الخميس، 9 أبريل 2015

الرائحة : أبجدية الإغواء الغامضة ـ بيت فرون ...


الرائحة : أبجدية الإغواء الغامضة 

Smell: The Secret Seducer



بيت فرون  - أنطون فان أمرونغين - وهانز دي فرايز


ترجمة : د. صديق محمد جوهر



    تُعد الرائحة شيئًا مميزًا واستثنائيًّا للجانب الإنساني؛ فبها تتداعى الذِّكرياتُ في الخواطر، ومن خلالها يستطيع الإنسانُ تفعيلَ حاسة التذوُّق للطعام، وتقوم عملية الشم بدور مميَّز في الكثير من العمليات النفسية ونماذج السلوك، كما أن الشمَّ يؤثِّر في الحياة الجنسية بصفة خاصة، وفي عملية التنفُّس بصورة عامة، ونقرأ في غضون قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - استحضارًا قويًّا "للرائحة" من خلال "قميص يوسف"، واستحضار نبيِّ الله يعقوب - عليه السلام - لرائحته رغم طول سنين الفَقد، وتَنائي الأماكن: ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف: 94]، يقول العلامة "عبدالرحمن بن ناصر السعدي" في تفسيره: "... لأن كلَّ داء يُداوى بضده، فهذا القميصُ - لَمَّا كان فيه أثرُ ريح يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزنِ والشَّوقِ ما الله به عليم - أراد أن يشَمَّه، فترجعَ إليه رُوحُه، وتتراجع إليه نفسُه، ويرجع إليه بصرُه، ولله في ذلك حِكَم وأسرار، لا يطَّلع عليها العبادُ، وقد اطَّلع يوسفُ من ذلك على هذا الأمر"؛ اهـ، وفي السنَّة النبوية رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الكافرَ لا يجد ريحَ الجنة؛ وإن ريحَها ليوجدُ من مسيرة مائة عام؛ إمعانًا في التعذيبِ الحسِّي والمعنوي، وريحُ الشهيد عند الله أطيبُ من ريح المسك؛ كرامةً لمكانة الشهيدِ عند الله وتعظيمًا لأجره، ورُوي أيضًا: أن خُلُوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك، وكذلك شبَّه الرسول - عليه الصلاة والسلام - المؤمنَ بالأترجَّة؛طعمُها طيِّبٌ، وريحها طيب، ونجد في الآثار النبوية دومًا ارتباطَ منازلِ المحسنين بالرائحة الطيبة، والظالمين المعتدين بالرائحة المُنتنة القبيحةِ التي ينأى عنها كلُّ إنسان سويِّ الفطرة!

كتابٌ فريد من نوعه، يغلِب عليه الطابع العلمي؛ مع مسحةٍ أدبية، يتناول موضوع "الرائحة" بشكل موسَّعٍ مستفيض، وهو أمرٌ قلَّ مَن بحث فيه من قبل؛ فمن النادر أن نجد من بين العلماء وغيرهم مَن تعرَّض لظاهرة الشمِّ من أي ناحية، حيث نجد أن أغلبَ الفلاسفة والأدباء القُدامى كانوا يحطُّون من شأن تلك الحاسة، ويتعاملون معها بازدراءٍ ظاهر، وقد توارث هذا الإغفالَ المتعمَّد معظمُ الدراسات الحديثة عن حواسِّ الجسم البشري وخصائصه، ولم يُفرَد لحاسة الشمِّ الكثيرُ من الدراسات، أو الاهتمام الذي حظيت به زميلاتُها، مثل: حاسة البصر أو السمع، على سبيل المثال!

يرى "فون أفيرون" أن "الشم يقوم بدور مميز في الكثير من العمليات النفسية ونماذج السلوك، فالشمُّ لازمٌ لعملية الذوق، كما أنه يؤثِّر في حياة الناس الجنسية، وفي عمليات التحفيز والذاكرة (بما يتضمن التعلُّم والصحة، والإحساس بالأمان والسعادة)، كما أنه يقوم بوظيفةِ الإنذار المبكِّر حين تتعرَّض الحياة للخطر - كما في حالة اكتشاف تسرُّب الغاز وخلاف ذلك - وعلاوة على كل ما سبق، فإن الشمَّ "يحرز قصَبَ السبق في المنافسة"، (يُقصَد بذلك أنه عندما تُستثار مجموعةٌ من الحواسِّ في وقت واحد) فإن الأنفَ يأتي غالبًا على رأس القائمة، "إنَّ تفاحةً جميلةَ المنظر عفنةَ الرائحة لا تثير شهيتَنا على الإطلاق؛ أليس كذلك؟!"؛ صـ14.

ورغم كل هذه الأهمية الواضحة لحاسة الشم، فإن دراستَها من الناحية العلمية تقابلها عدةُ معوِّقات ظاهرة للعيان، من أهمها: أن الإحساساتِ ليست في متناول القياس، ولا يمكن رسمُ خريطة لها، كما أن إحساساتِ الشم تولِّدُها موادُّ كيميائية متنوعة إلى أقصى حد، ولا يمكن جمعُها تحت مسمًّى واحدٍ جامع مانع، كما أن معرفتَنا بطريقة عمل حاسة الشم ضئيلةٌ جدًّا حتى الوقت الحالي.

ويُسهم كتابه "الرائحة: أبجدية الإغواء الغامضة" في التعريف - بصورة موسعة - بحاسة الشم، وتقديم دراسة موسوعية تتعمَّق في التفاصيل والنظريات التي تشكِّل أطروحتَي الشم والرائحة، "ليس فقط عند البشر، بل في عالَمي الحيوان والنبات كذلك"، كما أنه يقدِّم بالإضافة للجانب العلميِّ المتخصص لكتابه، دراسةً تاريخية وأدبية عن ارتباط حاسة الشم والرائحة بفكر كلٍّ من الفلاسفة والمفكرين والأدباء، ومدى تداخل ذلك في التراث العالَمي الإنساني على مر العصور.

مؤلِّف الكتاب "بيت فيرون" هولندي المولد، من كبار الأساتذة المتخصصين في علم النفس في جامعة "أوترخت" في هولندا، حيث أجرى العديد من البحوث في مجالات الشم والروائح، كما نشر مجموعةً من أشهر الكتب وأكثرها مبيعًا عن وظائف العقل والسلوك البشري، ومن أهمِّها: "كلّه داخل العقل"؛ 1988، "دموع التماسيح"؛ 1989، "صداع"؛ 1990، "مصيدة الذئاب"؛ 1992.

وساعده في كتابة هذا الكتاب كلٌّ من: "أنطون فان أمرونغين" أستاذ متخصِّص في الدراسات البيولوجية، و"هانز دي فرايز" من صفوة الباحثين في مجال علم النفس اللُّغوي وآليَّات قراءة النصوص.

وقام بترجمة الكتاب د." صديق محمد جوهر"، الحاصل على درجة الليسانس في اللغة الإنجليزية من جامعة عين شمس بالقاهرة فى عام 1981، ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنجليزي بتقدير ممتاز من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي يعمل حاليًّا في قسم الأدب الإنجليزي بجامعة الإمارات العربية، وله العديد من الترجمات الأدبية والفكرية.

وصف الكتاب:

وضع الكاتب دراسته في: توطئة؛ وضَّح فيها منهجه في الكتاب، وتِسعةِ فصول، هي مادة الكتاب الرئيسية، وجاء الفصلُ الأخير (التاسع) كخاتمة بيَّن فيها أهمَّ الخلاصات والملاحظات التي خرج بها من فصول الكتاب الثمانية، ورغم أن الكتاب يغلِب عليه الطابع العلمي، إلا أن الكاتب كان مرادُه الأول من دراسته هو تيسيرَ مفاهيمها واصطلاحاتها العلمية؛ لكي تكونَ في متناول القارئ العادي غير المتخصص، واستيعابه، من باب "تبسيط" العلم للجميع.

وجاءت عناوين فصول الكتاب على النحو التالي:

توطئة.
الفصل الأول: تاريخ الرائحة والشم.
الفصل الثاني: حاسة الشم.
الفصل الثالث: طبيعة الرائحة والشم.
الفصل الرابع: الشم والرائحة على مدار العمر.
الفصل الخامس: الشم والذاكرة.
الفصل السادس: الروائح كدوافع للسلوك.
الفصل الثامن: الاضطرابات الشمية.
الفصل التاسع: خاتمة.

    تناول الفصل الأول من الكتاب التاريخَ الثقافي والعلمي لحاسة الشم، ومدى ارتباطها تاريخيًّا بالنِّتاج الفكري والثقافي للشعوب المختلفة قديمًا، وحتى وقتنا الحالي، كما نبَّه في ذلك الفصل على أن نصيبَ حاسة الشم من الدراسات العلمية ما زال يُرثى له، رغم التقدم العلمي الذي شهدته كافة المجالات الطبية، وأيضًا ألقى الكاتبُ الضوء على أهمية حاسة الشمِّ عند عالَم الحيوانات والحشرات.

    تناول الفصل الثاني تعريفًا علميًّا بحاسة الشم، وكيف تعمل، وتركيب الأنف (عضو الشم)، كما أشار إلى أن هناك صلةً بين خلايا الشم والنسيج المُخِّي للإنسان، ووضَّح ارتباطَ عملية التذوق بحاسة الشمِّ.

أما الفصل الثالث: فبيَّن فيه الكاتب كيف تترابط الروائح وإحساسات الشم، وتقسيم الانطباعات الشمية وَفقًا لخواصها وبِنْيتها الكيمائية، ومدى علاقة ذلك بقياس إحساسات الشم، بمعنى: لماذا تكون تلك الرائحةُ مُبهجةً للإنسان، والرائحة الأخرى منفِّرة ونتِنة؟! ذلك يرجع لخواص المادة ذاتها، وفوارق الحساسية الشمية من إنسان لآخرَ؛ كما بيَّنه خلال مباحث الفصل.

     تناول الكاتب في الفصل الرابع علاقة حاسة الشم بتقدُّم العمر، ومدى تأثيره على وظائف تلك الحاسة، كما تصدى خلاله للتعريف بتطور حاسة الشم خلال دورة حياة الإنسان، ومدى اختلاف القدرة على الشمِّ بين الرجال والنساء، وتأثير التدخين السيِّئ على تلك الوظيفة الحسية.

   تناول الفصل الخامس ارتباطَ الشم بالذاكرة، وكيفية اختزان الإحساسات الشمية، وكيف يتأتى للذاكرة تعقُّبُ أثر الروائح، والتعرف عليها، وتذكُّرها، والربط بينها وبين غيرها من روائحَ سابقةٍ، ومواقفَ سابقة، وكيفية عمل الذاكرة في القيام بوصفها بعد ذلك.

   أما الفصل السادس، فتناوَل علاقة الإحساس الشمي بالاستجابات السلوكية المباشرة، ومدى ارتباط تأثير الروائح بالسلوك البشري والحالة النفسية والنشاط الجنسي، بل وفي طريقة الحُكم على الآخرين.

    جاء الفصل السابع في بيان أن لكل واحد منا رائحةً مميزة خاصة به تعتبر: "جواز سفر شمي"، يستأثر به دون الآخرين، ومدى تأثير ذلك على الناحية الاجتماعية خصِّيصَى.

أما الفصل الثامن، فتناول الاضطرابات والأمراضَ التي تصيب الجهاز الشمي، وما يعقبها من تداعِيَات وآثار جانبية، وكيفية التنبُّه لعوارض الشم وعلاجها في وقت مبكر.

   وقد وضع الكاتب بنهاية كتابه ثبَتًا بالحواشي والهوامش التي أشار إليها طيلة فصول الكتاب؛ لتوضيح ما غمض على القارئ، أو لبيان مصادر كلامِه، والعودة إليه لمن يحب أن يستفيضَ في معرفة أحد مباحث الكتاب المجمل ذكرُها، وكذلك وضع ثبتًا ببعض المراجع المختارة الخاصة بحاسة الشم والروائح بشكل عام.

عرض الكتاب:

1- ارتبط الشمُّ قديمًا في تراث البلدان الغربية بطابَع ملتبس يغلِب عليه السوءُ؛ فقد حمل "أفلاطون" على العطور حملةً شعواء، واعتبرها أدوات للتخنُّث واللذة الجسدية، بينما كان "سقراط" أكثرَ عقلانية، وربَطها بالانتماء الاجتماعي والوضع الطبقي للفرد، أما الفلاسفة المتأخِّرون كـ"كانط" وغيره، فكانوا يحطُّون من شأن تلك الحاسة، ويتعاملون معها بازدراءٍ واضح، أما في بواكير القرن التاسع عشر وبدء عصر "الثورة العلمية"، فكان الاهتمامُ بالشم يرجع - في المقام الأول - لحاجة طبية ملحة؛ حيث اكتشف الأطباء أن كثيرًا من أنواع الأمراض المزمنة والأوبئة (كالطاعون والملاريا) يعود للأبخرة السامةِ والروائح النَّتِنة الكريهة المنبعثة من تحلُّل الجثث، ومن ثم ابتكروا أساليبَ للقضاء على هذه الأمراض عن طريق تتبُّع مصدرها.

2- تتفاوت حاسة الشم في عالَم الحيوان قوةً أو ضعفًا، حسب طبيعة حياة كل حيوان، والبيئة التي يعيش فيها، فعلى سبيل المثال: متوسِّط إحساس الكلب الشمي يبلغ بضع مئاتِ المرات أكثرَ من إحساس الإنسان، بينما في مثالٍ معاكس نجد أن قدرةَ الإنسان على شم رائحة كحول "البوتيل" أفضلُ من الفأر الذي يتمتَّع بحاسة شم قوية جدًّا، ولا يمثل حجمُ عضو الشم أيَّ أهمية على الإطلاق؛ فالحيتان تتمتَّع بأعضاء شمٍّ هائلة، لكنها فعليًّا لا تستطيع أن تشَمَّ بها أي شيء، على العكس من الفئران التي تحظى بأصغر حاسة شمٍّ بين الثدييات على الإطلاق، وأدقها أيضًا، وتتمتع غالبية الثدييات، بالإضافة إلى القوارض، والضواري، وأسماك (الأنكليس)، والبرمائيات (سمندل الماء)، والزواحف (مثل الحيات)، وبعض أنواع الطيور (كالحمام) - بقدرة عالية التطور على الشم، ويُطلَق عليهم مصطلح (المكروسميتس)؛ أي: (الشمامين العظام)، وتستخدم هذه الكائناتُ أنفَها الرَّطْب على الدوام في تحديد اتجاهات الريح، وتحديد موقع الروائح التي يجلبها الهواء، أما الحشراتُ، فهي الأخرى تتمكَّن من الشم الجيد مستعينةً في ذلك بقُرون استشعارها، وبعضُ ذكورها يتمكَّن من العثور على أنثى التزاوج عن طريق رائحتِها المميزة، ويشبهها في ذلك بعض الأسماك أيضًا: (سمكة الكراكي).

3- ينقسم الأنفُ إلى تجويفين، بينهما غشاء عازل، كلا التجويفين تقسمهما ثلاثة تجاويف أنفية إلى عدد من الحُجيرات، والتجويف الأنفي يتصل بالهواء الخارجي عبر المنخارين، وبالهواء الداخلي عبر الحَلْق عن طريق البلعوم الأنفي؛ أي: الجزء العلوي من البلعوم المتصل مباشرة بالمسالك الأنفية، وعند تناول الطعام يصل جزءٌ من رائحته - عبر البلعوم الأنفي - إلى المراكز الشمية.

4- يرجع الفضل في بقاء التجويف الأنفي رَطْبًا لعدد كبير من الغُدد، وعلى رأسها الغدة اللعابية، ويُسهم المخاط الرَّطب في ترطيب الهواء و"تكييفه" قبل الدخول لعضو الشم، كما أن بعضَ أنواع الشذى المعطر تذوب أولاً في المخاط، ثم تنتقل لعضو الشم، مما يعني زيادة في تركيز الرائحة، ونجد أن عضو الشمِّ الرئيسي يتركَّب من الطبقة المخاطية والغشاء الأنفي والطبقة الداعمة، ويحتوي الغشاءُ الأنفي فيه على ما يقارب 30000 عصب في كل مليمتر مربع؛ أي: ما يقارب 3 إلى 5 ملايين خلية حسية في كل منخار؛ أي: في المنخارين معًا قرابة 10 ملايين خلية حسية، وهذه الخلايا الحسية تتعرَّض للتجدد والإبدال بعد مرور 4 - 8 أسابيع، وتتكون الخلية الحسية من زائدة عصبية متشجرة ومحور عصبي، الزوائد تتحرك في اتجاه مصدرِ الرائحة المسببة، بينما المحور العصبي يقوم بتمرير المعلومة الشمية للمخ.

5- حاسة الشم لها دورٌ كبير في إحساسنا وشعورنا بما نتذوَّقه؛ لأن الهواءَ يرتفع لأعلى الحلق أثناء تناول الطعام، وعبر تَكرار حركات المضغ، والشم هو المسؤول الأكبر عن إنجاح عملية تذوق كاملة، ونزلات البرد غالبًا ما تؤثر عكسيًّا على مذاق الطعام أو الشراب؛ حيث إن تورمَ الطبقة المخاطية من الغشاء الأنفي يَعوق مرور الهواء عبر عضو الشم، ومن ثَم تقل درجة نفاذ الروائح للخلايا الحسية.

6- لا توجد مقاييسُ محددة لقياس إحساسات الشم، ويعتمد الأمر عند الخبراء على طريقتين؛ أولها: طريقة كمية من خلال مقياس تقديري يتدرَّج من الواحد إلى عشرة لتقدير الحجم، وثانيهما: طريقة تهتم أكثر بالكيفيات بحيث يعبّر عن رائحة ما بأنها إما أن تكون شديدة أو قوية أو دافئة أو حلوة على سبيل المثال، وتأتي صعوبةُ قياس الروائح على أجهزة التجارِب بأنه غالبًا ما تكون النتائجُ مبنية على العديد من المغالطات؛ لوجود مزيج عشوائي من الروائح الدخيلة، فلا بد من التأكد من خلوِّ الجو تمامًا من الروائح الأخرى!

7- يألف الناس الروائحَ التي لا تثير نفورًا أو تحفُّظًا بمنتهى السرعة، وبعد ثوانٍ من شمها مباشرة، والاستمرار في استقبال أي رائحة عمومًا يؤدي إلى خفض الشدة الإدراكية لها، ويطلَق على هذه الظاهرة اسمُ "الاعتياد"؛ لذلك يَنصح الأطباء بعدم خلط جميع مكونات الوجبةِ دفعةً واحدة؛ وإنما أخذها على شكل قضمات متتابعة متنوعة؛ حيث إن ذلك يساعدنا على الإحساس بمذاقِ رائحة كل مكوِّن، والاستمتاع به على حِدَةٍ كل مرة، عكس التعوُّد على طعم واحد، ومن ثم تناقص الشدة الإدراكية لرائحة الطعام ومذاقه بمرور الوقت.

8- طبقًا لدرجة التركيز في المنبِّهات الشمية، فإن رائحةً واحدة كفيلةٌ بإحداث إحساسات شمية متنوعة؛ وبمعنى آخر فإن الكم يؤثِّر على الكيف، فكثيرٌ من المواد النتِنة لا تقل درجةُ نتانتها بتناقص تركيزها؛ بل إنها تميل تدريجيًّا إلى أن تصبحَ رائحة مقبولة، أما مادة (الهيبتانول)، والذي يستخدم بكمية ضئيلة في تركيب العطور لإصدار رائحة طيبة جدًّا، نجد أنه إذا زاد تركيزُه فإنه يسبِّب رائحةً خانقة، أما مادة الكافور ذات الرائحة العطرية الفواحة، إذا خُفِّف تركيزُها فإنها تشبه رائحة البول!

9- تُعد أخلاطُ الروائح هي المشكلةَ الأكبر التي تصادف خبراء الشم، وهي أساس مشكلة التلوُّث الشمي، فالرائحة المنتِنة غالبًا تكون خليطًا من المواد، تم بينها تفاعلٌ كيميائي، ومن العبث أن نحاولَ إزالة رائحة أخلاط الروائح هذه بإضافة رائحة طيبة، فهذا قد يزيد خليط الروائح عَطنًا، حيث إنه في هذه الحالة قد تتشارك الموادُّ عديمةُ الرائحة الخصائصَ الذاتية لمجموع الخليط، وينصح الكاتب بالتخلص من مواضع الرائحة باستخدام معينات الأكسدة، مثل: هيدروجين البيروكسايد والكلوراين بمواد ماصة، أو باستخدام الفحم النباتي، إلا أن مشكلةَ هذه المواد أنها تقوم بتنقية جميع الروائح بما فيها الروائح الطيبة أيضًا.

10- عند حدوث انسداد في أحد منخاري الأنف، يتولى المنخار الآخر تبادل عملية الشم والتذوق معًا، ونجد أن نشاط نصفَي المخ يقتفي أثرَ انسياب القنوات الأنفية، فعندما تكُون القناة الأنفية اليمنى مفتوحةً، فإن النصف الأيسرَ من المخ يُبدي نشاطًا نسبيًّا، والعكس صحيح.

11- نجد أن أول رائحة يصادفها الإنسان في عمره هي رائحة "النخط" (السائل الذي يملأ الغشاءَ الداخلي الذي يحيط بالجنين مباشرة)، وهذا الإدراك الحسي لا يتم إلا بعد الأسبوع الخامس والثامن من الحمل بعد تكوُّن العضو العَظميِّ الأنفي للجنين، وعمليًّا لا يستطيع الجنين الشمَّ إلا بعد الشهر الخامس، وهذه العملية من الإدراك الشمي داخل رحِمِ الأم تساعد على نمو الجنين الفسيولوجي والنفسي، ويمكن أيضًا أن يخلق روابط للذاكرة تنطوي على الأهمية للنمو العقلي، والارتباط العاطفي بالأم، ونجد أن الطفلَ بعد ولادته فطريًّا ينجذب نحو روائحَ بعينها، ويستقبح أخرى، وأغلب الأطفال يميلون لرائحة أمهاتهم مهما كانت طبيعة تلك الرائحة!

12- تبلغ حاسة الشم ذروتها فيما بين الثلاثين والأربعين من العمر، ولكن بمرور العمر تنحط القدرةُ على تسمية الروائح وتمييزها، بل ويصل إلى فِقدان الإحساس بالشم عند بعض المعمَّرين، وذلك الفقْدُ غالبًا يتم ببطءٍ وعلى مهَلٍ؛ مما يجعل صاحبَه لا يدركه أو يُحس به، ويبقى ذلك الهرمُ على اعتقاده بقدرته على الشم، إلا أن التجارِبَ العملية تبرهن على ذلك التدهور الواضح، وهذا ما يفسِّر كثرة وفاة الهرمين وكبار السن نتيجةَ حرائقَ أو لتسرب الغاز؛ وذلك لعدم قدرتهم على التنبُّه لمصدر الروائح قبل وقت طويل بعد سريانها.

13- يمكن رصد التغيرات الفسيولوجية والمادية التي تطرأ على عضو الشم أثناء الشيخوخة كالتالي:
أ- وجود مشاكل بالتجويف الأنفي كالالتهابات الحموية والمزمنة.
ب- جفاف الطبقة المخاطية، والتهاب الغشاء المخاطي، وتكوُّن الأورامِ فيه، مع ضعف الدورة الدموية.
ج- تكلس عَظم مِصفاة الأنف.
د- تدني إنتاج الخلايا الحسية الجديدة، والهبوط الحاد في أعداد الخلايا الحسية في بُصيلات عضو الشم.
هـ- انكماش حجم عضو الشم.
و- تحلل القشرة المخية لعضو الشم.

14- القدرة الشمية للمدخنين أسوأ ممن لا يدخِّنون بصفة عامة؛ فالقدرة الشمية تعاني اضطرابًا حادًّا ومزمنًا بسبب "النيكوتين"، والذي يندرج تحت فئةِ شبه القلويات (الألكالويد)، ومن آثار التدخين سدُّ وإعاقة انسياب الهواء في الأنف، وإعاقة دوران الدم في الغشاء المخاطي، بالإضافة لمشكلات نقل إشارات التنبيه العصبي، وهناك العديد من المواد التي تؤثِّر على حاسة الشم، مثل: الأمونيا والبنزين والفورمالديهيد ومواد الدهان والغِراء وغيرها، ويُعد الصبَّاغون الأسوأَ شمًّا؛ لاستنشاقهم مُذيبات الدِّهان الضارة أثناء العمل.

15- تفُوق القدرة الشمية للمرأة نظيرتها عند الرجال من كافة الوجوه، ومراتب التلذُّذ بالروائح والإحساس بها عندهن أعمقُ من الرجال، كما أنه مع تقدم العمر فإن القدرات الشمية للنساء أقلُّ عرضة للتدهور مقارنة بالرجال، كما أن لديهن قدرةً على تسمية الروائح أكثرَ من الرجال، ولعل هذا لصلة المرأة المباشرة بالروائح في البيت، والخاصة بشؤونها المنزلية، وتبدأ حاسةُ الشم لدى البنات أثناء المراهقة في التفوق على حاسة شم البنين.

16- يرتبط الشم بالنشاط المخي عن طريق نصفي المخ، حيث إن النصف الأيمن من المخ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالانفعالات والاستجابات الأولية التي تثيرها الرائحةُ المتلقاة، بينما الجزء الأيسرُ يختص بالجانب اللغوي ووصف تلك الرائحة، ونجد أن القسمَ الأيمن في المخ هو الذي ينشط بقوة أثناء الشم، ومن ثم يكونُ رد الفعل الانفعالي هو الردَّ السائد على تلقِّينا لأي رائحة.

17- تقوم الذاكرة الضمنية بدور رئيسي في الإحساس بالشم؛ فهي تختزن الإدراكاتِ الشميةَ بصورةٍ عفوية غيرِ مقصودة، وأظهرت التجارِبُ أن الروائحَ التي نتذكَّرها بعد مرور يوم نظلُّ نتذكرها بعد فوات شهرٍ، وربما بعد انقضاء سنة، ويظل أداءُ الذاكرة الشمية كفئًا بدرجة عالية، ونجد أنه كلما كانت الرائحةُ مركبةً وغير مألوفة (أخلاطًا) كلما تدنت كفاءةُ الذاكرة الشمية في استرجاعها، والروائح بصفة عامة قادرةٌ على الأخذ بيد الذاكرة؛ من حيث كونها معيناتٍ على التذكر العقلي.

18- نجد أنه قد نصادف أن ترتبط رائحةٌ ما بأحد المواقف الصعبة، أو الظروف السيئة التي تعرَّض لها الإنسان، ومن الضروري تجنُّبُ تلك الرائحة؛ لأن الْتقاطَها في مواقفَ أخرى قد يفضي إلى مخاوفَ ووساوس، والتي لا أساس لها ولا منطق، وتكون هذه الوساوس في جملتها ذاتَ علاقة بالحادثة الأولى شعوريًّا فقط.

19- من ناحية الجانب الأدبي نجد أن الرائحةَ احتلت موقعًا متميزًا في بعض كتابات الأدباء المشهورين، ومن أمثلة ذلك رواية "باتريك زوسكيند"، والتي عنوانها: "العطر"، حيث تصف في روايتها مجموعةً من الروائح المتناقضة التي تضربُ أطنابها في أحد المدن، وكذلك نجد في مراسلات: "فلوبير" مع "لويز كوليه" ذكرًا لروائحِ حذائها ومناديلها وملابسها، وحتى رسائلها، أما الكاتبة: "جورج صاند"، فنجد في وصفها للحياة الريفية في رواياتها حضورًا قويًّا للروائح العُشبية للريف، ونجد أن فيلسوف القرن السادس عشر "مونتيني" قام بتدبيج مقالة كاملة عن الروائح وأثرها في الحياة في كتابه الشهير: "المقالات"، وأخيرًا نجد أحد الأمثلة الهولندية الشهيرة يحتفي بالرائحة؛ حيث يقول: "احك حكاية عامرة بالرائحة واللون".

20- تسهم الروائح في تحديد تفاعلنا الاجتماعي؛ فهي التي تؤكد الصلةَ والروابط بين الأقارب، كما أنها توثِّق الصلة بين الوالدين وأطفالهما، وكذلك بين الأسرة والمكان، فرائحةُ منازلنا تغذِّينا بمشاعر الثِّقة والأمان، عكس البيوت الغريبة التي لا تحوي رائحتَنا، والتي نشعر فيها بالتِّيه والضَّياعِ إلى حدٍّ ما ونحن فيها.

21- في عالَم الحشرات تتعرَّف شغَّالات النحل على الملكة من رائحتها المميزة، حيث يقُمن بتشكيل دائرة حولها؛ ليتمكَّنَّ من وضع بيضهن وبناء المستعمرة، كما تنبِّه رائحةُ الملكة نفسها - والتي يطلق عليها (الفيرمون) - الذكورَ للحاق بالملكة أثناء تحليقها؛ (وظيفة إعلانية أو ندائية).

22- العطر المميز هو ما يطلق ثلاثة أنواع من الروائح على التتابع، أولها: "اللفتة الكبرى"، التي تُحدثها انطلاقة معظم المواد الطيارة، وثانيها: "صميم العطر"، وهو رائحةٌ كثيفة ودافئة، وآخرها: "أجواء ما بعد الرائحة"، والتي تعبقُ وتحيط بالشخص لمدة طويلة، وغالبًا ما تكون "اللفتة الكبرى" من فيرمونات الخضروات التي تستخدمها النباتات الأصلية لجذب الحشرات للقيام بعملية التلقيح اللازمة، أما صميم الرائحة، فعادة يحتوي على الفيرمونات الحيوانية.

23- لوحظ أن الأطفال عادة ما ينفرون من العطور، والأمر المرجح أكثر أن استخدامَ الأم أو الأب للعطور هو علةُ هذا التحول؛ فرائحة العطر عادة تعني أن الوالدين سيخرجان من البيتِ، وهو حدثٌ مكروه من الطفل؛ لشعوره بالوحدة والوحشة إذا جلس في المنزل دونهما!

24- من عدة تجارِبَ أُجريت على العديد من الأُسر المختلفة، استطاع أقارب الشخص المشارك في التجربة - استنتاجَ رائحة ملابسه من بين العديد من الملابس المتشابهة، وهو ما يعني فعليًّا أن لكل إنسان منا "جواز سفر شميًّا" مميزًا خاصًّا به، والنساء لهن تلك القدرةُ البارزة على تمييز ملابس أزواجهن على الدوام، فيما عدا أوقات الحيض؛ حيث تتدهور حساسيتهن للروائح بشدة.

25- رائحة الأم تقلِّل من توتر الطفل، ويمكن تركُ أي أقمشة تحمل رائحةَ الأم، أو قِطَع من ملابسها بجانب الوليد؛ لطمأنة الطفل وتهدئة روعِه.

من الممكن أن تتعرض حاسة الشم للإصابة بالاختلالات المكتسبة، والتي يطلق عليها: "معسرات الوظيفة الشمية"، والتي منها:
أ- الفِقدان العام للقدرة الشمية.

ب- ضعف الشم: قلة الكفاءة في شم جميع الروائح.

ج- فَرْط الشم: الحساسية المفرطة لبعض أو كل الروائح.

د- عُسْر الشم: اختلال شمي يتميز بالتبدل المستمر، وبنشوء الإحساسات الشمية العشوائية.

هـ- الهوس الشمي: صورة من صور العُسر الشمي، بحيث لا يشَمُّ صاحبُه إلا الروائحَ الكريهة.

و- خطل الشم: صورة من صور العسر الشمي، تتغير بمقتضاه خواصُّ الرائحة بصورة منتظمة.

ز- الازدواج الشمي: المصاب به قد يحبِّذ رائحةً اليوم كان يراها بالأمس تزكم الأنوف، وهذا النوع من الإصابات يجعل مِن تناول الطعام مهمة مرهقة.

ح- العماء الشمي: عدم القدرة على تسمية الروائح بأسمائها وتمييزها من غيرها.

26- دائمًا ما تتلازم الاختلالات الشمية مع مشكلات في الذوق والتذوق، وقد يؤشر الاختلال الشمي على وجود مرضٍ عقلي أو بدني، ليس له أدنى علاقة بحاسة الشم في ذاتها، وغالبًا ما يبدأ الخَرَفُ عند المسنين مع بدء تدهور القدرةِ على الشم، ويرتبط فِقدان حالة الشم عند المصاب عادة بالاكتئاب النفسي


الآلوكة.












أو




أو




ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة