وعـــي الحــداثــة : دراسات جمالية في الحداثة الشعرية
الفصل الثالث
د. ســعد الـدين كـليب
دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1997
الفصل الثالث : جمالية الرمز الفني في شعر الحداثة
تأسيس نظري:
إذا كانت المدرسة الرمزية SYMBOLISM قد جعلت من التعبير الرمزي هو الشكل الأوحد للتجربة الجماليةفي الفن؛ فإن ذلك لايعني أن الرمز بوصفه شكلاً من أشكال التعبير الجمالي، لم يكن له وجود أو أهمية في الفن من قبل. كما لايعني أن شعر الحداثة العربية يمكن أن ينضوي تحت المدرسة الرمزية، لاتكائه الكبير على التعبير الرمزي، أو لإفادته التقنية من هذه المدرسة، بحسب مايذهب إليه بعض النقاد (1). إذ يؤكدون أن هذا الشعر ينتمي مدرسياً إلى الرمزية. وهم، في هذا التأكيد، ينسون أن التصنيف المدرسي ينبغي أن ينطلق من تحديد هذا المستوى الفني أو ذاك، كما أسلفنا سابقاً.
ولتعميق هذه المقولة، نشير إلى أن التعامل الرمزي، في تلك المدرسة، لم يكن أسلوباً فنياً فحسب. بل كان أيضاً موقفاً جمالياً وفلسفياً من العالم، وقد تبدّى هذا في الأطروحات الاجتماعية والأخلاقية والفنية، لتلك المدرسة التي ترى "أن الواقع لايصلح أن يكون منطلقاً للفن، فالمثال هو المطمح. والجمال وحده هو الموضوع"(2). ومن ذلك، لم يكن مالارميه ـ أحد أهم الشعراء الرمزيين ـ يهدف من الجمال إلا إلى الجمال (3). وليس هذا فحسب. بل إن سعيه الدؤوب إلى الجمال المثالي قد جعله يحلم ، لمدة عشرين عاماً، بأن ينتج شعراً صافياً من دون أن ينتج إلا القليل من الشعر(4). وقد تطرّف مالارميه، بوصفه ممثلاً للرمزية ، في الاهتمام بما هو تقني، إلى الحد الذي يمكن فيه أن تتم المصالحة بين جماليات الشعر الصافي ـ كما ظهرت عنده ـ وبين الجماليات الكلاسيكية المتكلفة(5). ولم يكن الأساس في ذلك إلا الرغبة الجامحة في الوصول إلى الجمال المثالي المطلق الذي يحيل على الواقع ولايتدنّس بسلبياته. ومايصحّ على مالارميه يصحّ على غيره من شعراء المدرسة الرمزية، من مثل بودلير ورامبو اللذين لم يكونا أقل نزوعاً إلى الجمال المثالي من مالارميه، ولم يكونا أيضاً أكثر غزارة منه على صعيد الإنتاج الشعري.
إن هذا النزوع إلى الجمال المثالي هو الذي يسوِّغ دعوة المدرسة الرمزية إلى مقولة الفن للفن.
حيث لاينبغي أن يحيل الفن على سواه، إذ الهدف من الجمال هو الجمال، فحسب وغني عن البيان أن مفهوم الجمال، هنا، يعني ما هو تقني ، مثلما يعني ماهو مثالي مجرد.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن لقب "المنحط" DECADENT الذي كان الشاعر الرمزي يكرّم نفسه وأصدقاءه به، كان في أساسه موقفاً سلبياً حاداً من عالم مادي مبتذل. أي "كانت بدعة الانحطاط وسيلة يحمي بها المرء (أي الشاعر الرمزي) نفسه من تفاهة البرجوازية وبلادة عالم يستسلم أكثر فأكثر للاتجاه الصناعي(6)". وكأن الانحطاطDECADENCE هو الوجه الآخر للجمال المثالي.... بمعنى أن الشاعر الذي يسعى إلى هذا النوع من الجمال، سوف يكون ممتناً، إذا ماوُصِف بالانحطاط، في واقع مبتذل خال من الجمال. فعدم الانحطاط يبدو للشاعر الرمزي انغماساً في القبح السائد. ولهذا فإن افتخاره بالانحطاط هو في أساسه رفض للواقع بقيمه وعلاقاته، مثلما هو دفاع عن الجمال المثالي الذي لم يتلوّث بالنفعية البرجوازية التي لاينجو منها شيء أو قيمة. ومن هنا، فإن طرح الرمزية لمقولة الفن للفن لاينسجم والجمال المثالي الذي تسعى إليه فحسب، بل ينسجم أيضاً ورفض الجوهر القيمي للبرجوازية ألا وهو النفعية. وكما يقول سارتر، فإن البرجوازية "لاتفهم العمل الأدبي على أنه خلق مجاني مجرّد . بل على أنه خدمة مأجورة"(7).
ولهذا فإن رفض ذلك الجوهر قد أدى إلى الارتفاع بالجمال إلى ماهو مثالي مجرد، مثلما أدّى إلى نفي النفعية عن الفن. حتى قال غوتييه " كل فنان يهدف إلى ماسوى الجمال فليس بفنان"(8).
أما أوسكار وايلد، فإنه يصفح " عن صاحب الفن المفيد إذا أدرك أن فنه ليس جميلاً"(9).
فالرمزية إذاً، موقف اجتماعي ـ جمالي، قبل أن تكون أسلوباً فنياً، أو الأصحّ أن هذا الموقف هو الذي انعكس بشكل فني رمزي. ولهذا فإن أي حركة شعرية لاتتلاءم في أطروحاتها الاجتماعية والجمالية، مع أطروحات تلك المدرسة، لايمكن لنا أن نعدّها منتمية إليها أو منضوبة تحتها، وإن تكن قد أفادت من منجزاتها التقنية. فالتشاكل في الأسلوب الفني لايؤدي بالضرورة إلى التشاكل في الموقف الجمالي. مع العلم أن هذا الموقف هو الأساس في التباين المدرسي في الفن.
نقول ذلك، على الرغم من كونه بدهية في الدرس الجمالي للفن. غير أن هذه البدهية كثيراً مايتمُّ تناسيها، حين يذهب بعض النقاد إلى تصنيف شعر الحداثة العربية تحت هذه المدرسة أو تلك، ولاسيما الرمزية.
إن إطلاق مصطلح التيار الرمزي على شعر الحداثة يغفل أن ثمة تعارضاً. بل تناقضاً، على صعيد الموقف الإجتماعي ـ الجمالي، بين كل من الرمزية وشعر الحداثة.
فالواقع هو المجال الحيوي الذي يتحرك فيه هذا الشعر، وهو المعنيّ بالتقويم والتغيير، لا المثال أو الجمال المجرد، كما هي الحال في الرمزية. ولهذا فإن شعر الحداثة قد زجَّ بنفسه في أتون الصراع الاجتماعي، رافضاً أن ينكفئ على ماهو ذاتي أو شكلي أو وهمي . أي أن لهذا الشعر وظيفة اجتماعية ـ جمالية ذات مضمون ثوري تغييري. وهو مايعني أن صفة "الثوري" هي التي يفخر بها الشاعر الحداثي، لا صفة "المنحطّ". وذلك بصرف النظر عن طبيعة تلك الثورية. وهل هي طبيعة سياسية أو فكرية أو قيمية.
لقد طبعت صفة الثورية شعر الحداثة بطابع صدامي مع كل مايتنافى والقيم الجمالية التي يدافع عنها أو يسعى إلى طرحها. ولهذا لاغرابة في أن تتصدّر قيمة البطولي HEROIC لائحة القيم المطروحة. إذ إن البطولي هو المعادل الجمالي للثوري. ولاغرابة أيضاً في أن يتصّف الجمال، في شعر الحداثة، بطابع صدامي. بل حتى مفهوم المغترب المعذب الذي كثيراً مانواجهه في هذا الشعر، لايقوم على ماهو وجودي، كما في الرمزية، وإنما يقوم على ماهو اجتماعي وسياسي وقيمي ذو طابع صدامي أيضاً. والحقيقة أن دراسة القيم الجمالية التي طرحها شعر الحداثة تؤكّد بمالايدع مجالاً للشك أن هذا الشعر على تناقض مع الرمزية بوصفها موقفاً اجتماعياً ـ جمالياً. غير أن هذا التأكيد لاينفي إفادة هذا الشعر من الرمزية بوصفها أسلوباً فنياً.
يمكن تعريف الرمز الفنيARTISTIC SYMBOL بأنه صورة الشيء محوّلاً إلى شيء آخر، بمقتضى التشاكل المجازي، بحيث يغدو لكلٍّ منهما الشرعية في أن يستعلن في فضاء النص. فثمة، إذاً، ثنائية مضمرة في الرمز. وهذه الثنائية تحيل على تقويمين جماليين متماثلين. مع الإشارة إلى أن هذا التماثل هو الأساس في التحويل الذي يجريه المبدع. أي هو الأساس في جعل الثنائية واحدية في الرمز. ولابأس من الإفادة من تعريف مؤلفي نظرية الأدب للرمز، على أنه "موضوع يشير إلى موضوع آخر. لكن فيه مايؤهّله لأن يتطلب الانتباه إليه لذاته ، كشيء معروض"(10).
إن للرمز الفني عدة سمات إذا انتفت عنه، انتفى كونه رمزاً، وتحوّل إلى أن يكون مجرد إشارة أو علامةMARK أما تلك السمات فهي: الإيحائية، والانفعالية والتخييل، والحسية، والسياقية(11). إن سمة الإيحائية تعني أن للرمز الفني دلالات متعددة، ولايجوز أن يكون له دلالة واحدة فحسب، وإن يكن هذا لايمنع من أن تتصدر إحدى الدلالات.
إن تعدد الدلالات ينهض من الكثافة الشعورية والمعنوية التي يعبر عنها الرمز، ويقوم عليها. أي أن الإيحائية إذ تكون سمة للرمز، تكون أيضاً سمة للتجربة الجمالية من حيث الكثافة والعمق والتنوع. ولهذا فإن المجانية أو الاعتباطية في طرح الرموز، لن تؤدي، بحال من الأحوال، إلى إيحائية ذات وظيفة جمالية ـ تعبيرية. فالإيحاء الجمالي هو إيحاء مكثف ممتلئ بموضوعه، يؤدي وظيفة يعجز عنها التناول المباشر للتجربة أو للظواهر والأشياء.
أما سمة الانفعالية، فتعني أن هذا الرمز هو حامل انفعال لاحامل مقولة. وهو بذلك يختلف عن الرموز الدينية والمنطقية والعلمية والعملية التي هي مقولات ومفاهيم، لاانفعالات وأحاسيس.
ومن البدهي أن هذه السمة تأتي من طبيعة التجربة الجمالية التي هي طبيعة انفعالية بالضرورة. ولهذا فإن الرمز الفني لايلخّص فكرة أو يعبّر عن رأي ، أو يطرح موقفاً فكرياً؛ وإنما يكثف انفعالاً، ويعبر عن تجربة.
وتعني سمة التخييل أن الرمز نتاج المجاز لانتاج الحقيقة. ولهذا فإن ثمة تناولاً مجازياً للظواهر والأشياء، بحيث تتحول عن صفاتها المعهودة، لتدخل في علاقة جديدة مختلفة عن سياقها الواقعي. غير أن هذا التحول محكوم بطبيعة الأثر الجمالي الذي تخلفه الظواهر والأشياء في الذات المبدعة. بمعنى أن التخييل لاينبغي أن يكون سائباً، في الرمز، من الكينونة الواقعية. وهذا ليس خاصاً بالرمز وحده. بل هو أساس التخييل في الفن عامة. وذلك كما يؤكد ادورنوADORNO حيث يرى أن الانفلات المطلق من الكينونة الواقعية. لن يؤدي إلا إلى تخييل مجاني رخيص ومحدود القيمة(12).
وتحيل سمة الحسية على أن هذا الرمز يجسّد ولايجرّد، بخلاف الرموز الأخرى، أي أن التحويل الذي يتم في الرمز لاينهض بتجريد الأشياء من حسيتها بل ينقلها من مستواها الحسي المعروف إلى مستوى حسي آخر، لم يكن لها من قبل أو لم نعهده فيها. وهو مايتلاءم وصفة الحسية التي يتصف بها الفن عامة. غير أنه لابدّ من الإشارة إلى أن الحسية في الرمز لاتتنافى والإيحائية المعنوية فيه. فقد تكون عناصر النص الشعري كلها حسية، إلا أن دلالاته معنوية. إذ إن المعنوي، في الفن، لايمكن إلا أن يتبدّى حسياً.
أما سمة السياقية التي يتّسم بها الرمز الفني، من دون الرموز الأخرى، فتعني أن هذا الرمز لا أهمية له خارج السياق الفني. إن السياق هو الذي يعطيه أهميته وكينونته المتميزة، ومضمونه الجمالي. ومن ذلك، فإن الظاهرة الطبيعية الواحدة يمكن أن يتولّد منها عدد غير محدود من الرموز الفنية، بحسب عدد الآثار أو التحريضات الجمالية، فلاغرابة، إذاً، في أن يتناقض رمزان، على الصعيد الجمالي والإيحائي، وهما من كينونة واقعية واحدة، وفي الوقت نفسه يكون لكلٍّ منهما الأهمية ذاتها.
إن هذا الرمز، بارتباطه بالسياق الفني، متغيّر ومتجدّد دائماً، من حيث المضمون. فكل سياق يفرض مضموناً خاصاً به. ولايجوز التعامل مع الرمز الفني بمعزل عن سياقه، وكأن له كياناً عاماً مشتركاً بين النصوص الشعرية كافة، أو كأن الكينونة الواقعية ينبغي أن تفرض كينونة رمزية محدّدة.
إن سمة السياقية هي إحدى السمات الخاصة بالرمز الفني، حيث نلحظ أن الرموز الأخرى هي رموز غير سياقية. أي أن لها معنى محدداً، بمعزل عن السياق الذي ترد فيه، وذلك بسبب كونها مقولات معرفية، لاانفعالات جمالية. ولنأخذ الرمز الصوفي مثلاً على ذلك. فهذا الرمز رمز عقدي ـ معرفي ينتمي إلى نظرية المعرفة، بخلاف الرمز الفني الذي ينتمي إلى التجربة الجمالية. ومن هنا، فإن ثمة رموزاً صوفية يتعامل بها الصوفي شاعراً كان أم متفلسفاً أم سالكاً أم واصلاً أم عارفاً. وذلك من مثل رموز المحبوب والارتحال والخمر والسُّكر والحمامة والحية...إلخ. فرمز السكر مثلاً، لدى الحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن الدباغ، هو نفسه من حيث المضمون. سواء أكان هذا في الشعر أم في النثر أم في المجاهدة الصوفية. وليس الأمر على هذا النحو في الرمز الفني الذي لامضمون محدداً له. وهو ماسوف نلحظه فيما يأتي من معالجة لرمزي الريح والحجر. ولكن لابدّ من القول إن السياقية لاتنفي أن يشترك عدة شعراء أو نصوص في مضمون واحد لهذا الرمز أو ذاك، أو أن يهيمن مضمون محدد على مرحلة معينة. إذ إن هذا يعود إلى هيمنة هاجس اجتماعي ـ جمالي معين، على هذه المرحلة أو تلك، بسبب الضرورات الاجتماعية والأيديولوجية. والحق أن هذا الاشتراك يفيد في تبيان نبض الواقع وحركته في النصوص الشعرية.
مستويات الرمز في الشعر:
لقد طرح شعر الحداثة العربية أنماطاً عدة، من الرموز الفنية التي تمكنت من تكثيف تجربته الجمالية، في علاقته بالواقع الإجتماعي ـ التاريخي الذي راح يتنامى فيه، بحيث جاءت هذه الرموز بوصفها معادلاً فنياً موضوعياً، للهواجس الاجتماعية والفردية التي برزت مع بروز هذا الشعر. ومن دون أخذ ذلك بعين الاعتبار، يصعب أن نفهم شيوع رموز الخصب والانبعاث، في مرحلة النهوض الوطني، في خمسينيات القرن العشرين. مثلما يصعب أن نفهم شيوع رموز اليباب والتشيؤ والاغتراب، مع تنامي الإحساس بإخفاق حركة التحرر العربية في إنجاز مشروعها الإجتماعي ـ الحضاري.
ومن البدهي أننا لانربط بشكل ميكانيكي بين الرمز الفني والهاجس الإجتماعي، وإنما نسعى إلى تأكيد أن كثيراً من الرموز يصعب فهمها، بمعزل عن الهاجس الإجتماعي، ولاسيما الرموز العامة أو الخاصة منها، فإن للطبيعة النفسية والروحية للمبدع أثراً حاسماً، في إنتاجها. غير أن هذه الرموز قد لاتبقى رموزاً خاصة، فيما إذا تقاطع فيها غير مبدع. وذلك من مثل رمز "الجدار" الذي طرحه أحمد عبد المعطي حجازي، من خلال معاناته النفسية والروحية، وقد ظهر بعده عند العديد من شعراء جيله.
أما أنماط الرموز التي طرحها شعر الحداثة، فهي الرمز الأسطوري، والرمز التاريخي والرمز الاصطناعي(* والرمز الطبيعي، علاوة على البنية الرمزية العامة. ونلحظ أن ثمة مستويات عدة في التعامل مع تلك الرموز، ولاسيما الرمز الأسطوري والتاريخي منها.
وهذه المستويات هي: المستوى التراكمي، والاستعاري، والإشاري المفهومي، والمحوري. ولابأس من التمثل لكل مستوى من هذه المستويات التي قد تتجاور في النص الشعري الواحد.
فمن حيث المستوى التراكمي، فقد بدا أن الشاعر الحداثي وكأنه اكتشف في الأسطورة نصاً فنياً معادلاً لما يسعى إلى التعبير عنه ، فراح يترك للأسطورة حرية القول عنه، مماجعل من بعض النصوص الشعرية مزدحماً بالرموز الأسطورية التي كادت أن تكون هي القول الشعري نفسه . بكلمة أخرى: إن الأسطورة بدت ، في هذا المستوى ، وكأنها الحامل للهاجس الشعري ، حتى تراكمت الرموز بحيث لم تعد رموزاً بقدر كونها إشارات إلى الأسطورة من جهة. وإلى الهاجس الشعري من جهة أخرى، ولعل السياب من أوائل الشعراء الذين أغرقوا في التعامل مع الرموز، في هذا المستوى. ولنقرأ السياب في مقبوس يعالج فيه تراجيدية المومس العمياء، من خلال تراجيدية الملك أوديب، في أسطورته المعروفة:
من هؤلاء العابرون
أحفاد (أوديب) الضرير ووارثوه المبصرون
(جوكست ) أرملة كأمس، وباب (طيبة) مايزال
يلقي (أبو الهول) الرهيب عليه، من رعب ظلال
والموت يلهث في سؤال (13).
وعلى الرغم من أن السياب قد تمكّن، في هذا المقبوس، من التعبير عن تراجيدية المومس العمياء، من خلال الأسطورة، فإن المقبوس بقي في إطار ترجمة الأسطورة إلى واقع، لاأسطرة الواقع.هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن هذه الأسماء لم تستطع أن تتحول إلى رموز، بالمعنى المصطلحي، إذ إنها بقيت تحمل معناها الأصلي، ولم يضف المقبوس إليها أيّ بعد جديد. كما أنها لم تأخذ شرعيتها من النص، علاوة على أن المقبوس لم يترك لها فسحة، كي تتنفس، أو أن تعلن عن نفسها، وإنما جاءت متراكمة بشكل أفقدها الكثير من الدفق الجمالي، مثلما أفقدها الإيحائية التي من دونها، لامعنى لاستخدام الرمز والتعبير الرمزي عامة. ولعل المستوى التراكمي يتوضّح أكثر، حين نقرأ المقبوس التالي، لمحمد عمران:
إرم ذات العماد
ذاك شدّاد بن عاد يزحم الأبواب
حشد من عباد
يفتحون الأرض، أوديب على صهوة طيبه
يشنق الغول. وهذا قيدر
يعقر الناقة. هذا يوسف
يتعرى من قميص الحسن في كفٍّ زليخا
تكشف الساقين بلقيس لدى الصرح
ابنة الشيخ على البئر
وموسى يرفع الدلو، ويرتاح إلى الظلّ
"أبي يدعوك"
هذي بابل ! هذي سدوم (14)
إن مراكمة مثل هذه الرموز، في نص شعري واحد، لايُفقد الرمز إيحائيته وحسب. بل يُفقد النص شعريته أيضاً. فكيف تراكمت هذه الرموز، في مقبوس قصير كهذا. فقد انعدمت حركة الرمز في السياق، ولم يبق منها غير الإحالة الأسطورية، أو التاريخية المؤسطرة. أي أن الإحالة الجمالية شبه معدومة. وحين تنعدم هذه، ينعدم بالضرورة جمال الرمز والنص عامة.
قد يبدو، للوهلة الأولى، أن عمران قد سعى، من خلال مراكمة تلك الرموز، إلى التعبير عن فوضوية الواقع الإجتماعي ـ السياسي، هذه الفوضوية التي سوف تؤدي به إلى الدمار والخراب، تماماً كما حدث لبابل وسدوم. غير أن التعبير عن الفوضوية لايتأتى من خلال فوضوية النص الشعري، أو فوضوية التعامل الفني مع الرموز. فالقبح لايتمّ التعبير عنه، في الفن، بشكل قبيح، وإنما بشكل يوحي بالجمال. وهذه هي ميزة الفن خاصة.
إن عمران لم يكن يتعامل، في هذا المقبوس، مع رموز، لها الحق في التعبير والإيحاء والحركة داخل النص، بقدر ماكان يتعامل مع إشارات ذات معنى محدّد. ومن الملاحظ أن عمران، في سعيه إلى مراكمة الرموزـ الإشارات، لم يكن مدفوعاً من هاجس اجتماعي ـ جمالي محدد، مما جعل النص مشتّت الإيحاء، ومتناقض الإحالات أيضاً. وهذا ماتوضّح في محمولات الرموز ـ الإشارات. فمحمول ابن عاد وأوديب، في النص، محمول بطولي. وفي قيدر ـ أو قدار عاقر ناقة صالح ـ محمول قبيح. وثمة محمول جميل في يوسف وزليخا، وسليمان وبلقيس، وموسى وابنة الشيخ ـ زوجه فيما بعد ـ كما أن ثمة محمولاً بطولياً في "موسى يرفع الدلو" لينتهي النص بمحمول تراجيدي (بابل، سدوم). غير أن هذه التراجيدية مفتعلة ومبتسرة أيضاً. إذ إن كل المحمولات الجمالية المطروحة، ماخلا محمول قيدر، لاتوحي بأن ثمة خطيئة تُوقعها في التراجيدية. أما خطيئة قيدر التي أدت إلى دمار ثمود. حيث ( أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين((1) فإنها ليست خطيئة تراجيدية. لأن القبيح لايمكنه أن يكون تراجيدياً، بحال من الأحوال.
وبهذا فإن المستوى التراكمي يسيء إلى النص، قبل أن يسيء إلى الرمز. إذ إن شعرية هذا تتأتى من شعرية ذاك. ولايمكن أن تنفصل إحداهما عن الأخرى.
أما من حيث المستوى الاستعاري، فإن الشاعر لايبدو فيه معنيّاً بالرمز. بل بمضمونه الذي يبدو له جاهزاً، وذا إيحاء محدد نهائي؛ مما يدفعه إلى استعارته للتعبير عن حالة أو معنى ما، أو يدفعه إلى جعله مشبهاً به. ومن المعلوم أن المشبّه في عملية التشبيه هو الغرض من إقامة هذه العملية، وليس المشبه به الذي يكون الغرض منه التوضيح أو التأكيد أو التدليل على مضمون المشبّه. وهذا مايتنافى وجمالية الرمز التي تؤكد أهمية الرمز بذاته، بوصفه موضوعاً يستحقّ الانتباه إليه بذاته ففي المستوى الاستعاري، إ ذاً، تقزيم للرمز، وتحويل له إلى إشارة محددة المضمون بشكل نهائي، كما في قول صلاح عبد الصبور:
وأبي يثني ذراعه
كهرقل (15)
أو قول علي كنعان:
ياتجار قريش
ياأعداء نبوءات الدم
ياالعلق الرابي في الأحواض الرطبة
هاأنذا أشعل في باب السوق
فتيل دمي بشرى للفقراء(16)
أو قول أحمد سليمان الأحمد:
ماكانت كلمات الشاعر
تحمل أي معان لولا الثورة والثوار
لم تولد (كأثينا) جاهزة من فكر إله
هذي الأشعار(17)
ولعل المستوى الإستعاري من أسوأ المستويات تعاملاً مع الرموز. حيث يختزل الشخصية الأسطورية أو التاريخية أو الواقعية بإشارة، ويختزل الإشارة بمقولة ناجزة، وليس هذا فحسب. بل إن الإشارة تأتي معدومة الدفق الجمالي، ويمكن حذفها من السياق أو استبدالها، من دون أن يؤثر ذلك فيه ،أو في التجربة المطروحة ،فهرقل ،مثلاً ،يمكن استبداله بآخيل أو أنكيدو أو عنترة ..الخ ، من دون أن يتأثر المعنى أو الحالة الشعورية . وذلك بما أن الغرض منه إبراز المقدرة البدنية الفائقة فحسب .أما بالنسبة إلى ( أثينا ) فإن حذفها من السياق يبدو أفضل من إثباتها فيه .كأن نقول (لولا الثورة والثوار ،لم تولد هذي الأشعار ) وإن يكن هذا القول مبتذلاً
وغير شعري. حيث إن الشاعر في استعارته لأثينا، قد أشار أيضاً إلى ما يقصده من هذه الاستعارة، وهو الولادة من رأس الإله. وكأن هذه الإشارة جاءت بوصفها وجه الشبه، في عملية التشبيه التي عقدها الشاعر بين الشعر وأثينا.
وعلى الرغم من أن رمز "تجار قريش" رمز قد وفّق به الشاعر، من حيث الإيحاء الجمالي بما يجري في الواقع المعاصر من متاجرة بقضية الفقراء، ومصادرة لها. غير أن متابعة هذا الرمز بجملتي النداء التاليتين، بما يوحي وكأن ثمة شرحاً له، قد ضيّقت المجال الإيحائي الذي يمكن أن يحوزه هذا الرمز. بمعنى أن جملتي النداء تحدّدان التلقي بالمنحى الذي سارتا فيه. وفي هذا تضييق لما هو واسع، وإغلاق لما يمكن أن يكون مفتوحاً.
وبالنسبة إلى المستوى الإشاري المفهومي، فإنه يتبدّى باعتبار الرمز مقولة فلسفية، أو سياسية، أو أخلاقية. مما يؤدي بالرمز إلى الانحراف عن الحقل الجمالي إلى حقول أخرى ذات ماهية مختلفة. وهو ما يؤدي، بدوره، إلى الانحراف عن الشعري إلى الفلسفي أو السياسي أو الأخلاقي. غير أن الرمز ليس هو السبب في ذلك. بل الوعي الشعري الذي إذا ما انحرف عن نسقه الجمالي، انحرف النص بكامله عن الشعرية POETICS . فبدلاً من أن يتعامل الشاعر جمالياً مع الظواهر والأشياء والحالات والرموز، فإنه يعاملها على أنها مقولات يمكن نقلها من حقولها المعرفية إلى الحقل الجمالي. وفي ذلك مافيه من إشكاليات فنية.
ونلحظ، فيما يخص هذا المستوى، أن الرمز لايأتي، في النص، إلا بوصفه حاملاً للأفكار التي يتبناها الشاعر. فالمبدع القومي العربي يميل إلى رموز ذات سمة عربية؛ والمبدع القومي السوري يميل إلى رموز ذات أصل سوري قديم؛ والمبدع الأممي يميل إلى رموز ذات بعد أممي ...إلخ. ومن البدهي أننا لانعترض على هذا التوزّع، من حيث هو تعبير جمالي ـ وإن يكن لهذا التوزع أساس أيديولوجي لا جمالي ـ غير أن الاعتراض ينصبُّ على التعامل مع تلك الرموز، من منظور كونها أفكاراً ومقولات ومفاهيم، لامن منظور التجربة الجمالية التي يمكن أن تشحنها بطاقة انفعالية وإيحائية.
إن هذا المستوى قد أدخل الرموز، في دائرة مغلقة، لم يعد بالإمكان أن تفلت منها. وهو مايسوغ إهمالها، في شعر الثمانينات، بعد أن استنفدت الغرض منها، وأصبحت مبتذلة، من حيث الإيحاء. أما هذه الرموز فهي نفسها تقريباً الرموز العامة الدالة على الخصب والانبعاث؛ أو رموز البطولة العربية في سمتها الاشتراكية، من مثل الصعاليك وأبي ذر الغفاري والقرامطة؛ أو رموز القبح الدالة على القمع والاستلاب من مثل الحجاج وتيمور لنك وهولاكو. ولابأس من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن هذه الرموز قد ابتذلت، لا لأنها أصبحت رموزاً عامة متداولة بين النصوص الشعرية الحداثية. بل لأن كثيراً منها قد تمَّ إنتاجه تحت ضغط الحقول غير الجمالية ونمثّل على ذلك بمقبوسين لكل من أدونيس وخليل حاوي.
يقول أدونيس في طائر الفينيق:
فينيق ليس من يرى سوادنا
يحسُّ كيف نمّحي
فينيق، أنت من يرى سوادنا
يحسُّ كيف نمّحي
فينيق مت فدىً لنا
فينيق ولتبدأ بك الحرائق
لتبدأ الشقائق
لتبدأ الحياة
ياأنت، يارماد، ياصلاة(18)
ويقول خليل حاوي في تموز إله الخصب:
ياإله الخصب، يابعلاً يفضُّ التربة العاقر
ياشمس الحصيد
ياإلهاً ينفض القبر ويافصحاً مجيد
أنت ياتموز، ياشمس الحصيد
نجّنا، نجّ عروق الأرض
من عقم دهاها ودهانا
أدفئ الموتى الحزانى
والجلاميد العبيد(19)
واضح من هذين المقبوسين أن فينيق وتموز ينهضان من مقولة واحدة، وهي مقولة الانبعاث، من خلال مفهوم البطولية الفردية، وبما أن الأمر على هذا النحو، فلن يتضرّر سياقا المقبوسين، إذا مااستبدل فينيق بتموز أو العكس. فكل من الرمزين يمتلك الاستقلالية عن سياقه، بوصفه مقولة ناجزة. وعلى الرغم من أن المقبوس الثاني أكثر صدوراً عن التجربة الجمالية، من المقبوس الأول؛ إلا أنه وقع فيما وقع فيه الأول، من تعامل مع رمز ناجز، لايحتاج من الشاعر إلا إلى إدخاله في السياق الفني. ولهذا فإن استبداله برمز آخر، له البعد الرمزي نفسه، لن يؤثر سلباً في ذلك السياق. وفي المحصلة، فإن القول الفكري هو الذي يقف وراء هذين المقبوسين.
تلك هي المستويات الثلاثة الدنيا التي شاعت في شعر الحداثة، في علاقته بالرمز الفني، ولاسيما الأسطوري والتاريخي. ولاشك في أنها مستويات متداخلة، ومتشاكلة أيضاً. غير أن الفرق الأساسي بينها يكمن في غرضية الرمز داخل النص. فعلى حين تكمن غرضيّة المستوى التراكمي في أن الرموز معادلة للهاجس الشعري؛ تكمن غرضية المستوى الاستعاري في أن الرمز توضيح أو توكيد أو تدليل على الفكرة المطروحة؛ وتكمن غرضيّة المستوى الإشاري المفهومي في التعبير عن الموقف الفكري. وتبقى هذه المستويات الثلاثة في إطار الإشارة أو العلامة، وقلّما تتجاوزها إلى حدود الرمز الفني بوصفه شكلاً يستوعب التجربة الجمالية.
وقد يقال، في هذا المجال، كيف يمكن أن نصنف هذه المستويات تحت مصطلح الرمز الفني، إذا لم تفارق كونها إشارة أو علامة..؟
ونقول: إن تصنيفها على هذا النحو ينطلق من أن الشاعر حين كان يستخدمها، إنما كان يرى فيها رموزاً تعبّر عن تجربته، وليس لنا أن نصادر حقّه في ذلك. أما أن يكون قد نجح أو أخفق في استخدامها، فهذا شأن آخر تماماً. ولنا كلُّ الحقّ في أن نحاوره في ذلك، أو أن نقوِّم استخدامه سلباً أو إيجاباً.
وأما بالنسبة إلى المستوى المحوري من التعامل مع الرموز، فيمكن التوكيد أن هذا المستوى هو الذي ينطبق عليه مصطلح الرمز الفني بكل مايعنيه المصطلح، حيث نلحظ الإيحائية والانفعالية والسياقية والتخييل والحسية، في هذا المستوى الذي يشكّل محور القول الشعري. ولقد توزع هذا المستوى، في شعر الحداثة، إلى شكلين اثنين. وهما: محورية الرمز في النص الشعري عامة، ومحوريته في الصورة الفنية خاصة. أما بالنسبة إلى الشكل الثاني، فإن بنية الصورة فيه تنهض من أبعاد الرمز الإيحائية، وتتأسس عليها. بحيث إن إيحائية الصورة تقوم على إيحائية الرمز، كمثل قول السياب:
أهذه مدينتي؟ جريحة القباب
فيها يهوذا أحمر الثياب
يسلّط الكلاب
على مهود إخوتي الصغار... والبيوت(20)
إن يهوذا ليس محور هذه الصورة فحسب. بل هو بؤرة الإيحاء الجمالي فيها أيضاً. فالقباب لم تنجرح إلا بيهوذا، ولم تنوجد الكلاب إلا به، ولم يرتعب الصغار والبيوت لولاه.
وإذا كان يهوذا أحمر الثياب لشهوانيته الدموية، فإن القباب حمر بدمها المراق، وأيضاً فإن الكلاب متدافعة نحو الدماء. ومايقال في القباب يقال أيضاً في الصغار والبيوت حيث دمها المراق بفعل الكلاب. أي أن شهوانية يهوذا الحمراء قد انعكست إيجابياً على الكلاب التي هي من مرادفاته، وانعكست سلبياً على القباب والصغار والبيوت التي هي من نقائضه. وقد انعكس كلّ ذلك في توجيه الصورة نحو التراجيدية.
ومن المفيد، هنا، أن نشير إلى أن يهوذا في الأناجيل، ليست له هذه الأفعال التي حمله إياها السياب، في هذه الصورة، غير أن للشاعر الحق، في أن يعامل الرمز من المنظور الذي يخدم هاجسه الشعري وتجربته الجمالية، إذا ماكان الرمز يحمل الطاقة الإيحائية في ذلك. لقد رأى السياب، في يهوذا، رمزاً للديكتاتور. من منظور أن يهوذا قد أراق دم المسيح، أو كان السبب في إراقته، من خلال تسليمه المسيح لجنود الطاغية هيرودس. فالعلاقة بين يهوذا وهيرودس هي التي أوحت للسياب بتحويل يهوذا إلى رمز للطاغية أو الديكتاتور، مع احتفاظ يهوذا بفعل الخيانة والغدر. وكأن يهوذا، في صورة السياب، ليس رمز الديكتاتور فحسب بل هو رمز الديكتاتور الذي كان قد وعد المدينة بالأمان، وانقلب عليها بالخيانة والغدر والاستلاب. فالمدينة، بهذا المعنى، لاتعاني من الطغيان فقط، وإنما تعاني أيضاً من الخيانة وانكسار الأحلام. وهو ما يضاعف التراجيدية فيها. وبهذا فقد تصرّف السياب برمز يهوذا بما يتلاءم وهاجسه الشعري من جهة، وبما يتلاءم وطاقة الرمز الإيحائية من جهة ثانية.
إن انبناء الصورة الفنية على الرمز إذ يضيف إليها طاقة إيحائية، يوسّع إمكانيتها التعبيرية في استيعاب ظواهر وحالات وتجارب اجتماعية ونفسية وروحية جديدة، مما يؤكّد سيرورتها الجمالية. وهذا مانلمسه في الكثير من الصور الفنية المبنية على الرمز، سواء أكان أسطورياً أم تاريخياً أم اصطناعياً أم طبيعياً.
يقول سعدي يوسف في المنزل بوصفه رمزاً اصطناعياً:
منذ عشرين عاماً وعامين
لي منزل بدمشق العتيقة،
جدرانه راحتاي
وأشجاره لهفتي
منزل في دمشق العتيقة
حاذرت أن يطأ العابر المتعجل أعتابه
أو يراه المتاجر،
أو تدّعيه الغيوم الجديدة
إنه الآن يمشي معي
في البلاد التي كرهت
والبلاد التي هويت
والبلاد التي لاأراها (21)
إن المنزل، في هذه الصورة ـ المقطع، هو منزل حقيقي بقدر ماهو رمزي. إنه الوجود والكينونة والمصير والذات، مثلما هو جدران وأعتاب وأشجار. ولهذا لاغرابة في أن يكون المنزل هو بؤرة الإيحاء الجمالي، في هذه الصورة. وعلى الرغم من أن الشاعر قد توقف عنده طويلاً، إلا أنه لم يحاول شرحه أو توكيده. بل كان ينطلق منه لتوسيع دائرته التعبيرية. وهو ماجعل إيحاءه متعدداً ومتنوعاً، بحيث من الصعب أن يتحدد في بعد واحد. ولابأس من الإشارة إلى أن سمات الرمز الفني قد تجسدت كلها في هذا الرمز المحوري ـ المنزل. فهو رمز سياقي أولاً، لم يتكئ الشاعر فيه على ماهو ناجز من أفكار حول المنزل؛ كما لايمكن استبداله أو حذفه بأية حال من الأحوال. ومن جهة ثانية، فإن هذا الرمز ممتلئ بالانفعال الجمالي. إنه يصدر عن الإثارة والتحريض والتفاعل. لاعن المعالجة الذهنية. ولهذا فإن إيحاءه انفعالي لاذهني أو فكري.
أما من حيث الحسية، فواضح أن الرمز لم يجرِّد المنزل، وإنما نقله من مستوى حسي إلى آخر مختلف، مع احتفاظه بإيحاء المستوى الأول. وفي هذا يكمن التخييل الذي ينهض من التعامل المجازي مع المنزل. إنه تخييل يستنبط القيمة الجمالية للمنزل، ليعمقها بقيمة أخرى.
والحق أن هذا الرمز ـ والصورة عامة ـ لايمكن استيعابه نقدياً من دون الأخذ بعين الاعتبار جمالية المكان، والطبيعة الشعورية واللاشعورية لعلاقة الإنسان بالمكان الذي ليس له وجود موضوعي فحسب. بل إن له وجوداً ذاتياً، لايقل قيمة وأهمية وحساسية عن وجوده الموضوعي.
وأما ما يخصّ محورية الرمز في النص الشعري عامة، فإن ثمة الكثير من النصوص الشعرية التي أنبنت على رمز محدد، وتمحورت على إيحائه، ويمكن أن نشير، في هذا المجال، إلى "المسيح بعد الصلب" و "سربروس في بابل" للسياب، و "الأخضر بن يوسف" لسعدي يوسف، و "في جوف حوت" و "العازر عام 1962" لخليل حاوي، و "الصقر" و "تحولات الصقر" و "مهيار الدمشقي" لأدونيس، و "شاهين" و" الملاجة" لمحمد عمران، و "هيلين" لنزيه أبو عفش، و "زرقاء اليمامة" لأمل دنقل...إلخ.
غير أن ماتنبغي الإشارة إليه هو أن الرمز المحوري في النص غالباً مايتداخل في النموذج الفني. بمعنى أن الرمز يبدو نموذجاً، مثلما يبدو النموذج رمزاً. ولهذا فإن تحليل النصوص المذكورة آنفاً لايمكن أن يغفل هذا التداخل الذي كثيراً مايصل إلى مستوى الاتحاد أو الوحدة.
وإذا كان المجال لايسمح بتحليل نص شعري، من نمط النصوص الآنفة الذكر، بسبب طولها النسبي، فإن ذلك لايمنع من تحليل نص قصير، هو أقرب إلى المقطع منه إلى القصيدة. أما النص فهو المعنون بـ "أورفيوس"(23) لأدونيس:
عاشق أتدحرج في عتمات الجحيم
حجراً، غير أني أضيء
إن لي موعداً مع الكاهنات
في سرير الإله القديم
كلماتي رياح تهزّ الحياة
وغنائي شرار
إنني لغة لإله يجيء
إنني ساحر الغبار
إن ثمة تعاملاً رمزياً مع اللغة، يجعلها تشعّ في اتجاهات متعددة، غير أنها منسجمة ومتكاملة. وهي في إشعاعها تنطلق من هاجس شعري محدد. وهو الرغبة الجامحة في الخروج من عالم القبح أو الاغتراب والتشيؤ، إلى عالم الحرية الذي هو الجمال الأمثل. وذلك هو الأساس في مقولة الانبعاث. إلا أن هذه المقولة جاءت انفعالية تخييلية. ولم يظهر عليها البعد الذهني أو الفكري. فبدا أورفيوس تجسيداً للانبعاث، على الرغم من أن الأسطورة اليونانية لاترى فيه واحداً من آلهة الانبعاث، وإن يكن قد نزل إلى العالم السفلي وخرج منه حياً.
لقد تكامل هذا النص، من أجل إنتاج المناخ الانبعاثي. حيث إن بنيته تنهض من الحركة التحويلية، وذلك في (أتدحرج، أضيء، تهز، يجيء)؛ وثمة الاندغام الروحي بالأشياء(عاشق، الكاهنات، غنائي)؛ وثمة أيضاً مايدل على أداة التحويل (رياح، إله، ساحر). هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ثمة التناقض والصراع بين العاشق والحجر، وبين الإله القديم والإله الذي يجيء، وبين العتمة والضوء، وبين الجحيم والحياة. إن هذا التناقض، على مستوى النص، يجد أساسه في التناقض بين الرغبة والواقع، على صعيد التجربة الجمالية الكامنة وراء هذا النص.
لقد تحول العاشق في صراعه مع الواقع أو الجحيم إلى ساحر، وتحولت الجحيم إلى غبار. وذلك في الوقت الذي أرادته فيه الجحيم أن يكون حجراً أو كائناً يعاني التشيؤ والاغتراب. أي لقد استطاع العاشق أن يتخلص من آثار الجحيم، وهو ما جعل تلك الجحيم غباراً لايمتلك إمكانية التأثير.
وهكذا نلحظ أن الهاجس الذي يعبر عنه هذا النص هاجس انبعاثي تحويلي. ولكن هل حقاً، يمكن التوكيد أن أورفيوس، هنا، هو رمز انبعاثي فحسب؟.
ألا يحيل هذا الرمز على المبدع في تجربته الجمالية. حيث يلج إلى جوهر الظواهر والأشياء محوّلاً إياها إلى كينونة شعرية. وذلك بحسب أورفيوس شاعر الأسطورة اليونانية؛ أو ألا يمكن أن يحيل على البطل الفرد، بحسب فلسفة أدونيس؛ وألا يمكن أن يحيل على العاشق فحسب ... إلى ماسوى ذلك من دلالات ينبض بها هذا النص.
إن أورفيوس، في هذا النص، رمز بقدر ما هو نموذج فني. ولهذا فهو لايستوعب ذاتية الشاعر فحسب. بل يستوعب أيضاً الكثير من الحالات والتجارب المتشابهة أو التي يتقاطع معها. أي أن غناه التعبيري ينهض من انفتاحه على ماهو موجود، وما يمكن أن يستجدَّ من حالات وتجارب. ونرى من المفيد أن نشير إلى أن انبناء هذا النص على الرمز ـ النموذج قد جعل منه نصاً درامياً، على الرغم من قصره. فهو ليس تعبيراً غنائياً عن ذاتية الشاعر، وإنما هو معادل فني درامي لهذه الذاتية. فأورفيوس مستقل عن الشاعر، وهو في الوقت نفسه، متقاطع معه، مما يسمح لنا بأن نتعامل مع أورفيوس بوصفه كائناً موجوداً وجوداً موضوعياً، وإن يكن هذا لايؤدي إلى عزله المطلق عن الشاعر.
ونود أن نسجل، في هذا الإطار، أن الشاعر الحداثي في تناوله للرموز التاريخية والأسطورية، غالباً ماكان يعود إلى تلك الشخصيات ذات التأزّم الدرامي في سياقها التاريخي أو الأسطوري.
وقلما يعود إلى تلك التي تخلو حياتها من هذا التأزّم. ولاشك في أن لهذه العودة أسباباً درامية وانفعالية واجتماعية. حيث إن هذا التأزم أكثر لفتاً للنظر، وأكثر تعبيراً، وأكثر امتلاء بالحيوية والفاعلية. وهو علاوة على ذلك يتلاءم وسمة الدرامية التي يتسم بها الوعي الجمالي الحداثي، مثلما يتلاءم والواقع الإجتماعي ـ السياسي. فلاغرابة، إذاً، في أن يكثر شعر الحداثة من رموز الحسين، وأبي ذر، وصقر قريش، والحجاج، والحلاج، وأبي نواس، وقابيل وهابيل، والمسيح، ويوسف، وتموز، وفينيق، وأوليس، وأوديب...إلخ فلكلِّ من هذه الرموز تأزّمه الدرامي الخاص.
رمز الريح:
درسنا، فيما سبق، مستويات الرمز الفني، ولاسيما الأسطوري والتاريخي، ولم نتعرض للرمز الطبيعي، فقد أرجأنا الكلام فيه لما له من تميز في التعامل الجمالي. وسوف نخصص له ماتبقى من هذا الفصل، من خلال رمزي الريح والحجر. ولكن إذا كان هذا الرمز مختلفاً عن غيره، فإن ذلك لايعني أن تلك المستويات لاتسري عليه، ولاسيما المستوى الإشاري المفهومي والمستوى المحوري. مع الإشارة إلى أن مايمكن أن يقال في الرمز الطبيعي، لايختلف كثيراً عما يمكن أن يقال في الرمز الاصطناعي، إذ الفرق بينهما أن هذا من عمل الإنسان، وذاك من عمل الطبيعة، ويبقى أن لكلّ منهما علاقته التاريخية والعملية والانفعالية والمعرفية بالإنسان.
يتسم الرمز الطبيعي بكون قيمته الجمالية متبدلة متغيرة، بشكل دائم، مما يجعل تاريخه مستمراً وغير محدد نهائياً. ولعل هذا ممايميزه من الرمزين الأسطوري والتاريخي اللذين يمتلكان وجوداً محدداً في الذاكرة الاجتماعية، هذه الذاكرة التي تفرض نسقاً معيناً في تلقي هذين الرمزين. أي أنهما لايتصفان بالحيوية التي يتصف بها كل من الرمز الطبيعي والاصطناعي .
إن هذه الحيوية تعطي المبدع حرية عظمى في التعامل الرمزي، بحيث لايبدو مقيداً بتلك الذاكرة. ونحن إذ نؤكد ذلك، لانغفل أن للأشياء تواريخ، في الوعي الإجتماعي، لايمكن للمبدع أن يهملها أو يتغاضى عنها؛ غير أن هذه التواريخ متواصلة النمو والتبدل والتغير والإضافة والحذف والتعديل، بحسب التجارب الإجتماعية المتبدلة أيضاً.
فالنهر، مثلاً، بالنسبة إلى المجتمع القبلي، غيره بالنسبة إلى المجتمع المدني؛ كما أنه بالنسبة إلى سكان المناطق الصحراوية غيره بالنسبة إلى سكان المناطق الحراجية أو الجبلية. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن للنهر أطواراً تختلف باختلاف فصول السنة؛ مثلما أن للمجتمع أغراضاً تختلف باختلاف الحاجات ... إلخ. إن هذه الاختلافات في النهر وفي الحاجة إليه، تنعكس اختلافات في التقويمات العملية والتقويمات الجمالية.
وليس من العبث أن ترى الأسطورة اليونانية أن للأنهار آلهة وحوريات. أي ليس من العبث أن ترى في النهر إلهاً جليلاً جباراً، حين يكون النهر هائجاً؛ وأن ترى فيه حورية جميلة وادعة، حين يكون هادئاً منساباً.
وفي المحصلة، إن هذه التعددية في أطوار الأشياء، وفي الحاجات إليها، وفي أساليب استخدامها، وفي المواقف الاجتماعية منها، تنعكس تعددية هائلة غير محدودة، في الذات المبدعة التي هي الأخرى لها أطوارها النفسية والروحية المختلفة والمتعددة. ولهذا لاغرو في أن يكون الرمز الطبيعي ـ والاصطناعي أيضاً ـ ذا قيم جمالية متباينة ومتناقضة أيضاً. غير أن هذه التعددية غير المحدودة لاتعني الإعتباطية والفوضى، في التعامل الجمالي مع الأشياء، بحيث يفتقد الرمز إلى الإحالة الجمالية. أي أن هذه التعددية ليست نتاج التعامل المجاني الاعتباطي، وإنما هي سمة الظواهر والأشياء في علاقتها بالحياة الاجتماعية بمختلف أشكالها. ولهذا فإن أي إيحاء يمكن أن يستولده المبدع من الرمز، يجد أساسه في إحدى سمات الشيء منظوراً إليها من الذات المبدعة، في طور من أطوارها. وليست عملية الترميز، بحال من الأحوال، عملية اعتباطية مجانية، كما يخيل لبعض الشعراء، ممن تستهويهم اللعبة اللغوية الفانتازية.
لقد شاع رمز الريح، في شعر الحداثة، بشكل لافت للنظر، حتى يمكن التوكيد أنه قلما نجد شاعراً حداثياً لم يكن له موقف جمالي من الريح بوصفها رمزاً، وبوصفها حقيقة أيضاً. وهو ما أدى إلى أن تتكثّر إيحاءات هذا الرمز وتتنوّع وتتناقض، بما يصعب فيه التصنيف الدقيق والشامل. ولذلك فإن ماسوف نسجله، هنا، لن يكون سوى إشارة إلى هذا التكثر.
من المعلوم أن الريح من النماذج البدئيةARCHETYPES التي يتشكل منها اللاشعور الجمعيCOLLECTIVE UNCONSCIOUS ، وذلك بوصفها رمزاً للدمار والخراب. إذ إن الآلهة حين كانت تغضب على قوم ما، تسلّط عليهم أداتها التدميرية الفتاكة، وهي الريح، فتجعلهم نسياً منسياً. وكما يقول بيير داكو، فإن الشعوب القديمة قد منحت آلهتها أسلحة فتاكة واحدة، وهي الصاعقة والرعد والريح(24). ولاشك في أن ذلك ينهض من طبيعة التجربة الاجتماعية ـ التاريخية التي تناولت الريح والصاعقة والرعد.
وفي القرآن الكريم، مايشير إلى ذلك بشكل واضح. فغالباً ماتكون الريح، فيه، دالة على الدمار والخراب والعقم والجدب. ومن اللافت للنظر، في هذا المجال، أن الريح حين تستخدم في الآيات، بصيغة المفرد، تكون دالة على الدمار والخراب. أما حين تستخدم بصيغة الجمع، فإنها تدل على الخير والخصب، حيث تسوق المطر.
ولقد عُرف عن النبي الكريم أنه كان يتعوّذ عند رؤيته الريح ويضطرب، فيخرج من بيته، ويدخل، ويُقبل ويُدبر (25). وثمة حديث نبوي في الريح يقول:
<< نُصرتُ بالصَّبا وأُهلكت عاد بالدبَّور>> (26).
فلقد انتصر النبي وصحبه في يوم الأحزاب بوساطة الصَّبا -ريح الشرق- كما أهلكت عاد بريح الجنوب.
ولكن إذا كانت الريح سلاحاً بيد الإله، يستخدمه من اجل التدمير، فإن هذا لايعني أنها رمز سلبي وحسب. فهي تحمل أيضاً معنى إيجابياً، وذلك من منظور أن الريح لاتسلّط إلا على الأقوام الخاطئة بالمعنى الديني، فتتطهر الأرض من الخطيئة الدينية والأخلاقية، فيكون التدمير، عندئذ، شكلاً من أشكال التطهير.
لقد أردنا من هذه الإشارة التاريخية السريعة، القول بأن الريح في اللاشعور الجمعي تحمل معاني الخير والشرّ في الوقت نفسه، وإن يكن الخير مُضمراً في الأعمّ الأغلب. كما أردنا أيضاً التوكيد أن طبيعة التجربة الاجتماعية -التاريخية هي التي تحدّد محمولات الأشياء وذلك بالاستناد إلى سمات هذه الاشياء في تأثيرها اجتماعياً.
وإذا أتينا إلى رمز الريح، في النصوص الشعرية الحداثية، فإننا نلحظ تبايناً شديداً في التعامل الجمالي معه. فالسياب مثلاً، غالباً مايرى في الريح رمزاً سلبياً يحيل على الخراب والدمار اللذين يشيعهما فحش الواقع السياسي. ولهذا فإن الريح، في الكثير من استعمالات السياب، سلاح بيد الديكتاتور، يشلّ به حركة الواقع والإنسان، ويؤبّد به الأجواء التراجيدية التي تخدم استمراره القمعي الاستلابي. فالريح، بهذا المعنى، من أهم معالم الواقع التراجيدي، عند السياب. يقول:
الظلمة تعبس في قلبي
والجو رصاص
والريح تهبُّ على شعبي
والريح رصاص (27)
ويقول:
وتوشك أن تدق طبول بابل ثم يغشاها
صفير الريح في أبراجها وأنين مرضاها (28)
أما خليل حاوي، فإن للريح، عنده محمولاً مختلفاً، وهو التشيؤ والاغتراب. ولهذا فإن الصقيع والجليد والعراء من مصاحبات الريح عنده. وإذا كان السياب يرى في الريح سلاحاً بيد الديكتاتور، فإن حاوي يراها سلاحاً بيد الواقع المادي المبتذل. مما يعني أن الثورة على الريح هي ثورة على القيم المادية المبتذلة التي تغرّب الإنسان عن ذاته وعن محيطه، كما يعني أن المعاناة من الريح هي معاناة من تلك القيم. ولابأس من الإشارة، هنا، إلى أن الريح عند حاوي غالباً ماتكون نقيض الفرد، على حين أنها غالباً ماتكون، عند السياب، نقيض المجتمع، يقول حاوي:
في ليالي الضيق والحرمان
والريح المدوّي في متاهات الدروب
من يقوينا على حمل الصليب (30)
ويقول أيضاً:
علّه يفرخ من أنقاضنا نسل جديد
ينفض الموت، يغلُّ الريح
يدوي نبضة حرى بصحراء الجليد (31)
ويقول:
سوف يمضون وتبقى
صنماً خلفه الكهان للريح
التي توسعه جلداً وحرقاً (32)
ويرى فيها علي الجندي رمزاً للتيه بأشكاله النفسية والروحية والاجتماعية بعامة. ولهذا فإن القلق بمرادفاته من مصاحبات الريح عند الجندي. أي أن ثمة تشاكلاً بين حاوي والجندي، في تناول رمز الريح. ولكن في حين اتجه حاوي به إلى موضوعة الاغتراب، اتجه به الجندي إلى سمة ملازمة للاغتراب، وهي التيه النفسي والروحي. يقول:
.. يتها الريح التي تحملني من رصيف لرصيف
حفرت وجهي أخاديد الصراحه
نهشت لحمي أقلام الجراحه
أنزليني يتها الريح على قارعة الليل
اتركيني في بساتين المساكين الذين انتبذوا
تحت سور النفي.
أوعودي بجثماني إلى الصحراء في الأرض المباحه (33)
ويقول:
ننام على الريح ليس لنا من قوائم
وليس لنا غير أجنحة وعيون ومناقير جارحة نافره (34)
أما أدونيس، فيرى في الريح رمزاً إيجابياً، يمكن أن يحمل مفهومي الجميل والجليل معاً. إن للريح عنده طاقة تحويلية، تبعث في الموات دماً جديداً، كما تحول الوجود الإنساني تحويلاً ثورياً.
ومن هنا، فقد استوعب رمز الريح فلسفة أدونيس الشعرية، في ضرورة التجاوز والتخطي لما هو ناجز في الواقع بعلاقاته وقيمه. حتى يصحّ القول إن رمز الريح كثيراً مايرادف البطل الأدونيسي مهيار الدمشقى. فإذا كان مهيار دائم الثورة على واقعه، وعلى ذاته أيضاً، فإن الريح هي سلاحه في تلك الثورة، او هي سلاحه وثورته في آن معاً.
يقول:
هاأنا في طريقي إلى أرضي الثانيه
ومعي رايتي ورياحي (35)
ويقول أيضاً:
كانت الريح عينين مسنونتين
تخرقان الظلام وعاداته، تجرحان
جسد الليل، تشربان
دمه الأسود المصفّى
حينما تصعد المقابر، أو يسقط الملاك
كانت الريح جنية والأغاني
وجهها واليدين(36)
ولعل المحمول نفسه نجده عند فايز خضور. حيث الثورة التي تحيل على الخصب المتجدد، وتنفي العقم واليبس والجدب في الواقع والذات معاً. ولهذا غالباً مايكون المطر والغيم والأغاني، من مصاحبات رمز الريح عنده. يقول خضور:
وحدها الريح تستلني من رماد الهشاشة
تغري بهتك نسيج الكآبه(37)
ويقول أيضاً:
أيهذا المغني الجميل السفيه
أمُّك الريح فاسلم لها .. يامطر(38)
وإذا كان بعض الشعراء قد اتخذ موقفاً جمالياً شبه نهائي من الريح ، نلمسه في معظم نتاجه الشعري. فإن بعضاً منهم قد اتخذ منها مواقف جمالية مختلفة ومتناقضة أحياناً، وذلك بحسب تجربته الجمالية، في هذا النص أو ذاك. ولانرى أن ثمة أفضلية لهذا الشكل أو ذاك من التعامل الجمالي مع الرموز. إذ المحك النهائي هو الكيفية التي يظهر فيها الرمز في سياقه الفني.
إن أحمد عبد المعطي حجازي من الشعراء الذين لم يتخذوا ذلك الموقف شبه النهائي من الريح. مما جعلها تختلف إيحائياً من نص إلى آخر. غير أن أبعادها الإيحائية في جملة نصوصه الشعرية، تأتلف تماماً والأبعاد التي مرت بنا سابقاً. ولاغرابة في ذلك. إذ إن الحاضن الاجتماعي والجمالي واحد، بالنسبة إلى شعراء الحداثة، على اختلاف طبائعهم وتجاربهم الذاتية.
ولابأس من التمثيل لبعض مواقف حجازي من رمز الريح. ففيما يخصّ الإحالة على الدمار والخراب، يقول:
كيف صار كل هذا الحسن مهجوراً
وملقى في الطريق العام،
يستبيحه الشرطي والزاني!
كأني صرت عنيناً فلم أجب نداءها الحميم المستجير
تلك هي الريح العقور(39)
ويقول في إحالتها على الإغتراب:
سوف تضرب نافذتي طيلة الليل
أجنحة المطر المتوحش
ناعقة فوق رأسي،
وتستأنف الريح مابدأت من عويل(40)
إن عودة إلى محمولات رمز الريح، كما جاءت في شعر الحداثة، توضّح أن كلاً من تلك المحمولات له مايسنده في إحدى سمات الريح في علاقتها بالتجربة الاجتماعية عامة، وبالتجربة الجمالية خاصة. فبما أن الرمز هو صورة الشيء محولاً إلى شيء آخر، بمقتضى التشاكل المجازي، فيمكن القول شعرياً إن الريح هي الدمار والخراب، من منظور تأثيرها المدمر في الحقول والمزروعات والمنازل الفقيرة. أي ان تأثير الريح السلبي أصبح هو الريح، وأصبحت الريح هي الدمار في اللاشعور الجمعي وفي شعر الحداثة. فثمة، إذاً، تشاكل مجازي بين الريح والدمار.
ومن حيث إحالة الريح على التيه، فإن خاصية الحركة الدائبة التي تتميز بها الريح، تدلُّ على عدم الاستقرار. وهذا من صفات التائه نفسياً وروحياً. وكذا هي الحال في المغترب الذي هو تائه بالضرورة. مع الإشارة إلى أن دوي الريح لايختلف مجازياً بالنسبة إلى المغترب عن <<دويّ>> الحياة المادية المبتذلة.
أما في إحالة الريح على الثورة، فإن فعل الثورة الذي يدمرّ بنية الواقع السائد يمكن مجازياً أن يكون هو فعل الريح في جانبها التدميري الذي له بعد تطهيري بحسب اللاشعور الجمعي.
رمز الحجر:
وعلى الرغم من أهمية رمز الريح في تبيان العلاقة بين الإيحاء الجمالي وكلّ من سمات الشيء أو الظاهرة الطبيعية، والتجربة الاجتماعية، إلا أن رمز الحجر بمحمولاته الجمالية أكثر إيضاحاً وتبياناً لتلك العلاقة، لما يتّسم به الحجر من ارتباط مباشر بالحياة السياسية العربية المعاصرة، ولاسيما في فلسطين المحتلة.
إن دراسة هذا الرمز، في شعر الحداثة، تبين أن ثمة موقفين متناقضين عامّين منه، يتبدى الموقف الأول في النتاج الشعري ذي الأجواء الاغترابية، ويتلخص هذا الموقف في اعتبار الحجر رمزاً للتشيؤ والاغتراب. ويتبدى الموقف الثاني في شعر المقاومة الفلسطينية ولاسيما في سبعينيات القرن العشرين. حيث أن محمولات هذا الرمز غالباً ماتكون إيجابية، تكثف تجربة المقاومة الفلسطينية.
أما فيما يخص الموقف الأول، فإن المعاناة الروحية للفرد المغترب، قد وجدت في الحجر معادلاً موضوعياً في التعبير عن إشكالاتها. فمن خلال رمز الحجر، تم التعبير عن الفراغ الروحي، وعن العلاقة المتأزمة بين الفرد المغترب والمجتمع، وعن القلق النفسي، وعن الإحساس الحاد بالعزلة والتوحّد. ونرى أن كثيراً من النصوص أو الصور الشعرية يصعب استيعابها من دون فهم تلك الجوانب التي رؤيت في رمز الحجر. وسوف نترك لبعض المقبوسات أن تعبر عن نفسها، فيما يخص رمز الحجر، وذلك لضيق المجال من جهة، وخوفاً من التكرار من جهة أخرى.
يقول أدونيس:
في الحجر التائه لون القلق
لون خيال سرى
من ياترى
مرَّ هنا واحترق(41)
ويقول حاوي:
ضجر في دمه
في عينه الصمت الذي
حجّره طول الضجر
وجهه من حجر
بين وجوه من حجر(42)
ويقول نذير العظمة:
وجهي أنا ممتلئ بالشوك والحجارة
يبحث عن بداءة طرية
يبجث عن بكاره (43)
ويقول السياب:
أقضّ يامطر
مضاجع العظام والثلوج والهباء
مضاجع الحجر(44)
ويطرح سعدي يوسف عدة إيحاءات للحجر، بحيث يبدو متبدّلاً من حال إلى حال، بحسب التبدلات التي تمر بها الذات الشعرية، في واقعها الإجتماعي، وذلك في المقطع التالي:
يوم عالجتها بالحجر
- هذه الروح - قال الحجر:
هل أكون انتهيت؟
كم دفعنا إلى حجر، كي نطوّف دهراً به...
أمس قلّبته في يدي.. أيها الحجر النيزك، الحجر
الأبيض، الحجر المتلون: أيُّ زمان قطعنا معاً!
أيَّ أرض حللنا! وأيُّ مواطن لم تنفتح وطناً!
ربما كنت لي ساعداً يوم كنا صغاراً.. وصرت الهراوة
في الرأس حيناً، ولكننا الآن ندّان: أنت الذي
جئت من أول الكون.. هل جئتني؟ وأنا الناهض
-الدهر -هل أنثني؟(45)
لقد أردنا من هذا المقطع أن يكون صلة الوصل بين ذينك الموقفين من هذا الرمز، في شعر الحداثة. إذ إنه قد تعامل مع الحجر بوصفه العلاج السحري للروح المتأزمة (يوم عالجتها بالحجر-ثمة في هذا الاستخدام تناصّ مع حجر الفلاسفة)، وعامله بوصفه رمزاً للعبث واللاجدوى (كي نطوف دهراً به ـ وثمة تناصّ مع صخرة سيزيف)؛ وعامله بوصفه رمزاً للصيرورة (أيها الحجر النيزك.. المتلون)؛ كما عامله بوصفه سلاحاً (ساعداً، الهراوة)؛ وعامله أخيراً بوصفه رمزاً للأبدية (جئت من أول الكون...)
ومن اللافت للنظر أن هذا الرمز، على الرغم من تعدد إيحاءاته في المقطع، لم يقع في الاعتباطية أو المجانية، وماذلك إلا بسبب المنطق التحويلي الذي يقف وراء تلك الإيحاءات حيث إنها تصدر عن أطوار مختلفة مرَّ بها الحجر في علاقته بالذات الشعرية.
يمكن التوكيد أن رمز الحجر، قلما يستخدم في الشعر الفلسطيني المعاصر، بوصفه رمزاً سلبياً، أو رمزاً دالاً على التشيؤ والاغتراب. وتكاد تتمحور إحالاته الجمالية حول المقاومة، وحول الخصب والانبعاث أيضاً!.
ولا بأس من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن رمز الحجر قد حلّ محلّ رموز الزيتون والبرتقال والليمون التي كانت قد استوعبت مرحلة الذهول والالتياع والحنين التي خلفت النكبة في عام 1948. غير أنها استنفدت طاقاتها الإيحائية، فيما بعد، في تحوّلها إلى مجرد إشارة فحسب؛ كما أنها استنفدت مهامها الجمالية التعبيرية، بعد أن أخذت المقاومة الفلسطينية في البروز. وهو مااقتضى رموزاً جديدة تقوم بالمهام الجديدة التي أنتجها واقع الصراع العربي ـ الصهيوني. فكان رمز الحجر أحد الرموز التي ظهرت جراء الانتفاضات الشعبية المتناثرة، على مدار العقدين السابع والثامن. أي أن خصوصية التجربة النضالية الفلسطينية هي التي فرضت تلك الخصوصية في التعامل مع رمز الحجر الذي كثيراً مابدا حاملاً لمفهوم البطولي.
يقول معين بسيسو:
تفاجئني الأرض، إن الحجاره
تقاتل والأنظمه
بنادقها ملجمه
تفاجئني الأرض، إن أكفّ الصبايا
مرايا
وكفُّ الشهيد بحجم السماء (46)
إن ثمة تكاملاً وتجادلاً بين الحجارة والصبايا والشهيد والأرض. فالأرض تلد الحجارة، وهذه تتمرأى بأكف الصبايا، لتصبح هي القضية الأولى في كف الشهيد. فالحجارة في تحول دائم، فمن الأرض إلى الصبايا، ومنهن إلى الشهيد،، ومنه إلى الأرض ـ السماء ومن الأرض إلى البطولية.
إن هذا التكامل والتجادل هما مانلمسه في الحجر ـ الأسطورة، عند محمود درويش في قوله:
أنا الحجر...
أنا الحجر الذي مستّه زلزلة
رأيت الأنبياء يؤجرون صليبهم
واستأجرتني آية الكرسي دهراً
ثم صرت بطاقة للتهنئات
تغير الشهداء والدنيا
وهذا ساعدي
تتحرك الأحجار
فالتفوا على أسطورتي (47)
إن مايلفت النظر في أمثال هذا التعامل الرمزي مع الحجر، هو أن مصاحبات هذا الرمز كثيراً مايكون لها ارتباط بالخصب والاخضرار والطفولة. فأحمد دحبور يقرن " حجارة الصباح " بـ "خضرة الدنيا" (48). أما بسيسو فإنه يتلو بلاغ الشجر وبلاغ الحجر(49)، كما أنه يرى تلَّ الزعتر مرصعاً بالقمح والأحجار(50). ويقرن درويش الحجر بالزعتر، في قصيدته الشهيرة "أحمد الزعتر" حيث (ليدين من حجر وزعتر. هذا النشيد)(51)؛ ويرى نشيده، في نص آخر، متبدياً باخضرار المدى واحمرار الحجارة (52). أما سميح القاسم فيرى الحجر مرتبطاً بالوردة والتفاحة. وهذا ماسوف نتحدث عنه تالياً. ويقول عصام ترشحاني:
هم.. علّمونا كيف نمسك نارهم
ونشدُّ أزر جحيمها
هم.. علّمونا كيف تنتفض الحجارة
والحدائق والطيور (53)
ومن منظور أن البطولية هي المخلّص من الاحتلال والاستلاب، فقد رؤيت البطولية شكلاً من أشكال الخصب والانبعاث. أي أن الحجر قد أصبح بطلاً انبعاثياً. والحقيقة أن هذا من أغرب الاستخدامات لرمز الحجر. غير أن الغرابة تنتفي حين نتذكر واقع الانتفاضة الفلسطينية وأهمية الحجارة في نضالها؛ وحين نتذكر أيضاً أن إيحائية الرمز تتأتى أولاً من طبيعة التجربة الاجتماعية التي تتناوله.
لقد صعد درويش برمز الحجر إلى مستوى البطل الأسطوري، وصعد به سميح القاسم إلى مستوى البطل الإنبعاثي مرتكزاً على استراتيجية الانتفاضات من جهة، وعلى أسطورة الانبعاث من جهة أخرى. يقول القاسم في مملكة الآر. بي. جي:
كان شعبها من الأطفال
وكانت مليكتهم
سنونوة تطير دوماً نحو الربيع
أما الملك / فكان حجراً
مات الحجر / فصار وردة
ماتت الوردة / فصارت تفاحة
من رماد الموتى انطلقت عنقاء جديدة
تطير دوماً نحو اسمها (54)
إن زواج الحجر بالسنونوة الربيعية، قد جعل منه بطلاً انبعاثياً، يموت لاليفنى، بل كي يتحول إلى طور أرقى، ليتحول إلى وردة، فتفاحة، فعنقاء جديدة تعلن عن الربيع أو الانبعاث.
لقد دخل الحجر، في الشعر الفلسطيني المعاصر، مرحلة الألوهة المؤنسنة، أو بحسب مصطلحات علم الجمال، دخل مرحلة الجلال، وهذا مايؤكده القاسم حين يقول:
هكذا، بالضربة القاضيه
بالوردة والتفاحة والحجر
الثالوث المقدّس
الإله الذي لايغادر ضحاياه
دون صلاة صغيرة (55)
لعل اقتران الحجر بالوردة والتفاحة، في المقبوسين السابقين، يحيل على تلازم القيم الكلاسيكية الثلاث. وهي الحق والخير والجمال. فإذا كانت الوردة هي الجمال، والتفاحة هي الخير مرتبطاً بالجمال، فإن الحجر هو الحق مرتبطاً بكل من الخير والجمال. إن القاسم في توحيده لهذه القيم بإله واحد ـ وهذا الإله هو رمز للمقاومة ـ يكون قد أوحى بشكل فني ذكي، بأن الحق والخير والجمال من سمات القضية الفلسطينية. وهو مايعني أن العداء أو الحياد تجاه هذه القضية يعني موقفاً سلبياً من قيم الحق والخير والجمال.
إن هذه القيم الثلاث نجدها متجلية أيضاً في قول بسيسو:
أيتها الخوذات البيضاء حذار
من طفل نبتت بين أصابعه النار
من طفل يكتب فوق جدار
يكتب بعض الأحجار
وبعض الأشجار، وبعض الأشعار (56)
وهكذا فإن التوحد بين الحجر والشجر والشعر أو بين الحق والخير والجمال، واضح في الكثير من شعر المقاومة.
نلحظ، مما سلف، كيف تم التعامل مع رمز الحجر في شعر الحداثة عامة، وفي شعر المقاومة منه خاصة. ولكن ماتنبغي الإشارة إليه، في هذا المجال، هو أن رمز الحجر في دلالته على المقاومة، قد تم ابتذاله في شعر التسعينيات الذي جعل من الانتفاضة الفلسطينية موضوعاً له (57). فلم يعد رمزاً بقدر ماأصبح مجرد إشارة إلى الانتفاضة. أي كأن رمز الحجر في دلالته على المقاومة، قد دخل فيما دخل فيه رمز الزيتون من طريق مسدود، على الصعيد الإيحائي والجمالي. مما قد يستدعي رمزاً آخر يواصل ماكان رمز الحجر قد بدأه.
وبهذا، فقد طرح شعر الحداثة أنماطاً عدة من الرموز الفنية التي استوعبت موقفه الجمالي والاجتمالي من الواقع الذي راح يتنامى فيه. ولم يكن ثمة وعي جمالي جديد، يرى أن تحريض الأشياء، في هذا الشعر، لو لم يكن بالإمكان أن يبرز التعامل الرمزي مع الظواهر والأشياء، لا الأشياء، هو أساس القيمة الجمالية في الشعر، والفن عامة. وقد يبدو أن هذا المنطلق الجمالي ينسجم وما يذهب إليه شكلوفسكي من أن " الفن هو أحد طرق المعايشة الفنية للموضوع، أما الموضوع فليس بذي أهمية "(58). غير أن الأمر ليس على هذا النحو تماماً. فلاشك في أن الفن معايشة فنية أو جمالية للموضوع. ولكن للموضوع أهمية في هذه المعايشة. فهو أحد قطبي العلاقة الجمالية، ومن دونه لايكون ثمة معايشة أو علاقة. فهو المحرّض والمؤثّر. ولابد من أن تنعكس بعض صفاته، في عملية الإدراك. وما يؤكد ذلك أن شعر الحداثة في تعامله الرمزي مع الموضوعات لم يكن يغفل هذه الصفة أو تلك منها. ولولا ذلك لما تيسّر له أن ينتج رموزاً ذات إيحاء مكثف، رموزاً تتكئ على بعض صفات الأشياء أو الموضوعات، مثلما تتكئ على الطبيعة النفسية والروحية للمبدع. وفي هذا تكمن الحرية التي نالها الشاعر الحداثي. في تعامله الجمالي مع الظواهر والأشياء. فلم يعد موكّلاً بمحاكاتها. بل أصبح له الحقّ بتشكيلها تشكيلاً جديداً، يخرج بها من علاقاتها الموضوعية، من دون أن يلغي تأثيراتها فيه .
_________
الهوامش:
1ـ راجع في ذلك: الأيوبي، د. ياسين: مذاهب الأدب ـ الرمزية.جـ: 1. المؤسسة الجامعية، بيروت. ط 1، 1982. ص: 206 ـ 253.
2ـ اليافي، د. نعيم: تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث. اتحاد الكتاب، دمشق، 1983. ص:287.
3 - BOWRA , C. M , THE HERITAGE OF SYMBOLISM . LONDON : 1943 . P . 3 .
4 - IBID . P . 13.
5 - RAYMOND ,MARCEL , FROM BAUDELAIRE TO SURREALISM , LONDON : 1970 P.111.
6ـ ويمزات وبروكس : النقد الأدبي، جـ : 4. تر: د. حسام الخطيب ومحي الدين صبحي. المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، 1977. ص: 65.
7ـ سارتر، جان بول: الأدب الملتزم . تر: جورج طرابيشي. دار الآداب، بيروت، ط:2، 1967. ص: 144
8ـ أحمد، محمد فتوح: الرمز والرمزية في الشعر المعاصر. دار المعارف، القاهرة، ط:2، 1978، ص:21
9ـ وايلد، أوسكار: صورة دوريان جراي. تر:لويس عوض. دار المعارف، القاهرة، 1969. ص: 5(في المقدمة).
10ـ وارين وويليك: نظرية الأدب. محي الين صبحي، مرا: د. حسام الخطيب. المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الإجتماعية، دمشق، 1972. ص:243.
11ـ ربما من المفيد أن نشير إلى أن الدكتور اليافي يرى أن للرمز الفني سبع خصائص. وهي: الأصالة والإبتكار والحرية الكاملة غير المقيدة، والطبيعة الحسية، والكيفية التجريدية، والرؤية الحدسية، والنسقية، وثنائية الدلالة. راجع المرجع السابق، ص: 280 ـ 283. ويلحظ القارئ أن ثمة تقاطعاً بين مانطرحه وما يطرحه اليافي.
12 - ADORNO, THEODOR, AESTHETIC THEORY . LONDON : 1985. P: 248
13ـ السياب، بدر شاكر: ديوانه، م:1. دار العودة، بيروت ـ 1971. ص:510 ـ 511.
14ـ عمران، محمد: الدخول في شعب بوان. اتحاد الكتاب العرب. دمشق، 1972. ص: 14ـ15.
15ـ عبد الصبور، صلاح: ديوانه، م: 1+2. دار العودة، بيروت، 1972. ص: 26.
16ـ كنعان، علي: أعراس الهنود الحمر. دار المسيرة، بيروت، 1979. ص:27.
17ـ الأحمد، أحمد سليمان: الرحيل إلى مدينة التذكار. دار الأجيال، دمشق، 1970.ص: 98ـ 99
18ـ أدونيس: الآثار الكاملة، م:1. دار العودة، بيروت، 1971. ص:264ـ 265.
19ـ حاوي، خليل: ديوانه، دار العودة، بيروت، 1982. ص: 89ـ 90.
20ـ السياب: المصدر السابق، ص: 472 ـ 473.
21ـ يوسف، سعدي: قصائد أقل صمتاً. دار الفارابي، بيروت، ط: 1، 1979. ص:85.
22ـ أدونيس: المصدر السابق، ص: 377.
23ـ داكو، بيير: انتصارات التحليل النفسي. تر: وجيه أسعد. وزارة الثقافة، دمشق، 1983. را: ص: 334
24ـ صحيح مسلم، ج3. دار الطباعة العامرة، القاهرة. 1330 ه. را: ص:26 ـ 27
25ـ نفسه، ص: 27.
26ـ السياب: المصدر السابق، ص: 438.
27ـ نفسه، ص: 438.
28ـ حاوي، المصدر السابق، ص:22.
29ـ نفسه، ص:92ـ 93.
30ـ نفسه، ص: 139.
31ـ الجندي،علي: قصائد موقوتة. دار النديم، بيروت، د/تا. ص: 76ـ 77.
32ـ نفسه، ص: 87.
33ـ أدونيس: المصدر السابق، ص: 412.
34ـ أدونيس: الآثار الكاملة، م: 2. دار العودة، بيروت، 1971. ص: 519ـ 520.
35ـ خضور، فايز: نذير الأرجوان. دار فكر، بيروت، 1989. ص:68ـ 69.
36ـ نفسه، ص:117ـ 118.
37ـ حجازي، أحمد عبد المعطي: كائنات مملكة الليل، دار الآداب. بيروت. 1978.ص:10ـ 11.
38ـ نفسه، ص:126.
39ـ أدونيس: المصدر السابق، م: 1. ص:50.
40ـ حاوي: المصدر السابق، ص:208.
41ـ العظمة، نذير: الخضر ومدينة الحجر. اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1979، ص:44
42ـ السياب، المصدر السابق، ص: 463.
43ـ يوسف:المصدر السابق، ص:33ـ 34.
44ـ بسيسو، معين: الأعمال الشعرية الكاملة. دار العودة، بيروت، 1979. ص: 665.
45ـ درويش، محمود: ديوانه، م:2. دار العودة، بيروت، 1980. ص:245.
46ـ دحبور، أحمد: مجلة فكر، العدد56/57، بيروت، 1984. ص:118.
47ـ بسيسو: المصدر السابق، ص:668.
48ـ نفسه، ص: 625.
49ـ درويش: المصدر السابق، ص:469.
50ـ نفسه، ص:523.
51ـ ترشحاني، عصام: منارات لأحزان العشب. دار القدس، بيروت، 1979. ص: 37.
52ـ القاسم، سميح: جهات الروح. دار الحوار، اللاذقية، 1984. ص: 114ـ 115.
53ـ نفسه، ص:70.
54ـ بسيسو: المصدر السابق، ص:652ـ 653.
55ـ كليب، د. سعد الدين: قصيدة الانتفاضة "الشعر السوري أنموذجاً" مجلة "المعرفة" العدد:365. دمشق، 1994. را: ص:84ـ 102.
56 - SELDEN , RAMAN . AREADER'S GUIDE TO CONTEMPORARY LITERARY THEORY . LOKDON : 1988 . P . 10 .
* ـ نعني بالرمز الاصطناعي هو كل مااصطنعه الإنسان من أشياء وأدوات، عبر تاريخه، من مثل المنزل والقطار والسفينة والراية...إلخ ولاشك في أن هذه لاتكون رموزاً إلا إذا عاملها الشاعر كذلك.
1- سورة الأعراف: 78.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق