربة التلقي تطلعها أسمي لفهم الكامنة فى مستويات التعبير وعلائقها الدلالية والتركيبية فى إبداع المعني من جهة وفي مستويات التلقي التي تعمل علي فض مغاليق تلك العلاقة وتفعيلها وفقاً لاستراتيجيات تأويلية تعتمد بالدرجة الأولي علي استقراء الرموز وتأمل الصور .
ولقد أسهم التذوق الفني فى تطوير مشاعر التلقي لدي القراء بوصفه ” استجابة وجدانية لمؤثرات الجمال الخارجية واهتزاز الشعور فى المواقف التي تكون فيها العلاقات الجمالية على مستوي رفيع فيتحرك لها وجدان الإنسان بالمتعة والارتياح وفى نفس الوقت يعني الذوق استهجان القبح ولفظة والتحرك نحوه لتحويله إلي جمال يمتع الإنسان ..أي أن الذوق حركة ديناميكية فاعلة للتأثر والتأثير بمواقف الحياة التي يلعب الجمال فيها دوراً إيجابياً [1] وربما انطبعت في وعي الإنسان صورة الجمال المثالية وارتبطت بالقيم الكمالية ولم تنحرف فاعلية التلقى عن هذا المنظور إلا بزوال الرؤية الخطية التي تكرس أحادية النمط ، ويمكننا القول ” بأن النص موضوعاً للتلقى فإنه لم يحفظ بالعمق التساؤلي الذي يخلصه من الاستجابات السطحية والانفعالات ومن هنا أصبح فعل التلقي يخضع لشروط واعتبارات تحددها فاعلية القراءة من حيث كونها فعل إدراك لشئ مدرك يتملس تحققه من خلال التفاعل الثنائي بين النص والقارئ إذ لا يمكن للنص أن يحيا إلا في أفق فاعلية إنتاجة وتلقيه [2]
ولا شك في أهمية هذا التصور تكمن فى استكشاف الملامح الأدبية والأسلوبية التي تميز النصوص وبني النظما الذي يؤسس لأشكال مغايرة لا تتخذ من الواقع المعطي ( الوارد ) مادة لها وإنما تتطلع إلي استشراف أسرار الواقع الممكن (المحتمل ) بوصفه حامل نبوءات المستقبل .
ولقد طرح الواقع الجزائري مؤثرات تضالية وثورية حركت مشاعر الأدباء والشعراء فكان الشعر الجزائري الحديث في معظمه تراثاً وطنياً يعني بالحركة التحررية وأمسا جمالية نضالية نادرة ما زالت تمثل تراثاً وحياً ونابضاً يعكس بصدق جدل الثورة والواقع .
وفيما عدا تلك النضالية فإن الشعر الجزائري فى معظمة لم يؤت الثمار الخالدة لتأصيل الوجود الإنساني وتأكيد المعني الحي للحياة ، وتجاوزها إلي الرغبة فى البقاء التي رافقت حلم الإنساني فى صاغة مثاله الأدول وتحضة بالعطاء .
ولعل قراءة أخري لتجرية نقد الشعر الجزائري فى المنظور السوسيولوجي والتاريخي قد تكون كفلية بسلخ مساحة العراء وكشف الغطاء عن المسار المتأخر لتلك التجربة التي عجزت عن تفكيك رمزية الجمال النضالي وحولتها إلي بعد اجتماعي – تاريخي لا يقول أكثر مما يقوله الواقع المعيش .
ومن نتائج ذلك التعامل أيضا سلبية التأمل التي هيمنت فيها العناصر الحسية واعبترتها المرجع الأوحد لعملية الكتابة الشعرية ، وربما تكشفت هذه المسائل أكثر بإثارة إشكالية نقدية بين النص والواقع .
فما هو النقد ؟ وما هي شروط تطوره ؟ وكيف ينشأ ويتطور مع تطور النظم والمؤسسات ؟ وهل يرتبط بالنص من حيث كونه أثراً مفتوحا أم بوصفه أثراً مغلقا ؟ وكيف تضي مسافة لتلقي النصوص بذلك المستوي من الموضوعية اليقظة ؟ هل تجاوزت القراءة المعاصر الخطاب النقدي التلقيدي الذي اكتفي بنقل المناهج السياقية واعتبرها نماذج قابلة للتطبيق ؟ ثم كيف نتعامل مع الأثر الأدبي بخاصة وهو يضمر أكثر من خطاب تاريجي وسوسيولوجي ، وإيديولوجي وحتي نمطي ؟ وهل نستطيع القول بأننا تجاوزنا مرحلة اعتبرنا فيها الأثر الأدبي انعكاساً للتاريخ النضالي؟
إن قراءة الشعر الجزائري برؤية نقدية متكاملة شئ لم ينجز بعد وكل ما أنتجته الرؤي السابقة لم يحقق الجدل الكافي لإثارة سؤال الأدبية والمعني الأدبي فى التجربة الشعرية الجزائرية ، ولعل تراجع الوعي بالمسألة يعود لضآلة الإنتاج وعدم قدرة الفعل الإبداعي علي مكاشفة الواقع .
وقد يعود ذلك إلي تعامل الشعراء مع الواقع كمادة خام غير قابلة للتحول ، فعجزوا بذلك عن تجاوزه واحتوائة وقد كان أرسطو محقاً فى تصوره لمهمة الشاعر على حد قوله : ” بأن مهمة الشاعر الحقيقى ليست فى رواية الأمور كما وقعت فعلا ، بل رواية ما يمكن أن تقع ولهذا كان الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمي مقاماً من التاريخ أن الشعر بالأخري يروي الكلي بينما التاريخ يروي الجزئي [3] .
وربما لاعتبارات تتعلق بالنص الشعري نفسه لم نتجز القراءة النقدية ما نرجوه منها الآن ونقصد بذلك أن الإبداعات الجزائرية منذ الاحتلال إلي ما بعد الاستقلال لم تتخلص من هيمنة الأساليب التقليدية والتي أسهم فى تكريسها نقص المثاقفة مما لم تفسح المجال لإمكانية التفتح علي العالم وطبيعي ألا تنتج تلك الفترات – علي اختلافها – فناً أدبياً لافتقادها المناخ الرؤوى الذي يثري مخيلة الشاعر ويحدد مواقعه ليبقي الشعر مجرد دوافع وانفعالات تصاغ فى قوالب جاهزة تفيقد للحس التنبئي والرفض ، ويهيمن عليها إحساس عاطفي بالخيبة والاستلام ومن الواضح أن بعض الرؤي المتقدمة تنكر على موضوع النص الإبداعي تناوله ” الفكرة علي ظاهرها وهو ما تلمسه فى نصوص الشعر الجزائري التي يقل فيها التعبير بالإيحاء الجمالي فى طابعة الرمزي جعلوا من واقعهم عالماً تحكمه صفة التجريد فى تقبل الأحداث علي علاتها ونقلها إلينا بصورتها الحقيقة دون الاهتمام بمحصلة التجربة المرتبطة بالنفاذ إلي العالم الداخلي وذلك بقصد إنشاء العلاقة بين الخيرة الذاتية وتلك التي يتلقاها الشاعر من الخارج [4]ومن المؤسف أن النقد الجزائري لم يفسر العلاقة بين عالم الشاعر الداخلي أو الخبرة الذاتية والعالم الخارجي وما رافقها من إحساس بالعجز إزاء الواقع واكتفي بنقلها وتصويرها حرفيا على حد ما جاء إلي بعضهم من أن الإحساس المرهف عند شعرائنا بالحال التعيسة التي عاشتها الجزائر فى أوائل هذا القرن حجز فيهم نغمة جريحة شجية كثيراً ما تغطي ملامح التفاؤل فى شعرها وتخنق نغمة الأمل فى قصائدهم وتغمرهم بإحساس مرير بالغربة وشعور خانق بخيبة الأمل [5] ولا يكاد الإحساس بالغربة والسأم يتجاوز السخط أو من الواقع الأمر الذي حول النقد الجزائري إلي مناحة تضعف من ذلك الشعور وتفقد القارئ تعاطي اللذة الإبداعية .
وربما أسهم النشاط الإبداعي فى إثارة الجماهير وتوعيتهم في مرحلة تاريخية معينة استجابة للموقف التاريخي لم يتم إلا في نطاق الوعظ والإرشاد ولا يمكننا اعتبار ذلك النشاط حركية إبداعية خالصة لأنها لم تحقق الصياغة الممكنة لقول القول وتفجيره وإنما اكتفت بنقله وتسجيله
ضقت ذرعاً برجب هذا الوجود
وبقوم طول الزمان رقود
أوجه مثل أوجه الناس لكن
خشب من ضلالة وحمود
نلاحظ أن النمط من الإبداع يبتعد كل البعد عن الشعر الذي نعتبره فن تصور الممكن بالإضافة إلي افتقاده للصياغة الشعرية والكثافة الإيحائية .
ولعله بسبب ذلك لم يفلح النقد الجزائري فى سن قوانين استجابة جمالية لفن لشعر وعوض ان يفسر تعثر العملية الإبداعية وخلوها من الجمالية ويفتح أفقاً مغايرا لعملية التلقي جعلنا ننظر إلي هذا الشعر برمته علي أنه تصوير لواقع واليأس ناهيك عن رغبة معظم النقاد فى ترسيخ الاعتقاد بالطابع البطولي وتكريس الوظيفة النضالية للإبداع الشعري علي حد ما جاء لدي بعضهم من ” أن الشعر الجزائري الحديث بمختلف مضامنيه وطرائق تعبيره شعر نضال ووطنية وإصلاح اجتماعي وفكري وسياسي يستهدف القضية الوطنية فى أوسع مجالاتها وأبعد أبعادها “[6]
يؤثر الأحداث التاريخية المتعاقبة فى طبيعة الفن الذي ينتجه الإنسان عبر الأزمنة والعصور وذلك أمر طبيعي تفرزه التفاعلات التأثرية واقع فن غير أن بصيرة الفنان تتخطي شبكة الواقع العيني والفردي وتتأمل – انطلاقاً من رؤية استكشافية – ممكناته بدءاً باستقراء لحظاته الأكثر توتراً وجدالية . والواقع غني باستقرار بمختلف الجداليات والرهانات والصدامات التي يعمل المبدع علي تحويلها إلي للامتصاص الأدبي .
ولعلنا نجد تطلعات أسمى للناقد محمد مصايف تصر علي وجوب حضور المرسل إلية بوصفه متلقي الخطاب كما يركز علي صعوبة التوصيل تستدعي إشراك المتلقي فى التذوق والفهم مشيراً إلي تلك الصلة الوجدانية التي يعقدها المرسل مع المرسل إلية في أفق من التفاعل الجمالي الخلاق يري أن الهدف الأول للأدباء والإنسانيين هو محاولة توصيل نبض الحياة الذي يحسون به إلي نفوس الحياة الذي يحسون به إلي نفوس الآخرين لأنهم وهم أرهف الناس إحساساً وأقدرهم على التعبير عن هذا الإحساس يأبون أن يتركوا نبض الحياة الذي يهز أوتار نفوسهم حبيساً بين ضلوعها لا يصل إلي الآخرين ولا يلقي صدي أيجابياً مشابهاً في نفوسهم [7] فخرية الكاتب هي أن يتذوقه الآخرين ويتلقونه وبهذا المعني يصيح الفن مكملاً للحياة ومتماً للوجود والذين يريدون السطو علي هذه الحرية إنما يرغبون في استيلاد لحظة الأبدية التي تتخلق من رحم الذات وتتجسد في اللغة . ومهما حاولت المناهج ولوج هذه الحرية فستظل مجرد مكاسب نظرية لأنها تفتقد لحرارة الابتكار التي انبثقت عنها تلك اللحظة .
أما نقد الشعر الجزائري فقد انحرف في معظمة عن المقومات الشعرية وأغفل أهم المضامين والخصائص الجوهرية وذلك بسبب مسايرته لهيمنة الأيديولوجي الذي تضمن مفاهيم الوطنية ….
الأصالة … الإصلاح … وغيرها من المفاهيم الموجهة بدعوي صيانة التاريخ من التشويه وحفظ التراث من المصادرة .
وستكون شعرية السبعينيات لا حقا تجسيداً حقيقياً لتلك الهيمنة التي قال يشأنها أحد النقاد ان الشعرية السبعينية قد استهوتها الأيديولوجيا بشكل فياض لدرجة أصبح النص الشعرية أشبه بفقره سياسية او مقطع خطابي [8] وبدعوي الالتزام بقضايا المجتمع والإحساس بمختلف أفراده انصهر الأدب في الواقع وتلاشي الإبداعي والرمزي في اليومي مما أفضي إلى:
- صدمة القارئ
- عدوانية شعرية السبعينيات واغترابها
- خيبة النص الشعرية السبعيني [9]
وعلي الرغم من الإحاطة الكلية بموضوعات الشعر الجزائري وتصديقها إلا أن الحركة النقدية المصاحبة لها بدت أشبه بتداعيات حذرة لم تسلم من الانطباعية الذاتية واستهوتها الإيديولوجبا والأنماط المكرورة وطغي التاريخي المحض . وقد اعتبرت مثل تلك الأنماط بحسب بعض المزاعم فى صميم الرؤية الموضوعية من خلال ما يشيد به هذا الرأي ” ومن حيث الرؤية الموضوعية كان للشعر اتجاهان رؤية عامة تمجد التاريخ والحضارة والتراث وتعلي من شان الشخصية الوطنية في تعابير عامة تحتكم إلي الفكرية الكلية دون أن تلتجئ إلي الجزئيات … ورؤية خاصة تسلط الأضواء علي شخصيات بذاتها ومواقف بعينها وتفضل التعداد والاستقرار فكأنها ترمي إلي الإقناع أو بعث الاعتزاز بأسماء لها صدي فى التاريخ البطولي للوطن [10]
بذلك استمر النقد الجزائري فى احتلال مساحة النضالي وتثويرها وإكسابها الطابع البطولي والرمزي محاولاً إقناعنا بالمكاسب الشعرية في ظل ارتباطها بالأنا الجمعي الجمالي للأمة .
وهكذا ظل تلقي الشعر الجزائري محصوراً في التلقي القيمي برغم محالات الانفلات منه إلي خصوصيات إنسانية وعالمية أكثر رحابة كما يحلو لبعض النقاد ” أن يرصد الخط العام لهذا الشعر منذ العشرينيات بمحاور ثلاثة دار حولها تتضمن جزئيات وتفاصيل كثيرة هي المحور الوطني المحور الإسلامي المحور الإنساني العالمي [11].
واضح تاريخ نقد الشعر الجزائري في بحثه عن الأصول التأسيسية بقصد إساء معاييره لم يجد سوي المدخل السوسيوتاريخي لسببين :
- قصور الرؤية التفسيرية ومحدوديتها .
- السقوط في الوصف التقريري .
الإحساس بقضايا المجتمع :
لقد حملت الثورة الفرنسية 1789 وعياً جديداً المجتمع والتاريخ ” ولم يعد الأدب فناً بل سلاحا للتحرك والفهم [12] وبدأ الإحساس بالشعوب المجتمعات يشكل الجوانب الجوهرية في الآداب الفنون بل إن الواقع أصبح أسمي من النص من حيث كونه يشكل مرجعاً أساسياً لكل الخطابات أما الأدب فلم يعد ” يسعي إلي الحقيقي وإلي الجمال الأخلاقي الذي عبر التاريخ تقريباً بل إلي الحقيقي والجمال النضالي [13] ولقد أثار النقد الجزائري ضمن هذا المنظور أزمة الإبداع الشعري وحاول معالجتها بإعادة تجديد العلاقة بين المبدع والواقع بشكل يجعله أكثر إحساساً بآلامة وأشد إيماناً بقضاياه علي حسب ما جاء لدي مصايف الذي انتقد الأساليب السطحية وهاجم العجز الأدبي وأرجعة إلي ” انعدام العلاقة النفسية بين أدبائنا بين القضايا التي يعالجونها “[14]فإذا كان النشاط الفني للمبدع هو من صميم نشاطة النفسي والروحي والوجداني فإن هذا النشاط إذا لم يتغذ بالتواصل العاطفي مع أفراد المجتمع افتقد إلي حرارة التأثير في نفوس المتلقين .
وإذا كان النقد الاجتماعي يدعو إلي ” قراءه ماهو تاريخي واجتماعي وإيديولوجي وثقافي في هذا التمثل الغريب الذي هو النص “[15]فإن الشعر الجزائري لم ينتج هذه الفكرة بل انغمس آلياً في تصوير الواقع ونقله فابتعد بذلك عن إنتاج فني وادبي حي ونابض .
وطبيعي ان الشعر كغيره من الفنون لا ينفضل عن الحياة إلا أنه لا يجب لهذا الفن أن يكون مجرد استعادة لحوادث التاريخ وتسجيل للواقع إن جوهر الشعر هو فن تصور الممكن دون إلزامة أو إخضاعه لحالة او ظرف . وإذا كان لابد من التزام فكان الأجدي لأولئك النقاد أن يصوفوا جهودهم في البحث في غياب المعني الأدبي الذي رافق تجربة الشعر الجزائري .
وقد يعود السبب في ذلك كما ذكريا إلي قصور الرؤية التفسيرية ومحدوديتها من جهة والسقوط في التقريرية من جهة أخري غير ان هذا الرؤية لم تخل من تلمس أسباب التحول في الموقف الأدبي الجزائري من حيث كون ” الالتزام في الفن لا عني مجرد اتخاذ موقف فحسب بل يعني علاوة علي ذلك ان يأتي هذا الموقف معبرا عن وجهة نظر الأديب إزاء نفسه وإزاء مشاكل المجتمع الذي يعيش فيه وليس بين الأديب عن وجهة نظره وبين ما ينبغي له من التجارب مع محيطة أي تناقض بل بينهما تكامل يعد شرطا أساسياً في الأدب الرفيع لأن المواقف الذاتية المحضة أمست اليوم لا ترضي النقد الحديث كما أن المواقف مزيفة لا تسمو إلي درجة الد الإنساني الخالد [16] فهذا الموقف يعكس بصدق تلاحم إحساس الفنان بالوجدان الجماهيري وتدعو إلي التفرد برؤيا تسائل المعني الأدبي دون أن تجعل من الدافع الاجتماعي الجوهر الأساسي للعملية الإبداعية .
غير إننا لا نجد الملمح نفسه في موقف الركيبي الذي لم ير في الشعر الجزائري سوي ” سجلاً أمينا لأماني الشعب [17]لاعقتاده أن مهمة الأدب هي مهمة نضالية تستجيب لمطالب الشعب في استعادة حريته وكرامته مصراً علي تلاحم الشعر مع الواقع من خلال تأكيد علي أن ” الشعر الجزائري الحديث قد مر بمراحل أربع هي نفس المراحل التي مر بها الشعب فكان الشعر مرآة صقيلة عكست بصدق واخلاص عواطف الشعب وانفعالاته [18] لقد تم تكريس الخطاب النضالي والتاريخي علي حساب الجمالي والفني وظل الواقع هو الخطاب الأسمي لكل تجربة إبداعية ترعي خصائص هذا الواقع لا يتغير وربما أخفقت التجربة النقدية في فصل الرمزي والشاعري عن الواقعي واليومي فلم تضف إلي القارئ مايثري معرفته بالشعر الجزائري الحديث بل ربما تكون قد حجبت عنه الصورة الحقيقية لمشكلة الفراغ الأدبي الذي رافق خيبة التلقي لا من حيث خلو الشعر من الشكل المبتكر وحسب ولكن وهذا هو الأهم غياب القراءة الممكنة للكشف عن معني ذلك الفراغ وأسبابه .
ومن ضمن نتائج ذلك الغياب نجد اهتماماً سوسيولوجيا بمظومة الأدب الجزائري سواء من حيث يضع هذا الاهتمام يده علي العلل الحقيقية لذلك الغياب ويرجعها إلي نقص الوعي باختلال المرجعيات مؤكداً بذلك علي أن ” قراءة وتلقي الأدب الجزائري إشكالية عويصة تلقمها الازدواجية اللغوية والتعصبات الإيديولوجية والوضع الثقافي القفير نسبياً وقد أثبتت كثير من الدراسات السوسيولوجية حول القراءة والتلقي استمرار الموديلات والقيم الخارجية بدون وجود صورة مركزية ووطنية للأدب الجزائري “[19]
لقد أعطيت للمجتمع في خارطة الأدب الجزائري مساحة أوسع واشتد مطلبها لدي الجماهير لما تلقاه لديهم من تأثيرات وبرزت أهمية ذلك المطلب أكثر بتقوية صلة الأدباء بمجتمعاتهم بغرض ” النهوض بها والاهتمام بظروفها والتعبير عن دقائق شؤونها والتأثير المطلوب فيها لأن الأدب أصبح موجهاً للجماهير وليس لفرد معين أو جماعة معينة [20] غير أن ما ننكره علي هؤلاء الأدباء هو ابتعادهم عن المنحي الإيحائي في الاستجابة إلي رموز الواقع واندفاعهم إلي المحاكاة الحرفية التي افتقدت إلي الحس الجمالي .
ومع ذلك فإن تاريخ نقد الشعر الجزائري لم يخل من بعض الاستثناءات التي عملت علي إثارة مسالة الفن والخلق والابتكار علي غرار ما جاء لدي بعضهم في دعوته الي النهوض بالآداب وخلق الفنون لأنها في نظره القياس الوحيد الصادق الذي يعرف رقي الشعب وتقدم الأمة .[21]
إن قراءة الأثر في ضوء التاريخ أو حتي في منظور علم اجتماع الظاهرة الدبية لم يتيسر لكثير من القند وذلك لانحراف الأثر الأدبي في ابسط خصوصياته عن السمات الواقعية الخالصة أو الحرفية ولقد اكتشف منظرو هذا الحقل لا جدوي طقابقة هذا المنهج للظاهرة الأدبية بسبب التباسها بالخيالي والرمزي وبالكثافة الوجدانية والإيحائية ” وهكذا يتوطد التمييز بين القراءة المفسرة للماضي حيث أخدت أمور كثيرة مواقعها والوصفات الموجهة الحاضر والمستقبل لا يوجد شئ مؤكد وحيث كل شئ في طور التكون [22] ويبد أن هذا المسعي التأملي الذي ينتقل من التفسير إلي التأويل يحاول لفت الانتباه إلي تصوير الممكن الذي لم يتحقق بالإضافة إلي ما يحمله من دعوة إلي نشدان استقلالية والبحث في خصوصية الكتابة اما تعامل الجزائري فقد كان بعيداً عن هذه الاستقلالية لكون معطمة نقداً موجها يتعامل مع النص كبنية جاهزة وليس بوصفه نظاماً مفتوحاً علي الاحتمالات لذلك فإن التلقي السوسيولوجي في الشعر الجزائري لم يخرج عن المستوي الحادي الذي يقرر سلفاً طبيعة هذا الشعر المحصورة في الطبيعة الاجتماعية ” فلا بد للشاعر إذن من التجاوب الصادق مع موضوعه إذا أراد أن يبلغ نفوس قرائه وبالتالي يؤدي رسالته كفنان يكرس حياته لخدمة المجتمع الذي يعيش فيه [23] .
وإذا كانت تجربة الشعر الجزائري في مستوي التلقي السوسيولوجي والتاريخي ذات أهمية فإنها لم تحاول مساءلة النصوص واكتفت بوصفها وتسجيلها .
كما أنها لم تراع الفارق الجمالي بين ما تظنة شعراً ما تعبيره كذلك بالإضافة إلي أنها حوبت الإبداعات برمتها إلي مجرد انعكاس لالآم الناس وخيباتهم .
وعلي الرغم من ذلك يمكننا القول بأن تجربة التلقي كنات مسعي مبكراً وإيجابياً في النقد الجزائري الحديث غير أنها اغتنت بالمضامين وكادت تهمل الجوانب الشكلانية والجمالية وربما تميز هذا النقد – لاحقاً – بمستويات الأفق النقد وما استجد من المناهج والرؤي والأفكار وسوف نجد صدي واضحاً لتلك المتغيرات في التلقي السيميائي الذي توصل إلي تحلل مختلف البني بأدوات جديدة ومنظورات متعددة .
لذة النص وأفق القراءة :
لقد تحدثت كريستيفا عن النص ووصفته بالإنتاجية productivite علي اعتبار ان النص يعيد توزيع نظام اللغة ، كما اكدت علي خاصية التناص Textual التي تسمح بتداخل النصوص وتوالدها في فضاء النص الواحد [24] وبناء علي هذا التصور انتقلت الدرسات النقدية من أحادية التأمل إلي أفق التأويل الذي زعزع الاعتقاد المعياري الراسخ واشترط في القارئ كفاءة التلقي وهي الكفاءة التي تجمع بين قوة التذوق وذكاء التأمل في الرمز والإيحاءات .
ومهما كانت النصوص بسيطة فإن عمق التأمل مشروط بنوع الاسجابة غير أن تنوع الاستجابات لا يكفي لسن قوانين الأدبي وهكذا فإن علم العلامات الأدبي مبني علي افتراضين يمكن دراسة أي منهما الأول أن العمل الأدبي ينبغي أن يعالج بوصفه شكلاً للتعبير الدال والتوصيل في أن الوصف المناسب للعمل الأدبي ينبغي ان يشير إلي المعاني التي يتضمنها لدي القراء الثاني أن الإنسان يستطيع أن يحدد تأثيرات التعبير الدال التي يريد أن يفسرها ، [25] وتتحمل الأدبية والهيرمينوطيقا الجزء الأكبر في تجسيد هذه التأثيرات بنقلها من حيز الانفعالات إلي فضاء المعني الدال ” وسيكون علم العلامات هذا نظرية قراءة ولن يكون موضوعه الأعمال الأدبية نفسها بل إمكانية فهمها أي الطرائق التي تكون مفهومة بها ، الطرائق التي يكون القراء قد أدركوا بها المراد منها [26] وتكمن أهمية هذه الطرائق في تعددها ، ذلك أن السيمياء قد دشنت بداية تحول التفكير النقدي الذي من اهم نتائجة تنوع المفاهيم واختلاف المنظورات وتعدد الرؤي وصار ينظر إلي العمل الأدبي علي أنه نظام علامي غير مكتمل بمعني أنه مفتوح لأنه علي الاقل قابل للتفسير بطرق مختلفة دون أن يؤثر ذلك علي تفرده غير القابل للاخنزال [27].
وقد تطلع النقد الجزائري إلي تبني المنهج السيميائي بوصفة نظرية في القراءة محولاً الاستفادة من نظام اللغة كما طوره دو سوسير مع الاحتفاظ ببعض القيم المرجعية ذات الصلة بالسياق المجتمعي والحضاري والوحداني للذات المبدعة .
وعلي الرغم من المحاولات الذكية في تطويع المنهج السيميائي إلا أننا نلمس لدي بعض النقاد إفحام هذا المنهج في نصوص شعرية قد لا تتحمل كل ذلك الزخم من الأدوات والمصطلحات النقدية غير أن ذلك لا ينقص من عمق الممارسة التطبيقية وكفاءة التأمل والتحليل التي في تطوير عملية الاستقراء واتجهت بها صوب الحركية الدلالية .
الشعرية الدلالية :
ظلت طبيعة الشعر وماهيته ملتبسة وغامضة فقد اعتبر نشاطاً رمزياً يوحي بمعاني الحب والجمال وارتبط كغيره من الفنون بالغيبيات والأساطير إلي أن تحول النظام دلالي تشكل اللغة مادته الجوهرية .وأغلب الظن أن انفصال الشعر عن إيقاع الطبيعة وارتباطه بنشاط الإنسان وحياته اليومية جعل منه نظاماً وظيفياً يهدف إلي اضفاء معاني جديدة مما حفز النقاد علي استقراء بنية هذا النظام .
إن إنتاج قراء بمستوي الإبداع شئ لا يتاتي إلا بالقوة علي التأويل أو بمعني آخر بتحقيق استجابة ممكنة لمعني المعني وقد يتم إلا ذلك باستعادة المتصور الغائب الذي يبقي الوصول إلية أمرا غير يقيني لعدم استقرار الدلالة وثوبت المعني .
وهكذا فإن اللغة هي سببل القارئ إلي الفهم ويقر النقد الجزائري هذه من خلال ما نلمسه من ممارسات تطبيقية تكشف عن رؤية متقدمة ووعي ناضح بإحساس الشاعر وتعامله والمغاير مع الكلمات والدلالا والرموز . ولعلنا نلاحظ نمواً حقيقياً لهذه الرؤية رابح بوخوش الذي جمع بين القيم التراثية والمستجدات الحداثية قراءة تفكيكية تنطلق الدرامي لجمالية اللامعقول . وتعتمد هذه الرؤية علي تتبع المفردات في تعالقها وتجاورها وما تضمره من دلالات لا يمكن استبطانها إلا بمقدار هائل من التحكم في قوانين اللغة الشعرية أو تلك التي يطلق عليها ” اللغة الشعرية السامية “.
كما تكمن أهمية هذه الرؤية في تكريس مفهوم القراءة لدخول عالم مفدي زكريا الشعري علي اعتبارأن ” المتلقي هو القارئ أو الدارس أو الناقد الذي استقبل خطاب زكريا فاحتضنه بقوة وحرارة تفوق حرارة المبدع نفسه لأن فيه شعرية مثيرة عندما نزنها بميزان النقد نجدها علي المخاطب إشكالية القراءة وهو مستوي من التفاعل الوظيفي بين الشعرية والتلقي [28] فمنذ الوهلة الأولي يضعنا بنية مغلقة ومنتهية بل نظاماً قابلاً للبناء باستمرار كما أن القراءة لا تعطي وصفاً جاهزا للمعقول وإنما تمنح إمكانيات لا متناهية لمحاولة تفسير العلاقة الكامنة بين الدوال والمدلولات وكيفية انبثاقها بذلك المستوي من الخصوصية والتميز .
ويؤكد بوحوش علي أن تلاحم مستويات الخطاب من شأنة أن يحفز القارئ ويثري تأملاته متخذا من نموذج ” الذبيح الصاعد الذي يشكل – في رأي صاحب القراءة – تمثيلاً حقيقيا لتداعيات الدال الآسرة حيث يقول بأن ” الخطاب الشعري ، الذبيح الصاعد ” في تقديرنا – انطلاقاً من خصائصة الإيقاعية – يعبق لذة وطيباً يرضي ويملاً النفس مرحاً ويمنح النشاط والمتعة الفنية والإثارة الفكرية ، [29] وقد ارتبطت ثقافة التلقي بلذة النص التي أثارها رولان بارت في كتابه لذة النص والتي أضفت علي العمل الإبداعي بعداً جديداً بعيداً عن حكم القيمة المحدودة من حيث كون ” نص اللذة هو النص الذي يرضي فيملاً فيهب الغبطة : أما نص المتعة : فهو الذي يجعل من الضياع حالة وهو الذي يحيل الراحة رهقاً فينسف بذلك الأسس التاريخية والثقافية والنفسية للقارئ نسفاً ثم يأتي إلي قوة أذواقة وقمية وذكرياته فيجعلها هباء منثوراً وأنه ليظل به كذلك حتي تصبح علاقتة باللغة أزمة [30]وتوازيا مع انحرافات النص تسعي القراءة إلي محاولة فهم طبيعة هذه الانحرفات وتفسيرها .
ولعل من أعظم نتائج القراءة هي أنها تمنحنا أكثر من مساحة لتامل النص وتفجيره . وبذلك فإن الصورة الشعرية في ( الذبيح الصاعد ) ليست مجرد تشبيه بغرض تقريب الحدث من المتلقي كما يبدو من خلال قول الناقد ” ففي الوظيفة الدلالية الشاعر يود أن يصور صاحبه تصويراً حسياً راقياً ومؤثراً لييرز صورة صاحبة وصفية فوتوغرافية مرسومة بالكلمات أبعادها الهندية – كما يقول الجرجاني – هي ( المنظر ) الذي ارادة الشاعرأن يكون مضيئا[31] وربما تعدي الأمر مجرد وصف الحالة إلي النية في ترسيخ المعني المضمر فقد أخذت قصيدة الذبيح الصاعد بعداً دراميا وقدسياً لو قعها المؤثر في وجدان القارئ لأنها تصور إعدام الشهيد الجزائري أحمد زبانة في سجن بربروس علي يد الاستعمار الفرنسى غير أن ما يعمق هذه الصورة ليس مجرد تشبيه الشهيد بالمسيح عليه السلام بل المحمول الدلالي لرمزية اللامعقول والمتمثل في تجربة الانبعاث :
قام يختال كالكسيح وئيدا
يتهادي نشوان يتلو النشيدا
شامخاً أنفه جلالاً وتيها
رافعاً راسة يناجي الخلودا
اشنقوني فلست أخشي حبالاً
واصلبوني فلست أخشى حديدا
واقض ياموت فيما أنت قاض
أنا راض إن عاش شعبى سعيدا
فإذا ما تأملنا هذه الأبيات أدركنا المعني الباطن أو الدلالة الغائبة والمتمثلة في رمزية الوطن المنبعث من تضحيات أبنائة وهو المعني الذي حولت قراءة بوحوش أن تضيئة لاعقتاده بأن الشاعر ” حاول أن يترك الحياة والحيوية في الشهيد أحمد زبانة في محاولة لتكسير مبداً الفناء لأن التسليم به يعني فناء القضية الجزائري [32] وقد استعان الناقد بالشعريات الحديث لاستبطان المدلولات واستجلاء الرموز محاولاً العثور علي فحوي الرسالة المتضمنة في الخطاب الشعري ” الذبيح الصاعد وهو في أثناء ذلك يركز علي قوانين اللغة الشعرية التي تنبثق أو تتجلي بكيفيتين إما بإسقاط مبداً المحور الاختياري علي المحور التألفي وإما بإحداث فجوة بين البنيتين السطحية والعمية لأن الشعرية تنبثق وتتفجر في تناسب طردي لتوليد دلالات جديدة مبتكرة من خلال إنشاء خلخلة أو انتهالك في المفهومين لإيجاد علاقات تركيبية بين أشياء لا علاقة بينها في العرف الاستعماي المألوف [33] ولا شك فيأن بنية الخطاب الشعري في الذبيح الصاعد غنية يمثل هذه العلاقات الانزياحية والتي بقولها شيئا تقول آخر علي حد تعبير مايكل ريفاتير . ومعلوم الانزياحات الأسلوبية تكشف عن ثراء التجربة وكفاءة المبدع لإشباع مساحة التلقي لدي القارئ أو خرقها .
إن النظام الذي تتوالد بواسطتة الاستعارات والرموز والكتايات والتشابيه … مايزال محيراً علي الرغم مما أحرزه النقد اللغوي بفضل انتصارات اللسانيات الأمر الذي أدي إلي تحمس النقاد لمختلف الإجراءات التأملية بغرض التوصل إلي وسيلة لقياس المعني الأدبي فكثير من المستويات يمكنها أن تمثل خصوصية شعرية او ميزة أساسية في النص الأدبي الواحد وهو مايفسح المجال لتقديم الرؤي المتخصصة في تلقي النصوص وتحليلها لأن ” القراءة الانطباعية أو ( التأثيرية ) قد تأتي بنصوص نقدية إبداعية مدهشة في كيفية تحسسها لقصيدة ما ولكن دون أن تقدم البرهان علي تذهب إلية “[34].
والواقع أننا نركز في التلقي السيميائي علي المنظور الدلالي ارتبط بتأمل اللغة الشعرية بما تكتسبه من مظاهر التميز والخصوصية والانحراف الذي يقود الأسلوب إلي الدرجة الصفر ويحرر العلامة الشعرية من ثنائية الدال / المودلول ويهتم عوضاً عن ذلك بكيفية انبثاق المعني في تلاحم أجزائه مستوياته .
وحيث اعتاد البعض إحاطة النص من كل جوانبه اكتفي البعض الآخر بالتركيز علي جانب دون الآخر اعتقادا منه أنه الأكثر أهمية في إضاءة النص ووتقريبه من الفهم . فبينما تعتبر بعض الدراسات الإيقاع – مثلاً – المفتاح لدخول عالم النص تتمسك دراسات أخري بالرمز والصورة الشعرية في حين تتطلع معظم التأملات إلي تفسير طبيعة تشفيرها.
ولعل الغاية من كل ذلك اكتشاف العمق الدلالي للمعني المضمر ومكوناته الجمالية وقد اعتني الشعر الجزائري بهذة المسألة من منظور القراءة السيميائية التي تعتمد علي فض العلاقات الباطنية ومن ثم جاء تفسير رايح بوخوش لوظيفة الاستعارة في الخطاب الشعري الذبيح الصاعد متعمداً علي درجة الكثافة الإيحائية التي تستند إلي مبداً الانزياح وفي الأبيات التالية تجسيد لذلك :
رافلا في خلاخل زغردت
تملاً من لحنها الفضاء البعيدا
حالما كالملاك كلمة المجد
فشد الحبال يبغي الصعودا
ضرخة ترجف العوالم منها
ونداء مضي يهز الوجودا
وامتصي مذبح البطولة معراجاً
ووافي السماء يرجو المزيدا
تعتمد قراءة رابح بوحوش للدال الشعري في هذه الأبيات علي استحضار المتصور الذهبي الغائب عن طريق استقراء العلاقات الحضورية – الغيانية ويعزي ذلك للقدرة الفائقة عند الشاعر علي ربط المعاني وتوليد بعضها لابتكار الصورة البعيدة عن الأذهان واكتشاف وجوه الشبه بين أشياء دقيقة لا تأتي إلا في أعماق أديب له استعداد سليم كزكريا الذي صارت الخلاخل عنده ” نساء ” وصار المجد ” إنسانا” والعوالم ” “كائنا حياً ، فخرق قانون الكلام وأنشاً فجوة لأجل تغيير اللغة وتحقق الشعرية [35] .
شعرية الرمزية :
ينطلق عبد الملك مرتاض من موقع الاختلاف في فهم النصوص وتأويلها ويطمح إلي تأسيس نظرية عامة لفاعلية الخطاب الشعري وهو بذلك لا يبحث في أصول النشاط الإبداعي وإنما يتطلع إلي تفكيك بنياته مستلهماً الطرائق النقدية المستخلصة من مظاهر تشكل الخطاب الأدبي وفعالياته الاجتماعية والجمالية وعلاقاتها بغير مستويات التلقي وأنماطه .
وفي تحليله لقصيدة ” أين ليلاي ” لمحمد العيد آل خليفة يتطلع عبد المللك مرتاض إلي احتواء مستويات النص مكرساً في ذلك مختلف المفاهيم والإجراءات النقدية ولعل من أهم تلك الإجراءات الهيرمينوطيقا التي يتخذ منها أداة لتفكيك الرموز .
وعلي الرغم مما يتطلبه هذا الإجراء من مهارة التذوق وسعة التأمل إلا أن الناقد لمعاصر استطاع أن يضوغ – في ضوئه رؤية تأملية يشترك فيها كل من منتج الخطاب ومتلقيه مما يعني أن ” التفكيك ثورة علي المناهج التقليدية وعلي الوصفية البنيوية يعلي من ِشأن التعددية / الوحدة ومن شأن التوالد اللانهائي للمعني / الحصرية والمحدودية وبهذه التعددية وببعثرة المعاني وتشظيها تتحقق لذة القراءة [36] .
وتكرس مثل هذه المفاهيم جهد الناص أو الؤول في فض مغاليق النص وإتيان جوانبه المختلفة الظاهر منها والباطن علي حد ما جاء لدي عبد الملك مرتاض من أن ” تأويلية القصيدة هنا مشوعة من حيث ان الناص اصطنع المرمز ولم يصرح وحتي لو صرح فإن ذلك ما كان ليحظرنا من تقديم تأويل لنصه انطلاقاً من تصورنا لمكامن العطاء فيه . وأول ما نلاحظ أن الناص هنا يتناول في موضوعه ليلي وليست ليلي هذه الجميلات وإنما هي رمز من القيم والمعاني والمثل لعلها تتجسد أساساً في الحرية فالموضوع ليلي ظاهراً والموضع هو الحرية في حقيقة الأمر [37] .
لقد استبدل مرتاض بالشيرات كونية الشفرات العشقية من خلال انحراف الرمز وجعل ليلي / الرمز – شعريا – معادلا حقيقيا للحركة .
ليلي ” قيس “ ليلي ” محمد العيد “
تقطعت عنها السبل
المدرك المحسوس
الحب الإنساني
مطلب فردي
العشقية
عدم التمتع والظفر بها
المدرك المطلق
الحب الكوني
مطلب جماعي
الحرية
وإذا كان الرمز من القضايا التي لا تقبل التعيين فإن مبداً القراءة التأويلية لقصيدة ” أين ليلاي ” الذي سلكه عبد الملك مرتاض في تفكيك وظيفة الرمز لا يزيد عن التأكيد علي البعدين الواقعي والأسطوري في تشكيلالبنية الدلالية للخطاب الشعري . ويبدو أن هذه التأويلية لم تستبعد الواقع ببعديه الاجتماعي والسياسي مع احتفاظها بتكثيف الأسطوري بشكلية الرمزي والإيحائي .
غير أن هذه الرؤية لم تنج من بعض الاضطراب إذ هي إذهي من جهة تؤكد علي حركية النمو الرمزي من خلال قوله ” فمن الناحية الأسطورية نجد النص يحاول توظيف الأسطورة مجسدة في شخصية ليلي بكل ما تحمل هذه الشخصية من أبعاد أسطورية فقد اتخذت ليلي هنا رمزاً لكيان وحال[38] ومن جهة أخري تعود هذه الرمز في جوهره الأسطورية بحيث كان النص لم يوفق في توظيف الأسطورة بحيث كان يمكن أن يتخذ من ليلي شخصية أسطورية .. ترقي إلي الأسطورة في مستواها الأعلي والجمل [39]
وربما وقعت هذه الرؤية في اضطراب يصل بها إلي حد التناقض من خلال ما يشير غلية رأي الناقد ” ومع ذلك فقد استطاع أن يتخذ من ليلي رمزاً وأسطورة لغابة فنية [40] فإذا كان من البديهي أن رمزية الأسطورة تكمن في الغاية البنيوية والفنية منها فإنه يبدو أن عيد الملك مرتاض يصل نظرياً بين محتوي التعبير والبناء الفني بينما يتلاشي هذا الفصل في الممارسة التطبيقية وسواء وفق الشاعر محمد العيد آل خليفة في تجسيد هذا الرمز جمالياً ودلالياً ام أن يتخذ منه صورة مثالية لتطع الشعب الجزائري إلي حريته واستعادتها.
الهوامش :
[1] محمود البسيوني تربية الذوق الجمالي دار المعارف 86 ص 49 .
[2] ينظر كتابنا جدل الحداثة في نقد الشعر العربي لاتحاد الكتاب العرب دمشق ط 1 1997 ص 145 .
[3] أرسطو : فن الشعر تر عبد الرحمن بدوي دار الثقافة بيروت ط 2 1973 ص 26 .
[4] عبد القادر فيدوح : نقد معني الشعر في الأدب الجزائري ( م ) كتابات معاصرة ع (9 ) 1991 ص 63 .
[5] صاع خرفي : الشعر الجزائري الشركة الوطنيةللنشر والتوزيع الجزائر ص 43 .
6 المرجع السابق 95 .
7 محمد مصايف : الأدب تاريخ وخطاب مخطوط ص 02 .
[8] علي ملاحي : عن شعر السبعينيات : القارئ والمقروء مجلة القصيدة الجاحظية ع 4 / 1995 ص 84 .
[9] المرجع السابق .
[10] صالح خرفي : الشعر الجزائري ص 102 .
[11] عبد اللة الركيبي : الشعر في زمن الحرية ديوان المطبوعات الجامعية 1994 ص 153 .
[12] مجموع من الكتاب : مدخل إلي مناهج النقد الأدبي تر رضوان ظاظا عالم المعرفة ع / 221 / 1995 ص 166 .
[13] المرجع السابق .
[14] محمد مصايف : دراسات في النقد والدب المؤسسة الوطنية للكتاب 1988 ص 52 .
[15] مدخل إلي مناهج النقد الأدبي ص 168 .
[16] محمد مصايف .
[17] عبداللة الركيبي دراسات في الشعر العربي الجزائري الحديث الدار القومية للطباعة والنشر ص 8 .
[18] المرجع نفسه .
[19] عمار بلحسن : الجزائر كنص سؤال عن الأدب الوطني مجلة التبيين ع 1/ 1995 ص 131 .
[20] عمار بن زايد : النقد الأدبي الجزائري الحديث المؤسسة الوطنية للكتاب 1995 ص 103 .
[21] ينظر المرجع السابق ص 105.
[22] مدخل إلي مناهج النقد الدبي ص 181 .
[23] محمد مصايف فصول في النقد الأدبي الجزائري الحديث الشركة الوطنية للنشر 1972 ص 195 .
[24] ينظر ”symanalise p3 julia krisiva . Recherche pour une “
[25] ك م نيوتن نظرية الدب في القرن العشرين تر عيسي عاكوب عين للدراسات والبحوث ط 1 1988 ص 183 .
[26] المرجع السابق ص 184 .
[27] جان إيف تادييه : النقد الأدبي في القرن العشرين تر قاسم المقداس دار الثقافة دمشق 1993 ص 302 .
[28] رابح بوحوش ومجموعة من الباحثين الأدب الجزائري في ميزان النقد المطبعة المركزية عناية 1993 ص 117 .
[29] المرجع نفسه .
[30] رولان بارت لذة النص تر منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري ص 39 .
[31] الدب الجزائري في ميران النقد ص 118 .
[32] المرجع السابق 119 .
[33] المرجع نفسه ص 120.
[34] شريل داغر الشعرية العربية الحديثة دار طوبقال المغرب ص 1 1988 ص 68 .
[35] الأدب الجزائري في ميزان النقد ص 121.
[36] نبيل أيوب الطرائق إلي نص القاري المختلف دار المكتبة الأهلية ط 1 1977 ص 18 .
[37] عبد الملك مرتاض دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة أين ليلاي لمحمد العيد آل خليفة ديوان المطبوعات الجامعية 1992 ص 94 .
[38] عبد الملك مرتاض دراسة سيميائية تفكيكية ص 96 .
[39] المرجع نفسه .
[40] نفسه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق