الاثنين، 9 نوفمبر 2015

الإرهاب وصنّاعه : المرشد والطاغية والمثقف - علي حرب ...


الإرهاب وصنّاعه : المرشد والطاغية والمثقف 



تأليف : علي حرب


الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت


الطبعة الأولى

  كتاب علي حرب مفيد في استحضاره القضايا الشائكة والساخنة التي تغرق بعنفها المجتمعات العربية اليوم، وهو في جوهره يشكل دعوة إصلاحية سياسية وفكرية ودينية يحتاجها العالم العربي أكثر من أي وقت مضى.

الإرهاب الإسلامي وصنّاعه.. المرشد ـ الطاغية ـ المثقف

علي حرب

مقدمة

هل هناك علاقة بين الإسلام والإرهاب؟

   هذه المسألة باتت واحدة من مشكلات الساعة، منذ تفجيرات أيلول الاميركي عام 2001. من هنا يحتدم النقاش حولها ويتجدد، مع كل عملية إرهابية أو غزوة جهادية تصدم الرأي العام الإسلامي والعالمي. هذا ما حصل بعد تعرض صحيفة شارلي ايبدو للهجمات في قلب باريس في شهر كانون الثاني المنصرم 2015 .

   من هنا هذا الفيض من الكتابات حول النشاط الإرهابي، وفيها يتردد ما تّم نحته أو اختراعه من الأسماء والمصطلحات من جانب الحركات والمنظمات الإسلامية مثل القاعدة، النصرة، داعش، حزب الله، أنصار الله، الحركات، الشباب الإسلامي، بوكو حرام... أو ما تّم استعادته وإحياؤه، من التراث الإسلامي، من المفردات التي جرى تعويمها وتلوينها أو نقضها بمعانْ ودلالات جديدة، مثل الخليفة الإمام، الشريعة، الجهاد، جهاد النكاح، الفتوى، الجلباب، البرقع؛ هذا فضلاً عما جرى تعريبه أو تركيبه من جانب الغربيين أنفسهم من مصطلحات مثل الإسلامية، السلفية، الجهادية، كره الإسلام، الخوف من الإسلام.

  وهكذا نحن إزاء معجم للإرهاب تحفل به الخطابات التي تتناول الظاهرة بالدرس، للوقوف على أسرار نشوئها وقوّتها وانتشارها. إنه معجم عربي يغزو لغات العالم، لكي يشكل الوجه الآخر للغزو البربري الذي تشنّه المنظمات الإرهابية. فما أبأسه وما أشنعه من غزو مزودج، لغوي عسكري، للحضارة الحديثة.

  في أي حال، نحن إزاء قضية معقدة وشائكه تطرح أسئلتها المربكة على الجميع، عرباً وغربيين، مسلمين وغير مسلمين. ولذا تختلف المقاربات بشأنها وتتضارب الآراء، بين النفي والإيجاب، بين تزييف الحقائق وفهم الوقائع، بين التبسيط الفادح والتحليل الكاشف.

- أهل النفي

  الملاحظ أن أكثر المسلمين ينفون أن تكون هنك صلة بين الدين الإسلامي وبين ما ترتكبه باسمه المنظمات الجهادية من العنف الفاحش. فالرأي المستقر في الأذهان هو أن الإسلام دين يتصف بالتسامح ويمتدح الاعتدال والتوسط.

  هذا ما تؤكده المؤسسة الدينية على لسان أهلها من علماء ودعاة. وهذا ما يؤمن به المسلم العادي. بل ها ما يجاري فيه المسلمين، أناسٌ من غير المسلمين، وبالأخصّ منهم المسيحيون، إما على سبيل المجاملة، أو لأنهم بدفعهم تهمة الإرهاب عن الإسلام، يحفظون خط الرجعة، دفاعاً عن دياناتهم وعقائدهم. وأصحاب هذا الرأي يردّون النشاط الإرهابي إلى أنظمة الاستبداد والفساد في الداخل، أو إلى تدخّل الدول الكبرى من الخارج. ولكن ما ينفونه ويتعامون عنه يفعل فعله بصورة مضاعفة، دماءً ودماراً، لكي يفاجئهم ويصدمهم من حيث لا يحتسبون.

- الطوطم والتنين

  ما حاولته في الفصول الآتية، هو السير بعكس الاتجاه، لتبيان العلاقة البنيوية بين الإسلام والإرهاب من وجهين:

  على المستوى الفكري ثّمة علاقة منطقية بين المفهومين. فالإسلام بوصفه ديناً يؤمن أتباعه بأنهم أصحاب كتاب مقدّس ينطق بالحقيقة المطلقة والنهائية، هو مصدر لإنتاج التعصّب والتطرّف والعنف، لأن مآل مثل هذا الاعقتاد المغلق والنهائي، هو قمع حرية التفكير بتغليب الأمر على الراي، والاشتغال بلغة الإدانة والتكفير، على سبيل الإقصاء للآخر على المستوى الرمزي أو الجسدي. وهذا هو مآل كل مشروع أصولي جذري يدّعي أهله احتكار الحقيقة، ويفكّرون بعقل أحادي قدسي أو بمنطق شمولي إستبدادي أو بمنهج ثبوتي دغمائي.

  على المستوى المجتمعي ثمة علاقة طبيعية بين الإرهاب والإسلام، لأن المجتمع الإسلامي يشكّل، بمؤسساته وجمعياته الاخوانية، البيئة الحاضنة التي يتحرك فيها النشاط الإرهابي. بهذا المعنى فالإرهاب هو ثمرة لصعود الإسلام السياسي على المسرح، بأحزابه ودعاته ونجومه الذين احتلّوا الشاشات والساحات، بقدر ما ابتلعوا باقي السلطات العائدة للأهل والمعلّم والمثقف والنقابيّ والشرطيّ والسياسي.

   ومن السذاجة أو المداهنة أن نقفز فوق هذا الجذر الديني المولد للعنف كما تمارسه التنظيمات الجهادية، الجذرية والإرهابية، أعني كون المسلم يعتقد بأن الله واحد والحق واحد، والكتاب واحد، والتفسير الصحيح واحد، الإسلام الأصولي واحد، والفرقة الناجية واحدة. مثل هذا المعتقد الاصطفائي، الذي يحتقر أصحابه الآخر ويعتدون عليه رمزياً أو جسدياً، هو الذي حوله الجهاديون، اليوم، إلى طوطم نبوي وديناصور فكري أو إلى متراس طائفي وتنين إرهابي.

- إرادة الممانعة

   مثل هذه المقاربة التي تحاول التصدّي للمشكلة، بوضع الثقافة الإسلامية والنصوص الدينية على مشرحةالنقد والتحليل، تلقى الرفض في الأوساط الإسلامية، سوءا في ما يخص مسألة الإرهاب أو سواها من المسائل.

  هذا ما يفسر ردّات الفعل السلبية أو العنيفة ضد أعمال المساءلة النقدية والمراجعة العقلانية للنصوص الدينية، كما تشهد دعاوى التكفير والردّة من جانب الإسلاميين ضد الكتّاب والفنانين والمفكرين، منذ زمن طه حسين في العشرينات من القرن الفائت. واليوم يزداد الإسلاميون شراسة، كما تشهد محاولات نفي أو اغتيال أصحاب الكتابات النقدية للتراث والدين، أو أصحاب الرسوم الكاركاتورية التي تمسّ الرموز والمقدّسات الإسلامية، أكانوا مسلمين أم غير مسلمين.

  نحن إزاء مقاومة عنيفة لإرادة الفهم، الرامية إلى الكشف عن مصادر العطب والخلل في المجتمعات العربية، تشبه مقاومة مرضى النفس لمحاولات الكشف عمّا خفي واستعصى، مما يعانون منه من العيوب والنواقص والعقد. إذ يشق على المسلم أن يسلّم او يقتنع بأن ما يمارس من عجز وتخلف، أو من عنف وإرهاب، إنما مردّه إلى عقيدته الدينية. فنرجسيته الثقافية تمنعه من قبول ذلك. وهذا مثال يكشف كيف أن المؤمن يجهل أصول ديانته أو مآل ثوابته العقائدية أو محرماته اللاهوتية.

  وهذا العطل يتغذّى من التهويلات الإيديولوجية التي يمارسها حرّاس العقائد، بذريعة الخشية على الهوية والثوابت من الغزو الثقافي الغربي. ولا أنسى وجهاً آخر لهذا العطب يتأتى من جهة الممسكين بالسلطات الدينية أو السياسية، ممن يتستّرون بستار الهوية، أو يتذرعّون بالدفاع عن ثواب الأمة، لكي يقفوا في وجهة محاولات الإصلاح أو النقد التي تزعزع سلطاتهم وتكشف عن عيوبهم ومساوئهم. 

   والنتيجة هي طمس المشكلة وتمويهها، بل التمسّك بما يعيد إنتاجها على النحو الأسوأ. وهذه رأس الآفات الفكرية في المجتمعات العربية: إعتبار المشكلة هي الحل، كما تتجسّم في التمسّك بالثوابت والمحرمات.

- إيجابية النقد

  والعكس صحيح، فالنقد الذي هو محل هجوم وإستبعاد من جانب حرّاس الهوية، قد يكون له مفاعيله الإيجابية والبنّاءة. بالطبع هو لن يقبض على حقيقة الواقع. هذا وهم كبير وقع فيه أصحاب المشاريع الإيديولوجية والمدارس الفكرية القديمة والحديثة. وإذا كان ثمة إجماع على أن المجتمعات العربية تعيد إنتاج الأزمات بشكلها الأسوأ والأخطر، فإن ما تسفر عنه المقاربات النقدية، من كشف وتعرية وفضح، للعيوب والآفات والأعطال، قد يفتح الأبواب لتشكيل قناعات جديدة تسهم في معالجة الأوضاع المأزومة، بتفكيك عوائق النمو الإقتصادي أو التحول الديموقراطي أو التقدّم الحضاري. ولو كانت الثوابت التي يتمسكون بها هي الحصن المنيع أو العلاج الفعّال، لما وصلت المجتمعات العربية إلى ما هي فيه من العجز والشلل والتردي.

- ديناصورات الحاضر

   إن هذه المقارنة النقدية لظاهرة الإرهاب، وإن تم التركيز فيها على المؤسسة الدينية، بآلهتها وعمالها، فإنها ليست وحيدة الجانب، وإنما تشمل ثلاثة فاعلين يشكلون ثالوث المرشد والطاغية والمثقف. وهم، وكما أصفهم، ملاك الله والأوطاون والحقيقة. وكل فاعل منهم قد أسهم في صناعة ما نشكو منه، بأدواته وعلى طريقته:

- المرشد الذي يسخر اسم الله لسلطته وأهوائه أولاحقاده ومغامراته، بقدر ما يتعامل مع كل من لا يفكر على شاكلته، بلغة التكفير والاقصاء أو الإرهاب والإستئصال.

- الطاغية الذي يتعامل مع بلده كمالك الملك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء. والحصيلة هي الإستبداد والفساد والإرهاب، والإطاحة بمكتسبات الدولة الحديثة، في ما يخص مفاهيم المواطنة، والعلمانية، والديمقراطية.

- المثقف الذي لم يحسن طرح أفكاره، ولم ينجح بالعمل عليها لإعادة ابتكارها وتحويلها بحيث تترجم الى منجز حضاري سياسي وإقتصادي أو مجتمعي. 

  ولا أراني أظلم المثقف الحداثي بذلك. فهو كأحد عمال الفكر مسؤول، قدراً من المسؤولية، عما حدث ويحدث. ليس فقط لأن الكثيرين من دعاة الحداثة قد وقفوا الى جانب الأصوليات الدينية والديكتاتوريات السياسية؛ بل لأنه أخفق في تجديد الأفكار، بقدر ما تعامل مع قضاياه بصورة سلفية تقليدية، ديكتاتورية، بوصفها حقائق نهائية. 

  بهذا المعنى فالمثقف الحداثي قد خدم الطاغية السياسي من حيث لا يحتسب. وهو الى ذلك قد شكل الوجه الآخر الداعية الأصولي ومن حيث لا يعقل. كلاهما تحول الى ديناصور، المثقف بعناوينه المستهلكة، والداعية بشعاراته البائدة. كلاهما صنيعة الأخر ومتواطىء معه، من حيث يعرف أو لا يعرف.

   ومن المفارقات أن يتحدث مثقفون غربيون وعرب، عن عودة التاريخ أو انسداده أو بؤسه، فيما هم باتوا من ديناصورات الحاضر، كما هي حال أصحاب المشاريع الأيديولوجية والسياسية، من باديو إلى تشومسكي ومن بورديو إلى جيحيك، وسواهم من الذين فبركوا عوالم لا صلة لها بالواقع البشري، لكي تصح تصوراتهم المثالية والطوباوية. لقد أرادوا تغيير العالم، فتغير بعكس ما فكروا فيه أو بخلاف ما أرادوا له. وهذا هو مأزق صاحب المشروع: لا يدرك مبنى أقواله ومآلات أفعاله. أما نظراؤهم العرب فهم أكثر بؤساً، على المستوى الفكري، ما دام الواقع العربي هو أكثر تردياً.

  لنحسن تشخيص الواقع. ليس مقنعاً أن نحصد كل هذه الهزائم والكوارث، ثم ندعي بأنه لم يؤخذ برأينا، أو لم يتحد لنا أن نلعب أدوارنا. ولا يعقل أن نكون الأكثر حضوراً وسط المشهد الثقافي، ثم تصل الأوضاع الى ما هي عليه من التراجعات والإنهيارات. 

   الأحرى القول بأننا لعبنا أدوارنا بالمقلوب، إذ حسبنا المشكلة حلاً. وبالعكس. فالعلة هي في أفكارنا التي أنتجت ما به نفاجأ ونصدم من التراجعات والإنهيارات.

  والممكن هو أن نتغير في الفكر والمسلك، في العدة والطريقة، في الإستراتيجية والمعاملة. ما عاد يجدي ان نحلل ونشخص الواقع بإستخدام مفرادات وشعارات تمت إلى عالم فكري ولى زمنه، ولذا فهي لا تنتج إلا ما ندعي محاربته. وإذا كانت الأفكار قد شاخت في الغرب، ففي العالم العربي، لا أفكار خلاقة أو راهنة، لدى من نسميهم شيوخ الفكر ومنظريه، هي من بنات فكرهم. ولذا نجد الذين يتصدرون واجهة التنظير، من دعاة التغيير، إنما يفتقرون إلى النظريات الخارقة والرؤى المستقبلية. ومرد هذا العجز إلى كونهم قد استمروا، طوال عقود، يجترون العناوين والشعارات حتى باتت خاوية، عقيمة، صدئة، مدمرة، وإلا من أين أتى كل هذه الخراب وكل هذا التوحش؟!

   إن العالم آخذ في التشكل من جديد، وبصورة تنفتح معها الآفاق لولادة أنماط وأشكال وأساليب مختلفة من التخيل والتفكير أو التأليف والتركيب أو التقدير والتدبير. والرهان هو الإنخراط في المناقشات العالمية الدائرة، على وقع التحديات الجسيمة والتحولات الهائلة، من أجل صوغ ما تحتاج إليه إدارة الشأن العالمي والكوكبي من اللغات والمفاهيم أو القيم والقواعد أو الطرز والنماذج.




أو



أو





أو



أو

لشراء الكتاب من :






«الإرهاب وصنّاعه: المرشد والطاغية والمثقف»


خالد الغزال - كاتب لبناني الإربعاء، ٢٩ يوليو/ تموز ٢٠١٥ 

  في كتاب علي حرب الجديد «الإرهاب وصنّاعه: المرشد، الطاغية، المثقف» (إصدار الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2015)، يتابع المفكر اللبناني نقاشه ونقده لمقولات ومفاهيم سائدة في المجتمعات العربية، تمارس موقعاً سلطوياً، سواء أكان فكرياً أم مادياً، وتشكّل منظومة ثقافية موروثة في معظمها ومستجدّة في تقليديتها.

  يشكّل صعود الأصولية والتعبير عن نفسها في تيارات متطرفة تمارس العنف وتستولي على الأراضي وتغيِّر في الجغرافيا والديموغرافيا أبرز التحوّلات، خصوصاً أنها تتخذ من الإسلام راية أيديولوجية، تسعى من خلالها إلى الدمج بين الدين ومنظومتها الفكرية، بما يجعل الإسلام في موقع الداعم للإرهاب والمبشّر بالدعوة لممارسته. على امتداد جملة عناوين متفاوتة في تعبيراتها ومضمونها، يتطرق حرب إلى: الأصولية والعنف، التنين الإرهابي من يصنعه؟ التهمة المزدوجة، لبنان بلداً معلقاً، تجديد الخطاب الديني، الإسلام والحداثة، التوسع الإيراني، أين هو الإنسان؟ ولعبة الخلق.

   يتساءل حرب عن مدى وجود علاقة بين الإسلام والإرهاب، انطلاقاً من كون هذه المسألة «باتت واحدة من مشكلات الساعة، منذ تفجيرات أيلول الأميركية عام 2001. من هنا يحتدم النقاش حولها ويتجدد، مع كل عملية إرهابية أو غزوة جهادية تصدم الرأي العام الإسلامي والعالمي. ومن هنا هذا الفيض من الكتابات حول النشاط الإرهابي، وفيها يتردد ما تم نحته أو اختراعه من الأسماء والمصطلحات من جانب الحركات والمنظمات الإسلامية. تتحمل المؤسسات الدينية مسؤولية في التصدي لظاهرة الإرهاب من خلال عجزها عن الانخراط في نضال فكري وديني ينزع عن التيارات الأصولية حججها المستخدمة في تبرير الإرهاب، من خلال استخدام النص الديني وفق قراءة حرفية لا تأخذ في الاعتبار تاريخية النص ومكان وزمان صدوره والحاجات التي أوجبت نزوله. فالمؤسسات الدينية تبدو متوجسة من المصارعة الفكرية والنظرية مع التنظيمات المتطرفة، وهي بذلك تقدم لها مساهمة عملية، وتعتبر، في الوقت نفسه، مسؤولة عن هذا الإرهاب الأعمى الذي ضرب بسوط الإسلام في كل مكان في العالم.

  لكن علي حرب لا يحصر تبرير الإرهاب والمسؤولية عن عدم التصدي له بالمؤسسة الدينية فقط، بل يمد هذه المسؤولية إلى مكونات ثلاثة أخرى، ساهمت وتساهم في صناعة الإرهاب. المكوّن الأول، يتصل بالمرشد الذي يستخدم اسم الله لتسويغ سلطته وأهوائه ومصالحه، ويرمي كل من لا يوافقه وجهة نظره بتهم من قبيل التكفير والهرطقة والإلحاد، وكلها تعابير تكفي واحدة منها لإهدار دم المعارض. المكوّن الثاني، يتناول الطاغية من الحكام، الذي يتصرف وفق ملكية البلد الذي يحكمه، مسخراً موارده في خدمة موقعه الشخصي وموقع الفئة الصغيرة من حوله. هذا الطاغية، كما بدا من انتفاضات العالم العربي خلال السنوات الماضية، لا يتورع عن تدمير البلد الذي يحكمه، بشراً وحجراً ومجتمعاً، في سبيل البقاء في السلطة. الشواهد عديدة في هذا المجال، وشعار «أنا أو أحرق البلد» تحول شعاراً عملياً ممارساً بأقصى أنواع الوحشية على الشعب بمجمله. هذا الطاغية، تتجسد حصيلة حكمه بـ «الاستبداد والفساد والإرهاب، والإطاحة بمكتسبات الدولة الحديثة، في ما يخص مفاهيم المواطنة، والعلمانية، والديموقراطية».

  أما المكوّن الثالث فهو الذي يتصل بالمثقّف ودوره وموقعه وكيفية عمله. هذا المثقف، كما يراه حرب، قصّر كثيراً عن القيام بما يتوجّب عليه من حُسن طرح أفكاره ونقد الموروث منها وتجاوز المتخلّف في مفاهيمها، نحو ابتكار مفاهيم تتصل بالواقع، بعيدة عن التصحُّر الأيديولوجي، وخارجة من منطق احتكار الحقيقة أو التكلُّم مع الشعب من برج عاجي. يستوي في هذا المجال المثقف التقليدي، والأيديولوجي والمناضل وصولاً إلى المثقف الحداثي.

  هؤلاء ساهموا في شكل أو في آخر في صناعة الإرهاب، من خلال دعم الطاغية والانخراط في خدمته مباشرة، أو عبر المؤسسات الطائفية أو القبلية التي حشر المثقف نفسه داخلها وقام بدور «مثقف السلطان» وتبرير قراراته وإسباغ منظومة فكرية عليها. في هذا المجال يسلّط حرب نقداً لاذعاً على أدوار المثقفين فيقول: «لا أراني أظلم المثقف الحداثي بذلك. فهو بصفته أحد عمّال الفكر، مسؤول، قدراً من المسؤولية، عما حدث ويحدث، ليس فقط لأن الكثيرين من دعاة الحداثة وقفوا إلى جانب الأصوليات الدينية والديكتاتوريات السياسية، بل لأن المثقف أخفق في مهمته الأولى التي هي تجديد الأفكار، بقدر ما تعامل مع قضاياه بصورة سلفية تقليدية ديكتاتورية، بوصفها حقائق نهائية. بهذا المعنى، يبدو المثقف الحداثي خادماً للطاغية السياسي من حيث لا يحتسب. وهو، إلى ذلك، قد شكّل الوجه الآخر للداعية الأصولي من حيث لا يعقل. كلاهما تحوّل إلى ديناصور، المثقف بعناوينه المستهلكة، والداعية بشعاراته البائدة. كلاهما صنيعة الآخر ومتواطئ معه، من حيث يعرف أو لا يعرف».

   إلى جانب القضايا الساخنة التي يهجس بها كتاب علي حرب حول الأصوليات والإرهاب، يناقش مسألتين جوهريتين في سياق الممارسة السياسية في بلدين هما لبنان وإيران:

   في نص بعنوان «الثنائيات الخانقة والتسويات الهشة»، يتساءل حرب، على غرار كثيرين من اللبنانيين، عما إذا كان هناك سبيل للخروج من المأزق الذي يعيشه لبنان وشعبه والواقع بين فكّي كماشة: الصراعات الطائفية المحتدمة في الداخل والتي تشكّل جوهر الممارسة السياسية لمجمل الأطراف اللبنانيين والعنصر المتحكّم بمصيرهم، وبموازاتها التدخلات الخارجية بمنوعاتها المتعددة العربية والإقليمية والدولية، والتي باتت عملياً جزءاً من الداخل اللبناني، حيث يستحيل اليوم الوصول إلى اتفاق أو تسوية أو حل مشكلات ولو كانت طفيفة، من دون تدخُّل هذا الخارج. بحيث يمكن القول إن الخارج والداخل يتقاطعان ويربطان لبنان بحبال غليظة، فيصعب التمييز بين ما هو داخلي وما هو خارجي. يعاني لبنان معضلة كيانية من حيث تركيبته الطائفية وانحكام أبنائه إلى هذه الطوائف وفق الصيغة التي تجاوزت الدستور والتي يمكن اختصارها أن على اللبناني أن يولد ويعيش ويموت طائفياً، وأي خروج عن هذه المعادلة هو بمثابة هرطقة وتمرد غير مقبولين من صنّاع الصيغة الطائفية.

  يضيف حرب إلى هذه المشكلة الكيانية «مشكلة سياسية تجسدت في كون الساسة الذين تعاقبوا على حكم البلد منذ نشأته، فشلوا في إدارته، ولم يحسنوا تطوير صيغته الديموقراطية، المدنية. فالقاعدة الذهبية في لبنان كانت دوماً في المكاسب والمفاسد».

   وتحت عنوان «التوسُّع الإيراني: ضرر إيراني وخراب عربي»، يتناول حرب التطورات في المنطقة العربية المستجدّة تحت عنوان محاربة الإرهاب، والسعي الغربي لتعويم إيران من خلال المفاوضات على البرنامج النووي، وصولاً إلى اعتبارها عنصراً في محاربة التطرف الأصولي. إن الدولة الإيرانية وثورتها منذ العام 1979 تشكلان عنصراً أساسياً في صناعة الإرهاب ونشره، كما أن مشروعها القومي الفارسي المستند إلى عصبية مذهبية، تسعى من خلاله إلى تصدير الثورة بمنطقها المذهبي هذا إلى مجمل العالم العربي إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً. لقد نجح المشروع القومي الإيراني في مد أذرعه إلى أكثر من قطر عربي، ولعل هذا النجاح يستثير اليوم ردات فعل مذهبية تعيد طرح الصراع السني- الشيعي على بساط البحث، من خلال استعادة هذا الصراع الذي اندلع على السلطة بين القبائل العربية منذ وفاة الرسول. لا شك في أن السياسة الإيرانية الراهنة تشكل ضرراً صافياً للشعوب العربية بطوائفها المتنوعة، وهو ضرر لن يبقى محصوراً داخل العالم العربي، إذ قد تمتد نيرانه إلى الداخل الإيراني نفسه.

   كتاب علي حرب مفيد في استحضاره القضايا الشائكة والساخنة التي تغرق بعنفها المجتمعات العربية اليوم، وهو في جوهره يشكل دعوة إصلاحية سياسية وفكرية ودينية يحتاجها العالم العربي أكثر من أي وقت مضى.


ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة