الجمعة، 5 فبراير 2016

في التطوّرات الجماليّة للقصيدة العربية (1-2) - د.ثائر زين الدين

في التطوّرات الجماليّة للقصيدة العربية(1-2)





د. ثائر زين الدين - الفداء - العدد: 15196- الاثنين, 18 كانون الثاني 2016

  أولى النقد العربي القديم الشِعرَ اهتماماً باذخاً، ولم يقصر النقد الحديثُ في دراسة الحداثة الشعريّة؛ من حيثُ نشأتها وأطروحاتُها الفنية الجمالية والفكريّة، والتنظير لها ولمساراتها المُحتملة، وسيبقى هناك دائماً ما يقال، لأنّنا إزاء وجهٍ من وجوهِ النشاط البشري الإبداعي، المتطوّر بطبيعتِهِ والذي يستدعي بناءً على ذلك مقاربات نقدية جديدة دائماً، يسوغها بدورها ما يطرأُ من تطوراتٍ على الشعِرِ بفعل تبدلِ البنية المجتمعيّة بخاصة والعالم من حولنا عموماً وما يرافق ذلك من سموٍ في الوعي الجمالي الإنساني. وهو بدورهِ ما يسّوغ لنا هذهِ الإطلالة العجولة على جماليات القصيدة العربية القديمة وبعضٍ من جماليات قصيدة الحداثة العربيّة التي ذهَبَ النقّادُ العربُ مذاهب شتى في رصدِ أسبابِ نشوئها من مُغلِّبٍ للمؤثِر الخارجي التأثيري ولدور المثاقفة مع الغرب الأوربي في ذلك، إلى مقدّمٍ للتفسير الاجتماعي الذي يربط ظهور القصيدة العربيّة الحديثة بالعامل الاجتماعي الاقتصادي وصعود طبقة البرجوازية العربية الحديثة والصراع الاجتماعي، إلى مُرجح للتفسير النفسي – الذوقي، الذي يربط بين الحداثة في الشعر والتغيّرات التي أصابت كلاً من الطبيعة النفسيّة والذوقية العربيّة، تحتَ تأثير المستجدات التي جاء بها القرن العشرون وتحقيقاً لغاياتنا من هذهِ الإطلالة على موضوعنا الذي حدَدَه العنوان لا بّدَّ لنا أن نتلمّسَ معاً وبكثيرٍ من الإيجاز والتكثيف أبرز جماليات القصيدة العربية القديمة، لنتمكن بعد ذلك من رصد التغيرات والتطورات التي طرأت عليها:



  يذهبُ معظمُ النقاد العرب القدامى إلى أن الشعر صناعة، وله معايير وقواعد إذا اتبعها وسار عليها جاءَ جيداً وجميلاً غير مرذولٍ أو قبيحٍ ولعّل أهم هذهِ المعايير:

  الوزن وهو علامةٌ من أهم علامات الشعر في نقدنا العربي القديم، يقول ابن طباطبا عنه :

  " كلامٌ منظومٌ بائنٌ عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم" ويؤكد أن " نظمه معلوم محمود، فمن صحّ طبعُهُ وذوقُهُ لم يحتج على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانُه " ويقدّمهُ ابن فارس على غيرهِ من المعايير في تحديد ماهية الشعر، الذي يراه" كلام موزون مُقفى دالٌ على معنى ويكون أكثر من بيت"، ونجدُ الأمرَ ذاته عند الباقلاني وابن سنان الخفاجي وغيرهما، على أنكَ لا تعدم وجود أصوات أخرى قليلة لم تنكر أهمية الأوزان للقصيدة لكنها ميّزت بين الشعر والنظم، بين أصحاب الموهبة الشعرية الحقّة والحرفيين، ومن هؤلاء ابن وهب الذي عرَّف الشاعر بقوله: " الشاعر من شعَرَ فهو شاعر، والمصدر ( الشعر)، ولا يستحق الشاعر هذا الاسم حتى يأتي بما لا يشعر به غيرهُ، وإذا كان إنما يستحق اسم الشاعر لما ذكرنا فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف فليسَ بشاعر، وإن أتى بكلامٍ موزون مقفى"ولعلّ إصرار العربي على الوزن عائدٌ إلى " قوة تأثيرهِ وفاعليتهِ ما يجعلهُ أسهل على الحفظ وأعلق بالذاكرة وأصلح للتلحين والغناء وأيسر في الأفاق، وأدل على الشاهد، وأبعد على التغيير والتحريف، وأقرب إلى الاختصار والتكثيف، وأهز لعطف الكريم وأوفر حظّاً في نيل الجوائز والصلات والتكريم".

   برزتْ وحدة البيت الشعري كأحد أهم المعايير الجمالية في القصيدة العربيّة القديمة وظلّت إلى زمنٍ بعيد مقياساً لجودةِ صناعة الشعرِ وإتقانِهِ وتأثيره في النفس. فقد عَدّ قدامة بن جعفر الإيغال حسنة " وهو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاماً من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنعٌ" وبالتالي فابن جعفر يقيّم القصيدة من خلال جودةِ أبياتها مفردةً، فمن العيبِ فنياً أن يأتي البيت مبتوراً، وأن يلجأ الشاعرُ إلى إتمام المعنى في البيت التالي! وهذا ما أكد عليه أبو هلال العسكري، والمرزباني، وابن خلدون، على أننا قد نجد صوتاً يلتفتُ إلى حالاتٍ خاصة، لا مفّر عندها من تعالُقِ البيتِ مع ما يليه لإتمام المعنى أو الفكرة ولاسيّما حين يسردُ الشعر حكاية أو قصّة، يقول ابن رشيد: " ومن الناس من يستحسن الشعر مبنيّاً بعضُهُ على بعض، وأنا استحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه، لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصيرٌ إلا في مواضع معرفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد"والحقيقة أن الأمثلة على صواب هذا الرأي في الشعر العربي القديم كثيرة لنقرأ مثلاً قصيدة الحطيئة الشهيرة التي تصف حال رجلٍ معسرٍ نزل عليه ضيف في ساعة متأخرة:

و طاوي ثلاثٍ عاصب البــطن مرملٍ      ببــيداء لم يــعرف بها ساكن رسـما

أخي جــــفوةٍ فيه من الإنس وحــشة ٌ     يرى البؤسَ فيها من شقاوته نعمى

و أفرد في شــعبٍ عـــــجوزاً إزاءها      ثـــلاثـة أشــــــباحٍ تـخالهمُ بهـــــمـا

حــفاةٌ عراة ما اغــتذوا خبزَ ملّــــةٍ      و لا عــرفوا للــبُر مـذ خُلــقوا طعما

رأى شـــبحاً وســط الظلام فراعــهُ       فلما بدا ضــيفاً تشــــــمّرَ واهــــتمـا


  ويتابع الحطيئة سرد حكايتهِ فإذا بابن صاحب البيت يقترح عليه أن يذبحه وييسر للضيف طعاماً وهي اللحظة التي تشبه العقدة في القصة القصيرة ليبدأ بعد ذلك حل هذهِ العقدة بأن يتمكن الأبُ من اصطياد أنثى حمارِ وحشٍ " قد اكتنزت لحماً وطبقت شحما" فتتغيرُ الحالُ كلها:

فيا بـــشرهُ إذ جرها نـــــحو قومهِ    ويا بـــشرهم لمّا رأوا كلمها يدمى

فباتوا كراماً قد قضوا حقَ ضيفهم    فلم يغرموا غُرماً وقد غنموا غنما

وبـاتَ أبــوهـم من بشاشــــتهِ أبـاً     لضيفهمُ والأمُ من بشرها أمـــــــا


  وابن رشيق – كما يشير د. خليل الموسى – يفصل في هذه القضيّة بين الشعر الغنائي الخالص والشعر السردي (القصصي – الحكائي) فوحدةُ البيت عندهُ مستحسنة في النوع الأوّل، ووحدة القصيدة مستحسنة في النوع الثاني، وهذا رأيٌ متقدم على زمانه، ولا تعني وحدة البيتِ دعوةً لتفكك القصيدة، أو تناثرها، ودليل ذلك دعواتُ كثيرٍ من النقاد القدامى إلى ضرورة تلاحم أجزاء القصيدة كدليلٍ على جودتها وجماليتها، كما فعلَ الجاحظ حين قال: " أجود الشعر ما رأيتَهُ متلاحمَ الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنّه أفرغَ إفراغاً واحداً، وسُبكَ سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري على الدهان"، وهذا ما أكّده الحاتمي في حديثه عن وحدة القصيدة واتساقِها وارتباط موضوعاتها المتعددة ضمن ما يسمى منهج القصيدة.

   جمال اللفظة الشعرية ودقّةُ اختيارها وسلامتها وبعدها عن الخطأ اللغوي والنحوي، فالخطأُ قُبحٌ وخروجٌ من دائرة الأدب ولذلك قدّم الجاحظ المبنى على المعنى وتحدث ابن قتيبة عن محاسن الألفاظ ومنها" الدقة في التعبير، وهي أن توضع الكلمة في موضعها من الصورة لتؤدي وظيفتها على أكمل وجه، فلا يغيّر الشاعر موضع الكلمة في البيت أو الجملة منهُ بتقديمٍ وتأخير إذا كان ذلك يوهم بشيءٍ خلاف المُراد، أمّا إذا كان التقديم لغاية فنيّة فهو مفضّل عنده، كذلك يعيبُ ابن قتيبة الحشو، ومن محاسنِ اللفظة أيضاً تنويع العبارة بين خبرٍ وإنشاء وحقيقة ومجاز فتغدو اللفظة الواحدة ذات إمكانات ووظائف كثيرة، وهي في السياق تشعُّ بحركتها وحيويتها .أمّا الحسنة الأهم فهي السهولةُ في الألفاظ، وأن تكون مألوفة ومأنوسة يدرك السامع المراد منها دون حاجة إلى تفسير، وأن تكون فصيحة بليغة يسيرة في النطق، مناسبة على اللسان، بعيدة عن التقعر والتنافر"، ولا يبتعدُ قدامةُ بن جعفر في مقاييس الجمال اللفظي عن صاحبه أو عن الجاحظ؛ فهو يشترطُ في الشعر الجيّد" أن يكون لفظُهُ سمحاً، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع خلوٍ من البشاعة"

   جمال المعنى ونبله، إلى جوار نخبةٍ من النقادِ وهم قِلّة قَدّموا المبنى والصياغة على المعنى كالجاحظ الذي رأى المعاني "مطروحةً في الطريق، يعرفُها العجميُّ والعربي، وإنما الشأن- على حَدِّ قولهِ – في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء إلخ"، وكقدامة بن جعفر وهو من أنصار التخييل والصناعة ويؤخر المعنى، ويرى أنّه ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودةَ النجارة الرداءةُ في الخشب ، و كالآمدي الذي يرى أن صنعة الشعر هي "جودة الآلة، وإصابة الغرض المقصود وصحّة التأليف، والانتهاء إلى نهاية الصنعة من غير نقصٍ منها ولا زيادةٍ عليها" إذاً إلى جوار هؤلاء نجد عديداً من النقّاد يرونَ جماليات الشعريّة إنما تكمُنُ في جمال المعنى ونبلهِ وشرفِ المضمون، فابن طبطبا يرى الشعر " رسالةً اجتماعيّة وحضاريّة ووظيفته تشكيل العقول والتأثير في العواطف وتوجيه السلوك الإنساني وجهةً سليمة، وابن جنيّ يرى " أن المعنى أقوى عند العرب وأكرم وأفخم قدراً في نفوسها وهي تعتني بألفاظها لأنها عنوان معانيها، والألفاظُ خدمٌ للمعاني، والمخدوم أشرف من الخادم"،ويرى عبد القاهر الجرجاني الأمر نفسه، وقد يجدُ المتابعُ مثل هذه النزعة النفعيّة عند ناقدٍ كبير كحازم القرطاجني الذي يذهبُ إلى أن وظيفة الشعر هي " إنهاض النفوس إلى فعل شيءٍ أو طلبه أو اعتقادِهِ، بما يخيّلُ لها فيه من حسنٍ وقُبحٍ وجلالةٍ وخسّةٍ" . ومن جماليات المعنى في الشعر العربي القديم أنّه لا يُقاسُ بمطابقتِهِ للواقع من حيث مسألتي الصدق والكذب يقولُ أبو هلال العسكري: " قيلَ لبعض الفلاسفة فلانٌ يكذبُ في شعرهِ، فقال: يرادُ من الشاعر حسن الكلام، والصدقُ يُرادُ من الأنبياء،فالشعر إذاً ليس تاريخاً ولا واقعاً موضوعيّاً، إنّه واقعٌ فني قائم بذاته ومستقل بنفسه، بالرغم من الوشائج العميق مع العالم من حولِهِ " ولا تقتصرُ جماليات المعنى على قبول الكذب في الشعر والتلذّذ به، إنما يجدُ المتلقّي- فضلاً على ذلك- أنّ الشعر فنٌ تحويلي، فهو يحوّل الكذب إلى صدقٍ فني، ويحول القباحة إلى جمال، فالافتخار بالذات مكروهٌ في النثر وقبيحٌ ومسترذلٌ، ولكنّهُ مقبولٌ في الشعر وجميل ومطلوب"

   وفي هذا السياق يقول ابن رشد: " ليس يُقصدُ من صناعة الشعر أي لذّةٍ اتفقت، لكن إنّما يقصدُ بها حصول الالتذاذ بتخييل الفضائل"،أي أن جماليات المعنى إنما تكمُنُ في المحاكاة والتخييل، ووظيفةُ الشعر كما يرى ابن رشيد في تخييل الفصائل وتحبيب الناس بها من خلالِ صناعة الشعر، فتحدثُ اللذة الفنيّة الجماليّة بجميل الكلام.

   وإذا كانت قد سادت في الشعر العربي من العصر الجاهلي حتى بدايات العباسي جماليّة الوضوح ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، والسير على نهج القدماء، فإن جمالية الغموض وممانعة القصيدة، وعدم تسليمها نفسها وإعطائها غرضها بسهولة قد بدأت بالظهور مع أبي تمّام، فقد رأى أبو إسحق الصابي أن الغموض في الشعر مطلب أساسي وهذا ما يميّزهُ من النثر: " إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالفُ طريق الإحسانِ في منظومهِ، لأن الترسّل هو ما وضحَ معناه، وأعطاكَ سماعَه من أوّل وهلةٍ ما تضمّنته ألفاظُه. وأفخر الشعر ما غمض، فلم يعطكَ غرضه إلا بعد مماطلةٍ منهُ"،

   وذهبَ المذهبَ نفسه عبد القاهر الجرجاني، ولكن من خلالِ دعوتِهِ إلى بناء صور بيانيّة غير مألوفة، بل متباعدة أطرافِ الصورة يقول: إذا استقريتَ التشبيهات وجدتَ التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كانت إلى النفوس أعجب وكانت النفوس أطرب " وهو أمرٌ سيعتمدُ عليه شعراء الحداثةَ العربيّة في بناء صورهم؛ والنقاد في التنظير للصورة الحداثيّة.

6- وإذا كانت القصيدةُ العربيّة قد أصرّت على وحدةِ البيت و على التلاحم والاتصال بين أجزاء القصيدة وهذا ما أشار إليه ابن طباطبا العلوي بقوله: " وينبغي للشاعر أن يتأمل تأليفَ شِعره وتنسيق أبياتِهِ، ويقف على حُسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها لتنظم لهُ معانيها، ويتصل كلامُهُ فيها، ولا يجعل ما قد ابتدأ وصفه أو بين تمامه فصلاً من حشوٍ ليس من جنسِ ما هو فيهِ، فينسى السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنّه يحترز من ذلك في كل بيتٍ، فلا يُباعِد كلمةً عن أختها ولا يحجز بينها وبين تمامِها بحشو يشينها.. إلخ"وكنتُ قد أشرتُ في هذا السياق إلى آراءِ ابن رشيق والجاحظ والحاتمي( في البند الثاني) .

  بعد هذا الاستعراض السريع لأهم الميزات الجماليّة للقصيدة العربيّة القديمة نستطيع وبصورة لا تقل إيجازاً وتكثيفاً عما سبق أن نتناول أهم الميزات الجمالية لقصيدة الحداثة العربيّة - وقبل الشروع في ذلك لا بُدّ من الإشارة إلى أن سيرورة الشعر العربي الحديث عموماً يمكن أن تقسمُ إلى أربع مراحل منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى اللحظة، وهي : حركة الشعر التقليدي، حركة الشعر الرومانسي ( شعر المهجر – مطران والديوان- جماعة أبولو وامتدادها )، وحركة الشعر الحُر، وحركة قصيدة النثر وهذه الحركات في الحقيقية نشأت في هذا البلد العربي أو ذاك وانطلقت منهُ إلى غيرِهِ، وعادت إليه بصورةٍ ما وقد كانت ساحاتها على العموم ( مصر، العراق، سوريا، لبنان ) ومن هذهِ البلدان انتشرت في كثيرٍ من البلاد العربية!

  ويمكننا أن نحدد الفضاء الزمني لكل من هذه الحركات على النحو التالي : الشعر التقليدي أو شعر الإحياء ( نهايات القرن التاسع عشر بدايات العشرين ) – الرومانسي ( عشرينيات القرن العشرين حتى أربعينيّاته ) – الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة ( الخمسينيات والستينيات حتى الآن ) – قصيدة النثر ( السبعينيات والثمانينات حتى الآن )، وبالتالي فما نقصده بمصطلح قصيدة الحداثة العربية في هذه الدراسة إنما نعني به قصيدتي ( التفعيلة والنثر ) بالتحديد، وما نعنيه بجماليات تلك القصيدة، هو كل ما ينبثق من الوعي الجمالي الحداثي للشاعر العربي المعاصر على المستويات الفنيّة المختلفة، والوعي الجمالي عامةً " هو الوعي الذي يتناول الظواهر والأشياء الفنية المختلفة، من خلال سماتها الحسية وأثرها في الطبيعية النفسية والروحية للملتقي، منطلقاً من المقاييس الجمالية، التي تشكل مضمونه القيمي، ويتلاءم الوعي الجمالي طرداً مع تلك المقاييس، بحيث إن أي تغيير يطرأ على واحدٍ منهما، يطرأ على الآخر بالضرورة ... وبما أن الفن أعلى أشكال تملك الواقع بحسب مقاييس الجمال، فإنه المؤشر الأكثر مصداقية في الدلالة على ذلك التبدل أو التغيّر في الوعي الجمالي ".

  وقد بين الدكتور سعد الدين كليب أن الوعي الجمالي للحداثة الشعرية العربية يتميّز من نظيره الكلاسيكي بعدّة سمات ٍ تجعله جديداً تماماً، كما تجعل نتاجه الشعري مختلفاً عن نتاج الشعر الكلاسيكي والتقليدي المعاصرين، وحصر تلك الميزات فيما يلي :

1-التجادلية : وهي السمة الجوهرية من سمات الوعي الجمالي الحداثي، وتحيل على " فهم العالم والوجود الإنساني من منظور التناقض وتبادل التأثير فيما بين الظواهر والأشياء والعناصر ...

   فليس ثمة شيء يمكن أن يوجد أو يستمر أو يموت بمعزل ٍ عن عناصر المحيط الذي هو فيه، وهو ما ينفي إمكانية استقلال الظواهر والأشياء، ويؤكد وجودها القائم على التناقض والصراع وتبادل التأثير " وبالتالي فقد اتسم الوعي الجمالي الحداثي بآلية ذهنية تجادلية– وفق تعبير د. كليب – ترى العالم في وحدته القائمة على التناقض والصراع لا على التكامل والتناظر، كما كانت الحال في الوعي الجمالي الكلاسيكي العربي الذي تشكّل التكامليّة الميتافيزيقية سمته الجوهرية، ويفضي رأي الباحث هنا إلى أن " الوعي الحداثي يرى أن الجمال هو التميز القائم على الحرية والحيوية، أي أن هذا الوعي يشترط للجمال ثلاثة عناصر وهي التميّز والحرية والحيوية "، ويتبدى ذلك أكثر ما يكون في البناء الإيقاعي للقصيدة الحديثة، وفي بنية الصورة الشعرية .

2- الدراميّة : كان الشعر العربي حتى بدايات القرن العشرين ذا طابع ذاتي – غنائي، فإذا بتلك التبدلات والتغييرات المتنوعة التي أصابت المجتمع العربي، تؤثر تأثيراً كبيراً في الحاجات الجمالية وفي الوعي الجمالي، فتظهر فنون موضوعية ودرامية تستطيع تصدّر الساحة الأدبية، كالقصة والرواية والمسرح، وهو ما اقتضى تحوّلاً ملائماً على صعيد الوعي الجمالي ذي الطابع الغنائي، فبدأ يتصّف بالدرامية " أي أن التحول الذي أصاب المجتمع العربي قد دفع بالحاجات الجمالية، إلى الاتساع والتنوع والاختلاف، مما أفقد الوعي الغنائي الصرف مشروعيته الجمالية، وجعله يتحول بما يتلاءم والمستجدات، فظهر ما يمكن تسميته بالوعي الغنائي – الدرامي ".

   وبالتالي فقد بدأ النص الشعري الحديث ينحو نحو موضعه الذاتي أي بصورة ما الابتعاد إلى حدٍ كبير عن بروز الذات الفردية في التعبير الشعري ، " بحيث لا يبدو النص إحالة مباشرة على ذات المبدع، بل يبدو معادلاً موضوعياً لذاته في علاقته بالعالم، وعلى هذا النحو فإن النص الحداثي يتقاطع وذات المبدع، غير أنه لا يتطابق وإياها، إذ إنه يعادلها فنياً ولا يمثلها شخصياً " ويرى د . كليب أن هذه الموضعة الذاتية قد تجلت على الصعيد التعبيري من خلال النمذجة الفنية، والبناء الشعري الدرامي .

3- الكليّة: وهي سمة على علاقة وثيقة بسابقتيها ( التجادلية والدرامية ) وهي تفترض النظر إلى أية ظاهرة في جوانبها المتعددة، وفي ارتباطها بالظواهر الأخرى، فلا تؤخذ معزولة، أو يؤخذ جانب منها فحسب، وتفترض تقويماً جمالياً كلياً " إذ إن الرؤية الكلية للظاهرة تنعكس في تقويم جمالي كلي بالضرورة "، ويؤكد د . كليب أن الوعي الحداثي باتصافه بالكلية يكون قد افترق عن الوعي العربي الكلاسيكي من جديد " في صفته الجزئية التي ظهرت واضحة فيما يسمّى بالأغراض الشعرية، وظهرت أيضاً في شكل القصيدة القائم على أبيات كل منها يشكل جزئية متكاملة غير منقوصة، كما ظهرت في التقويمات الجمالية الجزئية لبعض الأعضاء الأنثوية، وبعض الحيوانات والنباتات وبعض الأفعال والحالات الاجتماعية والنفسية، حيث يمكن التوكيد أن الوعي الكلاسيكي قد اصطبغ بالجزئية، في مجمل نشاطه الجمالي، وقلما يميل إلى الكلية في الرؤية والرؤيا والتقويم والتأثير الانفعالي، أي في نشاطه الجمالي، وانعكاسه الفني "، ويرى الباحث أن هذه الميزة انعكست في غير مستوى من مستويات النص الشعري الحداثي فبدا هذا النص وكأنه يسعى إلى الإحاطة والشمول في كل ما يتناوله أو يتعرض له ولاسيما في الموضوع الفني والتقويم الجمالي . ويعود د . كليب في كتابه الجديد " المدخل إلى التجربة الجمالية " ليستنتج من خلال متابعته للحركة الإبداعية النقدية التي أفرزتها الحداثة العربية " أن مفهوم الجمال في الحداثة العربية عامة، والشعرية منها خاصة، يتحدد بالحرية جوهراً، وبالحيويّة والتميّز والإيحائية شروطاً أو سمات لازمة " .

1ـ تم التخفيف من الاحالات لأسباب فنية .


ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة