اللُّغة ـ الكتابة واستراتيجيّة العنونة
إيلاف - الإثنين 14 أبريل 2008 - نقلاً عن مجلة "الموقف الأدبي" السورية - د. خالد حسين حسين :
1 ـ توطئة:
تتمحور إشكالية (1) broblematic هذه القراءة حول ظاهرة "العنونة"، من حيث إنَّ "العنونة" غدت هاجساً مُلحاً للناصِّ وهو يقدّم نصّهُ للقارئ نظراً للدور الخطير الذي يمارسُهُ "العنوان" في العملية الأدبية إبداعاً، والغواية المثيرة التي يبثها حول النص تلقياً، بمعنى أنَّ "العنونةَ" جزء لا يتجزأ من استراتيجية الكتابة لدى النّاصّ لاصطياد القارئ وإشراكِه في لعبة القراءة، وكذلك بعدٌ من أبعاد استراتيجية القراءة لدى المتلقي في محاولِة فَهْم النصّ وتفسيره وتأويله، ومن هنا الحاجة الملّحة لتحوز "العنونة" موقعاً لها في خريطةِ النظرية الأدبية المعاصرة، فهي لا تضجُّ بإشكاليتها وأسئلتها أمام عتبات القراءة النقدية.
إن معاينة ما أنجز من قراءاتٍ نقدية في إطار مقاربة النصِّ الأدبي ـ وباستثناءات قليلة ـ فإنها أغفلت "مرسلة العنوان" من مساءلاتها النقديّة، الأمر الذي حدا بالعنونة إلى أن تنسج شبكة إشكاليتها، بما أنَّها حدثٌ خطيرٌ يهبُ النصوصَ هوياتها واختلافاتها وتغايراتها، ضمن صمت البداهات، البداهة (2) من حيث كونها متعالية على (أو لا تستحق) المساءلة النقدية أصلاً، وهي بذلك تمارسُ سلطتها في الخفاء وتمتنع عن التفكيك والمساءلة.
وعلى صعيد علاقة البداهة بالعنونة: ألم يكن العنوان عنصراً هامشياً في القراءات النقدية؟ ألم يكن طيَّ النسيان؟ يلوكُ حظّهُ العاثر، ولا يلفتُ انتباه القراءة النقدية المشغولة أبداً بسلطة "المتن" وسطوته على حساب عتبات النص: العنوان، الإهداء، كلمة الناشر،.. إلخ التي غدت دون وظائف في الممارسة النقدية بوصفها مفاتيح لخلخة النص وزحزحته. في حين أنَّ "العتبة" هي التي تقودنا إلى باب النّص، فالعلاقة بين البيت والعتبة علاقة جدلية، كلٌّ منهما يفضي إلى الآخر. لكن القراءات النقدية فيما سبق وإلى أمدٍ قريب ـ كانت مرهقة بميتافيزيقيا "الأصل" و"الأساس" وبالتالي نبذت التتمّات والإضافات ـ وهي، هنا، العتبات النصية ـ إلى أقاصي الصمت دون أيّة محاولةٍ لمساءلتها، وتفسير وجودها الأنطولوجي في مواقعها النصية. إنّها جريرةُ الفكر الكليِّ ـ الشمولي القائم على الثنائيات والمنحاز إلى طرفٍ وتغييب الطرف الآخر. ومن هنا أُزيحت "العنونة" نحو النسيان بوصفها بداهةً؛ طالما أنَّ العنوان يتصدَّر الكتاب من الخارج، فهو واضحٌ وغير ملتبسٍ، وهذا ما يسوِّغ إقامته في فضاء الهامش النقدي. إنَّ "البداهة" غالباً ما تُتَجَاوز، لتُترك ملغَّمة بالأسئلة الحرجة، والفجوات العمياء، دون أن يُنظر في الأدوار الاستراتيجيّة التي تؤدّيها في البنية المحددة، وذلك بمسوغاتٍ واهيةٍ، فالرغبة عن مقاربة العنوان النصية كانت مدفوعة باليقين من أنَّ "الأصل" أو "الأساس" أو "المتن" (3) أوَّلى في خطط استراتيجيات القراء وطرائقهم في مقاربة النصوص وتحليلها.
غير أنَّ "البداهات "أقصد العتبات النّصيّة" سرعان ما تضعنا أمام مأزق الدّهشة: لماذا اختار الكاتب هذا العنوان؟ وما علاقته بالنص؟ هل انبثق العنوان مصادفةً أو أنَّ المقصدية تمارسُ غواياتها في هذا المجال؟.. إلخ، هكذا تجرنا العتباتُ إلى دوامةٍ من التساؤلات، لتشرع ـ من ثمَّ ـ أسئلتها المحفوفة بالقلق، وتنفتحُ ثقوبُها السوداء عن أسئلةٍ ملحّة في النشاط النقدي للقراءة. ومن هذه البداهة: تموقع العنوان في واجهة النص ـ الخطاب، تنهضُ إشكالية هذه القراءة مدفوعة بغواية التساؤلات.
IIـ العنونة ومصيدة التاريخ:
تتغيا الدِّراسةُ الحديثَ عن "لعبة اللغة" في اختلاق العالم، بتقطيعه، وتصنيفه، وتحديده، حتّى تستوطن فيه الكينونة. ومن تجليات هذه "اللعبة" التي تهوى التفريع والتعقيد تبرز استراتيجية "التسمية" التي تتخذها اللغة وسيلةً لإنجاز اختلاقاتها للعالم. وانطلاقاً من هذا المرتكز تفترض الدراسة الربط التوليدي بين العنونة والتسمية، من حيث كلتاهما مفهومان أو آليتان لحدثٍ واحدٍ، فالعنونة تمارسُ وجودها ضمن فعل "التسمية" بوصفه استراتيجية كبرى للغة في تفتيت العالم وإعادة صياغته، ولذلك سوف تُمفصل الدّراسة هذه الاستراتيجية في مستويين رئيسيين لرصد علائق العنونة بالتاريخ.
1 ـ اللغة ـ العالم واستراتيجيّة التّسمية:
في البدء كانت اللّغة.
في البحث عن "رحلة العنونة" في سياق التاريخ ترتهن لذّة التقصّي بمجمرة الأسئلة، فالسؤال يمثّل فسحة القراءة لارتكاب لذّة الكشف ومتعته، ذلك أنّ السّؤال: "هو الصيغة شبه العقليّة التي تُجسّد بين المتعيّن واللا متعين" (4). إذاً، لا بدّ من إيقاظ سؤال عن "البدايات"، بدايات العنونة، من حيث إنَّ البدايّة قرينة الطزاجة، والاكتشاف والدهشة: "المبدئ: هو الذي أنشأ الأشياء واخترعها ابتداءً من غير سابق مثال. والبدءُ: فعلُ الشيء أوّل (...) والبديئة والبداءة والبداهة: أوّل ما يفجؤك، (...) والبديء: العجب.." (5)، فإذا كانت "البداية" وفق المعرفة المعجميّة تمثّل التمفصل بين العدم والوجود، بين التحجُّب والظهور، بين الصلابة والتّصدع فيما يخصُّ الحدث البدء. فماذا بشأن بدايات العنونة في سياق انبجاسها ضمن الممارسات السيميائيّة الدّالة للكائن مع العالم وفيه؟. ولكن، وبحركة ارتداديّة لشبقيّة السؤال، أليس من بذخ العبث استقصاء البحث عن تحديد "البداية"، بما أنَّ "العنونة" حدثٌ ثقافيٌ ـ تواصلي يقع في اللغة وباللغة. ومن هنا فتاريخ العنونة ـ تواصليٌّ يقع في اللغة وباللغة. ومن هنا فتاريخ العنونة ـ بالتنائي عن وثوقيّة التأكيد ـ من تاريخ اللغة، إذ يتموضع فعل "العنونة" بما هو حدثٌ سيميائيٌّ يمنح النّصّ هويّته واختلافه ـ في إطار استراتيجية (6) التسمية التي تتوسَّل بها اللغة في إحداث صورة للعالم. ولذلك فإنّ رصد برتوكول العلاقات بين اللغة والعالم، وكيفية اشتغالها به عبر تجزيئه وتحديده في صنّفات دلاليّة من خلال حدث "التسمية" يقودنا نحو الاقتراب أكثر من كُنه آليّة العنونة وفعلها الدلالي والتداولي في الكتابة عموماً والأدبية خصوصاً. وبناءً على ذلك، لا ينفكُّ السؤال يمارس غواياته: كيف يستضيف العالمُ اللغةَ، واللغةُ العالمَ، وبالتالي كيف تنزلق اللغة ـ مدفوعة برغبة الكائن ـ إلى ارتكاب حدث التسمية ـ العنونة؟.
يتحدّث رومان ياكبسون R.jakobson في مقاربته الشّهيرة لوظائف اللغة (7) عن ستِّ وظائف تؤدِّيها اللغةُ، وهي تنبعُ من عناصرَ ستةٍ يشتملها "الحدث اللغوي"، هذه الوظائف الست تبرزُ "الوظيفة المرجعية" أو الإحالية referential function التي تُحيلنا إلى العالم. ومن خلال هذه الوظيفة الخطيرة لا تكفُّ اللغة في سيرورتها وصيرورتها عن التغلغل في جسد العالم مشتبكةً مع أشيائه وكائناته في علاقةِ عشقٍ منذُ الأزل، لتمارس لذة التسمية، وهدفُها في ذلك إخراج العالم من حالِ الهيولى والعماء إلى حال الشَّكل والتَّمايز، ومن الغياب إلى الحضور، ومن المجهول إلى حافات المعلوم.
إنَّ خطورة اللغة تنبثقُ من هذه الوظيفة ذاتها، أي حين تُسمِّي أو تُعَنْوِنُ كائنات العالم بعلامة أو برمزٍ لغويٍّ، فمن خلال استراتيجية التسمية بعيدة المدى أبداً، أصبح "العالم" في متناول اللغة. ومن هنا ينبغي أن نؤّول قول مارتن هايدغر: "اللغة هي سَكَنُ الوجود" (8)، بمعنى أنَّ اللغة تُشِّكلُ البعد الوجودي ـ الأنطولوجي للكائن المقذوف إلى لُجّة العالم. وهكذا باللغة وفيها يغدو العالم رهين الكائن ومسيطراً عليه من قبل الأخير، فالتسمية وفق تعريفٍ أوليٍّ عامٍّ هي إمكان انبثاق العالم من عمائه وفوضاه، هي الإمكانية التي تُسلِّطُها اللغةُ على العالم لتقطيع صلابته وتحويلها إلى معرفةٍ، كما لو أنَّ غياب اللغة يوحي بغياب العالم، ولذلك يماثلُ مارتن هايدغر M.heidegger بين اللغة والعالم، بل إنّ الوجود الأنطولوجي للعالم يتوقف على وجود اللغة، يكتب: "فاللغة ليست مجرّد أداة يملكها الإنسان إلى جانب غيرها من الأدوات، وإنمّا اللغة بوجهٍ عامٍّ وقبل كل شيء، ما يضمن إمكان الوجود وسط موجودٍ ينبغي أن يكون موجوداً منكشفاً. وهناك فحسب توجد لغة، يوجد عالم" (9)، واللغة لن تكون لغة إلا حين تمارس التسمية، حين تصنعُ العالم بالكلمات بأقل كلفة اقتصادية إذا ما قورنت بالأنظمة السيميائية الأخرى: فن تشكيلي، سينمائي،... إلخ فهي "النظام الرمزي الأكثر اقتصاداً" (10)، ولذلك تتجلى فداحة التسمية من حيث "إنَّها أخطرُ حدثٍ تنجزه اللغة، فهي إشارة تكشفُ وتؤسِّس" (11). فهذه الإمكانية للغة بالتسمية: تقطيعاً وتصنيفاً وتحديداً، هي التي تمدُّ "العالم" بالقدرة على الانبثاق وحيازة الهوية والاختلاف، يقول هايدغر: "عندما تُسمِّي اللغة الموجود لأول مرة، فإنَّ تسميةً من هذا النَّوع تحملُ الموجود إلى القول والظهور. هذه التسمية تُسمِّي الموجود من أجل وجوده من هذا الموجود. هذا النوع من القول هو تصميم النور، الذي يُعلن فيه أيُّ شكلٍ يصلُ به الموجودُ إلى المنفتح" (12).
لكن هذا "الظهور" للعالم مشروط بفعالية الكائن في العالم، وهذه الفعالية تستمدُّ نسغها من السّياق الثقافي الذي يُحاصر الكائن ويحدِّد طبيعة ممارساته السيميائية في قلب العالم، أي أنَّ اللغة التي تتكلم في الكائن لا تقوم بعملية تقطيع العالم في فئات وأصناف دلالية وحقول متمايزة إلا بالاستناد إلى خبرة الكائن، وبذلك يمكننا الحديثُ عن "اختلاق" Invetion العالم بدلاً من ارتسامه في اللغة، فهي في نقلها للواقع غير الألسني لا تعكسُهُ، بقدر ما تمارس التلفيق والاختلاق عليه، فالعالم الذي تهيئه اللغة وتختلقُهُ ما هو إلا نتاج خبرة الكائن بالعالم وقد أضحت ملكاً لإمبريالية التسمية، وهي تهتمّ بتحديده وتقطيعه.
ولذلك، فهذه الفاعلية اللغوية ـ التسمية ـ "هي خاصيّة إنسانية تُعَبِّرُ عن تلك العملية العامة القائمة لدى الكائنات العليا، وهي عملية تنظيم المعطيات الحسية الواردة من المحيط الطبيعي في فئاتٍ وأصناف" (13). وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تتمُّ التسمية كحدثٍ وفعل ينقذُ الكائن من رعب الفراغ المحدق به؟. الحدث الذي ينتشلُ العالم من كابوس الصمت والعماء إلى فضاء الظهور والهوية والاختلاف، أي يجعل "العالم" رهين التحديد والتعيين والكينونة. أو بكلمة أدق "صوغ العالم في كلمات"، فكيف تتم التسمية؟.
إنَّ كلَّ لغةٍ في تشكيلها للعالم إنما تتوسَّلُ باستراتيجية مغايرة في عملية التسمية، فما دامت اللغات تتباين في أنظمتها النحوية والصوتية والدلالية، فإنّ العالم المتشكِّل يتبعُ هذه الأنظمة في التشكل والصوغ. فاللغة ـ وهي تستمتع بلذةِ انتهاكها لحرمة العالم ـ تسلِّطُ استراتيجية التسمية على "المعطيات الحسّية"، فتتمفصلُ إلى حقولٍ دلاليةٍ متمايزة: موجودات، أحداث، مجردات، علاقات، ثُمَّ تنخرط في عملية تخصيص هذه الوقائع غير اللسانية بفئة نحوية خاصة، فيكون المجال مهيّئاً للانتقال من البنية العميقة deep structure (النحو) إلى البنية السّطحية Surface structure (الصوت)، وبذلك تحتازُ الوقائع في إطار كلِّ فئة نحوية على العلامة اللغوية في عملية الاختلاق اللغوي للعالم. وهكذا تنهض: "الموجودات مع تعبيرها اللغويّ أي الاسم، والأحداث المعبر عنها بواسطة الفعل، وأخيراً كيفيات الوجود والحدوث المعبّر عنها في اللغة تباعاً بواسطة الصفة والحال" (14).
وهكذا ليس المقصود باستراتيجية التسمية ما هو متداول من حيثُ اقتصارها على الأسماء فحسب، بقدر ما تعني صناعة العالم بالعلامات اللسانية، أي الحدث الخطير الذي بموجبه يبرز العالم أمامنا مختلقاً، يكتب جيرمي بنتام Jeremy Bentham "إنَّ الفضل في وجود الكيانات المختلقة يعودُ إلى اللغة، وإلى اللغة وحدها، ذلك الوجود المستحيل والضروري مع ذلك" (15). ولكن من جهة أخرى، ومع تأكيد خطورة التسمية، من أين تتأتى هذه الخطورة؟. بمعنى هل تتمُّ التسمية بمنأى عن الأنظمة الثقافية؟. إنّ اختلاف طرائق اللّغات في تشكيل العالم وصياغته، يعكسُ الهيمنة التي تمارسُها الأنظمة الثقافية في تلفيق صورة العالم ورسمها، فالأخيرة ليست طارئة ومتعالية على النظم الثقافية التي تحيطُ بالكيانات الاجتماعية وتعتصرها، فالتَّسمية لا تخرج عن دكتاتورية النظام الثقافي المحدّد، يقول بورديو P.bourdieu بهذا الصدد: "فاللغة تسمِّي العالم بحسب العلاقات والبنى الاجتماعية وتعطيه البعد الكينوني الذي تتضمنه قدرات اللغة
الترميزية" (16). وهذا ما يمنح اللغة في فعالية التَّسمية الطابع السيميولوجي المتأتّي من اعتباطية العلامة اللغوية في علاقتها بالعالم، فلمَّا كانت العلاقة بين العلامة والمرجع تتسم بالطابع التعسفي ـ الاعتباطي ـ فإنّ ذلك يمنح السياق الثقافي شرعية التدخل في إضفاء "القيمة" على العلامة اللغوية، ومن هنا "لم تكن اللغة لتستمدَّ طاقتها الرمزية إلا من اعتباطية العلامة، فالاسم لا يحيلُ على الشيء مجرد إحالة، لا يشير إليه ليعيّنه فحسب، وإنمّا يفكِّكه ويعيدُ صوغه، ويضفي عليه، عبر المجازات صوراً هي ليست له" (17)، وهذا ما يُقْصَدُ به اختلاق العالم باللغة.
إنّ هذه الدينامية الكبرى التي تمارسُها اللغةُ مع العالم ـ استراتيجية التسمية ـ تمثّلُ الآلية التي انطلق بها الكائن يُسمِّي الأشياء والوقائع بالعلامات اللغوية ـ منذ تبلور اللغة ـ حتى يكون لأشياء العالم ومكوناته هوياتها واختلافاتها، أي تسمياتها اللُّغوية التي تميزها من بعضها الآخر. فإذا أدركنا أنَّ فعل "العنونة" يُنجزُ وجوده الأنطولوجي في حدث "التَّسمية"، فيمكننا تأويل عملية التسمية بـ "العنونة غير المباشرة" في مواجهة "العنونة المباشرة" التي تجدُ في فسحة الكتابة مجالاً لممارسة ألعابها وغواياتها. وهكذا فالعنونة غير المباشرة تتخذُ تاريخها من تاريخ اللغة في عنونة العالم أو تسميته، وبهذا الصدد يكتب محمد عويس رائد دراسات العنونة في الأدب العربي عن هذا الطور من العنونة: "نقصدُ بالعنوان المباشر ما اتخذه الإنسان للأشياء وللأفعال من أسماء كانت عنوانات دالة عليها، لكن هذه الأسماء لم تكن عنوانات مباشرة لأنها لم تتخذ شكلاً ثابتاً يمكن أن يكون أساساً للعنونة له خصائص مطّردة. لذا فإنَّ الإنسان في هذه الحالة يجتهد في وضعِ إشارات دالّة على الأشياء والأفعال يهتدي بها في نظام حياته الاجتماعية والمعرفية" (18).
وهكذا سواء أكان العالمُ بصورته المتداولة والشائعة أم عالم الكتابة: حيث التّشتُّت، وعدم إمكانية الحسم لدلالة (الدَّال)، فهذا العالم لا يحدث "إلاّ في منفتح القول والتسمية" (19)، وبذلك فتاريخ العنونة ينبجسُ من تاريخ الكلمة، وبالتالي فإنَّ العتبة التي انطلقنا منها: في البدء كانت اللغة، لا تعني سوى: في البدءِ كانت التسمية ـ العنونة، بل إنَّ "لا شيء" يجرؤ على الانكشاف ما دامت اللغة شاردة عن التسمية. إنَّها عنوان الكائن والعالم.
2 ـ اللُّغة ـ الكتابة واستراتيجية العنونة:
شكّلت "اللغة ـ الصوت" الفضاء الملائم للعنونة غير المباشرة أو "العَنْونة الصوتية" حتى تمارس كينونتها وألاعيبها. غير أنَّ "اللغة" لا تنفك تطارد الصيرورة التاريخية للكائن، بحثاً عن "تكنولوجيا" بديلة للصوت، هذا الشيء الهش، قرين التلاشي والزوال، فيما يحاول تخثير المعنى وتخزينه إزاء سطوة الزمن. وفي مواجهة هذه الفداحة التي أصيب بها "المعنى" كان لا بد للكائن من إيجاد أو ابتكار وسيلة تنقله من "ثقافة الأذن"(20)، وما يترتب عليها من قرب ومباشرة واتصال ونقل وحفظ وذاكرة إلى "ثقافة العين" وما يرتبط بها من وقائع البعد والابتعاد والانفصال والبصيرة والمنظور المختلف والقراءة.
إلى ذلك، وفي غفلة مريعة من تسلط "الصوت" نجح الكائن في التأسيس لـ "اللغة ـ الكتابة" عبر صيرورة مرحلية من تحولات "النقش" (21)، بدءاً من "الدور الصوري الذاتي" متمثلاً بصور الأشياء وانتهاء بـ "الدور الهجائي" بوصفه الدور الأكثر تطوراً، مروراً بدوري "الصورة الرمزية" حيث التعبير عن الدلالات المجردة بالصورة المحسوسة كما هي الحال في الكتابة الهيروغليفية والدور المقطعي "الذي تدل فيه الصورة على مقطع من مقاطع الكلمة بدلاً من دلالتها على الكلمة بكاملها، كأن تدل صورة العدو على حرف العين والسفينة على السين" (22). وهكذا كان ظهور الكتابة بمنزلة الحسم بمكان في تاريخ الكائن. يكتب والتر.ج. أونج Walter j.ong بهذا الصدد: "أما الاكتشاف الحاسم الفريد الذي قادنا إلى عوالم جديدة من المعرفة فقد تم داخل الوعي الإنساني لا عندما نشأت العلامة السيميوطيقية، بل عندما اخترع نظام شفري من العلامات البصرية التي يستطيع الكاتب بوساطتها أن يقرر الكلمات الدقيقة التي سوف يولدها القارئ من النص وهذا هو ما نعنيه عادة اليوم بالكتابة في معناها الدقيق" (23)، وهكذا، وإن كان الانتقال من الصوت إلى الحرف له فداحته زمنياً، فقد تم احتضان اللغة ـ "الصوت" في "اللغة ـ الكتابة" عبر تجميد الصوت وتخثيره، وبذلك مثلّت "اللغة ـ الكتابة" الهرطقة التي أعلنها الكائن على كارثة النسيان، كابحاً هجومها المستمر على الذاكرة المعتاشة على إفرازات الصوت، لا سيما أنّ اسم الجنس "إنسان" ينطوي على معنى النسيان على الصعيد الاشتقاقي: "إنّما سمِّي الإنسان إنساناً لأنّه عهد إليه فنسي [و] كان الإنسان في الأصل إنسيان فهو إفعلان من النسيان" (24). وبناءً على ذلك، فـ "جوهر الإنسان هو النسيان المنتقش في اسمه" (25)، وقد كان لهذا الانتهاك الفذ في خاصرة الزمن، باغتيال الفراغ واحتياز اللغة على المكان أو "فضائية الكتابة"، أثره العارم في طبيعة الوعي بذاته، والوعي بالعالم: "فمن دون الكتابة لا يستطيع العقل الكتابي أن يفكِّر على النحو الذي يفعله ليس فقط عندما يمارس الكتابة بل حتى إنشاءه أفكاره في شكل شفاهي. لقد غيّرت الكتابة شكل الوعي الإنساني أكثر من أيِّ اختراع آخر" (26).
هذا الفخ الذي ابتكره الكائن لـ "اللغة ـ الصوت" مهد لتاريخ اللغة أن يهندس تمفصلاً حاداً بين الثقافة الشفاهية والثقافية الكتابية، وقد تمظهر ذلك بإزاحة القراءة السماعية لحساب القراءة البصرية، الأمر الذي دشن ـ في الحقب اللاحقة ـ وفي مجال القراءة ديمقراطية التأويل Intepretation حيث التعدد والاختلاف في مواجهة استبداد التأويل الأحادي المتحدر إلى الفكر من هيمنة "اللغة ـ الصوت"، فالدال الصوتي لا يسمح للمتلقي بالتأمل في حركته ونشاطه، لكونه غير قابل للتكرار على عكس الكتابة التي تكرس غياب المتكلم أو المنتج وقابلية الدال الكتابي على التكرار ـ أي على إعادة القراءة ـ والتوالد الدلالي، فعلى النقيض من "الصوت" الذي سيطر على نحو مطلق على إنتاج اللغة: "فقد اتسمت الكتابة (فلسفياً) بالاستبدالية والانحراف والإرجاء إرجاء الحضور عموماً: حضور المتكلم، والمعنى والمخاطب: حضور الموقف اللغوي الصوتي" (27). إنَّ الدال الكتابي لا يعرف الحضور، والاستقرار، ولا ينفك ينزلق من حافة مدلول إلى آخر، لكونه لا يعشق سوى دهاليز الغياب، ويمتطي الإرجاء مشتغلاً في فضاء التشتيت والتناص. هذه هي الكتابة التي قلبت موازين المعرفة الإنسانية، بيد أنها وصمت بصفات مهينة، ونظر إليها بعين الريبة (28)، خلال رحلتها في اقتناص العالم وتحويله إلى معرفة رمزية، بدلاً من تشتيت "العالم" على صفحة الهواء دون أثر: "إن الكتابة هي مادية وديمومة العلامة المنحوتة القارة، وليست تلاشي أمواج الهواء" (29).
وإذا كانت الكتابة تمثل هذا التحدي الأكبر الذي اتخذه الكائن، حتى أضحت الحد الذي تتمفصل عنده المعرفة البشرية: ما قبل الكتابة وما بعدها، إذا كان الأمر كذلك، فمن الضرورة بمكان نقش التساؤل الآتي: ما أثر الكتابة عندئذٍ على كينونة العنوان؟ وبتعبير آخر ما علاقة العنونة بالكتابة على مستوى الهوية؟.
إن "العنونة" لم تبرز بشكلها المادي ـ لتحوز على وجودها الأنطولوجي القار هوية واختلافاً ـ إلا مع الكتابة: حيث إن "أي مادة مدونة تحتاج إلى عنونتها بشكل ما، هذا لا يعني أن كل ما دون له عنوان" (30). فالكتابة ـ أصلاً ـ هي نقش، علامة وأثر (=عنوان) على الشيء الغائب، بما يؤديه هذا النقش من وظائف الإحالة المرجعية من تحديد وتسمية وتعيين وإعلان. وهكذا تفترض الكتابة خاصية "الغياب" في مقابل خاصية "الحضور" الذي يميز "الصوت" فإذا كانت "التسمية" هي الاستراتيجية الفعالة جراء تماس اللغة بالعالم، فإنها على صعيد "اللغة ـ الصوت" ولاحقاً "النص ـ الصوت"، تمتاز بحضورها الآني ـ حضور المتكلم والمخاطب والمعنى ـ إذ يغدو هذا الحضور بمنزلة العنونة أو العلامة على الحدث اللغوي، لكنها تختفي باختفاء مسوغات الحضور، ومن هنا يمكننا أن نفسر فقدان المساحة الهائلة من التراث الشفاهي على الرغم من وجود الذاكرة الجماعية المستمرة في عملها. وفي مواجهة هذا الفقدان المريع، كان لا بد للكتابة أن تمسك بزمام المبادرة، وتقلب الأدوار وتمنح التسمية أو العنونة كينونتها التي تستحقها في التدليل على الكائن الذي تمثله. إن الكتابة قرينة الغياب "غياب المتكلم" والانفصام والانقطاع حتى الموت عند المصدر، فلا بد ـ والحال هذه ـ من أثر، جرح دال على هذا الانقطاع ـ الصلة الزمكانية ـ فكانت العنونة بما تشتمل عليه من اسمي النص ومنتجه، لتكون ذلك التعويض العلامي أو السيميوطيقي للحضور الذي كان واختفى فجأة لحظة إنتاج النص (الحديث الكلامي).
وهكذا، فإن كانت التسمية في "اللغة ـ الصوت" رهينة "الحضور الميتافيزيقي" (31)، آنية، لا تدرك الديمومة والاستمرار، كما لو أنها لم تحدث بتاتاً، فالأمر يحاذي مجرى مختلفاً في "اللغة ـ الكتابة"، إذ إن العنوان إعلان عن أن حدثاً "ما" قد وقع ويقع في مجرى الزمن مستمراً من خلال الدال الكتابي، ولذلك تغدو اللغة في عالم الكتابة: "ليست هي فقط إمكانية الصوت واحتمال وقوعه، بل هي وحدها أصل اللغة وشرط دلالتها" (32)، كما يرى جاك دريدا. إن الكتابة على هذا النحو هي إمكانية الصوت بالقوة، وانتزاع الصوت الغارق في استبدادية الحضور من الموت. أليست القراءة وإعادة القراءة عودة مستمرة للصوت؟. فمن خلال الكتابة تعود التسمية الصوتية إلى وظيفتها في التحديد والتعيين، وإنما في هيئة علامة محسوسة، وهنا تكمن خطورة الكتابة، ليس لكونها الخزان الذي يحتفظ بالمفاهيم والتصورات فحسب، وإنما ـ أيضاً ـ تضع الخطاب أمام المساءلة والنقد في غياب منتج الخطاب.
3 ـ العنونة واستراتيجية الفراغ المرئي:
وإذا انتقلنا بالقراءة ـ على سبيل الاستئناس بغية القبض على تأريخ للعنونة ـ إلى فضاء العلاقة الكائنة بين النص والعنونة في إطار "اللغة ـ الكتابة" على صعيد تسمية الكتاب وتحديده، فيبدو ـ تبعاً لإلكسندر ستيبتشفيتش (33) Aleksandar Stip?evi? ـ أن العنونة تطل علينا منذ عصور موغلة في القدم تعلن عن النصوص في رقيمات "نيبور" و"إيبلا" ووريقات البردي المصري، بوصفها أشكالاً بدائية للكتابة مروراً بالكتاب ـ الكراس، ثم الكتاب المخطوط وصولاً إلى الكتاب المطبوع حيث باتت العنونة تحوز ملكية خاصة بها متمثلة بصفحة الغلاف (34)، وهذا ما نروم التمركز عنده، وذلك بقصد الإمساك بالتأثيرات التي أحدثتها الطباعة ومارستها، وتمارسها راهناً على الكتابة عموماً والعنونة خصوصاً، عبر خاصيات التبئير والتحكم والرسوخ، أي الكينونة الجديدة التي اكتسبتها "الكلمة". وفي هذا السياق لا بد لعلم الاستشكال أن يزعزع ألفة البداهة في صورة سؤال: إذا كانت الطباعة شكلاً آخر للكتابة أو تحولاً آخر لها، فكيف تتجسد "الكلمة" طباعياً؟
إن ظهور "الكتابة" في السياق التاريخي للكائن، يعني بكل بساطة الانتقال بـ "الكلمة" من الفضاء المتهالك للصوت إلى "الفضاء المرئي" متمثلاً بـ (الرقيم، البردي، الرق، الورق...) وقد شكل ذلك المحاولة الأولى لتحطيم هيمنة "السمع" وإحلال "البصر"، وبالتالي التمهيد اللوحيستي لانبجاس "الفراغ المرئي"، غير أن قيادة الكتابة للغة بكل ما تمتلكه الكتابة من قوة سحرية لم تحسم الأمر على نحو قاطع، فكان لا بد من مغامرة أخرى لإعادة بناء الوعي الكتابي ذاته، وإعادة النظر في المشاحنة المتبقية بين "الصوت" و"الكتابة"، ولذلك سعى الكائن حثيثاً إلى تصفية الحساب مع عنجهية "الصوت" ـ ولكن هذه المرة ـ من خلال "الطباعة" ولم تكن الأخيرة سوى "كتابة"، ولكن عبر تقاطع وتآمر فعلي الرسوخ والهندسة، وهما الاستراتيجيتان اللتان تعتمدهما "الكتابة ـ الطباعة" في ممارسة اللغة في الفراغ المرئي، والتحكم به، إذ إن بزوغ الطباعة أحدث نقلة نوعية عبر الاشتغال على "الحيز الفراغي" واللعب به والتحكم في أبعاد المكتوب، حتى يكون بؤرة للاهتمام ومستقطباً للرؤية، وتقويضاً لحضور الصوت والمعنى، ذلك أن الطباعة: "في نهاية المطاف أَجْلَتْ غلبة البصر التي ظهرت بداياتها مع الكتابة، وإن لم تزدهر بمساعدة الكتابة وحدها محل غلبة السمع التي تشبثت بالوجود في عالم الفكر والتعبير. فالطباعة تحل الكلمات في الفراغ، بصورة أكثر صرامة مما فعلته الكتابة في تاريخها كله. فعلى حين تحرك الكتابة الكلمات من عالم الصوت إلى عالم الفراغ المرئي، تحبس الطباعة الكلمات في موضعها داخل هذا الفراغ والتحكم في الموضع هو كل شيء في الطباعة" (35). وهكذا تم الإعلان عن هزيمة "الصوت" في عملية التواصل، بتبييء اللغة في فضاء بصري، أي الولادة المكانية "للكلمة" على نحو أكثر صرامة وهندسة.
ومن هذه الخاصية تنهض دلالة الرسوخ: ترسيخ العلامة وتوطيدها مكانياً، وتحول الفراغ المرئي من مكان مليء بالمجهول إلى مكان مألوف وراسخ بصرياً، يكتب والتر. ج. أونج: "كانت الكتابة قد أعادت تشكيل الكلمة، شفاهية الأصل فوضعتها في الفراغ المرئي، أما الطباعة فقد رسخت الكلمة في هذا الفراغ على نحو أكثر حسماً" (36). إن عدم الحسم في علاقة "الكتابة ـ اليد" بالصوت، يرجع بالدرجة الأولى إلى أن ممارسة الكتابة يدوياً تتيح للصوت أن يستعيد تمركزه، حضوره Phonocentrism، ذلك أن الذي يكتب، يتكلم، غير أن الاختلاف يمارس سلطته مع "الطباعة"، حيث "الآلة ـ الموت" هي التي تكتب وتحفر، ليلفظ الصوت أو الكلام أنفاسه الأخيرة ـ هذه المرة ـ دون رحمة بفعل هسيس "الموت ـ الآلة"، وبالتالي لِيُستبدلَ التمركز الصوتي بصمت مكاني، ولا غرو ـ والحال هذه ـ أن يبدو الإنتاج الطباعي غريباً عن المنتج (الكاتب)، ذلك أن علاقة الكاتب بنصه في فضاء "الكتابة ـ اليد"، تتخللها رطوبة الصوت، فثمة ألفة وأنس بفعل صلة الأبوة بينهما، لتحل الغربة في فضاء "الكتابة ـ الطباعة"، وتنقطع أواصر القرابة مع الواقع الجديد: إزاحة المؤلف عن المؤلف، الأمر الذي كان من شأنه توقيع برتوكولٍ بين القارئ والكتاب، لتنبجس القراءة الصامتة (37) في الانعطافة الجديدة من صيرورات "الكلمة" في علاقتها بآليات الصوت والكتابة والطباعة.
إذا كانت الكتابة قد دشنت موت الصوت، وتخثرت "الكلمة المنطوقة" في الفراغ المرئي بفعل ذلك، فإن الطباعة ومن خلال قوتي الرسوخ والهندسة مارست حسماً في تثبيت "الكلمة" وتبئيرها من جهةٍ، وانتظاماً لها من خلال الفعل الهندسي من جهة أخرى، لتبدو "الكلمة" "شيئاً" عبر التلاعب بالأبعاد الفضائية للفراغ الذي بات يحتضن "الكلمة ـ الشيء"، حيث الطباعة تمارس "استخداماً أكثر حذقاً للفراغ، وذلك لصالح البنية المرئية ومن أجل الاستعادة الفعالة للمادة" (38). وفي هذا السياق، فإن ما يصيب "الكلمة" من تأثيرات مختلفة على صعيد الطباعة يصيب "العنونة" وبامتياز، إذ أن الموقع الاستراتيجي لتجليات العنونة في خطوط التماس بين العالم والنص تقتنص من الطباعة الدرجة القصوى من الاهتمام والعناية.
إن تعانق الكتابة والطباعة في الفراغ المرئي قد ولد ما يسمى "الشكل والخطاب"، الأمر الذي أدرج "البعد البصري" في عملية تلقي النص وإنتاجه بوصفه بعداً له حضوره في توليد الدلالة النصية. وإذاً فمن الطبيعي أن تستأثر العنونة ـ بما هي واجهة النص وبوابته المشرعة على العالم ـ بالاشتغال الفضائي، عبر معالجة خطاب (39) العنونة بصرياً (40) من حيث طبيعته اللسانية والغرافولوجية (الخطية) والغرافيستيكية (سيميوطيقيا الخط). كما أن استئثار العنونة بصفحة مستقلة في عصر الطباعة منح العنوان سلطة الكينونة ليمارس وظائفه السيميوطيقية والإحالية والإشهارية وذلك بإنتاجه لمجال دلالي محدد بوصفه نصاً مستقلاً وموازياً للنص، وكذلك الإحالة عليه لكونه علامة دالة، وإشهاراً (إعلاناً) للقارئ بقصد إغوائه حتى ينخرط في متعة القراءة ولذّتها. وبهذا الانتقال إلى واجهة الكتاب بعد معركة مريرة من التردد الموقعي بين بداية الكتاب ونهايته، أضحى العنوان حارساً للنص أو العتبة التي يجري على حافتها التفاوض إيذاناً بالدخول إلى ردهات النص ودهاليزه أو النكوص من هناك. وكون العنوان العتبة الأولى للنص ـ البيت، فهو صلة الوصل بين الدّاخل (النص) والخارج (القارئ)، يقود النص إلى القارئ، والقارئ إلى النص في لحظة احتفالية من التفاعل والتداخل وانصهارهما في أفق واحد، فالعتبة "واقعة خارج المدخل، لكنها لا يمكن أن تكون كذلك إلا لأنها تحمل شيئاً من المدخل وما سوف يدخل إليه" (41). وفي هذه الخاصية تكمن خطورة العتبات النصية، وفي مقدمتها العناوين، على صعيدي المنتج والمتلقي بناء وتلقياً.
IIIـ الخاتمة:
ويمكن للقراءة في الختام تحديد هوية. "العنونة"، في خاتمة هذا الحراك التحليلي في جغرافيا الشفاهة والكتابة والطباعة، يمكنها أن تحدد "العنونة" بوصفها الآلية التي من خلالها يكتسب "الخطاب" هويته وكينونته، تمايزه واختلافه، ونقصد بذلك إنتاجها للعنوان: بوصفه تلك العلامة (أو العلامات) السيميوطيقية التي تطل على النص، وتهبه مشروعية الوجود، والحضور في العالم. ومن خلال موقعه في واجهة النص، يؤدي العنوان مجموعة وظائف تخص أنطولوجية النص، ومحتواه، وتداوليته في إطار سوسيو ـ ثقافي خاصاً بالمكتوب. وبناء على ذلك، فالعنوان من حيث هو تسمية للنص وتعريف به وكشف له، يغدو علامة سيميائية، تمارس التدليل، وتتموقع على الحد الفاصل بين النص والعالم، لتصبح نقطة التقاطع الاستراتيجية التي يعبر منها النص إلى العالم، والعالم إلى النص، لتنتفي الحدود الفاصلة بينهما، ويجتاح كل منهما الآخر.
هوامش القراءة:
(1) ـ يُنظر بخصوص تحديد الإشكالية وتعريفها محمد عناني: المصطلحات الأدبية الحديثة ـ بيروت ـ القاهرة: مكتبة لبنان ناشرون ـ الشركة المصرية العالمية للنشر ـ لونجمان، ط1، 1996. يعرّف المؤلف الإشكالية بالقول: "إنّ الإشكالية هي مجموعة من الأفكار التي قد تختلف فيما بينها ولكنها تشكّل وحدة فكرية أو نظرية تتيح للباحث أن يتناولها باعتبارها قضية مستقلة "ص79).
(2) ـ ينظر بخصوص هذه القضية إبراهيم محمود: مساءلة البداهة، مجلة المعرفة، ع (472)، دمشق، 2003. الكاتب يُساءل "البداهة" وفق رؤية أنثروبولوجية، لا تكف عن الحضور والغياب يقول: "فالبداهة غير ثابتة إنما هي مضللة، بقدر ما تظهر مرشدة، وصريحة كذلك في الوقت الذي تمكر بالأخذ بها، وجلية، وهي لا تكف عن التواري والتنكر (..) فالبداهة في هذه الحالة لا تكلُّ عن الحضور والغياب المتناوبين" ص214.
(3) ـ يمثل الفيلسوف الفرنسي جاك دريداJacques Derrida أحد أهم الباحثين في الاشتغال على هذه المقولات وتفكيكها في الفكر الغربي.
(4) ـ مطاع الصفدي: الفكر بما يرجع إليه وحده (سؤال العتبات)، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع (102، 103)، بيروت، 1988، ص 10.
(5) ـ ابن منظور: لسان العرب، مادة "بدا".
(6) ـ ينظر بخصوص هذا المفهوم فولجانج هاينه منه ـ ديتر فيهفيجر: مدخل إلى علم اللغة النصي، ترجمة: فالح بن شبيب العجمي، الرياض: جامعة الملك سعود ـ النشر العلمي والمطابع، د. ط، 1999. يعرف الكتاب مفهوم الاستراتيجية بالقول: كل محاولة للوصول إلى الأهداف بواسطة تصرف لغوي تعد من حيث المبدأ استراتيجية (..) لذا نعرف الاستراتيجية بوصفها محصلة لسلسة من عمليات الاختيار واتخاذ القرار في العادة عي وعي ص 314. والتعريف، هنا، يتوفر على المعنى الذي تستخدمه الدراسة للاستراتيجية بوصفها جملة الطرائق بعيدة المدى التي يتبعها الكائن للسيطرة على العالم، والتسمية إحدى أخطر هذه الطرائق التي تجترحها اللغة في جعل العالم مألوفاً ومعاشاً عن طريقة تسميته وتوزيعه وتصنيفه باللغة وفي اللغة لإنجاز أهداف معرفية واتصالية.. إلخ.
(7) ـ رومان ياكبسون: قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الولي ـ مبارك حنون، الدّار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 1988، ص 27، 28.
(8) ـ نقلاً عن محمود سيد أحمد: الهيرومينيوطيقا عند جادامر، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، د. ط، 1993، ص 32.
(9) ـ مارتن هايدغر: اللغة أخطر النعم ضمن كتاب اللغة (نصوص مختارة)، إعداد وترجمة: محمد سبيلا ـ عبد السلام بنعبد العالي، سلسلة دفاتر فلسفية، الدار البيضاء: دار توبقال، ط1994، 1، ص16.
(10) ـ إ. بنفينست: ما اللغة ضمن كتاب اللغة (نصوص مختارة)، المرجع السابق، ص 35.
(11) ـ محمد لطفي اليوسفي: فتنة المتخيل ج (2)، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2002، ص 32.
(12) ـ مارتن هايدغر: أصل العمل الفني، أبو العيد دودو، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2001، ص 97.
(13) ـ محي الدين محسب: اللغة والفكر والعالم، بيروت ـ القاهرة: مكتبة لبنان ناشرون ـ الشركة المصرية العالمية ـ لونجمان، ط1، 1998، ص 54.
(14) ـ رومان ياكبسون: قضايا الشعرية، مرجع مذكور، ص 64.
(15) ـ نقلاً عن رومان ياكبسون: المرجع نفسه، ص 65.
(16) ـ نقلاً عن مطاع صفدي: استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، بيروت: منشورات مركز الإنماء القومي، ط1، 1986، ص 192.
(17) ـ محمد أحمد الخضراوي: سيميائية التسمية (قراءة في الأبعاد الاجتماعية والرمزية للأسماء والأشياء)، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع (104، 105)، بيروت، 1998، ص 72.
(18) ـ محمد عويس: العنوان في الأدب العربي (النشأة والتطور)، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1988، ص 45.
(19) ـ مارتن هايدغر: أصل العمل الفني، مرجع مذكور، ص 98.
(20) ـ اهتمت الفلسفة التفكيكية بهذه القضية على نحو عميق، بخصوص ذلك يُنظر: عبد السلام بنعبد العالي: ثقافة الأذن وثقافة العين، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 1994، ص867.
(21) ـ استفدنا في هذا التكثيف فيما يتعلق برحلة العلامة اللغوية من محمد ربيع الغامدي: رحلة العلامة من النطق إلى الكتابة، مجلة علامات، مج (10)، ع (40) جدة، 2001، ص 256، 257.
(22) ـ محمد ربيع الغامدي: رحلة العلامة من النطق إلى الكتابة، المرجع السابق، ص 256.
(23) ـ والتر.ج. أونج: الشفاهية والكتابية، ترجمة: حسن البنا عزالدين، مراجعة: محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، ع (182)، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1994، ص167.
(24) ـ ابن منظور: لسان العر، مادة "أنس".
(25) ـ عبد الفتاح كيليطو: لسان آدم، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط2، 2001، ص 49.
(26) ـ والتر.ج. أونج: الشّفاهية والكتابة، ص 157.
(27) ـ ميجان الرويلي: قضايا نقدية ما بعد بنيوية، الرياض: النادي الأدبي، ط1، 1996، ص56.
(28) ـ تشكل موضوعة الكتابة في الفكر الغربي مشروع الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، ويعدُّ كتابه الفذ علم الكتابة Garmmatolog of تقصياً دقيقاً لتاريخ الكتابة وعلاقتها بالصوت وكيف منح هذا الفكر، ولا يختلف في ذلك الفكر العربي، الإسلامي ـ الأفضليّة للصوت على الكتابة، نظراً لأن "الصوت ـ اللغة" يفترض حضور المتكلم والمخاطب، والمعنى الواضح في مقابل الغياب الذي تكرّسه الكتابة على هذا الصعيد، مع أنّ دريدا يمفصل بين نوعين من الكتابة بالمعنى التقليدي كما تناولناه، والكتابة البدء أو الأصل Arche –Writing وهي قرين النظام الذي تشتغل بموجبه اللغة، أي قانون الاختلاف الذي يمنح اللغة طاقة العمل. وبالتالي يرى أن الصوت والكتابة ليسا إلا عنصرين خارجين على اللغة ذاتها، وتكمن وظيفتها في تجسيد قانون الاختلاف اللغوي وتشخيصه. لكن هذه الحقيقة تبدو غائبة عن الفكر الغربي بدءاً بأفلاطون وانتهاءً بهوسول مروراً بروسو وسوسير.. إلخ الذين حطّوا من قيمة الكتابة لحساب الصوت، لكن المفارقة تكمن في أن الكتابة هي التي أبقت أفكارهم حية في الفكر الإنساني، ينظر بخصوص ذلك: ميجان الرويلي قضايا نقدية ما بعد بنيوية، الباب الثاني، ص 71، 121.
(29) ـ المرجع نفسه، ص 61.
(30) ـ محمد عويس: العنوان في الأدب العربي (النشأة والتطور)، مرجع مذكور، ص 73.
(31) ـ ميجان الرويلي: قضايا نقدية ما بعد بنيوية، مرجع مذكور، ص 45.
(23) ـ المرجع نفسه، ص 45.
(33) ـ الكسندر ستيبشفيتش: تاريخ الكتاب، ج (1)، ترجمة: محمد م. الأرناؤوط، سلسلة عالم المعرفة،
ع (170)، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1999. يبحث المؤلّف قضيّة العنونة في أكثر من موقع من كتابه القيّم، فعن دور العنونة في مكتبة إيبلا (تل مرديخ) يكتب: "إن التحليل المتأني للمواد المكتشفة يكشف عن تفاصيل مثيرة وهي تكشف بدورها كيف أن العاملين في تلك المكتبة قد توصلوا إلى حل جيد للوصول بسهولة إلى الرقم المطلوب. فقد كانت كلّ الرقم مرتبة بحيث يبدو منها بداية النص، وفي رأس اللوح يكتب العنوان بشكل مختصر ولذلك يمكن قراءته بسهولة دون أن تكون هناك حاجة إلى تحريك الرقم من مكانه، وكان يمكن أيضاً بالاستناد إلى ذلك معرفة محتوى الرقم" ص19.
(34) ـ فضلاً عن المرجع السابق ثمّة كتب أخرى تبحث في تاريخ الكتاب وتناقش حيثيات العنونة، وبهذا الخصوص ينظر لوسيان فافر ـ هنري ـ جان مارتان: ظهور الكتاب، ترجمة: محمد سميح السيد، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، د. ط، 1977. يشير المؤلفان إلى أن صفحة العنوان بدأ استعمالها يعم منذ نهايات القرن الخامس عشر، ص131. أما بخصوص ولادتها، فنقرأ:" عجيب حقاً تاريخ ولادة صفحة العنوان، الذي يهدف بصورة أساسية، في عصرنا هذا إلى اطلاع القارئ على هوية الكتاب إنه تاريخ متميز، لأنه يبين لنا كيفية الظهور والانتشار التدريجي للاستعمالات الجديدة التي تجعل استشارة الكتب أسهل من السابق. فالصفحة الأولى تكون عاد أكثر عرضة من سواها للاتساخ والغبار، مما دفع بعض رجال الطباعة، تجنباً لاتساخ مطلع النص، إلى البدء بالطباعة على ظهر الورقة الأولى التي يبقى وجهها أبيض خالياً من الكتابة، ثم وجدوا أنفسهم منساقين إلى أن يطبعوا على هذه الصفحة البيضاء عنواناً مقتضباً يسمح بالتعرف على هوية الكتاب بصورة أسهل"، ص 133. ويورد الكسندر ستيبتشفيتش في كتابه المشار إليه سابقاً معلومات طريفة حول تردد موقع العنوان مع اسم المؤلف بين الجملة الأولى في النص (Incipit) والجملة الأخيرة من النص (Explicit) أو في ملاحظة مستقلة ترد في نهاية النص (Colophon) إذ تتضمن اسم المؤلف وعنوان الكتاب واسم الطابع ومكان الطبع والتاريخ ـ الدقيق لإنجاز الطبع (اليوم والشهر والسنة) ـ "ولكن مع مرور الزمن انتقلت هذه المعطيات إلى صفحة الغلاف التي أصبحت توضع في البداية لتحمي كتلة الكتاب. وفي البداية كان يرد فيها أولاً العنوان المختصر للكتاب ثم بقية المعطيات عن المؤلف ثم الشارة الطباعية (وفي وقت لاحق إشارة الناشر) مع بعض الرسوم" ص 131، 132.
(35) ـ والترج. أونج: الشفاهية والكتابية، مرجع مذكور، ص 222.
(36) ـ المرجع نفسه، ص 224، 225.
(37) ـ المرجع نفسه، ص 224.
(38) ـ المرجع نفسه، ص 226.
(39) ـ سيتأثر خطاب العنونة باهتمامات الطباعة، إذ أضحت صفحة الغلاف عالماً سيميوطيقياً من الكتابة والرسوم والزخرفة ليصبح بعداً من أبعاد النص. ينظر بهذا الصدد الكسندر ستيبتفتيش: تاريخ الكتاب، ج (2) مرجع مذكور، ص 227، 228، 229. ولوسيان فافر ـ هنري ـ جان مارتان: ظهور الكتاب، مرجع مذكور، ص 133 ـ 136.
(40) ـ ينظر بهذا الخصوص الدراسة القيّمة لـ محمد الماكري: الشكل والخطاب (مدخل لتحليل ظاهراتي)، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 1991، ص 10.
(41) ـ مطاع صفدي: الفكر بما يرجع إليه وحده (سؤال العتبات)، مرجع مذكور، ص5.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق