نقد السرديات عند أبوهيف
د. نضال الصالح (سورية) - قاص وروائي وناقد وأستاذ جامعي. درس النقد الحديث في عدة جامعات عربية :
نشر قسم من البحث في مجلة «المعرفة» (دمشق) العدد482 - تشرين الثاني 2003 م ، وألقي جزء منه في الندوة النقدية التكريمية بالرقة.
أولاً : فكرة القصة ، نقد القصة القصيرة في سورية:
يُعدّ منجَز د. عبدالله أبوهيف النقدي أكثر المنجَز النقدي السوري حفاوة بالإبداع القصصي، وأكثره حضوراً وتأثيراً في الحركة الثقافية السورية منذ بداية الثمانينيات إلى الآن، ولاسيّما بعد أن استسلم مجمل المشتغلين بنقد القصة القصيرة للصمت، أمثال: محمد كامل الخطيب، ورياض عصمت، اللذين تحوّلا إلى الكتابة في حقول معرفية أخرى.
ولا تكمن قيمة ذلك المنجَز في وجوده وحيداً لفترة طويلة نسبياً، عقدين من الزمن الثمانينيات والتسعينيات، فحسب، بل، أيضاً، في كفاءة منتجه الواضحة في متابعة الإبداع القصصي السوري خاصة والعربيّ عامة من جهة، وفي إفصاحه عن باحث دؤوب، ودائم التطوير لأدواته النقدية من جهة ثانية.
أنجز د. عبدالله أبوهيف، إلى الآن، أربعة مؤلفات في نقد القصة القصيرة، هي: «فكرة القصة، نقد القصة القصيرة في سورية» (1981)، و«الأدب والتغيّر الاجتماعي في سورية» (1990) و«عن التقاليد والتحديث في القصة العربية» (1992)، و«القصة العربية الحديثة والغرب» (1994).
تُعنى هذه المقاربة لمنجَز أبوهيف النقدي في حقل القصة القصيرة بالنقد التطبيقي من ذلك المنجَز فحسب، والمعني بكتّاب القصة في سورية فحسب أيضاً، والذي يتجلّى في ثلاثة من تلك المؤلفات: «فكرة القصة..» ، و«الأدب والتغيّر الاجتماعي في سورية»، و«عن التقاليد والتحديث في القصة العربية».
يتوزّع الكتاب النقديّ الأوّل لأبوهيف في مجال نقد القصة القصيرة، «فكرة القصة، نقد القصة القصيرة في سورية»(1)، بين: كلمة، ومقدّمة، وتسع عشرة دراسة. أخذ الناقد، في «كلمة»، على النقد المعني بالقصة القصيرة تحكميّته السابقة للنصوص، وأبدى حرصاً على «الابتعاد عن مصطلحات العلوم المساعدة أو المناهج النقدية المستعارة من العلوم المساعدة كالتحليل النفسي أو الاجتماعي أو الأيديولوجي مؤثراً الاعتماد على مصطلح نقدي تقويمي ينهض بأعباء التحليل الأدبي»، ولم يخف نفوره «من الأفكار الصغيرة أو الكبيرة التي ترى في الأدب ميداناً لتطبيقها فحسب»، ورأى أنّ القصة القصيرة «فكرة لها طبيعتها ووظيفتها في البناء الاجتماعي»، وعلّل اختياره للكتّاب الذين سيعالج نتاجهم القصصي بقوله: «إنّ الأمر لم يكن اختياراً لاتجاهات أو تيارات أو مذاهب، أو لمراحل تاريخية، بل تعبيراً عن حاجة نقدية»، وإنّ ما يوحّد بين الكتّاب الذين سيدرس نتاجهم ظهور نتاجهم في السبعينيات.
وحاول في المقدّمة تتبّع نشأة القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث، كما حاول معالجة أبرز مثيراتها، التي حددها بما يلي: الوظيفة والموضوع، والوظيفة والاتجاه، والقصة والمتلقي، والقصة والالتزام، والقصة وتعريفها، والقصة ونشأتها، والقصة والمرحلية، والقصة والنقد.
ولعلّ أبرز ما يمكن العثور عليه من نتائج في المقدّمة هو أنّ نشأة القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث «كانت حاجة اجتماعية قبل أن تكون حاجة فنية»، وأنها «نشأت مهمومة بوظيفتها قبل أن تستقيم داخل جنسها المميز»، وأنّ الحفاوة الكبيرة بتلك الوظيفة أدت إلى الإلحاح على «ماذا تقول القصة، أما كيف تقول القصة ما تقوله فذلك شأن آخر» ، ثمّ رأى أنّ «القصة هي أسلوبها وقد دارت مع التاريخ الشخصي والعام». وفي جزئية الوظيفة والموضوع حاول تمحيص بعض الخصائص التي تميز فن القصة القصيرة، وخلص إلى أنّ «في القصة القصيرة ليس هناك بناء محدد»، وأنّ موضوع القصة غالباً ما اختلط بوظيفتها، وأنّ هذا الاختلاط/ التداخل «انعكس سلبياً على تطور القصة القصيرة»، وأنه «مظهر من مظاهر التضييق على الممارسة الفنية».
وفي الوظيفة والاتجاه رأى أنّ القصة في سورية «حققت إنجازات باهرة.. ورسخت تقاليد في الكتابة استطاعت أن تجعل من القصة القصيرة سيدة الفنون النثرية خلال أكثر من عقدين من الزمن»، وأنّ الفن القصصي لم ينج من القسر على أن يحمل وظائف متعددة، وأنّ «التأكيد على هذه الوظيفة في بناء القصة يحمل نوعاً من التضييق على الممارسة الفنية». ونقل عمن وصفه بأبرز نقاد الأدب، دون أن يسميه، قوله «إن وظيفة الأدب هي أن يكون أميناً لطبيعته» ، ثمّ انتهى إلى أن «الأدب يحمل هدفه في طبيعته»، وأن «القصة القصيرة بشكل خاص تحمل وظيفتها في بنياتها الفنية التي لا يمكن لها في النهاية أن تكون مجرد وثيقة اجتماعية أو سياسية أو تاريخية بوجه أعمّ».
أمّا متن الكتاب فقد امتدّ على تسع عشرة مادة، عالج فيها الناقد ثلاثاً وأربعين مجموعة قصصية لثمانية وعشرين قاصاً وقاصة (23 قاصاً و5 قاصات)، عشرة منهم ينتمون إلى أجيال سابقة لجيل السبعينيات (صدقي إسماعيل. زكريا تامر. حسيب كيالي. دلال حاتم. إلفة الإدلبي. جورج سالم. وليد إخلاصي. شوقي بغدادي. ياسين رفاعية. جان ألكسان)، وثمانية عشر ينتمون إلى جيل السبعينيات (عبدالله عبد. ناديا خوست. زكريا شريقي. محمد كامل الخطيب. إبراهيم الخليل. خليل جاسم الحميدي. نيروز مالك. رياض عصمت. اعتدال رافع. ضياء قصبجي. زهير جبور. وليد معماري. وليد نجم. عبد الإله الرحيل. حسن. م. يوسف. محسن يوسف. محمد خالد رمضان. عادل حديدي).
والكتاب، عامّة، لا يكتفي بالإفصاح عن متابعة الناقد للإبداع القصصي السوري فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إفصاحه عن تملّكه، أي الناقد، لنظريات الفنّ القصصي، وعن وعيه أيضاً بالخصائص المميزة لكلّ تجربة قصصية، وسأمثّل لذلك بالنتائج التي انتهى إليها في معرض مقاربته لتجربة صدقي إسماعيل، ولاسيما مجموعته «الله والفقر»، والتي تختزن في داخلها إشارات عدة إلى كفاءته في استجلاء حوامل القصّ لدى إسماعيل عامة، وفي تلك المجموعة خاصة. ومن أهمّ تلك النتائج وصفه لنتاج القاصّ بانتمائها المطلق إلى تقاليد القصّ، وتسويغه اتباعيتها بوصفها صدى لموضوعاته، وقوله إنّ «الموضوع هو أساس القصة ومنطلقها نحو منطق صارم من أولى لوازمه الوضوح والسرد والإخبار، إنه منطق الراوية الذي لا يبخل بالتعليق على الشخصية أو الحدث أو العقلية أو المكان أو الزمان وكأنه المعلّم يقصّ الحكاية ويضيف على إيقاعها المعنى الذي لا يستقيم الأسلوب دونه» ، وقوله أيضاً كأن «أبطال صدقي إسماعيل أسرى المخيلة التي أنجبتهم على الورق، لا يستطيعون فكاكاً إلى الأرض الواسعة حيث أفعالهم وتاريخ البشر» ، ورأى الناقد أنّ ثمّة إلحاحاً على عنصر السرد في قصّ إسماعيل، وأن ثمّة إيثاراً لضمير واحد هو الغائب، وأنّ القارئ لا يرى في ذلك القص وصفاً زائداً أو عناصر مجازية، بسبب «إلحاح النزعة التعليمية أو صراحة الفكرة»، وأنّ «أدب صدقي إسماعيل لا يصمد أمام نظرية الأجناس الأدبية»، وأنّ في قصصه ومسرحياته «يفاجئك التخطيط الفكري والنزعة التنظيرية وعلوّ نبرة التاريخ وأحاديث المعلّم، والاعتماد على العلوم المنقولة.. وهي كلّها مظاهر للتدخل الصريح والمباشر في بنية العمل الفني، أي ارتفاع صوت الثقافة على نداء الفنّان» ، وانتهى إلى أنّ قصة إسماعيل «هي تجربة جماعتها قيد التركيب الفنّي» ، وأنها «قصة إتباعية تستجيب لنظامها الصارم ولحياكتها الدقيقة». وهي نتائج دالّة على نفاذه إلى الجوهريّ تماماً من تلك التجربة.
وعامة أيضاً، فإنّ ثمّة ما يشبه النظام في معظم قراءات الناقد، أشبه ما يكون بنظام الدائرة، فغالباً ما يصدّر القراءة بنتيجة نقدية تختزل أبرز السمات المميزة لكلّ قاص وغالباً أيضاً ما يختتمها بالنتيجة نفسها، وما بين البداية والخاتمة يتفحّص بعض نتاج القاص في مجموعة أو أكثر. ويمكن التمثيل لذلك بدراسته عن مجموعة عبدالله عبد «النجوم» التي يصدّرها بقوله: «في قصص عبدالله عبد الأخيرة (النجوم) استخدام صحيح لفكرة القصة باعتبارها لغة الجماعة الضعيفة حقاً» ، والتي يختتمها بقوله: «لا شكّ أنّ عبدالله عبد في (النجوم).. كتب.. قصة قصيرة هي لغة جماعته الضعيفة حقاً»، وإلى حدّ يبدو المتن النقدي لديه محاولة لإثبات الحكم النقدي الذي صدّر به الدراسة.
ومن السمات المميزة لعمل الناقد، وعلى الرغم من إلحاحه الواضح على استقراء شواغل القصّ لدى القاصين، حرصه على استقراء كيفيات بنائهم لتلك الشواغل على المستوى الفني. إنّ قيمة النص القصصي لدى الباحث لا تتحدد بما يقوله هذا النص بل بالكيفية التي يصوغ بها قوله، ولذلك لا تنفصل المقاربة النقدية لديه لشواغل القص ومؤرقاتها وأسئلتها عن الحوامل الجمالية لهذا القصّ نفسه.
ويكشف الكتاب عن استجابة مبكّرة وواضحة لمنجزات النقد المعاصرة، ولأسئلة مختلف التيارات النقدية التي عرفها القرن العشرون. فثمّة عدد من المصطلحات التي تتصل بتلك المنجزات، من مثل «السرد»، و«الراوي»، و«المبنى والمعنى»، وعلى نحو دال على وعي الناقد الدقيق بالمرجعيات النقدية التي يحيل إليها كلّ مصطلح.
وعلى الرغم من عدم تحرّره من وطأة الحضور الإعلامي لمعظم كتّاب القصّة الذين شكلت أعمالهم مصادر دراسته/ دراساته، فإنه يحمد له تعريفه في وقت مبكّر بأصوات جديدة في المشهد القصصي السوري آنذاك، أكّد بعضها أصالة الموهبة لديه فتابع الكتابة والنشر، واكتفى بعضها الآخر بما كتبه ونشره في ذلك العقد فحسب، أمثال: وليد نجم وعادل حديدي.
وممّا يثيره الكتاب من أسئلة أنّ العلامات اللغوية المؤسسة لمواد بعض الدراسات، أي العناوين، تتّسم بتجاوزها النتاج القصصي المنقود إلى سواه من الإبداع، أي بعموميتها وانطباقها على تجارب قصصية، وإبداعية عامة، أخرى. ومن أمثلة ذلك عنونته للدراسة المعنية بنتاج اعتدال رافع وضياء قصبجي بـ: «الشرق المسكون بالتعاسة» الذي يتجاوز نتاج هاتين القاصتين إلى سواهما من القاصات وإلى الإبداع النسوي عامة.
ومن تلك الأسئلة أيضاً كثرة المقبوسات من نصوص الكتّاب، وطولها، وإلحاح الناقد على تلخيص معظم النصوص، وغلبة الحديث عن مضامينها على الحديث عن جمالياتها. ومنها أيضاً أنّ الناقد لم يكن وفياً لما صدّر به كتابه، أي قوله إنّ «الدراسة تتوجّه إلى النتاج القصصي في أزهى حالات إبداعه لدى.. الكتّاب في السبعينات»، إذ ثمّة أكثر من مجموعة من مصادر الباحث في كتابه صدرت في الثمانينيات، كمجموعة جان ألكسان «الحوت والزورق» (1981)، ومجموعة زكريا شريقي «قل يا بحر» (1981).
ومنها انتقائية الكتّاب والمجموعات والنصوص. فثمة كتّاب ينتمون إلى أجيال أدبية مختلفة وصدرت لهم مجموعات في عقد السبعينيات لم يلتفت الباحث لنتاجهم، كمحمد رؤوف بشير، وحيدر حيدر، وحسن صقر، وعبد العزيز هلال، وأديب النحوي، وغادة السمان، وبديع حقي، وسحبان السواح، وفارس زرزور، وصلاح دهني، ومظفر سلطان، وسواهم.
وعلى النحو الذي دأب عليه الناقد في مجمل نقده، وعلى نحو دالّ أيضاً على مواجهته الأيديولوجيا التي يصدر عنها بعض كتّاب القصة السورية بأيديولوجيا مضادة، تكتفي بمعارضة الآخر ولا تبادله الأسئلة، ثمّة تمجيد لبعض التجارب وتبخيس لبعضها الآخر، ومن أمثلة الأولى تلك الصفات التي يغدقها على زكريا تامر وتجربته، من مثل التعبيرات التالية: وصفه للتجربة ببلاغتها وبالتحليق في إطار ممارستها الفنية، وبراعة القاص، وحديثه عن قصة «الباب القديم» بقوله «أما غسان فقد أصبح شهيداً ضمن عملية اتكاء بارعة على مأساة الحسين»، وأنّ تامر «استطاع أن يبلغ شأواً بعيداً في جلاء رؤيته»، وأنه «حافظ.. على انتمائه لقوّة تعبيرية خارقة». ومن أمثلة الثانية، أي التبخيس، وصفه لقصص مجموعة حسن. م. يوسف: «العريف غضبان»، باستثناء قصتي: «ثالاسيميا عظمى»، و«عليشي شخيدي»، بمعاناتها «من عناء التشكّل الصعب لقصة مكثفة تختلط عناصرها بتفاصيل شخصية غير نافعة على الغالب»، وإضماره في قوله «إنّ في أعماق كلّ فرد صراخاً، ولكن الفنّان وحده يحوّل هذا الصراخ إلى فنّ» هجاء غير مباشر يشي بعدم قدرة القاص على تحويل صراخه إلى فنّ، ثمّ انتهاؤه إلى أنّ «الحشو واللغو.. طابع من طوابع كتابة صاحبهما».
وثمّة، في عدد من الدراسات، تكرار لبعض نتائج الناقد، كما في قوله في مقدمته للكتاب إنّ التأكيد على وظيفة القصة القصيرة «يحمل نوعاً من التضييق على الممارسة الفنية»، الذي يتردّد بنصه ثلاث مرّات(2). والكتاب لا ينجو من أذى الأخطاء الطباعية، كما لا ينجو من الآثام التي ألحقتها الترجمات بأسلوبية التركيب العربي، من مثل «وبالتالي» التي تتكرّر بين أكثر من موضع في الكتاب، ومن مثل تعدية الفعل «أثر» بحرف الجر «على» بدلاً من الحرف «من».
غير أنّ ذلك كلّه لا ينال شيئاً من أهمية الكتاب، بل من ريادته النسبية في حقل نقد القصة القصيرة في سورية، ومن الدور الذي نهض به في التأسيس لخطاب نقدي يختلف مع الآخر لكنه لا يدير الظهر إليه.
ثانياً: نقد النقد:
يستمدّ منجَز د. عبدالله أبوهيف النقدي أهميته من سعة المخزون المعرفي لمنتجه بالمشهد الثقافي العربيّ، إبداعه ونقده، من أقصى الوطن العربيّ إلى أقصاه، وبمختلف التيارات الفكرية والاتجاهات النقدية التي تشكّل ذلك المشهد، من أكثرها إمعاناً في الأصالة إلى أكثرها إيغالاً في الحداثة.
ولئن كان العمل الأول من ذلك المنجَز: «التأسيس، مقالات في المسرح السوري» (1979)، قد جهر بأكثر أسئلة المشروع النقدي لعبدالله أبوهيف إلحاحاً، أي التأسيس والتأصيل لإبداع ونقد عربيين، فإنّ الأعمال التالية له لم تكتفِ بتأكيدها صلة الناقد الوثيقة بالحركة الثقافية العربية فحسب، بل تجاوزته أيضاً إلى تثمين ذلك السؤال من جهة، كما في: «القصة العربية الحديثة والغرب» (1995) و«الجنس الحائر، أزمة الذات في الرواية العربية» (2002)، وإلى الإفصاح عن المرجعية الأيديولوجية لخطابه النقدي من جهة ثانية.
ولعلّ أبرز ما يميز ذلك المنجَز، وعلى نحو يكاد يكون خاصاً بمنتجه، توزّعه بين مختلف الأجناس الأدبية: المسرح، والشعر، والقصة، والرواية، وأدب الأطفال وسينماهم. ولعلّ أبرز ما يميزه أيضاً امتلاؤه بإشارات عدّة إلى حمولة معرفية واضحة ودالّة على متابعة جادّة لحركة الثقافة العربية المعاصرة، وغالباً ما تفصح تلك الحمولة المعرفية عن نفسها من خلال استجلاء الناقد لاشتغالات الآخرين على الإبداع عامة، أي عبر ما يُصطلح عليه بـ«نقد النقد»، الذي ينهض على مصدرين رئيسين عادة، لا تكتمل الممارسة النقدية التي تنتمي إلى مجاله بغياب أحدهما: الإبداع ونقده.
ينتمي كتاب د. عبدالله أبوهيف: «النقد الأدبي العربيّ الجديد في القصة والرواية والسرد»(3) إلى الحقل المعرفيّ/ النقدي المشار إليه آنفاً، وتسعى هذه المقاربة له، التي تنتمي إلى ما اصطلح نبيل سليمان عليه بـ«المتن المثلّث»، أي: «نقد نقد النقد»، إلى التعريف به أولاً، فإلى السمات المميزة له ثانياً، ثمّ إلى الأسئلة التي يثيرها منهج الناقد، وأدواته، ونتائجه، ثالثاً.
يمتدّ الكتاب على: مقدّمة، وثمانية فصول، وخاتمة، ومكتبة البحث. وقد أفصح الباحث في المقدّمة عن مقاصد عمله بقوله: «هذا بحث في الهوية، ويتوسل إلى غايته خلل نقد النقد القصصي والروائي والسردي العربيّ على وجه العموم»، منطلقاً من أنّ «النقد الأدبيّ تعبير شديد الدلالة عن حركة الفكر وانشغالاته بمسألة وعي الذات الراهنة إزاء الآخر الغربي المهيمن». وفي «الاتجاهات والاتجاهات الجديدة» من المقدّمة نفسها علّل إيثاره لمصطلح الاتجاه على المدرسة أو المذهب بأنّ الأخيرين يشيران «إلى تكوّن ناجز للمفهوم النقدي وثباته في مرحلة تاريخية معينة واستقراره في النظرية والتطبيق». وفي «الدراسات السابقة» رأى أنّ الدراسات التي عنيت بنقد النقد القصصي والروائي المتأثر بالاتجاهات الجديدة «قليلة»، وأنّ مقالة العراقي عبدالله إبراهيم «من أجل نظرية معرفة لتحليل الخطاب الروائي العربي» في كتابه «المتخيّل السردي، مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة» (1990)، ربّما كانت أوّل جهد نقدي في هذا المجال، كما أشار إلى كتابي المغربي حميد لحمداني: «النقد الروائي والأيديولوجيا، من سوسولوجيا الرواية إلى سوسولوجيا النصّ الروائي» (1990)، و«بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي» (1993)، ورأى أنهما لا ينتميان إلى نقد النقد، وأنّ آراء لحمداني فيهما تتّسم «على العموم بأنها قاسية ومتعسّفة أحياناً، ولا تراعي السياق التاريخي والمنهجي لظهور البنيوية في حركة النقد القصصي والروائي العربي»، كما أشار إلى كتاب المغربي محمد سويرتي بجزئيه: «النقد البنيوي والنص الروائي، نماذج تحليلية من النقد العربي» (1991)، وأخذ على مصادره «أنها لا تتمثل على نحو مطلق أو كلّي الاتجاهات الجديدة»، وعلى سويرتي نفسه أنّه «يحاكم النقاد العرب على المرجعية الغربية، بدلاً من أن يكشف عن ممارستهم من داخلها ووفق مفاهيمها وطرائقها». وتوقف، في الجزئية نفسها، أي الدراسات السابقة، عند كتاب المصري عبد الرحيم الكردي: «السرد في الرواية المعاصرة: الرجل الذي فقد ظلّه نموذجاً» (1992)، ورأى أن جهد الكردي فيه «يتّسم.. بالسمات التالية: الإيجاز وإيضاح مصادر النقد الجديد في الكتب التي تعرّض لها بالنقد، والميل إلى إطلاق الأحكام». كما توقّف عند كتاب المصري حامد أبو أحمد: «نقد الحداثة»، الذي أفرد فيه مقالاً لنقد كتاب صلاح فضل «بلاغة الخطاب وعلم النصّ»، ورأى في نقد الأول للثاني «قسوة وإسرافاً في الاتهام»، وإطلاق «صفات سلبية ظالمة على فضل»، كما رأى أنّ نقده «متسرّع يفتقر إلى التسويغ الفكري والفني والرؤية التاريخية والإطار المنهجي». وانتهى إلى أنّ تلك الدراسات «لا تتجاوز حدود الإشارة لما تمثله في حركة النقد الأدبي العربي الحديث. أمّا قيمتها النقدية فهي محدودة في بابها».
وعلّل، في «دواعي البحث»، أسباباً ثلاثة لبحثه: «أولها.. وطأة الإحساس بالهوية العربية.. وثانيها اتصال هذه الوطأة بالحاجة إلى إعمال نقد النقد في شؤون حياتنا كافة.. وثالثها اختيار مجال أدبي نقدي مندغم بالتاريخ»، وخمسة دوافع: فقر المكتبة العربية بأبحاث نقد النقد، وبروز الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، وأن هذه الاتجاهات الجديدة ظهرت وتصلّب عودها في العقود الثلاثة الأخيرة، وشمول الاتجاهات الجديدة لمجالات النقد القصصي والروائي والسردي جميعها، وقابلية هذه الاتجاهات الجديدة لإثارة قضايا ثقافية وفكرية ونقدية مهمّة.
وافتتح الجزئية الموسومة بـ«منهج البحث» بقوله: «التزمت في هذا البحث بمنهج موضوعي يستفيد من علم السرد، فأنا أومن بمقولة تعدّد الأصوات وتضاد الآراء»، ثمّ أشار إلى تجنّبه «قدر الإمكان إبداء الأحكام والآراء على جهود الآخرين وأعمالهم»، وجازف، بتعبيره، بالقول: «إن معالجتي لنقد النقد التطبيقي تستوعب غالبية الجهود المبذولة»، ثمّ أكّد معاملته النصوص النقدية من داخلها، وأنه لم يحاكم تلك النصوص على مطابقتها لهذا المرجع أو ذاك، ووصف عمله بأنه «أقرب إلى موسوعة لكتب نقد القصة والرواية والسرديات»، واختتم المقدّمة بمنهجه في أسماء الأعلام والمصطلحات وبتوثيقه لمصادره ومراجعه، وبالصعوبات التي اعترضت بحثه.
وفي الفصل الأول من الكتاب، «التطوّر التاريخي والفنّي لنقد القصة والرواية في الوطن العربي»، عالج الباحث جزئيتين: نظرة إلى نشأة نقد القصة والرواية، ومدخل لفهم نقد القصة والرواية في المرحلة المدروسة. وتناول في الفصل الثاني، «العوامل المؤثرة في تكوين الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية»، عشر جزئيات: الترجمة، والروافد الأكاديمية، ووسائل الاتصال وثورة المعلومات، وتنامي أبحاث الهوية، والتطلّع إلى الحديث والحداثة، والتأليف المعجمي والمصطلحي والموسوعي، والعلاقات بين الفنون، وأبحاث نظرية الأدب ونظرية القصة والرواية، والبحث عن نظرية نقدية عربية. أمّا الفصل الثالث، «الاتجاهات الجديدة المتصلة بالعلوم الإنسانية»، فقد تناول فيه جزئيتين: قضايا النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، والاتجاهات الجديدة المتصلة بالعلوم الإنسانية. وعني في الفصل الرابع، «الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها»، بمقاربة ثلاث جزئيات: تطوّر الاهتمام بهذه الاتجاهات، والممارسة النقدية العربية لهذه الاتجاهات، فملاحظات ختامية. وتناول في الفصل الخامس، «الموروث السردي المتأثر بالاتجاهات الجديدة»، ثلاث جزئيات: نقد الموروث السردي الشعبي، ونقد الموروث السردي الأدبي، فملاحظات ختامية. وفي السادس، «النقد النظري المتأثر بالاتجاهات الجديدة»، ستة عشر جزئية بالإضافة إلى ملاحظات عامة: محاولات جنينية، وتحديث الأدوات دون منهج معيّن، والاستعانة بالبنيوية الملتبسة، والتعامل مع المناهج الحديثة على استحياء، وجهود نظرية تمهيدية، وتسويغ عقائدي للنقد البنيوي، والجهد التنظيري الأول المكتمل، ونحو علم السرد، ورؤية الاتجاهات الجديدة في سياقها التاريخي والمعرفي، وتنامي عمليات نقد الاتجاهات الجديدة، وبروز النظريات الشكلية، وارتهان للمرجعية الغربية، وهيمنة المؤثرات الأجنبية، واستواء المؤثرات الأجنبية، وظلال التأثير الأجنبي المستمر، واستمرار الجهد التوفيقي. وفي السابع، «نقد النقد التطبيقي المتأثر بالاتجاهات الجديدة»، ثلاث جزئيات بالإضافة إلى ملاحظات ختامية: دراسات ذات ميل أقلّ إلى الاتجاهات الجديدة، ودراسات انتقائية للاتجاهات الجديدة، ودراسات ذات ميل أكبر إلى الاتجاهات الجديدة. وختم متن الكتاب بالفصل الثامن، «منزلة الاتجاهات الجديدة إزاء بعض المشكلات النقدية والفكرية»، بمقاربة جزئيتين: منزلة الاتجاهات الجديدة إزاء بعض المشكلات النقدية، ومنزلة الاتجاهات الجديدة بين التبعية والتأصيل.
الكتاب جهد نقدي مهمّ ومميّز، ويكاد يكون نسيج وحده في الدراسات التي تنتمي إلى حقل «نقد النقد» في المكتبة العربية، بسبب سعته الزمنية من جهة، وتغطيته لمعظم المنجَز النقدي العربي المعني بالقصة والرواية والسرد من جهة ثانية. وهو، كما يبدو إضافة جديدة إلى ذلك الشاغل المركزي في معظم تجربة مؤلفه، أي «الهوية»، هو أثمن جهوده النقدية إلى الآن أيضاً.
ولئن كان نقد النقد أشدّ صعوبة من النقد نفسه، لأنّ له مصدرين، الإبداع ونقده، ولئن كانت أيّة محاولة تدّعي انتماءها إلى هذا الحقل من حقول الممارسة النقدية، أي نقد النقد، وتكتفي بالثاني فحسب من هذين المصدرين، محكوم عليها بالإخفاق، فإنّ الكتاب يجهر، في أكثر من موقع فيه، بكفاءة الناقد في تذليل تلك الصعوبة، بسبب تقديمه إشارات كافية لاطلاعه على مصادر مصادره النقدية، ولمتابعته للحراك الثقافي العربي بآن.
ولا تكمن قيمة الكتاب في موسوعيته فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى فعاليات التبويب والتفريع التي تميّزه أيضاً، وممّا يُحمد للباحث فيه إلحاقه أسماء النقّاد العرب بمواطنهم، ولاسيّما أنّ معظمهم مجهول بالنسبة إلى غير المتابعين للحركة النقدية العربية، وإلحاقه أيضاً أعمالهم النقدية المدروسة بتاريخ صدورها، وتعريفه ببعض إنجازاتهم غير التي يدرسها، كما في تعريفه لمنجَز محمد رجب النجار في حقل التراث القصصي العربي خاصة.
وعلى الرغم من قسوة الباحث، أحياناً، في إطلاق أحكام القيمة على النقاد الذين درس أعمالهم، فإنّ ممّا يسوّغ له ذلك، حرصه على تقديم القرائن الدالة على تلك الأحكام، كما في ملاحظته على لغة العراقي ياسين النصير النقدية التي رأى أنها تتسم بالتعميم وبعدم دقّتها اللغوية والاصطلاحية، إذ لم يكتف الباحث بتلك الملاحظة، بل قدّم شاهدين دالّين على ما ذهب إليه.
وعلى الرغم أيضاً من أنّ المرء قد لا يتفق مع بعض نتائج الباحث النقدية، فإنه لا يمتلك سوى تقدير معظمها، بسبب صدورها عن بصيرة نقدية نافذة، ودالّة على كفاءة الباحث في الغوص على الجوهري في مصادره، وعلى وعيه بالمرجعيات النقدية والفكرية لتك المصادر. ومن أمثلة ذلك ما انتهى إليه حول كتاب حسين مروة: «دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي» (1976) الذي وصفه بقوله: «إنّ كلام مروة ينفي النقد الأدبي لصالح النقد الفكري – الأيديولوجي كلياً»، وقوله عن منجز محيي الدين صبحي، ولاسيما كتابه: «دراسات ضدّ الواقعية في الأدب العربي» (1980)، على الرغم من تعارض الأيديولوجيا التي صدر عنها صبحي مع أيديولوجية مروة: «ولا يخفى أنّ صبحي.. ناهض الأيديولوجيا بأيديولوجيته القومية، أي أنّ نقده لا يختلف عن النقد الأيديولوجي في مراميه التبشيرية أيضاً».
وإذا كانت قيمة أي جهد إبداعي أو فكري أو نقدي، أو سواها، تكمن فيما يثيره من أسئلة، فإنّ ثمّة أسئلة، غير قليلة نسبياً، يثيرها هذا الكتاب، منها أنّ الدراسات التي أشار الباحث إليها في مقدّمته ليست وحدها السابقة لجهده في مجال نقد النقد في القصة والرواية والسرد، وممّا لم يلتفت إليه في هذا المجال، وعلى سبيل المثال، أطروحة أحمد رشيد الدرة للماجستير في جامعة بغداد بعنوان: «السردية في النقد الروائي العراقي» (1997)، وأطروحتا سهام ناصر للماجستير والدكتوراه في جامعة حلب: «نقد القصة القصيرة في سورية من نشوئه إلى عام 1985» (1990)، و«المصطلح النقدي وعلاقته بالتيارات الأدبية والاجتماعية» (1999).
ومن تلك الأسئلة أيضاً أنّ الترتيب التاريخي لمصادر الباحث يتطلّب صوغاً جديداً، ففي الفصل الأول من الكتاب، وفي الجزئية الأولى منه المعنية بحركة النقد الأدبي العربي الحديث حتى عام 1945، يقدّم الباحث تعريفه بكتاب عبد العزيز الدسوقي (مصر): «تطور النقد الأدبي الحديث في مصر» (1977)، على كتاب عبد الكريم الأشتر (سورية): «معالم في النقد العربي الحديث.. » (1974).
وباستثناء إشارة الباحث في مقدمته للكتاب، أي قوله: «وربّما ظهرت أول مقالة في.. »، المعنية بإرهاصات نقد الاتجاهات الجديدة، والدالّة على انتسابها إلى العلم، فإنّ ثمّة أحكاماً كثيرة في الكتاب تتّسم بقطعيّتها، وأحياناً بخلوّها من القرائن الكافية المؤكّدة على صوابها. ومن أمثلة ذلك قوله عن كتاب «جورج ماي»: «السيرة الذاتية» الذي ترجمه إلى العربية التونسيان محمد القاضي وعبد الإله صوله إنّه «أشمل مرجع عن السيرة الذاتية من منظورات النقد الحديث، وأكثرها دقّة وتمحيصاً لقضاياها ومصطلحاتها»، وقوله إنّ كتاب صلاح فضل «بلاغة الخطاب وعلم النصّ» (1992)، على نحو حاسم، هو «أوّل محاولة منهجية علمية لرؤية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية في سياقها التاريخي والمعرفي»، وقوله، في جزئية «التحليل السردي النصّي»، من الفصل السابع، إنّ النقد التطبيقي، كذا دون تبعيض أو معظم أو أغلب أو سواها من المفردات العلمية، المتأثر بالاتجاهات الجديدة بلغ «شأواً عالياً في ميادين التحليل السردي النصّي لأعمال روائية وقصصية بعينها».
ومع أنّ الباحث يبدي حرصاً واضحاً على تقويم مصادره، إلا أنّه يكتفي أحياناً بالتعريف فحسب ببعض تلك المصادر، كما في عرضه، في المقدّمة، لكتاب عبدالله إبراهيم: «المتخيّل السردي.. »، وكما في تعريفه بالكتب النقدية التي أرّخت لحركة النقد الأدبي العربي الحديث حتى عام 1945. وممّا ينتمي إلى هذه السمة المميّزة لعمل الباحث، اكتفاؤه، في «قضايا تتصل بالمحتوى» من «القضايا الأساسية التي عالجها نقد القصة والرواية» من الفصل الأول، بالقول: إنّ «الدراسات التي تناولت القضية الفلسطينية وجوانبها المختلفة.. كثيرة»، من غير أن يذكر مثالاً واحداً لتلك الدراسات.
ويُخيّل إليّ أن ليس ثمّة ما يسوّغ الفصل الأول برمّته، المعني بالتطور التاريخي والفني لنقد القصة والرواية بين عامي 1945 و1970، لسبب رئيس هو عدم صلة المنجز النقدي الصادر في تلك الفترة بالاتجاهات الجديدة، كما لدى عبد الكريم الأشتر في كتابه: «المعالم البارزة في النقد العربي الحديث» (1974) الذي درس فيه: «الديوان» للعقاد والمازني، و«الغربال» لنعيمة، و«في الميزان الجديد» لمندور، وهي مؤلفات تنتسب إلى النقد التقليدي انتساباً مطلقاً، كما أن تفكيك الأشتر لها لا يتجاوز التعريف بها فحسب. كما ليس ثمّة ما يسوّغ تكرار الباحث إحالة النقاد إلى القطر الذي ينتمي إليه كل منهم، وإلحاحه على ذلك في أكثر من موقع في الكتاب، ومّما لا يبدو مسوّغاً أيضاً عدّ شهادات القاصين والروائيين عن تجاربهم كتباً في النقد، كما فعل عبد السلام العجيلي في: «السيف والتابوت» (1971)، وحنا مينة في: «هواجس في التجربة الروائية» (1982)، وإدوار الخراط في: «أنشودة الكثافة» (1995) و«مهاجمة المستحيل، مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة» (1996).
والباحث لا يُبدي وفاء تاماً لمقدّمته، أي حرصه على تجنّب الأحكام والآراء على جهود الآخرين وأعمالهم، فثمة، بين موقع وآخر من الكتاب، أحكام قيمة غير قليلة، تمجيدية تجعل ممّن تظلّلهم نعميات الباحث في هذا المجال نسيج وحدهم أحياناً، وهجائية تصل إلى حدّ التبخيس أحياناً ثانية.
ومن أمثلة السمة الأولى المميزة لتلك الأحكام، أي التمجيد المفرط في مدائحيته، وصف الباحث لجهود حسام الخطيب عامة التي عدّها «علامات في مسيرة النقد الأدبي الحديث»، والتي رأى أنّ الخطيب من خلالها «متمكّن من آلياته النقدية، ومتملّك لفكر نقدي متواصل مع أصول النقد»، وأنّ نقده يتميز «بوجه عام بتحليله العميق وتقييمه الحصيف لطبيعة العمل الأدبي»، وأنّ من أبرز سمات ذلك النقد «العمق، والوضوح، وصواب الاتجاه، والعزيمة في السعي إليه، والمعايير الدقيقة». ومن أمثلته أيضاً هذا الوصف لفاروق عبد القادر: «ناقد محترف ومدقّق وجريء وشجاع، ولا ينساق وراء عقيدته والأيديولوجيا التي يؤمن بها، على الرغم من إعلانه لها، فيظهر ميلٌ أيديولوجي شفيف في تلافيف نقده متلفّعاً بحساسية نادرة». ويجهر إعجاب الباحث بعدد من النقاد على نحو واضح في الدراسة التي يخصصها للحديث عن عبد الفتاح كيليطو خاصة، كما في التراكيب التالية: «اعتمال بديع لوعي الذات في خضم الحداثة»، و«الرهافة النقدية»، و.. ومن أمثلة الهجاء، اللاذع أحياناً، قوله، في معرض تفكيكه لجهود سعيد يقطين: «ويُلاحظ هنا استغراق يقطين في المقدّمات الإنشائية وأحكام القيمة التي تتعارض.. مع دواعي البحث العلمي، ولا تخلو في الوقت نفسه من مزاعم»، فقوله: «ثم مضى في فذلكة..».
ومن اللافت للنظر إحالات الباحث الكثيرة إلى منجَزه النقدي، وبشيء من الإعجاب ببعض ذلك المنجَز أحياناً. كما في قوله: «وكنت وضعت كتاباً حول معضلة الحداثة سميته (الأدب العربي وتحديات الحداثة)»، وقوله في الحاشية الثالثة عشرة من هوامش الفصل الثاني وإحالاته: «كنت قمت بدراسة معمقة لرواية عربية من سورية.. »، وقوله في الحاشية السابعة والستين من تلك الهوامش والإحالات نفسها: «كنت نشرت دراسة معمّقة عن كتاب رفيق شرف.. »، وسوى ذلك ممّا سبق ومن الإحالات إلى الفعاليات النقدية التي شارك فيها في أكثر من عاصمة عربية.
وعلى الرغم من وفرة مصادر الباحث، فإنّ ثمّة نقصاً بيّناً في أجزاء بعينها من عمله، كما في الجزئية المعنية بـ«علم الجمال والنقد الفني»، في الفصل الثاني، إذ يغفل الباحث على سبيل المثال: أطروحة سعد الدين كليب للدكتوراه: «القيم الجمالية في الشعر العربي الحديث» (1990)، وكتاب عبد الرؤوف برجاوي: «فصول في علم الجمال» (1981)، وكتاب عدنان رشيد: «دراسات في علم الجمال» (1985). ولعلّه من المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ الباحث يعاين بعض المؤلفات بوصفها إنجازات في النقد الأدبي وهي ليست كذلك، كما في دراسته لكتاب مصطفى حجازي: «التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، الذي يصفه بقولـه: «وخير ما يعبّر عن.. النزوع المغالي في تحويل النصّ الأدبي وصاحبه إلى مادة علاجية على سرير التحليل النفسي هو كتاب مصطفى حجازي (التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور)»، وغير خافٍ أنّ الكتاب بحث في عوامل التخلّف وأسبابه، ولا صلة له البتة بالأدب ونقده.
وكما لا يخلو الكتاب من أذى الأخطاء المطبعية الكثيرة نسبياً(4)، لا يخلو كذلك من الأخطاء الأسلوبية، ولاسيّما تعدية الأفعال بحروف الجر، كما في قول الباحث: «تأثيرات سلبية على.. »، و«بأثر المسامرات والمنادمات على..»، والصواب تعدية الفعل «أثر» بالحرف «في»، وقوله: «دراسة القاضي متميزة عن سواها»، والصواب «من سواها»، وقوله: «ممّا ينمّ عن»، والصواب «ينمّ على». وثمّة خطأ نحوي واحد في قوله: «يُسقط على النص معاني وأفكار من خارجه»، والصواب: «معاني وأفكاراً.. ».
وبعدُ، فمهما يكن من أمر الأسئلة التي قدّمت، فإنّ الكتاب مرجع مهمّ في مجاله المعرفيّ، ولا تتحدّد قيمته بوصفه مكتبة في كتاب فحسب، بل بوصفه جهداً مؤسِساً لا يمكن لأية محاولة جديدة، وجادة، لمقاربة المنجز النقدي العربي أن تدير ظهرها إليه أيضاً.
ثالثاً: الجنس الحائر، أزمة الذات في الرواية العربية:
ترتدّ تجربة عبدالله أبوهيف(5) النقدية إلى بداية السبعينيات من القرن الفائت، وقد اتسمت تلك التجربة، من بدايتها وعلى نحو يكاد يكون خاصاً بها، بتوزّعها بين مجمل أشكال الإنتاج الثقافي (قصة، رواية، شعر، مسرح، أدب أطفال، سينما، نقد النقد..)، ثمّ بتمكّن منتجها، في وقت قصير نسبياً، من حيازة مكانة لافتة للنظر في خضم تجارب ما تزال أصداؤها تتجاوب إلى الآن في المشهد الثقافي السوري، أمثال: شاكر مصطفى، وعدنان بن ذريل، ونعيم اليافي، وجورج سالم، وجورج طرابيشي، ونبيل سليمان، وبوعلي ياسين، ومحيي الدين صبحي، وخلدون الشمعة، وبين تجارب تنتمي إلى المرحلة التي ينتمي إليها أبوهيف نفسه، أمثال: حنّا عبّود، ومحمّد كامل الخطيب، وسمر روحي الفيصل.
ومهما يكن من أمر الاتفاق أو الاختلاف مع تعدّد أشكال الممارسة النقدية المميّز لتلك التجربة، أي الاشتغال على أجناس أدبية مختلفة في وقت صار من العسير معه الإمساك بجنس أدبيّ واحد، وربّما في جزء محدّد من الجغرافية العربية، ومن أمر الاتفاق أو الاختلاف مع النتائج التي انتهى إليها الناقد في مجمل ما كتب، أو مع المنهج أو المناهج التي صدر عنها، فإنّ التجربة تقدّم إشارات عدّة إلى حمولة معرفية واضحة بالإبداع العربيّ من جهة، وبالخطاب المعنيّ بذلك الإبداع من جهة ثانية.
يُعدّ كتاب عبدالله أبوهيف: «الجنس الحائر، أزمة الذات في الرواية العربية»(6) أول عمل نقدي له يخلص للجنس الروائي. وإذا كان من أهمّ السمات المميزة لنتاجه السابق حول هذا الجنس(7) اكتفاؤه بما هو قطري، وغلبة طابع المراجعة النقدية على الممارسة النقدية بمعناها الدقيق، فإنّ من أهمّ السمات المميزة لهذا الكتاب تجاوزه ما هو قطري إلى ما هو عربيّ، واتصاله الوثيق بمعنى الممارسة النقدية، ومقاربته لأكثر أسئلة الرواية العربية إلحاحاً، من إرهاصاتها الأولى في نهاية القرن التاسع عشر إلى الآن، أي سؤال الذات والهويّة.
يتوزّع الكتاب بين مقدّمة، وخمسة أقسام: (رؤى الواقع، رؤى التاريخ، رؤى الآخر، روايات الانتفاضة، روايات الحرب اللبنانية)، وخاتمة، ثم ثبت بالمصادر والمراجع، فمعجم صغير للروائيين، وأخيراً فهرس للأعلام وآخر للأماكن.
وقد قدّم الناقد له بقوله إنّ الرواية العربية «بدأت.. بالتكوّن في أواخر القرن التاسع عشر في خضم معركة ما تزال مستمرة هي الهوية أو تحقق الذات»، وإنّ المفاصل التاريخية التي عصفت بالعرب في العصر الحديث أكّدت محاولات تلك الرواية في البحث عن الذات، أو وضعتها أمام أزمة أو أكثر، ثمّ أوجز بعض الخصائص التي جعلت تلك الرواية الفنّ الأكثر تعبيراً عن تجليات أزمة الذات بخمس خصائص، والتي حدّدها فيما يلي: أولاً أنّ «تاريخ تكوّن الرواية العربية يكاد ينطبق على تاريخ البحث عن الهوية» وأنّ «نضوج الرواية واستواءها جنساً أدبياً مستقلاً في العقود الأربعة الأخيرة، يعني في الوقت نفسه، وعياً بالذات في معترك معركة الحداثة والتأصيل»، وثانياً أنّ «نجاح الرواية في الامتلاك المعرفي للواقع أكثر من بقية الأجناس الأدبية» وأنّه يمكننا قراءة «تاريخ مصر الحديث في روايات نجيب محفوظ أكثر من كتب التاريخ والمجتمع مجتمعة»، وثالثاً أنّ الرواية العربية «برهنت.. على بلوغها سنّ الرشد واقتدارها على صوغ واقعها الاجتماعي» وأنّ من مظاهر نضجها: تقلّص حجم تماهي الكاتب مع أبطاله، وتراجع العنصر السيري أو طابع الرحلة الشخصي، ومجاوزة الحدّ الذي تخضع فيه الرواية للمباشرة والتبشير الأيديولوجي، وتقلّص تأثير المؤثرات الأجنبية والتقليد الغربي، ورابعاً تمكّن الرواية العربية من «تقديم رؤية للعالم»، وأخيراً «مقاربة الرواية العربية لموضوعها وللموضوع القومي على وجه الخصوص».
وحدّد منهجه النقدي بما سمّاه: «المنهج النقدي التقويمي، الذي يستفيد من بعض معطيات المناهج الحديثة»، ثمّ علّل اختياره لمصادره الروائية بأسباب ثلاثة: جدّة الروايات وعدم التفات النقد الجادّ إلى الأغلب الأعمّ منها، ولأنّ كتّابها روائيون بارزون ورواياتهم تتمتع بسوية فنية جيدة وعالية، ولانتماء هؤلاء الكتّاب إلى أكثر من قطر عربي.
وفي تمهيده للقسم الأول من الكتاب، رؤى الواقع، رأى أنّ «الموضوع الغالب على الرواية العربية في السبعينيات والثمانينيات هو ارتفاع عمليات الوعي الذاتي من خلال الجرأة على نقد الواقع العربي»، واختار لاستجلاء آليات ذلك الوعي سبعة نصوص روائية: «خطوط الطول خطوط العرض» (1983) لعبد الرحمن الربيعي، و«تجربة في العشق» (1989) للطاهر وطار، و«ذات» (1992) لصنع الله إبراهيم، و«مرايا النار» (1992) لحيدر حيدر، و«الثلاثية الروائية» (1991) لأحمد إبراهيم الفقيه، و«الزندية» (1995) لإبراهيم بشير إبراهيم، و«المسرات والأوجاع» (1999) لفؤاد التكرلي. وعلّل سبب اختياره لتلك النصوص بوصولها في نقدها إلى حدّ الهجاء، وفي كشفها إلى حدّ الفضح، وبأنها ترسّخ اتجاه صاحبها الفكري والفني في نقد الواقع.
ومن أبرز ما يمكن الانتهاء إليه من دراسته لرواية عبد الرحمن مجيد الربيعي، التي عالج فيها ثلاث جزئيات (إطار الموضوع، والعديد(4) والرمز، والرؤية الفكرية)، أنّ الرواية «مرثية عربية بالغة المرارة والشجن»، وأنها «تشبه.. السيرة الشخصية». ومن مآخذه عليها أنّ تقنية تعدّد الأصوات والتلاعب بالأزمنة والأمكنة ناشزة فيها، وأنّ هذه التقنية نفسها «غلبت عليها الشكلية»، وأنّ الروائي «أراد لروايته أن تقول أكثر ممّا قالت».
وفي دراسته لرواية الطاهر وطار تناول جزئيتين (إطار الموضوع، والرؤية الفكرية)، ووصف الرواية بأنها «تجربة متميزة في الرواية العربية». ومما يخلص إليه المرء من تلك الدراسة أنّ الرواية «خطاب أيديولوجي ناقم على الأوضاع الراهنة»، وأنّها بمجملها «ترجيع للخطاب الأيديولوجي..».
وممّا يخلص إليه المرء أيضاً من دراسته لرواية صنع الله إبراهيم، الموزّعة بين أربع جزئيات (إطار الموضوع، والرؤية الفنية، وبناء الرؤية ولغتها، والفساد والإفساد)، أنّ الرواية «ربّما كانت.. الأكثر امتيازاً في تعرية الذات العربية»، وأنها ذات بنية تسجيلية واستعارية بآن، وأنّ ثمة نماذج ثلاثة لطريقة الروائي في بناء روايته (مستوى السرد الواقعي التقريري، ومستوى المفارقة بين خاص وعام، ومستوى الاستعارة)، وأنّ الروائي لجأ إلى سبعة أشكال لغوية (النقد، والمعرفة العلمية، والسخرية، والوثيقة، والمعرفة التاريخية، والتسمية، والكاريكاتير)، وأخيراً أنّ الوثائق في الرواية «تعليمية مباشرة غالباً».
وتناول الناقد في دراسته لرواية حيدر حيدر جزئيتين (إطار الموضوع، والرؤية الفنية)، ومن أبرز نتائجه حولها أنها «صرخة جارحة لضمير ملتاع معذّب»، وأنّ شعرية السرد فيها تتجلى من خلال ثلاثة مناح (التردّد اللفظي الذي يجعل من الفيض اللغوي المدهش دلالة في تركيب السرد، وإدغام الأفكار في سيرورة ذهنية وهي تنبثق من صيغ السرد غير الفعلية، وإعمال التجربة الحسية كمعادل موضوعي بما يجعل العلاقة البشرية رموزاً في البناء العام)، وخلص إلى أنها «نصّ روائي يشخّص الواقع العربي الغافي على بركان، ويشخّص أكثر أمراضه تخريباً للذات».
أمّا في دراسته لثلاثية أحمد إبراهيم الفقيه فقد تناول جزئيتين (إطار الموضوع، والرؤية الفكرية)، ووصف الثلاثية بأنها «بنيان فني صقيل مثل مزهرية مضيئة، قوامها تنضيد أنساق حكائية شديدة الإتقان»، وانتهى إلى أنّ السرد فيها استعاري، وأنّ ثمّة «تساوقاً بارعاً بين مبنى واقعي وآخر استعاري.. بما يجعل (منها) واحدة من أبرز الروايات العربية في نقد الواقع بمهارة واقتدار».
وفي دراسته لرواية إبراهيم بشير إبراهيم، من خلال ثلاث جزئيات (إطار الموضوع، واللعبة السردية، والرؤية النقدية) رأى أنّ القيمة الفنية والفكرية لتلك الرواية «تكمن.. في تخييلها الذي يوازي بين الفن والتاريخ إلى حدّ الإدهاش، فقد اختار (الروائي) لسرده بنية غير مسبوقة في استخدام تقنيات سردية موروثة»، كما رأى أنّ الروائي «يتمتع.. بمقدرة عالية في تجريبه المبتكر، فقد لجأ إلى لعبة تخييل فريدة»، وأنّ اختياره للناقد المزعوم في روايته أتاح له قابليات فنية قوامها أربعة عناصر (الاختزال والتكثيف، وغلبة الروح النقدية، والنزوع التسجيلي والوثائقي، وكسر الإيهام الذي عززته خصائص ثلاث: السرد المفتوح، والسلسلة المرجعية للسرد، وجدل الرؤيا والقول)، وأنه أفلح «في بناء رواية متميزة تصوّر تأزّم الذات القومية».
ويمكن الانتهاء من دراسته لرواية فؤاد التكرلي، الممتدة على أربع جزئيات، (إطار الرواية، وتوصيف الرواية، والرؤية الفنية، وملاحظات فكرية)، إلى أنّ «فؤاد التكرلي نسيج وحده في كتابة القصة والرواية.. وتكتسب قصصه ورواياته أهميتها من تشريحها الحادّ للذات العربية»، وأنّ ما يضبط الرؤية الفنية في روايته تلك أربع خصائص (الأسلوب الهجائي، وشهوة النقد السياسي، والولع بموضوعة العنف، والانهماك الشديد بالتفكير الوجودي)، وأنّ الرواية عامة «رواية كبيرة لروائي أصيل».
ووزّع الناقد القسم الثاني من الكتاب، رؤى التاريخ، بين تمهيد وخمس دراسات، ومن أبرز نتائجه في التمهيد قوله إنّ الرواية العربية «سعت.. إلى قراءة التاريخ العربي الحديث قراءة نقدية للإجابة على سؤالين أساسيين هما: من نحن؟ وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه؟». أمّا دراساته الخمس فقد تناولت خمسة نصوص روائية: «مدارات الشرق» (1990) لنبيل سليمان، و«حديث الصباح والمساء» (1987) لنجيب محفوظ، و«قلعة الجبل» (1990) لمحمد جبريل، و«منتهى» (1995) لهالة البدري، و«مجنون الحكم» (1994) لسالم حميش.
ترجّحت دراسة الناقد لرواية سليمان بين أربع جزئيات (توصيف الرواية، والخصائص الفنية، وخصائص أخرى للانسيابية، والمبنى الواقعي والمبنى الرمزي)، وفي توصيفه للرواية رأى أنّ «موضوع مدارات الشرق هو بحث تاريخي في صيغة الرواية»، وأنّ «زمن الرواية انسيابي تاريخي وفق مفهوم الدوائر المتداخلة»، وأنّ الرواية عامة «عرض تاريخي جغرافي». ومن أهمّ نتائجه فيما يتصل بالخصائص الفنية وصفه للرواية بالملحمية، وقوله: «لقد تعمّق الروائي نبيل سليمان في دراسة البنية الاجتماعية». أمّا فيما عدّه خصائص أخرى للانسيابية فقد انتهى إلى أنّ الرواية تنهض على السرد الدائري والحبك المفتوح، وأنّ الروائي «عني.. بوصف الشخصية، ولاسيما دورها الاجتماعي»، وأنّ في الرواية «واقعية ذات ميل نقدي غالباً وذات ميل رمزي من جهة أخرى». وحول المبنى الواقعي والمبنى الرمزي خلص إلى أن ثمة توازياً بين المبنيين، وأنّ هذا التوازن تجلّى من خلال حاملين: تجنيس العلاقات، والبداية الرمزية والنهاية الرمزية. وفي نهاية دراسته للرواية رأى أنّ الأخيرة «ثرية بخصائص عصرها وتراثه، في معالجة مميزة لزمان الوقائع وفضاء العلاقات الاجتماعية والإنسانية»، وأن الروائي «عني.. بتطوّر شخوصه.. وهناك دراسة معمقة للطبيعة الطبقية للدولة، ودراسة مفصلة للحراك الاجتماعي.. وفي هذا الإطار تغني قراءة مدارات الشرق عن عشرات المصادر التاريخية عن مرحلتها».
وعلى النحو المميّز لمعظم اشتغاله على مصادره وزّع الناقد دراسته لرواية نجيب محفوظ بين جزئيتين، (توصيف الرواية، وملامح فكرية وفنية)، وجلّ ما يمكن تبيّنه في الجزئيتين معاً قوله إنّ الرواية «أشبه بتقرير إخباري عن مصر وتطوّرها منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم»، وإنّ الروائي «نجح.. في صوغ رواية شديدة الاختزال وشديدة الإيحاء»، واستخدم لذلك راوياً عارفاً بكلّ شيء، وإنّه كان يهدف إلى «نقد الواقع من خلال الوعي بالتاريخ»، متوسلاً لذلك بـ«سرد تقليدي لأغراض متعددة»، ودونما «دراسة للشخصيات أو تعمّق لها».
ورأى، في تضاعيف دراسته لرواية محمد جبريل، الموزعة بين أربع جزئيات (تداعيات الحكاية، وتشريح الطغيان، وفساد السلطة، واستلهام الموروث السردي)، أنّ ثمّة راوياً عارفاً مضمراً متباين الصوت، بتعبيره، وأنّ استلهام الروائي للموروث السردي تجلّى عبر مكونين مركزيين، هما: المتن الحكائي والمؤلف الضمني أو السارد الضمني، وانتهى إلى أنّ «قلعة الجبل رواية متميزة».
وعبر جزئيتين (توصيف الرواية والخصائص الفنية) تناول الناقد رواية هالة البدري، ومن أبرز نتائجه في تلك الدراسة قوله إنّ ثمّة مبنيين للرواية الأول واقعي والثاني رمزي استعاري، وإنّ فعالية صوغ الروائية للمبنيين معاً اتكأت إلى الراوي العارف المضمر، ثمّ لخّص مآخذه على الرواية بقوله: «ليس هناك شخصية أو شخصيات تتنامى مع الفعل أو الحدث، وليس هناك عناية بدواخل هذه الشخصيات، وليس هناك حدث أو أحداث تتطور في المبنى الواقعي للرواية، بل ثمة شخصيات أو أحداث تظهر خطفاً، أو لمرّات، وكأنها تفصيل يتماوج على فضاء اللوحة، ثمّ سرعان ما يختفي في تضاعيفها»، وفي دراسته للخصائص الفنية رأى أنّ الرواية تتميز بخمس خصائص فنية: رفض الشخصية أي عدم الاهتمام برسم الشخصيات، ورفض التاريخ بوقائعه المعروفة، والنظر إلى الرواية على أنها بحث، والعناية الشديدة بالوصف، وكسر السرد التقليدي.
ويخلص القارئ للدراسة المعنية برواية سالم حميش، الممتدّة على جزئيتين أيضاً (توصيف الرواية، والاشتغال على الكتابة التاريخية)، إلى أنّ الروائي لجأ إلى أربع تقانات فيما يتّصل بالجزئية الثانية، هي: التعالق النصي المتداخل مع كتابات المؤرخين القدامى، والتخييل من منطلق كتابة المؤرخين القدامى، واللجوء إلى مفهوم الكتاب القصصي، واستخدام تقانات حداثية في السرد كالتهكم والهجاء والمفارقة.
ويتكوّن القسم الثالث من الكتاب، رؤى الآخر، كسابقه، من تمهيد وخمس دراسات، أكّد الناقد في التمهيد أنّ «الرواية العربية قطعت شوطاً كبيراً في وعي الآخر»، وأنّ «صورة الغرب في الرواية والقصة (العربيتين) قد عولجت باتساع»، ثمّ درس خمسة نصوص روائية: «مراتيج» (1985) لعروسية النالوتي، و«من يجرؤ على الشوق» (1989) لحميدة نعنع، و«حبل السرّة» (1990) لسميرة المانع، فـ«مدينة الرياح» (1996) لموسى ولد ابنو، وأخيراً رواية رؤوف مسعد «بيضة النعام» (1994).
وقد اتسمت مقاربة الناقد لروايتي النالوتي ونعنع بهجاء لافت للنظر ومثير للأسئلة، وعلى النقيض من ذلك كانت مقاربته لرواية المانع، التي امتدّت على جزئيتين (توصيف الرواية، والخصائص الفكرية والفنية)، والتي خلص من خلالهما إلى أنّ ثمّة بعداً استعارياً للمبنى الرمزي في الرواية، وأنّ ثمة خصيصتين ميزتاها: التخفيف من تأثير نزعة التماهي بين المرأة وكتابتها، وغلبة طابع النجوى المدعم بالجدل الفكري والسياسي.
وتناول الناقد في دراسته لرواية ولد ابنو ست جزئيات (إطار الموضوع، وسؤال الهوية المغيّبة، والاستلاب الحضاري، والآخر الغربي المستعلي المنتصر، وتقنية كسر الإيهام)، بينما تناول في دراسته لرواية مسعد خمس جزئيات (توصيف الرواية، والتماهي السري، والشبقية والجسد، والفئوية المتضررة، والآخر والذات)، وجلّ ما يمكن الانتهاء إليه من نتائج في هذه الدراسة قول الناقد إنّ رؤوف مسعد «يصف الآخر بحنين مؤرّق، ممتع وباعث على الحسرات».
وكما فعل الناقد في تنضيده لمكونات نقده في الأقسام الثلاثة السابقة، أي توزيع ممارسته النقدية بين تمهيد ودراسات لمصادر كلّ فصل على نحو مستقلّ، تابع المنهج نفسه في القسم الرابع من الكتاب، الحرب اللبنانية، الذي يتكوّن من تمهيد وثلاث دراسات حول ثلاثة نصوص روائية، هي: «الشيّاح» (1976) لإسماعيل فهد إسماعيل، ورواية ياسين رفاعية «رأس بيروت» (1992)، فرواية حنان الشيخ «بريد بيروت» (1992).
وزّع الناقد دراسته لرواية إسماعيل بين جزئيتين (توصيف الرواية، والخصائص الفكرية والفنية)، وممّا انتهى إليه حولها قوله إنّ «الرواية أقرب إلى تحقيق مكتوب بتقانات الوثيقة، يخالطه متن حكائي شديد البساطة»، وإنها تثير ثلاث مسائل: كتابة رواية الحرب بما هي عناية متعمقة بالشروط التاريخية، واعتماد الروائي على السرد التسجيلي، والتنامي الفعلي. كما وزّع دراسته لرواية رفاعية بين ثماني جزئيات، تحيل الأولى إلى ما دأب عليه في الدراسات السابقة، أي توصيف الرواية، والثانية إلى الخصائص الفكرية للرواية التي رأى أنها تكمن فيما يلي: المرجعية التاريخية، والتماهي السيري، ووصف الحرب الشنيعة، وإدانة الطائفية والانعزالية، ونقد المقاومة الفلسطينية، فالنزوع الوجودي، وأخيراً محنة الذات القومية. أمّا دراسته لرواية «بريد بيروت» فقد توزّعت بين خمس جزئيات: شيء عن الشكل، وشيء من الحكاية، وجوانب الحرب الحاضرة وأبعادها (الحرب شاملة، والحرب مستمرة، والحرب جريمة قومية، والحرب مأساوية، والحرب عدوان على الحياة)، ونقد الذات، والخلاص بالجنس.
وفي القسم الخامس والأخير من الكتاب عالج الناقد الانتفاضة الفلسطينية في الرواية العربية، بوصفها وجهاً من وجوه أسئلة الذات القومية، وقد وزّع ذلك القسم على تمهيد وأربع دراسات تناول فيها أربعة نصوص روائية: رواية زكي درويش «أحمد محمود والآخرون» (1988)، ورواية سحر خليفة «باب الساحة» (1990)، ورواية أديب نحوي «آخر من شبّه لهم» (1991)، فرواية إبراهيم نصر الله «مجرّد 2 فقط» (1992).
اتسمت دراسة الناقد لرواية درويش بمعالجتها لجزئيتين (توصيف الرواية، والخصائص الفنية والفكرية)، وقد اكتفى في الثانية بذكر ست إشارات للصوغ السردي الذي نظّم المتن الحكائي في الرواية: عنونة فصول الرواية بأسماء الأسرة، وغياب الفعلية المتنامية لأنّ كلّ فصل يروي تفاصيل أو جذاذات من حياة الشخصية أو عنها، وانغمار النص باللغة وفيضها الإنشائي وتأملاتها الكثيرة وتجلّيه بوصفه كتاباً قصصياً أكثر منه رواية، والتلاعب بالأزمنة، وسعي الروائي إلى مبنى رمزي دون مجهود كبير أو نجاح ملحوظ، وعنايته بالمرأة في تعضيد أفعال الفداء والمقاومة. ثمّ انتهى الناقد إلى أنّ الرواية «أغنية شديدة العذوبة والشجن الموجع عن تأزّم ذاتي هو العجز العربي في مواجهة الاحتلال».
وفي دراسته لرواية خليفة عالج ثلاث جزئيات: الموضوع الفلسطيني، وتوصيف الرواية، والنسوية. ورأى في توصيفه للرواية أنّ الأخيرة «رواية ترميزية»، ثمّ خلص في خاتمة الدراسة إلى أنّ الرواية «شهادة فنية على الواقع الفلسطيني الجديد»، وإلى أنها «مبنية بناء تقليدياً».
كما عالج في دراسته لرواية نحوي ثلاث جزئيات أيضاً: إطار الموضوع، وخصائص فنية، والرؤية الفكرية. ورأى في تتبعه للخصائص الفنية أنّه «يصعب أن نسمّي هذا الكتاب السردي رواية. إنه أشبه بكتاب قصصي أو سردي يميل إلى أسلوب الإخبار أو الحكاية أو الأحلام أو التحقيق»، وأنه «يصوغ وحدة أثر وجدانية قلّما نجدها عند كاتب عربي آخر». كما رأى في استجلائه للرؤية الفكرية أنّ «آخر من شبه لهم تعبير عاطفي مغرق في التبشير»، وأنّ «أديب نحوي من شعراء الرواية ومغنّي الأمل العربي».
ووزّع الناقد دراسته لرواية نصر الله على ثلاث جزئيات أيضاً: التعبيرية، ونزوعات ما بعد الحداثة، وملامح من رواية النصّ. ورأى، في التعبيرية، أنّ اللغة «تشكّل متناً حكائياً»، وفي نزوعات ما بعد الحداثة أن من أبرز سمات النزوع إلى ما بعد الحداثة: الإمعان في المفارقات اللفظية، والإمعان في السخرية اللفظية والمعنوية، والهوس بالتصنّع اللفظي، ومجاوزة الهجانة حدود اللغة إلى الأفكار والبنية السردية، وتعمّد كسر الإيهام بذكر إحالات نابية عن نسق التنضيد السردي، والاستغراق في التصنّع اللفظي واللغوي الأقرب إلى الفذلكة، والسعي إلى توظيف اللغة وترميزها. أمّا في جزئية ملامح من رواية النصّ فقد رأى أنّ من أبرز ملامح رواية النص في «مجرّد 2 فقط«: وصف الموت والقتل المتكرّر، ووصف غطرسة العدو الصهيوني أمام العجز العربي وضعف التنظيمات الفلسطينية، ووصف الموت الآخر للفلسطيني في الانتفاضة، ووصف المقاومة المستمرة. وخلص في نهاية الدراسة إلى القول: «يندرج سرد (مجرّد 2 فقط) في نزوعات ما بعد الحداثة حيث السخرية والهجانة وتشظية اللغة والمكان والزمان نحو المزيد من نقد الذات القومية».
وفي «خاتمة» الكتاب رأى الناقد أنّ البحث أشار إلى نتائج فكرية ضاغطة على الذات القومية، كما رأى أنه يمكن استخلاص نتائج عدة، هي أنه بمقدورنا قراءة العربية الحديثة على أنها قراءة للذات العربية، وإنّ الرواية العربية في العقود الثلاثة الأخيرة عبّرت عن تبدّلات الخطاب القومي والأيديولوجي، وتحوّلُ الرواية العربية إلى شكل من أشكال البحث، فتجديد السرد العربي، ولم تعد البطولة مقصورة على المثقفين، ثمّ بروز موضوع النسوية، وأخيراً كانت الرواية العربية قاسية جداً في تشريح مآزق الذات العربية.
على النحو المميّز لمعظم نتاج أبوهيف النقدي يقدّم «الجنس الحائر، أزمة الذات في الرواية العربية» إشارات عدّة إلى مخزون معرفي واسع بالمنجَز الروائي العربيّ من جهة، وبالخطاب النقدي المعنيّ بذلك المنجَز من جهة ثانية. ولعلّ من أهمّ سماته الدالّة على وعي واضح بقيم الممارسة النقدية تقدير الناقد لإنجازات الآخرين في مجال نقد الرواية، كما في وصفه لدراسة د. عبده عبود عن استقبال الرواية الأجنبية بأنها «دراسة نقدية معمقة»، ووصفه لدراسة سماح إدريس «المثقّف العربي والسلطة» بأنها دراسة مهمّة، ووصفه لكتاب إلياس خوري «تجربة البحث عن أفق، مقدمة لدراسة الرواية العربية بعد الهزيمة» بأنه بحث رائد. ثمّ تعريفه بتلك الإنجازات، كما في تمهيده للقسم الثاني، رؤى التاريخ، الذي يشير فيه إلى الدراسات التي عنيت بالرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث، والذي يعود بنفع كبير على الباحثين والنقّاد، ولاسيّما أنّ بعضاً من تلك الدراسات يكاد يكون مجهولاً لعدد غير قليل من المعنيين بالرواية العربية ونقدها.
وممّا يبدو جديراً بالتنويه إلحاق الناقد بأسماء الروائيين والنقّاد أسماء الأقطار التي ينتمون إليها، وهو جهد قلّما تنبّه إليه المشتغلون بالنقد الروائي العربي، واستفادته من بعض منجزات النقد الحديث، ولاسيّما «السرديات»، التي لم تكتفِ بالإفصاح عن نفسها عبر مصطلحات ومفهومات عدّة، من أكثرها تواتراً في الكتاب: الراوي المضمر العارف، تعدّد الأصوات، التعالق النصّي، والحوافز الحكائية، المتن الحكائي، راو مضمر عارف، الراوي غائب عارف مضمر، السارد العارف الغائب المهيمن، بل تجاوزت ذلك إلى التعريف بعدد منها كما في تعريفه لمفهوم «السرد الدائري» وهو يعاين شخصية عزيز اللباد في «مدارات الشرق»، أي قوله: «وهكذا يقترب السرد من دائرة عزيز، ثم يداخلها بدوائر الوصف الاجتماعي والإنساني في البيئات التي حلّ فيها، إلى أن يبتعد السرد إلى دوائر شخصيات وموضوعات أخرى، ثمّ ما يلبث أن يعود السرد إلى عزيز، وهكذا دواليك مع بقية الشخصيات الأخرى»، وكما في تعريفه غير المباشر، في معرض دراسته لرواية إبراهيم نصر الله «مجرّد 2 فقط» لأهم خصائص التعبيرية، أي نفيها الشخصية، وكتعريفه، في معرض دراسته للرواية نفسها، بمفهوم «رواية النصّ»، أي الرواية التي تسعى إلى «استبطان تخييل ما وراء الواقع أو ما وراء الرواية بتشظية اللغة والسرد في آن».
ولعلّ أبرز أقسام الكتاب القسم الثاني، رؤى التاريخ، الذي يقدّم أكثر من إشارة إلى الجهد الذي بذله الناقد في تقصّي الظاهرة كما تتجلّى في المنجز الروائي العربي، وتمهيده لمصادره الروائية في هذا القسم بمقدّمة دالّة على وعيه بأشكال مقاربة الروائيين العرب للتاريخ، ولاسيما تصنيفه منجز الثمانينيات في خمسة مسارات، وتمثيله، قبل متن الدراسة، لكلّ مسار بعمل روائي.
وعامّة، فإنّ لغة الناقد تتّسم بصفائها الأسلوبي وبتوجهها إلى مقاصدها دون مواربة أو معاظلة لفظية، وإلى حد يمكن القول معه إنّ «أبوهيف» في هذا الكتاب، كما في مجمل ما أنجز، يُنزل النقد من عليائه المقدّس الذي يحتكر قراءة النقد على جمهور محدّد من القرّاء هو الروائيون أنفسهم والنقّاد فحسب، فيصبح مشاعاً لمجمل جمهور القراء على اختلاف سوياتهم المعرفية.
غير أنّ السمات تلك كلّها، الدالّة على جهد نقدي جدير بالتقدير، لا تنفي، كما في مجمل الجهود التي تنتمي إلى حقل العلوم الإنسانية، ما يثيره الكتاب من أسئلة حول منهج الناقد، ومصادره ومراجعه، وأدواته وإجراءاته النقدية.
ولعلّ أكثر الأسئلة إلحاحاً فيما يتصل بالمنهج مسوّغات تقسيم الناقد بحثه إلى أقسام بدلاً من الفصول أو الأبواب، ثمّ مقاربته لمصادره في وحدات مستقلّة، يتمّ معها ومن خلالها عزل النصّ الروائي عن سواه من النصوص الأخرى التي تشترك معه في حقل دلالي واحد.
ومن اللافت للنظر تقديمه نتائج بحثه، في المقدّمة، على متن البحث، كما في إيجازه بعض خصائص الصعيد الفني، بتعبيره، الذي يجعل الرواية الفنّ الأكثر تعبيراً عن تجليات أزمة الذات، بخمس خصائص تكاد تشكّل مجمل نتائجه التي خلص إليها في معرض دراسته لمصادره الروائية. ومن اللافت للنظر أيضاً عدم مقاربته لمصادره حسب تواريخ صدورها، كما في تقديمه، في القسم الثاني، لرواية «مدارات الشرق» الصادرة سنة 1990 على رواية «حديث الصباح والمساء» الصادرة سنة 1987، وكدراسته، في القسم الثالث، لرواية «مدينة الرياح» الصادرة سنة 1996 قبل رواية «بيضة النعامة» الصادرة سنة 1994. والسمة نفسها تتجلّى في تقديمه القسم المعني بروايات الانتفاضة على القسم المعني بروايات الحرب اللبنانية، على الرغم من أسبقية الحرب اللبنانية على الانتفاضة.
والناقد يكتفي بتفحّص المنجَز الروائي في اثني عشر قطراً عربياً فحسب (سورية، مصر، فلسطين، تونس، الجزائر، العراق، ليبيا، موريتانيا، لبنان، الكويت، السودان، المغرب)، ولا يلتفت إلى مثيله في الأجزاء الأخرى من الجغرافية العربية، التي أبدع عدد من كتّاب الرواية فيها نصوصاً تنطوي تحت عباءة البحث عن الذات والهوية، كما في خماسية السعودي عبد الرحمن منيف: «مدن الملح»، وفي رواية مواطنه غازي القصيبي: «شقة الحرية»، ورواية القطرية شعاع خليفة: «أحلام البحر القديمة»، وروايات الأردني مؤنس الرزاز عامة، ورواية اليمني زيد مطيع دماج: «الرهينة»، وأكثر روايات البحريني علي عبدالله خليفة.
وعلى الرغم من أنّ الناقد كان وعد قارئه، في مقدمته، بالاهتمام بما سمّاه: «الصعيد الفني» للروايات/ المصادر، فإنه لم يف بذلك، إذ لا يعثر القارئ على غير نثارات متفرّقة في هذا المجال، وما يؤكّد ذلك أنّ ليس من مراجع الباحث مؤلفات في نظرية الرواية، أو نقدها، سوى مرجعين فحسب: «نظريات السرد الحديثة» لـ«مارتن والاس»، و«نصوص الشكلانيين الروس» لمجموعة من المؤلفين. لقد أبدى الناقد حفاوة بموضوعات مصادره، ولم يلتفت إلى طرائق صوغ الروائيين لتلك الموضوعات، ومن مظاهر تلك الحفاوة، كما دأب على ذلك في مجمل نتاجه النقدي، طول المقبوسات من تلك المصادر وكثرتها بآن، وإلى حد تطغى المتون الروائية معه على المتن النقدي.
وإذا سلّم المرء بأنّ ثمّة منهجاً نقدياً حقاً صدر عنه الناقد في مقاربته للظاهرة ولمصادره بآن، أي ما اصطلح عليه بـ:«المنهج النقدي التقويمي»، فإنّ هذا المنهج لا يبدو معللاً على نحو كاف في تضاعيف الكتاب، كما لا يفصح عن وسائله وأدواته وإجراءاته الخاصة به. ومع أنه كان أشار، في المقدمة، إلى محاولته الاستفادة «من بعض معطيات المناهج الحديثة»، إلا أنّ القارئ لا يعثر على أكثر من مصطلحات أربعة تنتمي جميعاً إلى منهج نقدي واحد، هو البنيوية: المنظور السردي، والراوي، والاسترجاع، والمتن الحكائي. وتجدر الإشارة هنا إلى استخدامه الأخير، «المتن الحكائي»، على نحو غير دقيق، كما في قوله إنّ اللغة في «مجرّد 2 فقط» لإبراهيم نصر الله «تشكّل متناً حكائياً»، فاللغة، في السرديات، مكوّن من مكوّنات الخطاب الروائي وليست متناً حكائياً، والأخير مجموع الأحداث والأفعال في النصّ، أي المحكي الروائي.
والناقد لا يوثّق لبعض أقوال الروائيين، كما في قوله في معرض دراسته لرواية هالة البدري «منتهى«: «كما صرّحت البدري في شهادة لها عن كتابتها الروائية والقصصية»، إذ لا يعرف القارئ أين قدّمت البدري شهادتها تلك، ومتى. كما لا يوثّق لبعض المقبوسات، كما في قوله، في معرض دراسته لرواية إبراهيم نصر الله إنّ واضعي مصطلح «رواية النصّ» عرّفوه بـ«الكتابة الروائية التي تستدعي الانتباه إلى ذاتها بشكل واع ومقصود..»، من غير أن يشير إلى المرجع الذي نقل عنه هذا التعريف على الرغم من تنصيصه عليه بالأسود، وكما في موافقته على ما ذهب إليه سابقوه ممّن درس «مدارات الشرق» من أنّ ثمة في الرواية خطاباً أيديولوجياً صارخاً لا يتناسب مع وعي الفلاح البسيط، قائلاً: «كما أشار آخرون»، من غير أن يسمّي واحداً من أولئك الآخرين.
وليس صواباً التسليم بما علّل به الناقد اختياره لمصادره، أي قوله إنّ تلك المصادر لم تحظَ بنقد جدّي، فثمّة دراسات عدّة سابقة لعمله دالّة على حس نقدي عال، ويكفي التمثيل لذلك بما كُتب حول تجربة الطاهر وطار الروائية، وثلاثية أحمد إبراهيم الفقيه، ومدارات نبيل سليمان، وما أنجزه حسن نجمي حول تجربة سحر خليفة وممّا ينطوي تحت الشاغل نفسه، أي: «شعرية الفضاء، المتخيّل والهويّة في الرواية العربية» (2000)، وسوى ذلك. والسمة نفسها تتجلّى في تمهيده للقسم الأول من الكتاب، أي قوله إنه «من العسير على المتتبع أن يجد دراسة شاملة للقضية أو القضايا الكبرى التي تندرج في إطارها موضوعات وظواهر نقد الذات ونقد الواقع»، إذ يمكن إحالة الناقد، على سبيل المثال، إلى ما أنجزه نبيل سليمان في «وعي الذات والعالم، دراسات في الرواية العربية»، ومصطفى عبد الغني في «نقد الذات في الرواية الفلسطينية»، وسليمان الشطي في «طريق الحرافيش، رؤية في التفسير الحضاري».
ومن اللافت للنظر موقف الناقد من الأغلب الأعمّ من التجارب الروائية النسوية التي عني بها، ومن اللافت للنظر أكثر هجاؤه اللاذع لصوتين روائيين منها خاصة، للتونسية عروسية النالوتي والسورية حميدة نعنع، على نحو يكاد يشي بأن ثمة غلبة لما هو خارج نصي على ما هو نصي. ومن أمثلة ذلك في دراسته لرواية النالوتي أن (باريس) فيها «ليست أكثر من زخرف أو ديكور أو زينة»، وأنّ ثمّة تداخلاً في لغة القصّ، إذ يلتبس الراوي وتضيق مسافة النظر بين القائل والفاعل والموضوع ومستويات القصّ، والاستسلام لعقدة التماهي حيث بروز الأنا الفردية والاحتفاء المبالغ بها وحيث ثمة «تجربة لفظية تفتقر إلى الفعلية والحدّ المناسب من الصراع التاريخي والاجتماعي»، والواقع غير المسوّغ بتجديد الأدوات الروائية إلى حدّ التجريب المخلّ بالمعالجة وانبهام الدلالة وغلبة الشعرية والتراكم اللفظي.
ومن أمثلته حول روايتي نعنع: «الوطن في العينين» و«من يجرؤ على الشوق» أنّ نعنع «تحاكم الذات العربية من منظورها الشخصي الذي يتمركز حول (الأنا) الأنثوية المغالية في تمجيد الذات الفردية إلى حدّ المرض»، وأنّ النسق السردي في روايتها موضوع الدراسة «يتكوّن.. من حوافز بسيطة تعتمد التركيب الواقعي»، وأنّ الروائية في الرواية نفسها «تنثر رذاذ كلمات مجّانية عن وطن يحترق»، وأخيراً أنّ «من يجرؤ على الشوق صوت واحد نوّاح مثقل بتورّم الأنا الفردية».
ولم يكن ثمة ما يعلّل تكرار الناقد لبعض المعلومات، ولاسيّما تلك المتعلّقة بنسبة الروائيين إلى أقطارهم أكثر من مرّة، وبتعريفه ببعضهم أكثر من مرة أيضاً، كما في تعريفه بالفلسطيني زكي درويش في متن الدراسة وفي معجم الروائيين. والسمة نفسها تتجلّى في تكراره لبعض نتائجه النقدية، كما في وصفه لرواية عبد الرحمن مجيد الربيعي بأنها «مرثية عربية بالغة المرارة والشجن»، ثمّ قوله إنّ الروائي راكم أفعال الشخوص وأقوالها «في نسيج رثائي»، وقوله في خاتمة الدراسة إنّ «الرواية بعد ذلك صوت رثائي طويل».
ولا تخلو أحكام الناقد من التناقض أحياناً، فعلى الرغم من وصفه، على سبيل المثال، لرواية فؤاد التكرلي بانهماكها الشديد بالتفكير الوجودي، وباستغراقها فيه، وإلى حدّ بدت معه أنها «فرض ينبغي البرهان عليه من أجل عبرة أو حكمة»، فإنه ينتهي إلى القول على نحو جامع مانع إنّ الرواية «كبيرة لروائي أصيل».
وبعد، ومهما يكن من أمر ذلك كلّه، فإنّ الكتاب يقدّم إضافة جديرة بالتقدير إلى المكتبة النقدية العربية، تجمع بين كونها اشتغالاً على الإبداع وكونها اشتغالاً على الفكر بآن، وتمتلك إشارات كثيرة إلى ناقد متابع، ودؤوب، ودالّة على كونه واحداً ممّن يُشار إليهم بالبنان من المشتغلين بنقد الرواية العربية.
(1) أبوهيف، عبدالله. «فكرة القصة، نقد القصة القصيرة في سورية«. ط1. اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1981.
(2) انظر الصفحات: 20 – 21 – 24.
(3) أبوهيف، د. عبدالله. «النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد». ط1. اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 2001.
(4) تتردّد هذه الأخطاء في الصفحات التالية: 12، 16، 28، 99، 188، 285 (مكرر)، 286، 288، 306، 308، 334، 345، 361، 365) مكرر)، 427، 429، 433، 435، 444 (مكرر)، 446، 484.
(5) أبوهيف، عبدالله. «الجنس الحائر، أزمة الذات في الرواية العربية». ط1. دار رياض الريس، بيروت 2003
(6) انظر: أبوهيف، عبدالله. «الأدب والتغيّر الاجتماعي في سورية». ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1990. الذي تناول الناقد، في الفصل الموسوم منه بـ«روايات من سورية»، خمسة نصوص لأربعة روائيين وروائية من سورية: «تاج اللؤلؤ» لأديب النحوي، و«المدينة الأخرى» لخيري الذهبي، و«الرجل والزنزانة» لوهيب سراي الدين، و«خطوات في الضباب» لملاحة الخاني.
(7) من العدّادة / الندّابة، أي المرأة المعدّدة لمناقب الميت عند النواح والندب عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق