كتاب جدلية القيم في الشعر الجاهلي رؤية نقدية معاصرة
الفصل السادس
بوجمعة بوبعيو
الفصل السادس:فروسية عنترة في ظل الصراع الطبقي
لا يمثل عنترة ـ في اعتقادنا ـ ظاهرة شعرية متميزة عن أشعار غيره من الشعراء الجاهليين، من حيث المبنى أو المعنى، فقد بكى الأطلال، ووصف الديار الدارسة، كما بكوا ووصفوا، وافتخر كما افتخروا، وشكا لواعج الهوى كما شكوا، غير أن هناك ظاهرة جعلته يحظى بوقفة خاصة في هذه الدراسة، ترتد إلى فروسيته الأصيلة التي نسجت ملحمة شعرية أشبه بغيرها من الملاحم في الآداب الإنسانية عامة.
لقد مثّل عنترة سيرة شعبية فردية من خلال شعره الذي صور في مجمله حياة فارس مغمور أجحفته القبيلة حقه، وهضمه أبوه حق النسب الطبيعي، إرضاء لأعراف اجتماعية جائرة، وتقاليد قاسية، فثار هذا الفارس على تلك القيم التي أنزلته منزلة العبيد، وراح يجهد النفس، ويغامر بحياته ليتبوأ منزلة السيد الحر بين قومه، ووسيلته في ذلك شعر أصيل ينفث من خلاله ماينمّ على قدرة فنية في نقل ما يحسّه بأسلوب شاعري عذب مؤثّر، فضلاً عن شجاعة وإقدام نادرين عُرف بهما بين الناس طوال أيام حياته الحافلة بالمغامرات والصعاب، حيث استعملها دون تردّد في درء الأخطار ومواجهة الأعداء، في حين دلّت أخلاقه الكريمة على طيب منبته وشيم ذوي النفوس الكبيرة.
انطلق عنترة في مواجهة مأساته الاجتماعية من الواقع، ولم يحبّذ الهروب إلى الوراء في تلك المواجهة، بل عمد إلى إثبات الذات داخل الكيان الاجتماعي الذي رفضه، وأنكر حضوره ضمن الأسياد، وحجتنا في ذلك أن هذا الشاعر الفارس كان يمكنه أن يختار عالم الصعلكة-مثلاً- أسوة بغيره من الشعراء الفرسان الصعاليك، ولكنه اختار سبيلاً آخر في مواجهة مشكلته، إذ ظل يصارع المظالم التي سُلطت عليه دونما فرار أو مقاطعة ليعيد اعتباره واعتبار أخوته بين قومه وعشيرته.
وقد لاحظنا من قبلُ، كيف أن الشعراء الجاهليين كانوا يفتخرون بفروسيّتهم في ظل المفاهيم الاجتماعية القبلية السائدة، فهذا شاعر يفتخر بنفسه وقومه، وذاك يفتخر بالرصيد التاريخي والبطولي للقبيلة التي ينتمي إليها، وبذلك مثّل شعر الفخر والحماسة جل شعر الجاهليين، لأن حياتهم ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالنزاعات والخلافات كما أسلفنا.
وإذا كانت القبيلة تجمعها قيم وأعراف في علاقتها بالقبائل الأخرى في أوقات الحرب والسلم، فإن لها أيضاً قيمها الاجتماعية وقانونها الذي يحكم البناء القبلي من حيث التماسك الأسري والاجتماعي والاقتصادي.
فعلى مستوى النوع-مثلاً- يحافظ الجاهلي على شرفه وكرامته، ليس بالمحافظة على المرأة فحسب، بل إن المرأة هي جزء لا يتجزء من حسبه ونسبه، وبذلك فإن ابن القبيلة التي تتألف من الأسياد الأشراف لا يتزوج إلا من الحرائر، لأن الزواج من الأمة، فضلاً عن كونه يخالف أو يتناقض مع ناموس القانون العام للقبيلة، فهو مرفوض أصلاً، وذلك لعدم وجود تكافؤ في مثل هذا الزواج، وهذا يقودنا إلى الإقرار بوجود تمييز طبقي يتمثل-أصلاً- في عدم الاعتراف بالمساواة بين السادة والعبيد، فالمجتمع الجاهلي-رغم بداوته- هو مجتمع أرستقراطي تحكمه قيم ومعايير ثابتة لا يكاد يحيد عنها.
ولكن قد يحدث أحياناً أن ينجب سيد أطفالاً من أمة، فمع عدم تحريم الاتصال الجنسي في العرف القبلي بين السادة والإماء اللواتي ينظر إليهن-دوماً- على أنهن من ممتلكات السيد، وله حق التصرف فيهن من حيث التمتع والبيع أو العتق متى شاء، فإنَّ ما يحرمه هذا العرف هو الاعتراف بنسب هؤلاء الأبناء إليه، وبذلك فإن الابن الذي يولد من أمة يظل عبداً لأنه ابنٌ هجين، ومن ثمةَ لا يُلحَق-البتة- بصلة الوالد إلا فيما ندر.
ولا شك أن ذلك القانون الاجتماعي، قد أثر تأثيراً عميقاً في نفوس هؤلاء الأبناء الذين يظلون خاضعين لعرف تواضعي جائر، لاسيما ممّن جُبلت نفوسهم على العزة والإباء، وعدم القدرة على تحمل الذل والخنوع.
وفي ضوء ذلك التمييز الذي يسلب العبيد أبسط حقوقهم الطبيعية نشأ الإحساس بمقت ذلك الأسلوب الجائر في المعاملة الاجتماعية، لكن هذا الإحساس سرعان ما تحوّل إلى إعلان الثورة والمناهضة لدى كثير من الأفراد، ومثل ذلك بعض الشعراء الفرسان الذين لم يترددوا في إعلان الثورة على قبائلهم التي أبت الاعتراف بنسبهم، وما يترتّب على هذا النسب من حقوق، وجرّدوا سيوفهم للدفاع عن شرفهم وكرامتهم، بل عن وجودهم، وتمثلت هذه الثورة في أجلى مظاهرها فيما عُرف بظاهرة الصعلكة التي نعتقد أن من أسبابها المباشرة استفحالَ التمييز الطبقي القبلي، وبذلك فقد مثل هؤلاء أحد أطراف الصراع الطبقي بحكم انتماء جلّهم إلى طبقة العبيد، أو ممّن هم في حكم العبيد حين أهملتهم القبيلة أو طردتهم، وتخلّت عنهم بعد خلعهم.
ولكن هناك حقيقة لا يجدر بنا التغافل عنها، وهي أنه ليس كل الشعراء الفرسان الذين رفضوا الانقياد للعبودية سلكوا سبيل الصعلكة، فعنترة بن شداد العبسي-مثلاً- عاش في ظل طبقة اجتماعية قبلية أرستقراطية تمجّد طبقة الأسياد والأشراف، وتعْتد اعتداداً مفرطاً بالحسب والنسب، ومن ثمّة لم تمنح عنترة ومن على شاكلته من العبيد حق الانتماء القبلي، وحين يفقد الإنسان حق الانتماء القبلي، فذلك يعني- ببساطة- أنه يحرم أبسط الحقوق التي تبدو طبيعية، غير أن نفسية هذا الرجل فطرت على الإباء وعدم الخضوع للذل والمسكنة، ومن هنا لم يحتمل حياة العبودية التي ابتلي بها بسبب أمه الحبشية، وحين نذكر العبودية فذلك يعني حياة الفقر والذل والانصياع المطلق للسيد المالك.
عمل عنترة على تخطي مرحلة العبودية إلى مرحلة الحرية والسيادة، ولكنه لم يسلك سبيل التصعلك، ولكن صراعه بدأ من القبيلة وظل مرتبطاً بها ليجبرها في نهاية المطاف على منحه حقه الشرعي، متوسلاً في ذلك بمجموعة من الوسائل التي أشرنا إلى أهمها في بداية هذا الجزء من الدراسة.
يعد عنترة- حسب ما وصل إلينا من أخباره- فارساً جاهلياً مقداماً، حتى إنه لُقِّب "بأبي الفوارس" وهو-فضلاً- عن ذلك، شاعر أصيل ذو بشرة سوداء ألبت عليه حياته، ونكدتها لتجعلها حياة قلقة مضطربة مما اضطره لأن يناضل ويجابه الأهوال والصعاب لبلوغ هدفه، وكان عليه-في ضوء ذلك- أن يبحث عن الوسيلة التي تمكنه من بلوغ هدفه المنشود المتمثل في نيل حقه المسلوب.
لقد كان من هذا المنظور عبداً حقيراً منبوذاً، فإذا كان أبوه شداد سيداً من سادة قبيلة عبس فإن أمه مجرد أمة حبشية سوداء تدعى "زبيبة" غنمها شداد في إحدى الغزوات، وأنجب منها عنترة.
وهكذا يجد عنترة نفسه-منذ طفولته- يعيش صراعاً حاداً ومزمناً، ويكبر هذا الصراع وتزداد حدته، حين تحرمه الحياة مما يعتقد أنه حق من حقوقه الشرعية، ويصطدم بعدد من القيم التي تحول بينه وبين أعز ما يمني النفس بتحقيقه.
ويبدو أن الصراع الطبقي وفق المفاهيم السائدة في العصر الجاهلي هو الذي أعطانا شاعراً اسمه عنترة وشعراً غزيراً ينسب إلى هذا الإنسان الذي مثل الإباء وعزة النفس وشهامة الفارس العربي أحسن تمثيل.
لقد كان سادة العرب-قبل الإسلام- يستبعدون أبناء الإماء، ولا يعترفون بحق نسبتهم إليهم إلا في حالات نادرة، ومن ثمة كان على عنترة أن يتحول من مجرد راع لابل سيده (أبيه) إلى فارس صنديد يفرض نفسه على والده أولاً، وعلى قومه ثانياً، ويعدُّ ذلك أمراً عسير المنال لأنه خرقٌ للقيم أو إلغاء لما هو سائد، ومن هنا تبدأ قصة عنترة في صراعه مع أهله وقومه.
قدْ كنتُ فيما مضَى أرعَى جمالَهم
واليومَ أحمِي حِمَاهُم كلَّما نُكِبُوا([1])
وأمام الوصول إلى تحقيق الوجود الحر الكريم، والتخلص من العبودية التي تمثل البديل لدى عنترة لابد من خوض غمار معركة طويلة النفَس، هي بمنزلة الملحمة، وبالفعل فقد استطاع هذا الشاعر أن يؤلف ملحمة شعرية، لا لأنه روى من خلالها عادات وتقاليد قبيلة أو شعب، ووقف عند الحروب والانتصارات حسب ما ينص عليه مصطلح الملاحم التي تحفل بميثولوجيا الشعوب وبطولاتها وأيامها، كما هو الأمر في ملحمتي "الإلياذة والأوديسا" "للشاعر اليوناني الكبير "هوميروس" –مثلاً- ولكن ملحمة عنترة هي ملحمة فردية نابعة من ذات إنسان طُعن في الأعماق، بحيث لم يرتكب جرماً أو يقترف إثماً، ولكنه حُمِّل بالخطأ منذ أن وطئت قدماه الأرض، فلما أراد ممارسة حياته مثل بقية البشر، حالت دون ذلك مجموعة من القيم لتقف أمام رغباته وتطلعاته الإنسانية، وتمثل بذلك المحظور الذي لا يُخترق.
كانت الفروسية هي الوسيلة المثلى التي تمكن الإنسان من تغيير قيمة بقيمة أخرى، الفروسية التي تعتمد-فيما تعتمد- على شجاعة الفارس الخارقة، وما يكتنفها من خصال حميدة كالأخلاق النبيلة، ونصرة الحق ونبذ الباطل والظلم، إلى ما هنالك من البدائل القيمية التي تزيل الواحدة الأخرى بوساطة الفُتوة إن فشلت الوسائل السليمة الأخرى.
وفي ضوء ذلك، وبناءً على امتلاك عنترة لأهم هذه الشروط صارع على محورين بارزين لإثبات ذاته.
تمثل الصعيد الأول في قضية مبدئية وهي إيمانه بحريته واقتناعه بحقوقه الطبيعية، وبذلك فقد نشأ على عدم قبول الضيم أو الرضا بحياة العبودية والذل، وكان يلح على أبيه باستمرار أن يعترف له بأبوته، ويلحقه بنسبه، ويعلن ذلك أمام الملأ، وإذا عرفنا تردد الوالد في هذا الاعتراف لاسيما بعد أن اشتد عود ابنه، وتجلّت فروسيته يمكن أن نتصور مقدار الصراع الذي كان يعتمل في نفس عنترة، وبذلك كانت الفروسية إحدى هذه الوسائل في بلوغ غايته المنشودة..
أما على صعيد المحور الثاني فإن ما يصوره في شعره الذي امتزجت فيه صفات الفروسية بصفات النبل الأخلاقي وعلوّ الهمة والشجاعة الفائقة قولاً وفعلاً بهدف الوصول إلى قلب الحبيبة (عبلة) كانت وسيلته الثانية، بحيث قصد من وراء ذلك الوصول إلى تحقيق أمنية وجودية وأخرى عاطفية.
فظفره بعبلة يعني ظفره بالاعتراف القبلي([2]) الذي يعني حل المشكلة الجوهرية، مشكلة الانتماء، ثم عدم رفض زواجه من عبلة.
ولا غرابة إن رأينا عنترة يذرف الدموع مدراراً، ويكثر من الشكوى نتيجة ما لحقه من جور عشيرته وقومه وظلمهم له، وتزداد معاناته النفسية قسوة وألماً حين يخبرنا الشاعر إنه ما قصّر يوماً في واجباته نحو قومه، وكيف أنه كان يفديهم بنفسه، ويقدم حياته لرفع شأنهم، وجعلهم يتيهون فخراً ومجداً أمام القبائل الأخرى، ولكنه يقابل دوماً بالجحود والنكران.
ومع إقرار عنترة بسواد لونه، إلا أنه ما يشفي نفسه ويخفف من حدة آلامها أنه فارس مقدام له فضل وأيّ فضل على أبناء عشيرته الذين يستنجدون به حين تضيق بهم السبل، ويتركون سبيله أو يتجاهلونه حين لم تعد بهم حاجة إليه.
إِذَا فاضَ دمْعي واستهلَّ على خدّي
وجَاذَبَني شوقي إلى العلِم السعدي
أذكُر قومي ظلمَهمِ لي وبغيَهم
وقلةَ إنصافِي على القربِ والبُعد
بنْيتُ لهم بالسيفِ مجداً مشيّداً
فلما تناقَصَ مجدُهم هدمُوا مجدِي
يعيبون لوني بالسواد وإنّما
فعالُهم بالخُبْث أسودُ من جلدِيِ
فوا ذلَّ جيرانِي إذا غبتُ عنهم،
وطَال المَدى ماذا يلاقون من بَعدي([3])
إن عنترة هنا يمزج بين تصوير المعاناة النفسية، والفخر بنفسه، ولا يتأتى هذا الفخر من الموروث المكتسب لدى القبيلة أو القوم المنسوب إليهم، ولكنه يتأتى من الشاعر نفسه.
فالشاعر هو مصدر هذا المجد الذي حظيت به قبيلته وليس العكس، وكأن القبيلة لم تكن ذات شأن من قبلُ، وبذلك فإن فضله عليها كبير، وفي ذلك ما يخفف من أزمته النفسية، ولا سيما حين يصبح الأمر متعلقاً بوجوده، بصفته حامياً لحياض القبيلة، ورافعاً من قيمتها ومكانتها، بين القبائل الأخرى.
وقد استطاع الشاعر أن يوازن موازنة فنية ومعنوية، حين أتى على ذكر سواد جلده الذي عيّره به أبناء قبيلته، وهو سواد مظهره بالطبع، قد يحمل في جوهره بياضاً ناصعاً يتمثل في نبله وسماحته، ثم قابل ذلك بسواد فعال قومه وما يكتنفه من حقد وخُبث ونفاق، وذلك أخطر وأقبح، وتلك صورة شعرية حية تعبر عن نفسية الشاعر السمحة، ولنا أن نتخيل ذلك البْون الشاسع بين ذلك الإنسان الذي يحمل بشرة سوداء تستقر في أعماقها معاني النبل والطهارة والتسامح، وبين بشرة بيضاء تخفي داخلها صفات إنسانية ممقوتة، وكأن الشاعر هنا يقول: انظروا إلى جوهر الإنسان لا إلى مظهره.
تميز عنترة-كما أسلفنا- بأخلاق سامية أهلته لأن يمثل بذلك نموذج الفارس العربي الأصيل، ويتجلى ذلك كله في مواقفه المتعددة والمختلفة، فهو على خلق كريم زمن الحرب والسلم معاً، فإذا شرب الخمر-مثلاً- وتلك عادة جاهلية- يشربها بعد أن يدفع ثمنها، ويختار الوقت المناسب حتى لا يسيء إلى غيره عندما تلعب هذه الخمرة بعقله، وحين تنتهي الحرب التي يخوض غمارها مع أبناء قبيلته، تعف نفسه عن أخذ الغنائم، وأمثلة ذلك كثيرة في شعر عنترة وفي مواقفه، مما جعله يحظى بمكانة اجتماعية جديرة بفروسيته وبنبل أخلاقه.
فإذا كان المجتمع القبلي الجاهلي قد ساد بعض أفراده شيء من التهور والانصياع لشهوات النفس ومغريات الحياة الدنيا، فإن عنترة هنا، يصور موقفاً اجتماعياً نابعاً من جوهر التعاليم الإسلامية السمحة، على الرغم من عدم إدراكه الإسلام، وفي ذلك دلالة على ما لهذا الرجل من خلال لا تتوافر إلا في عظماء الرجال من ذي النفوس الكبيرة.
إن أخلاق عنترة تأبى عليه أن يغشى جارته في غياب بعلها، فحين يغيب الزوج يربأ الشاعر بنفسه الاقتراب من مسكن الجارة خشية أن يسبب لها ولنفسه الشبهات والريب، ثم إنه يغض الطرف خجلاً وحياءً حين تبدو هذه الجارة، وتلك لعمري من صفات الإنسان السوي الذي يكبح جماح نفسه اللجوج الأمارة بالسوء!.
أغشى فتاةَ الحيّ عند حليلِها
وإذا غَزَا في الحرب لاَ أغشاها
وأغضُّ طرفي ما بدتْ لي جَارتي
حتى يُوَارِي جارتي مَأُواها
إِني امرؤٌ سمحُ الخليقة ماجدٌ
لا أتبعُ النفسَ اللّجوجَ هواها([4])
وقد جعل عنترة عبلة وسيلة لبلوغ غاية، صحيح أنه أحبها حباً مفرطاً، لكننا نعتقد أن هذا الحب ليس مرده إلى أن عبلة بطلة تتميز بخصائص جمالية تفوق الوصف-مثلاً-، ولا تتوافر مثل تلك الخصائص لدى بنات جنسها، فذلك ما لم نعثر عليه في أشعار هذا الشاعر، ولكن لأنها ابنة عمه، وهي فضلاً عن ذلك سيدة حرة كريمة، ثم إن والدها رفض. بإصرار أن يزوج ابنته من عنترة الملحق بطبقة العبيد، فهو-أي شداد- يأبى تهجين الأسرة بذلك الزواج غير المتكافئ، فمن هذا المنطلق ينشأ الصراع ويحتدم الخلاف من خلال قصة عاطفية مثيرة ومؤثرة في الوقت نفسه، وتصبح هذه الحبيبة وسيلة لبلوغ غاية سامية، فبغض النظر عما تتوارده الروايات من أن عنترة قد هام بحب عبلة هياماً شديداً، وراح يعمل على تحقيق كل ما يطلب منه من أجل الظفر بها، برغم الشروط القاسية والمجحفة التي امتزج الواقع فيها بالخيال، إلا أن ما يلفت الانتباه ههنا أن هذا الشاعر الفارس أفنى ذاته وعرض نفسه للخطر غير مرة دون أن يأبه لما قد يصادفه من ويلات ومخاطر ما دام الأمر يتعلق بحبه لعبلة، هذا الحب الذي يمثل الذات الضائعة، التائهة.
إن ذات الشاعر لن تحقق انسجامها وتوازنها في ظل القيم الجاهلية القبلية إلا بعد أن يتمكن من نيل الموافقة على زواجه من عبلة، لأن قبول زواجه منها، يعني تحرره من العبودية، فحبه هنا يعني التحرر والانطلاق أكثر مما يعني بلوغ هدفه المادي وهو مجرد الاقتران بمن أحب.
فإذا كانت قصة عنترة العاطفية قد أحيطت بشيء من الهالة الأسطورية، أدخلت هذه القصة في عالم الخيالات المجنحة أو السيَر الشعبية الأسطورية بما صورته من خوارق وأهوال، ولما دبر لبطلها من مكائد للحيلولة بدون بلوغ غايته المنشودة المتمثلة في زواج غير متكافئ اجتماعياً وطبقياً، وكيف أن عنترة-البطل الخارق- يخرج دائماً منتصراً، فإن ما يلفت الانتباه في كل ذلك هو واقع الهوة الفاصلة بين طبقة السادة وطبقة العبيد.
عمد أهل عبلة-بعد أن اشتد عود عنترة وذاع صيته بصفته فارساً لا يقهر- إلى اختلاق الحجج وافتعال الشروط تلو الأخرى قصد منع حدوث ذلك الزواج كأن يطلب منه أن يقدم ألف ناقة مهراً لعبلة-مثلاً- ومع ذلك فإنه يخرج من تلك المآزق منتصراً حيث يحقق ما يطلب منه من شروط، ولكن مقابل معاناة وجهود مضنية:
تُرى علمتْ عُبيْلة مَا ألاقي
من الأهوالِ في أرضِ العراقِ
وأياً كان الأمر، فإن الشاعر عنترة نظم شعراً غزيراً يكاد اسم عبلة لا يخلو من جله، ولا نجد في مثل هذه الأشعار التي يتغزل فيها بعبلة ما نجده في الشعر الغزلي عامة، ولكن نجد هذه المرأة المتغزل بها ممثلة للمنطلق الذي انطلق منه الشاعر للتعبير عن معاناته مع القبيلة، أو عن صراعه الدائم، وهكذا ظلت عبلة مطلبه المنشود من عشيرته، لأن بالوصول إلى الاقتران بعبلة يتحقق الحلم الذي جعله غاية لحياته.
وإذا كان الشاعر الفارس مميزاً في عالم البطولة والفروسية- كما تخبرنا الروايات بذلك، فإنه جسد تلك الفروسية في جل شعره، إذ لا تخلو معظم قصائده من نغمة الفخر الذاتي الممزوجة بنغمة الألم، والدمعة الحرى، مما يجعلنا نذهب إلى أن اسم عبلة في شعره الغزلي منه والحماسي يخضع للمعادلة التالية: ((عنترة Ù عبلة= أهلها Ù القبيلة)) فعبلة تمثل الوسيط دوماً.
إنه حين يفتخر، يرسم صورته من خلال نظرية الآخر "الأهل" ثم يشيد بأخلاقه السامية، وبشجاعته وفروسيته ليدحض الرأي الآخر.
يعيرني العدا بسواد جلدي
وبيض خصائلي تمحو السوادا
سلي يا عبل قومك عن فعالي
ومن حضر الوقيعة والطرادا
وردتُ الحربَ والأبطالُ حولي
تهّز أكفُها السمر الصعادا
وخضتُ بمهجتي بحرَ المنايا
ونار الحرب تتقد اتقادا
وعدت مخضَّباً بدمِ الأعادِي
وكرب الركض قد مضت الجوادا
وكم خلفت من بكر رداح
بصوت نواحها تشجي الفؤادا
وسيفي مرهف الحدين ماض
تقد شفاره الصخر الجمادا([5])
ولعنترة مواقف عديدة مع بعض القبائل التي كان له مع فرسانها لقاءات في ساحات الوغى، ومن ضمن هذه المواقف ما يروى من أنه توعد النعمان بن المندر "ملك الحيرة" ليسجل بذلك الفخر بنفسه وصولاً إلى الفخر بقومه.
يستهل الشاعر كلامه ببيت تفوح منه رائحة الحكمة المنبسطة مما اكتسبه من تجربة الحياة، ويصور من خلال البيت التالي علو قدره ومكانته المرموقة بين قومه، ومن ثم فإن فارساً مثله- كبير النفس عالي الهمة-، لا ينال منه الحقد مقصدا، ولا يعرف إليه سبيلاً، لاسيما وهو المتطلع إلى المعالي، الباني مجد القبيلة، وكل ذلك ليصل إلى أنه-برغم ذلك- كان راعي الإبل لسيده، ولكنه سرعان ما نال الحظوة بحلمه وصبره، وتبوأ المكانة الجديرة بمقامه، ولن يجد بعد ذلك بأساً من أن يشيد بقومه "بني عبس" الذين أنجبوا فرساناً شجعاناً أمثاله، ولئن عاب عليه الأعداء سواد جلده، فإن ذلك مفخرة له يوم النّزال، حين تلتقي السهام بالسهام، ليكني بذلك عن فروسيته المتفردة، وذلك أعظم نسب حين يعزّ النسب، ويتوعّد النعمان بأنه سيأتي اليوم الذي يظفر برقبته وينال انتقامه منه:
لا يحملُ الحقدَ من تعلُو بِه الرُّتبُ
وَلا ينالُ العلاَ من طبعُه الغضبُ
ومن يكُن عبدَ قومٍ لا يخالفُهم
إذا جَفوه ويسترضي إذا عَتَبُوا
قد كنتُ فيما مَضَى أرعى جمالَهم
واليوم أحمِي حِمَاهُم كلَّما نكبوا
لله درُّ بني عبس لقد نسلوا
من الأكارم ما قد تنسل العرب
لئن تُعيبوا سوادي فهو لي نسب
يوم النزال إذا ما فاتني النسب
إن كنتَ تعلم يا نعمان أن يدي
قصيرةٌ عنكَ فالأيامُ تنقلب([6])
أما حين يتحدث عن الحرب التي يخوضها مع قومه ضد القبائل المجاورة- كما هو الشأن- عندما التقت قبيلة عبس بقبيلة تميم في معركة حامية، فإن الشاعر-مثل عادته- ينطلق من الذات أو من فروسيته المتفردة، ليقدم صورة شعرية تنضح دماً، يمثل هو البطل المغوار، فبعد أن يطيح برأس قائد بني تميم، يعود من ساحة الوغى وسيفه يتسربل دماً، وفي تلك العودة الظافرة ما يجعل بني عبس- وهم قوم الشاعر- يتيهُون عجباً وخيلاً بما أنجزه فارسهم من بطولة، وتحقيق لنصر يضاف إلى سجّل أيامهم مما يجعلهم يحتلون الصدارة بين بقية القبائل العربية، ويعبّر الشاعر-في الوقت نفسه- عن إسقاطاته النفسية، من خلال إشارته إلى أن ذلك العبد قد رفع هامة قومه، بما وهب من شجاعة وقوة، ومهارة حربية، وأي فتى هذا الذي بلغ ذلك المبلغ إن لم يكن عنترة؟
هزمتُ تميماً ثم جندلتُ كبشَهم
وعدُت وسيفي من دم القوم أحمرُ
بني عبس سُودوا في القبائل وافخُروا
بعبدٍ له فوق السماكين منبرُ
إذا ما منادي الحيّ نادى أجبتُه
وخيلُ المنايا بالجماجم تعثر
سلِ المشرفيَّ الهندوانِي في يدي
يخبرْك عنّي أنّني أنا عنتر([7])
ويحافظ الشاعر في جلّ قصائده على ديمومة الفخر بالذات لإقناع قومه بضرورة الإقرار بمكانة فروسيته، جاعلاً من عبلة وسيلته في إيصال خطابه، وكأنه لا يتوقع أثراً إيجابياً لشعره في نفوس قومه ما لم يأت على ذكر عبلة، ثم يستفيض في ذكر خصاله الحربية، وما يكتنفها من رهبة تبعث الإحساس بالهزيمة والانكسار في نفوس الأعداء:
إذا لم أروِّ صارمي من دم العدا
ويصبح من افرنده الدمُ يقطر
فلا كحلتْ أجفان عيني بالكرى
ولا جاءني من طيفِ عبلة مخبرُ
إذا ما رآني الغربُ ذلّ لهيبتي
وما زال باعُ الشرق عني يقصر
أنا الموت إلا أنني غير صابر
على أنفس الأبطال والموت يصبر([8])
لقد أنشأ الشاعر صورة شعرية تنم على خلق مقابلة بين الشاعر الفارس الذي يتقمص شبح الموت، وفي ذلك كناية عن بطشه بالأعداء، وبين الموت الحقيقي الذي لا يبقي على أحد، ولكن إجادة الشاعر الفنية تكمن في كونه جعل من نفسه الصورة الأكثر قوة ورهبة إذ أنه لا يسعف خصمه، بل يسارع إلى قتله والفتك به، في حين أن الموت الآخر لا يستعجل في قطع الرقاب، وفي ذلك مبالغة-بالطبع- ولكنها المبالغة المقبولة، على الأقل من الوجهة الفنية التي جسدتها صورة شعرية ناجحة، مادام الأمر يتعلق بالفخر والحماسة، فلا غرابة في ذلك-إذن- ما دام الشاعر جعل من شجاعته سبيله في خوض المخاطر والأهوال، ومن سيفه الرفيق الوفي الذي لا يفارقه في خضم الليالي الدامسة وسط الصحارى والفيافي، ووسيلته المفضلة في إراقة الدماء، وهذا ما يجعله يحذّر الطامعين في هلاكه من مغبة الأمل في النيل منه، حيث أن هذا الأمل سيتحول إلى كأس حتف من سيف الشاعر المسلول:
وكيف أخشى من الأيام نائبة
والدهر أهون ما عندي نوائبه
كم ليلةٍ سرتُ في البيداء منفرداً
والليلُ للغربِ قد مالتْ كواكبُه
سيفِي أنِيسي ورمحي كلما نهمت
أسد الرمال إليها مال جانبه
وكم غدير مزجت الماء فيه دماً
عند الصباح وراح الوحش طالبه
يا طامعاً في هلاكي عد بلا طمع
ولا ترد كأس حتف أنت شاربه([9])
وهكذا فإن قصة عنترة التي مثلت صراعاً طبقياً قاسياً، لم تنته إلا بتحرره من جور العبودية وقسوتها وبتحرير أخوته، ولكن سواد لونه ظل شاهداً على عبوديته واعتلال نسبه، رغم جميع الاعتبارات، وبقيت أمه زبيبة أمة مادامت تنتمي إلى الإماء، وفي ذلك حجة للناس على أنه هجين، حيث أن أخواله من الزنوج الحبشيين، ومن ثم فمهما قدم من خدمات للقبيلة، وما سجله من مواقف، فإن صرامة سيفه واعتراف قومه بشجاعته وإقدامه، وبطيب معشره، وسمو أخلاقه، لم تخلصه من الإحساس الداخلي الذي ظل مسيطراً على نفسه، وجعله دائم الشعور بعقدة الدونية أو عدم التحرر النفسي، ذلك أن هذا الصراع مع النفس ظل ملازماً له رغم خفة حدته كلما سجل موقفاً يضعه في موقف المتأسي.
وبصرف النظر عن حجم الأخيلة التي زيّنت تلك الملحمة الشعبية، والتي استمدّ الرواة والمؤرخون خيوطها من شعر عنترة نفسه، فإنَّ ما نودّ الإشارة إليه هنا، هو أنَّ هذا الشاعر نسج خيوط قصّته- التي حقّ لها أن تصنّف ضمن الملاحم الشعبية- اعتماداً على عدد من المحاور التي تظافرت وتشابكت لتؤلف بنية قصصية درامية، قام فيها الخيال بدور كبير لكنّه لم ينقص من قيمتها الإنسانية في ظلّ الصراع الوجودي الذي خاضه الإنسان مع مظاهر الطبيعة تارة ومع أخيه الإنسان أخرى، ومن أهم تلك المحاور:
أ- عبودية الشاعر التي مثلت موضوعاً رئيساً لتلك الملحمة، تلك العبودية التي جعلت الشاعر يصور معاناته النفسية وإحباطاته الذاتية دون أن يتحرّج من ذكر بعض مظاهرها الخارجية، كأن يشير-مثلاً- إلى سواد لونه، ذلك السواد الذي استطاع أن يجعل منه مظهراً إيجابياً حين يقرنه بطيب أفعاله ونبل أخلاقه، وعزّة نفسه، وحسن معشره، وفرط شجاعته وإقدامه، ففي كل ذلك ما أضفى على شعره عنصر التشويق والإثارة، ناهيك عن الصور الشعرية الحيّة التي أسهمت في إثراء قيمته الفنية والمعنوية.
ب- ثم إنَّ الغاية الحقيقية من وراء الوصول إلى قلب عبلة والظفر بها، لا تعني مجرّد كسب ودّ فتاة ما، ولكن الهدف المنشود من وراء ذلك يكمن في تحقيق ذاته، فتحقيق أمله يعني التحرّر من عبوديته في حدّ ذاتها، لأن الاقتران بعبلة معناه الاعتراف ضمنياً بحريته المسلوبة.
جـ- أمّا المحور الثالث فيتمثَّل في الوسيلة المسخّرة لنيل ذلك الهدف المنشود، وهو الصّراع الدائب، وركوب المخاطر والأهوال في ظلّ فروسية نادرة، ومهما بدت لنا المواقف المستمدة من خيال مجنّح فإنّها أسهمت- لا محالة- في إثراء الصورة العامة لخيوط تلك الملحمة، وأضفت عليها عنصراً تشويقياً مثيراً.
د- وممّا يلفت الانتباه ونحن بصدد قراءة شعر عنترة الملحمي أنَّه جعل من ذاته سبيلاً لفخر القبيلة، أي أنّ الفخر بالذات الفردية يستمّد منه الفخر الجماعي، لأنّ فروسية عنترة تجعل قبيلته ، في أمسّ الحاجة إلى مواقفه البطولية التي ترفع شأن قومه، وليس العكس.
هـ- تكراره لاسم عبلة، في شعره ينبئ عن إصراره على تحقيق حريته الوجودية، ولذلك نميل إلى أنّ هذا الاسم هو إلى الرمز أقرب منه إلى مجرّد ذكر للحبيب، كما جرت العادة لدى كثير من الشعراء.
وهكذا تظلّ قصة عنترة من القصص الإنسانية الخالدة في مجال الأدب، وهي جديرة بأن تنقل إلى اللغات الإنسانية المختلفة لما يتوافر فيها من خصائص إنسانية وأدبية يؤهلها لأن تتبوأ مكانتها بين الآداب الإنسانية الأخرى.
_____________________________
([1]) شرح ديوان عنترة، ص57.
([2]) بطرس البستاني، الشعراء الفرسان، ص177.
([3]) شرح ديوان عنترة، ص62.
([4]) ديوان عنترة، مجموعة الأعلم، ص409.
([5]) شرح ديوان عنترة، ص57.
([6]) المصدر السابق، ص10.
([7]) المصدر السابق نفسه، ص82.
([8]) المصدر نفسه، ص81.
([9]) المصدر السابق نفسه، ص9.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق