أحمد شوقي ومفدي زكريّا
من حقيقة التقاطع الشعريِّ إلى ترجيح فكرة التأثير والتأثر
د. فريد أمعضشو - مجلة رسائل الشعر (العدد الرابع، تمّوز 2015، ص 66-58) :
يعدُّ أحمد شوقي (1868-1932م) عَلماً من أعلام القصيدة العربية الحديثة، ترك بَصْماتٍ واضحةً في الشعر العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وانتشرت أشعاره مشرقا ومغرباً وهو على قيْد الحياة، وأسْهم، بصورة أجْلى، في بَعْث القصيدة العربية الأصيلة وإحيائها، وكان له، كذلك، أثرٌ بيِّنٌ في تجديدها مَبْنَوياً ومَعْنَوياً. يقول محمد سعيد العريان في تقديمه للجزء الرابع من “الشوقيات”: “كان شوقي، رحمه الله، شاعرا ملأ سمْع الشرق، وما يلفِظ من قول إلا لَقفَـتْه الآلاف عن الآلاف من أبناء الأمة العربية، تنشده وتتغنّى به وتضربه مثلا. وما أحْسِب شاعراً في الأمة العربية، منذ كانت وكان الشعر، قد ذهب صِيتُه في الناس حيّا مذهبَ شوقي، ولا بلغ مَبْلغَه، وقد كان حَقيقاً بما بلغ، لا من أنه شاعر العربية الأول، ولا مِن أن الأمة العربية قد عَقمت فلم تنْجِب مثله في تاريخها المتطاول، ولكنه جاء على فترة انقطع فيها أمل الآمِل في نهضة الشعر العربي بعـدما ناله من الانحطاط والرِّكّـة وضيْق المذهب وسوء التناوُل. وكأنما كان البارودي من قبْلِه إرهاصاً له، ودعوة إليه، وتنبيهاً إلى فضله ومكانه. وقد كان البارودي، بما اجتمع له من أدوات الشعر وبما تهيّأ له من أسبابه العامة والخاصة، أولَ مَنْ بعَث الحياة في هذا الجسد الهامد، ونفخ فيه من قوته، وخلع عليه من شبابه، فكان تصديراً بليغا لهذا الفصل الجديد في تاريخ الشعر العربي؛ فلمّا خلا مكانه، تلفّت الناس ينْطرون على حَذر وخشية، يريدون أن يسمعوا نغَماً صافيا كهذا الذي عَوّدَهم البارودي أن يسْمعوه من إنشاده وتطْريبه، وما منهم إلا مَن ظنّ أن الشعر بعده منتكِسٌ بعلته، وأن الرجلَ الذي كان يمدّه بأسباب الحياة والقوة قد ذهب، فلا سبيل إليه بَعْدُ ولا أملَ. في هذه الفترة ظهر شوقي…”.
وبالنظر إلى مكانة شوقي، وتأثيره الغائر، وحضوره المتميّز في الأدب العربي النهْضوي، فقد خصّصت منظمة اليونيسكو عامَ 1968م ليكون احتفالا عالميا لإحياء ذكرى شوقي المئوية… وقادت هذه الأمور كذلك إلى ظهور عدد من الدراسات والأبحاث حول شوقي وأدبه؛ من ذلك دراستا الدكتور فوزي عطوي “أحمد شوقي أمير الشعراء” الصادرة عام 1969، و”أحمد شوقي: شاعر الوطنية والمسرح والتاريخ” المنشورة عام 1989، ومن ذلك أيضاً كتاب “حافظ وشوقي” للدكتور طه حسين، وكتاب “شوقي أو صداقة أربعين سـنة” للأمير شكـيب أرسلان، ودراسة “شوقي شاعر العصر الحديث” للراحل شوقي ضيف، ودراسة “أحمد شوقي شاعر الوطنية” للأستاذ أحمد زكي عبد الحليم… عِلاوة على عشرات المقالات حول شوقي. وبالمقابل، فقد وُجِّهت إليه جمـلة من الانتقادات، ولاسيما من قِـبل عباس محمود العقاد (1889-1964م). يقول ميخائيل نُعَيْمه في هذا الإطار: “إن مَنْ يرى شوقي في ميزان العقاد يشْفِق على شوقي، وتكاد شفقـته تنقلب نقمة على الناقد الذي لم يشأ إلا أن يكسر رجليِ الجبّار الخَزَفي ليرى الناس أنه من خزف”.(1) إن هذه الانتقادات لا تنقِص من قيمة شوقي وريادته، ولا ينبغي أن تمْنعنا من الإقرار بشاعرية شوقي وتأثيره العميق في مُجايِليه وفي مَـن تلاه من الشعراء العرب المُحْدَثين والمعاصرين.
لقد أثّر شوقي، فعْلاً، في عددٍ من الشعراء المشارقة والمغاربة. ويُهِمُّنا في هذا المقال أن نتطرق إلى تأثير الرجل في أحد الشعراء المَغاربيين المرموقين؛ ويتعلق الأمر بـ”مفدي زكريا” (1913-1977م) الذي يعدّ “شاعر الثورة الجزائرية” بلا منازع ولا مدافع. وسنحاول إبراز ذلك من خلال الوقوف عند مجموعة من النقط التي يبدو لنا فيها أثر شوقي في جوانبَ مِن مُنْجَز مفدي الشعريِّ، كالآتي:
* يقول مفدي زكريا في البيت الأخير من قصيدته “.. حروفها حمراء”: [الخفيف التام]
اعْـترافٌ… فـدَوْلة… فسَــلاَمٌ…
فكـَـلامٌ… فمَـــوْعِدٌ… فجَــلاَءُ…
فهذا البيتُ شديدُ التأثر بقول شوقي: [الخفيف التام]
نَـــظْرَة، فابْتِــسامَة، فــــسَلامٌ
فكــَـلامٌ، فمَـــوْعِدٌ، فلـِــــــــقاءُ
ففـِـــراقٌ يكـُـون فــــــيه دَواءٌ
أو فِــــراقٌ يكـــون فيه الــــداءُ
ويقول مفدي في قصيدته “ذروا الأحلام واطّرحوا الأماني”: [الوافر التام]
ومَن طلبَ الكرامةَ، وابْتغاها
يُقـدِّمْ مَهْـرَها المُهَجَ الحِرَارَا
معنى هذا أن من أراد تحقيق الكرامة أو أي شيء آخر، فمن الواجب عليه أن يسعى إليه بالجدّ والاجتهاد، تاركاً الكسلَ والخُمولَ والتّكلان؛ لأن “السماء لا تُمْطر ذهبا ولا فضة” كما يُقال. ويمكن أن نلْمَس خيطا رفيعا دقيقاً بين هذا البيت وبيت شوقي الشهير الذي أجْراه مَجْرى الحكمة: [الوافر التام]
وما نيْـــل المَطالب بالتـــمني
ولـكنْ تُــؤخَذ الدّنْــيا غِـــلابَا
ويقول مفدي في قصيدة عينيةٍ له بعنوان “معجزة الصانع”: [الكامل التام]
يا جَارة الوادي، (ببردونها)(2)
طرِبْــتُ، في فِـرْدَوْسِكِ الماتِعِ
ولا شك في أن الشاعر قد تأثر في هذا البيت الشعري بشوقي الذي سبق أن نَظَمَ قصيدة في هذا المنحى. يقول في قصيدته الموسومة بـ”جارة الوادي”:
يا جارة الوادي طربْتُ وعادَني
ما يُشْــبه الأحْــلامَ من ذِكْــراكِ
وتجدر الإشارة إلى أن هذه القصيدة الشوقية قد لحِّنت وحُوِّلت إلى أغنية أدّاها، باقتدار، الفنان الراحل محمد عبد الوهاب…
* نلمس في أشعار شوقي حضور “الوطنية” الصادقة والدافقة، ذلك بأنه كان قويَّ الارتباط بوطنه، شديدَ الالتحام بمجتمعه؛ يعبر عن آلامه وآماله بلغة واضحة وأسلوب جَزْل رصين، ولاسيما بعد عودته من مَنفاه القسْري. يقول د. فوزي عطوي: “إن أحمد شوقي شاعر وطني، صادقُ العاطفة، دافئ النبرة، عاش قضايا عصره، ودافع عنها دفاعا مشكورا”.(3) ونُلْفي في شعر شوقي كذلك الولاء العميق للعُروبة، والتعبير الصادق عن مآسي العرب وتطلعاتهم. يقول ذ. أحمد زكي عبد الحليم: “كان شوقي شاعر الحرية والوطنية، ليس بالنسبة لمصر فقط، وإنما هو شاعر العروبة قبل كل شيء. هو الطائر العربي الذي يشدو فوق الأفـْنان العربية، ولا يتقيّد بحدود أوطانٍ صنعها الاستعمارُ ومزّقها إرباً. هناك فوق كل شيء، وقبل كل شيء، الوطنُ العربي الكبير”.(4) ومن الأبيات التي تبرز الحب الخالص الذي كان يكنّه شوقي لوطنه ما يأتي: [الخفيف التام]
وَطـني لو شُـغِلتُ بالخُـــلدِ عنه
نازَعـَتْني إليه في الخُلْدِ نَفْـسي
ونجد هذه الوطنية واضحة، بقوة، في العديد من قصائد مفدي زكريا؛ مِنْ ذلك قوله في قصيدته “أنا ثائر”:
أنا ثــائِرْ
في الجَــزائِرْ
أنا ثــائرْ
إن أمُـتْ: تحْــيا الجَــزائِرْ…
* تتخلّل بعضَ قصائد شوقي أبياتٌ حِكْمية بليغة. وهو ما يمكن اعتباره مَلمحاً من ملامح تأثر شوقي بأبي الطــيب المتنبي (ت354هـ). ومن المعروف أن شوقياً كان شديد الإعجاب بالمتنبي، كثيرَ التأثر بحِكَمه وأسلوبه وصُوَره الشعرية البَديعة. يقول بعض الدارسين عن شوقي: “كان من أحبّ شعراء العربية لديه المتنبي، ثم أستاذه البارودي، ثم يلي ذلك ابن الرومي والبحتري”.(5) ومن أبيات شوقي التي تجري مجرى الحكمة قولُه: [الوافر التام]
وما نيْلُ المَـطالب بالتّمَـــــني
ولكنْ تؤخَـذ الدنـــــيا غِــلابا
وما اسْتعْصى على قوْمٍ مَنالٌ
إذا الإقْـــدامُ كان لـهمْ رِكـابا
ويقول في إحدى ميمِيّاته: [الكامل التام]
إنّ الغُــــرورَ إذا تَـــمَلَّـك أمّـــــــــةً
كالزَّهْر، يُخْـفي المَوْتَ، وهْوَ زُؤامُ
ويقول كذلك: [البسيط التام]
وإنما الأمَــــمُ الأخْلاقُ ما بَقـيَتْ
فإنْ هُـــمُ ذهبَتْ أخلاقُهمْ ذَهَـبوا
ومَنْ يتصفحْ قصيدَ مفدي زكريا يُلفي فيه، كذلك، أبياتاً حِكْمية قيِّمة. وهو ما يمكن عدُّه تأثراً بشوقي وبالمتنبي. يقول مفدي مثلا: [البسيط التام]
وما الزَّعــامَةُ أقوالٌ وشَقـشَـقةٌ
إنّ الزّعـــامةَ إصْـلاحٌ وتشْــييدُ
* تأثر شوقي بالشعراء العرب القدامى – العباسيين والأندلسيين خاصةً-، وهذا يبدو، بجلاءٍ، في معارضـته لهم وفي القصائد التي نظمها تقليداً لها. ونجد هذا التأثر، كذلك، لدى مفدي الذي قلَّد واقتبسَ بعضَ شعر العباسيين والأندلسيين. يقول مفدي في قصيدته “ماذا تخبّئه يا عام سِتّينا؟”: [البسيط التام]
الشرُّ بالشــرِّ..! والأيّـــامُ تجْـــربةٌ
مَن سَرَّهُ الدّهرُ حِيـناً، سَاءَه حِـينا
فهذا البيت يَنْظر إلى قول أبي البقاء الرُّندي الأندلسي (601-686هـ): [البسيط التام]
هيَ الأمورُ – كما شاهَدْتَـها- دُوَلٌ
مَـن سَــرَّه زمَــنٌ ســاءتْه أزْمــانُ
ويقول مفدي في قصيدته “وتعطلت لغة الكلام..”: [الكامل التام]
نطقَ الرَّصاصُ، فما يُــــباحُ كلامٌ!
وجَرى القِـصاصُ، فما يُتاحُ مَلامُ!
السَّـــيْفُ أصْدَقُ لهْجَةً من أحْرُفٍ
كُــتِبت، فــكانَ بَيَانَـــها الإبْـــــهامُ
ففي هذا الشاهد الشعري تناصّ واضحٌ مع بيت أبي تمام الطائي (ت231هـ) الشهير: [البسيط التام]
اَلسّــيفُ أصْدقُ إنْباءً مِن الكُـــتب
في حَـدِّه الحَـدُّ بين الجِـدّ واللّعِـبِ
وقد سبق لشوقي أنْ عارض هذا البيت بقوله: [البسيط التام]
اللهُ أكبَرُ كمْ في الفَتح من عَجَـبٍ
يا خالِدَ التُّـرْكِ جدّد خالدَ العَربِ
أحمد شوقي - و مفدي زكريا
من الظواهر التي نجدها عند كل من شوقي ومفدي ما يسمى “الشعر المُناسباتي”. فكلاهما نظم القصائد في مناسبات وطنية وقومية ودينية، وكلاهما نطم قصائد المديح في السلاطين… وهكذا، فقد دبّج شوقي القصائد الطِّوال في مناسبات عدة؛ مِنْ مثل المَوالد النّبَوية والأعياد الوطنية، وخصّ قصائد أخرى بمدْح السلاطين الخِدّيويّين اعترافاً بنِعَمهم وآلائِهم عليه. يقول في إحْداها: [الكامل التام]
المُـــلكُ فيكم، آلَ إسْـــــــماعيلا
لا زالَ بيْـــتُكُمُ يُظِـــلُّ النّــــــيلاَ
وقد فعل مفدي الشيء نفسَه؛ بحيث إنه نظم قصائدَ من الوفرة بمكان في مناسبات متعددة ومتنوعة، وهو غالبا ما ينصّ على مناسبة القصيدة في أوّلها. وللرجل كذلك عددٌ من القصائد في مدح الملوك المغاربة، وخاصّة محمد الخامس والحسن الثاني(6). ومن القواسم المشترَكة بين الشاعرين أنّ كلاًّ منهما أثار الجانب الديني، بيد أن هذا الجانب يرتبط ارتباطا وثيقا بالحِسّ القومي لدى مفدي. يقول د. نسيب نشاوي عن هذا الأخير: “في شعره ترتبط الفكرة الدينية بالفكرة القومية، وأظْهرُ ما يتجلى ذلك في عَرْضه أسبابَ كارثة زلزال أرض الأصنام سنة 1954م؛ فهو يَعْزوها إلى الإثم والفُجور واللهو والعَبَث الذي استدْعى نقمة الله”.(7)
* لكلٍّ من شوقي ومفدي قصائدُ في تصوير حال الأمة العربية التي تعاني الاضطراب والانكسار والبؤس في زمن أفول نجْمها. وقد حاولت هذه القصائد نقل آلام العرب وآمالهم في لبنان وغيرها من أقطار الوطن العربي الكبير.
* اِحتفل شوقي بتجْويد مطالع قصائده وإحْكام نَسْج خُيوطها. ويَستعمل كثيراً فعلَ الأمر في افتتاح قصائده. يقول في إحدى قصائده: [الكامل التام]
آذارُ أقـــــبلْ، فــــقم بــنا يا صـــاح
حَـــيِّ الرّبـــــيعَ حَديــــــقةَ الأرْواحِ
و اجْمَع نَدامى الظَّرْف تحْت لِـوائه
و انْــشُرْ بـــــسَاحَته بِـــساطَ الرّاح
صَــفوٌ أتِيـحَ، فخُـذ لنفسِـك قِسْطَها
فالصَّــــفوُ ليسَ على المَدى بمُتاح
و ٱجْلسْ بضاحِكةِ الرِّيَاض مُصَفـِّقاً
لتَــــــجاوُبِ الأوْتــــــار و الأقـْــداح
و اسْـــتأنِــسَنَّ من السُّــقاة بـرُفقةٍ
غُــرٍّ، كأمْـــثال النُّجـوم، صِـــــباحِ
ويقول في قصيدته عن المعلّم: [الكامل التام
قـُـــــم للمُعَلم وَفـِّهِ التبْجـــــــيلا
كاد المُـــعلمُ أنْ يـــكون رَسـولاَ
ويقول في قصيدته عن المَلِك الفرعوني القديم “توت عنخ آمون”: [الوافر التام]
قِــفي يا أخْـــتَ يُوشَـــعَ خَبـِّـرينَا
أحـــاديـثَ القـُــرون الغابِـــــرينَا
وعندما نستقري قصائد مفدي ونتصفحُها نلفي أن عدداً منها قد استُهلّ بفعل الأمر كما فعل شوقي تماماً، وهو ما يمكن اعتباره تجلِّياً من تجليات تأثير شوقي في مفدي. يقول مفدي في مطلع قصيدته “لا تعجبوا إنْ جاءكم برسالة!!”: [الكامل التام]
قِفْ بـي، أقـْـدِسْ للحَياة نِضـــالَها(8)
فلَــكَم وقفـْـتُ، أقَدِّسُ اسْتِـــقلالها
ويقول في أول قصيدته “.. لذهبنا نحالف الشيطانا!”: [الخفيف التام]
قُــمْ وخَــلد، يومَ البَيانِ، “البَيانا”(9)
حَيِّ، باسْم الجَـزائرِ، المِهْـرَجانَا
ويقول في مُفتتَح قصيدته “على عهد العروبة سوف نبقى”: [الوافر التام]
سَلِ الفُصْحى ..وقلْ للضّاد رِفـْقاً..
لسانُ الحال أفْـصَحُ مِــنكَ نـُـطقاَ
* يحضر معجم الثورة عند كل من شوقي ومفدي. ومن الثابت أن كلاّ من مصر والجزائر قد خضعت لنيْر المستعمِر الغربي الغاشم؛ فكان لِزاماً على الشاعرين، بحُكم وطنيتهما الصادقة والمتدَفقة، أن يعبِّرا عن موقف مجتمعَيْهما من الاستعمار، وأنْ يشْحَذا هِمَمَ الجماهير للثورة ومُدافعة الغُزاة بالنفس والنفيس. يقول شوقي عن الثورة: [الوافر التام]
دمُ الثـُّــوّار تعْــــرفُه فرَنْـــسا
وتعْـــلمُ أنّـــهُ نورٌ وحَــــــــقُّ
ونجد معجم الثورة حاضراً بقوة في جُلّ شعر مفدي؛ فهو “شاعر الثورة الجزائرية”، كما أسلفنا القيل، والمعبِّر عن هُموم شعبه وانشغالاته وتطلعاته أصدق تعبير. والثورة عنده تمتحُ من العروبة والإسلام، وتتجاوز نطاق الجزائر لتشمل الوطنَ العربيَّ رُمَّتـَه. يقول د. نشاوي عن مفدي: “فلسفة الثورة عنده تنبع من الدين والعروبة؛ فلم يفصل بين وطنه والبلاد العربية، وكافح دائما من أجل لغته وقوميته وإسلامه، فكابَد من جرّاء ذلك ألواناً من الآلام”.(10)
* نظَم شوقي الشعر الفصـيح، وكذا العامّي (الزّجَل). وهذا ما نجده لدى مفدي أيضاً. يقول شوقي في أحد أزْجاله الشعرية مثلا:
النــــيل نجاشي حلـــيوه أســـمر
عجــب للـــــونه دهـب و مرمـر
أرغـوله في أيده يسـبَّـح لسـيده
حــياة بــــــلادنا يــا رب زيـــده
ويقول مفدي، مثلاً، في مطلع نشيد جيش التحرير الجزائري الذي نظمه بسجن “البرواڤية” بلغة شعبية جزائرية قريبة من الفصحى:
هـذي دِمـانا الغــاليه دفـّاڤهْ
وعلى الحبالْ عْلامْنا خَفّاڤهْ
و للـجهادْ أرْواحْـنا سَبَّــاڤهْ
جيش التحرير احْنا… ما نَاشْ “فَــلاّڤهْ”(11)
ولشوقي أناشيدُ يترنّم بها الصغار، ويردِّدونها في مناسباتٍ وأحايينَ كثيرةٍ. ولمفدي، كذلك، عددٌ من الأناشيد الحَماسية الوطنية الرائعة. ومن يتصفح ديوانه “اللهب المقدَّس” يجد أن صاحبه قد أفرَدَ حيّزا مهمّاً للأناشيد التي نظمها، وعَنْوَن هذا الحيز باسم “تسابيح الخلود”.
* ذكر د. عبد الله الطيب السوداني المجدوب، رحمه الله، في مُرْشِدِه، أن وزن الكامل كثيرُ الوُرود في أشعار شوقي(12). ففي ديوانه الأول إحدى وعشرون قصيدة كامِليّة، وأكثرُ ديوانه الثالث كاملياتٌ، وعددُهنّ في الديوان الثاني ليس بالقليل. والكامل – كما يقول عبد الله الطيب- ذو نغَمٍ مُجَلْجل رَنّان، يَصْلح لكل ما هو عنيف من الكلام، كما يصلح للترَنُّم الخالِص. ونجد هذا الأمر كذلك في ديوان مفدي “اللهب المقدَّس” الذي حوى عدداً كبيراً من القصائد المنظومة على زِنَة الكامل(13). وهو ما يمكن اعتباره مظهراً آخرَ من مظاهر تأثير شوقي في مفدي زكريا.
* ومما يُـلاحَظ على لغة كل من شوقي ومفدي أنها واضحة، رصينة، جَزْلة، سليمة من الناحية اللغوية (النحوية والصرفية والإملائية). ويُعْزى ذلك أساساً إلى تضَلـُّع الرجلين من اللغة العربية، وتمكُّنهما منها؛ لأنهما كانا كثيريْ قراءةِ أمّاتِ كتب التراث، والاحتكاك بالمَظانّ القديمة التي كانت تستعمل لغة قوية ورفيعة المستوى…
تلكم، إذاً، بعضُ نقط الائتلاف والتشابُه الملحوظة في شعر كل من أحمد شوقي ومفدي زكريا. ويمكن القول – بحُكم أسْبقية شوقي واطّلاع مفدي على الأشعار الشَّوْقية – إن شوقياً قد أثـّر أيَّما تأثير في مفدي، وذلك في الجوانب والأمور المعروضة آنفاً بتفصيل على الأقلّ؛ وهو تأثيرٌ تزكّيه جملة من القرائن والمؤشرات القوية والشهادات كذلك…!
مصادر وهوامش:
1- ميخائيل نعيمه: الغربال، مؤسسة نوفل، بيروت، ط.12، 1981، ص213.
2- البردوني: نهر موجود في “زحلة” بلبنان.
3- فوزي عطوي: أحمد شوقي – شاعر الوطنية و المسرح و التاريخ، سلسلة “أعلام الفكر العربي”، دار الفكر العربي، بيروت، ط.1، 1989، ص44. 4
– أحمد زكي عبد الحليم: أحمد شوقي شاعر الوطنية، سلسلة “كتاب الهلال”، القاهرة، ع.322، 1977، ص162.
5- جماعة من المؤلفين: في الفكر و الأدب، دار الراشاد الحديثة، الدار البيضاء، ط.1، 1988، ص213.
6- انظر مثلا قصائدَه: قالوا نريد – على عهد العروبة سوف نبقى – لا تعجبوا… إلخ.
7- نسيب نشاوي: مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية في الشعر العربي المعاصر، دمشق، ط.1، 1980، ص357.
8- الضمير، ها هنا، عائدٌ على بلاد المغرب.
9- صحيفة عربية كانت تصدر من البرازيل.
10- نسيب نشاوي: مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية في الشعر العربي المعاصر، م.س، ص358.
11- فلاڤة: كلمة يطلقها المغاربيون، و لاسيما أهالي تونس، على المُجْرمين.
12- عبد الله الطيب: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، دار الفكر، ط.2، 1970، انظر على وجه الخصوص المحور الحامل لعنوان “كامليات شوقي”.
13- مثل قصائده: وتعطلت لغة الكلام.. – اقرأ كتابَك.. – قالوا نريد – أهدافنا في العالمين صريحة! … إلخ.
هناك تعليق واحد:
هل يمكنك تزويدنا برابط المجلة من فضلك. شكراً
إرسال تعليق