الأحد، 6 مارس 2016

قراءة كتاب جمع الجواهر في المُلَح والنوادر 8 - أبي أسحاق إبراهيم الحصري القيرواني ...

قراءة كتاب جمع الجواهر في المُلَح والنوادر 8

أبي أسحاق إبراهيم الحصري القيرواني

البحتري يهجو علي بن يحيى
وفي علي بن يحيى يقول البحتري يهجوه:
وأكثرت غشيان المقابر زائراً ... عليّ بن يحيى جار أهل المقابر
فإلاّ يكن ميت الحياة فإنّه ... من اللؤم ميت الجود ميت المآثر
قال أبو العيناء: محمد بن مكرم والعباس بن رستم تعجلا الجنة في الدنيا، يشربان الخمر ولا يصليان.
من مكارم أبي الصقر
ومما يعد من مكارم أبي الصقر أنه لما ولي الوزارة بعد صاعد دخل عليه ابن ثوابة فقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. قال: لا تثريب عليك يا أبا العباس يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين.
ولما ولي أبو الصقر الوزارة خير أبا العيناء فيما يحب حتى يفعله به. فقال: أريد أن يكتب لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يعرفه مكاني، ويلزمه قضاء حق مثلي من خدمه. فكتب إليه كتاباً بخطه فأوصله إلى الطائي، فسبب له في مدة شهر مقدار ألف دينار، وعاشره أجمل عشرة؛ فانصرف بأجمل ما يحب.


كتاب أبي العيناء إلى أبي الصقر
وكتب إلى أبي الصقر كتاباً متضمنه: أنا أعز الله الوزير طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي من عثرة الدهر، وكبوة الفقر؛ وعلى أية حال حين نفدت الأولياء والأشكال، والإخوان والأمثال الذي يفهمون في غير تعب؛ وهم الناس كانوا غياثاً للناس، فحللت عقدة الخلة، ورددت إلي بعد النفور النعمة، وكتبت إلى الطائي كتاباً، فكأنما كان منه إليك، أتيته وقد استصعبت علي الأمور، وأحاطت بي النوائب، فكثر من بشره، وأعطى من ماله أكرمه، ومن بر أحكمه، ولم يزل مكرماً لي مدة ما أقمت، ومثقلاً لي من فوائده لما ودعت؛ حكمني في ماله فتحكمت، وأنت تعرف جوري إذا تمكنت، وزادني من طوله فشكرت؛ فأحسن الله جزاءك، وأعظم حباءك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك وحمامك، وقد أنفقت علي ما ملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسر الله لي. والله عز وجل يقول: " لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سعته " ؛ فالحمد لله الذي جعلك اليد العليا، والرتبة السامية؛ لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط لها من عدلك، وبث فيها من رفدك.
أبو العيناء أول من أظهر العقوق لوالديه
(1/92)


قال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة لوالديه. قال أبي: إن الله قد قرن طاعته بطاعتي؛ فقال: " اشكر لي ولوالديك " . فقلت: يا أبت؛ إن الله أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال: " ولا تقتلوا أولادكم خشيةَ إمْلاَق نحن نرزقكم وإياهم " .
وقال أعرابي لأبيه: يا أبت، إن كبير حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك، والذي تمت به إلي أمت بمثله، ولست أزعم أنا سواء ولكن لا يحل الاعتداء.
ابناك كعينيك
وحكى أبو الحسن محمد بن جعفر بن لنكك البصري عن أبيه أنه جاور ببغداد في أيام المقتدر رجلاً من جلة الكتاب، ونشأ له ولدان فتنا بغداد بحسنهما، فبلغ الأكبر منهما، فنقله من المكتب إلى الديوان، وأراد أن يحصنه بجارية فابتاعها له بألف دينار، وقال: لا تعلم أخاك فإنه يصغر عن ذلك، فنمت داية الأصغر الأمر إليه، وقالت: إن أباك خص أخاك بشيء دونك. فقال لها: بم خصه ؟ قالت: بجارية. قال: هو إليها أحوج وأنا عنها أغنى، غير أني أشفق أن يتسع الخرق، وما علمت أنه فضل مذ نشأ علي بشيء، وأنا أجله عن المشافهة، ولكن هاتي دواة، فكتب إليه:
ليس لي بعد إلهي ... مشتكى إلاّ إليكا
وأخي في الفضل مثلي ... وكلانا في يديكا
لا تفضّله عليّ ... بالحبا من ناظريكا
إنما ابناك كعيني ... ك فداوي مقلتيكا
إن أذقت العين كحلاً ... هاجت الأخرى عليكا
فابتاع له جارية بثمن جارية أخيه وأنفذها إليه.
بخور غير طائل
وحضر أبو الحسن بن لنكك عند أبي الفتح نصر بن أحمد الخبزأرزي فبرخه ببخور غير طائل فقال:
تبصّر في فؤادي فضل حبٍّ ... يفوق به على كلّ الصحاب
أتيناه فبخّرنا بشيءٍ ... من السقف المدخّن بالتهاب
فقمت مبادراً وحسبت نصراً ... يريد بذاك طردي أو غيابي
فقال متى أراك أبا حسين ؟ ... فقلت له إذا اتّسخت ثيابي
بين أبي علي البصير وأبي العيناء
قال أبو علي البصير لأبي العيناء: في أي وقت ولدت من النهار ؟ قال: طلوع الشمس. قال: فلذلك خرجت مكدياً؛ لأنه وقت انتشار المساكين. فقال له أبو العيناء: بيني وبينك مناسبة العمى، قال: كلا ! إني من عميان الدواب، وأنت من عميان العصا.
بلغت أبا علي البصير عن أبي العيناء قوارص بظهر الغيب؛ فكتب إليه: أستزيد الله في بقائك؛ وأستمتعه بإخائك، وأستحفظه النعمى عندك. رب مزح أعزك الله قد بعث جداً، وجور قد أحدث قصداً، ورب أمر صغير خطره، قد أعقب أمراً كبيراً آخرهن ونحن باستزادتنا بعهدك، ومحاماتنا على ودك، وتمسكنا بعرى الأسباب التي بيننا وبينك، واحتراسنا من جناية الدهر علينا فيك، لا نقتصر على الاستظهار بالحجة، والإبلاغ في المعذرة، دون استفراغ المجهود، وبلوغ الغاية في التأني، والحيلة في استرجاع ما شذ عنا منك، وإبطال ما نمت به الأخبار إلينا عنك، من تحليك بنا في العيب، وتناولت إيانا في الغيب، فلا يزال أخ لك مد الله في عمرك تعد له، على نفسك، وثوقه لك وعليك، قد ساقط إلي أحاديث عنك بطبائعها صلاح القلوب قليلاً بها بقاء المودة، سريعة في حل عقدتها وقطع مودتها، أحاديث، أكره لنفسي بدأها ولك عاقبتها، وكنت لا أزال أرد ما يرد علي منها بتأول لفظك وحسن الظن بمعناك، والتماس العذر لك على ضيق مخرجه، وصعوبة مطلبه؛ وأغلب رأيي لهواك، وأقف غضبي على عتباك، وأحفظ قصدك إلي متنصلاً بما بلغني عنك؛ إلى حرم بيني وبينك، لا يجب حفظها علي دونك، حتى عاد تعريضك تصريحاً، وتمريضك تصحيحاً، وفي نسبته في صحتي إلى العمى، وفي حلمي إلى الضعف، إلى أن يئس الصديق من نصري، لما رأى من إغضائي في أمر نفسي، وقد بقي مع فضلة من أداتي أنت تملكها دوني، فإن صنتها لي ووفرتها على من أساء الاختيار؛ ولا أعدم أنصاراً من الأحرار، أسعد بمؤازرتهم ومكاشفتهم، وأستغني بنفسي عنهم.
وقد كتبت في هذا المعنى بأبيات هي لما قبلها ولما يكون بعدها، فرأيك في تفهمها نفعك الله بها:
أبلغ أبا العيناء إن لاقيته ... قولاً يكون لدائه حسما
نبئت أنّك في المغيب تسبّني ... وإذا التقينا كنت لي سلما
(1/93)


فتروم هجوي جاهداً ونقيصتي ... سفهاً أراه بادياً حلما
لا تغتنم لحمي فليس بأكلة ... واعلم بأنك واجدٌ لحما
إني أُعيذك أن تكون رميّةً ... لسهام رامٍ إن رمى أصمى
شتم ورد
وشتم أبا علي البصير بعض الطالبيين، فقال: إنا والله ما نعيا من جوابك، ولا نعجز عن مساءتك، ولكنا نكون خيراً لنسبك منك، ونحفظ ما أضعفت، فاشكر توفير ما وفرنا منك، ولا يغرنك بالجهل علينا حلمنا عنك.
من شعر أبي علي البصير
وأبو علي هو القائل:
ألّمت بنا يوم الرحيل اختلاسة ... فأضرم نيران الجوى النظر الخلس
تأبّت قليلاً وهي ترعد خيفةً ... كما تتأبّى حين ترتعد الشمس
فخاطبها صمتي بما أنا مضمرٌ ... وأبلست حتى لست يسمع لي حسّ
وولّت كما ولّى الشباب لطيّة ... طوت دونها كشحاً على يأسها النّفس
وقال يمدح الفتح بن خاقان:
سمعنا بأشعار الملوك فكلّها ... إذا عضّ متنيه الثقاف تأوّدا
سوى ما سمعنا لامرىء القيس إنه ... يكون إذا لم يشعر الفتح أوحدا
أقام زماناً يسمع القول صامتاً ... ونحسبه إن رام أكدى وأصلدا
فلما امتطاه راكباً ذلّ صعبه ... وسار فأضحى قد أغار وأنجدا
وقال يصف ليلة مطر:
وليلة عارض لا نوم فيها ... أرقت لها إلى الصبح الفتيق
حمى فيها الكرى عيني ببيتٍ ... كأنّ سماءها عين المشوق
تواصلت السحائب وهو بيتٌ ... وصدّت وهو قارعة الطريق
وهذا كقول ابن المعتز:
روينا فما نزداد يا ربّ من حياً ... وأنت على ما في الضمير شهيد
سقوف بيوتي صرن أرضاً أدوسها ... وحيطان داري ركّعٌ وسجود
من نوادر اللصوص
ذهبت ثياب رجل في الحمام، فجعل يقول: أنا أعلم، أنا أعلم، واللص يسمعه؛ ففزع وظن أنه قد فطن به؛ فردها. وقال له: إني سمعتك تقول: أنا أعلم، فما الذي تعلم ؟ قال: أعلم أنه إن عدمت ثيابي مت من البرد.
مستميح ولص
زار رجل الخصيب بن عبد الحميد وهو أمير على مصر مستميحاً فلم يعطه شيئاً فانصرف. فأخذه أبو الندى اللص وكان يقطع الطريق فقال: هات ما أعطاك الخصيب. قال: لم يعطني شيئاً، فضربه مائتي مقرعة يقرره على ما ظن أنه ستره عنه. ثم قدم على الخصيب بعد ذلك زائراً فلم يعطه شيئاً: فقال: جعلت فداك ! تكتب إلى أبي الندى أنك لم تعطني شيئاً لئلا يضربني، فضحك ووصله.
من طرائف الأجوبة
ومر سالم بن أبي العقار بمحمد بن عمران الطلحي وكان سالم أحد المجان فقال له سالم: هذه الشيبة والهيئة الحسنة والخضاب، ولا تنزع عما أنت فيه !! فقال: يا أبا سليمان؛ إني لأهم بذلك، فإذا مررت بمنزل ابن عمك طلحة بن بلال فرأيت على حاله لم يخسف به علمت أن في الأمر فسحة بعد.
ولما مرض أبو نواس دخل عليه الجماز يعوده. فقال: اتق الله، فكم من محصنة قد قذفت، ومن سيئة قد اقترفت، وأنت على هذه الحال؛ فتب قبل الموت. فقال: صدقت. ولكن لا أفعل ! قال: ولم ؟ قال: مخافة أن تكون توبتي على يد واحد مثلك.
وقال الجماز: أراد أن يكتب أبو نواس إلى إخوان له دعاهم، فلم يجد قرطاساً يكتب فيه ! فكتب في رأس غلام له أصلع ما أراد، ثم قال فيه: فإذا قرأت كتابي، فأحرقوا القرطاس. فضحكوا منه وتركوا للغلام جلدة رأسه.
نوادر لابن الجصاص
تقدم الوزير علي بن عيسى إلى ابن أبي عبد الله بن الجصاص في البكور، فأتاه نصف النهار. فقال: ما أخرك يا أبا عبد الله ؟ قال بمحلتي أعز الله الأمير كلاب تنبح الليل أجمع، فأسهرتني البارحة، فلما كان مع وجه السحر سكن نباحها، فنمت فغلبتني عيني إلى الآن، فقال له: وما لك يا أبا عبد الله لا تتقدم في قتلها ؟ قال: ومن يستطيعها أيها الوزير ؟ وكل واحد منها مثلي ومثل أبيك رحمه الله.
(1/94)


وخرجت يده من الفراش في ليلة باردة، فأعادها إلى جسده بثقل النوم فأيقظته، فقبض عليها بيده الأخرى، وصاح: اللصوص اللصوص ! هذا اللص جاء ينازعني وقد قبضت عليه، أدركوني لئلا يكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قد قبض بيده على يده.
ودخل على ابن له وقد احتضر، فبكى عند رأسه، وقال: كفاك الله يا بني الليلة مؤنة هاروت وماروت. قالوا: وما هاروت وماروت ؟ قال: لعن الله النسيان، إنما أردت يأجوج ومأجوج. قالوا: وما يأجوج ومأجوج ؟ قال: فطالوت وجالوت. قالوا: فلعلك أردت منكراً ونكيراً. قال: والله ما أردت إلا غيرهما !! يريد ما أردت غيرهما.
وغفل عنه أهله يوماً فسمعوا صياحه؛ فأتوه فوجدوه في بيت كالميت. فقالوا: ما لك ؟ قال؛ فكرت في كثرة مالي وشدة مصادرة السلطان للتجار في هذا الوقت وتعذيبه لهم بالتعليق، فعلقت نفسي ونظرت كيف صبري، فزحلت فلم أتخلص حتى كدت أموت.
وهذه الحكايات عن ابن الجصاص تنسب إلى غيره، والمحدثون مختلفون في حكاياتهم ومضطربون في رواياتهم.
وكان المعتضد إذا رأى ابن الجصاص يقول: هذا الأحمق المرزوق ! وكان أوسع الناس دنيا، له من المال ما لا ينتهى إلى عده، ولا يوقف على حده. وبلغ من جده أنه قال: تمنيت أن أخسر، فقيل لي: اشتر التمر من الكوفة وبعه بالبصرة، ففعلت ذلك؛ فاتفق أن نخل البصرة لم يحمل في ذلك العام؛ فربحت ربحاً واسعاً.
وكان المعتضد لما زفت إليه قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون بعث أبوها إلى ابن الجصاص مائتي ألف دينار، وكتب إليه قد جهزناها بما قدرنا عليه، وبالعراق طرائف لم تصل إلى أيدينا، فاشتر ما تراه؛ فاحتجز المال ولم يسأل عنه.
وكان ابن المعتز لما خلع المقتدر لم يقم في الخلافة إلا يومين غير تامين، ثم اضطرب حبله، فهرب إلى دار بن الجصاص فأخرج منها، أخرجه المقتدر بعد أيام إلى القضاة والعدول ميتاً.
سبب طلب ابن المعتز للخلافة
وكان سبب طلب ابن المعتز للخلافة: أن المقتدر وهو جعفر بن المعتضد وأمه أمة سوداء واسمها شعب لما استخلف أرجف الناس فيه وتكلموا في أمره. وقالوا: كيف يلي الخلافة من لم يبلغ الحلم ؟ وكانت سنه يومئذ ثلاث عشرة سنة وشهراً وعشرين يوماً، وقالوا: لا بد من خلعه لأنه سادس.
قال الصولي: وقد جرى في السادس أمر طريف من الاتفاق؛ وذلك أن الله تبارك وتعالى أورث الأرض سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين بعه أربعة. واستخلف بعد علي رضي الله عنه الحسن ابنه وهو السادس فخلع. وسلم الأمر إلى معاوية ثم إلى يزيد بن معاوية ثم إلى معاوية بن يزيد ثم مروان بن عبد الحكم ثم عبد الملك بن مروان ثم بويع ابن الزبير في أيامه أو بعدها وهو السادس فخلع، ثم انقضت دولة بني أمية ولم يكمل بعد الوليد ستة، وإنما ولي يزيد بن الوليد الناقص وإبراهيم بن الوليد بن مروان ومروان بن محمد وهو آخر ملوك بني أمية. ثم استفتح ملك بني العباس بأبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور ومحمد بن المنصور المهدي وموسى الهادي بن المهدي وهارون الرشيد بن المهدي والأمين بن الرشيد بن المهدي وهو السادس فخلع، ثم ولي المأمون بن الرشيد والمعتصم أخوه والواثق بن المعتصم والمتوكل بن المعتصم والمنتصر بن المتوكل والمستعين أحمد بن المعتصم فخلع وهو السادس.
(1/95)


قلت أنا: وولي القاهر محمد بن المعتضد والراضي أبو العباس بن المقتدر والمتقي أبو إسحاق بن المقتدر والمستكفي والمطيع الفضل بن جعفر المقتدر والطائع أبو بكر عبد الكريم بن المطيع وهو السادس فخلع. وولي بعده أبو العباس القادر وهو الخليفة في هذا الزمان، وكان الإرجاف في أول ولاية المقتدر شديداً من الخاصة والعامة، فلما قتل العباس وزيره أخذ محمد بن داود بن الجراح البيعة على الناس لعبد الله بن المعتز، ووجه إلى القضاة والعدول، فاجتمع من القواد وغيره زهاء خمسة آلاف سوى الأتباع، فأظهر لهم محمد بن داود عبد الله بن المعتز، وكتب كتاباً خلع فيه المقتدر، واحتج بأن إمامته لا تجوز لقصوره من بلوغ الحلم وصغره عن الخلافة، واستحقاق عبد الله إياها لكماله وحنكته ومعرفته في أمور المسلمين وعلمه بشرائع الدين، فشهد العدول على ما في الكتاب ومن حضر من أشراف بغداد، وبايعوا ابن المعتز ولقبوه المنتصف، ويقال الراضي، ويقال القائم بالحق، وتقلد ابن الجراح الوزارة، وتكلم عبد الله بن المعتز وذكر المقتدر وأنه لا صلاة للناس معه ولا حج ولا غزو. وقال: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح، وقام وكيع فقرظه وذكر محاسنه وذكر شعر أبي العتاهية في هارون الرشيد وهو:
أتته الخلافة منقادةً ... إليه تجرّر أذيالها
فلم تك تصلح إلاّ له ... ولم يك يصلح إلاّ لها
ولو رامها أحدٌ غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
ولم يبق في دار المقتدر حينئذ إلا نفر يسير، وهر بعضهم إلى ابن المعتز، فسعى مؤنس الخازن وسوسن في نقض هذا العقد في اليوم الثاني، وجددا للناس بيعة المقتدر، وأخرجا الأموال فزادا في الأعطية، فانجفل الناس إليهما، ولم يبق مع ابن المعتز أحد؛ فهرب إلى دار ابن الجصاص، وهذا خبر طويل ليس هذا موضع استقصائه. ثم خلع المقتدر بعد ذلك وقتل في الحرب، ولم يقتل في الإسلام خليفة بين الصفين غيره.
ولما ظهر ابن المعتز ميتاً رثاه الناس؛ فقال ابن بسام:
للّه درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لوٌّ ولا ليت فتنقصه ... وإنما أدركته جرفة الأدب
وطولب ابن الجصاص بالتجائه إليه، وأراد المقتدر قتله. فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ابن عمك، وقد لجأ إلى داري، وأنا غائب عنها، فكتمت أمره لعل رأيك يحسن فيه، ولست بمضاد في خلافة ولا قادح في مملكة، وقتلي لا ينفعك؛ وفي حياتي لك فائدة. قال: وما فائدة حياتك ؟ قال: أدفع إليك كل يوم ألف دينار؛ فترك ووفى في ذلك مدة.
رثاء ابن بسام لابن المعتز
وقد استحسن لابن بسام رثاؤه لابن المعتز على سوء رأيه فيه ومهاجاته له.
كتاب للبديع في مرض الخوارزمي
وقد أحسن بديع الزمان في هذا المعنى كل الإحسان، وقد كتب إليه إبراهيم بن أحمد بن حمزة يهنئه بمرض أبي بكر الخوارزمي وكان بينهما من المهاجاة والمهاترة والمنازعة والمنافرة ما يطول به الشرح: الحر أطال الله بقاءك لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإذا وجدت فهي عواري، وأن محن الأيام وإن مطلت فتستنفد، وإن لم تصب فكأن قد؛ فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه. والشامت إن أفلت فليس يفوت. وإن لم يمت فسوف يموت، وما أقبح الشماتة بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقيب كل لفظة، والدهر غرثان طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أو يسر العاقل بسلاح قاتله ؟ وهو الفاضل شفاه الله، وإن ظاهرنا بالعداوة قليلاً، فقد باطناه وداً جميلاً، والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد؛ فلا تتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته، وقاه الله المكروه، ووقاني الله سماع المكروه فيه.
الخوارزمي رافضي
(1/96)


وكان الخوارزمي رافضياً غالياً؛ أخبرني من رآه بنيسابور وقد خرج سكران وقد كظه الشراب فطلب فقاعاً فلم يجده، فقال: أيعوزني الفقاع لما طلبته. فإذا كان يهتف بهذه الجملة لغير علة، فكيف به مع تفزيع العلل، وتوسيع الأمل، ممن يطابقه على كفره، ويوافقه في سره. وكان فاحشاً بذيئاً، مستخفاً جريئاً على ذوي الإنعام عليه، والإحسان إليه، قال إسماعيل بن عباد لما بلغه موته:
سألت بريداً من خراسان مقبلاً ... أمات خوارزميكم ؟ قال لي: نعم !
فقلت اكتبوا بالجصّ من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من يكفر النّعم
وسع قبيح في جبهة الخوارزمي
وكان هجا بعض الملوك فظفر به فوسمه في جبهته سطرين فيهما شطران بأقبح هجاء، فكان يشد العمامة على حاجبيه ستراً عليهما. ولذلك قال البديع في مناظرته إياه وقد ذكر مجلساً طويلاً غنى المغني بحضرتنا:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا اللطم في الخدّ الرقيق
فقال للحاضرين: أنا أروي الشعر الذي منه هذا البيت وهذا لا يرويه. فقلت: روايتي تخالف روايتك، وإذا أنشدتكها على روايتي ساءتك في استماعها، ولم يسرك مصنوعها. قال: وكيف روايتك ؟ قال قلت:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوسم في الوجه الصفيق
فلما أضجرته النكتة، أخذته السكتة، فخمدت ناره، ووقف حماره.
بين البديع والخوارزمي
وكان البديع رحمه الله، وهو أبو الفضل أحمد بن الحسين: قد أشرقه بريقه، ووعر عليه ما سهل من طريقه. وكان الخوارزمي يرميه ببغض علي رضوان الله عليه، ويشنع علي بذلك ويغري به الطالبيين:
يقولون لي لا تحبّ الوصيّ ؟ ... فقلت الثّرى بفم الكاذب
أُحبّ النبيّ وآل النبيّ ... وأختص آل أبي طالب
وأُعطي الصحابة حقّ الولاء ... وأجري على سنن الواجب
فإن كان نصباً ولاء الجميع ... فإني كما زعموا ناصبي
وإن كان رفضاً ولاء الوصيّ ... فلا برح الرّفض من جانبي
فللّه أنتم وبهتانكم ... وللّه من عجب عاجب
وإن كنتم من ولاء الوصيّ ... على العجب كنت على الغارب
يرى اللّه سرّي إذا لم تروه ... فلم تحكمون على الغائب
ألا تبصرون لرشدٍ معي ... ولا تهتدون إلى اللّه بي
أعزّ النبيّ وأصحابه ... فما المرء إلاّ مع الصاحب
أيرجو الشفاعة من سبّهم ؟ ... بل المثل السوء للضارب
حنانيك من طمع باردٍ ... ولبيك من أملٍ كاذب
له في المكاره قلب الجبان ... وفي الشبهات يد الحاطب
كتاب البديع إلى بعض الرؤساء
وكتب البديع إلى بعض الرؤساء وذكر الخوارزمي: ما ألوم هذا الفاضل على نشر شر طواه، وموقد حرب اجتواه، ولكني ألومه على ما نواه، ولم يتبع فيه هواه، ورامه، ولم يبلغ تمامه. وأقول: قد ضرب فأين الإيجاع ؟ وأنذر فأين الإيقاع ؟ وهذه بوارقه، فأين صواعقه ؟ وذاك وعيده، فأين عديده ؟ وتلك بنوده، فأين جنوده ؟ وأنشد:
هذي معاهده فأين عهود
ما أهول رعده، لو أمطر بعده ! اللهم لا كفران، أراه أشفق لغريب أن يظهر عواره، وإن طار طواره، فإن كان قصد هذا القصد فقد أساء إلى نفسه من حيث أحسن إلي، وأجحف بفضله من حيث أبقى علي، وأوهم الناس أنه هاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه، وشجعني عن لقائه، بعد أن فزعن بإيمائه، فبينا كنت أنشد: إن جنبي عن الفراش لنابي إذ أنشدت: طاب ليلي وطاب فيه شرابي، وبينا كنت أقول: ما لقلبي كأنه ليس مني إذ قلت: أين من كان موعداً لي بأني.
من مساجلات البديع والخوارزمي
وبين البديع والخوارزمي مراسلات ومساجلات، ومجالس ظريفة ومقامات، في ابتداء وجواب، أخذت بوصل الحكمة وفصل الخطاب، ومن الهزل والجد.
(1/97)


فمن ظريف ما لأبي بكر من رسالة طويلة يهزأ بها بالبديع: تواضع لنا رحمك الله، فإن التواضع خلق من أخلاق السلف، وشبكة من شباك الشرف، وتصدق علينا ببشرك، فإن الله يجزي المتصدقين، وأحسن فإن الله يحب المحسنين، ولاين إخوانك في قولك وفعلك، ولو كنت فظاً غليط القلب لانفضوا من حولك. ولولا أني رحمك الله لا أقول بالرجعة، ولا أذهب مذهب التناسخية، لظننت أنك يونس بن فروة إذ قيل فيه:
أمّا ابن فروة يونس فكأنه ... من كبره ذاك الحمار القائم
ما الناس عندك غير نفسك وحدها ... والناس عندك ما عداك بهائم
فلقد أعجبت بنفسك الخسيسة التي لا تستحق العجب، وأحببت ما لا يساوي الحب، حتى كأن كسرى أنو شروان حامل غاشيتك، وكأن قارون وكيل نفقتك، وحتى كأنك بنيت منارة الإسكندرية من آجر دارك، وشدت ملعب سليمان من بقايا رخام صحنك؛ وكأن خاتم الدنيا في خصرك، وحساب خرجها ودخلها في بنصرك، وحتى كأن الشمس تطلع من جبينك، والغمام يندى من يمينك، وكأن كسرى أنو شروان صاحب نفقة إصطبل دوابك، ونمرود بن كنعان قهرمانك على ولدك وأهلك، وحتى كأن الكبريت الأحمر خزف دارك، والدرة اليتيمة في أخس سوارك.
رحمك الله ! دع لليونانية من الحكمة ما ينفق به سوقهم، واترك لبني العباس من التملك ما تمشي به أمورهم، وأبق للشمس والقمر من الحسن بمقدار ما يلوحان به، ويطلعان فيه؛ وانظر إلى النساء من وراء حجاب، ومن خلف برقع، وإلا خرجن في عشقك من ستر الله، وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله، ولا تحمل الحرائر على خشونة الطلاق، ولا تذق المماليك مرارة العناق.
رحمك الله ! لي حوائج إن قضيتها فقد تسلفت شكري وثنائي، وإن رددتني عنها فقد رأيت أنموذج سخطي وشكواي، قد اتفق الناس على ضياع النسخة الأولى من كتاب العين فأملها علينا رحمك الله ! والكيمياء فقد أنفقت فيها الأموال، وتعب فيها الرجال، ثم لم يحصوا منها إلا على مواعيد مزخرفة، وأماني مسوفة، فما عليك لو علمتناها، وأغنيت الفقراء، وزدت الأغنياء، وأرحت الناس من الضرب في البلاد، ومن الكد والاجتهاد، ومن أن يخدم فقير غنياً، ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.
والزيج الأكبر فقد انقطع أصله، ومات أهله، وهو من مفاخر الروم علينا، ومن محاسنهم دوننا. فاعمل على إصلاحه، ولا تدع النصارى يفضلون المسلمين في إبداعه. ومسجد دمشق فهو حسنة يباهي أهل المغرب أهل المشرق، فابن لنا مثله، ولا تثبت علينا فضله؛ فإنما هي ساعة من هندستك، وجزء نستعمله من أجزاء حكمتك.
أنا لو سلمت أنك إنسان لنفيت عن نفسي الإنسانية، وقضيت عليها بالبهيمية، وصرت أعلى منك في النقص حكمة، وفي الجهل طبقة. وإذا أردت أن تعلم أني في ذمك جاد، وفي مدحك لاعب، وفي الشهادة عليك صادق، وفي الشهادة لك كاذب، فانظر إلى تهافت كلامي إذا لاينتك وجاملتك، وإصابتي الغرض وحزي المفصل إذا كاشفتك وباينتك، وذلك أن الصادق معان مأخوذ بيديه، والكاذب مخذول مغضوب عليه، وما كان الله ليوفقني وأنا أجامل من لا يعرف قط إجمالاً ولا تجميلاً، وأفضل من لم يناسب مذ كان إفضالاً ولا تفضيلاً.
وليس يخفى عليك أكرمك الله تطاول أهل العراق بعبد الله بن هلال الهجري صديق إبليس؛ فأرنا رحمك الله من عجائب صنعتك، ولطائف شعبذتك، وأظهر من كتبك ما تحاكي به كتب اليونانية، وتكسد شعرهم وتهدم فخرهم؛ فإن إبليس تلميذ لك، تعلم منك وأخذ عنك؛ وشتان بين من يدعي أن إبليس من أعوانه، وبين من يدعي أنه من غلمانه. وهل استنظر إبليس إلى يوم الوقت المعلوم إلا ليدرك زمانك، ويرى برهانك، أي وفقدك فلا شيء أعز علي منه ! ولا أحسن في عني، أما سمعت قول علي بن جبلة في أبي دلف:
إنما الدّنيا أبو دلفٍ ... بين بادية ومحتضره
فإذا ولّى أبو دلفٍ ... ولّت الدّنيا على أثره
إلا غضبت عليه، واعتقدت أنه أخذ صفتك، وأعار أبا دلف مدحتك، ولا سمعت قوله:
إما الدّنيا حميدٌ ... وعطاياه الجسام
فإذا ولّى حميدٌ ... فعلى الدنيا السلام
إلا تمنيت لو عرفت قبره فرجمته، أو عرفت بيته فهدمته، ولا سمعت قول ليلى الأخيلية:
فتى كان أحيى من فتاة حيّية ... وأشجع من ليث بخفّان خادر
(1/98)


إلا قلت: كيف لو رأت ليلى أخانا، فتعلم أين دعواها من دعوانا. ولا أنشدت قول أبي السعلاء في الرشيد:
أغيثاً تحمل الناق ... ة أم تحمل هارونا
أم الشمس أم البدر ... أم الدنيا أم الدينا
فإني والله أتعجب حين قاله في غيرك، كيف لم ترم جهنم بشرارها، والشياطين بأحجارها، وأعجب من قول من قال في معن بن زائدة:
مسحت معدّ وجه معنٍ سابقاً ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب
كيف يسبق غيرك في حلبة وأنت في عدادها، أم كيف يكون غيرك سابق جيادها ؟ أنت أيدك الله بين هؤلاء الشعراء مرحوم مظلوم، سلبوك علاك وهي حلاك، ونحلوها قوماً سواك، والمدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم.
وهي طويلة جداً، مر له فيها إحسان كثير. وإنما احتذى في أثرها مثال رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ لأحمد بن عبد الوهاب المعروفة برسالة الطول والعرض وتعرف برسالة التوسع والتدوير ورسالة المفاكهات، واتبع أيضاً طريق أبي الفضل بن العميد في رسالته لابن سمكة النحوي.
بين الخوارزمي والبديع
وقد جمع بديع الزمان جوامع ما جرى بينه وبينه في كتاب أنفذه إلى بعض الأشراف، أنا أكتب منه ها هنا قطعة على اختصار، وهو وإن كان طويلاً فليس مملولاً، لما ألبسه من حلل البلاغة، وحلل البراعة، وجدته في الآذان، وحلاوته في الأذهان؛ وفيه أنواع تنفتح لها الأسماع، وتنشرح لها الطباع، مما ألف هذا الكتاب له من الملح الظريفة، والفكاهات الشريفة.
وأولها: سأل السيد أمتع الله ببقائه إخوانه أن أملي جوامع ما جرى بيننا وبين أبي بكر الخوارزمي أعزه الله من مناظرة مرة، ومنافرة أخرى، وموادعة أولاً، ومنازعة ثانياً، إملاء يجعل الأسماع له عياناً؛ فتلقيته بالطاعة، على حسب الاستطاعة، ولكن للقضية سبب لا تطيب إلا به، ومقدمات لا تحسن إلا معها، وسأسوق بعون الله صدر حديثنا إلى النجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز: وأولها: إنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور داراً، وإلا جوار السادة جواراً، لا جرم إنا حططنا بها الرحل، ومددنا عليها الطنب، وقديماً كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوقه، ونخبر به ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة على القشرة، وفي المودة عن الجلدة، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الأدب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع.
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا ... وكلّ غريبٍ للغريب نسيب
فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في ذلك الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزة بزوها، وفضة فضوها، وذهب ذهبوا به. ووردنا نيسابور براحة أنقى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار، وزي أوحش من طلعة المعلم، بل اطلاعة الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره، هذا بعد رقعة قدمناها، وأحوال أنس نظمناها؛ فلما أخذتنا عينه، سقانا الدردي من أول دنه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنه، من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره؛ لكنا أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، وقاربناه إذ جاذب؛ وواصلناه إذ جانب، ولبسناه على خشونته، وشربناه على كدورته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونقيم مناده، بما هذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إذ وجده يضرب إليه آباط القلة، في أطمار الغربة؛ فأعمل في ترتيبه أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام، ومضغ للكلام، وتكلف لرد السلام.
وقد قبلت ترتيبه صعراً، واحتملته وزراً، واحتضنته نكراً، وتأبطته شراً، ولم آله عذراً، فإنما المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقذر صف النعال. فلو أني صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت: إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناساً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف:
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم ... وأنديةٌ ينتابها القول والفعل
(1/99)


فلو طرحت بأبي بكر إليهم طوائح الغربة لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه المضيف خصيباً.
ورأي الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه موفق إن شاء الله تعالى.
فأجاب بما في نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: وصلت رقعة سيدي ورئيسي، أطال الله بقاءه، إلى آخر السكباج، وعرفت ما تضمنه من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر، والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه.
أما شكاة سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه كما زعم في القيام، فقد وفيته حقه أيده الله سلاماً وقياماً على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلا السيد أبا البركات العلوي، وما كنت لأوثر أحداً على من أبوه الرسول وأمه البتول، وشاهده التوراة والإنجيل، وناصره التأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل. فأما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصف: حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد:
فإن أك قد فارقت نجداً وأهله ... فما عهد نجدٍ عندنا بذميم
والله يعلم نيتي للأحرار كافة، ولسيدي من بينهم خاصة؛ فإن أعانني على بعض ما في نفسي بلغت له بعض ما فيه النية، وجاوزت به مسافة القدرة، وإن قطع علي طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار:
وما النفس إلاّ نطفةٌ بقرارةٍ ... إذا لم تكدّر كان صفواً غديرها
وبعد: فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتباً، واقترفنا ذنباً؛ فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله؛ ولست أسومه أن يقول: استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. ولكني أسأله أن يقول: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
فحين ورد الجواب، وعين العذر رائدة تركناه بعره، وطويناه على غره وعمدنا لذكره فسحوناه، ومن صحيفتنا محوناه؛ وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وربكنا خطته، وتجنبنا خطته، فلا طرنا إليه ولا طرنا به. ومضى على ذلك الأسبوع ودبت الأيام، ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير الأيام ذكره، ولا نودع الصدور حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها الأسماع من لسانه، وتوردها إلي، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها علي، فكاتبناه بما هذه نسخته: أنا أرد من سيدي الأستاذ أطال الله بقاءه شرعة وده وإن لم تصف، وألبس حلة بره وإن لم تضف، وقصاراي أن أكيله صاعاً عن مد؛ فإني وإن كنت في الأدب دعي النسب، ضعيف السبب، سيىء المنقلب: ضيق المضطرب، أمت إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الوداد، إن زرت زار، وإن عدت عاد. وسيدي أيده الله ناقشني في القبول أولاً، وصارفني في الإقبال ثانياً. فأما حديث الإقبال، وأمر الإنزال، فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه، وبعد، فكلفة الفضل هينة، وفروض الود متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم أختار قعود التغالي مركباً، وصعود التعالي مذهباً، وهلا ذاد الطير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها؛ فقد علم الله تعالى أن شوقي إليه قد كد الفؤاد برحاً إلى برح، ونكأه قرحاً على قرح، ولكنها مرة مرة ونفس حرة، لم تقد إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإجلال والإكرام، وإذا استعفاني من معاتبته، وأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، ولم أعره من نفسي، وأنا أعلم لو أني أعرت جناحي طائر لما طرت إلا إليه، ولا وقعت إلا عليه:
أحبّك يا شمس المعالي وبدرها ... وإن لامني فيك السّها والفراقد
وذاك لأنّ الفضل عندك باهرٌ ... وليس لأنّ العيش عندك بارد
(1/100)


فلما وردت عليه الرقعة؛ حشد تلاميذه وخدمه، وزم عن الجواب قلمه، وحبس للإيجاب قدمه، وطلع مع الفجر علينا. ونظمت حاشيتنا دار الإمام أبي الطيب. فقلت: الآن تشرق الحشمة وتنور، وتنجد في العشرة وتغور، وقصدناه شاكرين لمأتاه؛ وانتظرنا عادة بره، وتوقعنا مادة فضله، فكان خلباً شمناه، وآلاً وردناه، وصرفنا الأمر في تأخره، وتأخرنا عنه إلى ما قال عبد الله بن المعتز:
إّنا على البعاد والتفرّق ... لنلتقي بالذكر إن لم نلتق
وقول آخر وقد أحسن وزاد:
أحبّك في البتول وفي أبيها ... ولكنّي أحبّك من بعيد
وبقينا نلتقي خيالاً، ونقنع بالذكر وصالاً، حتى جعلت عواصفه تهب، وعقاربه تدب، وهو لا يرضى بالتعريض حتى يصرح، ولا يقنع بالنفاق حتى يعلن، وأفضت الحال به وبنا معه إلى أن قال: لو أن بهذا البلد رجلاً تأخذه هزة الهمم، وتملكه أريحية الكرم، لجمع بيني وبين فلان يعنيني:
ثم أرى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتي أم حمار
وود فلان بوسطاه، بل بيمناه، لو رحلنا وقلنا في المناخ له، وأتى بكلمات تحذو هذا الحذو، وتنحو هذا النحو، وألفاظ أتتنا من علو، فكان من جوابنا: بعض الوعيد يذهب في البيد. وقلنا: الصدق ينبىء عنك لا الوعيد. وقلنا: إن أجرأ الناس على الأسد أكثرهم له رؤية.
وقد قال بعض أصحابنا: قلت لفلان: لا تناظر فلاناً فإنه يغلبك. قال: أمثلي يغب وعندي دفتر مجلد، ووجدنا عندنا دفاتر مجلدة، وأجزاء مجودة، وأنشدناه قول حجل بن نضلة:
جاء شقيقٌ عارضناه رمحه ... إنّ بني عمّك فيهم رماح
هل أحدث الدهر لنا توبة ... أم هل رفت أم شقيق سلاح
وقلنا: إنا نقتحم الخطب، ونوسط الحرب، فنردها مفحمين ونصدر بلغاء:
وألسننا قبل النزيل قصيرة ... ولكنّها بعد النّزال تطول
فمن ظنّ أن قد يلاقي الحرو ... ب وألاّ يصاب فقد ظنّ عجزا
فإنك متى شئت لقيت منا خصماً ضخماً، ينهشك قضماً، ويأكلك خضماً، وحملناه على قول القائل:
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب تأخذ من أنفاسها جزع
وقلنا له:
نصحتك فالتمس يأويك غيري ... طعاماً إنّ لحمي كان مرّا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمةٍ غداة لقيت عمرا
وجعل الشيطان يثقل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه:
وحتى ظنّ أنّ الغشّ نصحي ... وخالفني كأنّي قلت هجرا
واتفق أن السيد أبا علي أدام الله عزه نشط للجمع بيننا؛ فدعاني فأجبت، وعرض علي حضور أبي بكر فطلبت ذلك، وقلت: هذه عدة لم أزل أتنجزها، وفرصة لا أزال أنتهزها.
فتجشم السيد أبو الحسن أعزه الله مكاتبته يستدعيه، فاعتذر أبو بكر بعذر في التأخر. فقلت: لا ولا كرامة للدهر أن نقعد تحت ضيمه، أو نقبل خسف ظلمه. وكتبت أنا له أشحذ عزمته على البدار، وألوي رأيه عن الاعتذار، وأعرفه ما في ذلك من ظنون تشتبه، وتهم تتجه، وتناذير تختلف، واعتقادات تخلف، وقدنا إليه مركوباً لنكون قد ألزمناه الحج، وأعطيناه الراحلة؛ فجاءنا بطبقة أف، وعدد تف:
كل بغيض طوله أصبع ... وأنفه خمس أشبار
مع أصحاب عانات، وأرباب جربانات، وسرحنا الطرف منه ومنهم في أحمى من است النمر، وأعطس من أنف النغر، فرأينا رجالاً جوفاً، قد حلقوا صوفاً، فأمنا المعرة، ولم نخش المضرة.
والمناظرة بينهما يطول ذكرها، ويعظم قدرها، ويخرج بها الكتاب عن حده؛ ولكني ألمع منها باليسير، إذ لو ذكرت جميع المعارضات والمناقضات، والمبادهة والمواجهة، لأضعفت على ما كتبت.
فمن ذلك أن البديع قال قلت له: اقترح علي غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، حتى أقترح عليك أربعمائة صنف من الترسل؛ فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، فلك فيها السبق.
مثال ذلك، أن أقول لك: اكتب كتاباً يقرأ جوابه منه؛ هل يمكنك أن تكتب ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً على المعنى الذي أقترح، وانظم شعراً وافرغ منهما فراغاً واحداً؛ هل كنت تمد لهذا ساعداً ؟
(1/101)


أو أقول لك: اكتب كتاباً في المعنى الذي أقول وأنص عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتى إذا كتبت ذلك قرىء من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرىء من أسفله؛ هل كنت تفوق لهذا الغرض سهماً، أو تجيل قدحاً، أو تصيب نجحاً ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً إذا قرىء من أوله إلى آخره كان كاتباً، وإذا عكست سطوره مخالفة كان جواباً؛ هل كنت في هذا العمل واري الزند، قاصد القصد ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً على المعنى الذي أقترح، لا يكون فيه معنى متصل من واو تتقدم الكلمة، أو منفصل عنها بديهة، هل كنت تفعل ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً خالياً من الألف واللام، لا تصب معانيه إلا على قالب ألفاظه، ولا تخرجه من جهة أغراضه، هل كنت تقف من ذلك موقفاً مشهوراً ؟ أو يبعك ربك مقاماً محموداً؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً أوائل سطوره كلها ميم، وآخرها جيم، على المعنى الذي أريد، هل كنت تغلو في قوسه غلوة، أو تخطو في أرضه خطوة ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منها بطائل ؟ أو تبل لهاتك بناطل ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً إذا قرىء معوجاً، أو سرد معرجاً، كان شعراً، هل كنت تقطع في ذلك شعراً ؟ بلى، والله تصيب ولكن من بدنك، وتقطع ولكن من ذقنك.
أو أقول لك: اكتب كتاباً إذا فسر من وجه كان مدحاً، وإذا فسر من وجه آخر كان قدحاً، هل كنت تقدر على هذه العمدة ؟ أو تخرج من هذه العهدة ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً كنت قد حفظته من دون أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به ؟ بل است البائن أعلم.
فقال أبو بكر: هذه الأبواب شعبذة فقلت: وهذا القول طرمذة، فما الذي تحسن أنت من الكتابة وفنونها، حتى أباحثك عن مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأثير فيها قلمك، وأسبر لسانك وفمك. فقال: الكتابة التي يتعاطاها أهل الزمان، المتعارفة بين الناس.
فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة إلا هذه الطريقة الساذجة، وهذا النوع الواحد المتداول بكل قلم، المتناول بكل يد وفم، ولا تحسن هذه الشعبذة.
فقال: نعم ! فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل، وأنابلك بهذا النبل، ثم تقاس ألفاظي بألفظاك، ويعارض إنشائي بإنشائك؛ فأقترح كتاباً يكتب في النقود وفسادها، وفي التجارات وكسادها ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها، والأسعار وغلائها.
فكتب أبو بكر بما نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، الدرهم والدينار ثمن الدنيا والآخرة؛ بهما يتوصل إلى جنات النعيم، ويخلد في نار الجحيم، قال الله تعالى: " خُذ من أموالهم صدقةً تُطهِّرهم وتزكّيهم بها وصَلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم واللّه سميع عليم " . وقد بلغنا من فساد النقود ما أكبرناه أشد الإكبار؛ وأنكرناه أعظم الإنكار، لما نراه من الصلاح للعباد، وننويه من الخير للبلاد، وتعرفنا في ذلك بما يربح الناس في الزرع والضرع إلى كلمات لم تعلق بحفظنا.
فقلت: إن الإنكار والإكبار، والبلاد والعباد، وجنات النعيم ونار الجحيم، والزرع والضرع، قد نبت عن العد، وزلت عن اليد، وقد كتبت كما ترى بما ساوق فيه اللسان القلم، وسابقت اليد الفم، ولا أطالبك بمثل ما أنشأت. فاقرأه ولك اليد، وناولته الرقعة فبقي وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافة.
وهذا ما كتب البديع ارتجالاً: بسم الله الرحمن الرحيم: الله شاء أن المحاضر صدور بها وتملأ المنابر، ظهور لها وتفرع الدفاتر، وجوه بها وتمشق المحابر، بطون لها ترشق آثاراً، كانت فيه، آمالنا مقتضى على أياديه، في تأييده الله أدام الأمير جرى، وإذا المسلمين ظهور عن الثقل هذا ويرفع الدين، أهل عن الكل هذا يحط أن في إليه نتضرع، ونحن واقفة، والتجارات زائفة، والنقود صيارفة، أجمع الناس صار فقد كريماً نظراً إلينا لينظر شيمه، مصاب وانتجعنا كرمه، بارقة وشمنا هممه، على آمالنا رقاب وعلقنا أحوالنا، وجوه له وكشفنا آمالنا، وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا أن ونعماءه تأييده وأدام بقاءه الله أدام الحال الجليل الأمير رأى أن وصلى الله على النبي محمد وآله وصحبه وسلم.
(1/102)


فجعلت أقرؤه منكوساً، وأسرده معكوساً، والعيون تبرق وتحار. فلما فرغت من قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين. وقال الناس: قد عرفنا الفاضل من المفضول، ثم ملنا إلى اللغة والعروض والنحو والشعر والحفظ، فلما برد ضجر الناس وقاموا يفدونني بالأمهات، ويشتمون الفرس المنبت؛ وقام أبو بكر فغشي عليه، وقمت إليه فقلت:
يعزّ عليّ في الميدان أنّي ... قتلت مناسبي جلداً وقهرا
ولكن رمت شيئاً لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا
وخرجت وقد اجتمع الناس؛ فتلقوني بالشفاه تقبيلاً، وبالأفواه تبجيلاً، وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس فلم يظهر أبو بكر، حتى خفره الليل بجنوده، وخلع عليه الظلام خلع بروده.
عود إلى النوادر مع الشق
كان بمصر شريف من ولد أبي العباس يعرف بأبي جعفر الشق، شبيه بابن الجصاص في الغفلة والجد والنعمة. قال أبو القاسم بن محمد التنوخي: بعثني أبي إليه من قرية تعرف بتلا يستقرضه عشرة أرداب قمحاً وثلاثين زوج بقر، وكتب معي بذلك رقعة؛ فأتيت إليه وسلمت عليه ودفعت إليه الرقعة. فقال: ذكرت أباك بخير وحرس وأسعده، فهو صاحبي وصديقي وخليطي، وأين هو الآن ؟ قلت: بقرية تلا أعز الله سيدي الشريف. قال: نعم ! حفظه الله ه بالفسطاط معنا؛ وقد انقطع عنا كذا، ما كنت أظنه إلا غائباً. قلت: لا يا سيدي هو بتلا. قال: فما لك ما قلت لي ؟ فما كان سبيله أن يؤنسني برقعة من قبله. قلت: يا سيدي، قد دفعت إليك رقعته. قال: وأين هي ؟ قلت: تحت البساط، فأخذها وقرأها وقال: قل لي الآن؛ كان لك أخ أعرفه حار الرأس حاد الذهن، يحسن النحو والعروض والشعر، فما فعل الله به ؟ قلت: أنا هو أعزك الله. قال: كبرت كذا، وعهدي بك تأتيني معه وأنت بزقة مخطة لعقة قردلاش. قلت: نعم! أيد الله الشريف. قال: وما الذي جئت به ؟ قلت له: والدي بعثني إليك برقعة يسألك فيها قرض عشرة أرادب قمحاً وثلاثين زوج بقر. قال: وهو الآن بالفسطاط ؟ قلت: لا يا سيدي هو بتلا. قال: نعم ! وإنما ذاك الفتى أخوك ؟ قلت: لا، أنا هو، فهو يراجعني الكلام، وقد ضجرت من شدة غفلته وكثرة نسيانه لما أقول له، حتى أقبل كاتبه أبو الحسين، فقال: سل هذا الفت ما أراد. فسألني فعرفته فأخبره فقال له: نفذ له حاجته، فوقع لي الكتاب بما أراد. وقال: تلقاني للقبض بالديوان، فشكرت الشريف ونهضت.
فقال: اصبر يا بني فقد حضر طعامنا. وقدم الطعام وفيه حصرمية غير محكمة، فرفع يده وقال: مثل مطبخي يكون فيه مثل هذه ! علي بالطباخ، فأتى، فقال له: ما هذا العمل ؟ فقال: يا سيدي؛ إنما أنا صانعٌ وعلى قدر ما أعطى أعمل، وقد سألت المنفق يشتري لي ما أحتاج إليه فتأخر عني فعملت على غير تمكن؛ فجاء التقصير كما ترى.
فقال: علي بالمنفق فأحضر. فقال: مالي قليل ؟ قال: لا يا سيدي، بل عندك نعم واسعة. قال: فما لك تضايقنا في النفقة ولا توسع كما وسع الله علينا ؟ قال: يا سيدي، إنما أنفق ما أعطى، وقد سألت الجهبذ أن يدفع لي فتأخر عني. فقال: علي بالجهبذ فأتي به. فقال: ما لك لم تدفع للمنفق شيئاً ؟ قال: لم يوقع لي الكاتب. فقال للكاتب: لم لم تدفع إليه شيئاً ؟ فتلعثم في الكلام ولم يكن عنده جواب. فقال للكاتب: قف ها هنا فوقف، ووقف خلفه الجهبذ، ووقف خلف الجهبذ المنفق، وخلف المنفق الطباخ. وقال: نفيت من العباس إن لم يصفع كل واحد منكم من يليه بأكثر ما يقدر عليه، فتصافعوا.
قال: فخرجت وأنا متعجب من غباوته ودقته في هذا الحكم.
إذا ذهب الحمار بأم عمرو
ودخل عليه كاتبه أبو الحسين فوجده يبكي بكاءً شديداً، ويقول: واإنقصام ظهراه، واهلاكاه ! فقلت: ما للشريف لا أبكى الله عينه ؟ فقال: ماتت الكبيرة يريد أمه وكان باراً بها. فقلت: ماتت ؟ قال: نعم ! فشققت جيبي وأظهرت من الجزع ما يجب لمثلي. ثم إني أنكرت الحال إذ لم أجد لذلك دليلاً، لا أحد يعزيه، ولا في الدار حركة؛ فبقيت حائراً حتى أتت الخادمة. فقالت: الكبيرة تقرئك السلام، وتقول لك: إيش تأكل اليوم ؟ قال: قولي لها، ومتى أكلت قط بغير شهوتك ؟ فقلت: يا سيدي، والكبيرة في الحياة ؟ فقال: وإيش تظن أنها ماتت من حق ؟ إنما رأيت البارحة في المنام كأنها راكبة على حمار مصري تسقيه من النيل، فذكرت قول الشاعر: إذا ذهب الحمار بأم عمرو..... البيت المشهور.
(1/103)



ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة