قراءة كتاب جمع الجواهر في المُلَح والنوادر 9
أبي أسحاق إبراهيم الحصري القيرواني
لقد أنسيت أن أمك امرأة !
وقال أبو الحسين كاتبه: وأتيت إليه يوماً وقد مات والدتي فعرفته فبكى، وقال: ماتت كبيرتي ومربيتي، وهو كان أكبر منها بأربعين سنة. ثم قال لغلامه: يا بشرى، قم فجئني بعشرين ديناراً فأتاه بها. فقال: خذها فاشتر بعشرة دنانير كفناً وتصدق بخمسة دنانير على القبر، وأقبل يصرف الخمسة الباقية فيما يحتاج إليه من تجيزها. ثم قال لغلام آخر: امض أنت يا لؤلؤ إلى فلان صاحبنا لا يفوتك يغسلها، فاستحييت منه. وقلت: يا سيدي، ابعث خلفك فلانة جارة لنا تغسلها. قال: يا أبا الحسين، ما تدع عقلك في فرح ولا حزن، كأن حرمك ما هي حرمي ! كيف يدخل عليها من لا نعرفه. قلت: نعم ! تأذن لي بذلك. قال: لا والله ما يغسلها إلا فلان ! فقلت: وكيف يغسل رجل امرأة ؟ قال: وإنما أمك امرأة، والله لقد أنسيت !
خدعنا عابر الرؤيا !
وكان يوماً عند أبي بكر المادراني ثم خرج وهو طيب الخلق، فاجتاز بابن زنبور فسمع خفق أوتار وغناء في داخل الدار، فوقف يسمع؛ فرآه غلام لابن زنبور فدخل فأعلم مولاه فخرج حافياً. وقال: يا مولاي الشريف، تشرفني بالدخول ! قال: نعم، فدخل فقدم له طعاماً فأكل وشرب ثلاثة أقداح وغنى ثلاثة أصوات وانصرف، فنام ليلته فلما أصبح قال: يا بشرى؛ جئني الساعة بأبي شامة العابر، فأتاه به فقال: رأيت البارحة كأني خرجت من دار إخواني فاجتزت بدار حسنة، فسمعت خفق العيدان، وغناء القيان، فخرج إلي صاحب الدار، فأدخلني فأفضيت إلى بستان في الساحة، أمامه نهر جليل، في صدره شاذروان، وقد فرش المجلس بأنواع الديباج المثقل، وضربت ستارة فيها غرائب الصور وعجائب الصنائع، وفيها قيان بأيديهن العيدان وهن يغنين أحسن الأغاني؛ فقدم لي خوان عليه من كل الألوان فأكلت وشرب وغنيت وانصرفت.
ففسر له الرؤيا على ما يسره؛ فأمر له بخمسة دنانير، ثم مر بعد أيام بابن زنبور وهو جالس على باب داره. فقال له: يا سيدي الشريف، ما تشرفني بعودة. قال: إذا ماذا ؟ قال: تثني إلى عادة حضورك. قال: ومتى تقدم إلى ذلك ؟ قال: ليلة كذا. قال: وإنما خدعنا العابر وأخذ متاعنا بالباطل ! امضوا إليه وردوا الخمسة دنانير منه؛ ثم فكر ساعة، وقال: دعوه لعله أنفقها وهو فقير !
تشتمني غائباً وحاضراً
وشرب مرةً أخرى عند ابن زنبور الكاتب ومعه ابن المادراني، وحضر القيان فغنين أطيب غناء؛ فقام الشريف إلى قضاء الحاجة، فأتت دابة ابن المادراني فانصرف، والشريف في الخلاء، فقضى حاجته وعاد إلى موضعه، وكان ابن زنبور لما انصرف أبو بكر رجع في دسته، فالتفت إليه الشريف، وقال: يا أبا بكر؛ هذا الكلب ابن زنبور عنده مثل هذا السماع الطيب، ولا يمتعنا به كل وقت إنما يدعونا من مدة إلى مدة. فقال له ابن زنبور: هو على قدر ما يتفق له من الفراغ وهو مشتغل مع سلطانه في أكثر أيامه. قال: لا والله ! ما هو إلا كلب تجلب فاعل صانع. فقال له: أعز الله الشريف؛ أبو بكر انصرف وأنا ابن زنبور ! فقال له: اعذرني والله ما ظننتك إلا ابن المادراني ؟ فقال: أراك تشتمني غائباً وحاضراً !
أنا أبكر إليك
وقال له بعض أصحاب الإخشيد: أحب أن تبكر إلي بالغداة في حاجة للأمير، أيده الله، وذكر الحاجة. فقال: أنا آتيك أول الناس كلهم، فمضى وأكل وشرب أقداحاً، ونام القائلة فاستيقظ بالعشي، فقام مذعوراً؛ فلبس ثيابه، وركب إلى الرئيس؛ فاستأذن عليه فدخل، وقال: اعذرني أعزك الله فقد ضربني النوم، والله ما صليت الصبح من السرعة، ولقد آثرت المجيء إليك عليها، وأنا أستغفر الله عليها؛ فضحك حتى استلقى. وقال له: قد احتجنا إلى تأخير الأمر إلى الغد إن شاء الله. قال: فأنا أبكر إليك على كل حال، وانصرف.
من ملح الأعراب
قال بعض الرواة: خرجنا نريد البصرة فنزلنا على ماء لبني سعد، فإذا أعرابية نائمة فأنبهناها للصلاة؛ فأتت الماء فوجدته بارداً فتوجهت إلى القبلة قاعدة ولم تمس الماء، فكبرت ثم قالت: اللهم قمت وأنا عجلى، وصليت وأنا كلى؛ فاغفر لي عدد الثرى. قال: فعجبنا وقلنا: ما تجوز لك الصلاة وما هذه بقراءة ! قالت: والله إن هذه لصلاتي منذ أربعين سنة.
(1/104)
وقام أعرابي وقد حضرت الصلاة فقال: حي على العمل الصالح، قد قامت بالفلاح. ثم تقدم فكبر. وقال: اللهم احفظ لي حسبي ونسبي، واردد علي ضالتي، واحفظ هملي، والسلام عليكم.
وصلت أعرابية في شهر رمضان فقرأ الإمام السجدة فسجد وسجدت الناس؛ فخرجت تحضر وتنادي، صعق الناس ورب الكعبة، وقامت القيامة ! وقام أعرابي يصلي وحلفه قوم جلوس، فقال: الله أكبر ! أفلح من هب إلى صلاته، وأخرج الواجب من زكاته، وأطعم المسكين من نخلاته، وحافظ على بعيره وشاته؛ فضحك القوم. فقال: أمن هينمتي ضحكتم ؟ أشهد عند الله على عمتي أنها سمعت ذلك من فيّ مسيلمة.
وقف أعرابي يسأل فقال له رجل: يا أعرابي؛ هل لك في خير مما تطلب ؟ قال: ما هو ؟ قال: أعلمك سورة من القرآن. فقال: لا والله؛ إني لأحسن ما إن عملت به لكفاني !؟ أحسن منه خمس سور، فاستقرأته فقرأ: الحمد، والنصر، والكوثر وسكت. فقلت: هذه ثلاث، فأين الاثنتان؟ قال: إني وهبتهما لابن عمي وعلمته إياهما، ولا والله لا أرجع في شيء أبداً.
دخل أعرابي الحمام فلما أحس بوهجه أنشأ يقول:
أُدخلت في بيت لهم مهندس ... قد ضربوه بالرخام الأملس
فسكّ سمعي واستطار نفسي ... وقلت في نفسي بالتوسوس
أدخلت في النار ولما أُرمس
لأعرابي في الطلاء بالنورة
وقال أعرابي في الطلاء بالنورة:
أناسٌ عليهم كسوة لا تجنّهم ... سرابيل خضر ليس فيها بنائق
يبيعهموها تاجرٌ لا يقيلهم ... ببيعهم تلك السرابيل حاذق
ولكشاجم في ذلك
وقال أبو الفتح كشاجم:
ومجرّد كالسيف أسلم نفسه ... بمجرد يكسوه ما لا ينسج
ثوباً تمزّقه الأنامل رقةً ... ويذوب من نظر العيون وينهج
فكأنه لما استقلّ بجسمه ... نصفان ذا عاجٌ وذا فيروزج
ومن نوادر الأعراب
وهب سليمان بن أبي جعفر لأعرابي كساء شامية؛ فلما أتى أهله وأبصره صبيانه تطايروا فزعاً من بين يديه، وقالوا: لقد أصابت أبانا داهية، فأنشد:
طرحت عمامتي ولبست تاجاً ... على عنقي له ذنبٌ طويل
تصايح صبيتي لمّا رأوه ... وقالوا جاء سعلاةٌ وغول
قيل لأعرابي: أتعرف أبا عمرة يريد الجوع ؟ قال: وكيف لا أعرفه وهو متربع على كبدي؟ وقيل لآخر: أتتخمون ؟ قال: وما التخمة ؟ إن كانت التي يدور منها الرأس فما تفارقنا يريد الجوع.
ومر أعرابي بمرآة ملقاة في مزبلة، فنظر وجهه فيها، فإذا هو سمج بغيض، فرمى بها وقال: ما طرحك أهلك من خير.
ونظر مزيد وجهه في المرآة فرآه قبيحاً. فقال: الحمد لله الذي لم يحمد على المكروه سواه.
والشيء يذكر بما قاربه.
من هجاء الحطيئة
رأى الحطيئة وجهه في بئر فقال:
أرى لي وجهاً قبّح الّله خلقه ... فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله
ولهذا خبر؛ ذكرت الرواة: أن الزبرقان بن بدر استعدى على الحطيئة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: هجاني بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: ما أرى هذا هجاءً؛ وكان أعلم بذلك من كل أحد، ولكنه أراد درء الحدود بالشبهات. فقال الزبرقان: هذا حسان بن ثابت. فقال: علي بحسان، فأنشده الشعر. فقال: ما هجاه يا أمير المؤمنين ولكن سلح عليه ! فأحضر الحطيئة، وقال: هات الشفرة أقطع لسانه ؟ فاستشفع فيه فحبسه، فكتب إليه من الحبس:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمةٍ ... فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم كانت لها الأُثر
فبكى عمر وأحضره. فقال: قد والله يا أمير المؤمنين هجوت أبي وامرأتي وأمي. قال: وكيف ذلك ؟ قال قلت لأبي:
ولقد رأيتك في المنام فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس
وقلت لأمي:
تنحّي فاجلسي مني بعيداً ... أراح اللّه منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سرّاً ... وكانوناً على المتحدّثينا
(1/105)
وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أُطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
واطلعت في بئر فرأيت وجهي قبيحاً فقلت:
أبت شفتاي اليوم إلاّ تكلّما ... بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً قبّح اللّه خلقه ... فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله
فتبسم عمر، وقال: فإن عفونا عنك، أتهجو بعدها أحداً ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، وعلي بذلك عهد الله ! فقال: لكأني بفتىً من قريش قد نصب لك نمرقة، فاتكأت عليها، وأقبلت تنشده في أعراض المسلمين. قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين.
قال بعض الرواة: فوالله لقد رأيته عند عبيد الله بن زياد على الحال التي ذكر عمر، فقلت له: لكأن أمير المؤمنين عمر كان حاضراً لك اليوم، فتأوه. وقال: رحم الله ذلك المرء، فما أصدق فراسته !
من مليح ما قيل في المرآة
ومن مليح ما قيل في مرآة، قول كشاجم يصف مرآة أهداها:
أخت شمس الضحى في الشكل والإش ... راق غير الإعشاء للأجفان
ذات طوق مشرّف من لجينٍ ... أجريت فيه صفرة العقيان
فهو كالهالة المحيطة بالبد ... ر لستّ مضين بعد ثمان
وعلى ظهرها فوارس تلهو ... ببزاةٍ تعدو على غزلان
لك فيها إذا تأمّلت فألٌ ... حسن مخبر بنيل الأماني
لم يكن قبلها في الماء جرم ... حاصرٌ نفسة بغير أوان
هي شمسٌ فإن مثالك يوماً ... لاح فيها فأنتما شمسان
فالقها منك بالّذي ما رآه ... خائفٌ فانثنى بغير أمان
وقال ابن المعتز:
مبيّنتي لي كلّما رمت نظرةً ... وناصحتي مع فقد كلّ صديق
يقابلني منها الذي لا عدمته ... بلجّة ماءٍ وهو غير غريق
أشار في البيت الأول إلى قول ذي الرمة وذكر ناقته:
لها أذنٌ حشرٌ وذفرى أسيلةٌ ... وخدٌّ كمرآة الغريبة أسجح
يريد أن الغريبة لا ناصح لها، فهي تجلو مرآتها وتحافظ عليها.
ابن يونس يصف غلاماً
وقال أبو الحسن بن يونس المصري يصف غلاماً:
يجري النسيم على غلالة خدّه ... وأرقّ منه ما يمرّ عليه
ناولته المرآة ينظر وجهه ... فعكست فتنة ناظريه إليه
وأهدى بعض الكتاب إلى رئيسه مرآة؛ فقال: من أين وقع اختيارك عليها ؟ قال: لتذكرني بها كلما نظرت إلى وجهك الحسن.
بين سقراط وامرأته
وقالت امرأة سقراط له: ما أقبح وجهك ! قال: لولا أنك من المرايا الصدئة لتبين لك حسن وجهي.
وكانت امرأته كثيرة الأذى له؛ أقبلت يوماً تشتمه وهو ملح ينظر في كتاب ولا يلتفت إليها، وهي تغسل ثوباً، فأخذت الغسالة وأراقتها عليه. فقال: ما زلت تبرقين وترعدين حتى أمطرت.
ولما مضي به ليقتل أقبلت تبكي وتصيح: وامظلوماه. فقال: أكان يسرك أن أقتل ظالماً ؟ ومر هو وغيره من الحكماء بامرأة مصلوبة، فقال: ليت يثمر لنا مثل هذا الثمر.
من ملح أبي العيناء
سرق حمر أبي العيناء فتخلف عن أبي الصقر. فقال له: ما خلفك عنا يا أبا عبد الله ؟ قال: سرق حماري. قال: وكيف سرق ؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك ! قال: ما منعك أن تأتينا على غيره. قال: أقعدني عن الشراء قلة ذات يساري، وعن الكراء دالة المكاري، وعن الإعارة منة العواري.
وقيل له: ما بقي أحد يحب أن يلقى، قال: إلا في بئر !
الأنوف الكبيرة
وذكر له ولد عيسى بن موسى، وكانت أنوفهم كباراً معوجة فقال: كأن أنوفهم قبور نصبت على غير القبلة.
ونظر مخنث رجلاً كبير الأنف فيه شعر. فقال: كأن أنفه كنيف مملوء شسوعاً.
قال أبو حاتم السجستاني: قدم علينا أعرابي كأن أنفه كوز في عظمه، فضحكنا منه. فقال: أتضحكون من أنفي ؟ وأنا ولله ما اسمي في قومي إلا الأفطس.
وقال محمد بن عبد الملك الزيات في عيسى بن زينب:
إنّ عيسى أنف أنفه ... أنفه ضعفٌ لضعفه
لو تراه وهو في السر ... ج وقد مال بعطفه
لحسبت الأنف في السر ... ج وعيسى مثل ردفه
رجع إلى ملح أبي العيناء
قال أبو العيناء لابنه وهو مريض: أي شيء تشتهي ؟ قال: اليتم.
(1/106)
وكان في مجلس إسماعيل بن إسحاق القاضي، فدخل رجل ومشى على رجله فصاح؛ فقال: بسم الله ! قال: القصاب يذبح ويقول: بسم الله.
وكان يوماً على بابه فمر به رجل فسلم عليه وقام يمشي معه. فقال: لا تعن يا أبا عبد الله. فقال: ما عنى من أبعدك عن داره ! وقال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في الناس. قال: إن لي في بصري لشغلاً. قال: ذاك أشد لحنقك على أهل العافية.
وقال له المتوكل يوماً: هل رأيت طالبياً قط حسن الوجه ؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً يسأل أعمى عن هذا ! قال: لم تكن ضريراً فيما سلف، وإنما سألتك عما تقدم. قال: نعم ! رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه، ولا ألطف شمائل. فقال المتوكل: نجده كان مؤاجراً وكنت تقود عليه. فقال أبو العيناء: معاذ الله يا أمير المؤمنين أتراني أترك موالي، وأقود على الغرباء ! فقال له المتوكل: اسكت يا مأبون. فقال له: مولى القوم منهم.
وكان ولاء أبي العيناء لأبي العباس، فقال المتوكل: قاتله الله ! أردت أن أشتفي منه فاشتفى مني.
وقال له مرة: كيف أصبحت يا أبا عبد الله ؟ قال: في داء يتمناه الناس.
قيل له: وكم سنك ؟ قال: قبضة. يريد ثلاثاً وتسعين سنة.
ويقال: إن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأساء مخاطبته، فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكل من عمي منهم فهو صحيح النسب. وكان قبل العمى أحول.
قال: ذكرت لبعض القينات فاستظرفتني واستحسنتني على السماع؛ فلما رأتني استقبحتني فقلت لها:
وشاطرة لما رأتني تنكّرت ... وقالت قبيح أحولٌ ما له جسم
فإن تنكري مني احولالاً فإنني ... أريبٌ أديب لا غبيٌّ ولا فدم
فقالت: أنا لم أردك لأوليك ديوان الزمام.
أبو العيناء مع المتوكل
وهذا مجلس له مع المتوكل من طريق الصولي، وله مجالس يدخل الرواة بعضها في بعض. قال الصولي: حدثني أبو العيناء قال: أدخلت على المتوكل، فدعوت له وكلمته فاستحسن كلامي، وقال: بلغني أن فيك بذاء. قلت: يا أمير المؤمنين؛ إن يكن الشر الذي بلغك عني ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله تعالى وذم؛ فقال: نعم العبد إنه أواب. وقال: هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم. وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي اللّه المسامع والفما
وإن كان الشر الذي بلغك عني كفعل العقرب الذي تلدغ النبي والذمي بطبع لا بتمييز؛ فقد صان الله عبدك عن ذلك. قال: بلغني أنك رافضي. قال: وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي. وليس يخلو القوم إن كانوا أرادوا ديناً أو دنيا، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وإيمان من كفروا؛ وإن كانوا أرادوا الدنيا فأنت وآباؤك أمراء لا دين إلا بكم، ولا دنيا إلا معكم. قال: فكيف ترى داري هذه؟ قال: رأيت الناس بنوا دارهم في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. قال: فما تقول في عبيد الله بن يحيى ؟ قال: نعم العبد لله ولك، مقسم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عاد بصلاح ملكك على كل لذة. قال: قد أردتك لمجالستي. قال: أنا رجل محجوب وقد تقدم هذا قال: فوصلني بعشرة آلاف درهم.
وكان نجاح بن سلمة قد ضمن الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك بمال عظيم للمتوكل؛ فاحتال عبيد الله بن يحيى حتى يضمناه بذلك وعاد عليه الأمر، ثم اغتال موسى بن عبد الملك فقتله، فبلغ الأمر المتوكل، فأكبره وهم بالإيقاع بموسى، فتلطف عبيد الله بن يحيى وعمه الفتح بن خاقان حتى سكن غضبه، واتفق ذلك في ولادة المعتز فاشتغل باللهو والسرور بذلك، فدخل أبو العيناء بعد ذلك على المتوكل، وكان واجداً على موسى بن عبد الملك ؟ فقال: ما تقول في نجاح بن سلمة ؟ قال: ما قاله الله عز وجل: فوكزه موسى فقضى عليه. واتصل بذلك بموسى فلقيه عبيد الله بن يحيى. فقال: أيها الوزير، أردت قتلي فلم تجد حيلةً إلا إدخال أبي العيناء على أمير المؤمنين مع عداوته لي؛ فعاتب عبيد الله أبا العيناء على ذلك فقال: ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سريرته فيك، فأمسك عنه.
(1/107)
ثم دخل بعد ذلك على المتوكل. فقال له: كيف كنت بعدي ؟ فقال: في أحوال مختلفة خيرها رؤيتك، وشرها غيبتك. فقال: قد والله اشتقتك. قال: إنما يشتاق العبد ربه؛ لأنه يعتذر عليه لقاء مولاه، وأما السيد فمتى أراد عبده دعاه. فقال له: من أسخى من رأيت ؟ قال ابن أبي دواد. فقال له المتوكل: تأتي إلى رجل قد رفضته فتنسبه إلى السخاء. قال: إن الصدق يا أمير المؤمنين ليس في موضع أنفق منه في مجلسك، وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود؛ لأن البرامكة منسوب إلى الرشيد، وجود الحسن والفضل ابني سهل منسوب إلى المأمون، وجود ابن أبي دواد منسوب إلى المعتصم، وإذا نسبت الناس الفتح بن خاقان وعبيد الله بن يحيى إلى السخاء فذاك سخاؤك يا أمير المؤمنين. قال: صدقت ! فمن أبخل من رأيت ؟ قال: موسى بن عبد الملك. قال: وما رأيت من بخله ؟ قال: رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد، ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة. قال: قد وقعت فيه عندي مرتين، وما أحب ذلك لك؛ فالقه واعتذر إليه، ولا يعلم أني وجهت بك. قال: يا أمير المؤمنين؛ تستكتمني بحضرة ألف. قال: لن تخاف. قال: علي الاحتراس من الخوف. وسار إلى موسى، فاعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه وافترقا عن صلح، فلقيه بعد أيام بالجعفري فقال له: يا أبا عبد الله؛ قد اصطلحنا، فما لك لا تأتينا ؟ قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس. قال موسى: ما أرانا إلا كما كنا.
وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك. فقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وقال له: إن جماعة الكتاب يلومونك. فقال:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليّ لئامها
ومن نوادره
ووقف به رجل من العامة فأحس به. فقال: من هذا ؟ قال: رجل من بني آدم، قال: مرحباً بك، أطال الله بقاءك، وبقيت في الدنيا، ما أظن هذا النسل إلا قد انقطع.
وزحمه رجل على حمار بالجسر، فضرب بيده على أذن الحمار. وقال: يا إنسان، قل للحمار الذي فوقك يقول: الطريق ! وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق فقال: لو كان في بني إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره. قيل: فأخوه عمر ؟ قال: كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. قيل: فما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم ؟ قال: هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما.
وقال له ابن مكرم: إن ابن الكلبي تعجبه الرائحة الخبيثة، قال: يا سيدي؛ لو وجدك لترشفك.
ودعا ضريراً يعشيه فلم يدع شيئاً إلا أكله. فقال له: يا هذا؛ دعوتك رحمة، فصيرتني رحمة.
وقدم إليه أبو عيسى بن المتوكل سكباجة، فجعل لا تقع يده إلا على عظم. فقال: جعلت فداك، هذه قدر أو قبر ؟
قصيدة لابن طباطبا في دعوة
وهذا كلما ذكر ابن طباطبا العلوي وقد دعاه بعض إخوانه فتأخر عنه الطعام إلى أن اشتد به الجوع، ثم قدم إليه جدياً هزيلاً فقال:
يا دعوة مغبّرةً قاتمة ... كأنها من سفرة قادمه
قد قدّموا فيها مسيحيةً ... أضحت على إسلامها نادمه
وبعد شطرنجية لم تزل ... أيدٍ وأيدٍ حولها حائمه
فلم نزل في لعبها ساعةً ... ثم رفعناها على قائمه
وكرر الأرز، فقال:
أرزٌّ جاء يتبعه أرزّ ... هو الإيطاء يتّخذ اتخاذا
فإيطاء القريض كما علمنا ... وإيطاء الطعام يكون هذا
فدعا الرجل جماعةً من الشطرنجيين، وقال: تعالوا حتى تروا الشطرنجية، فكتب إليه:
ورقعةٍ كنّا رفعناها ... نشرتها لمّا طويناها
أعددت للعاب شطرنجها ... لو أمكن القمر قمرناها
واللّه لو أحضرتها زيريا ... ما ميّز الفرزان والشّاها
الإيطاء
والإيطاء تكرار القوافي بتكرار معانيها، كقول امرىء القيس:
عظيم طويل مطمئنٌّ كأنّه ... بأسفل ذي ماوان سرحة مرقب
وليس بإيطاء قول الأمير أبي الفضل عبيد الله الميكالي:
وكل غنىً يتيه به غنيٌّ ... فمرتجع بموتٍ أو زوال
وهب جدّي طوى لي الأرض طرّاً ... أليس الموت يزوي ما زوى لي
وقوله:
أخوك من إن كنت في ... بؤسى ونعمى عادلك
(1/108)
وإن بداك منعماً ... بالبرّ منه عادلك
وقوله:
جامل الناس في المزا ... ح وخلّ المزاحمه
وتفاصح وقل لمن ... يتعاطى المزاح مه ؟
الطعام والموائد
وعلى ذكر الطعام. قال الجماز: جاءنا فلان بمائدة كأنها زمن البرامكة على العفاة؛ ثم جاءنا بشراب كأنه دمعة اليتيم على باب القاضي:
قد جنّ أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
وقال ابن الرومي يصف طعاماً أكله عند أبي بكر الباقطاني:
وسميطة صفراء ديناريّة ... ثمناً ولوناً زفّها لك حزور
عظمت فكادت أن تكون أوزّة ... وهوت فكاد إهابها يتفطّر
ظلنا نقشّر جلدها عن لحمها ... وكأنّ تبراً عن لجين يقشر
وتقدّمتها قبل ذاك ثرائدٌ ... مثل الرياض بمثلهن يصدّر
ومرقّقات كلّهنّ مزخرفٌ ... بالبيض منها ملبس ومدثّر
وأتت قطائف بعد ذاك لطائفٌ ... ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر
ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها ... دمع العيون من الدهان يعصّر
ومن ملح ما قيل في القطائف، قول علي بن يحيى بن منصور بن المنجم:
قطائف قد حشيت باللّوز ... والسكر الماذيّ حشو الموز
تسبح في آذيّ دهن الجوز ... سررت لمّا وقعت في حوزي
سرور عبّاس بقرب فوز
ولم يقل أحد في اللوزينج أحسن من قول ابن الرومي:
لا يخطئني منك لوزينجٌ ... إذا بدا أعجب أو عجّبا
لم تغلق الشهوة أبوابها ... إلا أبت زلفاه أن يحجبا
لو شاء أن يذهب في صخرة ... لسهّل الطيّب له مذهبا
يدور بالنّفخة في جامه ... دوراً ترى الدّهن له لولبا
عاون فيه منظرٌ مخبراً ... مستحسنٌ ساعد مستعذبا
مستكثف الحشو ولكنّه ... أرقّ قشراً من نسيم الصّبا
كأنما قدّت جلابيبه ... من أعين القطر إذا قبّبا
يخال من رقة خرشائه ... شارك في الأجنحة الجندبا
لو أنه صوّر من خبزه ... ثغرٌ لكان الواضح الأشنبا
من كل بيضاء يودّ الفتى ... أن يجعل الكفّ لها مركبا
مدهونة زرقاء مدفونة ... شهباء تحكي الأزرق الأشهبا
ملذّ عين وفم حسّنت ... وطيّبت حتى صبا من صبا
ذيق له اللّوز فما مرّة ... مرّت على الذائق إلاّ أبى
وانتقد السكّر نقّاده ... وشاوروا في نقده المذهبا
فلا إذا العين رأته نبت ... ولا إذا الضرس علاه نبا
لا تنكروا الإدلال من وامق ... وجّه تلقاءكم المطلبا
هذه الأبيات يقولها في قصيدة طويلة يمدح بها أبا العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن بشر المرثدي ويهنيه بابن له ولد، أولها:
بدرٌ وشمس ولدا كوكبا ... أقسمت باللّه لقد أنجبا
وقال أبو عثمان الناجم: دخلت على أبي الحسن وهو يعمل هذه القصيدة؛ فقلت له: لو تفاءلت لأبي العباس بسبعة من الولد؛ لأن عباس يجيء منكوساً سابع، فلو تصور ذلك لجاء المعنى ظريفاً؛ فقال بديهاً:
وقد تفاءلت له زاجراً ... كنيته لا زاجراً ثعلبا
إنّي تأمّلت له كنيةً ... إذا بدا مقلوبها أعجبا
يصوغها العكس أبا سابع ... وذاك فأل لم يعد معطبا
وقد أتاه منهم واحدٌ ... فلننتظرهم ستّة غيّبا
في مدةٍ تغمرها نعمة ... يجعلها اللّه له ترتبا
حتى تراه جالساً بينهم ... أجلّ من رضوى ومن كبكبا
كالبدر وافى الأرض من نوره ... بين نجوم سبعة فاختبا
وليشكر الناجم عن هذه ... فإنّها من بعض ما بوّبا
أسدى وألحمت فتىً لم أزل ... أشكر ما أسدى وما سبّبا
وقال يصف الرؤوس والرغفان:
ما إن رأينا من طعامٍ حاضر ... نعتدّه لفجاءة الزوّار
(1/109)
كمهيئين من الطعام أصبحا ... شبهاً من الأبرار والفجّار
روس وأرغفة ضخام فخمة ... قد أخرجت من جاحم فوّار
كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا ... مقرونة بوجوه أهل النار
ومن تشابيهه العقم:
ما أنس لا أنس خبّازاً مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللّمع بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرةً ... وبين رؤيته قوراء كالقمر
إلاّ بمقدار ما تنداح دائرةٌ ... في صحفة الماء يرمى فيه بالحجر
وكان ابن الرومي منهوماً في المآكل وهي التي قتلته، وكان معجباً بالسمك، فوعده أبو العباس المرثدي أن يبعث إليه كل يوم بوظيفة لا يقطعها، فبعث إليه منه يوم سبت ثم قطعه، فكتب إليه:
ما لحيتاننا جفتنا وأنّى ... أخلف الزائرون منتظريهم
جاء في السبت زورهم فأتينا ... من حفاظٍ عليه ما يكفيهم
وجعلناه يوم عيد عظيمٍ ... فكأنّا اليهود أو نحكيهم
وأرهم مصمّمين على الهج ... ر فلم يسخطون من يرضيهم
قد سبتنا فما أتتنا وكانوا ... يوم لا يسبتون لا تأتيهم
فاتصل ذلك بالناجم فكتب إليه:
أبا حسنٍ أنت من لا تزا ... ل يحمد في الفضل رجحانه
فكم تحسن الظنّ بالمرثديّ ... وقد قلّل اللّه إحسانه
ألم تدر أن الفتى كالسراب م ... إذا وعد الخير إخوانه
وبحر السراب يفوت الطلوب م ... فقل في طلابك حيتانه
وخرج ابن الرومي مع بعض إخوانه في حداثته إلى بعض المتنزهات، وقصدوا كرماً رازقياً، فشربوا هناك عامة يومهم، وكانوا يتهمونه في الشعر. فقالوا: إن كان ما تنشدنا لك فقل في هذا شيئاً. فقال: لا تريموا حتى أقول، ثم أنشد بديهاً:
ورازقيّ مخطف الخصور ... كأنّه مخازن البلّور
قد ضمّنت مسكاً إلى الشطور ... وفي الأعالي ماء وردٍ جوري
لم يبق من وهج الحرور ... إلاّ ضياء في ظروف نور
لو أنه يبقى على الدهور ... قرّط آذان الحسان الحور
بلا مزيد وبلا شذور ... له مذاق العسل المشور
وبرد مسّ الخصر المقرور ... ونكهة المسك مع الكافور
ورقة الماء على الصدور ... باكرته والطير في الوكور
بفتيةٍ من ولد المنصور ... أملأُ للعين من البدور
حتى أتينا خيمة الناطور ... قبل ارتفاع الشمس للذرور
فانحطّ كالطاوي من الصقور ... بطاعة الراغب لا المقهور
والحرّ عبد الحلب المشطور ... حتى أتانا بضروع حور
مملوءة من عسلٍ محصور ... والطّلّ مثل اللؤلؤ المنثور
ينساب مثل الحية المذعور ... بين سماطي شجرٍ مسطور
ناهيك للعنقود من ظهور ... فنيلت الأوطار في سرور
وكل ما يقضى من الأمور ... تعلّةٌ من يومنا المنظور
ومتعةٌ من متع الغرور
استوت بديهته وفكرته
قال الناجم: جلست معه على باب داره وقد أبل من علة، فمر بنا الحاجب، فقال: قوما عندي نتحدث اليوم، وعندي مصوص وأشياء لطيفة لا تضرك؛ وأشرب مع أبي عثمان بحضرتك ونتآنس يومنا.
فقال: إنا نأتيك الساعة وأبو عثمان فامض ونحن في أثرك؛ فمضى ولحقناه فحجب عنا، فانصرفنا وأبو الحسن مغضب، فدخلت على أبي الحسن في ذلك اليوم، فوجدت بين يديه قصيدة طويلة جداً أولها:
نجذاك يابن الحاجب الحاجب ... وأين ينجو منّي الهارب
فعجبت من سرعة عمله. وقلت: أعزك الله؛ متى عملتها ؟ قال: الساعة. قلت: وأين مسودتها ؟ قال: هي هذه. قلت: وما فيها حرف مصلح. قال: قد استوت بديهتي وفكرتي، فما أعمل شيئاً فأكاد أصلحه.
سبب موته
(1/110)
وكان سبب موته أنه كان منقطعاً إلى القاسم بن عبيد الله بن وهب؛ وكان القاسم مغرماً بشعرهن مستظرفاً له، محسناً إليه. فقال له أبوه: قد أردت أن أرى من روميك هذا ؟ فأحضره وحضر أبوه، فلما انفض المجلس قال له: كيف رأيته ؟ قال: أرى ما يسوءني ولا يسرني، أرى رجلاً صحيح الشعر، سقيم العقل، ومثل هذا لا تؤمن بوادره؛ وأقل غضبة يغضبها تبقي في أعراضنا ما لا يغسله الدهر، والرأي إبعاده، قال: وكيف ذلك بعد اتصاله ؟ أخاف أن يظهر ما أضمره، قال: يا بني؛ اتبع فيه قول أبي حية:
يقلن لها في السرّ هديك لا يرح ... صحيحاً وإلاّ تقتليه فألمم
فأخبر القاسم بقول أبيه ابن فراس، وكان أشد الناس عداوةً لابن الرومي. فقال: إنما أشار عليك باغتياله، وأنا أكفيك أمره، فسم له لوزينجة وقدم له الجام وهي في أعلاه، فلما تناولها أحس بالموت ونهض قائماً. فقال له: إلى أين يا أبا الحسن ؟ قال: إلى حيث أرسلتني. قال: اصرفوه، فقد غلب عليه السكر؛ فخرج وهو لما به؛ فلقي الناجم فقال:
أبا عثمان أنت عميد قومك ... وجودك للعشيرة دون لؤمك
تمتّع من أخيك فما أراه ... يراك ولا تراه بعد يومك
وكان شديد التغير، سريع الانقلاب، ضيق الصدر، قليل الصبر، مفرط الطيرة غالياً فيها، وكان عظيم التخوف، كثير التجسس؛ يراه من يلقاه كالمتوجس المذعور.
شدة خوفه
ذكر بعض أصحابه قال: كنت أسايره ونحن سائرون، فلم أنشب أن تراءيته قد ترجل عن دابته بسرعة، ولجأ إلى بعض الدكاكين وأسلم الدابة؛ فأمرت من أمسكها وأتيت إليه فقلت: ما بالك يا أبا الحسن ؟ وإذا هو يضطرب اضطراباً شديداً؛ فأمسكت عنه حتى سكن وقام فركب الدابة. فقلت له: ما الذي هاجك ؟ قال: أما ترى ذاك ؟ وإذا برجل من العامة يحمل ذوبينا وهي عصا في طرفها حديد بشعبتين. فقلت: أراه. فقال: أوما ترى البركار الذي بيده، ما يؤمنني أن يلويه على عنقي فيفتله.
وحكي عنه: أنه سأل الموفق أو غيره في قدح محكم رآه فأعجبه فوهبه إياه. قال بعض إخوانه: وكنت معه، وقد خرج من دار السلطان، فوضعه على رأسه ثم أزاله بسرعة ثم وضعه على ركبته، ثم رمى به فكسره. فقلت له: ما هذا الخاطر الفاسد ؟ قال: وصل إلي هذا القدح وما على وجه الأرض أحب إلي منه، فوضعته على أشرف أعضائي ! ثم ذكرت قول بعض الحكماء: إن الصاعقة إذا قابلت الشيء الشفاف انحدرت إليه، فخفت أن تقع علي صاعقة فتهلكني، ثم وضعته على ركبتي، فخفت أن تصدمني دابة فينكسر فيدخل في جسمي فيكون سبب علة مزمنة، وخفت أن يكون الذي دعاني إلى طلبه ما أراده الله بي، فرأيت الراحة في كسره.
حكايات عن تطيره
وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في أيام ابن أبي أوفى شاباً مترفاً، وأديباً مستظرفاً، وكان يعبث به فيقرع عليه الباب. فيقال له: من بالباب ؟ فيقول: قولوا لأبي الحسن: مرة بن حنظلة؛ فيتطير لقوله ويقيم أياماً لا يخرج من داره، وكان ذلك سبب هجائه إياه.
وقرع عليه الباب يوماً وقيل: إن البحتري وجه إليه من قرع عليه بابه فقال: من هذا ؟ فقال: سخطة الحي القيوم، والمهل والغسلين والزقوم، والشيطان الرجيم، وكل بلاء كان أو يكون، إلى يوم الدين؛ فأقام مدةً لم يخرج، فسأل عنه الموفق، فقيل: هو في حبس البحتري !
(1/111)
وتخلف أياماً عن بعض الأشراف بسبب طيرة عرضت له، فبعث إليه غلاماً جميلاً فقرع الباب. فقيل: من ؟ قال: إقبال؛ فخرج فرأى وجهاً مستحسن الصورة حسن الهيئة. فقال له: مولاي يرغب في حضورك، فمشى معه ثم توجس وبقي باهتاً مطرقاً لا ينصرف، ثم مشى قليلاً؛ فلما قارب الجسر انفتل بسرعة شديدة، ثم مضى على وجهه إلى داره، فأغلق الباب على نفسه، وكتب إلى الرجل: تخلفت أطال الله بقاءك عن حظي من لقائك، لاعدمته لي أياماً، وأنا أتقلى على جماجم الضجر، بما جرى به القدر، من كلام سمعته وأمر توقعته؛ فأتاني غلام جميل اسمه إقبال؛ فقلت: هذا حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالاً إذا نكس كان لا بقاء ! فقلت: هذا حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالاً إذا نكس كان لا بقاء ! فقلت: هذا من ذاك؛ فمشيت معه مقدماً رجلاً ومؤخراً أخرى حتى صرت بالجسر، فرأيت حبالاً مفتولة قد التوت، فصار كل واحد منها في صورة لام ألف، فقلت: هذه تحقق ما ظننت من لا بقاء بقولها: لا لا، فما حصلت في الدار، إلا بعد خوف مضي المقدار، فابسط العذر في التأخر، والسلام.
وقال علي بن إبراهيم كاتب مسرور البلخي: كنت بداري جالساً بباب الشعير على أسرة نصبت لي في صحن الدار؛ فإذا حجارة قد سقطت علي، فبادرت هارباً، وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا ؟ فقال لي: امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد أشرفت وقالت: اتقوا الله فينا، واسقونا جرةً من الماء وإلا هلكنا؛ فقد مات من عندنا عطشاً؛ فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة بأن تصعد إليها وتخاطبها ففعلت. وبادرت بالجرة وأتبعتها بشيء من المأكول. ثم عادت وقالت: ذكرت المرأة أن الباب مقفل عليها منذ ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي، وأنه يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح بيده، ثم يضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع على جار له كان نازلاً بإزائه، وكان أعور يقعد كل غداة على بابه؛ فإذا رآه رجع وخلع ثيابه. وقال: لا يفتح أحد الباب. فعجبت من حديثها؛ وبعثت بخادم لي كان يعرفه فأمرته بأن يجلس بإزاء بابه، وكانت العين تميل إليه. وتقدمت إلى بعض غلماني أن يدعو الجار الأعور؛ فلما حضر عندي أدى الغلام إلى ابن الرومي رسالتي يستدعيه الحضور، فإني لجالس وعندي الأعور إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة المسوس صاحب المعتضد؛ ودخل ابن الرومي فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع نعله فدخل مذعوراً، وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظراً يدل على تغير حاله، فدخل وهو لا يرى جاره المتطير منه. فقلت له: يا أبا الحسن، ما لك ؟ أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل ؟ فقال: قد لحقني ما رأيت من العثرة؛ لأني فكرت أن به عاهةً وهي قطع أنثييه. فقال برذعة: وشيخنا يتطير ؟ قلت: نعم ! ويفرط. قال: ومن هو؟ قلت: أبو الحسن بن الرومي. قال: الشاعر ؟ قلت: نعم ! فأقبل عليه وأنشده:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعت على نفسي فوطّنتها على ... ركوب جميل الصّبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفةٌ بالمصائب
فخذ خلسةً من كل يوم تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر الفأل والزّجر واطّرح ... تطيّر دارٍ أو تفاؤل صاحب
فبقي ابن الرومي باهتاً؛ ولم أدر أنه شغل قلبه بحفظ ما أنشده، ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومي ألا يتطير أبداً من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره. فقلت: وهذا الفكر أيضاً من التطير، فأمسك. وعجب من جودة الشعر ومعناه في حسن مأتاه. فقلت له: ليتنا كتبناه. فقال: اكتبه فقد حفظته، وأملاه علي.
ومن الدليل على شدة حذره وعظم تطيره
ومن الدليل على شدة حذره، وعظم تطير، قوله لأبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة، وقد ندبه إلى الخروج وركوب دجلة:
حضضت على حطبي لناري فلا تدع، ... لك الخير، تحذيري شرار المحاطب
ومن يلق ما لاقيت من كلّ مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
أذاقتني الأسفار ما كرّه الغنى ... إليّ وأغراني برفض المطالب
(1/112)
ومن نكبةٍ لاقيتها بعد نكبةٍ ... رهبت اعتساف الأرض ذات المناكب
وصبري على الإقتار أيسر محملاً ... عليّ من التغرير بعد التجارب
لقيت من البرّ التباريح بعدما ... لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيت على ريٍّ به ألف مطرةٍ ... شغفت لبغضيها بحبّ المجادب
ولم أسقها بل ساقها لمكيدتي ... تحامق دهرٍ جدّ بي كالملاعب
أبي أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمت ... برحلي أتاها بالغيوث السواكب
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلّة ... تمايل صاحبها تمايل شارب
فملت إلى خانٍ مرثٍّ بناؤه ... مميل غريق الثوب لهفان لاغب
فما زلت في خوف وجوع ووحشة ... وفي سهرٍ يستغرق الليل واصب
يؤرّقني سقفٌ كأني تحته ... من الوكف تحت المدجنات الهواضب
تراه إذا ما الطين أثقل متنه ... تصرّ نواحيه صرير الجنادب
وكم خان سفرٍ خان فانقضّ فوقهم ... كما انقضّ صقر الدجن فوق الأرانب
وما زال ضاحي البرّ يضرب أهله ... بسوطي عذابٍ جامدٍ بعد ذائب
ألا ربّ نارٍ بالفضاء اصطليتها ... من الضّحّ يودي لفحها بالحواجب
فدع عنك ذكر البرّ، إنّي رأيته ... لمن خاف هول البحر شرّ المهاوب
وما زال يبغيني الحتوف موارباً ... يحوم على قتلي وغير موارب
فطوراً يغاديني بلصّ مصلّت ... وطوراً يمسّيني بورد المشارب
وأما بلاء البحر عندي فإنه ... طواني على روع مع الرّوح واقب
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بعضه ... ولكنّه من هوله غير ثائب
ولم لا ولو أُلقيت فيه وصخرةً ... لوافيت منه القعر أول راسب
ولم أتعلّم قطّ من ذي سباحةٍ ... سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب
فأيسر إشفاقي من الماء أنني ... أمرّ به في الكوز مرّ المجانب
وأخشى الرّدى منه على نفس شاربٍ ... فكيف بأمنيه على نفس راكب
أظلّ إذا هزّته ريحٌ ولألأت ... له الشمس أمواجاً طوال الغوارب
كأني أرى فيهنّ فرسان بهمة ... يليحون نحوي بالسيوف القواضب
فإن قلت لي قد يركب اليمّ طامياً ... ودجلة عند اليمّ بعض المذانب
لدجلة خبٌّ ليس لليمّ، إنها ... ترائي بحلم تحته جهل واثب
وللبحر إنذار بعرض متونه ... وما فيه من آذيّه المتراكب
من الطرائف
قيل لقينة: صوم يوم عرفة كفارة ذنوب سنة؛ فصامت إلى الظهر وأفطرت. فقيل لها: ما هذا ؟ قالت: يكفيني ستة أشهر.
قعد رجل على باب داره، فأتاه سائل يسأله. فقال له: اجلس، ثم صاح بجارية عند فقال: ادفعي إلى هذا مكوكاً من حنطة. قالت: ما بقي عندنا حنطة. قال: فأعطيه درهماً. قالت: ما بقي عندنا دراهم. قال: فأطعميه رغيفاً. قالت: وما عندنا رغيف، فالتفت إليه وقال: انصرف يابن الفاعلة. فقال السائل: سبحان الله تحرمني وتشتمني ! قال: أحببت أن تنصرف وأنت مأجور.
ورأى أعرابي الناس بمكة وكل واحد يتصدق ويعتق ما أمكنه. فقال: يا رب، أنت تعلم أنه لا مال لي، وأشهدك أن امرأتي طالق لوجهك يا أرحم الراحمين ! وكان في زمن المهدي رجل ادعى النبوة فأحضروه إلى المهدي. فقال له: ما أنت ؟ قال: نبي. قال: إلى من بعثت ؟ فقال له: ما أكثر فضولك ! إيش عليك ؟ قال: قل، وإلا أمرت بقتلك. قال: بعثت إلى أهل خراسان. قال: ولم لم تسافر إليهم ؟ قال: ما معي نفقة، فضحك منه وأمر له بنفقة، وقال: هذا قد غلبت عليه المرة.
وجاء رجل إلى أبي ضمضم يستعدي على رجل في دابة اشتراها منه، وظهر بها عيب. فقال له أبو ضمضم: وما عيبها ؟ قال: في أصل ذنبها مثل الرمانة، وفي ظهرها مثل التفاحة، وفي عجيزتها مثل الجوزة، وفي بطنها مثل الموزة، وفي حلقها مثل الأترنجة. فقال له أبو ضمضم: مر عنا يا بارد، هذه صفة بستان ليست بصفة دابة.
(1/113)
شرب ابن حمدون النديم مع المتوكل وبحضرته غلام مليح الوجه؛ فتأمله ابن حمدون تأملاً شديداً، وقد حمل الشراب إليه. فقال المتوكل: يابن حمدون، ما الحكم في الرجل إذا نظر إلى غلام فتى ؟ قال: أن تقطع أذنه. قال: ليحكم عليك بحكمك، فأمر أن تعرك أذنه حتى تخضر ثم تقطع، وأمر بنفيه إلى بغداد. فلقيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي بها فسأله عن حاله، وعمن ينادم المتوكل معه. فقال: أحد ندمائه ابن عمرو البازيار؛ فسأله إسحاق عن محله من العلم والفهم. فقال له: أكثر ما يقول للخليفة؛ أبقاك الله يا أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير. فقال له إسحاق: اعمل على أنه كان لك كر آذان فقطعت؛ أليس ذلك أسهل من حضور مجلس تقاسي فيه ابن عمرو البازيار.
وكان ابن حمدون أخف الناس روحاً وأحلاهم دعابةً، وكان المتوكل يستملحه. فقال يوماً: الزئبق من أين يجاء به ؟ فقال ابن حمدون: من الشيز، وأنا أعرف الناس بها. قال: قد وليتك إياها فاخرج إليها، فضاقت به الدنيا، وأنشده:
ولاية الشيز عزلٌ ... والعزل عنها ولايه
فولّني العزل عنها ... إن كنت بي ذا عنايه
فضحك المتوكل وأعفاه. وذكر الصولي أن أخاه أحمد عمل له البيتين.
بين أبي العيناء وابن الزيات
دخل أبو العيناء على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، فجعل لا يكلمه إلا بأطرافه. فقال: إن من حق نعمة الله عليك، لما قد أهلك له في هذه الحال التي أنت عليها، أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك؛ فبقضاء الحاجات تدوم النعم.
فقال محمد: أما إني أعرفك فضولياً كثير الكلام، أوترى أن طول لسانك يمنع مع أن أؤدبك إذا زللت؛ وأمر به إلى الحبس.
فكتب إليه من الحبس: قد علمت أن الحبس لم يكن تقدم إليك، ولكنك أحببت أن تريني مقدار قدرتك علي؛ لأن كل جديد يستلذ؛ ولا بأس أن تريني من عفوك مثلما أريتنا من قدرتك، فأمر بإطلاقه.
وانقطع عنه مدةً فلقيه، فحبس محمد بن عبد الملك دابته عليه. فقال: ما لي لا أراك يا أبا عبد الله تواصلنا حسب إيجابنا لك ؟ فقال له أبو العيناء: أما المعرفة بعنايتك فمناكرة، ولكنني أحسب الذي جدد استبطاءك فراغ حبسك ممن كان فيه، فأحببت أن تغمرني فيه.
لؤم ابن الزيات
وكان محمد بن عبد الملك على علمه وأدبه ألأم الناس، فمن عجيب لؤمه أنه كان له جار في انخفاض حاله، وكان بينهما ما يكون بين الجيران من التباعد؛ فلما بلغ محمد ما بلغ شخص الرجل إلى سر من رأى، فورد بابه وهو يتغدى، فوصل إليه وهو على طعامه، فتركه قائماً لا يرفع طرفه إليه، فلما فرغ من أكله قال: ما خبرك ؟ قال: قد أصارك الله أيها الوزير إلى أجل الآمال فيك، وصرف أعناق الناس إليك، وقد علمت ما كنت تنقمه علي، وقد غير الدهر حالي؛ فوردت إليك مستقيلاً عثراتي، مستعطفاً على خلاتي.
فقال له: قد علمت هذا، فانصرف وعد إلي في غد. فولى الرجل؛ فلما صار في صحن الدار دعا به، فلما صار بين قال له: والله ما لك عندي شيء، ثم أقبل على بعض من كان بين يديه، فقال: إنما رددته وآيسته بخلاً عليه بفسحة الأمل بقية يومه.
وهذا كقول بعضهم:
إن قلت إنّك كالسحاب لكان ذا ... وصفاً لمثلك زائداً في الحال
إنّ السحاب لذو مواعد جمّةٍ ... وبخلت بالموعود والأفعال
وكان محمد بن عبد الملك واحداً في صناعته، مفرداً في براعته.
بين أبي السمراء وعبد الله بن طاهر
وكان أبو السمراء العلاء بن عاصم بن عصمة العسكري نديم عبد الله بن طاهر يأنس به، ويجاريه الشعر، فكتب إليه:
تقول لمّا جعلت أبكي ... سلوه باللّه ممّ يبكي ؟
فقلت أبكي لما أراه ... عمّا قليلٍ يكون منك
قالت فلا تخش قلت ما لي ... قلبٌ على الدهر يأتمنك
لا غرّني الدهر منك ودٌّ ... قالت ولا غرّني التبكّي
فوقع ابن طاهر في ظاهرها بديهاً:
لا أشتكي من هواك إلاّ ... إليك لو ينفع التشكي
حلفت جهد اليمين أن لا ... أزول إلاّ إليك عنك
كلفتني السعي في طريقٍ ... وعرٍ قليل الأنيس ضنك
فرحت بي في إسار قلبي ... ثم تشاغلت عند فكّي
ومن جيد شعره في جارية له توفيت:
(1/114)
يقول لي الخلاّن لو زرت قبرها ... فقلت: وهل غير الفؤاد له قبر
على حين لم أحدث فأجهل فقدها ... ولم أبلغ السنّ التي معها صبر
وهذا مأخوذ من قول أبي مسلم عبد الرحمن بن سلم، في فصل من كتاب كتبه إلى عبد الله بن علي عند محاربته إياه، لما خلع أبا جعفر المنصور: لأنزلنك موارد ضيقة، حتى أبدلك بالحلاوة علقماً، تمج من تمطقها دماً؛ أمنت صولتي، وقد كبرت عن صغر، وصغرت عن كبر، فأنا كما قال الأول:
وهل يخشى وعيد الناس إلاّ ... كبير السنّ والضّرع الصغير
شراب عتيق من محمد بن عبد الملك
قال ابن حمدون النديم: أهدى إلينا محمد بن عبد الملك ونحن بالبدندون شراباً عتيقاً وكتب رقعة فيها:
ما إن ترى مثلي أخاً ... أندى يداً وأدرّ جودا
أسقي الصديق ببلدةٍ ... لم يسق فيها الماء عودا
صفراء صافية كأ ... نّ على جوانبها العقودا
فإن استقلّ بشكرها ... أوجبت بالشكر المزيدا
فإذا خشيت على الصني ... عة بالتقادم أن تبيدا
أنشأت أخرى غيرها ... فتركتها غضّاً جديدا
خذها إليك كأنما ... كسيت زجاجتها فريدا
واجعل عليك بأن تقي ... م بشكرها أبداً عهودا
الملك مضطر إلى كفاية منه
وكان المعتصم أمر بأن يعطى الواثق عشرة آلاف درهم، يستعين بها على أمره ويصلح بها ما يحتاج إلى إصلاحه، فدافعه بذلك مدافعةً متصلة أحوجته إلى شكايته إلى المعتصم؛ فأنكر عليه تأخر المال. فقال: يا أمير المؤمنين، العدل أولى بك وأشبه بقولك وفعلك، ولك عدة أولاد أنت في أمرهم بين خلتين؛ إما أن تسوي بينهم في العطية فتجحف ببيت المال، وإما أن تخص بعضهم فتحيف على الباقين. فقال: قد رهنت لساني فما تصنع ؟ قال: تأمر لباقي ولدك بإقطاعات وصلات، وتطلق لهارون صدراً من المال، فأدافعه بباقيه ويتسع الأمير قليلاً، وتدبر الأمر بعد ذلك بما تراه.
فقال له: وفقك الله فما زلت أعرف الصواب في مشورتك؛ وتأدى الخبر إلى هارون، فحلف بعتق عبيده ومماليكه، وبحبس عدة خيل ووقف عدة ضياع، وصدقة مال جليل، لئن ظفر بمحمد ليقتلنه؛ وكتب اليمين بخطه وجعلها في درج وأودعها دابته.
ومرت مدة وأفضى الأمر إلى هارون، وكان ذا أنات وعقل. وكره أن يعاجله فيقول الناس بادر بشفاء غيظه؛ ثم عزم على الإيقاع به، فتقدم بأن يجمع له من وجوه الكتاب من يصلح لولاية الدواوين والوزارة فجمعوا، ودعا بواحد منهم؛ وقال له: اكتب كذا في أمر رسمه له. فاعتزل وكتب وعرض الكتاب عليه فلم يرضه حتى امتحن الجميع، فأمر حاجبه فقال: أدخل من الملك مضطر إليه: محمد ابن عبد الملك، فجيء به وهو واجم مضطرب؛ فلما وقف قال له: اكتب إلى صاحب خراسان في كذا وكذا. فأخرج من كمه نصفاً ومن خفه دواةً، وابتدأ يكتب بين يديه حتى فرغ من الكتاب، ثم أخرج خريطةً فيها حصى فأترب الكتاب وأصلحه وتقدم فناوله إياه، فوجده قد أتى على جميع ما في نفسه؛ فأعجب به جداً. وقال: اختمه فأخرج من الخريطة طيناً فوضعه عليه وتناوله فختمه وأنفذه من ساعته.
فقال هارون لخادم له: امض إلى دابتي وقل لها: توجه إلي بالدرج الفلاني؛ فمضى الخادم فجاء به، فأخرج الرقعة فدفعها إليه. فقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا عبد من عبيدك، إن وفيت بيمينك فأنت محكم، وإن كفرت وصفحت كان أشبه بك. قال: لا والله ! ما يمنعني من الوفاء بيميني إلا النفاسة على أن يخلو الملك من مثلك، وأمر بعتق من حلف بعتقه، ووقف الضياع، وحبس الخيل، وأنفذ صدقة المال.
(1/115)
وقد فعل أبو شجاع فناخسرو قريباً من هذا بأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، وذلك أنه كان كاتب بختيار بن معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وبين أبي شجاع وبين بختيار منافسة بالرياسة، فلما خلع الفضل بن جعفر وهو المطيع لله، وأقيم ابنه أبو بكر عبد الكريم الطائع لله سنة أربع وستين وثلاثمائة استولى على جميع أموره فناخسرو، وصار إليه تدبير المملكة، وليس للخليفة سوى الاسم، وقتل بختيار ومحي أمره، فأحضر أبو شجاع عضد الدولة أبا إسحاق. وقال: قد علمت ما كنت تعاملني به من قبيح المكاتبة، وقد أحفظني ذلك ودعاني إلى قتلك، فرأيت قتلك من الفساد في الأرض إذ كنت مقدماً في صناعتك، ولكن لا تعمل لي عملاً، واستصفى أمواله وحبسه، وولى ديوان الإنشاء مكانه أبا منصور بن المرزبان الشيرازي، وكان غايةً في البلاغة والفصاحة وحسن آلات الكتابة.
الصابي في حبسه
وكتب أبو إسحاق من الحبس إلى بعض إخوانه: نحن في الصحبة كالنسرين لكني واقع، وأنت طائر، وعلى الطائر أن يغشى ويراجع.
وزاره أبو الفرج الببغاء الشاعر زورة ثم قطعه، فكتب إليه:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظّاً إذا نقص
مضت مدة أستام ودك غالياً ... فأرخصته والبيع غالٍ ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارةٍ ... شفت قرماً من صاحبٍ لك قد خلص
ولكنّها كانت كحسوة طائرٍ ... فواقاً كما يستفرض السادة الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وعادك عيد من تذكّرك القفص
من المنسر الأشفى ومن حزّة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصّة المقص
ومن صعدة فيها من الدّبق لهذم ... لفرسانكم عند الطعان بها قعص
فهذي دواهي الطير، وقّيت شرّها ... إذا الدهر من أحداثه جرّع الغصص
فأجابه أبو الفرج:
أيا ماجداً قد يمّم المجد ما نكص ... وبدر تمام مذ تكامل ما نقص
ستخلص من هذا السّرار وأيّما ... هلال توارى في السرار فما خلص
بدولة تاج الملّة الملك الذي ... له في أعالي قبّة المشتري خصص
تقنّصت أنصافي وما كنت قبل ذا ... أظنّ بأنّ المرء بالبرّ يقتنص
وبعد فلا أخشى تقنّص جارح ... وقلبك لي وكرٌ ورأيك لي قفص
من شعر الصابئ
وقال أبو إسحاق الصابىء:
جملة الإنسان جيفه ... وهيولاه سخيفه
فلماذا ليت شعري ... قيل للنفس الشريفه
إنما ذلك فيه ... قدرة اللّه اللطيفه
وقال:
وأحقّ من نكسته ... بالصفع من درجاته
من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته
من النقد
أخذه من سقراط، وقد مر به بعض الملوك فركله برجله. وقال: قم ! فقام غير مرتاع منه ولا ملتفت إليه. فقال الملك: أما عرفتني ؟ قال: لا ! ولكن أرى فيك طبع الكلاب فهي تركل بأرجلها، فغضب، وقال: أتقول لي هذا وأنت عبدي. فقال: لا ! بل أنت عبدي. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن شهواتك ملكتك وأنا ملكتها. قال: فإني الملك ابن الأملاق السادة، ولنا كذا وكذا ألف فيل، وكذا وكذا ألف مركوب، وأقبل يعدد عليه ما يملكه من العروض والجواهر والعقار. فقال: أراك تفخر علي بما ليس من جنسك، وإنما سبيلك أن تفخر علي بنفسك، ولكن تعالى نخلع ثيابنا ونلبس جميعاً ثوباً من ماء في هذا اليم ونتكلم، فحينئذ يتبين الفاضل من المفضول؛ فانصرف خجلاً.
الصابي وعضد الدولة
وأهدى الصابىء إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلاباً بقدر الدرهم، وكتب معه، وكان حينئذ معتقلاً:
أهدى إليك بنو الحاجات واحتشدوا ... في مهرجانٍ جديدٍ أنت تبليه
لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... سموّ قدرك عن شيءٍ يساميه
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
فرضي عنه وأخرجه من السجن.
وقال الصابىء لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب:
اللّه حسبي فيك من كلّ ما ... يعوّذ العبد به المولى
(1/116)
واسلم وعش لا زلت في نعمةٍ ... أنت بها من غيرك الأولى
من ملح مزيد
قال مزيد لامرأته: أنت غير شفيقة علي، ولا راعية لي. فقالت: والله لأنا أرعى بك من التي كانت قبلي وأشفق. قال: أنت طالق ثلاثاً، لقد كنت آتيها بالجرادة فتطبخ لي منها أربعة ألوان وتشوي جنينها. فدعته إلى القاضي، فجعل القاضي يطلب له المخرج فقال: أصلحك الله ! لا عليك إن أشكلت المسألة فهي طالق ثلاثين.
قال محمد بن حرب: أتيت بمزيد وامرأة ورجل أصيبا في بيته وأنا على شرطة المدينة، فحبسته وخليت سبيلهما، ثم دعوت به وقلت: ما خبرك ؟ قال: أطلقتم الزوج حمام وحبستم الزاجل.
وكان أبو حبيب مضحك المهدي يحفظ نوادر مزيد ويحكيها له فيصله. فقال له مزيد: بأبي أنت! أنا أزرع وأنت تحصد.
ولقي مزيد رجلاً كان صديقاً لأبيه. فقال: يا بني، كان أبوك عظيم اللحية، فما بالك أجرودي ؟ فقال مزيد: أنا خرجت لأمي.
وكسا امرأته قميصاً فشكت إليه غلظه وخشونته، فقال: أترينه أخشن من الطلاق ؟
من الأجوبة الطريفة
ناظر سعيد بن حميد الدهقان بعض آل أبي لهب؛ فقال: من فضلنا نحن الفرس أن لنا بيوت النيران. فقال اللهبي: وجهنم قطيعة لجدي.
رمي فضولي في النار؛ فقال: الحطب رطب !
من ملح البخلاء
وقال بعض البخلاء لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب. فقال: يا مولاي؛ هذا خطأ، إنما يقال: أغلق الباب وهات الطعام. فقال له: أنت حر لوجه الله لمعرفتك بالحزم.
قال جهم بن خلف: أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة فأطعمنا تمراً. ثم قال لغلامه: خذ هذا الفلس فاشتر به زيتاً، فأتى الغلام به. فقال له: خنتني. فقال: وكيف أخونك في فلس ؟ قال: أخذته لنفسك واستوهبت الزيت.
وقال الأحنف بن قيس: يا بني تميم، أتبخلونني وربما أشرت عليكم برأي خير من مائة ألف درهم ؟ فقال بعض من سمعه: تقويمك الرأي عليه غاية البخل.
من أظرف ما قيل في بخيل
ومن أظرف ما قيل في بخيل:
وأخٍ مسّه نزولي بقرحٍ ... مثلما مسّني من الجوع قرح
قال إذ زرت وهو في شدة السك ... رة بالهمّ طافح ليس يصحو
لم تغرّبت قلت قال رسول الل ... ه والقول منه نصحٌ ونجح
سافروا تغنموا فقال وقد قا ... ل تمام الحديث جوعوا تصحّوا
غفلة
مر رجل بإنسان وعلى عاتقه عصا في طرفيها زنبيلان قد كادا يحطمانه، في أحدهما بر وفي الآخر تراب. فقال: لم فعلت هذا ؟ قال: عدلت البر بالتراب، لأنه كان قد أمالني إلى أحد جنبي؛ فأخذ الرجل زنبيل التراب وقلبه وقسم البر نصفاً في الزنبيلين. وقال: الآن فاحمل، فحمله فخف عليه؛ فقال: ما أعقلك من شيخ !.
يتماوت ليسأل الكفن
وشرب أحمد بن أبي طاهر مع أبي هفان حتى فني ما معهما، وكانا بجوار المعلى ابن أيوب؛ فقال ابن أبي طاهر لأبي هفان: تماوت حتى اسأل المعلى في كفنك. فسجاه ومضى إلى المعلى فقال: أصلحك الله، نزلنا في جوارك فوجب عليك حقنا، وقد مات أبو هفان وليس له كفن. فقال لوكيله: أمض إليه لتشاهده وادفع له كفناً. فأتى فوجده مسجى فنقر أنفه فضرط، فقال له: ما هذا؟ قال ابن أبي طاهر: أصلحك الله بقية روحه كرهت نكهته فخرجت من دبره، فأخبر المعلى فضحك وأمر لهما بدنانير كثيرة.
متجسس متماوت
وكان أحمد بن طولون قد نابذ الموفق وباينه بالعداوة وخلعه، وكان قد ضبط مصر من الجواسيس وكان متيقظاً فهماً، فأشرف من قصره يوماً، فإذا بجنازة قد مرت عليه. فقال: علي بالنعش ومن فيه. فأحضروه، فقال: قم يا متماوت، ثم دعا بالسياف وقال: اضربه، فقام الميت من نعشه، فقال له: أنت متجسس من ناحية أحمد ؟ قال نعم ! قال: لو لم أتقدم إليك لقتلتك وقتلت من معك، وأمر من أخرجهم عن عمل مصر. فقيل له: من أين علمت ذلك ؟ فقال: رأيت القوم ليس عليهم كآبة من مات له ميت، ورأيتهم يطوفون بالقصر، ونظرت إليه في النعش فرأيت رجليه قائمتين ورجل الميت تسترخي؛ فحكمت أنه حي، فلما حضر رأيته يسارق النفس فصحت القضية.
من الطرف
وحضر علي بن بسام مع جحظة البرمكي دعوةً، فتفرق الجماعة المخاد، وبقي جحظة. فقال: ما لكم لم تدفعوا إلي مخدة ؟ فقال له ابن بسام: عن قليل تصير إليك كلها.
(1/117)
واشتد البرد سنة؛ فقال أبو العيناء: إن دام هذا كانت بيوتنا التنانير.
وقال رجل لامرأته: الحمد لله الذي رزقنا ولداً طيباً. قالت: ما رزق أحد مثلما رزقنا، فدعياه فجاء، فقال له الأبك يا بني، من حفر البحر ؟ قال: موسى بن عمران. قال: من بلطه ؟ قال: محمد بن الحجاج. فشقت المرأة جيبها ونشرت شعرها وأقبلت تبكي. فقال أبوه: ما لك ؟ فقالت: ما يعيش ابني مع هذا الذكاء.
ابن المعذل والمخنث
رأى عبد الصمد بن المعذل مخنثاً ليلة أربعة عشر من شهر رمضان، وهو مضطجع على ظهره يخاطب القمر ويقول: لا أماتني الله منك بحسرة، أو تقع في المحاق، فما كانت ليلة سبعة وعشرين رأى عبد الصمد الهلال، فقال:
يا قمراً قد صار مثل الهلال ... من بعد ما صيّرني كالخلال
الحمد للّه الذي لم أمت ... حتّى أرانيك بهذا السّلال
الصوم في الربيع
وقال أبو عون الكاتب:
جاءنا الصوم في الربيع فهلاّ ... اختار ربعاً من سائر الأرباع
وتولّى شعبان إلا بقايا ... كالعقابيل من دم المرتاع
فكأنّ الربيع في الصوم عقدٌ ... فوق نحر غطّاه فضل قناع
شعبان ورمضان
وقال البحتري:
لاحت تباشير الخريف وأعرضت ... قطع الغمام وشارفت أن تهطلا
فتروّ من شعبان إن وراءه ... شهراً يمانعنا الرحيق السلسلا
وقال:
ومّما دهى الفتيان أنهم أتوا ... بآخر شعبان على أول الورد
يوم الشك
وكتب كشاجم إلى بعض إخوانه في يوم شك:
هو يوم شكٍّ يا عل ... يّ وأمره مذ كان يحذر
والجوّ حلّته ممسّ ... كةٌ ومطرفه معنبر
والماء فضيّ القمي ... ص وطيلسان الأرض أخضر
نبتٌ يصعّد نوره ... في الأرض قطر ندىً تحدّر
ولنا فضيلاتٌ تكو ... ن ليومنا قوتاً مقدّر
ومدامةٌ صفراء أد ... رك عمرها كسرى وقيصر
فانهض بنا لنحتّ من ... كاساتنا ما كان أكبر
أو لا فإنّك جاهلٌ ... إن قلت إنّك سوف تعذر
تشبيب بامرأة رعناء
كانت لرجل من العرب امرأة رعناء؛ فدخل عليها يوماً وهي مغضبة، فقالت: ما لك لا تشبب بي كما يشبب الرجال بنسائهن ؟ فقال: إني أفعل ! وأنشدها:
تمّت عبيدة إلاّ في ملاحتها ... والحسن منها بحيث الشمس والقمر
ما خالف الظبي منها حين تبصرها ... إلا سوالفها والجيد والنظر
قل للذي عابها من حاسدٍ حنقٍ ... أقصر فرأس الذي قد عيب والحجر
فضحكت ورضيت عنه.
مما يشك هل هو مدح أو هجاء
ومما يشكل هل هو مدح أو هجاء، أن أبا الينبغي دفع إلى خياط أعور اسمه زيد طيلساناً يقوره له، فلما جاءه ليأخذه دفعه إليه، وقال له: قد خطت لك شيئاً لا تدري أهو طيلسان أو هو دواج. فقال: وأنا أقول فيك بيتاً لا تدري أو هو مدح أو هجاء. وأنشده:
خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء
يريد بسواء: يكونان صحيحتين أو ذاهبتين.
ومن هنا اهتدى أبو الطيب المتنبي إلى قوله:
فيابن كروّسٍ يا نصف أعمى ... وإن تفخر فيا نصف البصير
تعادينا لأنّا غير لكنٍ ... وتبغضنا لأنّا غير عور
وكان أبو الينبغي ضعيف الشعر، قلما يصح له الوزن، إلا أنه كان ظريفاً طيباً. ودخل عليه وقد حبس، فقيل له: ما كان خبرك ؟ قال أبو الينبغي: قلت ما لا ينبغي ففعل بي ما ينبغي.
ومما يسأل عنه أصحاب المعاني هل هو مدح أو هجاء:
تكامل فيه البخل والجود فاعتلى ... بفضلهما، والبخل بالمرء يزري
وهذا يمدحه؛ يريد أن يجود بماله ويبخل بعرضه.
وقد قال حماد عجرد يمدح محمد بن أبي العباس:
حليم جهولٌ فأمّا التي ... يقال له عندها يجهل
فعند الوغى واشتجار القنا ... إذا الحرب أشعلها مشعل
جوادٌ بخيل فأمّا الذي ... على كل حال به يبخل
فدين وعرض، ودين الكر ... يم ذي الرأي والعرض لا يبذل
(1/118)
وليس بما ملكت كفّه ... من البحر في وجوده يعدل
يداه الحيا في حفوف الثرى ... وطعنته في الوغى الفيصل
إذا ذكر الناس أهل النّدى ... بأسمائهم فاسمه الأوّل
محمد أنت الذي إن سمو ... ت ذي المعمّ لك المخول
يذمّك كبش الوغى في الوغى ... ويحمدك الرمح والمنصل
أعجزتك القافية !
وذكر أن هاشمياً قال لعمر بن أبي ربيعة: لولا بغضكم لنا يا بني مخزوم ما قلت:
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفلٍ ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم
فقدمت علينا بني نوفل وبني أمية؛ فتوهمه ابن أبي ربيعة عاقلاً، فقال: لا بأس بتقديم المفضول على الفاضل في اللفظ، قال حسان بن ثابت:
وما زال في السادات من آل هاشم ... مكارم صدقٍ لا تعدّ ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمّه ... عليٌّ ومنهم أحمد المتخيّر
وأيضاً فالشعر على الميم، فلم يمكن في القافية، إلا ما قلت لك. قال: فأعجزتك الحيلة ؟ قال: وكيف أحتال ؟ قال تقول:
بعيدة مهوى القرط إمّا لهاشم ... أبوها وإمّا عبد شمس ونوفل ميم
فضحك وقال: وهنا لقد عجزت عن هذا.
نقد لشعر امرىء القيس
ومن عجيب ما يتعلق بهذا الباب إنه وصل إلى حضرة سيف الدولة رجل من أهل بغداد يعرف بالمبحث، وكان ينقر على العلماء والشعراء بما لم يدفعه الخصم ولا ينكره الوهم، فتلقاه سيف الدولة باليمين؛ وأعجب به إعجاباً شديداً؛ فقال يوماً: أخطأ امرؤ القيس في قوله:
كأني لم أركب جواداً للذّة ... ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزّقّ الرويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال
وهذا معدول عن وجهه لا شك فيه. فقيل: وكيف ذلك ؟ قال: إنما سبيله أن يقول:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كرّي كرةً بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ للذة ... ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال
فيقترن ذكر الخيل بما يشاكلها في البيت كله، ويقترن ذكر الشرب واللهو بالنساء. ويكون قوله: للذة في الشرب أطبع منه في الركوب.
فبهت الحاضرون، واهتز سيف الدولة، وقال؛ هذا التهدي وحق أبي ! فقال بعض الحاضرين من العلماء للمبحث: أنت أخطأت وطعنت على القرآن إن كنت تعمدت ؟ فقال سيف الدولة: وكيف ذلك ؟ فقال: قال الله تبارك وتعالى: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. وعلى قياسه يجب أن يكون: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولا تعرى فيها ولا تضحى. وإنما عطفه امرؤ القيس بالواو التي لا توجب تعقيباً، ولا ترتب ترتيباً؛ فخجل وانقطع.
في مجلس الوليد
وقال خالد: قدمت على الولد بن يزيد في مجلس ناهيك من مجلس، فألفيته على سريره وبين يديه معبد. ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل عذيل الدمشقي؛ ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل عذيل الدمشقي؛ فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي فغنيت:
سرى همّي وهمّ المرء يسري ... وغاب النجم إلاّ قيد فتر
أُراقب في المجرة كلّ نجمٍ ... تعرّض أو على البحرات يجري
بهمٍّ ما أزال به قريناً ... كأنّ القلب أبطن حرّ جمر
على بكر أخي فارقت بكراً ... وأيّ العيش يحسن بعد بكر
فقال: أعد يا صاح، فأعدت. فقال: من يقوله ؟ قلت: عروة بن أذينة الليثي. فقال: وأي العيش يصلح بعد بكر ؟ هذا الذي نحن فيه، والله لقد تحجر واسعاً على رغم أنفه.
وأنشدت سكينة بنت الحسين رضوان الله عنهما هذا الشعر؛ فقالت: ومن بكر ؟ فوصف لها. فقالت: ذاك الأسود الذي كان يمر بنا، والله لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبر والزيت !
السماع وما ينبغي له من الشعر
(1/119)
قلت أنا: وليت شعري إذا كان السماع داعية الأنس، وعشيق النفس، الذي ينهكها إذا أسرها الهم، ويبسطها إذا قبضها الغم، وهو المستأذن على القلب، المنقذ له من الكرب، الداخل عليه من غير تعب، والوارد إليه بغير نصب، وقد قال أرسطا طاليس: لما حددنا المنطق وجدنا فيه ما لا يبلغه اللسان إلا آلة، فركبنا العود على الطبائع، لاستخراج تلك الودائع، فلما قابلت النفس استماع ما ظهر منه عشقته بالعنصر.
وقالوا: كل شراب بلا سماع الدن أولى به؛ فما باله لا تستخرج له الأشعار الرقيقة، ذات المعاني الدقيقة الأنيقة، والألفاظ الناعمة الشكلة، في الأبيات الغزلة، التي تطرب بالتكلم قبل الترنم، ويتجنب ما كان من صفات الجيوش والمقانب، والغارات والكتائب، والأحزان والمصائب؛ فلأن يسمع من كان ثملاً جذلاً:
ظفرت بقبلةٍ منه اختلاساً ... وكنت من الرقيب على حذار
ألذّ من الصبوح على غمامٍ ... ومن برد النسيم على خمار
أحب إليه من أن يسمع:
إنّ السنان وحدّ السيف لو نطقا ... لحدّثا عنك يوم الروع بالعجب
أنفقت مالك تعطيه وتبذله ... يا متلف الفضّة البيضاء والذهب
إلا أن يكون سامعه كمهلهل، وربيعة بن مكدم، وعتيبة بن الحارث بن شهاب؛ هذا على أن هذا الشعر ليس بتحسين الحظ في فصاحة اللفظ، ولا قاصر المرمى عن إدراك المعنى، كقول مروان بن صرد أخي أبي بكر بن صرد في يزيد بن يزيد فيه يقول:
أما أبوك فأندى العالمين يداً ... وكان عمّك معنٌ سيد العرب
عيدانكم خير عيدان وأطيبها ... عيدان نبع وليس النبع كالغرب
وإنكم سادةٌ أوليتم حسباً ... وأنتم قالةٌ للشّعر والخطب
ولكن لكل مكان ما يليق بموضعه، ويحسن بموقعه؛ فأشبه أوقات اللهو والشراب، ذكر التغزل بالأحباب.
وقد قال بعض البلغاء: لولا العشق والهوى، لم توجد لذة الصبا، ولم يكن الطرب والغناء، ولنقص نعيم أهل الدنيا.
وكان ابن الرومي يقول: لو ملكت الأمر وأدركت ملحن هذا الشعر لقتلته:
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرّج بالدّم
رمى ضرع ناب فاستمرت بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليمانيّ المسهّم
وقال ثمامة بن أشرس: كنت عند المأمون يوماً إذ جاءه الحاجب يستأذن لعمير المأموني، فكرهت ذلك، ورأى الكراهة في وجهي. فقال: يا ثمامة، ما لك ؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنا إذا غنانا عمير ذكر مواطن الإبل، وكثبان الرمل، وإذا غنتنا فلانة انبسط أملي، وقوي جذلي، وانشرح صدري، وذكرت الجنان. كم يا أمير المؤمنين بين أن تغنيك جارية غادة، كأنها غصن بان، بمقلة وسنان، كأنما خلقت من ياقوتة، أو خرطت من درة، بشعر عكاشة العمي:
من كفّ جاريةٍ كأنّ بنانها ... من فضّةٍ قد طرّزت عنّابا
وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... تلقي على يدها الشمال حسابا
وبين أن يغنيك رجل ملتف اللحية، غليظ الأصابع، خشن الكف، بشعر ورقاء بن زهير:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
وكم بين من يحضرك من تشتهي النظر إليه، وبين من لا يقف طرفك عليه ؟ فتبسم المأمون. وقال: إن الفرق لواضح، وإن المنهج لفسيح، يا غلام؛ لا تأذن له ! وأحضر قينة. قال: فظللنا في أمتع يوم.
من طيبات الأغاني ومطربات القيان
وقد كتبت جرءاً مما قيل في طيبات الأغاني ومطربات القيان، وأنا أعيد منها هنا قطعة ترتاح إليها الأرواح: أنشد أبو العباس أحمد بن محمد الأنباري الناشىء في مثل قول عكاشة:
وإذا بصرت بكفّها اليسرى حكت ... يد كاتبٍ يلقي عليك صنوفا
وكأنّما المضراب في أوتاره ... قلم يمجمج في الكتاب حروفا
ويجسّه إبهامها فكأنّه ... في النقر ينفي بهرجاً وزيوفا
أخذ هذا البيت من قول أبي شجرة السلمي وذكر ناقته:
يطير عنها حصا الظّران من بلدٍ ... كما تنوقد عند الجهبذ الورق
وأصله من قول امرىء القيس:
كأنّ صليل المرو حين تطيره ... صليل زيوفٍ ينتقدن بعبقرا
وقال ابن العجاج:
(1/120)
كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق ... أيدي نساءٍ يتعاطين الورق
وقال أبو نواس:
وأهيف مثل طاقة ياسمين ... له حظّان من دنيا ودين
يحرّك حين يشدو ساكناتٍ ... وتنبعث الطبائع للسكون
وهذا مليحٌ، يريد حركة الجوانح للغناء، وسكون الجوارح للاستماع.
صفة القيان والعيدان
ومن عجيب ما قيل في صفات القيان والعيدان قول ابن الرومي.
وقيانٍ كأنّها أُمهاتٌ ... عاطفاتٌ على بنيها حواني
مطفلات وما حملن جنيناً ... مرضعات ولسن ذات لبان
ملقمات أطفالهنّ ثديّاً ... ناهداتٍ كأحسن الرمّان
مفعمات كأنها حافلاتٌ ... وهي صفر من درّة الألبان
كل طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران
أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادي الغنى عن الترجمان
وأنشد أبو علي الحاتمي لأبي بكر الصولي:
وغناءٌ أرقّ من دمعة الص ... بّ وشكوى المتيّم المهجور
يشغل الفهم عن تظنٍّ وفهمٍ ... فهو يصغي بظاهرٍ وضمير
صافح السمع بالذي يشتهيه ... فأذاق النفوس طعم السرور
ليس بالقائل الضعيف إذا ما ... راض نغماً ولا الشنيع الجهير
يجتني السمع منه أحسن ممّا ... تجتني العين من وجوه البدور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق