الحداثة لغة واصطلاحاً وسيرورة
شبكة جامعة بابل الالكترونية :
في المعنى اللغوي: يتحدد معنى الحداثة
لغةً في قولهم: حدث الشيء يحدث حدثاً وحداثة وأحدثه فهو محدث وحديث. وكذلك
استحدثه.. فالحديث هو إيجاد شيء لم يكن وابتدعه. والحديث والحدوث نقيض القديم
والقدْمة، وكون الشيء لم يكن. وما ابتدع ، والمحدث هو الأمر المبتدع، واستحدثتُ
خبراً أي وجدت خبراً جديداً، والحديث الجديد من الاشياء. والحدث هو الشباب أو
الأمر المنكر الذي ليس معتاداً ولا معروفاً، العالم محدث أي له صانع وليس بأزلي،
فالحداثة هي الجدة، وأول الأمر وابتداؤه(1).
في المعنى الأدبي: على الرغم من ان مصطلح
الحداثة مصطلح متجانس من حيث السؤال ما لحداثة؟ فإنه مصطلح ينطوي على قدر كبير من (اللا
وحدة)، والتناقض، والنسبية على المستويين السوسيولوجي، والابداعي(2). والحداثة جدة في الابداع، وتحرر من
إسار المحاكاة والتقليد، وذلك بإنجاز عمل لم يؤت بمثله من قبل، ولم يسبق اليه
مبدعه على صعيد الشكل والمضمون، وفي الحداثة الشعرية تعبير عن روح العصر بأبعاده،
وأحداثه وقضاياه، تعبيراً حضارياً، مما يعكس تغلغل الشاعر في عصره، وارتباطه
بالحياة من حوله ارتباطاً عضوياً وجوهرياً(3).
وليس للحداثة مواصفات محددة وطقوس معلومة، يمكن استيعابها والنسج على منوالها، كما
انها ليست طقساً يحفظ عن ظهر قلب ويتبارى في تأديته، لانها مشروع مفتوح بين
الشعراء، وشورى مستمرة بينهم(4).
إن أول ما يجب ان نتناوله هو المصطلح نفسه
وعلاقته بالمصطلح الاجنبي الذي هو الاساس، لان مصطلح الحداثة مصطلح غربيّ(5) ففي اللغتين الانجليزية والفرنسية
انتشرت لفظتان هما Modernism وModernity واختلفت الترجمة العربية بين الحداثة، والعصرية ، والمعاصرة. اما
في المعاجم فيكاد يكون الفرق ضيقاً في الترجمة. ففي المعجم نجد ترجمة كلمة Modernism بتعبير أو استعمال عصري، العصرانية، وModyernity
بالعصرية أو كون الشيء عصرياً. إلا ان المعجم يضيف الى معنى كلمة Modernism أنها حركة الفكر الكاثوليكي لتأويل تعاليم الكنيسة في ضوء
المفاهيم العلمية والفلسفية السائدة في القرن التاسع عشر(6).
واختلط مصطلح الحداثة في العديد من
الكتابات النقدية بمصطلح الحداثانية (المودرنزم)، فكان يوصف الشعر (المودرنزمي)
بالشعر الحديث، بينما يكون من الدقة استخدام صفة لها علاقة بالمودرنزم، وهي Modernist أو Modernistic تجنباً للالتباس(7). ومصطلح الحداثة يختلف عن المودرنزم،
اذ يمتلك مصطلح الحداثة دلالة محددة على ماهو جوهري وشامل في نزعة الحداثة دون
تقيد باشتراطات مذهبية أو ظلال قيمية
ومفهومية. ومنها تلك الخاصة بتحديد موقف أونطولوجي معين بازاء الحياة
والانسان. اما مصطلح المودرنزم، فهو على الرغم من انه ينتمي الى الجذر اللغوي نفسه
للمصطلح الأول، غير انه قد تمذهب بعد اضافة ISM
اليه، فأصبح يدل على حركة معينة داخل الأدب الغربي مشروطة بوضع تاريخي معين(8). والمودرنزم هي بحقيقتها حركة لم
تستغرق وقتاً طويلاً في اسبانيا، لكن كان لها دور فعّال في ربط الشعر في اسبانيا
وامريكا اللاتينية بالشعر في اوربا. وقد ظهرت هذه الحركة في العقد الأخير من القرن
التاسع عشر ولم تدم طويلاً(9).
واستخدمت الحداثة في معظم الدراسات
الأدبية والنقدية مقترنة بمصطلحات اخرى، ولهذا وجب علينا التفريق بينها، ومن هذه
المصطلحات:
1. الأصالة: ان الأصالة ليست ذات دلالة
زمنية حتمية، لأن العمل الأصيل هو "الإنتاج الجديد الذي يحدث في مجرى
التأريخ، ضرباً من الانفصال وكأنما هو حقيقة فريدة تند عن كل تفسير وتفلت من طائلة
كل مقارنة"(10)، والاصيل هو الانتاج
الصادق الذي تنكشف لنا حقيقته كسر يذيعه علينا الفنان للمرة الاولى(11). فالأصالة بهذا المعنى ضد التقليد، ولا
فرق بين ان يكون التقليد لآثار في اللغة العربية أو في لغة اجنبية، فالأصالة تعني
التخلص من التقليد. ولكن هذا ليس هو المعنى الوحيد للأصالة، بل إن ثمة معنى آخر قد
يتجاوز المعنى السابق، وهذا المعنى الثاني قريب من اصل الاستعمال اللغوي للكلمة،
وهو شبيه بمعنى (العراقة) وقد عرفها (توفيق الحكيم) فقال : "وإن ما يسمونه
العراقة في شعب ليس إلا فضائله المتوارثة من أعماق الحقب، وإن الإصالة في الأشياء
والاحياء هي ذلك الاحتفاظ المتصل بالمزايا الموروثة، كابراً عن كابر، وحلقة بعد
حلقة. هكذا يقال في شعب أو رجل او جواد، وهكذا يقال في فن أو علم أو أدب. عراقة
الأدب هي طابعه المحفوظ المنحدر الينا من بعيد"(12) فالاصالة اذاً هي التأصل في الأصل
والصدور عنه(13)، وبهذا كانت الاصالة
تتضمن معنى الديمومة والاستمرار.
2. المعاصرة: على الرغم من استعمالها
المبهم من حيث التحديد الزمني فإن معناها يتضح بملاحظة نقيضها وهو القدم، ومن هنا
يبدو أن المعاصرة تمثل جانب الحركة التقدمية في مركب الديمومة الذي يكوّن الأصالة(14). غير انها قد تقترب من الاصالة إن عني
بها تمثيل القيم السائدة في العصر الحديث والصدور عنها، مما يلد الجديد الذي لم
يكن من قبل(15). وخير تحديد للمعاصرة
هو البدء من الحاضر. ولما كانت المعاصرة تمثيل للقيم المألوفة في العصر الحديث،
فإن بعض الباحثين قرنها ببدايات القرن العشرين، متجاوزين بذلك كل التواريخ التي
تحدد بداية المعاصرة، عادّين ان التحديدات السالفة تقوم على مجرد الربط المادي بين
المعاصرة وبين واحد من الاحداث التاريخية بلا مسوّغ حاسم ومقبول(16)، ومن هنا اقترنت بالتزامن(17).
3. الجدّة: وهي صفة الحديث أو المعاصر او
سواهما، لكنها لاترتبط مثلهما بزمان ومكان محددين(18)،
وقد ميز (ادونيس) بين الجديد والحديث فيقول: "للجديد معنيان: زمني وهو، في
ذلك، آخر ما استجد، وفني، أي ليس في ما أتى قبله ما يماثله. أما الحديث فذو دلالة
زمنية ويعني كلّ مالم يُصبح عتيقاً. كل جديد، بهذا المعنى حديث. لكن ليس كل حديث
جديداً [...] الجديد يتضمن إذن معياراً فنياً لايتضمنه الحديث بالضرورة، وهكذا قد
تكون الجدة في القديم كما تكون في المعاصرة"(19).
وتفرق (خالدة سعيد) بين الحداثة والتجديد لشمولية الأولى وخصوصية الثانية، على أساس
ان التجديد من مظاهر الحداثة، والجديد عندها "هو إنتاج المختلف المتغير [...]
الجديد نجده في عصور مختلفة، لكنه لا يشير إلى الحداثة دائماً"(20) إن الاختلاف يحدد ماهية الجديد لتعبيره
عن واقع متجدد، ولاستخدامه معايير تغاير الماضي ولا تنفيه أو تلغيه(21)، في حين ان الحداثة تشتمل على الجدة
وتتجاوزها في آن واحد، ولذلك فهي ترتبط "بالانزياح المتسارع في المعارف
وأنماط الإنتاج والعلاقات على نحو يستتبع صراعات مع المعتقدات [...] ومع القيم
التي تفرزها أنماط الإنتاج والعلاقات السائدة"(22)، فـ(خالدة سعيد) ترى ان الحداثة لاتولد
إلا من خلال التراكم المعرفي، وتنطلق من مرحلة الى اخرى، ومن هنا يمكننا القول ان
الحداثة حركة فكرية شاملة لها خصائصها ومميزاتها وقوانينها.
جذور الحداثة في التجربة
الاوروبية
واجه النقاد صعوبات كثيرة في تحديد نشوء
الحداثة ومكانها، وربما يعود ذلك الى الغموض الذي يكتنف المصطلح نفسه(23). والحداثة بحقيقتها اكبر من كونها محض
حادثة طارئة جاءت نتيجة عوامل مختلفة، لانها مشكلة حضارية وجمالية في آن واحد(24). واذا نظرنا الى الحداثة من الناحية
التأريخية، استناداً الى اطار واسع هو إطار التجربة الاوروبية، نجد انها تمثلت في
الفكر الغربي القديم، المتمثل بالفكر اليوناني. فمن اهم جذور الحداثة الغربية هي
الجذور اليونانية، والفكر الحداثي عند اليونانيين. يقول: (جيمس ماكفارلن) في كلمته
(عقل الحداثة): "إذا كانت الصفة الغالبة للحداثة هي المزج وعدم التمييز بين
الرفض والقبول، والحياة والموت، الرجل والمرأة [...] عندئذ لم تأت الحداثة بما هو
جديد الا قليلاً. ان فكرة التوفيق بين الأضداد قديمة قدم (هيروقليدس). يذكر (هوسر)
أن فكرة التوفيق بين الاضداد جاءتنا من فلسفة (نيقولا القوصي) ومن (جيوردانو
برونو). وقد ذكر هذا المفهوم بطرق مختلفة، في القرن التاسع عشر"(25). ومن الافكار الحداثوية التي نبعت من
الفكر اليوناني وامتدت في الحياة الأوروبية هي (الاسطورة) التي اصبحت سمة ملازمة
لفكر الحداثة وأدبها. يقول (هنري سوسمان) في كتابه (الصور البعدية للحداثة):
"إن كتّاب الحداثة اليوم أحيوا الأوديسا والملاحم الأخرى لتكون دليلاً لهم في
جولاتهم القصصية. وأصبحت كتب (هوميروس) تكون الاطار الحقيقي للقصة والقاعدة للنهج
البنيوي، النهج الذي يُطعم به (أزرا بوندا) السلسلة الحائرة من قصصه والمادة
الثقافية التي يتناولها مع غيرها من حضارات الصين وايطاليا وفرنسا"(26) ويوضح (سوسمان) امتداد هذه الظاهرة الى
جذورها اليونانية فيقول: "ويمكننا ان ندرك السبب الذي من أجله أصبحت الأساطير
وصناعتها، وهي اداة ثقافية دائمة ومتغيرة ، موضوعاً متميزاً في التحليل البنيوي.
ذلك لأن اساطير الاثار الكلاسيكية احتلت دوراً ، في الثقافة الغربية على الأقل،
مماثلاً للدور الذي احتلت الأحماض النووية في علم الوراثة في القرن العشرين"(27). ولكن لماذا نجعل من الفكر اليوناني
اول حداثة عالمية؟ لانها حققت اهم صفات الحداثة وابرزها، وهي فعل تغييري، وفعل
شمولي. فمن حيث التغيير نجد أن العالم بعد اليونان يختلف عن العالم قبل اليونان،
والتراث اليوناني ظل اساساً وطيداً لكل انطلاقة فكرية، أي يقوم بفعل التغيير وما
زال، لان معظم المذاهب الفكرية كانت تسعى الى تأصيل ذاتها بالعودة الى العصر
اليوناني (العصر المحوري)(28)، فالماركسية
، وهي من فلسفات العصر الحديث، تؤصل طريقتها بالعودة الى (هيراكليت)، وماديتها
بالعودة الى (ديموقريط). وشيفرة فرويد ترجع برمتها تقريباً الى الفكر اليوناني(29)، وهذا التغيير والتحول دليل على ان
الفكر اليوناني كان يمثل اول حداثة شملت مختلف المجالات العقلية والنظرية
والانسانية.
اما شموليتها فتتمثل في الغوص في الظاهرة
حتى اعماقها، للوصول الى قانون ثابت وابدي(30).
ويمكن أن نجمل أهم مميزات الحداثة اليونانية الاولى بما يأتي:
1. إنها حداثة تغيير، اذ استطاعت ان تغير
المجرى العام للثقافة، وهذا التغيير لايعني التغلغل في كل بقعة، وإنما شدّت اليها
المراكز الثقافية في العالم، بدءاً من الحوض المتوسط حتى الهند، وكان لفتوحات عسكر
الاسكندر الدور الفعّال في انتشار الحداثة اليونانية.
2. إنها حداثة شمولية، فما من شيء إلا سعت
اليه بصورة لم يسبق لها مثيل في دائرة الثقافة المتوسطية.
3. أهم مميزاتها هو مواجهتها للذات
ومقابلتها، ومجادلتها، والوقوف امامها ومحاورتها.
4. حققت الحداثة اليونانية الوجود (الكاوس)
لأنها اساس كل حداثة. أي انتظام لمذهب أوحدي، فلا يوجد مذهب من المذاهب إلا نقيضه
الى جواره، ابتداءً من الشعر الغنائي الى الشعر التعليمي، ومن التزام سقراط بالعرف
والانصياع للحكم الى تمرد الكلبيين على كل عرف.
5. إنها حداثة زراعية والكتابات التي
اكبرتها تأثرت كثيراً بشموخ العلوم النظرية من جهة، والفنون الأدبية والممارسات
الفنية من جهة اخرى(31).
أما الحداثة الثانية فهي حداثة مدنية وصناعية، فهي منذ نهاية
القرن الخامس عشر حتى القرن العشرين، اخذت تشكل كياناً شاملاً متكاملاً، ذا خصائص
مميزة وهي: خصيصة البنية الكلية، وخصيصة السياق الشامل، وخصيصة الوعي النوعي(32). بمعنى ان الحداثة والنزعة الحداثية هي
بنية المجتمع الحديث ووعيه لذاته.
ويرى (مارشال بيرمان) ان الحداثة الثانية، مرت بمراحل في
اطارها التاريخي الشامل. وتبدأ المرحلة الاولى كما يرى ، منذ اوائل القرن السادس
عشر وتستمر حتى نهاية القرن الثامن عشر، وذلك حين بدأ الناس يجربون الحياة
الحديثة، دون ان يعوا تماماً حقيقة ما يجربون. ثم تبدأ المرحلة الثانية في تسعينيات
القرن الثامن عشر، وذلك مع قيام الثورة الفرنسية، وجمهورها الثوري الذي أحس بأنه
يعيش في عالم حديث يختلف تماماً عن العالم السابق. اما المرحلة الاخيرة فهي تبدأ
في مطلع القرن العشرين، واخذت عملية التحديث في هذه المرحلة تتسع لتشمل العالم كله
بالفعل، وتحقق ثقافة العالم النامية لنزعة الحداثة انتصارات مشهودة في الفن والفكر(33).
وقد حققت التجربة الاوروبية في مرحلتها الاولى ابتداء بشمالي
غربي اوربا، الثورة الصناعية، وانطلقت من هذه المنطقة ايضاً حركة الاصلاح الديني
البروتستنتية. وتقوم اطروحة (ماكس فيبر) على ان اساس حركة الحداثة ديانية تنتمي
الى هذا العالم، وقد سعت الى الفصل بين الدين والدولة، بين الدين والسوق. وقد
ساعدت اخلاقيات العمل التي ارستها، على تطوير الرأسمالية الصناعية، وكان من بين
اهم العوامل في تأكيد اسس الحداثة، بروز الثقافة العقلانية، والعادات العلمية في
التفكير والعمل(34). بمعنى بزوغ العلم
منهجاً وممارسة.
جذور الحداثة في التجربة
العربية
إن السؤال الذي يسعى الى معرفة زمان
الحداثة، يتطلب في سبيل الاجابة عليه، معرفة اول ابداع في التاريخ البشري. وهذا ما
لايمكن معرفته لأنه يقع ضمن منطقة مظلمة غائبة عن حدود معرفتنا(35). لكن لكل حداثة تاريخ، أي لا وجود
لحداثة بدون تاريخ. وفي ضوء حدود علمنا ومعرفتنا، نستطيع ان نرصد أهم الحداثات
المتعددة التي شهدها الفكر العربي ابتداءً من حداثة الاسلام وقرآنه العظيم الذي
استطاع ان يغيّر طريقة العرب في التفكير، اذ امرهم بتوحيد الله الذي يدرك بالعقل،
وهذا التغيير نشط الخيال العربي، وجال الفكر في آفاق روحية لم يعرفها من قبل. وكان
لحداثة هذا الدين الدور الكبير في تغيير البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،
وبالتالي تغيرت المفاهيم وتغيرت معها اللغة للتعبير عن تلك الاشكال(36). وحداثة الاسلام بلا شك من الحداثة
الكاسحة(37) التي هدمت صروح الفكر القديم وبنت
بدلها صروحاً حديثة وبنيت تلك الصروح: دينا وفكراً ولغة وعلاقات(38).
وحدثت بعد ذلك ازاحة كبيرة وهو انتقال
الخلافة الى بلاد الشام، وكان ذلك في بداية العصر الاموي، وبأنتقال الخلافة حدث
التغيير في جميع البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية(39). واستجاب الشعر لهذا التغيير وكتب
الشعراء قصائد حديثة في هذا العهد(40).
ولما جاء العصر العباسي شهد العرب حداثة
كبيرة، اذ اعيد تركيب البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والسكانية والفكرية(41)، فالتغيّر والتطور من طبيعة الانسان
والزمن والفن، وكأنّ الحاجة لايجاد صيغ ومضامين جديدة يقتضيها الموقف النفسي،
والتغيّر في طبيعة الحياة، ويتطلبها الانفتاح الجديد على مختلف الثقافات، قد دفعت
غير شاعر في هذا العصر لأن يدخل في محاولات التغيير في الشكل والمضمون، فظهرت
تجربة (مسلم بن الوليد) فكان "أول من ألطفَ في المعاني ورقق في القول"(42)، وجاء (بشار بن برد) وهو "من أشهر
المحدثين"(43) وهو الوجه الاكثر
بروزاً للحداثة العباسية فكان "اول المحدثين، بالمعنى الابداعي، ممن خرجوا
على ما سمي بـ(عمود الشعر العربي) ولذلك فان الجدل الذي اثير حوله مهم جداً"(44) وقد قيل عنه انه "استاذ المحدثين"(45)،وجدد (ابو العتاهية) في الاوزان
الشعرية وكان "لسرعته وسهولة الشعر عليه ربما قال شعراً موزوناً يخرج عن
أعاريض الشعر وأوزان العرب"(46). ودعا
(ابو نواس) الى نمط مستحدث في محاولة لتجاوز الاشكال الشعرية التقليدية ورموزها
القديمة(47). وبعد ذلك تأتي حداثة (ابي تمام) التي
تعتمد على الخلق لا على مثال، خلق عالم آخر يتجاوز الواقع(48). وقد قيل عنه "ليس أحد من الشعراء
يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام"(49) وغيرها من المحاولات التي جاءت من
بعده، وكلها تهدف للنهوض بالشعر الى مستوى التجديد، ولا يمكن ان نفهم هذه الحركة
فهماً صحيحاً دون النظر اليها في إطار الصراع المثير بين ما كان يسمى بالمنقول
والمعقول، بين اهل السنة والكلاميين من المعتزلة واضرابهم(50). والحداثة في القرن الرابع الهجري ما
تزال حية وماثلة امام الناقد وكأنها قضية جديدة، ولذلك راح الناقد الاعتزالي يدافع
عنها بحماس اعتقاداً منه بانها ترفض التسليم المطلق للقديم لمجرد قدمه(51). وعلى هذا الاساس بحث (ادونيس) عن جذور
الحداثة العربية عند هؤلاء الشعراء المشار اليهم سابقاً(52)،
احساساً منه بأن هاجس الحداثة موجود عند هؤلاء الشعراء ، لانهم يرفضون المحاكاة،
ويشدّدون على السبق والتفرد.
وعلى الرغم من ان النقد العربي القديم،
اطلق مصطلح الشعر المحدث والشاعر المحدث خلال المعركة النقدية التي حدثت بين ابي
تمام وخصومه، وبين كل شاعر محدث وآخر، إلا ان مصطلح الحداثة لم تتضح دلالته
الحقيقية الا في العصر الحديث وفي النقد الغربي على وجه الدقة(53).
ولابد لنا هنا من التشديد على اننا لا
نستطيع ان نفصل الحداثة العربية في العصر الحديث عن حداثة العالم الغربي، لأن
التفاعل والتبادل من خصائص الثقافة العربية وقد اغنى هذان العاملان هذه الثقافة(54). بمعنى ان الحداثة العربية متأثرة الى
حد كبير بإنجازات الحداثة الغربية، الامر الذي يبعث على القول إن هناك تبعية
إبداعية تتزامن مع التبعية العامة التي تعيشها الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً،
لدرجة دفعت باحثا إلى القول إن الحداثة العربية "كالصدى لأصوات بعيدة سواء
كانت العلاقة بين الصدى ومصدره مباشرة أو غير مباشرة"(55) ودفعت آخر الى القول ان "استيراد
الحداثة في الحياة والأدب أمر مشروع، وهو شبيه باستيراد وسائل الصناعة ووسائل
الدفاع والمدارس الأدبية"(56).
مما تقدم نفهم ان الحداثة في جوهرها ثورة
حضارية شاملة، لايمكن فصلها عن السياقات الاجتماعية والتاريخية والحضارية
والاكتفاء بالنظر اليها بوصفها ظاهرة ثقافية او شعرية معزولة بذاتها.
وتستدعي التحولات الخطيرة التي شهدتها
الأمة العربية تحولاً في الثقافة، اذ بدأت معالم التغيير والتحول تظهر على الساحة
العربية مع بدء ما يسمى بعصر النهضة العربية أو عصر التنوير . هذا العصر الذي بدأ
يشهد تشكيل بنيات جديدة على انقاض بنيات العصر الوسيط(57). وتوشك الحركة الأدبية أن تجمع على ان
حملة نابليون على مصر عام 1798 كانت بداية حداثة النهضة العربية(58). واما نهضة العراق فاختلف الباحثون
فيها، فمنهم من يرى ان العصر الحديث بدأ في منتصف القرن التاسع عشر، ومنهم من يرى
ان مطلع القرن العشرين هو البداية الحقيقية لحركة الحداثة وبالذات منذ كتابة
الدستور العثماني 1908(59).
وفي هذه المرحلة شاع مصطلح الشعر الحديث،
وان الحداثة مفهوم الحديث، وقد تحول الشعر نفسه بفعل التحولات الحضارية النهضوية،
وتغيّر الشعر في شكله ومضمونه وفي تجربته الحديثة بشكل عام، ولا سبيل الى الحديث
إلا ببعث القديم واحيائه من جديد، لان الجديد يجب ان يكون من صميم الماضي، إنه
اتصال به وانفصال عنه في الوقت نفسه(60)،
بمعنى ان التجديد ليس محاكاة للقديم وانما القديم سيولد مرة ثانية في حلية جديدة.
في ضمن هذا المفهوم حاول عدد من شعراء
النهضة أن يحيوا الماضي من اجل الحاضر والمستقبل، وأن يتصلوا بحداثة العالم الغربي
الوافدة على الوطن العربي منذ اوائل القرن التاسع عشر، وكان الثلث الأخير من القرن
التاسع عشر البداية الحقيقية لحداثة النهضة. فكان (البارودي) الذي وصفه بعض
الباحثين بأنه رائد الشعر الحديث(61)، ومن
جاء بعده من الشعراء العرب مثل (أحمد شوقي ، وحافظ ابراهيم، ومطران والرصافي
والزهاوي) وغيرهم يشهدون التحول الذي حدث في الحياة العربية، لذلك سعوا نحو إحداث
التغيير والتجديد في محاولاتهم الاحيائية في الشعر.
وافلح (البارودي) في استغلال إمكانات الشعر العربي القديم، ولم
يكن مقلداً له، وانما عمل جاهداً على ان يرجع للشعر جزالته ونصاعته ورصانته(62). وكأنه يقوم بدور الرقيب المحافظ على
الشعر(63). وان كان قد حاكى القدماء في اغراضهم
وطريقة عرضهم للموضوعات وفي اسلوبهم، وفي معانيهم، لكن كان له تجديد واضح في شعره
من حيث التعبير عن شعوره وعن مشاهداته(64)،
وعدّه (طه حسين) "اول المجددين في الشعر المصري الحديث"(65) وقال (العقاد) عنه: "وكأنما
البارودي هنا ممثل قدير لبس دور الشاعر البدوي فوفاه لغة وشعوراً وزيا وحركة،
فخلقه خلقاً جديداً وجعل له تمثالاً من نفسه وحياته واصبح مبتكراً في الدور الذي
أخذه كما يبتكر الممثل في انتحال أدواره وأبطاله، فهو فنان خالق في اتباعه كما
يكون المرء فناناً خالقاً في ابتداعه"(66)
وبهذا كان (البارودي) حقاً منقذاً للشعر العربي الحديث من عثرة الاساليب الركيكة، وكان
شعره حجر الزاوية لبنيان الكلاسيكية المحدثة في الشعر العربي(67)، وبذلك اعطى (البارودي) للشعر العربي
دفعة جديدة مكنته من النهوض ورد اليه الحياة والروح.
وقد اعجب الشباب الناشئ في تلك المرحلة بدور (البارودي)
النهضوي، وعلى رأسهم (احمد شوقي وحافظ ابراهيم، وخليل مطران) وغيرهم من الشعراء
الذين اضطلعوا بهذه النهضة التي اشعلها (البارودي)(68)
وقد ظهرت مدرستهم باسم مدرسة المحافظين(69)،
التي تمثل انحيازاً تاماً الى نهضة (البارودي) وتجديده في الشعر، وعرفوا
بالمحافظين لانهم استطاعوا ان يحافظوا على الصياغة وعلى الشكل الهيكلي للقصيدة
العربية كما هي في عصور ازدهار الشعر العربي(70).
وكان بروز (شوقي) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن
العشرين اعظم حدث شعري في الشرق العربي، اذ عمل على ترسيخ حركة النهضة الشعرية ووثق
الصلة بين الشعر العربي الحديث وجذوره الاولى، وبذلك يكون قد اعاد للشعر العربي ما
فقده من قوة التوهج والحيوية، وهما اهم صفات الشعر القديم(71). وبهذا الدور يكون (شوقي) امتداداً
(للبارودي). واستطاع ايضاً ان يبث في شعره الروح العربية الحديثة، فهو لم يكن
مقلداً للشعراء القدامى، بل كان قريباً من روحهم في إيقاعاته واندفاعه العاطفي،
وبالوقت نفسه يتطلع الى الروح العربية الحديثة(72)،
وعلى هذا النحو كوّن (شوقي) لنفسه اسلوباً اصيلاً، لايتحرر من القديم، ولكنه في
الوقت نفسه يعبر عن الشاعر وعصره ووصف المخترعات، وهو اسلوب يقوم على الجزالة
والرصانة(73)، وتمكن من الصنعة، وقد
اعترف بذلك اشد ناقديه(74).
واستطاع (شوقي) ان يجدد في الشعر، متأثراً بـ(لافونتين)
واساطيره، و(هيجو) وشعره التاريخي(75). إلا
ان تجديده الحقيقي يكمن في اقتحامه عالم المسرح الشعري، وتخليق هذا الجنس الادبي
المستحدث في الأدب العربي الحديث(76)، وهذا
مايدل على انه لم يقف عند حدود القديم، بل كان شاعراً مجدداً، وحاول ان يبدع، ولكن
في حدود الاسلوب العربي الأصيل ، وفي حدود امكانياته هو الشخصية والثقافية.
ويؤكد بعض النقاد ان (شوقي) هو "أول من حاول التجديد
بمعناه الدقيق في الأدب العربي بل في الشعر العربي"(77)، لكن محاولته هذه جاءت ناقصة ، فقد
تناولت وصف المخترعات الحديثة كظواهر عصرية و"ليس المهم بالنسبة للتجديد هو
ملاحظة شواهد العصر ولكن المهم هو فهم روح العصر"(78).
وكان (حافظ ابراهيم) قريباً من (البارودي) في مذهبه الشعري(79)، فنراه يرتبط بالتراث شكلاً ومضموناً،
ويعمل على بعثه بشكل اكثر حيوية وتفاعلاً مع روح العصر(80)، وبذلك ذهب يتغنى بكل شيء يحدث، واخذ
يصف المخترعات مثل (شوقي)، وكأنهم يرون في ذلك مجاراة لروح العصر وهو بذلك كان
مجدداً ولكن في المقدار الذي استطاع به ان يكون مجدداً، وهذا التغيير والتجديد
الذي احدثه جاء نتيجة استجابته للعصر والبيئة(81)،
وشعوراً منه بأن عليه رسالة اصلاحية يجب ابلاغها، وهذا ما يدل على انه شاعر ملتزم
لكن ليس الالتزام بمفهومه الحديث(82)،
واستطاع ان يقترب من الشعب وبشكل ملفت للنظر(83).
وربما فتح (خليل مطران) آفاقاً جديدة للشعر والشعراء الذين
عاصروه(84)، طالباً منهم ان يعالجوا الطازج من
الموضوعات، وان يعبروا عن احاسيسهم وافكارهم الخاصة، وان يعكسوا في شعرهم الحياة
العصرية(85). ويقول بذلك مشدداً على (عصرنة) الشعر:
"أريد ان يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف انواع رقيه"(86) ان عملية الخلق والابداع في الشعر اذاً
تقوم على العصرية، عند مطران، وهذا ما يجعلنا نقول عنه انه شاعر فهم عملية التحديث
فهماً عصرياً.
ان محاولات مطران التجديدية كانت محاولات تختلف بعض الشيء عن
محاولات شعراء النهضة، لأنها كانت محاولات واعية تصدر عن ادراك كامل لضرورة ادخال
التغيير الى جسم الادب العربي لكي يساير روح العصر، وقد عبر عن ضرورة إحداث هذا
التجديد، ولكن بصورة متدرجة ونامية فيقول: "مهدتُ الطريق للتجديد قبولاً في
دوائر أدبية كانت ضيقة ثم أخذت تتسع إلى ما وراء ظني، وستستمر في الاتساع بحكم
العصر وحاجاته والعلم ومقتضياته والفن ومستحدثاته"(87). بمعنى ان التجديد شمل شكل القصيدة
ومضمونها.
ومن انجازاته الحداثوية التي اصبحت فيما بعد عنصراً ثابتاً من
عناصر الشعر الحديث ، تشديده على الوحدة العضوية في القصيدة، حيث تتلاحق احداث
القصيدة حتى تبلغ الذروة(88).
وطالب بضرورة توافرها(89) في
القصيدة العربية الحديثة. واستحدث ايضاً القصص الدرامي الذي يتصل بالحياة والانسان
، وبتأثير مباشر من الغرب، ولاسيما الأدب الفرنسي(90)،
ويكون بذلك قد حقق حلم الكثير من شعراء العرب الذين غاب عنهم هذا النوع من الشعر، ذو
الطابع الرومانسي والتاريخي(91). وكان
وراء لجوئه لمثل هذا النوع من الشعر رغبته في التعبير عن الأفكار الخاصة التي تمس
المجتمع وحريته المقيدة(92).
وبتجديده هذا تقدم الشعر العربي خطوة الى الامام.
وعلى الرغم من تجديده وعصريته بقي مغلقاً عند حدود تجربته،
بمعنى انه لم يستطع الانفصال عن القديم، بل كان يجري في شعره والى جانبه تيار
الجديد الذي جاء له من التأثير الغربي(93).
ويؤكد مطران ارتباطه بالقديم ورغبته في إحداث التجديد فيقول: "أتابع السابقين
في الاحتفاظ بأصول اللغة، وعدم التفريط فيها، [...] أما الأمنية الكبرى التي كانت تجيش
بي، فهي أن ادخل كل جديد في شعرنا العربي"(94)
فالتجديد هو الذي يحافظ على اللغة وحيويتها، لكن دون الانفصال التام عن اصولها،
وانما الانفكاك من القيود الجامدة التي لا تلائم العصر الحديث.
مما تقدم ، نرى ان (مطران) قد حقق انقلاباً ولو جزئياً في
الشعر العربي، وهذا ما جعل معظم الباحثين يصفونه بريادة التجديد في عصره. اذ جعله
(طه حسين) سيد جميع شعراء العرب دون منازع(95)،
واكد (مندور) ريادة مطران في الشعر(96)، وقال
آخر انه اول شاعر عربي عكس النزعات الحديثة، وتحرر من جمود التقليد ، وإنه كان
السلف الطيب لشعراء المدارس التي تبعته(97).
وفي العراق حمل (الزهاوي) و(الرصافي) راية التجديد النهضوية في
الشعر، اذ كانا يسيطران على المشهد الشعري العراقي في العقود الأولى من القرن
العشرين وبوساطتهما استطاع الشعر العراقي الحديث ان ينال اهمية على المستوى العربي
الشامل(98).
ودعا (الزهاوي) الى التجديد والثورة على القديم، وربما كان
اسبق من الشعراء في تصوره الجديد في الشعر في القرن العشرين، وقد خصص طائفة من
شعره للحديث عن الجديد في الشعر والشعراء. ومعنى الجديد عنده هو "ان ينظم
الشاعر عن شعور عصري صادق يختلج في نفسه لا عن تقليد، وذلك ما كان يفعله شعراء
الجاهلية، وإن كان شعورهم محدوداً ، فالجديد في القديم والحديث إذا لم يسبقه إليه
أحد"(99). والجديد كما قال
(الزهاوي) هو "أحسن ما تنزع اليه النفس الوثابة ولو لم يتجدد الليل والنهار
لملهما الناظر:
سئــــــــمتُ كل قديـــــم عرفـته في حياتــي
إنْ كان عندك شيء من الجديد فهــات
ولا أريد بالتجديد أن يقلد الشاعر العربي شعراء الغرب في
شعورهم فإنّ لكل أمة شعوراً خاصاً بها لاتحس به أمة اخرى كالموسيقى"(100). وتشديد (الزهاوي) على الشعور الخاص
بالأمة، هو تشديد على اثر الشاعر المجدد الذي يكتشف في هذا الشعور ساحات من الفعل
الانساني، غير ان (الزهاوي) يبالغ ويتطرف عندما يشدد على التجديد، وتطرفه ينبع من
حس نقدي واضح، ان الشعر لابدّ ان يلحق بالعصر، ولابد ان يلبي حاجات النفس
المتجددة، ولابد ان يواكب جديد الحياة نفسه، ففي تقسيمه لمن يمارسون الادب، قال عن
الشعراء: "يسيرون مع رقي العلم جنباً الى جنب، ويستحبون الشعر خلواً من
المبالغات، منطبقاً على الطبيعة، مع المحافظة على الشعور العربي الذي هو قوام
شخصيته"(101).
وعاب (الزهاوي) تقليد الشعراء فقال عن التقليد: إنه "ذميم
سواء كان تقليداً لشعراء العرب الأقدمين او لشعراء الغرب المحدثين"(102)، وقال عن نفسه "وانزع ان أمشي
بشعري في سبيل الحياة والطبيعة متجنباً المبالغات وكل ما ليس حقيقياً"(103). إن معيار جودة الجديد اذاً هو مطابقته
الحقيقة(104):
والشعر بالمعنى المطـا بق
للحقيقـة يكبـر
وإن
الطبيعة وحدها هي الاولى بالتقليد(105).
إن الجديد الذي يعنيه (الزهاوي) هو "ماكان مشبعاً بالشعور
العصري"(106) ولعنايته بالشعور
العصري راح يدعو الى الشعر العصري الذي ينم احياناً عن جعل الغرض حداً فاصلاً بين
القديم والجديد، وذلك يجعل كل ما يحيط بالشاعر مادة للشعر(107).
إن الشعر العصري هو الذي يستلهم فيه ناظمه شخصيته هو، وبيئته،
وعصره، وظروفه، وقد بين (الزهاوي) هذه النواحي في تحديده لهذا الشعر فقال:
"وقد اختلف الأدباء في تعريف الشعر العصري غير اني ارجح... كونه شعور الشاعر
المتولد من فعل للمحيط كبير التأثير في روحه فيبرزه في صورة الفاظ موزونة تعرب عنه
فلا يكون الا صادقاً لا تشينه مبالغة وسهلاً ليس عليه من التكلف ما يذهب بصفائه
وروعته وهذا هو الشعر الحقيقي في كل عصر واذا كان هناك اختلاف فهو متولد من اختلاف
المؤثرات بحسب العصور"(108)
والشاعر العصري يقول هذا الشعر "بدواع عصرية اكثرها اجتماعي كأن يشاهد ظلامة
فيصورها في شعره داعياً بذلك الأمة الى ازالتها وعدم تكرار أمثالها كما يفعل
الغربيون في رواياتهم أو يرى عادة شائنة للمجتمع فيقبحها بتصوير ما يلحقه من
الاضرار بسببها وهذا ايضاً مما وفاه حقه الروائيون الاخلاقيون في الغرب"(109) وعليه فالشعر العصري هو ما استجاب
لدواعٍ عصرية، وهذا ما يجعله يمثل العصر، وتقدمه العلمي، لذلك قيد (الزهاوي) الشعر
العصري بالحقائق العلمية الحديثة في شعره(110).
ويبدو ان النظرة التي ترى في الشعر وسيلة تعليمية هي التي دعت الى عدّ الحقائق
العلمية والافكار المجردة من الدواعي العصرية، التي يجدر نظمها ودرجها في باب
الشعر العصري(111). حتى ان (رفائيل بطي)
جعل شعر (الزهاوي) من اعلى طبقات الشعر العصري لان "مذهبه فيه مذهب العالم
يريد تقييد الحقائق العلمية بسلاسل النظم، والفيلسوف يصف الحياة ووجوهها بشعر عال،
والحكيم الاجتماعي يضع قواعد العمران في ابيات مرصفة القوافي محكمة الاوزان"(112) وبذلك نعلم ان (الزهاوي) اشد جيله
حماساً للتجديد، وانه كان يمثل "ظاهرة حضارية خاصة"(113)، وكان من طليعة الرواد الذين مهدوا
لنهضة الشعر وتحريره من القديم الذي اعتراه والمصنوعات التقليدية التي غدت محوره(114).
اما (الرصافي) فكالزهاوي في حماسته للتجديد والدعوة الى الشعر
العصري، وكان من طليعة جيله في كسر طوق التقليد والرجعية في التفكير والتعبير(115). واستطاع ان يخرج بالشعر الى الحياة
العصرية، وبلغة عصرية جديدة تتسع للحاجات الجديدة(116)
يقول(117):
واجود الشعر ما يكسـوه قائلــه
بوشي
ذا العصر لا الخالي من العصر
لايحسن الشعـر إلا وهو مبتكــر
وأيّ
حــــسن لشــــــــــعـر غـير مبتـــكـــر؟
ورفض (الرصافي) التقليد في الادب فقال: "إنّ التقليد إنْ
كان في الامور العقلية قبيحاً فهو في المسائل الأدبية اقبح"(118) فـ(الرصافي) يرفض التقليد لأنه كان
يتطلع الى المستقبلية التي تتطلع نحو المستقبل، وترفض الالتفات الى الماضي(119).
ولكن (الرصافي) على دراية تامة ان تحقيق كل الجديد في الشعر
مهمة صعبة جداً، وهذا ما جعل الشعر يكتسب طابعاً محدوداً في رؤيته للحياة. يقول (الرصافي)
في ذلك: "إن الشعر الحديث لم يزل في اتجاهاته محدوداً ايضاً ، فهناك من مناحي
الحياة ونواحيها مالم يجرؤ الشعر بعد على تصويره. واكبر مانع يمنعه عن ذلك هو
التقاليد البالية والعادات السقيمة التي تقيده وتقيد الحرية الفكرية بقيود وثيقة،
ونحن لم نزل في مجتمع يتعاطى في السر ما يراه معيباً في العلانية ويفعل في طي
الخفاء افعالاً يرى الجهر فيها بالقول معيباً"(120). وهذا ما جعل دعوة رواد النهضة لم
تتجاوز رواسب القديم. وحتى دعوتهم لم تتجاوز الى أبنية النص الشعري كلها، وانما
تناولت الموضوع فقط، وهذا ما جعل الخصيصة الجوهرية لحداثة النهضة في عقودها الاولى
تنصب حول المضمون فقط(121).
وبالتالي فان دعوتهم اصبحت مقصورة في رؤيتها، تلك الرؤية التي تقوم اساساً على
الفصل بين الذات والموضوع، وبين الشكل والمضمون(122)،
مما ابقى روح القديم سارية في قصائدهم. ولم يستطيعوا ان يتجاوزوا مرتكزات المعرفة
التقليدية(123). كما ان محاولاتهم
التجديدية لم تأخذ مكانها الحقيقي لانهم فشلوا في تطبيقها لعوامل مختلفة منها
ثقافية وسياسية واجتماعية سادت عصرهم(124).
ومما تقدم، نجد أن هؤلاء الرواد النهضويين العرب لم يتمكنوا من
خلق حركة شعرية بمفهومها الحديث، ولعل ذلك يعود إلى أن الحضارة لم تستقر في نفوس
هؤلاء النهضويين وعقولهم بشكل عميق وقوي، ولم يستطيعوا تحويلها الى جزء من نفوسهم
وعقولهم في صياغة شعرية جديدة ومن يتابع "شعراء عصر الاحياء يجد استسلاماً
للماضي، ويلحظ أنهم يجترون المعاني القديمة، ولا يكادون يعايشون الحياة المعاصرة-
في بعض فئاتهم- أدنى معايشة"(125).
وبعد متابعنا لجذور الحداثة العربية نصبح مضطرين لطرح سؤال: هل
شهد الوطن العربي حداثة شبيهة بحداثة العالم الغربي، ويجعلنا قادرين على ان نصفه
بالمجتمع الحديث بحدود وملامح المجتمع الأوروبي الحديث نفسه أو ان الحداثة العربية
لم تأت بعد؟ للاجابة عن ذلك كتبنا الفصول القادمة التي تناولنا فيها الحركات
والمدارس التي تلت مدرسة الاحياء هذه.
(1) ينظر: كتاب العين،
الخليل بن احمد الفراهيدي، مادة حدث: 354، ولسان العرب، ابن منظور، مادة حدث: 2/
130-134، والمعجم الوسيط: 1/160، ومعجم الالفاظ القرآنية: 1/ 24.
(2) ينظر: كتاب
المنزلات، منزلة الحداثة ، طراد الكبيسي: 1/11.
(3) ينظر: التأصيل
والحداثة في الشعر العربي، محمود شلبي: 77.
(4) ينظر: الحداثة في
الافق المغربي، نجيب العوفي: 84.
(5) ينظر: افق الحداثة
وحداثة النمط-دراسة في حداثة مجلة شعر بيئة ومشروعاً ونموذجاً، سامي مهدي: 151.
(6) ينظر: قاموس المورد،
منير البعلبكي: 586.
(7) ينظر: مدارات نقدية،
فاضل ثامر: 170-171، وجدل الحداثة في الشعر، فاضل ثامر: 6-8.
(8) ينظر: م.ن: 171، و
م.ن: 7.
(9) ينظر: نقد الحداثة،
حامد ابو احمد: 147.
(10) ظواهر فنية في لغة
الشعر العربي الحديث، علاء الدين رمضان: 18.
(11) ينظر: مشكلة الفن،
زكريا ابراهيم، 128-129.
(12) الملك اوديب، توفيق
الحكيم، المقدمة: 14.
(13) ينظر: صدمة الحداثة،
ادونيس: 141 و159، والمعجم الادبي، جبور عبد النور: 25.
(14) ينظر: الرؤيا
المقيدة- دراسات في التفسير الحضاري للأدب، شكري عياد: 29.
(15) ينظر: الحداثة
الشعرية، عبد المجيد زراقط: 25.
(16) ينظر: عن اللغة
والأدب والنقد -رؤية تاريخية. ورؤية فنية، محمد احمد العزب: 102-103.
(17) ينظر: فاتحة لنهايات
القرن، ادونيس: 314، والشعرية العربية، أدونيس: 95.
(18) ينظر: ظواهر فنية في
لغة الشعر العربي الحديث: 19.
(19) مقدمة للشعر العربي،
أدونيس: 99 -100.
(20) الملامح الفكرية
للحداثة، خالدة سعيد: 25.
(21) ينظر: تناقضات
الحداثة العربية، كريم الوائلي: 3.
(22) الملامح الفكرية
للحداثة: 25.
(23) ينظر: الحداثة،
مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن : 1/ 30.
(24) ينظر: م.ن : 1/29.
(25) م.ن : 1/ 86.
(26) تقويم نظرية الحداثة
وموقف الادب الاسلامي منها، عدنان علي النحوي: 148-149.
(27) تقويم نظرية الحداثة
وموقف الادب الاسلامي منها: 149.
(28) ينظر: الحداثة عبر
التاريخ - مدخل الى نظرية ، حنا عبود: 62.
(29) ينظر: م.ن : 62.
(30) ينظر: م.ن : 63.
(31) ينظر: الحداثة عبر
التاريخ - مدخل الى نظرية: 65-67.
(32) ينظر: الحداثة
والحداثية - المصطلح والمفهوم، نايف العجلوني: 108-109.
(33) ينظر: الحداثة – أمس
واليوم وغداً، مارشال بيرمان: 29.
(34) ينظر: الحداثة
والحداثية - المصطلح والمفهوم: 113، وينظر مصدره هناك.
(35) ينظر: افكار في
الحداثة، طراد الكبيسي: 78-79.
(36) ينظر: الشعر
ومتغيرات المرحلة – جدل الحداثة في الشعر، سلمان الواسطي: 40-41، وجدل الحداثة في
الشعر، سلمان الواسطي: 48.
(37) ينظر: الحداثة:
1/19.
(38) ينظر: جدل الحداثة
في الشعر: 48.
(39) ينظر: م.ن : 49.
(40) ينظر: م.ن : 49.
(41) ينظر: م.ن : 49.
(42) الشعر والشعراء، ابن
قتيبة: 2/ 832.
(43) م.ن : 2/ 757.
(44) صدمة الحداثة : 16.
(45) الموشح، المرزباني:
390.
(46) الشعر والشعراء: 2/
791.
(47) ينظر: العمدة في
صناعة الشعر ونقده، ابن رشيق القيرواني: 1/58.
(48) ينظر: صدمة الحداثة:
20.
(49) اخبار ابي تمام،
الصولي: 53.
(50) ينظر: روح العصر، عز
الدين اسماعيل: 80.
(51) ينظر: الخطاب النقدي
عند المعتزلة، كريم الوائلي: 306.
(52) ينظر: صدمة الحداثة
: 16-20.
(53) ينظر: مدارات نقدية:
169.
(54) ينظر: صدمة الحداثة
: 270.
(55) الشاعر العربي
المعاصر ومفهومه النظري للحداثة، صالح جواد الطعمة: 13.
(56) الحداثة في حركة
الشعر العربي المعاصر، خليل موسى: 13.
(57) ينظر: مدارات نقدية:
181.
(58) ينظر: صدمة الحداثة:
35، وعن اللغة والادب والنقد: 89.
(59) ينظر: تطور الفكر
الحديث في العراق، يوسف عز الدين: 661 و740.
(60) ينظر: اسطورة الموت
والانبعاث في الشعر العربي الحديث، ريتا عوض: 180.
(61) ينظر: البارودي رائد
الشعر الحديث، شوقي ضيف: 46 و96.
(62) ينظر: الادب العربي
المعاصر في مصر: شوقي ضيف: 44.
(63) ينظر: الاتجاهات
والحركات في الشعر العربي الحديث، سلمى الخضراء الجيوسي: 62.
(64) ينظر: في الادب
الحديث، عمر الدسوقي: 1/ 248.
(65) تقليد وتجديد، طه
حسين: 83.
(66) شعراء مصر وبيئاتهم
في الجيل الماضي، عباس محمود العقاد: 98.
(67) ينظر: الادب العربي
المعاصر في مصر: 46، الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث: 62، وعن اللغة
والادب والنقد: 121.
(68) ينظر: الادب العربي
المعاصر في مصر: 46.
(69) ينظر: م.ن : 47، وعن
اللغة والأدب والنقد: 123.
(70) ينظر: الادب العربي
المعاصر في مصر: 47، وعن اللغة والأدب والنقد: 123.
(71) ينظر: الاتجاهات
والحركات في الشعر العربي الحديث: 73-75.
(72) ينظر: م.ن : 78.
(73) ينظر: م.ن : 114-115
و120.
(74) ينظر: شعراء مصر
وبيئاتهم في الجيل الماضي: 120.
(75) ينظر: عن اللغة
والأدب والنقد: 125.
(76) ينظر: عن اللغة
والادب والنقد : 125، وفي الادب الحديث: 2/ 306-307، والادب العربي المعاصر في
مصر: 47، الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث: 80-81.
(77) تقليد وتجديد: 84.
(78) الشعر العربي
المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين اسماعيل: 13.
(79) ينظر: شعراء مصر
وبيئاتهم في الجيل الماضي: 13.
(80) ينظر: الأدب العربي
المعاصر في مصر: 47 و107.
(81) ينظر: م.ن : 109.
(82) ينظر: ديوان حافظ
ابراهيم: 1/ 215-220، و2/ 164-167.
(83) ينظر: حافظ ابراهيم
شاعر النيل، عبد الحميد سند الجندي: 103و 105، وعن اللغة والادب والنقد: 126،
والاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث: 82.
(84) ينظر: تقليد وتجديد:
119، ومع الشعراء، زكي نجيب محمود: 185.
(85) ينظر: جماعة ابولو
واثرها في الشعر الحديث، عبد العزيز الدسوقي: 386، وابو شادي وحركة التجديد في
الشعر العربي الحديث، كمال نشأت : 25، وصدمة الحداثة: 94.
(86) اريد للشعر العربي،
خليل مطران: 48.
(87) التجديد في الشعر،
خليل مطران: 10.
(88) ينظر: ديوان الخليل،
خليل مطران: 1/9.
(89) ينظر: الشعر العربي
الحديث 1800-1970 تطور اشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي، س. مورية: 92-93،
والاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث: 96، ونظرية الشعر عند الشعراء النقاد
في الادب العربي الحديث من خليل مطران الى بدر شاكر السياب- دراسة مقارنة، منيف
موسى: 349-350.
(90) ينظر: الادب العربي
المعاصر في مصر:127، والشعر العربي الحديث 1800-1970 تطور اشكاله وموضوعاته...: 92
و99، ودراسات في النقد الأدبي ، احمد كمال زكي: 134-135.
(91) ينظر: ديوان الخليل:
1/55-59 و82-93 و105-107 و112-117 و120-123 و148-154 و179-183.
(92) ينظر: خليل مطران،
محمد مندور: 12-18.
(93) ينظر: الأدب العربي
المعاصر في مصر: 125.
(94) ديوان الخليل: 2/
المقدمة.
(95) ينظر: جماعة ابولو
واثرها في الشعر الحديث: 86، وينظر مصدره هناك.
(96) ينظر: خليل مطران:
11.
(97) ينظر: الشعر المصري
الحديث، محمود امين العالم: 16. وبتأثيره في الشعراء، ينظر : الشفق الباكي، احمد
زكي ابو شادي : 1236، وانداء الفجر، احمد زكي ابو شادي: 52-53.
(98) ينظر: الاتجاهات
والحركات في الشعر العربي الحديث 240.
(99) الاوشال ، جميل صدقي
الزهاوي: و.
(100) ديوان جميل صدقي
الزهاوي: 1/ب، والاوشال: 5.
(101) ديوان جميل صدقي
الزهاوي: 1/د.
(102) اللباب، جميل صدقي
الزهاوي: أ ، و الاوشال : 5.
(103) ديوان جميل صدقي
الزهاوي: 1/2.
(104) م.ن: 1/ 271.
(105) م.ن : 1/أ.
(106) اللباب: أ.
(107) ينظر: نقد الشعر
العربي الحديث في العراق من 1920-1958، عباس توفيق: 150.
(108) سحر الشعر، الزهاوي: 25.
(109) م.ن : 71.
(110) ينظر: نقد الشعر العربي الحديث في
العراق من 1920-1958: 152.
(111)ينظر: لغة الشعر الحديث في العراق بين
مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الثانية، عدنان حسين العوادي: 138-139.
(112) م.ن : 139. وينظر مصدره هناك.
(113) الزهاوي وديوانه المفقود، هلال ناجي:
9.
(114) ينظر: الشعر العراقي الحديث- مرحلة
وتطور، جلال الخياط: 51.
(115) ينظر: الاتجاهات
والحركات في الشعر العربي الحديث: 256.
(116) ينظر: دروس في تاريخ آداب اللغة
العربية، معروف الرصافي: 58-59، ومقال في الشعر العراقي الحديث، عبد الجبار داود
البصري: 49.
(117) ديوان الرصافي: 1/182.
(118) في الشعر العربي الحديث، احمد مطلوب:
12، وينظر مصدره هناك.
(119) ينظر: لغة الشعر الحديث في العراق بين
مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الثانية: 136-137.
(120) الرصافي – آراؤه اللغوية والنقدية ،
أحمد مطلوب: 320.
(121) ينظر:لغة الشعر
الحديث في العراق بين مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الثانية:142و250 و357.
(122) ينظر: لغة الشعر
الحديث في العراق بين مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الثانية : 245، وحركية
التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث منذ عام 1870 حتى قيام الحرب العالمية
الثانية، عربية توفيق لازم: 74.
(123) ينظر: مفهوم الشعر
لدى الرصافي، عدنان حسين العوادي: 160-161.
(124) ينظر: الشعر العراقي
الحديث مرحلة وتطور: 38-39 و 51.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق