الأربعاء، 12 أغسطس 2015

الاغتراب والحلم في أدب أحمد إبراهيم الفقيه القصصي :الفصل الثانى : 2 - الحلم والمرأة - د . شعبان عبد الحكيم محمد ...


الاغتراب والحلم في أدب أحمد إبراهيم الفقيه القصصي

الفصل الثانى : - 2 - المرأة والحلم 

 د . شعبان عبد الحكيم محمد

   البحث عن المرأة المثال كان هم الفقيه فى ابداعه الأدبى المرأة فى لحظات تألقها وجمالها المرأة لحظات النضارة والتفتح المرأة فى جسدها الدفين بأنواعها ما يشتهى من مفاتن الجنس والنزوة والمرأة فى دعتها ورقتها وأنوثتها وتفهمها للعواطف والمشاعر الدافئة هذه المرأة كانت حلم الفقيه فى ابداعه رأيناها فى ليندا وساندرا فى رواية (سأهبك مدينة أخري) ورأيناها فى نرجس القلوب وبدور فى رواية (هذه تخوم مملكتي)" ورأيناها أيضا فى سناء فى رواية (نفق تضيئه امرأه واحدة) والمرأة المثال مكانها الحلم لا الواقع حتى فى أعمال الكاتب القصصية ذات الطابع الواقعى لا نرى المرأة (المثال) إلا حلما فى خاطر البطل المهزوم فلا يظفر البطل بمحبوبته حتى كما ذكرنا فى أعماله الواقعية كقصة صفحة من كتاب الموتى(1) وفيها يترك الاستاذ عبد الحفيظ (المدرس)" زوجته ليبحث عن فتاه ندية فى نضارة الشباب وشرخ الصبا يهيم بها حبا ولكن فارق السن بينهما وتهور عبد الحفيظ جعله يفتقد القدرة على ضبط عاطفته لذا لم يستطع الفوز بها فانهار معترفا بحبها وفاضحا لنفسه مما جعله اضحوكة لتلاميذه ولزملائه وينتهى الأمر بجنونه .

    ومحمود فى قصة ( هموم صغيرة)(2) يجبر على الزواج من ابنه عمه (عيشه) وبدون علمه تتم الخطوبة ولا يستطيع مواجهة الوالد اللهم إلا بالفرار إلى المدينة بعدما أنذره الوالد بترك البيت لأنه لم ينفذ أوامره فيعيش على ذكرى المحبوبة التى لا يستطيع الوصول اليها طالما أباه والمجتمع رفضا ذلك المرأة المتطلع اليها هى امرأة تتجاوز الظروف الواقعية المحيطة بالبطل وكأن بيئة المجتمع العربى غير صالحة لايجادها ليبحث عنها عبد الله بطل قصة احبينى هذه الليلة فى بيئة غير بيئتنا فعندما ذهب (عبد الله) إلى مؤتمر فى دولة أوربية وفى ملهى ليلى يجد فتى وفتاة يتعانقان ويرقصان فيسقط أمام راقصة الملهى قائلا " أحبينى أرجوك أن تحبينى مرة واحدة (3) ويظل يهذى بالكلام حتى أنه تعبيرا عن ثورته الجامحة ضد المجتمع يرى أن الحب بمن نريد هو الفضيلة وسواه كبيرة الكبائر يقول " من قال ابن الحب ليس فضيلة من قال أنه ليس فضيلة أن يحب الود بنتا وأن يقبل كل منها الأخر وأن يذهبا معا إلى المرقص بل لعل الامتناع عن ذلك هو بعينه ما يبغضه الله وأن أكبر الكبائر أن يمنح الانسان شبابا وحبا فيرفض كافرا بنعمه الله هذا الصبا وهذا الشباب (4) وليس غريبا ما قاله عبد الله هنا فى القصة السابقة فأدب الفقيه القصصى يغمس لنا نظرة المجتمع المريبة للحب والعلاقة بين الرجل والمرأة إلا تحت مظلته وفى منظومة لا تتجاوز قوانيه وشرائعه وقد عبر عن هذه الفكرة الفقيهة فى رواية حقول الرماد بقوله على لسان جميلة إن قوانين المجتمع ترفض أن " تزوج المرأة من الرجل الذى تحب وألا يتزوج الرجل من المرأة التى تحب قانون يعكس ما تريده الطبيعة وما تحتمله شرائع ونواميس الحياة واتفقوا جميعا وامتثلوا لأوامره ونواهيه وزيفوا مشاعرهم من أجل المحافظة على تنفيذه جيلا بعد جيل (5) هذه هى رؤية المجتمع المتعسفة والتزم الناس بها احتراما لهذه العادات والتقاليد لذا اصبح الحب عندهم شيئا غريبا لا يوجد فى قواميسهم فالشعور الذى سيطر على عبد الحفيظ فى قصة (صفحة من كتاب الموتى) نما كالنبات الشيطانى فى صدره بمعزل عن العقل والمنطق والارادة (6) والصادق الليبى فى قصة (الأيام الثلاثة) يصف علاقة الحب التى نشأت بين بشير المغربى ونوال المصرية بأنها مرض يصيب الانسان لثلاثة أيام تماما كالأنفلونزا أو الصداع أو الحمى الخفيفية(7) هذه الرواية لا تخلف وتصور الادب الليبى لهذه القضية ولذا نعى الناقد الليبى سليمان كشلاف على المجتمع هذه الرؤية لأنها تكشف عن تخلف فظيع فى التفكير لدى كابر السن ( وهم سدنه المجتمع هناك) من حيث النظر إلى الأنثى على أنها جهاز تناسلى فقط هو مركز عفتها وبدونه لا تساوى حبه خردل(8) هذه الرؤية كانت من رواء مقتل (هند) فى قصة القمر الأحمر لمجرد أن هام بها منصور وأخذ يتغنى بجمالها فى حفل ليلى وكثرت الأقاويل والاشاعات حول طبيعة العلاقة وقد تكاتف المجتمع فى قتلها لأنها خرجت عن النص فبعدما "ماتت لم يسال أحد الناس كيف ماتت؟ وما الذى حدث لها ؟ لم يكن أحد يستطيع أم يفتح فمه بالسؤال أو يعرف شيئا أكثر من أن هند مرضت فجأة وماتت فجأة ("9) فالمجتمع هو المسؤول عن مقتل هند زمر لأى امرأة تتمرد على تقاليد المجتمع البالية فلا تتحكم فى قلبها وتسلمه لسدنه المجتمع .

   تعج مجموعة (امرأة من ضوء) والتى تعكس لنا هذه الظاهرة فى ابداع الفقيه مرحلة جديدة فى تطور حياة الكاتب الفنية فى تقنياته الفنية حيث استخدام تكنيك تيار الوعى وتحطيم قواعد الزمان والمكان وعدم الوقوف مليا على الوصف الخارجى للأماكن والأشياء المحيطة بالبطل بقدر الاهتمام باستيطان الشخصية من الداخل وإبراز شعورها الدفين فى تفاعلها مع الأحداث والواقع واظهار هذه اللحظات النضرة فى حياتها ففى قصته (امرأة من ضوء) التى اتخذتها المجموعة عنوانا لها يبحث (البطل ) عن عائشة فى ادغال الذاكرة يراها ندية طازجة تموج جمالا وبهاء وشعرها عطرها ثدياها قدها لحظها وهى تمطره قبلات بريئة جميلة عندما تسلل إلى غرفة زينتها استعدادا لساعة الزفاف بزوجها فقد وجد عائشة المرأة المثال أحبها ("طفلة) من أجل الحب رأى فيها كل شئ جميلا لا ينسى كلمتها له ( لا أتزوج غيرك)" يعيش لحظات شبة غيبوبة على انغام هرسها يمتزج الحاضر بالماضى فى الذاكرة وإن فضل الماضى على الحاضر للقائها ولكنه يفيق من نشوته وكعادته ينطلق وحيدا لا يجد عزاءه إلا فى الاغتراب والبعد وجدتنى أبتعد عن القرية وموسيقى العرس حيث الخلاء وكثبان الرمال أنهكنى الاعياء والفرح وطفقت ابكى (10).

  يرجع بعد ذلك إلى الحاضر باحثا عن عائشة ( المثال ) فى باريس ليهيم بامرأة تشبه عائشة أو يرى فيها عائشة يصطحبها فى رحلة غرامية وبعدها إلى غرفة فى الفندق ولكن الواقع لا يمكن أن يعوض عالم الحلم بالمرأة المثال المجسدة فى (عائشة) وينتهى به الأمر بدفعه للسيدة الفرنسية ثمن الصحبة وتركها تمضى لأنه يبحث "عن امرأة أخرى اسمها عائشة" (11) يتداخل الماضى بالحاضر ويتجاوران فى الوعى ويعود الماضى مرة أخرى ليتذكر عائشة ووعودها بعدم الزواج إلا منه وأمه تنهره بأن يذهب ليلعب ولكنه يختلق الاعذار حتى يذهب إلى بيتها ليشفى الغلة برؤيتها ويطغى الحلم عن الواقع فيرى صورتها فى امرأة بحى الاوبرا ولكنه يفيق من حلمه ليجد أن هذه امراه غير عائشة تنتظر عاشقا غيره يستمر الحلم يتخيله لامرأة ( يطلق عليها عائشة) ليلتقيان معا فى بولونيا تتزين له وترتدى لباسا كانت ترتديه عائشة (الفستان المزركش وعليها لحاف قروي) تعطر بعطر الاعشاب البرية ولكن عندما يحاول املاك عائشة بنقل الحلم إلى واقع يتبدد الحلم يقول " ولكن ما أن فتحت عينى حتى وجدت أن عائشة قد تركتنى وغابت (12) ويخرج بشعور يعنى أن المرأة المثال هى بنت عهد الطفولة والبراءة ومن المستحيل الوصول اليها ولقائها لتظل ذكرى دفينة لها لذاذتها بقدر ما أثرت فى أغوار نفسه لاستحالة وجود مثلها يقول ( القصة مروية على لسانه) أجد أن احساس ينمو معى ويكبر كلما كبرت فى العمر والتجربة أننى لا اهتدى ابدا إلى امرأة يمكن أن تمحنى لحظات لها ذات البهجة وات المذاق الذى عرفته وأنا اصافح عائشة أو اعانقها ويعذبنى الشعور بأن تلك العلاقة الطفولية البريئة الساذجة العابرة قد تمنعى من إقامة علاقة حب سوية مع امرأة أخرى وأن الطفل الذى كنته منذ ثلاثين عاما مضت قد يأبى الاستجابة إلى ندائى (13) أنه لن ينسى ذاته القديم زمن الطفولة والبراءة ونضارة المشاعر ليمتزج هذا العهد بعائشة المثال يشكلان معا عالما نورانيا جميلا به يكون للحياة مذاق وطعم (عالم الحلم المثال) .

   تتخذ المرأة المثال اسما أخر غير اسم عائشة فى قصة ( الجنون) وهو اسم فرح ولهذا الاسم دلالته فهو مصدر سعادته وأفراحه أنها البلسم الشافى فينوس اله الحب فى الأساطير وإذا كان المثال محال ولا شك أن تخيل القبض عليه جنون هذا ما وصل اليه البطل ( الذى يروى الاحداث على لسانه) فما أن رأى فتاة جميلة تتفق وحلمة إلا وأسماها (فرح) وبالفعل أقام لها فى حلمه عرسا جميلا يتفق ومكانتها "دعوت اليه أعظم فرق الرقص والموسيقى وكل من أعجبت بهم منم نجوم الاشرطة والمطربين وأخذتها على انغام الموسيقى إلى دارة تحيط بها الحدائق وتطل شرفاتها على البحر وجلست إلى احدى الشرفات أضع رأسى على صدرها وابكى الاعوام التى مضت من عمرى دون أن ارها(14) وظل فى حلمه على المقهى يحتقر النادل لان يفتقد مشاعره الندية ومن ثم لا توجد فى حياته امراه يحلم بها وبالفعل مجرد أن يراها تعبر الطريق إلى متجر يضرب معها فى خيالة موعدا للقائها ويظل يتغنى بهذا اللقاء الذى يشعره بطعم الحياة وقيمتها لانه يبعث الاخضرار فى القلوب المتيبسة أو على حد قوله " أنه اللقاء الذى يمنح وجودنا معنى لولاه لبدأ الكون كله مجرد أضحوكة والحياة ليست سوى أكذوبة ولجأ طائر الموت يطبق على الأرض ويطويها تحت جناحه كالبيضة (15)وأن تلك اللحظة الصغيرة العابرة التى قد توازى دقيقة أو جزءا فى الدقيقة بمقياس الزمن العادى ولكنها قد تكون عمرا بالمقاييس الأخرى(16) إنه الزمن النفسى الذى يقيسه صاحبه بمقياسه الخاص ليتجاوز التوقيت الطبيعى ويلغى عالم المنطق فيرى اللحظة عمرا والعمر لحظة تبعاُ لحالته النفسية أكثر من ذلك يتصور أن الطرف الأخر يستجيب له وتصل به الهلاوس ليتصور استجابة (فرح) لدعوته واللقاء بها ويهم نفسه بموعد القاء فيتأنق فى منظرة وملبسة ليكون جديرا بحبها وعندما رآها تهبط من سيارة توهم أنها قادمة نحوه وأن زيتنها المبهجة تأتى احتفاء به وهنا يتصور نفسه فى لحظة هيامه وتوسله اليها أنها اله (كإله الحب) ليخر راكعا تحت قدميها معترفا لها بالحب ويعد رسالة طويلة تعبر بصدق عن هذه المشاعر ولكن الخجل يجعله يتردد فى اعطائها الرسالة ولكنه سرعان ما يتماسك ويتقدم نحوها يفاجأ بصيحة غريبة من عامل المتجر استهجانا لهذا السلوك يتصبب عرقا ولا يشعر بنفسه إلا قد جاء من يرافقها ويسحبها من يدها ويمشيان نحو السيارة وهنا يفيق من جنونه يقول " انتشلت نفسى من موقفى وأنا أرى هذه المرأة التى اصبحت كل الكون بالنسبة لى تهرب كالشعاع من بين اصابعى واصيح بأعلى صوتى أن تنظرنى ولكن الأمر قد انتهى والسيارة مضت تشق بها زحام الطريق وأنا مسكون بالرعب والجنون أركض خلفها وأهتف باسمها غير عابئ بما أحدثته من ارتباك لحركة المرور أبواق السيارات تنطلق من ورائى وشتائم السائقين تمهر كالمطر على رأسى (17).

   يمتزج الاغتراب والحلم بالمرأة فى قصة العقاب ليجد البطل نفسه غريبا رغم نشأنه فى مدينة طرابلس وعدم مغادرته لهذه المدينة ليتشكل وجدانه بأحيائها وعادات وطقوس أهلها ويصنع علاقات متعددة مع أصحاب له يجمعهم المقهى للثرثرة فى الأدب والسياسة وأمور المجتمع والعمل الذى يعمل به (رئيس قسم الوثائق بحى المنشية) رغم ذلك كله يقول " أجد نفسى غريبا فى شوارعها كأننى أدخل مدينة لم أرها ولم ترنى إلا هذا اليوم (18) معللا لغلظة قلب هذه المدينة بأنها " كبرت وتضخمت وارتدت اقنعة المدة الكبيرة التى لا تظهر عواطفها للناس خاطبت نفسى بمثل هذا الكالم باحثا عن أعذار لمدينى التى تعاملنى هذا المساء معاملة الغرباء (19) لم يجد مكانا يؤويه وسط الزحام والصخب إلا دكانا لبيع مشغولات يدوية يمتلكه صديق قديم تذكره فذهب اليه أملا أن يجده ليقتل معه هذا الوقت الثقيل وعند إحدى طرقات الشارع يفاجأ كم يفاجأ غيرة بامرأة ذات جمال ساحر امرأة أخرى لا تنتمى إلى عالم الواقع فهى أقرب إلى المثال عن الحقيقة والواقع يصف هذه المرأة قائلا " كانت المرأة من ذلك النوع الذى لا نتلقى به فى الحياة قد نراه طيفا على الشاشة وقد نرى صورته على أغلفة المجلات الملونة إنه يستحق أن ينخرط الجميع فى السجود شكرا لله الذى ابدع هذا الجمال (20) جمال يعبد ويقدس ناهيك عن أناقتها وانسجامها لبسها وزينتها مع تقاطيع جسدها وظهور مفاتن جسدها من العنق والصدر والكتفين والشعر الفاحم يتلاحم مع ما ظهر من الجسد الأبيض المرمرى ليظهر التباين الجميل بين سواده ونقاء بشرتها وكأنها أميرة جاءت من مدن الأساطير (21) وإذا كان الحلم كثير ما يكون امتداد لعالم الواقع (جزء من عالم الواقع وأخر من الوهم ) فالقصة تعكس لنا هذا الامتداد بالعلاقة القديمة بين البطل والاستاذ حامد (والاحداث تروى على لسانه)والبطلة (خديجة) منذ عهد سحيق عندما كانت تلميذة حينئذ كان مشرفا على النشاط المدرسى وأعجب بنشاطها وحيويتها ونشر فى احدى الصحف المدرسية صورتها ووصفها بالطفلة المعجزة لقد ترسبت هذه الطفلة فى اللاشعور وهنا تظهر فى الواقع كما يظهر الحلم فى عالم اللاشعور فى لقطات متناثرة لا نجد فيها ارتباطا يكمل بعضه بعضا نجدها تسلم عليه وتذكره بأنه أستاذها سبب شدتها ومحنتها بعد ذلك لموقف ابيها المتشدد من نشاطها وحرمانها من المدرسة لتقوم باعداد المشغولات اليدوية التى تتخذها وسيلة العيش ثم تنقطع عنه بعد ذلك ويظل ينتظر (خديجة) التى لا تأتى كما ننتظر نحن تكمله الحلم عندما نوقظ من نومنا ننام أو نتناوم مرة أخرى علنا نجد تكملته فخديجة أيضا امرأة بعيدة المنال(22) ولكن هيهات هيهات أن يتكرر لقد ظل الاستاذ حامد يعيش على ذاكرها ويتردد كل يوم على سوق المشغولات عله يراها يطارده طيفها الذى كان كما يقول " لا يختفى إلا ليعود من جديد بمجرد أن أختلى بنفسى وقعت أسير هذه الانثى التى رمت شباكها حولى وترطت طيفها يلاحقنى ومنعتنى بأن انشغل بأى شئ أخر سواه (23).

   لقد أدى هيامه بهذه المرأة إلى الجنون لانه ارد ان ينقل عالم الحلم فى الواقع رآها ذات يوم نسج خياله عليها مسحه من القداسة والصفاء أوراد أن يجعل المثال والحلم شيئا ملموسا فأحدث للبطل (الاستاذ حامد) هزة نفسية بقدر أمنيته المتسحيلة ليفقد كل شئ عقلة زوجته عملة ليعيش فى ركن هادئ من السوق منتظرا أملا لا جدوى من انتظاره.

   افتقاد امرأة الحلم فى عالم الواقع مع استحالة العيش بدونها عند الفقيه كان عاملا لاصابة ابطال الفقيه فى كثير من قصصه القصيرة خاصة فى مجموعته (امراه من ضوء ومرايا فينيسيا) بالهلاوس حيث يتوهم البطل فى المرأة المثال التى يقابلها بأنها تسمع إلى افكاره وتشاركه مشاعره وربما تضرب له موعدا وكن فى النهاية لا يمتلكها فتنفر منه كما ينداح الحلم عند محاولة تحويله إلى واقع وان كان الفقيه يلجأ إلى مبرر فنى لعدم اللقاء بها فى عالم الفن مما يعكس لنا استحالة الامساك بهذه المرأة لانها امرأة (مثال ) والمثال موضعه عالم الحلم .

    فى قصته ( المحطة الأخيرة) يلتقى البطل بامرأة فى القطار وهذه بدوره يوحى بقصر رحلتها معه ويجعلها امرأة فوق الواقع لا كل النساء شيء ما حول هذه المرأة كان ينضح اثارة وإغراء وجنسا (24) رغم أنها لا تهتم بزينتها أو ملبسها مما يجعل جمالها مفترسا على حد تعبيره فهى لا تستخدم الروج ، وتربط صدرها النافر بأكثر أنواع الالبسة وقارا وحشمة فلا تتركه يبرز للناظرين ترتدى أكثر الالوان انطفاء (اللون الرمادي) انها المرأة المثال ذات الجمال الخارق جميلة الجوهر والمظهر دون حاجة إلى زينة لذا تصورها مثلما تخيل الرسامون السيدة مريم العذراء تكتسب هالة من القداسة منحتها جمالا هادئا مشعا غريبا وبدت كأنها لا تنتمى إلى عالمنا هى قديسة ترتل انجيلها تؤدى صلاتها فى معبد مهجور يقع على قمم أحد الجبال(25) لقد كانت هذه المرأة مشغولة عنه بالقراءة فى كتاب أخذ الوهم والهلاوس يسيطران عليه لان لا يستطيع الوصول اليها فاخذ يتخيل انكباب العشاق علبها وتحولها غير مكترثة بهم واحدا تلو الاخر رغم الاغراء للفوز بقلبها بالهدايا النفسية ثم توالى فى تصوراته وأوهامه ليتصور زوجها جلفا فى الخمسين من العمر يكبرها بعشرات السنين وانها راجعة من زيارة خالة لها فى الريف وهذه الحالة المرضية للبطل يمتزج فيها الوهم وهو اسقاط ما بداخل ( الفرد ) على الفرد الذى امامه أو الموقف المعنى مفهم أو تفسير له (26) بالهلوسة وفيها يحس الفرد أحاسيس ليس لها مقابل حقيقى فى العالم الخارجى اى ليست وارده من منبهات حقيقة كأن يحس المريض بان شخصا معينا يناديه أو يحدثه وهو فى هذه الحالة يراه أو يسمع صوته يتلقى عنه وينقل اليه يكون المريض فى مثل هذه الحالات مصدقا لكل ما يحس به كالنائم الذى لا يرى حلما فى نومه لكن المريض بالهلوسة يكون فى حالة يقظة ( 27) فالبطل هنا توهم كل هذه الهلاوس فتصورها تعيش حياة مرغمة عليها يضربها زوجها ويعاملها بقسوة حتى فى المعاشرة الجنسية وأنها متزوجة من رجل غير كفء ويمضى فى وهمه وهلاوسه ليحقق لنفسه صحة ما توهمه فى النهاية أن هذا الرجل القميء (زوجها) الذى كان يقول عنه "تصورته جلفا قاسيا قوى البنية واخترت له مهنة عنيفة فهو برغم عينه الواحدة الرجل الثانى فى عصابة كبيرة تشتغل بالتهريب وتجارة المخدرات(28) يرى هذا الرجل بهذه الملامح وهذا القبح ينتظرها فى لنهاية على المحطة لقد تصور لنفسه ولها طريقة للخلاص منه (وذلك بتبليغ رجال الأمن عنه ) وتوهم أيضا أنها ترد عليه بأنه ليس من حقه التدخل فى حياتها كل هذه الهلاوس ما هى إلا تعبير عن ضياع الحب الذى يطلبه من هذه المرأة المثالية فانعكس على تفكيره وخرج عن سويته إلى هذا المرض والقصة تعكس استحالة الحصول على مثل هذه المرأة للتباين الشديد بين عالم الحلم وعالم الواقع بادرته وأن المرأة المنشودة محاطة دائما بكم من الاسلاك الشائكة التى تحول دون الظفر بها لتظل دائما مشتهاة وهذا يعكس لنا ظاهرة الانتظار فى قصصه انتظار البطل للمراة المثال ولكنه انتظار فاشل فى النهاية لانه لا يفوز بها ففى قصته (موعد تحت برج الساعة ينتظر البطل امرأة (الحلم) ويوهم نفسه بضرب موعد معها امرأة لا اعرف اسمها ولا تعرف اسمى انتظر ان تاتى راكضة نحوى تغمرنى بعبق أنوثتها وتمنحنى نصيبا من عطرها وتفسح لى مكانا من دائرة الضوء التى يصنعها جمالها (29) ويصر على وهمه موقنا أن هذا الوهم حقيقة ليس من المستحيل تحويلة إلى واقع فظل متصورا صحة هذا الموعد الذى نسجه من خياله موعد مع امرأة جميلة اتحرق شوقا لان اضع ساعدى حول خصراها وأغسل وجهى بجدائل شعرها وأعبر ليل المدينة وسط قارب يتهادى فوق أمواج حبها (30) وأمام متجر لبيع العاب الاطفال يشاهد امرأة جميلة ابتسم لها ووعدها بلقاء الساعة الخامسة فى الغد تحت برج الساعة وفى نومه يحقق ما يتمناه وما هو مستحيل فى الواقع ليلعب معها فى براءة ويطفئ نار القلب بالقرب منها ليحقق (الحلم) رغباته المكبوتة فى عالم اللاشعور من أثر البيئة القاسية يقول أننى جئت من بيئة صحراوية جعلت رسالتها فى الحياة فى الفصل بين النساء والرجال واننى لم التق طوال حياتى بالمرأة خارج اطار العائلة (31) هذا أوصله إلى حالة من العطش والشوق إلى ممارسة قصة حب فى حرية بعيدا عن قوانين المجتمع يشعر فيها بدفء المشاعر ووجوده العاطفى يقول " سوف أبحث عن هذا الحب حتى القاه سوف ادخل زحام المقاهى والحانات وأقف على أرصفة المحطات اطوف المتاجر استول مواعدا من البائعات أفتش عن امرأة تحبني(31) واخيرا بعد انتظار طويل من الساعة الخامسة حتى الساعة الثامنة جاءته المرأة وما مجيء المرأة التى توهم الموعد معها الا امتداد للحلم فهى لم تأت بدليل انها لم تعاوده المجيء فى اليوم التالى بل ظل يترقب امرأة اخرى يضرب لها مواعدا وتأتيه فهو لم يهنأ بلقاء المرأة وظل يقتات بحلمه والحلم لا يسمن ولا يغنى من جوع لند عاطفة متأججة لا تطفأ يقول أدركت أن جوعى للحب صار جوعا ابديا لن يجد اشباعا مدى العمر لقد ادمنت الانتظار تحت البرج اقف وحيدا أعانى وأتعذب وأرقب ظلى وهو يمتد ويزداد طولا بمحاذاة ظل البرج حتى تغمره ظلمه الليل وأتسلى بإحصاء عدد العشاق الذين ياتون ويذهبون انتظر ان ياتى دورى (32).

    انتظار امرأة الحلم التى بها يكون الحياة قيمتها وجمالها نجده فى قصة مرايا فينسيا والتى اتخذها للمجموعة عنوانا فتأجج العاطفية وسحر جمال المكان ويبعثان على الحلم فمدينة فينسيا لجمالها الساحر مدينة حلم شوارعها المائية تمخر فيها السفن الخرافية تحيطها المبانى الأثرية المزركشة بأبهى الألوان الدكاكين والنافورات والحدائق المبهجة فى ميادينها يتردد عليها السائحون من كل مكان يأتيها المبدعون من شتى أرجاء العالم لان المكان باعث على الابداع هذا المكان الساحر الحالم يكمل بهجته (للبطل) صحبة امرأة كى يتمتع بوقته فى ازهى صورة يتمناها وما إن رأى وهو يطوف فى الميدان " فتاة ترتدى قميصا قطنيا يظهر جمال نهديها وترفع إلى فمها كوب الآيس كريم الذى اضفى توردا على شفتيها ولسانها (33) حتى هام بها وظل يحلم بها ولولا متابعة رجل قبيح المنظر له فى رحلته مما نكد عليه الاستمتاع بجمال المدينة وضياع حبه فالرجل القبيح هنا رمز العقبات التى تقف حائلا امام البطل دون اكمال سعادته بصحبة هذه المرأة ليظل البحث دائما عن المرأة المثال حتى عندما التقى بفتاة فى مكتب لحجز تذاكر الطيران وضرب لها موعدا فى مقهى فلوريان ولكنه عندما وجدها لا تتفق وامرأة الحلم (لبدانه جسمها ) ولم يجد فى نفسه ميولا وقبولا لقضاء وقت معها وعاد إلى غرفته للنوم .

     عندما ضاق الواقع بالكاتب ولم له امرأة الحلم أو مثلها فيه لجأ إلى الفانتاريا لتحقيق حلمه فى قصته (ليلة الاقنعة) بتخلى (بطل القصة) عن هويته وارتدائه قناعا لحيوان متخليا عن صورته الآدمية عله يجد فى عالم الاقنعة وفى ليلة راقصة ما يشفى الغلة ويتفهم مشاعره ففى حقل لاحدى القرى السياحية وضع برنامج لليلة راقصة يرتدى كل رجل وامرأة قناعا مناسبا لى أو لها ولحظ البطل السيئ لا يجد فى الاقنعة والحيوان الذى يرتدى قناعه ويتحرش كل بأنثاه وهنا يبحث البطل (صاحب قناع الحمار) عن انثاه فيتخير فتاة كانت ترتدى (قناع القطة) لانه فيها من المؤهلات الأنثوية للمرأة التى يحلم بها صدر فائر يمشى أمامها وشفتان مكتنزتان تفصل بينهما انفراجه صغيرة وكأنهما فى حالة استعداد لتلقى القبلات وجسم يتدحرج ويصدر دعوة صريحة للدخول فى لعبة الحب (34) إنه يريد أن يطفئ نار القلب المتأجج فى هذا الجو الهولامى بعيد عن صرامة الواقع لتكون ليلة انطلاق وتمتع بالأنثى التى يهواها بدا الحفل بتقليد الاصوات ثم بعد ذلك بالرقص (كل حامل قناع يرقص الرقصة المناسبة للحيوان الذى يحمل قناعه) وهنا يخرج (البطل) عن صورة لندمج ورقصة الحمار " فصار يرفع رأسه إلى أعلى يتنسم الهواء ويقلد الحمار فى حالة هيجانه وهو يركل الارض ويضرب الهواء بحوافره يرفض ويبرطع ويدرس على اقدام الآخرين أو يدرسون على قدمه فلا شئ يهم انه مستمتع بهذه الطبيعة الحيوانية (35) ولجوء الكاتب إلى هذا الجو الفانتازى أتاح لبطله الانطلاق والحرية التى يحنو اليها ويتمناها من حبيبة القلب التى يأبى الواقع أن يوجدها له وبالفعل وجد جوا من الحرية فلم يرتبط كل صاحب قناع بالأنثى التى ترتدى نفس القناع فوجد الاسد يرافق كلبه والثور يعانق سحلية والذئب يبث حبه لدجاحة الخ وهذا اشارة إلى رفض تقاليد الواقع وتأطير العلاقة بين الرجل والمرأة بمستويات الوضع الاجتماعى الذى يحد من اللقاء ومن استمتاع بنشوة الحب فقلما يجد المرء حبيبة القلب من نفس الذى ينتمى اليه .

    وفى غمرة هذا الجو وامتزاج كل صاحب قناع يحب وجد قطته تقفز ويلتهب جسمها حركة واغراء وجنسا فاخذ يرقص بجوارها ويداعبها " واحاطها بذارعيه والصق جسمه واسند رأسه فى رأسها احس بها يدفعه عنها ولكنه ازداد التصاقا بها وحرصا على أن يبقيها فى حضنه تشنج جسمه كله وهو يحتوى جسمها ويمنعها من المقاومة "(36) وإذا كان الرقص يخرج المرء من حالته الطبيعية إلى حالته اللاشعورية اقتنص البطل هذه الفرصة فاقترب من محبوبته والتصق جسمه بجسمها ولكن عندما اراد أن ينقل هذا العالم الفانتازى إلى عالم الواقع بجر قطته خارج القاعة إلى احدى الارائك وجد قطته فى حالة غضب شديد واطلقت صراخا عاليا جعل الحاضرين يهبون لنجدتها فوقف مرتبكا عاجزا عن الكلام (37) حتى فى ارتداء الاقنعة واختلاق الجو الفانتازى لامتلاك المرأة ( الحلم ) لم يتحقق للبطل حمله ليظل البحث عن المرأة المثال حلما لا نهاية له فى عالم الفقيه القصصى .

   ومهما تفنن البطل فى الحصول عليه لا يتسنى له الا ان يعيشه فى عالم الحلم اما الواقع فيستحيل فى ادب الفقيه وهذه حقيقة لا جدال فيها امتلاك المرأة المثال التى يتمناها المرء وهذا تعبير عن مفارقات الحياة العجيبة والغريبة فاعتقد أنه فى العسير أن نجد علاقة حب متكافئة بين رجل وامرأة والمرأة التى نرى فيها المثال للحب ويتمناها القلب قد نجدها زوجة لرجل يفقدها فى معالجة فنية جيدة فى ابداعه وان لم تخل هذه المعالجة من اشكاليات سنقف عليها فى دراستنا لفنيات السرد.

_____________

الهوامش

1-انظر القصة فى ثلاث مجموعات قصصية مجموعة اختفت النجوم فاين انت ؟ ص17 وما بعدها 

2-انظر القصة فى ثلاث مجموعات قصصية مجموعة البحر لا ماء فيه ص178 وما بعدها 

3-انظر أحمد القفيه ثلاث مجموعات قصصية مجموعة اختفت النجوم فاين قصة احبينى هذه الليلة ص 28 

4-المصدر نفسه ص 27

5-أحمد الفقيه : حصول الرماد ص 101 

6-أحمد الفقيه ثلاث مجموعات قصصية مجموعات اختفت النجوم فاين انت ؟ قصة صفحة من كتاب الموتى ص 17 

7-احمد الفقيه ثلاث مجموعات قصصية مجموعة اربطوا احزمة المقاعد قصة الايام الثلاثة ص 124 

8-سليمان كشلاف : دراسات فى القصة الليبية القصيرة طبعة المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والاعلان كتاب الشعب العدد 6 عام 1979 ص 10 وما بين القوسين كلام الباحث 

9-أحمد الفقيه المصدر السابق نفس المجموعة قصة القمر الاحمر ص 108 

10-احمد الفقيه : مجموعة امرأة من ضوء ط المنشأة العامة للنشر والتوزيع والاعلان طرابلس الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية ط1 1985 قصة امرأة من ضوء 10: 11 

11-المصدر نفسه ص12

12-المصدر نفسه ص 18 

13-المصدر نفسه ص 19: 20

14-المصدر نفسه المجوعة نفسها قصة الجنون ص 97 

15-المصدر نفسه ص 100

16-المصدر نفسه ص 101 

17-المصدر نفسه ص 111: 112 

18-أحمد الفقيه : مجموعة مرايا فينسيا قصة العقاب ط دار الشروق القاهرة ط1 1997 ص 91 

19-المصدر نفسه ص 92

20-المصدر نفسه ص 93

21-المصدر نفسه نفس الصفحة 

22-المصدر نفسه ص95

23-المصدر نص 100

24-أحمد الفقيه : مجموعة امرأة من ضوء قصة المحطة الاخيرة ص 46 

25-المصدر نفسه ص50

26-د. فرج عبد القادر طه وآخرون : موسوعة علم النفس والتحليل النفسى ص 850

27-المرجع نفسه ص 827 

28-احمد الفقيه : المصدر السابق ص 52

29-احمد الفقيه : مجموعة مرايا فينسيا قصة موعد تحت برج الساعة ص 55 

30-المصدر نفسه ص 56 

31-المصدر نفسه ص 56: 57 : 58

32-المصدر نفسه ص 62

33-المصدر نفسه – قصة مرايا فينيسيا ص 26

34-أحمد الفقيه : المصدر السابق قصة ليلة الاقنعة ص 79

35-المصدر نفسه ص 80: 81 

36-المصدر نفسه ص 82

37-المصدر نفسه نفس الصفحة

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة