الخميس، 26 نوفمبر 2015

العنونة ودلالاتها في تجربة نوري الجراح - مفيد نجم ...


العنونة ودلالاتها في تجربة نوري الجراح


العدد الثمانون - دراسات - مفيد نجم - كاتب وناقد من سورية اتخذت استراتيجية بناء العنوان في التجربة الشعرية المعاصرة في سوريا عموما مسارين اثنين، اتسم المسار الأول منهما بهيمنة الدلالة الجزئية للعنوان عليه، من خلال انتخاب عنوان داخلي لإحدى القصائد ليكون عنوانا رئيسا للعمل الذي يسمه ويمنحه هويته، نظرا لما تلعبه تلك القصيدة على المستوى الدلالي والرمزي من دور محوري، أو قيمة فكرية مهيمنة على مستوى تلك التجربة، يحاول الشاعر من خلال انتخاب عنوانها الدال والموحي، أن يلفت انتباه المتلقي إليها، ويجعل منها علامة دالة على العمل، تأتي في إطار السياقات النصية، التي تظهر طبيعة التعالق القائمة بينه وبين العمل.

   ومع تطور تلك التجربة والإضافات التي قدَّمتها التجارب الشعرية في سبعينيات القرن الماضي وما بعد، دخلت استراتيجية بناء العنوان طورا جديدا، أصبح فيه عند عدد من شعراء تلك المرحلة جزءا من البنية الكلية للتجربة الشعرية، بوصفه نصا صغيرا موازيا للنص الأكبر، يحيل عليه كما يحيل النص الأكبر عليه، وذلك من خلال اختراق العنوان لنصوص العمل كلها، وتشكيله جماع وحدتها الدلالية، الأمر الذي جعله ينتقل من الدلالة الجزئية على العمل، إلى الدلالة الكلية النابعة، من علاقته العضوية مع التجربة الشعرية، في هذا العمل الذي يسمّيه، ومن كونه عنصرا بنائيا يختزل نصوص العمل، ويمظّهرها مبنى ومعنى من خلال شعريته، باعتباره علامة من مجموع علامات النص. إن أولية العنوان تفترض وجود نوع من الاستقلالية يتمتع بها هذا العنوان، الذي قد يحيل في مضمونه على مرجعية خارجية ذات دلالة موحية، لا يمكن تفسير معناه إلا من خلال العودة إليها، في الوقت الذي يحيل فيه على داخل العمل، أو يحيل على داخل العمل من خلال البنية الرمزية والوظيفة الشعرية التي يحيل من خلالها على داخل العمل.

   سيتخذ البحث في استراتيجية بناء العنوان في تجربة الشاعر نوري الجراح مسارين اثنين، يركز المسار الأول منهما على دراسة العنوان أفقيا، للوقوف على المكونات التركيبية لهذه العناوين، من أجل اكتشاف مدى التعالق الذي تقيمه تلك العناوين فيما بينها، وما يمكن أن يكون قد طرأ عليها من تحولات بهدف الوصول، إلى إدراك الدور الذي تلعبه، على هذا المستوى في تشكيل المعادل الرمزي للعمل الذي تتوجه، وعموديا للوصول إلى معرفة مدى التشابه والاختلاف، الذي طرأ على استراتيجية بناء العنوان في أعمال الشاعر المختلفة، على مدى زمن التجربة المفتوح.

   ومن أجل هذه الغاية ستتخذ الدراسة من ديواني الشاعر طريق دمشق والحديقة الفارسية، اللذين صدرا في كتاب واحد عام 2004، ومن ديوانه الأحدث، دم قابيل والأيام السبعة للوقت، الصادر عام 2012 مجالا للبحث والقراءة، نظرا لكونهما من الأعمال الأخيرة، التي صدرت للشاعر، وفيهما تظهر المآلات التي انتهى إليها بناء العنوان في أعماله الشعرية الأخيرة، والكيفية التي تمَّ فيها الاشتغال على بنيته التركيبية، ودوره في تكوين عتبة دلالية موحية وأوليّة، تقوم بتعويض العمل الشعري وتحديده، بوصفه علامة دالة من علامات النص الكلية، وجزءا من بنيته العامة، التي يرتبط معها بعلاقة عضوية، تجعله قادرا على تأويل هذ العمل، بحيث تساعدنا هذه الاستراتيجية في القراءة على الوقوف على طبيعة الاشتغال القائم، على استثمار وظائف العنوان الدلالية والرمزية والجمالية، لاسيما من خلال وظيفته الاتصالية، التي يقوم بها على مستوى العلاقة مع المتلقي، من خلال موقع الصدارة الذي يحتله بالنسبة للعمل، وما يترتب على تلك العلاقة من دور في تحقيق وظيفتي تأويل العمل، والإغراء، التي تسهم في عملية اجتذاب القارئ، أو العكس، إضافة إلى وظائفه التسموية والإشارية، التي يفصح من خلالها عن هوية العمل وقصديته ومكوناته، باعتباره يشكل عتبة قرائية، لايمكن إلا منها الولوج إلى عالم النص .

1/1 لقد اتخذت استراتيجية بناء العنوان في أعمال الشاعر أكثر من مسار، عكس مراحل تطور التجربة وتناميها، بشكل يكشف فيه عن وظيفة العنوان الشعرية التي بات يلعبها، ويدل من خلالها على مدى التعالق والترابط العضوي القائم بينه وبين النص، على مستوى التجربة الشعرية من جهة، وبين الشاعر والنص من جهة أخرى، بحيث أصبح العنوان في هذه التجربة يشكل (نواة بنية دلالية كبرى وأولية)(1) تدل على مضمون العمل وتحدد طبيعته، بوصفه جزءا من بنيته الكلية.

   في ديوان الصبي الصادر عام 1982 تقوم استراتيجية العنونة على اختيار عنوان محوري، ليكون عنوانا رئيسا للديوان، لكن ظهوره كمكون من مكونات العنوان المحوري التالي، في الديوان يجعله يتجاوز الدلالة الجزئية، التي يمكن أن يمثلها إلى الدلالة الكلية، باعتباره مكونا جوهريا، يعبر الشاعر من خلال حضوره على المستوى الوجودي عن علاقته بالمكان والزمان، كشرطين أساسيين للتجربة الوجودية التي يعيشها الإنسان، يحاول الشاعر استعادتهما بعد خروجه من فردوس الشام الضائع كنوع من التعويض عن افتقادهما. تتوزع العناوين الداخلية على مجموعة من العناوين المحورية، التي تتوزع هي الأخرى على عناوين رقمية، تحمل دلالة كمية في العناوين المحورية الستة الأولى، وفي الجزء الأخير من الديوان تظهر العناوين الكتابية، التي تقيم تعالقها مع نصوص الديوان، حيث تتميز تلك العناوين ببنيتها اللغوية المكثفة جدا، في حين تتضمن بنيتها الدلالية معاني مجردة ودلالات مكانية وانسانية واسماء أشياء.

   أما في ديوانه طفولة موت الصادر عام 1992 فتقوم استراتيجية العنونة على الترقيم المتسلسل، الدال دلالة كمية، وعلى الترابط بين مكونات أجزائها، باعتبار الديوان بمثابة قصيدة واحدة. وفي ديوان كأس سوداء الصادر عام 1993 يعود الجراح إلى توزيع قصائد الديوان على عدد من العناوين المحورية، مقترنة بالتسلسل الرقمي، بينما تشتمل العناوين المحورية على مجموعة كبيرة من العناوين، التي تتسم بالاقتصاد اللغوي الشديد جدا، إذ تتألف في الغالب من كلمة واحدة لاسم، يحمل دلالات مكانية أو معاني مجردة أو تدل على أشياء، وغالبا ما تأتي بصيغة المفرد. 

  ويتضمن ديوان القصيدة والقصيدة في المرآة 1995 معنى التقابل بين القصيدة، وتمظهرها المتعدد في لعبة المرايا المعاكسة (الواحد مقابل المتعدد).

   يتألف الديوان من عنوانين محوريين، يحمل الأول عنوانا يتألف من كلمة واحدة، تشكل الجزء الأول من العنوان الرئيس (القصيدة)، وتتوزع على مجموعة من القصائد، يستبدل فيها العنونة الكتابية بالترقيم، الدال دلالة كمية، وعلى الترابط القائم بين أجزائها، في حين يتوزع العنوان المحوري الثاني على مجموعة من العناوين الفرعية، مقترنة بالترقيم الحسابي أيضا، بحيث يحمل العنوان دلالتين كمية ولغوية في آن معا، خاصة وأن تلك العناوين ذات بنية وصفية ودلالية مكانية وزمانية. وتشكل العنونة في ديوان صعود إبريل 1995 اختراقا واضحا لاستراتيجية العنونة السابقة، إذ تختفي العنونة المحورية، وتظهر بدلا عنها العنونة الفرعية للقصائد، والتي تتألف من مجموعة من المقاطع التي تحمل تسلسلا رقميا، يحمل دلالة كمية.

   تتميز العنونة في هذا الديوان، كما في أغلب أعماله بالتكثيف اللغوي الشديد، وبكونها ذات بنية دلالية متنوعة ذات معان مجردة ودلالات مكانية وزمنية واسماء أشياء، لكنها لا تخلو على صعيد بنيتها الدلالية من الانزياح الوصفي، الذي يقيم تعالقه مع بنية اللغة الشعرية، التي يحيل عليها كما هي تحيل عليه، والبنية المجازية التي تشكل خرقا لمبدأ العنونة. من هنا يمكن أن نلاحظ أن استراتيجية العنونة في تجربة الشاعر لم تأخذ مسارا واحد، وأنها حاولت أن تجرب اشكالا متعددة من العنونة، بينما نجد في طريق دمشق والحديقة الفارسية أن استراتيجية العنونة أصبحت أكثر تركيبا، وتقوم على مجموعة محاور، دون أن تفقد هذه العنونة شعريتها وتعالقها مع بنية النص اللغوية والدلالية والنحوية والبلاغية.

2/1  الدراسة الأفقية للعنوان

  يظهر التعالق الواضح على مستوى العنونة الشعرية في هذين العملين، من خلال ما تتسم به العنونة في ديواني طريق دمشق والحديقة الفارسية، من بناء مدروس ودال، يقوم على مجموعة من العناوين المحورية الموزعة على أربعة كتب، يحمل كل كتاب منها عنوانا فرعيا إضافيا، يتوزع هو الآخر على مجموعة من العناوين، التي تتباين فيما بينها، من عنوان محوري إلى آخر. 

   كذلك تتوزع العنونة في الديوان الثاني على أربعة عناوين محورية، تتماثل مع العناوين المحورية السابقة، من حيث العدد، فيما يشتمل العنوان المحوري على مجموعة كثيرة من عناوين القصائد، التي تتسم في الغالب بتكثيفها اللغوي الواضح، بينما يتوزع العنوان المحوري ما قبل الأخير على سبع عشرة أنشودة. 

  وفي ديوانه دم قابيل والأيام السبعة للوقت الذي صدر حديثا 2012 فنلاحظ كما هو الحال في العنوان الرئيس السابق البنية المركبة للعنوان، والتي تقوم استراتيجية العنونة فيها على مقاصد دلالية، ترتبط بصورة عضوية بالبنية التكوينية لقصائد الديوان، كما سيظهر لاحقا من خلال التاريخ، الذي أنجزت فيه كتابة قصائد الديوان، والممتدةعلى مدى اثنين وعشرين عاما. 

  يستمد عنوانا الديوان الأخير جزءا مهما من معناهما، من المرجعية الخارجية التي يحيلان عليها، ويشتركان بها، ممثلة بالمرجعية الدينية الإسلامية واليهودية، من خلال استدعاء العنوان الأول لاسم العلم لشخصية قابيل، مقترنا بالواقعة التي ارتبطت بها تاريخيا، وهي جريمة قتل أخيه هابيل، حيث تتأتى دلالة هذا الفعل التراجيدي على المستوى الوجودي الإنساني، من كونه أول جريمة تحدث في التاريخ. ويتقاطع مع هذا العنوان ذي الدلالة الزمنية، والبالغ التكثيف على مستوى بنيته اللغوية العنوان الثاني للديوان، من حيث المرجعية الخارجية التي يحيل عليها، ويستمد جزءا مهما من معناه منها، وهي المرجعية الدينية اليهودية المتمثلة بقصة الخلق التوراتية، كما يبدو ذلك من القراءة الأولية، في حين أنه يستمد جزءا آخر من معناه، من داخل النص الذي يحيل عليه ويتعالق معه، والمتمثل في تظاهرات الجمعة الاسبوعية، التي تعبر عن النضال السلمي للثورة السورية العارمة، التي باتت تنطلق على طول الجغرافية السورية، للمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة وإسقاط سلطة الاستبداد والقتل والفساد.

   إن تلك الإحالة على المرجعية الخارجية للعنوانين، تتكامل على مستوى البنية الدلالية، من خلال علاقة الارتباط العضوية، التي يقيماها مع نصوص الديوان التي يشكلان جماع وحدتهما الدلالية الكبرى والأولية، الأمر الذي يجعل منهما( مفتاحا تأويليا يقومان بوظيفة ربط القارئ بنسيج النص الداخلي والخارجي)(2).

   تظهر الطبيعية التكوينية المركبة للعناوين المحورية للديوان الأول( طريق دمشق) من خلال اختيار الشاعر لعنوان جامع، يتوزع على تلك العناوين الأربعة المحورية، هو عنوان الكتاب مقترنا بالعنوان الثاني، الذي يكتمل به المعنى الصريح للعنوان بوصفه معادلا رمزيا بديلا لمتن النص.

   إن اختيار الشاعر لمصطلح الكتاب كعنوان محوري أولي، ينبع من المعنى الرمزي، الذي يمثله مفهوم الكتاب على المستوى الثقافي الديني والأدبي، ما يجعل العنوان يحيل من خلال هذا التناص، الذي يقيمه مع المرجعية الدينية، على مرجعية خارجية، يستمد منها بعضا من قيمته الرمزية والأدبية الخاصة، في الوقت الذي يشكل فيه معادلا رمزيا لنصوص الديوان.

   إن قراءة هذه العنونة أفقيا، في إطار استراتيجية العنونة، التي أشرنا إليها، في أعماله السابقة، تظهر علاقة الاتصال والانفصال التي تقيمها معها، الاتصال على مستوى المكونات التركيبية ذات البنية النحوية الاسمية للعنوان، وعلى شعرية العنوان التي تجعل منه معادلا رمزيا ذا دلالة للعمل، الذي يحيل عليه، كما هو يحيل عليه، والانفصال على مستوى الإضافة والتعديل التي طرأت على مفهوم العنوان، والإحالات التي يقوم بها على مستوى تفسيرمعناه، من خلال التعالق الذي يقيمه مع المرجعيات الخارجية، التي تتمثل بالمرجعية الدينية المسيحية لقصة بولس الرسول الذي ظل يطارد المسيحيين حتى حدود دمشق، لتحدث الانعطافة الكلية هناك في موقفه منها، والتي ستحوله من مضطهد لها، إلى مبشر برسالتها الدينية، ورمز لها.

  وعلى خلاف استراتيجية بناء العنوان في أعماله السابقة يلجأ الشاعر إلى العنونة المزدوجة، بسبب الجمع بين عملين شعريين اثنين في ديوان واحد، نتيجة التباعد في المدة الزمنية بين صدور هذا الديوان، وآخر ديوان صدر له قبل أكثر من نصف عقد من الزمن، وهو ما ينطبق على الديوان الأخير أيضا.

  لقد ظلت استراتيجية بناء العنوان في أعمال الجراح المختلفة محافظة على بنيتها التكوينية الأساسية، وعلى وظيفة العنوان في تشكيل المعادل الرمزي للعمل، وهو ما يتجلى للقارئ في تعالق تلك العناوين مع بعضها البعض، سواء من حيث ما تتميز به تلك العنونة من اقتصاد لغوي شديد، أو بنية نحوية ذات طابع اسمي، أو من حيث وظيفتها الشعرية وبنيتها الاستعارية، وتكثيفها واختزالها لمضمون تجربة الديوان الذي تتوجه، باستثناء ديوان الصبي الذي شكل نوعا من الانزياح عن هذا الخط العام لتلك الاستراتيجية.

  إن التطوير والاشتغال المكثف على بنية العنوان ستطال شبكة التعالقات والتفريعات، التي تقيمها العنونة المحورية والفرعية الداخلية مع بعضها البعض، داخل العمل، والتي باتت تمثل علامة أساسية من مجموع علامات النص، أو بنية موازية تتضمن العمل، كما هو يتضمنها وفق رؤية جيرار جينيت لوظيفة العنوان .

3/1 الدراسة العمودية للعنوان

  يتوزع ديوان طريق دمشق على أربعة عناوين محورية، تحمل اسماء الكتاب الأول والكتاب الثاني والكتاب الثالث والكتاب الرابع. يتألف الكتاب الأول من عنوان ثان يحمل دلالات مكانية- زمنية (جهة الصيف) ويتوزع على مجموعة من العناوين التي تتباين في بنيتها اللغوية والدلالية، إضافة إلى أن بعض نصوصها التي تتألف من مجموعة من المقاطع، يحمل كل مقطع منها بدلا عن العنونة الكتابية رقما خاصا، وفق التسلسل الحسابي اللاتيني، أو اسماء أماكن في مدينة دمشق القديمة، وهذه العناوين هي (علامة1 – سيبتيموس سيفيروس- حجر يتحرك- دم الصيف- سطح بعيد- نزول قاسيون- مرثية الصخر الوردي- دمشقي في ملاك أسود وجناحان برتقاليان- علامة1. 

  تنبع المقاصد الدلالية لاختيارات الشاعر على صعيد العنونة التقليدية التي يستبدلها بمصطلح الكتاب من القيمة الرمزية والدلالية التي يكتسبها مفهوم الكتاب، لاسيما في الثقافة الإسلامية. يلجأ الشاعر لاستخدام عنوان ثان للعناوين المحورية، تكون وظيفته هي تفسير العنوان الأول، ورسم حدوده ومداراته القولية والدلالية، من خلال شعريته، وعلاقة الارتباط العضوية التي يقيمها مع النص.

   أما على مستوى البنية اللغوية، فإن تلك العناوين تتباين من حيث اقتصادها اللغوي الشديد، وطولها النسبي، كما إنها على المستوى الدلالي تتباين أيضا، إذ يحمل بعضها عناوين ذات معنىمجردا( علامة 1- علامة 1) أو دلالة مكانية( سطح بعيد- نزول قاسيون) أو زمانية (دم الصيف) أو اسم شيء (مرثية الصخر الوردي) أو اسما تاريخيا إغريقيا يستدعيه الشاعر (سيبتيموس سيقيروس) أو اسم شخصية دينية غير مدركة (ملاك أسود وجناحان برتقاليان) أو شخصية بلقبها (دمشقي في).

   وتتسم البنية النحوية لتلك العناوين بغلبة الطابع الاسمي ذي السمة الوصفية على تلك العناوين، التي تتميز أيضا بحذف مبتدئها، ليكون العنوان خبرا لهذا المبتدأ المحذوف. ويشترك عنوان ديوان الثاني الحديقة الفارسية مع العنوان السابق، سواء من حيث بنيته النحوية والدلالية أو اللغوية، فهو يتميز أولا باقتصاده اللغوي الشديد، إذ يتألف من كلمتين، وعلى مستوى بنيته النحوية يتألف من جملة اسمية، تمَّ حذف مبتدئها، في الوقت الذي تحمل فيه بنيته الدلالية دلالة مكانية ذات بنية مجازية.

   كذلك يتماثل مع الديوان السابق من حيث عدد العناوين المحورية الأربعة، التي تتوزع عليها العناوين الداخلية للنصوص. تقوم استراتيجية العنونة في أعمال الجراح المختلفة على يمكن أن نسميه العنونة التفريعية، أو ( الشجرية)، والقائمة على مركزية العنوان الرئيس، ومن ثم يفرع هذا العنوان إلى مجموعة من العناوين المحورية، التي تتفرع بدورها إلى مجموعة كبيرة أوصغيرة، من العناوين الداخلية الكتابية أو الرقمية لقصائد الديوان. إن علاقات التعالق والإحالة التي تقيمها تلك العناوين فيما بينها، تظهر وتمظهر تلك الشبكة المحكمة من العلاقات المتبادلة التي تتوخى عمليات بناء العنوان الخارجية والداخلية تحقيقها، إلى جانب وظيفتها الشعرية على مستوى علاقتها مع النص الشعري، التي ترتبط معها بعلاقة عضوية أيضا.

   يشتمل ديوان الحديقة الفارسية على أربعة عناوين محورية، هي أولا ( قناع شخص- مرثية إغريقية) الذي يظهر المعنى الدلالي المطلق، من خلال بنيته النحوية التي ينضاف فيها الاسم الأول قناع إلى اسم نكرة شخص، لذلك يضيف الشاعر إلى العنوان الأول عنوانا ثانيا لكي يكتمل الجزء الصريح منه ويغدو أكثر تحديدا لمجاله الدلالي الذي يشتغل عليه العنوان.

   أما العنوان المحوري الثاني فيكتفي بعنوان وحيد صيف التنين، بينما يعود العنوان الثالث لاستخدام العنونة المركبة، التي ينضاف فيها العنوان الثاني ( شذرات وتناصات عربية وفارسية)إلى العنوان الأول أنشودات في بستان خير الدين الأسدي.

   تتجلى وظيفة العنوان في التصريح عن طبيعة البنية الفنية للنصوص، وتعالقاتها النصية، التي تقيمها مع مرجعيات خارجية مختلفة. وعلى خلاف العنونة المحورية السابقة نلاحظ الطول النسبي الواضح للعنوان، واستبدال مفهوم القصيدة بالنشيد.

   في العنوان المحوري الأخير بارقة في صحراء، يظهر التكثيف الشديد على مستوى بنية العنوان اللغوية، في حين تتقاطع جميع تلك العناوين المحورية، على مستوى بنيتها النحوية، التي تتألف من جملة اسمية . يتوزع العنوان المحوري المركب الأول قتاع شخص : مرثية إغريقية على ثلاثة عشر عنوانا داخليا، تحمل أجزاء بعض القصائد أرقاما حسابية لاتينية، بينما يلجأ إلى استخدام العنوان الثاني في بعض تلك العناوين (وحشة ما قبل الليل: أنشودة أوزيريس). تتعدد اشتغالات العنونة هنا، ففي حين نلاحظ البنية الاسمية للعنوان، نجد أن العنوان الأول الذي يحمل دلالة زمنية، يعقبه العنوان الثاني الذي يستدعي فيه شخصية أسطورية فرعونية( أوزيريس)، ويحمل دلالة فنية توضح بنية النص الشعري الفنية. وإذا كانت تلك العناوين الفرعية تتميز جميعا باقتصادها اللغوي الشديد باستثناء ثلاثة عناوين هي (وحشة ما قبل الليل- أنشودة أوزيريس/ منزل في جغرافية بعيدة- أنشودة أوديسيوس ب/ شيء متروك في كسور الرقيم) اشتمال العنوان فيها على عنوان ثاني يكمل معناه الصريح، فإن تلك العناوين تحمل في بنيتها الدلالية معاني مختلفة مكانية وزمانية وصفات ومعان مجردة. 

   يتعالق العنوان المحوري الثاني (صيف التنين) مع العنوان المحوري الأول على مستوى الافتصاد اللغوي الشديد وبنيته النحوية (الجملة الاسمية) وإن كان هذا العنوان هوعنوان داخلي لإحدى القصائد انتخبه الشاعر لمقاصد دلالية ليكون عنوانا محوريا، دون أن يكون هناك حاجة إلى عنوان ثان .

   العنوان المحوري الثالث (أنشودات في بستان خيري الدين الأسدي: شذرات وتناصات عربية وفارسية) ينحو نحو الطول النسبي في بنيته اللغوية، وإن كان يتقاطع مع العناوين المحورية الأربع من حيث البنية النحوية (الجملة الاسمية). 

  وعلى غرار العنوان المحوري السابق يستدعي العنوان شخصية شعرية سورية تعد من الرواد الأوائل لقصيدة النثر عربيا، بينما يكتفي العنوان الإضافي الثاني بتوضيح طبيعة اشتغالات النصوص الداخلية، وتعالقاتها مع المرجعيات الشعرية العربية والفارسية، إلى جانب توضيح طبيعة بنية تلك النصوص فنيا ( أنشودات) ما يجعل تلك العنونة تشكل بنية صغيرة ترتبط ببنية النص الكبرى وتحيل عليها، بصورة تقوم من خلالها إضافة إلى وظيفة الإعلان بتوجيه القارئ والتأثير فيه، ومنهجة عملية القارئ .
    تحمل العناوين الداخلية للنصوص دلالة كمية تنضاف من خلال استخدام الترقيم الحسابي اللاتيني إلى العنونة الكتابية (أنشودة) ما يدل على طبيعة التعالق والعلاقة العضوية القائمة بين العنونة المحورية والعناوين الفرعية للنصوص والتي تتخذ منحى علاقة الجزء بالكل (صيغة المفرد مقابل صيغة الجمع).

   ويبلغ العنوان درجة عالية من التكثيف اللغوي في العنوان المحوري الرابع والأخير (بارقة في صحراء) الذي يتميز إلى جانب بنيته الاسمية بدلالته المكانية. وعلى غرار العنونة الداخلية السابقة تتميز العناوين الداخلية للنصوص الشعرية باقتصادها اللغوي الشديد، فهي تتألف في الغالب من جملة اسمية (حلم ساعة- أخبار عنك- برهات لي- شريطة حمراء/ لعبة اسمها الحرية- أنشودة السائر في الليل/ ضوء أندلسي- خيال فتى في خضرة- وراء الساعة- يومية في دفتر قديم- بورتريه في المطار بقلم الرصاص). لقد انفردت ثلاثة عناوين من العناوين الداخلية ببنية مختلفة، اثنان منها يتميزان ببنية فعلية( كنت في مدينة- اذهبي إلى الفجر ) وعنوان واحد يتألف من جملة شرط غير جازمة ( إذا جئت ولم أكن) مع اختلاف واضح في ضمير المتكلم فيها، وفي ضمير المخاطب.

   الميزة الوحيدة التي تنفرد فيها العنونة الداخلية هي استخدام العنوان الإضافي (أنشودة السائر في النوم: ضوء أندلسي- كنت في مدينة: وهلة لاهية- شريطة حمراء: لعبة اسمها الحرية) في حين استخدم متوالية العنونة في قصيدة واحدة مرفقة بالترقيم الحسابي اللاتيني ذي الدلالة الكمية هي (خيال فتى في خضرة:1- جهة الصحراء 2جهة الكلمات).

  إن هذه الاستراتيجية في العنونة الداخلية تقيم تعالقها مع العنونة الخارجية، وفي الآن ذاته تكشف على مستوى آخر عن الرغبة في تنويع استراتيجيات العنونة، بما يجعلها أكثر ارتباطا ببنية النص، وأكثر دلالة عليه وتكثيفا لمضمونه، دون أن تقع في التكرار أيضا.

   تتوزع العناوين الفرعية لديوان دم قابيل والأيام السبعة للوقت، على عنوانين محوريين اثنين، العنوان المحوري الأول (الأيام السبعة للوقت)، الذي تحول إلى عنوان رئيس ثاني للديوان، مستمد من النص الشعري، ويشكل محورا أساسيا فيه، ومفتاحا للدخول إلى عالم القصيدة، بوصفه ثيمة تعتبر من أهم التيمات الدالة، على ظاهرة محوربة جامعة للنضال السلمي للثورة السورية، وهو الموعد الأسبوعي الذي تنطلق فيه المظاهرات عادة في المدن والأرياف السورية. يكتفي هذا العنوان بذاته على الرغم من طول القصيدة، التي تشكل وحدة عضوية، دون أن تتفرع منه أية عناوين كتابية، أو رقمية فرعية، كما كان عليه الحال في أعمال أخرى.

   العنوان المحوري الثاني الذي يحمل عنوان أجنحة الصائح وقصائد أخرى، يشير العنوان المركب الذي تربط بين جزئيه واو العطف إلى مستويين اثنين من النصوص، التي تندرج تحته، المستوى الأول يحمل عنوان أجنحة الصائح، بينما تندرج النصوص الأخرى تحت عنوان ذي دلالة فنية شعرية عامة. إن فهم الأساس الذي قامت عليه هذه العنونة ذات الدلالة العامة، لا يمكن أن تنجز أهدافها دون قراءة عتبات الديوان الأخرى، وفي المقدمة منها الإشارة التي تتصدر الديوان، وتحدد تاريخ كتابة نصوص الديوان، التي تمتد على مدار عقدين ونيف من الزمن، ما يجعل هذه المسافة الزمنية الطويلة، تترك أثرها على شواغل النص الشعري ومناخلته ولغته. تتبدى العلاقة العضوية التي يقيمها العنوان مع النص، والتي تكسبه شعريته من خلال استدعاء اسماء شخصيات معروفة في القصص الديني، مرتبطة بالواقعة التي تحيل عليها، أوعبر استدعاء عنصر من عناصر الحكاية القرأنية الأساسية، وفي مقدمتها شخصيات قابيل ويوسف والغراب، إضافة إلى شخصيات أسطورية غربية، مثل أوديب وسيزيف وتيريسياس.

  القصائد الأولى التي تندرج في إطار العنوان المحوري الثاني، تجمعها وحدة التجربة والمناخ، وهي تشتمل على سبع عشرة قصيدة، تتباين من حيث تكثيفها اللغوي وطولها النسبي، وكذلك من خلال استخدام العنوان الثاني الذي ينضاف إلى العنوان الداخلي الأول، لكي يوضح معناه، إضافة إلى تناصه مع مرجعيات إغريفية تاريخية وأدبية، ومرجعيات إسلامية، من خلال استدعاء اسماء العلم مقترنة مع الواقعة التي تحيل عليها، لكنها باستثناء عنوان واحد يتألف من جملة فعلية (قال أخوة يوسف: رسالة إلى الآباء) وعنوان واحد يتألف من شبه جملة (بعد تأمل: في رثاء شاعر إغريقي) تتميز على مستوى البنية النحوية بكونها تتألف من جمل اسمية ( العاصفة)، وتتوزع على مجموعة من المقاطع، يحمل كل مقطع منها رقما حسابيا خاصا (أنشودة الراجع من الكهف- تلك النظرة- أغنية في مركب- المارش الدامي- طفل تيريسياس: أوديب راجعاعلى الطريق نفسها- نشيدمتأخر لبحار قديم- موعد مع قابيل في مفهى على البحر- مرئيات من وراء زجاج في يوم بارد- مقعد خليع تحت سماء واطئة: أغنية رمزية لصحراء في تافذة- كلمات الشقيق- مساء في دمشق: أنشودة نائم عند نهر- سيزيف عربي يسكن في مدينة عربية – قصيدة إلى غراب)

   تحمل تلك العناوين من حيث بنيتها الدلالية معاني مختلفة، أهمها معاني مكانية(مقعد خليع تحت سماء واطئة: أغنية رمزية لصحراء في نافذة/ سيزف عربي يسكن في مدينة عربية- أنشودة الراجع من الكهف- أغنية في مركب)، أومعاني مكانية وزمانية (صبية يلهون بصيف في زقاق/ مساء في دمشق: أنشودة نائم عند النهر) أوطبيعية( العاصفة) أومعاني أدبية فنية( المارش الدامي- نشيد متأخر لبحار قديم/ كلمات الشقيق/ قصيدة إلى غراب).

  تخلص القراءة السابق في استراتيجية بناء العنوان في عملين اثنين من أعمال الشاعرة الأخيرة إلى جملة استنتاجات أساسية أولها علاقة الانفصال والاتصال التي تقيمها تلك العنونة مع بعضها البعض، والتي تتوضح في تعدد أشكال العنونة حتى في الديوان الواحد وفي كلية أو جزئية تمثيله للنص الشعري عبر حالات محددة من العنونة، وذلك للخروج من حالة النمطية، التي يمكن أن تقع بها العنونة، بما يفقدها غناها وقدرتها على التجديد والإضافة، التي تتلازم مع سيرورة النص الشعري بسبب العلاقة العضوية القائمة بين العنونة والنص الشعري في تلك التجربة. 

  أما علاقة الاتصال فهي تتبدى في علاقة الارتباط العضوية القائمة بين ثنائية العنوان والنص، والتي جعلت منه عنصرا بنائيا لايمكن قراءته بمعزل عن النص، أو قراءة النص بمعزل عنه، وكذلك في استقرار أغلب أشكال تلك العنونة، في إطار تعدد استراتيجيات العنونة، والتي كان يتم اختراقها وفق حاجات النص الجديد، أو طبيعة التجربة المقدمة، إضافة إلى التركيز الشديد على وظيفة العنوان الدلالية، وعملية بنائه على مستوى وظائفه الجمالية والدلالية والبلاغية، التي تجعل منه نصا صغيرا ملازما للنص الكبير، الذي يحيل عليه، كما هو الحال بالنسبة للنص الكبير.

   إن هذا التركيز على شعرية العنوان ووظائفها المختلفة، لاسيما على مستوى تعيين طبيعة النص، وعلاقته الاتصالية مع المتلقي، جعلت بناء العنوان في تجربة الشاعر، تتميز بكونها من أكثر التجارب اهتماما باستراتيجيات بناء العنوان، ووظائفه المرجعية والجمالية والانفعالية والميتالغوية، كما يحدِّدها جان كوهين في كتابه الشهير قضايا الشعرية.

   إن تلك الاستراتيجية لا يمكن فهم طبيعتها البنائية ومحفزاتها وأهدافها، خارج علاقتها العضوية بالنص الشعري الذي تتوجه، وتتحول إلى واجهة إشارية دالة عليه، ذات بعد إيحائي، يشكل خلاصة جزئية له، الأمر الذي يكشف عن أهمية العنونة ووظائفها واستراتيجيات بنائها، التي يوليها الشاعر أهمية خاصة، بوصفها جزءا لا يتجزأ من الرؤية الحداثية لمشروع الكتابة الشعرية الجديدة، يكشف عنه ويدل عليه التعالق القائم بين العنوان والقصيدة، من حيث البنية التركيبة والمجازية واللغوية للعنوان، والتي تشي بالوحدة الموضوعية للتجربة الشعرية ككل، وعلى وعي الشاعر بأهمية الوظائف، التي يلعبها العنوان على مستوى وحدة القصيدة والتجربة الشعرية من جهة، وعلاقتها بالمتلقي على مستوى عملية الاستقبال من جهة ثانية.

الهوامش

(1) العنوان: سيموطيقيا الاتصال الأدبي- محمد فكري الجزار- الهيئة المصرية للكتاب- القاهرة 1998- ص 77.

(2) هوية العلامات: في العتبات وبناء التأويل- شعيب حليفي- المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 2004- ص 28 .



ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة