الاغتراب والحلم في أدب أحمد إبراهيم الفقيه القصصي
الفصل الثانى : الحلم والمرأة - 1-الحلم قالب فنى
د . شعبان عبد الحكيم محمد
1-الحلم قالب فنى :
العلاقة بين الفن والحلم علاقة حميمة ترجع إلى طبيعة وغاية كليهما فالفن يعتمد على التصوير والتكثيف والرمز وانتقاء والمواقف لاعادة نسجها فى بنية فنية هادفة كذلك الحلم وإن اختلف عن الفن فى افتقاده التناسق والتناغم لظهوره فى ومضات محدودة من الزمن نابعة من عالم اللاشعور الذى يصعب التعامل معه وتفسره وإن كان تعبيرا عن رغبة مكبوتة فكثير من الأحلام يصعب فك شفراتها لعدم ظهورها فى صورة واضحة متسقة المعالم وعلل العلماء النفس لعدم ظهور الحلم فى صورة واضحة جلية باصطدام التصوير فى الحلم فى الأنا الأعلى الذى يمثل صوت الضمير فالأنا الأعلى " يطالب الشخصية بالتزام المثل العليا والأخلاقيات فى أفعالها وسلوكها وتصرفاتها وكما يرى فرويد فإن الأنا الأعلى يقوم بثلاثة وجوه من النشاط :
مراقبة الذات وإقامة المثل العليا والضمير الأخلاقى (1) فالحلم قد يكون محتويا على اشياء مخلة أخلاقيا أو فاضحة لعيب خلقى عند صاحبها لذا تأتى الصورة غائمة وغير متراكبة بفعل مراقبة الأنا الأعلى ونظر لطبيعة الحلم التى عرضنا لها وظهوره فى صورة " مموهة مخفاة بحيث لا يعى الحالم نفسه دوافعها فى كثير من الحالات ومن هنا فإن كثيرا من أحلام النوم تبدو ممسوخة خالية من المعنى والمنطق شبيهة بتكفيره المجانين ومنطقهم (2) لذلك كانت أحلام اليقظة أقرب لطبيعة الأدب وأداه فنية عن أحلام النوم التى تخضع إلى الشعور لأنها " أكثر استخدما لأساليب التفكير الشعورى ومنطقنا العقلانى المعتاد وأكثر اشباعا للدوافع الشعورية (3)
وإذا كانت غاية الحلم اشباع الرغبات والدوافع التى يستحيل تحقيقها فى عالم الواقع فالفن أيضا يهدف إلى خلق عالم بديل لعالم الواقع بأدرانه وعيوبه ليكون أكثر ارتقاء بانسانية الانسان وبواقعة ويحقق للإنسان ما لم يستطع تحقيقه فى عالم الواقع لذا فلا غرابة ان يصف الأديب الفرنسى رومان رولان الفن بأنه " حلم الانسان حلم من نور وحرية وقوة صافية (4) والاديب بطعبه إنسان حالم يرفض الواقع ويسمو إلى ما هو أفضل ولا بديل لذلك إلا فى عالم الفن الذى يشبه عالم الحلم فى تحقيق الآمال لذا ينظر إلى الفن عند الكثيرين بأنه " حلم يقظة يهرب فيه الانسان من ضغوط حياته ومواقفها المثيرة للتوتر والخوف كذلك يحقق الانسان فى الفن ما يعجز عن تحقيقه فى الواقع ويهذب من خلاله رغبات وتطلعاته التى لا يستريح لها أنه الوسيلة المثلى التى تساعد الانسان على الاستمتاع والتناغم الذى لا تمنحه اياه حياته الواقعية (5) وإذا كان الحلم مادة فنية فانه يتسامى عن الوهم (الذى لا منطلق له) ذلك لان التجربة الفنية بطبيعتها تجربة واعية وليست نعرة هلامية بل تجربة هادفة مقصودة الغاية من ورائها حتى القصص التى تجاوزت الحد فى الخيال والحلم كالقصص التى تضمنت نبوءات المستقبل كقصة هكسلى فى الأربعنيات ( عالم جرئ شجاع) التى صورت توقع ولادة إنسان من طفل أنابيب وإن قصد هكسلى من وراء تصوره السابق تفسير تمزق العلاقات والألفة بين الناس لأنهم خلقوا من أجهزة صناعية بعيدة عن الرحم (المشتق من الرحمة) هذه التصورات عكست لنا غائية الفن فى تعامله مع الحلم فليس الهدف من الحلم فى الفن استعراض العضلات الفنية أو نزهه هشة فى حديقة وهمية وإنما الحلم قالب فنى ومخزى أدبى لصياغة تجربة هادفة يجد المبدع أن الحلم هو الطريقة الانسب للتغبير عن تجربته والفكرة المقصودة منها لعل أهم ما يتصف به أحمد الفقيه فى استخدامه الحلم أداة فنية مقدرته على سبك الأحداث سبكا فنيا مما يتيح له الدمج بين عالمى الواقع والحلم دون أن يشعر المتلقى بتصدع أو نشاز فى تحول الأحداث إلى عالم الواقع إلى عالم الحلم أو عند الرجوع مرة أخرى من الحلم إلى عالم الواقع وقد مر بنا فى رواية ( هذه تخوم مملكتي) كيف مهد لدخول بطلة فى عالم الحلم بعرض أزمة خليل الامام النفسية بعد حصوله على الدكتوراه وافتقاد التكيف والانسجام مع واقعه ( لم ينم منذ اسبوع حاول الانتحار ذهبوا به إلى طيب نفسى ثم إلى فقيه ) وعندما يشعر (خليل) بتحسن صحته يعكف على ألف ليله وليله لأنها تحقق له " عالما يشبه عالمها فى هذه البيئة التليدة التى حافظت على عفتها وتحصنت ببؤسها وعقمها ومنحت نفسها عطاء أبديا لرياح الصحراء (6) ليكون "الاستغراق فى عوالمها بديلا لبؤس الواقع وهروبا منه و نقدم لى اليوم ما كانت تقدمه لى عندما كنت طفلا (7) فالكاتب يمهد للدخول فى الحلم تدريجيا بعكوف الامام على قراءة ألف ليلة وليلة وما بها من خيال جامح يتجاوز فيها الحلم والواقع الحقيقة بالأسطورة الصدق بالوهم إنها عالم من السحر والاشراق تأخذنا بأجنحتها إلى عوامل بعيدة فى الخيال الذى يتجاوز الواقع ليعيش أبطالها أياما طوالا فى مغامرات مثيرة ثم يرجعون إلى عالم الواقع وكأنه لا يوجد فاصل بين هذين العالمين ثم يهيأ الكاتب بعد ذلك لدخول بطلة فى عالم الحلم بمرحلة ثانية وهى الذهاب إلى بيت أخته فى المدنية القديمة بطرابلس ليمر على أطلال بيت الطفولة هذا المكان الزاخر بذكريات البراءة وخيال الطفل الذى يتوقع أى شئ ولا يستغرق لسماع الخرافات والأوهام ليجد فى ذلك لذاذة وشغفا بسماعها وعندما يصل إلى أطلال بيت الطفولة يدخل منزل الشيخ الصادق أبو الخيرات وهنا يتكامل التهيؤ والاستعداد للرحلة الخيالية الحالمة فالتصديق بكرمات الأولياء شعور متوطد فى أعماق كثير من النفوس منهم (خليل الامام) يؤكد ذلك قول الشيخ الصادق لخليل " وما أمراض الروح إلا علامة الصدق ونقاء السريرة (8) إن نفس الإمام نفس صافية بلا شوائب ، ولذا أوذيت من أدران الحياة وأمراضها فيدهى سوف تتأثر بكلام هذا الفقيه وتصدق تهويماته ورغم أن الشيخ الصادق كان ميتا منذ عشرين عاما ولكن حالة الامام النفسية وما يمر به من مرض نفسي جعله يتوهم وجود الشيخ أمامه ليحاوره ويعده بالشفاء من أمراضه ويهيأ الكاتب لدخول بطله فى عالم الحلم هنا بشيئين الايحاء والجو الهولامى الذى اصطنعه الشيخ الصادق فى لقاء خليل الامام به والايحاء عملية نفسية يتم عن طريقها تقبل أفكار واتجاهات أراء شخص أخر دون قهر من جانب الموحى اليه والشخصية الضعيفة بخلاف الشخصية القوية أكثر تقبلا للايحاء (9) فالحالة النفسية لخليل هنا مهيأة للتأثر بإيجاء الشيخ الصادق وخاصة أنه جعل الموقف فى جو هولامى مؤثر فالشيخ فى جلسته فى جو مشبع بالدخان ويتحدث بأسلوب يشبه سجع الكهان يقول خليل الامام " بلهجة منغومة حاولت أن أتبين شيئا من كلماتها فلم أفلح امتلأت الغرفة بدخان الاعشاب وامتلأت عيناى بالدخان فلم أعد أرى شيئا(10) كل هذا عمل على تهيئة خليل الامام لتلقى الايحاء من الشيخ الذى سأله ماذا ترى ؟ وكان الرد من الامام لا شئ ولكن استجابة لاصرار الشيخ بأن هناك بقعة بيضاء أمامه أجابه بأنه يرى بقعة بيضاء وظل يحاوره لايهامه بأن هذه البقعة تكبر شيئا فشيئا والامام يصدقه فى هذا الايهام حتى صار الأفق كله امام عينيه ( الامام ) أبيض بايحاء منه صرت أتخيل أننى أرى بقعة بيضاء وتتسع حتى يصير الظلام فضاء ساطعا بالبياض (11) ليجد نفسه يعدوا وسط بيداء تحرقها الشمس ويغطيها حصى يلمع تحت سقط الضوء (12).
وينصحه الشيخ بعدم التوقف فى عدوه رغم التعب والإرهاق الشديد الذى حل به حتى وصل إلى مدينة عقد المرجان لتبدأ حياته فى عالم الحلم فى المدينة المثالية التى يحنو إليها حيث الحياة البرزخية الحياة التى لا يوجد لها غم ولا نكد ولا رذيلة ولا أدران يمارس تدريباته الروحية فى الصباح الباكر ويشارك فى العمل بتشذيب البستان فى الصباح وبعد ذلك يستقبل الزوار ويسهر مع أهل المدينة مشاركا لهم فى المرح والرقص ليلا يتجول فى أرجاء المدينة مستمتعا بجمالها وزائرا لاهلها حياته على ما يرام مع زوجته نرجس القلوب ليتحقق له فى هذه المدينة (الخيالية) ما لم يستطع تحقيقه فى عالم الواقع وكما نجح الكاتب فى ادخال بطله فى عالم الحلم يهيئه لإخراجه من عالم الحلم إلى عالم الواقع وذلك بتذكره لهذا العالم الواقعى بطريقة واعية أو غير واعية وما به من مشاحنات وتطاحن فى التسابق المسلح لتدمير العالم وبالفعل كانت هذه المعلومات باعثا لتفكير أهل المدينة لتصنيع قذائف مدوية وفى يوم الاحتفال بتفجير قذيفة ( من هذه القذائف) كانت عودة البطل من عالم الحلم إلى عالم الواقع ليتواكب هذا الحدث مع اصرار خليل الامام على كسر باب الغرفة السرية الذى أتى منها صوت بدور فى غنائها من الاعصار الاصفر الذى لا يبقى ولا يذر فيتتبع الصوت القادم من الغرفة السرية وعند كسر بابها يأتى الاعصار مرجفا القصر بمن فيه ليجرى مترنحا صوب البوابة التى تفضى إلى الصحراء منها جئت واليها أعود مرة أخرى ها قد تحققت الكارثة وضاعت مدينة عقد المرجان (13) فيجد نفسه عند بيته القديم الذى يجاور منزل الشيخ الصادق أبو الخيرات وعندما يرجع إلى بيته ممزق الثياب به كدمات وجروح تسأله زوجته (فاطمة) عن سبب ذلك فيحكى لها عن الاعصار الاصفر الذى كان سبب عودته بعد غياب عام لتحكم فاطمة عليه باستمرار مرضه لم يغب عن المنزل إلا ساعة مقدار ذهابه وإيابه من منزله فى المدينة القديمة .
فى رواية نفق تضيئه امرأة واحدة يختلق الكاتب قصة حب وهمية يعيشها البطل فى عالم الحلم لتكون بديلا لعالم الواقع الذى يصعب الانسجام معه وقد نجح الكاتب فى نقل بطله (خليل الامام) من عالم الواقع إلى عالم الحلم فقد حاول خليل الامام تجاوز أزمته النفسية بتكثيف علاقاته الاجتماعية ومضاعفة وقت العمل فيعين رئيسا لجمعية الرحلات فى الجامعة وفى رحلة إلى مدينة قورينا فى الجبل الاخضر تكون بداية الحلم ولعل اختيار الكاتب للزمان (الصباح الباكر) وللمكان (مدينة قورينا) كمنطقة أثرية تستحضر عالم الخيال والاساطير مما يجعلها تربة صالحة للاحلام فمدينة قورينا عبدت الالهة ايزيس وأقامت لها المعابد والتماثيل (14) واذا كانت ايرزيس لا تسام لأنها تلتقى بحبيبها أوزوريس الذى يعود إلى الحياة مع فصل الربيع فتحضر بعودته الأرض وتمتلئ العيون بالماء(15) فخليل الامام محروم من هذا البعث ومازالت حياته قاحلة صيف شتاء ويحتاج إلى ايزيس تتعش حياته وتزيدها اشراقا وتألقا وهنا يتأصل الدافع فى أعماقه لتوهم امرأة تشبه ربه من ربات الحسن والجمال يعيش معها حياة السحر والعشق والجمال وكانت سناء يسرد لنا الكاتب كما من الأحداث المهيأة لجو الحلم لنشاهد معه ربات الحسن الثلاث " وهن يقفن عاريات اشتبكت أذرعهن وكأنهن يقمن برقصه تمجد بها الجسد الأنثوى ويضعن تمثالا واحدا يمتلئ بجمال يتبدى فى كل الجهات (16) ثم يمر بتمثال أفرودايت ربه الحب والجمال وقد وقفت تعرض حسنها العارى للمتفرجين تحت قدمها جرة (17) اضافة إلى تفقده لكثير من الالهه فى تلك المنطقة كزيوس كبير الهة الأولمب وبوسايدون اله البحر والربة ليبيا كل ذلك دفعة إلى البحث كما يقول " عن امرأة أجعل منها الهة تعبد كل صباح فى محرابها (18) وكانت سناء التى تعرفت عليه عندما كان يستعرض جمال الطبيعة قبل طلوع الشمس وبعد العودة من الرحلة تتوطد العلاقة بينهما فى الجامعة بعد ذلك على اثرها يترك منزله إلى قرية الشاطئ السياحى ويخطب سناء ولكن عقبة الشقة تحول دون الزواج ليقضى معها أجمل لحظات الحب والمتعة والجمال هكذا كان لقاء خليل الامام بسناء فى عالم الحلم الذى تمناه ليكون بديلا لعالم الواقع المؤلم هذا العالم يصعب تحقيقه وايجاده اللهم إلى فى عالم الحلم وما العقابات التى واجهت خليلا وحالت دون الزواج من سناء كعدم وجود شقة اضافة إلى مشاكل الطلاق من فاطمة إلا دليل وتبرير لاستحالة تحقيق الحلم لذا ظل البطل هائما يتغنى بجمال سناء الحب كقولة " انما نخطئ عندما ننظر على الجنس معزولا عن أشواقه القلب أو نقيسه مقاييس بيئة تقتات بخرافات ما قبل التاريخ (19) ويظل يشتهى سناء قلبا وقالبا يعيش بين سعادة اللقاء وحسرة الخوف والفراق وعندما هم باغتصابها فى مشهد فيه التوتر والصراع وصفة خليل بقول " تشنجت أطرافى وهى تعتصر سناء البالية الدامية التى تقاومنى وتدفعنى عنها دون دوى الان أستطيع أن أسمع صرخاتها أو رأى الرعب الساكن فى عينها فاتركها تحرر من قبضتى تنهض فخذيها فى الحذاء وتخطف سترتها تغطى بها عرى صدرها الذى تمزق عنه القميص تعدو هاربة وخيط من بكائها يهرب منها ويعوج ليتلف حول عنقى (20) هنا تختفى سناء ويعود خليل الامام لعالم الواقع وقد وفق الكاتب فى اخراج بطله من عالم الحلم إلى عالم الواقع من خلال عملية الاغتصاب حيث التوتر النفسى والانفعالات الحادة إضافة إلى ايمائه بعدم احتواء خليل لسناء وامتلاكها يدل على استحالة تحقيق الحلم وتحويله إلى واقع.
فى قصته القصيرة ( الرجل الذى لم يشاهد حياته نهرا) يستخدم الكاتب الحلم أداه لتحقيق عالم أخر غير عالم الواقع عالم الاشراق والحب والجمال فرارا من هذا العالم الذى لا يحفل بالأحاسيس والمشاعر والحياة الندية التى تستشعر الجمال وتنفعل به ويتفنن الكاتب فى إدخاله بطله فى عالم الحلم عند جلوسه (البطل) على المقهى وبعدما طلب من النادل كوبا من القهوة يدخله فى عالم الحلم باستخدام احلام اليقظة فينظر (البطل) إلى الشارع ليتصوره قد تحول إلى نهر وارتال السيارات تحول إلى قوالب تحمل عشاقا وتمضى مع التيار فى بطء ورأى نفسه يجلس إلى خميلة عند ضفاف النهر تحت قدميه نبتت الاعشاب والزهور وقريبا منه جاءت تطوف الفراشات والعصافير ومن حول انتشرت اشجار الورد وقد صفت تحتها عشرات الموائد التى جلس اليها رجال ونساء يتحادثون همسا ويتبادلون الانخاب ملأ صدره بشذى الزهور واستسلم فى جذع كبير تحت هذه الشجرة تعود أن يلتقى كل مساء بحبيبة القالب التى ينتظر قدومها بين لحظة وأخري(21) هذا هو العالم الذى يريده الكاتب عالم التجليات والاشراق الحب والنضارة والبهاء عالم المشاعر والوجدان لا عالم التيبس والأرقام ونضوب المبادئ وموت القيم وهنا يلجأ الكاتب إلى حيلة فنية لاخراج بطله من حلم اليقظة بمجيء النادل ووضع فنجان القهوة أمامه لقد حاول البطل مرة أخرى اغلاق عينيه عله يكمل هذا الحلم اللذيذ ولكن دون فائدة ليتأكد له ان " الحبيبة التى جلس ينتظر قدومها تحت الشجرة لن تأتى أبدا (22).
وبعودة البطل إلى عالم الواقع يضع لنا مفارقة بين عالم الحلم وعالم الواقع ليجد الرجل الذى كان بجواره بعدما شرب القهوة تحول جملا لأنه لم ير نهرا ويتذكر بنت الجيران التى نظرت اليها (البطل) من خلف بابها يتصور البيوت التى تلتصق بالأرض تتحول بالليل إلى حظائر الرجال يتحولون إلى جمال بعد شربهم القهوة وسبب ذلك لان أحدا منهم لم يتدراك الأمر ويشاهد لنفسه نهرا قبل فوات الاوان(23) فالنهر رمز الحياة الجميلة بما فيها من اشراق وجمال وتجدد هذه الحياة التى ينبغى ان تعاش وعندما لم يجدها الكاتب فر إلى الحلم ليحقق ذلك بعيدا عن عالمه المؤلم عالم التيبس والجفاف ونضوب المشاعر وموت العواطف هذا العالم الذى لم يشغل أحدهم نفسه بإدراكه أو العيش فيه لبعض الوقت فعاشوا فى موات تحول الرجال بعد شربهم القهوة إلى جمال وربطوا الفتاة التى شعرت بعواطفها فأرادت أن ترويها بنظرة وأصبحت شاة يسمع لها ثغاء بالليل وما هؤلاء إلا نماذج من المجتمع حط عليهم التيبس والجفاف فعاشوا حياة جامدة لا روح فيها ولا نبض لذا فلا غرابة ان يعشر البطل بأن روحا شريرا فى بدنه وأنه سيموت اختناقا وأن أشباحا تزوره كل ليلة مع افتقاده الرغبة فى القراءة لذا يقرر فى النهاية أن يهرب من هذا الواقع دون أن يحدد لنفسه اتجاها خلع نعليه ووضعهما تحت إبطه ومضى يعدو وسط الشارع أطلق ساقية للريح غير عابئ بما يحدث ومضى يجرى (24) مصرا على عدم الوقوف حتى يجد النهر ليؤكد اصراره على عدم التعايش مع الواقع إذا وصل إلى هذه الصورة فالحياة كما قالت قرجينيا وولف هالة نورانية فيجب علينا أن نعيش الحياة بوجداننا ومشاعرنا لا بجفاف العقول وحسابات المنطق وإحصاء الأيام وربما يذكرنا هذا الموقف (جرى البطل وهروبه) لعدم انسجامه مع الواقع بالصوفى بشر الحافى الذى مشى يوما فى السوق (والسوق رمز للحياة) فأفزعه الناس فخلع نعليه ووضعهما تحت إبطيه وانطلق يجرى فى الرمضاء فلم يدركه أحد وقد كتب صلاح عبد الصبور قصيدة عنه (مذكرات الصوفى بشر الحافي) يعكس لنا افتقاد الحياة للجانب المشرق وتبرم بشر الحافى من وصول الحياة إلى هذه الصورة من الجفاف والعدم( 25).
فى قصته القصيرة (اختفت النجوم فأين أنت ؟ ) يدخل الكاتب بطلة إلى عالم الحلم عندما كان راجعا إلى بيته يغنى أغنية عن المحبوبة التى ضربت لحبيبها موعدا ولكنها لم تأت وإذا كان الحلم تعبيرا عن رغبات مكبوتة فهنا يأتى الحلم متسقا مع هذه الرغبة لتظهر المفارقة التى من خلالها يعالج الكاتب قضية اجتماعية مفادها تأطير المجتمع للعلاقة بين الرجل والمرأة ومصادره العواطف والمشاعر النبيلة وقد هيأ الكاتب إدخال البطل إلى عالم الحلم بثلاثة أشياء أبخرة الخمر فى رأسه والخلاء من حوله وسكون الليل (26)وهنا يتحرر البطل من وقاره والتزامه بقيم المجتمع فيرقص فى تهور ومجون كالشياطين أو يقفز فى الهواء كالأطفال أو بحجل على قدم واحدة ولم يتحرج من الضحك بصوت عال (27) أكثر من امرأة تضحك فى خلاعة واستهتار (28) يستحى منها لظنه أنها الملكة لكنه يفاجأ بتكرار هذا الصوت ثم تدعوه بدون خجل إلى خلوة آثمة (29) وعندما لم يستجب لدعوتها يأتى صوتها مرعبا أشبه بالفحيح إلى أن استبدت بها الشهوة فجاء نداؤها أكثر الحاحا كأنه العواء (30).
والكاتب كعادة حلم اليقظة وإن جعل بطلة يعيش فى عالم الحلم لكنه يجعله إلى الواقع لم ينفصل عنه ليشعر بالقطران يسيطر عليه ويتوازى رد الفعل مع صوت المرأة فعندما كان صوتها هادئا كان القطران فى ساقية وعندما ازدادت النبرة تشنجا ازداد القطران ليصل إلى صدره ثم إلى عنقه ولذا تمنى فى هذه اللحظة من الله أن يمسخه فأرا لعدم استطاعته تلبيه دعوة هذه المرأة للانطلاق معه والعيش فى حرية بعيدا عن القيود التى يفرضها المجتمع عليهما ولكن يبرز الكاتب أنه ليس المقصود بالحلم والحلم فى ذاته ولكن إثارة قضية اجتماعية يجعل صورة هذه المرأة ليست بعيدة عن مخيلته وأنه كان يعرف هذا الصوت معرفة غير عادية ويثير فى نفسه سجونا قديمة وكانت شيئا غامضا يحيا فى خياله أو صوت انسانه ما تبادل معها الكلام خالف الأبواب والتصق صوتها بذاكرته أو واحدة من النساء اللاتى كان يراهن عندما كان طفلا (31).
ولم يستطيع البطل تلبية النداء وهذا يتفق مع رؤيتنا السابقة للبطل المهزوم فى أدب الفقيه ربما يرجع ذلك إلى رؤية الكاتب صعوبة تغيير النظم والعادات الاجتماعية وأن التمرد الفردى مصيره الفشل ولكن هذا لا ينفى سلبية البطل وإن كان يحمد للكاتب اجادته فى اخراج بطلة من عالم الحلم إلى عالم الواقع فيجعله يفيق على استغاثتها فى النهاية كما يحدث للمرء فى الحلم يستيقظ عند وقوع أمر مثير هذا ما حدث للبطل لقد " سمع الصوت يتلاشى ويبتعد أنه اللآن أصبح أشبه بالاستغاثة يطلب النجدة كأنها الآن فى عرض البحر يحاصرها موج متوحش شرس ويهددها بالموت غرقا وهى تستنجد فى ضعف وخوف (32).
وعندما رجعه البطل إلى الواقع أيقن أن ما رآه لم يكن حلما لأنه قريب مما يراه فى الواقع وأخذ " يملأ عقله وقلبه بأن امرأة فى مكان من شاطئ بلادة الطويل امرأة فى شرخ الصبا والجمال كانت فى تلك اللحظة تواجه الموت غرقا هو يقف مغروسا فى القطران عاجزا عن إنقاذها (33) .
فالقصة نداء للرجل لانه قوام على المرأة بأن يكون له دور ايجابى فى هذه القضية فلو كاشفنا المرأة وكانت صادقة فى الإجابة لقالت لنا ما قالته امرأة الحلم للرجل (أين أنت) مستجدة بالرجل ليثور على التقاليد والعادات التى تقنن هذه العلاقة وتضعها تحت مظلة اجتماعية قاسية وإن كانت رؤية الكاتب السلبية تقر انهزامية البطل وبقاء الأمر على ما هو عليه
_____________
الهوامش
1-د. فرج عبد القادر طه وآخرون : موسوعة علم النفس والتحليل النفسى مرجع سابق ص 115 وهناك ثلاثة مصطلحات لتحديد علاقة الشخص بنفسه وغيره فى المجتمع تتمثل فى ال ( هو )" Id وال (أنا) Ego وال ( أنا الأعلى ) Super Ego – ال (هو) جهاز يمثل الشخصية عند ولادتها قبل أن تحدث لها أية تحويرات أو تعديلات نتيجة لاحتكاكها بالبيئة ولتراكم خبراتها وتجاربها مع الواقع المرجع السابق ص 828 و (الأنا) ينشأ من تعديل الهو نتيجة الاحتكاك بالبيئة والواقع ويعمل الأنا على الحفاظ على الشخصية وحمايتها مما تتعرض له من أخطار واشباع متطلباتها بما لا يتعرض مع الواقع وظروفه ولا مع (الأنا الأعلى) الذى هو جانب من الأنا أصابه التعديل نتيجة اعتناق الشخص لبعض المثل العليا والمعايير التى تأتيه من أبويه ومن يقوم مقامها فى المجتمع انظر المرجع السابق ص 114- 115
2-المرجع نفسه ص 308
3-المرجع نفسه ص 309
4-د. نبيل راغب : موسوعة الفكر الأدبى : الهيئة المصرية العامة للكتاب ط1 1988 ج2 ص14
5-المرجع نفسه ص 8
6-أحمد إبراهيم الفقيه : سأهبك مدينة أخرى ص 13
7-المصدر نفسه ص 15
8-المصدر نفسه ص 21
9-انظر د. فرج عبد القادر وأخرون : المرجع السابق ص 132
10-المصدر نفسه ص 21-22
11-المصدر نفسه ص 230
12-المصدر نفسه نفس الصفحة
14-أحمد الفقيه : نفق تضيئه امرأة واحدة ص 29
15-المصدر نفسه ص 31
16-المصدر نفسه ص 32
17-المصدر نفسه ص 33
18-المصدر نفسه ص 34
19-المصدر نفسه ص 245
20-المصدر نفسه ص 249
21-أحمد الفقيه – ثلاث مجموعات قصصية – مجموعة اختفت النجوم فأين أنت ؟ قصة الرجل الذى لم يشاهد فى حياته نهرا ص 29
22-المصدر نفسه ص 30
23-المصدر نفسه ص 31
34-المصدر نفسه ص 32
35-انظر صلاح عبد الصبور الأعمال الكاملة ديوان أحلام الفارس القديم ط دار العودة بيروت ط 1 1972 القصيدة من ص 263-269
36-أحمد الفقيه : ثلاث مجموعات قصصية مجموعة اختفت النجوم فأين أنت ؟ قصة اختفت النجوم فأين أنت ص 8
37-المصدر نفسه ص 5
38-المصدر نفسه ص 6
39-المصدر نفسه نفس الصفحة
40-المصدر نفسه نفس الصفحة
41-المصدر نفسه ص 7،8
42-المصدر نفسه ص 7
43-المصدر نفسه ص 9
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق