الأحد، 6 مارس 2016

قراءة كتاب جمع الجواهر في المُلَح والنوادر 10 - أبي أسحاق إبراهيم الحصري القيرواني ...

قراءة كتاب جمع الجواهر في المُلَح والنوادر 10

أبي أسحاق إبراهيم الحصري القيرواني


إبليس ينادم إبراهيم الموصلي
قال إبراهيم الموصلي: استأذنت الرشيد في أن يهب لي في كل أسبوع يوماً، أخلو فيه مع جواري، فأذن لي في يوم الأحد وقال: هو يوم أستثقله؛ فلما كان في بعض الآحاد أتيت الدار، فدخلت الحجاب ألا يأذنوا لأحد علي وأغلقت الأبواب.
فما هو إلا أن جلست حتى دخل علي شيخ حسن السمت والهيئة، على رأسه قلنسوة لاطئة، وفي رجله خفان أحمران، وفي يده عكازة مقمعة بفضة، وعليه غلالة سكب.
فلما رأيته امتلأت غيظاً، وقلت: ألم آمر الحجاب ألا يأذنوا لأحد، فسلم. فأفكرت وقلت: لعلهم علموا من الشيخ ظرفاً وهيئة، فأحبوا أن يؤنسوني به في هذا اليوم؛ فلما أمرته بالجلوس جلس، وقال: يا إبراهيم ألا تغنيني صوتاً ؟ فامتلأت عليه غيظاً ولم أجد إلى ردة سبيلاً؛ لأنه في منزلي، وحملته منه على سوء أدب العامة؛ فأخذت العود وضربت وغنيت ووضعت العود. فقال لي: لم قطعت هزارك ؟ فزادني غيظاً، وقلت لا يسيدني ولا يكنيني ولا يقول: أحسنت ! فأخذت العود فغنيت الثانية، فقال لي: أحسنت، فكدت والله أشق ثيابي، فغنيت تمام الهزار. فقال: أحسنت يا سيدي ! ثم قال: ناولني العود، فوالله لقد استجابه، فوضعه في حجره، ثم جسه من غير أن يكون ضرب بأنملة، فوالله لقد خلت زوال نعمتي في حبسه، ثم ضرب وغنى:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضّحى ... على فنن غضّ النبات من الرّند
بكيت كما يبكي الوليد ولم أكن ... جليداً وأبديت الذي لم أكن أُبدي
وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا ... يملّ وأنّ النأي يسلي من الوجد
بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خيرٌ من البعد
فوالله لقد خلت كل شيء في الحضرة يتغنى معه حتى الأبواب والستور، ثم ضرب وغنى:
ألا يا حمامات اللّوى عدن عودةً ... فإني إلى أصواتكنّ حزين
فعدن فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهنّ أُبين
دعون بترداد الهدير كأنما ... شربن حميّا أو بهنّ جنون
فلم تر عيني مثلهنّ حمائماً ... بكين ولم تدمع لهنّ عيون
ثم ضرب وغنى:
قفا ودعا نجداً ومن حلّ بالحمى ... وقلّ لنجدٍ عندنا أن يودّعا
وأذكر أيام لحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا
فليست عشيّات الحمى برواجع ... إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
وأعذر فيها النفس إن حيل دونها ... وتأبى إليها النفس إلاّ تطلّعا
(1/121)



فوالله لقد تغنى كل شيء معه بالحضرة، حتى النمارق والوسائد وقميصي الذي على بدني؛ فقال: يا أبا إسحاق ! هذا الغناء الماخوري، تعلمه وعلمه جواريك، ثم وضع العود من حجره وقام إلى الدار فلم أره، فدفعت أبواب الحرم فإذا هي مغلقة؛ فقلت: ويحكن هل سمعتن ما سمعت، أو رأيتن ما رأيت ؟ قلن: نعم ! سمعنا وأعدن الأصوات علي وقد لقنها؛ فسألت الحجاب عن الرجل؛ فقالوا لي: لم يدخل عليك أحد حتى يخرج، فأمرت بدابتي فأسرجت، فركبت من فوري إلى دار الخليفة واستأذنت؛ فلما رآني قال: ألم تنصرف آنفاً على نية المقام في منزلك والخلوة بأهلك؛ قلت: يا سيدي؛ جئت بغريبة؛ وقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها، فضحك حتى رفع الوسائد برجليه، وقال لي: كان نديمك اليوم أبو مرة، وددت أنه لوم متعنا بنفسه كما متعك.
واشتهر إبراهيم بهذا الطريق، واشتهته الناس فلم تبق جارية لقنته من إبراهيم إلا زيد في ثمنها؛ قال اللاحقي:
لا جزى اللّه الموصليّ أبا إس ... حاق عنّا خيراً ولا إحسانا
جاءنا مرسلاً بوحيٍ من الشي ... طان أغلى به علينا القيانا
من غناءٍ كأنه سكرات ال ... حب يصغي القلوب والآذانا
أبو فراس يستميل سيف الدولة إلى الغناء
ومن مليح هذا المعنى قول أبي فراس: كان سيف الدولة لا يشرب النبيذ ولا يسمع القيان ويحظرهما، فوافت ظلوم الشهرامية، وكانت إحدى المحسنات، وكان بحضرته ابن المنجم أحد المحسنين، فتاقت نفسي إلى سماع ظلوم؛ فسألت الأمير أن يحضرهما لأسمعهما مجتمعين؛ فوعدني بإحضارهما مجلسه من يومه، فانصرفت وأنا غير واثق بذلك لعلمي بضعف نيته في مثله، ووجهت إلى ظلوم أتقدم إليها بالاستعداد، وحصلت عندي ابن المنجم، وأقمت أنتظر رسوله إلى أن غربت الشمس، فكتبت إليه:
محلّك الجوزاء بل أرفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع
وقلبك الرّحب الذي لم يزل ... للجدّ والهزل به موضع
رفّه بقرع العود سمعاً غدا ... قرع العوالي جلّ ما يسمع
فبلغت هذه الأبيات أبا محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبي؛ فأمر بها فلحنت وغني بها، فلم يشرب بقية يومه ذلك إلا عليها.
من شعر أبي فراس
وأبو فراس هو الحارث بن سعيد بن حمدان؛ وفي أبي فراس يقول القاضي ابن الهيثم:
أيقنت أني ما بقي ... ت رهين شكر الحارث
فإذا المنية أشرفت ... ورّثت ذاك لوارثي
رقّي له من بعد سي ... يّدنا وليس لثالث
قال أبو فراس: فحاولت جوابه على هذه القافية فما أمكنني شيء أرتضيه، فكتبت إليه:
لئن جمعتنا غدوةً أرض يابس ... فإنّ لها عندي يداً لا أضيعها
أحبّ بلاد اللّه أرضٌ تحلّها ... إليّ، ودار تحتويك ربوعها
أفي كلّ يوم رحلة بعد رحلة ... تجرّع نفسي حسرةً وتروعها
فلي أبداً قلبٌ كثير نزاعه ... ولي أبداً نفسٌ قليل نزوعها
لحى اللّه قلباً لا يهيم صبابةً ... إليك وعيناً لا تفيض دموعها
وكان أبو فراس حسن الشعر، جيد النمط، ولقوته من الطلاوة والحلاوة ما يشهد به ما أنشد له.
وكان أبو القاسم الصاحب يقول: بدىء الشعر بملك، وختم بملك؛ بدىء بامرىء القيس، وختم بأبي فراس.
بين أبي فراس وسيف الدولة
وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد سار إلى منزله: كتابي أطال الله بقاء الأمير من منزلي، وقد وردته ورود السالم الغانم موقر الظهر وفراً وشكراً؛ فاستحسن سيف الدولة بلاغته فقال:
هل للفصاحة والسما ... حة والعلا عنّي محيد
في كل يوم استقي ... د من العلاء وأستفيد
ويزيد فيّ إذا رأي ... تك في الندى خلقٌ جدي
وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد فأكثروا؛ فاستشارهم أبو فراس فيما يهديه إليه، فكل أشار بشيء، فخالهم وكتب إليه:
نفسي فداؤك قد بعث ... ت بمهجتي بيد الرسول
أهديت نفسي، إنما ... يهدى الجليل إلى الجليل
وجعلت ما ملكت يدي ... بشرى المبشّر بالقبول
ووقع بين أبي فراس وبين بني عمه عداء وهو صغير؛ فمزح سيف الدولة معه بالتعصب عليه فقال:
(1/122)



قد كنت عدّتي التي أسطو بها ... ويدي إذا خان الزمان وساعدي
فرميت منك بضدّ ما أمّلته ... والمرء يشرق بالزّلال البارد
فصبرت كالولد التقيّ لبرّه ... أغضى على مضضٍ لضرب الوالد
وقال يفخر:
لنا بيتٌ على طنب الثريا ... بعيد مذاهب الأكناف سامي
تظلّله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطعام
وقال يصف السبي.
وخريدة كرمت على آبائها ... وعلى بوادر خيلنا لم تكرم
خطبت بحدّ السيف حتى زوّجت ... كرهاً وكان صداقها للمقسم
راحت وصاحبها بعرس حاضرٍ ... يرضي الإله وأهلها في مأتم
وقال:
ما كنت مذ كنت إلاّ طوع خلاّني ... ليست مؤاخذة الخلاّن من شاني
يجني الصديق فأستحلي جنايته ... حتى أدلّ على عفوي وإحساني
ويتبع الذّنب ذنباً حين يعرفني ... عمداً فأُتبع غفراناً بغفران
يجني عليّ فأحنو صافحاً كرماً ... لا شيء أحسن من حانٍ على جان
وقال:
فواللّه ما أضمرت في الحبّ سلوةً ... وواللّه ما حدّثت نفسي بالصبر
وإنك في عيني لأبهى من الغنى ... وإنك في قلبي لأحلى من النّصر
فيا حكمي المأمول جرت مع الهوى ... ويا ثقتي المأمون جرت مع الدهر
وقال:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... وما بالنوم عن عيني تمايله
وما السّلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشّمول ازدهتني بل شمائله
ألوى بصبري أصداغٌ لوين له ... وغلّ صدري ما تحوي غلائله
وقال:
وظبي غرير في فؤادي كناسه ... إذا كنست عين الفلاة وحورها
فمن خلقه لبّاتها ونحورها ... ومن خلقه عصيانها ونفورها
وقال:
ألزمني ذنباً ولا ذنب لي ... ولجّ في الهجران والعتب
أُحاول الصبر على هجره ... والصبر محظورٌ على الصبّ
من لي بكتمان هوى شادنٍ ... عيني له عينٌ على قلبي
عرّضت صبري وعلوّي له ... فاستشهدا في طاعة الحبّ
وقال:
لبسنا رداء الليل، والليل راضعٌ ... إلى أن تردّى رأسه بمشيب
وبتنا كغصني بانةٍ عطفتهما ... مع الصبح ريحاً شمألٍ وجنوب
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّه ... مبادي نصولٍ في عذار خضيب
فيا ليل قد فارقت غير مذمّم ... ويا صبح قد أقبلت غير حبيب
وقال:
قل لأحبابنا الجفاة رويداً ... درّجونا على احتمال الملال
إنّ ذاك الصدود من غير جرمٍ ... لم يدع في موضعاً للوصال
أحسنوا في هواكم أو أسيئوا ... لا عدمناكم على كلّ حال
وقال:
ومغضٍ للمهابة عن جوابي ... وإنّ لسانه العضب الصقيل
أطلت عتابته عنتاً وظلماً ... فدمّع ثم قال: كما تقول
وقال:
بتنا نعلّل من ساقٍ أغنّ لنا ... بخمرتين من الصهباء والخدّ
كأنّه حين أزكى نار وجنته ... سكراً وأسبل فضل الفاحم الجعد
يعدّ ماء عناقيد بطرّته ... بماء ما حملت خدّاه من ورد
وقال:
أيا سافراً ورداء الخجل ... مقيمٌ بوجنته لم يزل
بعيشك ردّ عليك اللثام ... أخاف عليك جراح المقل
فما حقّ حسنك أن يجتلى ... ولا حقّ وجهك أن يبتذل
أمنت عليك صروف الزمان ... كما قد أمنت عليّ الملل
وقال:
لا غرو إن فتنتك بال ... ألحاظ فاترة الجفون
فمصارع العشاق ما ... بين الفتور إلى الفتون
اصبر فمن سنن الهوى ... صبر الضنين على الضنين
وقال:
سقى ثرى حلب، ما دمت سانها ... يا بدر، غيثان منهلٌّ ومنبجس
كأنّما البدر والولدان موحشة ... وربعها دونهنّ العامر الأنس
أسير عنها لأمرٍ ما فيزعجني ... حتى يعود إليها الخدّر الكبس
(1/123)



مثل الحصاة التي يرمى بها أبداً ... إلى السماء فترقى ثم تنعكس
وقال أبو فراس في رسول ملك الروم إذ جاء يطلب الهدنة، فأمر سيف الدولة بالركوب بالسلاح، فركب من داره ألف غلام مملوك بألف جوشن مذهب على ألف فرس عتيق بألف تجفاف، وركب الناس والقواد على تبعيتهم وسلاحهم وراياتهم، حتى طبق الجيش جبل جوشن وما حوله. فقلت:
علونا جوشناً بأشد منه ... وأثبت عند مشتجر الرماح
بجيش جاش بالفرسان حتّى ... ظننت البرّ بحراً من سلاح
فألسنةٌ من العذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرياح
وأروع جسمه ليلٌ بهيمٌ ... وغرّته عمودٌ من صباح
صفوحٌ عند قدرته كريمٌ ... قليل الصّفح ما بين الصفاح
كأن ثباته للقلب قلبٌ ... وهيبته جناحٌ للجناح
طرف من أخبار المهلبي
وعلى ذكر المهلبي أذكر طرفاً من ظريف أخباره، وشريف آثاره، وإنما أسلسل أخبار أمثاله من أشراف العصر، وأفراد الدهر، تعمداً للذة الجدة، ورونق الحداثة؛ إذا كان ما لم يقرع الآذان، أدعى إلى الاستحسان، مما تكرر حتى تكدر.
والمهلبي هو أبو محمد الحسن بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وكان المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر، لما ولي الخلافة بعد المستكفي، قام بجميع أموره معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وصحبه أجمل صحبة من أول ولايته إلى سنة موته وهي سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وعقد الديلمي أمر وزارته للمهلبي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وكان المهلبي من سروات الناس وأدبائهم وأجوادهم وأعزائهم، وفيه يقول أبو إسحاق الصابىء:
نعم اللّه كالوحوش وما تأ ... لف إلاّ أخايراً نسّاكا
نفّرتها أيام قومٍ وصيّ ... رت لها البرّ والتّقى أشراكا
وفيه يقول:
قل للوزير أبي محمد الذي ... قد أعجزت كلّ الورى أوصافه
لك في المجالس منطقٌ يشفي الجوى ... ويسوغ في أذن الأديب سلافه
وكأنّ لفظك لؤلؤ متنخّل ... وكأنما آذاننا أصدافه
وفيه يقول أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي:
أنا عبد من لو قال للشمس اغربي ... غربت وقد طلعت على الأشهاد
المستقل من الوزارة رتبةً ... إشراقها فوق الخلافة بادي
عقّ الكماة لخوفه هيجاءهم ... وهم لطاعته من الأولاد
وتقنعوا بالنزر من أيامهم ... حتى ظنناهم من الزهاد
ومن التراب عجاجهم وعجاجه ... ممّا يحطّم من قناً وجياد
القائد الخيل العتاق كأنها ... أسد مخالبها صدور صعاد
كذب المحدّث بالشجاعة والندى ... عن خندف وربيعة وإياد
لو أبصرت عيناه آل مهلب ... والخيل راوية النحور صوادي
يخرجن من رهج العجاج كأنما ... أسيافهم خرجت من الأغماد
أوما رأيت جنابهم متدفّقاً ... متوسعاً لتضايق الرّوّاد
ووجوههم للبذل من إشراقها ... قد قنّعت شمس الضحى بسواد
لرأيت أو كادت جفونك أن ترى ... لجج البحار وآنف الأطواد
وعلمت أنهم على رغم العدى ... ذهبوا بكل ندىً وكلّ جلاد
يا من نصغّره إذا قلنا له ... ملك الملوك وماجد الأمجاد
وذباب سيفك إنه قسم الوغى ... والموت في ثوب من الفرصاد
لأطرزنّ بك الزمان مدائحاً ... تختال بين الشدو والإنشاد
تدع المسامع والقلوب لحسنها ... عند الرواة تشدّ بالأصفاد
وقال فيه:
ألكني إلى آل المهلب إنهم ... لأرفع من زهر النجوم وأثقب
إذا سلبوا الأموال من شنّ غارة ... أغار عليها المجتدون ليسلبوا
فلا زالت الأملاك تطلب رفدهم ... فتدنى وتعطى فوق ما تتطّلب
(1/124)



ولا برحت حمر المنايا وسودها ... إلى بأسهم يوم الوغى تتحزّب
فما استمطروا للجود إلاّ تدفّقوا ... ولا استصرخوا للطّعن إلاّ تلبّبوا
إليك أمين اللّه في الأرض شمّرت ... عزيمة صبحٍ بالدّجى تتجلبب
يرى حظّه مستأخراً وهو أوّلٌ ... وآماله مغلوبة وهو أغلب
وأنت شبابٌ للذي شاب مقبلٌ ... إليه ووجهٌ للذي خاب ملحب
تقود أبيّات الأمور كأنّها ... إليك أسارى في الأزمّة تجنب
وتطعن في صدر الكتائب معلماً ... كأنك في صدر الدواوين تكتب
نداؤك أملى والجياد منابرٌ ... وأبطالها بالمشرفّية تخطب
أذمّ زياداً في ركاكة رأيه ... وفي قوله: أيّ الرجال المهذب
وهل يحسن التهذيب منك خلائقاً ... أرقّ من الماء الزلال وأعذب
تكلّم والنعمان بدر سمائه ... وكلّ مليكٍ عند نعمان كوكب
ولو أبصرت عيناه شخصك مرّة ... لأبصر منه شمسه وهي غيهب
إذا ذكرت أيامك الغرّ أظلمت ... تميم وقيس والرباب وتغلب
لقد صرّحوا بالمال لي وهو مبهم ... وقد عرّضوا بالقول لي وهو موجب
ولي همةٌ لا تطلب المال للغنى ... ولكنها منك المودّة تطلب
فإن كان قولي دون قدرك قدره ... فما أنا فيه في امتداحك مذنب
إذا كانت الأشياء دونك قدرها ... فغير ملومٍ أن يقصّر مسهب
زياد: هو النابغة الذبياني؛ وإنما عنى قوله في اعتذاره للنعمان بن المنذر:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمّه ... على شعثٍ أيّ الرجال المهذب
ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورةً ... ترى كل ملكٍ دونها يتذبذب
بأنّك شمسٌ والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
وإنما أخذ النابغة هذا من قول شاعر من كندة قديم:
تكاد تميد الأرض بالناس إن رأوا ... لعمرو بن هند غضبةً وهو عاتب
هو الشمس وافت يوم دجنٍ فأفضلت ... على كل نورس والملوك كواكب
من حياة المهلبي
والمدح في أبي محمد المهلبي كثير، وإنما يؤخذ من كل شيء ما اختير. وكان قبل تعلقه بحبل السلطان سائحاً في الأرض على طريق الفقر والتصوف. قال أبو علي الصوفي: كنت معه في بعض أوقاته، أماشيه في بعض طرقاته؛ فضجر لضيق الحال، فقال:
ألا موتٌ يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن روح حرّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه
قال: فاشتريت له رطل لحم وطبخته له. ثم تصرف بنا الدهر وبلغ المهلبي مبلغه؛ قال أبو علي: فاجتزت البصرة واجتزت بأسلمان، فإذا أنا بناشطيات وحراقات وزيارب وطيارات في عدة وعدة. فقلت: لمن هذا ؟ فقيل: للوزير أبي محمد المهلبي، فنعتوا لي صاحبي، فتوصلت إليه حتى رأيته، فكتبت رقعة واحتلت حتى دخلت، فسلمت وجلست، حتى إذا خلا المجلس رفعت إليه الرقعة، وفيها:
ألا قل للوزير بلا احتشام ... مقال مذكّر ما قد نسيه
أتذكر أن تقول لضيق عيشٍ ... ألا موتٌ يباع فأشتريه
فنظر إلي، وقال: نعم ! ونهض وأنهضني معه في مجلس أنسه، وجعل يذكر لي كيف توافت حاله؛ وقدم الطعام فأطعمنا، وأقبل ثلاثة من الغلمان على رأس أحدهم ثلاث بدر، ومع آخر تخوت وثياب رفيعة، ومع آخر طيب وبخور؛ وأقبلت بغلة رائعة بسرج ثقيل؛ فقال لي: يا أبا علي؛ تفضل بقبول هذه، ولا تتأخر عن حاجة تعرض لك، فشكرته وانصرفت؛ فلما هممت بالخروج من الباب استردني وأنشدني بديهاً:
رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرّقي
فأنالني ما أرتجي ... وأجار ممّا أتّقي
فلأغفرنّ له القدي ... م من الذنوب السّبّق
إلاّ جنايته لما ... فعل المشيب بمفرقي
العباس بن الحسين وآثاره
(1/125)



ولما مات المهلبي وجد عليه أحمد بن بويه وجداً شديداً ولم يستوزر أحداً بعده، وبلغ منه أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد بن فاخر بعد المهلبي مبلغاً عالياً؛ للمصاهرة التي كانت بينه وبين المهلبي؛ ولأنه كان يخلفه في الدواوين؛ فكان يخطب درجة المهلبي في الوزارة فلم يبلغها.
وكان العباس ممن تعظمه الملوك وتعرف قدره في الفرس وسبقه، وكان بنو بويه يخاطبونه بالشيخ؛ ولما حصلوا بأرض العراق استدعوه من فارس اشتياقاً إليه، وحاجةً إلى رأيه؛ لما كانوا يعرفون من ثقته، وكان يتخذ من الزي وتفخيم شأن الملك ما كان يحسن به في عين أحمد بن بويه؛ إذ كان يحب من أصحابه ذلك.
وكان مما عمله العباس المغيض الذي بظاهر السندية، الذي ينزع من نهر عيسى بن موسى الهاشمي النازع من الزاب الأعظم بناحية البثق المعروف ببثق الروبانية وهو الذي تعمره ملوك العراق، وتحوط به الأعمال التي ترد إلى كل ناحية حظها من الشرب الذي تكون به عماراتها واستقامة ربوعها ووفور أموالها وتمام خراجها.
وهذا المغيض عملته الأكاسرة لينتفع به عند زيادة المياه وكثرتها؛ فإنها حين تخشى البثق المقدم ذكره وغيره من البثوق أن تزيد المياه عليها فتخرقها فينصرف الماء عن سائر الضياع، فإذا خشي ذلك فتح هذا المغيض فانصرف ما يزيد من الماء عن قدر ما ينتفع به إليه، حتى يصب في نهر يعرف بصرصر حتى يفرغ في دجلة، فعمل هذا المغيض من ماله بعد فساد ما كان قبله. وسائر هذه البثوق تسترم بعد خمسين عاماً من بعد عمارتها إلى السبعين، أكثره على ما يذكرون.
ثم عمر الدار المعروفة بخاقان، وهي في ملك ولده وما يليها من الدور التي كانت تجاورها بشاطىء دجلة، وهذه الدار معروفة عند الملوك معظمة في نفوسهم، وهي دار لها حدان، فالجبلي منها ينتهي إلى دجلة، والشرقي منها ينتهي إلى نهر الصراة النازع من نهر عيسى النازع من الفرات الأعظم، حتى يلتقي هذان النهران.
وقد كان في قديم الزمان بلغ أمرها بعض ملوك الروم؛ وصف له أن بالعراق داراً يجتمع فيها دجلة والفرات، فأعظم ذلك وأكبره، وأكذب من أخبره به. ثم كشف عن ذلك لعظمه عنده فوجده حقاً، فعمر العباس هذه الدار على أحسن مما كانت عليه، بل أزيد من ذلك، وانتهى خبرها إلى أحمد بن بويه فأحب النظر إليها؛ فاصطنع له طعاماً ورتب الناس على أحسن ما يكون من ترتيب مثله، وفرش مجالسها وقبابها ومحالها وخباءها ورحابها وخورنقاتها وجيرياتها، بألوان المثقل بالمذهب، والأرمني الرفيع على أصنافه، والخزو المقطوع المرقوم المثقل بالذهب على أجناسه وألوانه، والمحفور الدجلي القديم والمحفور الأرمني، وغير ذلك من أصناف الفرش مما أحدثه العراقيون.
وكان ذلك على حين طيب الزمان، واجتماع خيرات كل أوان، في زمن الورد ووقت النيروز الفارسي، وهو حين تكامل النبت وزيادة المياه، وطلوع الثمار، وزهر الأشجار.
واصطنع في البستان الأعظم على البركة التي يجتمع بفنائها الجبلي والشرقي دجلة والفرات قصراً مبنياً من السكر على أربع طبقات، بأبواب تدور به، وأبواب تغلق عليها من فوقها طبقة فطبقة، تطلع من تلك الأبواب صور من السكر على هيئة الجواري الغلمان بصنوف الملاهي في أحسن الملابس والحلل، وجعل على شرفاتها وطبقاتها وحناياها صور أنواع الطير والحيوان والوحش، وجعل من ورائها رجالاً تنفخ بالبوقات والمزامير، كل صنف يخرج منه صوت يليق بصورته صوت مثله؛ وكل ذلك من السكر المموه بصنوف الأصباغ والنقوش والذهب. ثم نصب القيان وأصحاب الملاهي على طبقاتهم مفترقين في تلك المجالس.
وحضر أحمد بن بويه وولده بختيار وإبراهيم ومحمد: كل منهم في قواده وجنده وكتابه ووجوه رجاله وحاشيته. وأمر بعرض دجلة. فمد من جانبها الغربي الذي هو الركن المجتمع فيه دجلة والفرات إلى الجانب الشرقي الذي بإزائه حبل مفتول، ونثر على الماء من الورد ما غطى دجلة من الجانب إلى الجانب الآخر، إلا ما خرقته أنواع المراكب من الطيارات والزلالات والحديديات والزبازب والسماريات التي ركبها أحمد وأصحابه إلى من سواهم من العامة، وانتظمت هذه المراكب جانبي دجلة من حد هذه الدار وما بإزائه من الجسر الذي بباب الطاق، وصار المسلوك من دجلة في وسطها، وصار ذلك الورد يستقبل المنحدر إلى الدار يمنعه الحبل المعترض من الجري مع الماء من تحته.
(1/126)



ثم تلقى أحمد وبنيه بما أعد لهم من الكرامة والحباء؛ فكان من صنوف ذلك دنانير ودراهم ضربها في كل دينار منهما ودرهم خمسة دنانير وخمسة دراهم عليها صنوف الصور في أواني الذهب والفضة، الفضة في الذهب، والذهب في الفضة، وأنواع البز من صنوف الحرير والنسيج والخز والشرب وأصناف المتاع، وأعد من الخيل والمراكب والغلمان بصنوف الملابس بقدر ما يقتضيه ما قدمنا ذكره.
ثم اخذ في إطعام الجميع؛ حتى عم سائرهم صغيرهم وكبيرهم. إلى أن وصل ذلك بأصحاب السفن، فأتى على سائرهم طعاماً وشراباً.
ولما حضر الانصراف قدم بين يدي أحمد من تلك الصواني الذهب والفضة من كل صنف صينيتين، في كل واحدة ألف دينار وألف درهم، ومن الخلع والدواب والمراكب ما يشاكل ذلك، وجعل لبختيار بن أحمد ما يشاكل ذلك، ولكل واحد من إخوته نصف ذلك؛ وعم سائر القواد والرؤساء على أقدارهم من كسوة وغيرها، كل إنسان بقدره؛ ثم أمر بنهب القصر السكر، فنهبه الحشم والغلمان والعامة حتى أتوا على آخره.
وقد حكى منصور بن عيسى بن سوادة الكاتب، وكان يلي دواة العباس وكان خصيصى به قديم الصحبة له خبيراً بأمره؛ قال: قدم سيدنا أبو الفضل مقدار ما لزمه على إصلاح المغيض، وبناء الدار، وما أنفقه في الدعوة من ماله سوى ما عضده به الكتاب والعمال والصناع، فكان مبلغه ستمائة ألف دينار، فسئل عن مقدار ما كان أعانه من قدمنا ذكره؛ فقال: هو والله أكثر من أن أحصيه ! ولم يكن للعباس علم ولا ضرب في الكتابة بسهم، ولكن كانت له دراية بالأعمال، وتصرف في أمور السلطان؛ وكانت له همة عالية. ويقال: إن جده فاخراً كان إسكافاً.
زوج العباس بنت المهلبي
وكان العباس تزوج زينة بنت المهلبي، وكانت قد بلغت بها الحال إلى أن اتخذت الجواري الأتراك حجاباً في زي الرجال على ما جرى به رسم السلطان، وكان لها كتاب من النساء؛ مثل سلمى النوبختية، وعائشة بنت نصر القسوري حاجب المقتدر، وغيرهما من القهارمة؛ ومن يتصرف في الأعمال تصرف الرجال، وكان لها كرم وجود في الأموال.
فلما قبض على زوجها أبي الفضل بعد وزارته الثانية لبختيار بن أحمد، وقد صارت الوزارة لمحمد بن بقية اختفت زينة بنت الحسن وسائر أسبابها؛ فجعلت عليها العيون في كل مكان، واستقصى على أبي الفضل زوجها؛ وسلم إلى محمد بن عمر بن يحيى بعد طاهر العلوي، فخرج به من بغداد إلى الكوفة؛ فأقام عنده مدةً يسيرة ثم مات، ودفن هناك في النجف بجوار قبر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ولم يزل بختيار يطلب زينة وأسبابها، فعثر على أكثر أسبابها فلم يجد لها موضعاً؛ وكان سبب اختفائها منه أنه راسلها في حين القبض على أبي الفضل، وأعلمها أنه يسومه الترك ليتزوج بها؛ فردت أقبح رد، وأنكرت ذلك؛ فكان ذلك سبب اختفائها، وكان لها من الذخائر والودائع في أيدي جماعة مما كان يغني كثيراً من الناس، فلما بلغ بها الأمر طمع كل واحد فيما في يده والغدر به.
ولما كان بعد اليأس من وجودها، ظهر بظاهر الخلد بقرب محلة تعرف بالدسترقين فرد محمل مغطى، فيه امرأة في أخلاق وعند رأسها رقعة مكتوب فيها زينة بنت الحسن بن محمد المهلبي الوزير؛ فاشتهر ذلك عند الخاصة والعامة، ووافى القاضي أبو تمام الحسن بن محمد الهاشمي المعروف بالزينبي، فاحتملها لداره وتولى من أمرها ما يجب لمثلها، ودفنها في مقابر قريش؛ وقد كانت أختاها تحت ولديه أبي الحسن وأبي القاسم.
الحب والطعام
وكان أبو الحارث حسين يظهر لجارية من المحبة أمراً عظيماً فدعته وأخرت الطعام إلى أن ضاق. فقال: يا سيدتي؛ ما لي لا أسمع للغداء ذكراً. فقالت: يا سبحان الله ! أما يكفيك النظر إلي وما ترغبه فيّ من أن تقول هذا ؟ فقال: يا سيدتي؛ لو جلس جميل وبثينة من بكرة إلى هذا الوقت لا يأكلان طعاماً لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه.
شركة
أراد قوم من البصرة الجمع؛ فقال أحدهم: علي الطعام. وقال أحدهم: علي الشراب. وقالوا: ما عليك أنت يا أبا إسحاق ؟ فقال: لعنة الله علي إذا لم آكل وأشرب معكم؛ فضحكوا منه ومضوا به.
ولكن اللجام لي
قال أبو عبيدة: أجريت الخيل في الحلبة؛ فجاء فرس من الخيل سابقاً، فجعل رجل من النظارة يكثر الفرح ويكبر ويصفق. فقال له رجل إلى جانبه: يا فتى؛ الفرس لك ؟ قال: لا ! ولكن اللجام لي !.
طفيلي في عرس
(1/127)



دخل طفيلي عرساً فلم يقدر على الدخول، فأخذ قرطاساً وأدرجه ولم يكتب فيه شيئاً، وسأل عن العروس، هل له قرابة غائب ؟ فقيل: أخوه. فكتب عنوان الكتاب من فلان بن فلان إلى أخيه، وجاء فدق الباب. وقال: معي كتاب من أخي العروس، فخرج العروس مبادراً فأدخله وأحضر له الطعام؛ فلما قرأ العنوان قال: سبحان الله ! تراه نسي اسمي إذ لم يكتبه على الكتاب ؟ فقال الطفيلي: وأعجب من هذا أنه لم يكتب داخله شيئاً من العجلة، فعلم مراده وأدخله.
وأنشد بعضهم لأبي محمد بن وكيع:
بينا أنزّل أمري أن يجي فرجٌ ... مقدّماً فيه بين السّوق والليت
إذا بصرت بباب الدار مستلماً ... فملت مستمعاً أُصغي إلى الصوت
فقلت من جا بباب الدار يقرعه ... نادى أنا فرجٌ زن لي كرى بيتي
عتاب طفيلي على التطفيل ورده
عوتب طفيلي على التطفيل؛ فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا نصبت الموائد إلا لتوكل، وإني لأجمع في التطفيل خلالاً، أدخل مجالساً، وأقعد مستأنساً، وأنبسط وإن كان رب الدار عابساً، ولا أتكلف مغرماً، ولا أنفق درهماً، ولا أتعب خادماً.
وصية طفيلي لأصحابه
قال ابن دراج الطفيلي لأصحابه: لا يهولنكم غلق الأبواب، ولا شدة الحجاب، ولا عنف البواب، وتحذير العقاب، ومبارزة الألقاب؛ فإن ذلك صائر بكم إلى محمود النوال، ومغن لكم عن ذل السؤال، واحتملوا الوكزة الموهنة، واللطمة المزمنة، في جنب الظفر بالبغية، والدرك للأمنية، والزموا الطوزجة للمعاشرين، والخفة بالواردين والصادرين. والتملق للملهين والمطربين، والبشاشة بالخدم والموكلين؛ فإذا وصلتم إلى مرادكم فكلوا محتكرين؛ وادخروا لغدكم مجتهدين؛ فإنك أحق بالطعام ممن دعي إليه، وأولى ممن صنع له؛ فكونوا لوقته حافظين، وفي طلبه متمسكين، واذكروا قول أبي نواس:
ليخمس مال اللّه من كلّ فاجرٍ ... وذي بطنةٍ للطيبات أكول
تقاصر لينالك الضرب
جلد بعض الشرط رجلاً وكان الجلاد قصيراً دميماً والمجلود طويلاً؛ فقال له الجلاد: تقاصر لينالك الضرب. فقال: ويلك ! إلى أكل الفالوذج تدعوني ؟ والله لوددت أن تكون أنت أقصر من يأجوج ومأجوج، وأنا أطول من عوج.
أمنية المبغض
دخل أعرابي من ثقيف على خالد بن عبد الله القسري، فشكا إليه قلة المطر، وجفوف الشجر، وكثرة العيال، وعدم المال. وكان خالد مبغضاً لثقيف، فقال: أما ما ذكرته من قلة المطر فوددت أن الله جل اسمه ضرب بينكم وبين السماء صفائح من حديد؛ وجعل مسيلها مما يلي البحر، فلا تصل إليكم قطرة من مائها. وأما ما ذكرت من يبس الشجر فوددت أن الله أحرق ما لديكم من ذلك. وأما ما ذكرت من قلة المال وكثرة العيال فوددت أن الله قطع يديك ورجليك ولم يجعل لأهلك كاسباً غيرك.
فقال: أيها الأمير؛ أصلحك الله، وطئت أرضك، وأملت رفدك، فلا تصرفني بحسرة الحرمان، واجعل قراي منك بقدر أملي فيك، لا بقدر نسبي عندك. قال: يا غلام، أعطه بدرة، ثم زاده أخرى.
النكث في البيع خير من خيانة الشريك
وجلس مالك بن طوق في قصره في شباك مطل على رحبته، ومعه جلساؤه، إذ أقبل أعرابي تخب به ناقته؛ فقال: إياي أراد، ونحو قصد. ولعل معه أدباً ينتفع به، ثم أمر بإدخاله؛ فلما مثل بين يديه قال: ما أقدمك يا أعرابي ؟ قال: سيب الأمير ورجاء نائله. قال: هل قدمت أمام رغبتك وسيلة ؟ قال: نعم ؟ أربعة أبيات قلتها بظهر البرية، فلما رأيت ما بباب الأمير من الهيبة والجلال استحقرتها واستصغرتها. قال: فهل لك أن تنشدنا أبياتك على أن نجيزك عليها ألف درهم، فإن كنت ممن أحسن ربحنا عليك، وإلا فقد نلت مرادك، وربحت علينا. قال: رضيت، وأنشده:
وما زلت أخشى الدهر حتى تعلّقت ... يداي بمن لا يتّقي الدهر صاحبه
فلما رآني الدهر تحت جناحه ... رأى مرتقىً صعباً منيعاً مطالبه
رآني بحيث النّجم في رأس باذخٍ ... تظلّ الورى أكنافه وجوانبه
فتىً كسماء الغيث والناس حوله ... إذا قحطوا جادت عليهم سحائبه
(1/128)



فقال: قد والله ظفرنا يا أعرابي، ورزقنا الفلج عليك، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم. قال: فإن لي صاحباً شاركته فيها، وما أراه يرضي ببيعي. قال: أتراك حدثتك نفسك بالنكث ؟ قال: نعم ؟ وجدت النكث في البيع خيراً من خيانة الشريك. فأمر له بعشرة آلاف دينار.
المتوكل وقطاطة
وركب المتوكل زلالاً ومعه قطاطة وعبادة المخنثان، وكان قطاطة طويلاً جداً؛ فجعل يغني إلى أن هبت ريح شديدة وثارت دجلة، فأمسك عن الغناء. فقال له المتوكل: ما لك ؟ قال: يا سيدي؛ أفزعني ما أرى؛ فرفع عبادة يده وصفعه، وقال: يابن الفاعلة ! تتوهم أن في دجلة ماءً يطولك.
لبيد بن ربيعة في مجلس النعمان
لما أراد لبيد بن ربيعة أهله على إحضاره مجلس النعمان، ومقاولة ابن زياد العبسي على ما خاطب به أهله بحضرة النعمان، أراد أهله أن يختبروه لأنهم استصغروه؛ فنظر عمه إلى بقلة لاصقة بالأرض وهي جدير الأرض فقال: صف لنا هذه البقلة حتى أسمع. فقال لبيد: إن هذه البقلة رذلة دقيقة الخيطان، ذليلة الأغصان، لا تذكي ناراً، ولا تستر جاراً، ولا تؤهل داراً، عودها ضئيل، وخيرها قليل، وبلده شاسع، ونبتها خاضع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعاً، وأخبثها مرعىً، وأصعبها قلعاً، فحرباً لجارها وجدعاً، فالقوا إلي أخا عبس، أرجعه عنكم بتعس، وأتركه من أمره بلبس. فقال له: سر ! فلما قدم على النعمان وعنده الربيع أنشده:
نحن بنو أمّ البنين الأربعه ... الضاربون الهام تحت الخيضعه
والمطعمون الجفنة المدعدعه
من طرف بشار
وكان بشار جالساً على باب داره، فمر به ابن أخيه مع أصحاب له. فقال: أصحاب ابن أخي هؤلاء أتراك. قيل: من أين علمت ؟ قال: لأني لا أسمع لهم حس نعال.
وقيل لبشار: إن فلاناً يزعم أنه لا يبالي بلقاء واحد أو ألف. فقال: صدق؛ لأنه يفر من الواحد كما يفر من الألف.
يطحن مكان الحمار
حكى المدائني، قال: كان في المدينة امرأة جميلة عفيفة ذات زوج، وكان فتىً من أهل المدينة يتبعها كلما خرجت ويعرض لها؛ فلما أذاها شكته إلى زوجها. فقال لها: فما عندك في أمره حيلة ! قالت: قد فكرت في شيء إن ساعدتني عليه. قال: فأنا أساعدك. فبعثت جاريتها إليه تقول: إن الذي بقلبي منك أكثر مما بقلبك مني، ولكني امرأة مستورة ولا أعرف الفساد؛ فكنت أمتنع عليك وفي قلبي النار. فلما بلغته الرسالة استطار فرحاً، وقال للجارية: ما أدري كيف أؤدي شكرك إذ جرى هذا الأمر على يدك، فبلغيها السلام وقولي لها: إني صائر إليك غداً، ووهب للجارية ديناراً. وطالت ليلته حتى أصبح فوجه إليها بجدي وفاكهة. فقالت الجارية: قد وجب علي شكرك لإجابتك إياي في حاجة مولاتي، وأنال أشير عليك بحيلة بها يتم أمرك. قال: وما هي ؟ قالت: سيدتي فيها حشمة وخجل وانقباض عن الرجال، فإذا جلست معك فلا تتعرض لها بكلام ولا بغيره، حتى تشرب معك أقداحاً. قال: نعم ! وصعدت الجارية فعاونت سيدتها على إصلاح الجدي والطعام؛ فلما أحكمتاه نزلت الجارية وبسطت لسيدتها مصلى وجاءت فسلمت وقعدت، وجاءت الجارية بالطشت والماء فغسلت أيديهما، ووضعت المائدة بينهما، وجاءت بالجدي والطعام.
فحين أخذ المخذول اللقمة فوضعها في فمه جاء الزوج فقرع الباب؛ فوضعت المرأة يدها على رأسها وقالت: افتضحت وهلكت. فقال: دعي الجزع واحتالي في موضع أكمن فيه إلى خروجه. قالت: ما أعرف موضعاً يخفى عليه إلا أن تحل الحمار الذي في الدهليز وتقوم في مكانه. فقال: افعلي ! فجاءت الجارية إلى حمار يطحن في الدهليز مشدود العينين فنحته وربطت المغرور مكانه. وقالت: اطحن مكان الحمار ولا تمسك فيفطن بك؛ فإني أرجو أن يخرج سريعاً وترجع إلى سرورك، ثم فتحت الباب ودخل الزوج، فقالت له: خرجت على أن تقيم أياماً ! فما الذي جاء بك الساعة ؟ قالت: كنت عزمت على ذلك فمر بي إخوان فعرضت عليهم المقام في الضيعة. فقالوا: لا يمكننا اليوم، ولكننا إن شاء الله تعالى نصير إليك غداً؛ فأردت أن يكون مجيئهم إلى البيت أسهل علي؛ فبادرت إليك لتصلحي ما يحتاجون إليه وخاصة الدقيق، فينبغي ألا يفتر الحمار في الدقيق.
(1/129)



فجلسا يأكلان والمخذول يطحن، ثم وضعا نبيذاً وجعلا يشربان، والزوج يقول ساعةً بعد ساعة: هاتي العصا لكي أقوم لهذا الحمار الملعون، فإني أراه كسلان؛ ونحن نحتاج إلى الدقيق كثيراً، فتقوم الجارية فتقول له: الله الله في نفسك ! لا تفتر؛ فإني أخاف أن يقوم فيراك.
فلم يزل يطحن دائباً والرجل يشرب مع امرأته إلى أن طلع الفجر، فقام الرجل فتهيأ للصلاة وخرج إلى المسجد، فحلت المغرور وقالت: طر إلى بيتك لئلا يراك إنسان فتفتضح.
فخرج يعدو على وجهه عريان ويده على سوءته، فدخل إلى منزله وبقي مسبوتاً مطروحاً على وجهه لا يحرك عضواً.
فلما كان بعد مدة قالت المرأة لزوجها: قد بقي علينا شيء من الولع بالمخذول. قال: شأنك. فبعثت إليه وقال: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: الله يعلم ما تداخل قلبي مما نزل بك؛ ولوددت أن أقيك بنفسي، ولكن المقادير تنزل من السماء، وإني إليك لمشتاقة، فأحب أن تصير إلينا، فإن زوجي قد خرج إلى موضع له فيه مقام شهر، فنستأنس جميعاً ونسترجع ما فاتنا؛ فالتفت إليها سريعاً، وقال: عسى قد فرغ دقيقكم ؟.
بشار وخال المهدي
ودخل بشار على المهدي ينشد شعراً وعنده خاله يزيد بن منصور الحميري وكان مغفلاً؛ فقال: ما صناعتك أيها الشيخ ؟ قال: أنظم اللؤلؤ. فقال المهدي: أتهزأ بخالي ؟ وما أقول لمن يرى شيخاً أعمى ينشد شعراً فيسأله عن صناعته !

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة