المستويات اللغوية والفنية في القصة الليبية القصيرة
د. عبدالجواد عباس
القصة القصيرة جُملة من البناءات اللغوية , إذا تتكون من مجموعة أمشاج من التعبيرات التي يتطلبها الموقف القصصي , فهي تعرض نفسها بلغة السرد ولغة الحوار والتصريح والوضوح تارة , والتلميح والرمز تارة أخرى حسبما يتأثر به القاص من أحوال بيئية وثقافية واجتماعية , وقد مرت بنا عدة أساليب للقصة الليبية على يد كتاب مختلفي الثقافة والبيئة والمزاج ويمكن لنا هنا أن نقف عند بعـض الروافد اللغوية والفنية للقصة الليبية القصيرة , نستخلصها من نماذج نصية قصصية عند أشهَر القصاصين الذين منذ الربع الثاني من القرن العشرين الماضي وطليعة سنوات القرن الواحد والعشرين الحالي، وستكون الدراسة على أربعة مراحل :
أ ـ المستوى اللغوي والفني للقصة الليبية القصيرة عبر تطوراتها في خمس مراحل.
ب ـ ارتفاع وهبوط المستوى الفني في القصة الليبية القصيرة.
ج ـ العامية والفصحى في لغة الحوار.
د ـ أيديولوجية التعبير في المقدمات والأمزجة واستخدام اللغة.
أولا ـ المستوى اللغوي والفني في المرحلة الأولى:
إذا رجعنا إلى أوائل القصص الليبية في الثلاثينيات فلا نجد سوى وهبي البوري منذ سنة 1935, وكان يكتب القصة في مجلة ليبيا المصورة , كما مرّ بنا في غير هذا الموضع..وقد أنشأها باللغة العربية الفصحى , وبعبارات صحيحة وحبكة مقبولة تقودك إلى نهاية تُرضي كل متلقٍ , ذلك واضح بجلاء في قصصه الثمان , والقصص على مستويات أسلوبية مختلفة غير أنها ترتفع إلى حدٍ مــا عن العيوب التي تعتري القصة سوى بعض العيوب اليسيرة كالتفاصيل الزائدة التي يحتويها ثنايا الحدث في بعض القصص , كهذا المقطع من قصة (الحبيبة المجهولة) : " وُجدت بالإسكندرية أثناء شهر رمضان , وكل من صام بمصر يعلم كل العلم كيف يمتاز هذا الشهر المعظم عن غيره , وكيف تعد له العدة ويقدره المصريون , فمن مزايا شهر رمضان أن تكثر الفرق التمثيلية في الإسكندرية ويكثر إقبال الجمهور عليها إقبالا لا يُرى له مثيل إلا في هذا الشهر. صادف أن جاء الكسار إلى الإسكندرية ليحيي حفلات بمناسبة رمضان ؛ فكنت أنا أحد زبائنه المداومين "(1).. فقد كان لا داع لهذه النثرية التقريرية التي وضعها بين وجوده بالإسكندرية وبين مصادفته لمجيء الكسار.. والبوري قد فعل ذلك في نفس القصة وفي قصص أخرى , إلا إن هذه القصة تعتبر من أحسن قصصه لأنها أعطت الانطباع عن موضوعها , وذلك لقوة العقدة التي كانت كفيلة بأن يتعلق بها كل قارئ حتى ينهي القصة. ولم يستخدم وهبي البوري في قصصه ألفاظا عامية , لا في السرد ولا حتى في الحوار.
ويتضح في أسلوبه عدم اختياره الجيد لألفاظه وعباراته فهو يكتب القصة بما يتداعى إلى ذهنه من الجُمل دون مراعاة إلى صوغ العبارة صياغة متقنة من حيث جمال الصور الفنيّة والخيال , فالعبارة التقريرية الخبرية تكاد أن تكون هي الغالبة في معظم القصص , كما يتضح من هذه العبارة مثلا في قصة (تبكيت الضمير): "وحدث أن كنت ذات يوم جالسا في أحد المقاهي , فرآني جورجي فأسرع إلى الجلوس بجانبي , وصار يقصّ عليّ أنه البارحة قاده البوليس إلى المركز وأراد حجزه , ولـكنه مـازال بهم يبكي ويتضرع إلــى أن أطلق سراحه(2)
وبطبيعة الحال هناك فرق بين هذه المباشرة والتقريرية في عبارة وهبي البوري وبين والتعبير الفني في هذه العبارة لخليفة حسين مصطفى ـ على سبيل المثال ـ الذي يصور حال امرأة وحيدة مات عنها زوجها وجميع أهلها وتركوها نهبا للحزن والضياع , وكانت تنتظر أن يتزوجها أحد ليخلصها من حياة الفقر والوحدة , فيقول : " غربت وجوه كثيرة قبل موعدها في موكب الغبار والبؤس , رحلت بلا كلمة وداعٍ واحدة , انتظرت دورها بين الرجاء واليأس ولكن الرياح وحدها ظلت تجلد بابها آخر الليل , تستيقظ في فزع , تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم , وتردد بعض جمل من آية الكرسي , ثم تعود وتلقي برأسها المزدحم بالكوابيس إلي وسادة محشوة بالقش , وتـنام مفتوحة العيـنين حتى الصباح "(3) فالصورة التي طبعها خليفة حسين مصطفي صورة فنيّة بيانية تَلقى القبول ؛ لأن فيها تشخيص للحدث , وعامرة بموسيقى النثر الداخلية البعيدة عن الصنعة بهذه التراجيديا المؤثرة في النفس.
ثانيا :المستوى اللغوي والفني في المرحلة الثانية :
هي مرحلة الخمسينيات, أي ما بعد الحرب العالمية الثانية وهي فترة بدأت فيها البلاد تنتعش وتصدر فيها قليل من الصحف يتردد عليها بعض الكتاب الذين يكتبون القصة ويكتبون المقالة الصحافية , من بين هؤلاء كان خليفة محمد التليسي , وعلي مصطفى المصراتي , وعبد القادر أبو هروس , وكامل حسن المقهور , وبشير الهاشمي وأحمد محمد العنيزي وغيرهم.. وعلى الرغم من قلة الإمكانيات إلا إنهم كونوا جوّا ثقافيا لا بأس به.
وخليفة محمد التليسي من أوائل هؤلاء الكتاب القصاصين , وهو لم يكتب من القصص سوى مجموعة واحدة هي ( زخارف قديمة) ثم انصرف بعد ذلك إلى أعمال ونشاطات أكاديمية أخرى , انشغل فيها بالتاريخ والترجمة والبحث الموسوعي.. والمجموعة القصصية في حد ذاتها جيدة اللغة , من ناحية ألفاظها وعباراتها , لم يتعمد فيها القاص كلمات عامية , وكانت مهارته في القصة الواقعية أحسن من مهارته في القصة الرومانسية , فالكلمات متعانقة تؤدي بك إلى المعنى القريب وكأنما يعزف على أوتار , خاصة في مستهل القصص كما هو في مفتتح قصة (الدرس) : " كانت جميلة.. وكانت في نفسي لهفة حارقة إلى المرأة وفي روحي نزوع قوي إلى أن أنعم بسحرها واستمتع بكنوزها , وفي قلبي ظمأ قاتل إلى الحب.. فما كاد يقع عليها بصري حتى أحسست أن نظرتها تفتح لي دنيا جديدة في كل شيء , وما اشد حاجتي إلى هذه الدنيا الجديدة "(4).
فالعبارة محبوكة بصورة متقنة ؛ فجمال المرأة كان له وقعُ حسن حين قابله في العبارة بـ(اللهفة الحارقة) , وعبارة (في نفسي لهفة) منسجمة تماما مع عبارة (في روحي نزوع) , إضافةً إلى هاتين العبارتين التي تؤكد كل واحدة منهما الأخرى (انعم بسحرها واستمتع بكنوزها) , وقــوّى عبارة (دنيا جديدة) بـعبارة (ما أشد حاجتي إلى هذه الدنيا الجديدة).
وفي قصصه جميعا ينتقل من حدث إلى حدث بصورة منطقية , ومع ذلك يعتري أسلوبه عيبٌ من عيوب القصة هو(الخطابية) في بعض الأماكن ؛ فنراه في قصة (فراشية) وهو الجرد النسائي الذي ينجذب الرجال إلى مرتديته أكثر من انجذابهم إلى نساء الأجانب , يقول :.." كان هذا الرداء يبعث في نفسه شعورا بالاعتزاز والكرامة , ويذكّره بما يقع منه في أحيان كثيرة , من تطلع إلى الأجنبيات , ذلك التطلع الذي كان ينتهي دائما بالحسرة والألم. حين يذكر الهوة العميقة التي تفصله عنهن.. أما هذه الفراشية فهي أمل لا يعسر عليه إدراكه متى أراد الزواج ! إنهن شيء من دمه ولحمه وشخصيته, شيء لا يمكن أن يترفع عليه أو يحتقره..(5)
ومن قصاصي الخمسينيات أحمد محمد العنيزي وقد غطّى تلك الفترة المقفرة بالقصص , بقصص الناس الذين كان يعرفهم , وبقصص المواقف التي مرت به فأعطي صورة للماضي كان لها أن تموت في طي النسيان لو لم يكتبها , كتب قصصه بعفوية تغلب عليها المباشرة والوصف الخارجي المحايد بعيدا عن التأويلات الفنية والإسقاطين والفلسفية , أي أنه يكتب بعين العدسة , مع استعماله الألفاظ المألوفة الشائعة الاستعمال بين الناس..ولكننا نجد في نهاية الأمر أن تلك القصص مفهومة وقادرة على إعطاء الانطباع..
وهناك ما نعده عيبا في قصص العنيزي , مع مشاركة الكثيرون له في ذلك , وهو استخدام العامية بغزارة في حواراته القصصية , كهذا المقطع من قصة (حديث المدينة):
-"أولدك قال لي يريد يزوج ويبيك اتعوّل على فرحه.
ـ هذا اللي انريده حتى نا , بنات لحباب واجدات يا مسعود غير يطلب اللي يبيها.
ـ هو قال لي يريد ياخد حميدة بنت جيرانا..هذي اللي يبيها يا بوي.
ـ هذا كلام عمره ما يسير.. انسيب بنات هلنا لجل خاطره.. ايش عنده ما يقول في نواره بنت عمه ميش هي خيرة خواته.."(6)
وهناك عيب آخر يعتري قصص العنيزي هو تعدد الموضوعات في القصة الواحدة , ففي معظم القصص يحشو القاص أخباراً لا تمت إلى العنوان الذي بنى عليه قصته مما يوهم أن هناك عدة قصص في قصة واحدة , ففي قصة (قصور وأكواخ) مثلا , لم نجده يركز على شخصية (عبد الله) التي كُـتبت القصة من أجله , بل يدخل في أحداث أخرى لا تمتّ إلى الموضوع ؛ فنراه في بداية القصة قد أسهب في الحديث عن مشاهدته لـ(فلم البؤساء) , ثم قفز من هذا الحدث إلى حدثٍ جديد هو حديثه الطويل مع حارس الطريق الكهل (محمد) , ولم يكتف بذلك بل دخل في موضوع آخر هو سؤاله عن مستقبل ابن ذلك الحارس , وأخيرا يدخل في صلب موضوع القصة (قصور وأكواخ) التي يُرى فيها شخصية (عبد الله) فقيرا معدماً , يسكن الأكواخ التي يأتي عليها سيل الأمطار الغزيرة فيموت غرقا.
ولم يكن عيب تعدد الموضوعات في القصة الواحدة مقصورا على أحمد العنيزي ؛ بل يشاركه فيها بعض القصاصين القدامى أمثال عبد القادر أبو هروس , ففي قصة (سرّ الأناقة) , فيها الشاب (سالم) يتأنق من أجل أن تحبه الفتاة (سلوى) , كان هذا هو الأصل , وكان للقصة أن تسير في هذا المسار ويتوهج الحدث بـ(سر الأناقة) من البداية إلى النهاية , أي كان يجب أن تُحْبَـكَ الأحداث وتنصبّ على أناقة الشاب (سالم) , ولكن القاص يترك ذلك ويتقمص أسلوبا روائيا, فيتمهّل ويشغل نفسه بسرد أمور أخرى في حياة الشاب , ويستطرد مارا بحياة الطفولة التي تشاركه فيها الطفلة (سلوى) , ويسهب في ذلك عدة صفحات.. ثم ينتقل القاص نقلة أخرى ويبدأ في سرد حياة جديدة عندما يصل سالم وسلوى إلى مرحلة النضج والحب حتى يصل به المطاف إلى (سر الأناقة) , وهي المرحلة التي كان على القاص أن يركز عليها دون المرحلتين السابقتين , إذ تبدو كل مرحلة كما لو أنها قصة مستقلة , ولو كان الموضوع روايةً لصحّ ما سطره لأن الرواية مسموح فيها بالاستطراد وتعدد الأنفاس والتريث والإطالة وحشو القصص الجانبية ثم العودة بعد ذلك إلى الالتحام بالموضوع
ثالثا :لغة القصة الليبية القصيرة في المرحلة الثالثة :
هذه المرحلة يمكن أن نحصر بدايتها من سنة 1961 حتى سنة 1975، ويتميز فيها على مصطفى المصراتي باستطراداته الطويلة، وبأسلوبه الساخر في كل مجموعاته القصصية، كهذه الفقرة من قصة (أبي لهب) ذلك الرجل المختلس الطماع يقول :" له لسان رطب يغزل الحرير , ولكنه يصنع للناس بيديه طريق الشوك, ويقدم لهم طعوم الحنظل.. وله ناب أزرق ويد طويلة تمتد إلى القرش في أي مكان , ولو في قعر بئر خربة , أو في جحر ضب خرب , تمتد يده الي كل مكان مقدس ,لا يهمه إلا المال, تمتد يده الي القرش ولو تـحت جوف الكعبة. (7).. إلا أن القصة ـ بعد ذلك ـ أخذت تجنح إلى مسارها الصحيح نحو الفنية.. فقد تخلص أسلوبها من الاستطراد والتفاصيل الزائدة، كما تخلصت جزئيا من الألفاظ العامية، وصارت العبارة أكثر تكثيفا..ويمكن أن يمثّل هذه المرحلة اثنين من القصاصين تميزا بهذه الروافد الفنية التي أعطت مدّاً واسعا في تطور القصة الليبية، وهما يوسف الشريف وأحمد إبراهيم الفقيه.
معظم النقاد قد تناولوا إبداع هذين القاصين، وبالتأكيد قد وجدوا في قصصهم بعض العيوب الفنية الصغيرة، وقد تبين ذلك بالفصل الأخير من هذا البحث، تحت عنوان (نقد القصة الليبية القصيرة)، ولكن ذلك لا يلغي أن القاصَين قد أضافا على القصة الليبية تطورا.. فيوسف الشريف في مجموعته القصصية الأولى بعنوان (الجــــدار)، وأحمد إبراهيم الفقيه في مجموعته القصصية (البحر لا ماء فيه ).. هاتين المجموعتين على الرغم من كونهما الأوليين لكل منهما إلا أنهما تبدوان بوضوح أكثر فنيّة من سابقيهما في الخمسينيات، فقد كانتا أكثر قربا من التكثيف (8)، بدون استطراد أو استعمال ألفاظ عامية إلا فيما ندر، كما أن الحدث عندهما أكثر توهجا وتناميا، فقصة (الطريق) مثلا وهي من أحسن قصص يوسف الشريف في مجموعة (الجدار) لا يكاد القارئ يبدأ في قراءتها حتى يتعلق بالحدث ويتعاطف مع الشخصية منتظرا باهتمام وشغف أين يؤدي بها المطاف، ؛ فالحمّال الذي يجر عربة يدوية مملوءة بصناديق التفاح يغيظه جدا وقوف الناس في طريقه، فيصرخ فيهم قائلا "الطريق يا اللي ما تعرفوش الطريق"(9).. ويعرقل طريقه الأطفال بمناوشاتهم فيردد نفس العبارة " الطريق ياللي ما تعرفوش الطريق".. والحمل ثقيل، والعربة تهتز ويسحق للخوف على حمولتها أن تقع فيتكبّد الخسارة.. ويشعر بأنها ثقيلة ويقف ليجد أربعة أطفال متعلقين بمؤخرتها.. وتتعثر بحجر فتكاد تقع..ويتذكر أنه استأجر العربية بعد أن أودع رهينة لصاحبها، ويخاف على عربته في هذا الخضم الزاخر من الناس ومن الأطفال الأشقياء المتحفزين لنهب التفاح فيردد"الطريق يا اللي ما تعرفوش الطريق"..
هذه العبارة التحذيرية رغم تكرارها إلا أنها غير باعثة على الملل، لأنه تكرار فني، له معني بلاغي إلى جانب التكثيف فهو يحتوي على معنى تأكيد وسخرية ما يحدث، وفيها إصرار على اعتقاده الشخصي بمكر الناس وسوء معاملتهم، فكأنما في كل مرة يردد فيها العبارة يبعث إحدى هذه المعاني: إنكم لا تعرفون حق الطريق ـ إنكم لا تقدرون موقفي الصعب ـ انتم مثلي في رداءة الحال فلماذا لا ترحمونني ؟.. هذه كلها معانٍ مختلفة لعبارة واحدة، تؤدي معنى التكثيف.
رابعا :القصة الليبية القصيرة في المرحلة الرابعة :
يمكن أن نحصر المرحلة الرابعة ما بين سنتي 1975 إلى سنة 1985 حين بدأ التجريب يأخذ مكانه ويتسرّب ببطء في كتابات القصاصين، وقد سبق وأن نشر عبد الله الخوجة مجموعته القصصية (فتاة على رصيف مبلل) سنة 1965، ونشر مهدي العدل مجموعته القصصية ( الموت والميلاد) 1973، كما نشر يوسف الشريف مجموعته القصصية (الأقدام العارية) سنة 1975، وقد حللنا كثيرا من نصوص هذه المجموعات في الفصل الثاني من هذا البحث.. أما معظم القصص فقد كانت قصص تقليدية، وأكثرها قليلة العيوب، كما ظهر في هذه المرحلة قصاصون يحسنون انتقاء الكلمة الباعثة على الإيحاء ويصيغون العبارة المعبرة الجميلة.. كما تسرّب المد التجريبي إلى جانب التقليدي في قصص كل من خليفة حسين مصطفى في مجموعتيه (توقيعات على اللحم 1975 ـ صخب الموتي1975)، و أحمد إبراهيم الفقيه في مجموعته (اختفت النجوم فإين أنت 1976)..وقد تفرّغت كتابات كثير من القصاصين إلى التيار الواقعي التقليدي ؛ كعبد الله القويري، وعلى مصطفى المصراتي، وبشير الهاشمي وخليفة التكبالي وكامل حسن المقهور، وداود حلاق، ومحمد على الشويهدي، ومرضية النعاس ولطفية القبائلي، على تفاوت بينهم في الأسلوب والاتجاه، ويمكن أن نوضح جانبا من التميّز الذي يشتهر به بعضهم كما يأتي :
يتميز في هذه المرحلة كل من محمد علي الشويهدي وخليفة حسين مصطفى وإبراهيم الكوني بالخيال الممتع، وبالعبارة الرومانسي الجميلة الموحية كهذا المقطع من قصة (ذرات الرمل التي تقرع الطبول) مسكينةُ هذه الصحراء تتعذّب في النهار، تسحق الشمس عظام جسدها فتشكو أحزانها الأبدية.. تعزف بذرات رمالها الصغيرة ألحانا مجنونة , تعزف.. وتعزف , تقرع الطبول حتى يدركها الصباح لترتمي بجسدها في أحضان جلادها , تستسلم للشمس من جديد.. وهكذا تستمر رحلة العذاب الأبدي " (10).
ليس حديثا عاديا يحكمه الواقع ؛ بل يحكمه الخيال، فلقد تعمّق الكاتب في تجسيم الصحراء فشخّصها وكشف عن دخائلِها وجعلها تحسًّ كما نحسّ.. قام بذلك منذ البداية ؛ ففي عنوان القصة نفسه شخّص الرمل وجعله يضرب الطبول ولا شكّ أنه بهذا التعبير قد نجح في استدرار عواطفنا نحو الصحراء، فجذبنا إليها وتعاطفنا معها، فأشفقنا عليها من هذا العذاب الدائم، والذي جعلنا نفعل ذلك هو تأثير طاقة اللغة التعبيرية فينا، فالقاص جذب انتباهنا بأن الصحراء مسكينة، ثم فسّر لنا لماذا هي مسكينة، فأورد الكلمات التي جعلتنا نتعاطف مع الصحراء ونشفق عليها وهي : تتعذب في النهار ـ تسحق الشمس عظام جسدها ـ في أحضان جلادها ـ تستسلم ـ العذاب الأبدي.. فكل عبارة وكل كلمة من هذه الكلمات قامت بدورها، ولفتت انتباهنا فاستدعت غريزة الشفقة وأثارتها بشدة.
هذا الأسلوب البعيد عن المباشرة الممقوتة في القصة يستعمله أيضا محمد علي الشويهدي كما نلاحظ في قصة ( مريومة تغمز الحصان ) , والحصان في القصة دلالة علي الرجل أو الفحل.. فمريومة التي مات عنها زوجها تناولتها العيون الشرهة الطامعة. كانت تعارك الحياة لتصرف علي صغارها فأعياها ذلك،البقال يطالبها بالتسديد " ودقَ باب البيت بعنف , ونفث صاحب دكان البقالة المجاورة دخان لفافته في وجه مريومة , وتقيأ ابتسامة , وصهل الحصان :
ـ عامان يا مريومة دمرني خلالها الانتظار , ادفعي ديونك وإلا فإني سأرفع الأمر إلى القضاء.. ألا تفهمينني ؟ ادفعي...
ـ ولكني لا أملك نقودا..
ـ لتكن مقايضة , بضاعة ببضاعة.
وفهمت مريومة , ومات أبو الأولاد في العام الثاني ميتته الأخيرة , وحدقت مريومة فـــــي الفراغ بعينين مكحولتين وغمـزت الحصان , أجل غمرت الحصان "(11).
ويتضح هنا ثلاث مزايا من مزايا القصة الفنية ؛ وهو السرد غير المباشر المتمثل في الإيحاء بدل التصريح ؛ فنفثُ البقال لدخان لفافته يحمل بين طياته أللامبالاته واستسهاله جانب المرأة، وعدم الاعتداد بها وإسقاطه هيبتها، وربما لترويضها على الخضوع برفع الحياء والطمع فيها، وهذه تفسيرات متعددة، جلبت التكثيف إلى جانب الإيحاء.. وعندما نركز على طاقة اللغة التعبيرية فإننا نجد الإيحاء والتكثيف يحتويهما عبارات أخرى مثل :(وتقيأ ابتسامة) المحتوية على الاستهزاء والسخرية، وعبارة (صهل الحصان) الدالة تحرّك الشهوة الجنسية.. وعبارة (لتكن مقايضة بضاعة ببضاعة) الدالة على المراودة.. وعبارة (وفهمت مريومة) فيها إيجاز بلاغي يدل على قبول المقايضة دون توجيه تساؤلات أخرى.. وعبارة (مات أبو الأولاد في العام الثاني ميتته الأخيرة) أي كأنما مات مرة أخرى لانثلام شرفه بعده ثم تبقى المزية الثالثة وهو مزية الحوار المرغوب في القصة الفنية إذ ترك للشخصية التعبير عن نفسها بدل السرد المباشر.
القصة الليبية القصيرة في المرحلة الخامسة :
إن كان عقد الثمانينيات قد ازداد فيه تيار التجريب بشكل مكثّف، كما رأينا سابقا في الفصل الثاني المخصص للتجريب في القصة الليبية فإن عقد التسعينيات من القرن العشرين الماضي وبداية الألفية الثالثة يتميز بتعادل في تأليف القصة بين التقليد والتجريب.. فقد مزج بعض القصاصين التقليد بالتجريب، كما عاد بعضهم بالقصة إلى التقليد.. فأولئك الذين مزجوا التقليد بالتجريب، اتجهوا إلى مزج الواقع بالمتخيل كما مرّ بنا في الفصل الثاني في مختلف موضوعاته، كبشير زعبية في مجموعته القصصية (كان هذا هو الموجز) 1986، وسالم العبار في مجموعته (خديجار) 1998، وسالم الهنداوي في مجموعته (ظلال نائية)1999،، وإبراهيم بيوض في (خفايا التأويل)1999، وخليفة حواس في (الظل الثالث) 2000، وسالم أحمد الأوجلي في (شهوة السكين) 2000، ومحمد الأصفر في (حجر رشيد ) 2003، ومحمد المغبوب في (كلام الصمت) 2003، وجمعة الفاخري في (امرأة مترامية الأطراف) 2004، ونجوى بن شتوان في (قصص ليست للرجال)2004، ومحمد الزنتاني في (الصهيل) 2005 وغيرهم...
ونفهم من ذلك أن أسلوب الحداثة التجريبي لم يعد يعتمد على الخيال التفسيري البسيط الذي يستعين بالتشبيه والاستعارة والمجاز بصورة مفردة ؛ وإنما أصبح مركبا من ألفاظ وعبارات دلالية , حيث تصبح الحكاية المشهورة والأسطورة والمثل والشخصية التراثية والمعلومة الساطعة دلالات تعطينا صورا مكثفة..وقد ضربنا في ذلك أمثلة توضح هذه الغاية، كقصة (نكسة)، وقــصة( تخلف) للصّدّيق بودوارة التي ترينا الجانب التقليدي في انتظار الفرحة بالمولود الذكر، وترينا الجانب المُتخيل التجريبي الذي يتمثل في تضخيم وتبجيل الفرحة والأهمية لإنجاب الولد، وليرينا القاص بأن ذلك تفكير يسود أذهان عامة الناس فأعطانا استعارة كبيرة من الشخصيات التراثية التي تنتظر إنجاب الولد فقال :
" أجيال متعاقبة تنتظر الجواب.. عرب أقحاح.. عرب عاربة وأخرى مستعربة.. المناذرة يتقدمهم النعمان يتبعه خدمٌ مطيعون يحملون يوم بؤسه وسعده.. الغساسنة.. الخوارج.. شيعة علي وشيعة معاوية.. الأمويون أقبلوا وكذلك العباسيون.. بنو حمدان يرفلون في حلل فاخرة من قصائد المتنبي.. حتى أمراء الطوائف.. كلهم ترجلوا مسرعين.. ربطوا أعنة خيولهم في أشجار حديقة المستشفى المركزي وأطلقوا العنان لإبلهم ترعي في أعشابها اليافعة وصعدوا إلى الطابق الرابع حيث قسم الولادة..."(12).
واستعمل نفس القاص هذه الصورة المكثفة في أكثر من قصة، كقصة (نكسة) التي تفشل فيها الشخصية عن مخاطبة الأنثى بعبارات الحب التي تمنى أن تتوفر لديه في تلك اللحظة.. وعندما غادرت الأنثى وخسر الفرصة عادت إليه بديهيته في مخاطبة الإناث، ودلل على ذلك بعودة الشخصيات التراثية المعروفة في هذا الميدان فقال :
" هممت بالخروج إلى طلق الهواء.. عندما فـُـتح الباب ظهرت وجوههم وابتسامة اعتذار ترتسم بخجل على القسمات المتعـبَــة..إبليس اللعين.. وعمر بن أبي ربيعة.. وكثـيّـر عزة مع نخبة من أكثر الفاسقين شهرة وأقلهم أدبا ً "(13)
هذا الاستعمال للصور المكثفة أو الاستعارة الموسّعة كانت من أهم تطورات القصة في بداية الألفية الثالثة، عدا ذلك فلا يوجد إلا قصص تجريبية تلتحف بالغموض، أو قصص تقليدية تعبر عن محاكاة الواقع كما مرّ بنا في الفصل الأول والثاني من هذا البحث.
1-بدايات القصة الليبية القصيرة ـ ص 107.
2- نفسه ـ ص82.
3- حكايات شارع الغربي ـ ص63.
4- زخارف قديمة ـ ص 43. (مذيلة بتاريخ نشر نسة 1955)
5- نفسه ـ ص 37
6- حديث المدينة ـ ص 85. (مصدر سابق).
7- خمسون قصة قصيرة ـ ـص 96. (من مجموعة "مرسال" 1963.
8-الكثافة متضمنة معنى الكثرة , ولكن الذي يراد من كلمة (تكثيف) : وصف عبارة مقتضبة بأنها تحمل عبارات متعددة أو معانٍ كثيرة , أو أنها عبارة قليلة الألفاظ توحي بكثير من المعاني المتخيلة , وهو سبب تسميتها بالتكثيف. والتكثيف ليس الإيجاز البلاغي ؛ لأنه كلام قصير لذاته , فإذا أتينا بالعبارة مطنبة أو موجزة , فالكلام هو نفسه.. أما التكثيف فــلا يشترط أن يكون المعني الدال عليه القريب هو نفسه بالضرورة ؛ لأن العبارة المكثفة توحي بمعان كثيرة.
9- الجدار ـ ص 27 وما بعدها.
10- إبراهيم الكوني ـ الخروج الأول إلى وطن الرؤى السماوية ـ الدار الجماهيرية 1979 ـ ص 53.
11- محمد علي الشويهدي ـ أحزان اليوم الواحد ـ مؤسسة الانتشار العربي 1999 ـ ـ ط2. ص149.
12- الصديق بودوارة ـ آلهة الأعذار ـ مصدر سابق ـ ص50.
13-السابق نفسه ـ ص 53.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق