النسق النصي والنسق المتني في الحركتين المتضافرتين للقصيدة (الانبناء/ الانهدام) 2
بشير حاجم
2:
2ـ0: هكذا كان حراك النقديات الغربية، عبر تمثلها بأعلام من روسيا وفرنسا
وأميركا، قد دار حول عدة مفاهيم بنيوية، أساسية، أبرزها مفهوم النسق. فأين كانت
نقدياتنا، العربية؟، من هذا الحراك؟
2ـ1:
2ـ1ـ1: حتى نهاية السبعينيات، للقرن الماضي، لم تتصد للحراك المفاهيمي، البنيوي، من تلك النقديات، جلّها، سوى نقدية كمال أبوديب(1).
2ـ1ـ2: ذا التصدي من نقديته، لذاك الحراك، كان ـ تقريبا ـ قبل ثلاثة
عقود من الآن(2). 2ـ1ـ2ـ1:
حينذاك حاول تطوير مفهوم للنسق، البنيوي، يركز
على تشكله (إنبنائه) وانحلاله (انهدامه) ـ معا ـ في القصيدة. لقد اقترح لهذه
العملية طبيعة جدلية، علائقية، مفادها أن النسق، أي نسق، لا يمكن، له، أن يكون بنيويا، أو ذا دور بنيوي، إلا عبر التشكل والانحلال هذين. ثمة
تشكله، أولا، بما هو فاعلية تمايز، علائقي، وثمة انحلاله، ثانيا، إذ ينتهي التمايز، العلائقي، هذا. ذلك أن تمايزهما، كليهما، يعني نشوء علاقة بين المتمايز
واللامتمايز، ذينك، بالضرورة. أي أن النسق المتشكل، هنا، ينشأ، حتما، عن طريق المغايرة الانتظامية. حيث
مغايرة كهذه، انتظامية،
لها، وـ أوـ عليها، أن تستمر إلى
نقطة معينة، محددة، ثم تنتهي. أما انحلاله، بعد تشكله، فيرافق ـ عادة ـ بحركة تغيرية جوهرية في النمو البنيوي
للقصيدة.
2ـ1ـ2ـ2: بعد أقل من عامين ـ اثنين ـ فقط، مرورا على محاولته تلك، قام أبوديب(3)، ذاته، بمحاولة أخرى، جديدة، همها هدفان متداخلان. أولهما
اكتشاف أنماط الأنساق المميزة، خصوصا، في بضع قصائد
حديثة. ثانيهما فهم وظيفة الأنساق البنيوية، عموما، من ثلاث حيثيات لها. فثمة
كونها دالة أو غير دالة، أولا، وثمة فاعليتها الكلية في البنية، ثانيا، وثمة
علاقاتها بتنامي القصيدة ورؤياها الجوهرية، ثالثا، على التوالي. وقد افترض لكلا
الهدفين، هذين، تحديدا وتحليلا مهمين. ثمة تحديد مبدئي، من جهة أولى، لشروط تكون
النسق. وثمة تحليل بنيوي، من جهة ثانية، للقصيدة، بنية مكتملة، وللنسق، طبيعة
جدلية، وللعلاقة بين طبيعة النسق (فاعلية تمايزية) وبنية القصيدة (رؤيا جوهرية).
2ـ2: لا ريب أن القصيدة، أية قصيدة، ـ كونها بنية
مكتملة، ذات رؤيا جوهرية ـ، ليست متنا دون سواه. إنما هي، بكليتها، نص(4)، إكتمالي، له عنوان، حتما، وفيه متن، دائما، حيث يتداخل
بينهما، أحيانا، إهداء، أو تقديم، حتى ينهيه تذييل، ما، هو ـ غالبا ـ زمكان. من
ثم، استنتاجا، فإن النسق، أي نسق، ـ كونه طبيعة
جدلية، ذات فاعلية تمايزية ـ، ليس بمتني الابتداء. بل هو، بكليته، نصي، جدلي، ابتدائيا وانتهائنا، معا، ذو حركتين أصليتين، اثنتين، في الأقل، وعلى الأغلب، هما عنوان القصيدة (نصا
اكتماليا ذا كلية) ومتنها.
2ـ2ـ1: لكن أبوديب، في كلتا محاولتيه تينك، أبقى نسقه ـ ذاك ـ
نسقا متنيا لا غير، على الدوام، كأنما غفل عن قوله بعلاقة ـ جدلية مكتملة ـ بين
النسق (طبيعة) والقصيدة (بنية). في محاولته الثانية، مثلا، قبل بدئه (باكتناه
الأنساق ودورها البنيوي)، كما خطّط،...
2ـ2ـ1ـ1:
قد رأى، تنظيريا، أن من المجدي تقديم ((نموذجين شعريين)) لتأكيد ظاهرتين
نسقيتين. الأولى، وهي مهمة، ثمة (الدور الجوهري للنسق الثلاثي في تشكيل بنية
القصيدة). الثانية، وهي أهم، ثمة (كون البنية، أحيانا، وليدة تشكل النسق وانحلاله
بصورة مطلقة). أي، يفسر هذه الأخيرة، حتما (أن البنية تتطابق تطابقا كليا مع حركة النسق). من هنا،
يستنتج، فـ (بهذه الصورة يكون وجود النسق أبسط شكل بنيوي له). ذلك، يعلل، لأنه
(يستحيل عمليا تكون البنية من تشكل النسق دون انحلاله).
2ـ2ـ1ـ2: ثم أكد،
تطبيقيا، أن (في النصين التاليين لسعدي يوسف جلاء لما
يقال هنا).
2ـ2ـ1ـ2ـ1: ورغم أن هذين ((النصين)) متماثلان، من حيث ((جلاء)) كهذا، لا بأس بعرضهما كليهما،
الآن، وهُما، كما قدمهما هناك(5)، كل من:
2ـ2ـ1ـ2ـ1ـ1:
((كيف تغدو السماء
خطوة واحدة؟
كيف تغدو الجذور
تاجنا؟
كيف تغدو المدينة
جبلا؟
..........
..........
..........
في الجبال
في ظلام الجبال
تتمشى الأيائل))
2ـ2ـ1ـ2ـ1ـ2: ((بين بيت يسورني
وسماء طليقة
كيف أختار بيتي
بين صمتي وأغنيتي
كيف أختار همسي
بين أحداقها والثياب
كيف أدخل.
..........
..........
..........
تمتمة من شميم الصنوبر
همهمة من غصون الصنوبر
غمغمة في الظلام.))
2ـ2ـ1ـ2ـ2: إن كون البنية هنا، تحديدا، هي تشكل النسق وانحلاله، معا، لَمتأَكَّدٌ عند أبوديب.
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1: ذلك، بحسبه، إذ نحاول، حصرا؟، أن ندمر النسق الثلاثي
بحذف أي من عناصره المكونة.
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1ـ1: لنقرأ النص الأول ـ في الفقرة (2ـ2ـ1ـ2ـ1ـ1:)، كما يوصي، بإحدى الطريقتين الآتيتين.
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1ـ1: كيف
تغدو السماء
خطوة واحدة؟
كيف تغدو المدينة
جبلا
في الجبال
تتمشى الأيائل.
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1ـ2:
كيف تغدو السماء
خطوة واحدة؟
كيف تغدو المدينة
جبلا
كيف تغدو الجذور
تاجنا؟
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1ـ2: ولنقرأ النص الثاني ـ في الفقرة (2ـ2ـ1ـ2ـ1ـ2:)، كما قرأنا سابقه، بإحدى الطريقتين التاليتين.
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1ـ2ـ1: بين بيت يسورني وسماء طليقة
كيف أختار بيتي
بين أحداقها والثياب
كيف أدخل
تمتمة من شميم الصنوبر
غمغمة في الظلام.
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1ـ2ـ2: بين بيت يسورني وسماء طليقة
كيف أختار بيتي
بين أحداقها والثياب
كيف أدخل
بين صمتي وأغنيتي
كيف أختار همسي
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ2: ثمة بعد خفي لكل نص من النصين، هذين، لا على صعيد البنية الدلالية فقط،
يقول أبوديب، بل على صعيد عملية الإنبناء، أيضا، قد دُمّر الآن في كلتا الفقرتين (2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1ـ1:) و(2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ1ـ2:).
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ2ـ1: أي أن عملية الإنبناء، يستنتج، مشروطة وجوديا بتشكل النسق الثلاثي.
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ2ـ2: بل أن هذا النزوع إلى نسق كهذا، يستأنف، لَيبدو في واقعتين فنيتين.
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ2ـ2ـ1: يبدو في الفراغ المنقط(6)، أولا، إذ استخدمه الشاعر،
سعدي يوسف، ليشغل المساحة الفاصلة بين حركتي كل نص، من نصيه ـ هذين ـ الاثنين،
بحيث جاء الفراغ المنقط (بشكل واع؟) نسقا ثلاثيا (ثلاثة أسطر من النقاط).
2ـ2ـ1ـ2ـ2ـ2ـ2ـ2: ويبدو في الحركة المضادة التالية لإنحلال النسق، ثانيا،
إذ تتشكل هي بدورها من ثلاث وحدات.
2ـ2ـ2: هكذا أراد أبوديب، هناك، أن يؤكد ((الدور الجوهري)) لـ((حركة النسق)) في ((بنية
القصيدة)) حيث تطابق ((البنية)) هذه و((الحركة)) تلك ((تطابقا كليا)). بيد أن نموذجيه الشعريين، ذينك، اللذين قدمهما، لتأكيد ذلك،
لم يكونا بقصيدتين. لقد كانا متني قصيدتين، متنين لا غير، كِلا هذين ((النصين)) اللذين ((لسعدي يوسف)).
2ـ2ـ2ـ1: فالنص الأول ـ في الفقرة (2ـ2ـ1ـ2ـ1ـ1:) ـ مثلا، وستكتفي الفقرة الحالية به، إنما غُيِّبَ
عنوانه، مع أنه
معنون لـ(الأيائل)، كما بُتر تذييله، رغم كونه مذيلا بـ(بغداد 18/11/1978)، وهنا
غرابتان اثنتان. ثمة، غرابة أولى، علاقة لوحدة العنوان الجذرية (الأيائل)
بوحدة المتن الجذرية ـ من (كيف تغدو السماء) إلى (تتمشى الأيائل.) ـ عن طريق الشطر الأخير (تتمشى
الأيائل.). وثمة، غرابة ثانية، علاقة لوحدة التذييل الساقيّة الأولى (بغداد) بوحدة المتن الجذرية ـ نفسها ـ عن طريق
الشطر الخامس (كيف تغدو المدينة). إنهما علاقتان مبدئيتان، إذن، لهما علاقات تفاصيلية. ثمة، أولا، علاقة لوحدة العنوان الجذرية ـ
الأيائل ـ بوحدة المتن الساقية الثالثة (في الجبال/ في ظلام الجبال/تتمشى
الأيائل.). وثمة، ثانيا، علاقة لتلك الوحدة الجذرية ـ أي (الأيائل) ـ بوحدة المتن
الغصنية الثانية (في ظلام الجبال/ تتمشى الأيائل.). ثمة، ثالثا، علاقة لوحدة
التذييل الساقية الأولى ـ بغداد ـ بوحدة المتن الساقية الأولى (كيف تغدو السماء/ خطوة
واحدة؟/ كيف تغدو الجذور/ تاجنا؟/ كيف تغدو المدينة/ جبلا؟).
وثمة، رابعا، علاقة لوحدة التذييل تلك ـ أي (بغداد) ـ بوحدة المتن الغصنية الثالثة
(كيف تغدو المدينة/ جبلا؟). بهذي العلاقات التفاصيلية، الأربع، علاوة على
تينك العلاقتين المبدئيتين، الاثنتين، يتأكد ـ تماما ـ دور (النسق) كحركة في جوهريِّ (القصيدة) كبنية. فهنا، بالتأكيد، تعالق، جلي، حيث أن (الأيائل) سوف (تتمشى) أخيرا (في ظلام الجبال) بعدما
(تغدو المدينة) المسماة (بغداد) تلك (جبلا) فيه (ظلام) كما الذي (في الجبال).
2ـ2ـ2ـ2: هذا التعالق، الجلي، هو، إذن، الذي يثبت أن ثمة تطابقا، كليا، بين بنية القصيدة، الواحدة، وبين
حركة النسق، الثلاثي، في النص(7)، نفسه، هذا:
الأيائل
(وحدة العنوان الجذرية)
كيف تغدو السماء
خطوة واحدة؟
كيف تغدو الجذور
تاجنا؟
كيف تغدو المدينة
(وحدة
المتن الغصنية الثالثة)
جبلا؟
..........
..........
..........
في
الجبال
(وحدة المتن الساقية الثالثة)
في ظلام الجبال
تتمشى الأيائل.
(بغداد/ وحدة التذييل الساقية الأولى) بغداد 18/11/1978
* توضيحات (2:) *
(1) حينها كان عبدالله إبراهيم، مثلا، قد وصف ثالث كتبه "جدلية الخفاء والتجلي" بأنه "يطرق أبوابا مغلقة لا زال النقد العربي غافلا عنها، إذا لم نقل إنه عاجز عن التوغل فيها، واستنباط معطياتها" (ينظر عرضه، للكتاب، في: الأقلام ـ مجلة تعنى بالأدب
الحديث، دار الجاحظ للنشر ـ بغداد، السنة الخامسة عشرة/ العدد الثامن/ آيار
1980)
(2) تجلى تصديه، هذا، عن وجود ثلاثة أنماط متميزة من الأنساق، هي: الثنائي/ الثلاثي/ الرباعي،
وعن طغيان النسق الثاني، أي الثلاثي، في الشعر خصوصا.. غير أنه، هنا، توقف عند تمييز هذين التجليين، ظاهرتين، ولم
يسعإلى فهمهما، دلاليا ووظيفيا، حيث أشار إلى أن
تحقيق فهم كهذا مشروط بإنجاز عدد كبير من الدراسات الشاملة (يراجع، تحديدا، كتابه: جدلية الخفاء والتجلي ـ دراسات
بنيوية في الشعر، دار العلم للملايين ـ بيروت، ط1/ 1979)
(3) في محاولته هذه، حيث (الهدف الأول إقتراح المنهج وتقديم النموذج)، تجنب المناقشة المستفيضة
للأنساق الصورية "إدراكا لطبيعتها المعقدة، ولضرورة حل عدد من المشكلات الأساسية قبل التعرض
لها" (تراجع،
هنا، دراسته: الأنساق والبنية، فصول ـ مجلة النقد الأدبي، الهيئة المصرية العامة
للكتاب ـ القاهرة، المجلد الأول/ العدد الرابع/ يوليو 1981)
(4) فان دايك، مثلا، يرى "أن بنية النص تنقسم إلى وحدات صغيرة كالضمائر الوصلية والشخصية وتكرار
المفردات وأخرى كبيرة مثل العنوان الرئيسي والعناوين الثانوية والتي تؤثر في مجرى انسيابية النص واللغة المستعملة فيه"(نقلا، هنا، عن/ محمد فوزي محي الدين: ألسنية النص، آفاق عربية ـ مجلة فكرية عامة، دار الشؤون
الثقافية العامة ـ بغداد، السنة السادسة عشرة/ العدد الحادي عشر/ تشرين
الثاني 1991)
(5) عنوانهما، على التوالي، كل من "الأيائل" و"قصيدة" (أنظر، حيث
استناد أبوديب، سعدي يوسف: قصائد أقل صمتا، دار الفارابي ـ بيروت، 1979/ ص26 ثم ص69 تراتبيا)
(6) إذا كان هذا الفراغ ـ المنقط ـ صمتا، وهو كذلك ـ صمت
ـ في اعتقادي، فإنما هو هنا (ضرب من التكلم) أيضا.. بل بحسب مارتن هيدغر، خصوصا،
قد يكون الصمت أعمق دلالة من ثرثرة مغيبة للمعنى ومعطلة للفهم (راجع، للمزيد من التفاصيل عن الصمت
الدلالي لديه، كتابه:
Letre et le temps, n.r.f,
Gallimard, 1964, pp.191-205.. وينظر،
مثلا، مصطفى الكيلاني: في ((الميتا ـ لغوي)) والنص والقراءة، دار أمية ـ تونس، ط1/ 1994/ ص6
وما بعدها)
(7) كذلك، هنا، في نص "قصيدة" (ينظر، حيث استناد الدراسة الحاضرة، سعدي يوسف: الأعمال
الشعرية ـ ((2)) من يعرف الوردة؟، دار المدى للثقافة والنشر ـ دمشق، ط5/ 2003/ ص25 ثم ص44 على التوالي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق