الأحد، 5 يونيو 2016

بنغازي في فترة الاستعمار الإيطالي (1911 ـ 1942) ...


بنغازي في فترة الاستعمار الإيطالي (1911 ـ 1942)


محاولة لإعادة تشكيل تاريخ مدينة.. وإعادة تركيب لممارسات ايطاليا الفظيعة ومذابحها ومعسكرات لاعتقال المدرسون أثناء الاستعمار كانوا الطبقة النيرة التي حافظت علي العربية وثقافتها في ظروف صعبة ومعادية.
القدس العربي - 6 سبتمبر 2006 - عرض: محمد عوض الشارف :

  تسير الدارسات التاريخية الخاصة بالتاريخ الليبي سيرًا متعثرًا؛ فثمة منطقة فراغ تاريخي في الذاكرة الليبية بعضها سقط هملا، وبعضها أسقط عمدا بعوامل التعرية المختلفة، وما بين الإهمال والعمد يأتي كتاب الأستاذ وهبي البوري الموسوم بـ (بنغازي في فترة الاستعمار الإيطالي) ليملأ فراغاً مهماً في المكتبة التاريخية الليبية، وقد صدرت طبعته الأولى عن مجلس تنمية الإبداع الثقافي في ليبيا عام 2004م وعدد صفحاته خمسٌ وخمسون وثلاثمئة.

   الكتاب متميز في مادته العلمية، ومصدر تميزه أن المؤلف أدرك بعض الشيوخ الذين شاهدوا أو شاركوا في الأحداث التي يؤرخ لها الكتاب، كما أنه كان شاهدًا علي بعضها، إضافة إلى إجادة المؤلف للغة الإيطالية.

   ويؤرخ الكتاب لمدينة بنغازي أثناء الاحتلال الإيطالي، ويرصد أهم معارك الجهاد ومجمل حركة الأحداث السياسية و التطورات العمرانية والاقتصادية والدستورية، وبعض ملامح الحياة الثقافية والاجتماعية. وقد جمع بين الرواية الشفوية ، والشعر الشعبي الذي جسد آلام وآمال تلك الفترة.

  الأستاذ وهبي البوري أحد الرواد في الثقافة والسياسة في ليبيا، وصاحب معرفة عميقة جمعت بين الثقافة والسياسة؛ فعطاؤه الثقافي لم ينضب منذ ما يناهز سبعين عاماً، وتنوع بين الأدب والتاريخ والترجمة، وولج غمار السياسة من موقع المثقف، فتعددت مسؤولياته السياسية والدبلوماسية في العهد الملكي؛ فكان وزيرًا للخارجية عام 1957م، ومندوبًا للأمم المتحدة عام 1963م، وخبرته الواسعة نجد ثمارها في أضعاف هذا الكتاب.

  يقرر المؤلف في المقدمة أن تاريخ بنغازي لم يكتب بعد بصورة واضحة رُغم الجهود المبذولة لكتابة تاريخها الممتد إلى أكثر من خمسة وعشرين قرناً، ولعله من المفيد لو ذكر المصادر والمراجع التي تؤرخ للمدينة، ويضيف إلى ذلك أن بنغازي اشتهرت : بالكرم والنخوة وإيواء الغريب ... مع أن سكان بنغازي ينتمون إلى قبائل ومناطق مختلفة غير أن انتماءهم لها أقوى وأمتن من انتمائهم إلي مواطنهم الأصلية .

  والكتاب كما يقول مؤلفه هو: محاولة متواضعة لإعادة بناء حياة بنغازي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية خلال فترة الاستعمار الإيطالي التي دامت ثلاثين عاماً .

  يتكون الكتاب من قسمين: الأول يتضمن الأحداث الحربية والمآسي الطبيعية وشراسة الممارسات الإيطالية وحياة السكان الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك فترات الهدوء والحوار من بداية الاحتلال حتي نهاية المقاومة. والقسم الثاني يبدأ بعهد (بالبو) وتكوين الضفة الرابعة وتحقيق ما عجزت إيطاليا عن تحقيقه خلال العشرين سنة الماضية وكذلك سياسة (بالبو) الإسلامية ومحاولاته الفاشلة في تحويل العرب إلى إيطاليين من الدرجة الثانية ويتضمن هذا القسم ما مر ببنغازي من مآسٍ خلال الحرب وتحويلها إلى مدينة أشباح خربة .

   ويكشف المؤلف عن محاولة الاستعمار الإيطالي تغييب الذاكرة الليبية وتجفيف ينابيعها، وأن إيطاليا في فترة من الفترات سمحت : لباحثين ليبيين في أول الأمر بالاطلاع على محفوظات وزارة الخارجية الإيطالية، وكنت أحد الذين تحصلوا على إذن بالاطلاع على هذه الملفات، غير أنني عندما طلبت ملفات معينة وجدتها شبه خالية مما يدل على أن الأيدي عبثت بها، أو أن المسؤولين سحبوا الوثائق المحرجة لإيطاليا، فالحكومة الإيطالية حتى اليوم لا ترضى بإدانة ما ارتكبه ولاتها وقادتها من جرائم في ليبيا أو الاعتذار عنها ، وقد منع ـ بداية من عام 1984 ـ الاطلاعُ على ملفات وزارتي الخارجية وإفريقيا الإيطالية في الفترة بين عامي 1930 ـ 1940 .

  ومما يجدر ذكره أن إيطاليا مارست في ليبيا سياسة الأرض المحروقة والأسلحة المحرمة، والفترة التي تصر الحكومة الإيطالية على تغييبها اقترفت إيطاليا خلالها جريمة إبادة من أبشع الجرائم الإنسانية ؛ عندما أقام الاستعمار الإيطالي معسكرات اعتقال جماعية للأهالي بنسائهم وأطفالهم وشيوخهم، بله مواشيهم، وبلغ عدد المعتقلين مئة ألف، خرج منهم خمسة وثلاثون ألفاً أحياءً!!.

الهولوكوست الليبي

  هذه المأساة الإنسانية أسماها بحق الدكتور/ علي عبداللطيف حميدة الهولوكست الإيطالي في ليبيا.

  ويذكر الأستاذ وهبي ـ بناء علي ما صرح به عدد من المعتقلين في معتقلات الموت الرهيبة ـ أن عربة الموت كانت: تمر كل يوم على الخيام لأخذ الموتى الذين كان عددهم في تزايد، وعجز بعض الناس عن الوقوف على أقدامهم لدفن أعزائهم . ص 174.

   إن التكتم الإيطالي لا يعفي أنظمة الحكم في ليبيا، منذ الاستقلال عام 1951، من تحمّل مسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية عن عدم ظهور هذه الحقيقة المُغَيَبة ، فدم أجدادنا ليس دمًا أبيضَ حتى يبقي مطموراً بغبار الزمن!!.

سخريات الشاعر احمد رفيق المهدوي

   ويتحدث المؤلف عن المقاومة السلبية للشباب المثقف، وعن سخرية الشاعر أحمد رفيق المهدوي (1898 ـ 1961) من صحيفة (بريد برقة) التي تصدرها الحكومة الإيطالية، فيقول:

ألم يبلغك ما قال البريد
هراء لا يضر ولا يفيد
مسيلمة الجرائد ما تنبأ
وزاد كفره كفر شديد
إذا جاؤوا إليك به فعجل
إلى الكانون يصحبك الوقيد

   ويعرج المؤلف على حي البركة؛ فقد أنشأت إيطاليا فيه أول خط هاتفي عام 1921، وأقامت عام 1928 معسكر (الدوقا دوستا)، وهو بجانب جريدة الحقيقة ، وهي صحيفة سياسية ثقافية مستقلة، ولدت في زمن الزهو الثقافي في ليبيا عام 1964، ومضت في سبيلها موؤودة عام 1972 .

   ويتناول الكتاب الحياة السياسية والثقافية في بنغازي، والحزب الدستوري الذي أسسه محمد طاهر المحيشي عام 1920، وكان بعض الإيطاليين المعادين للفاشية يشبهون شيخ الشهداء عمر المختار بـ (غاريبالدي) موحد إيطاليا في القرن التاسع عشر. وعند دخول الجنود الإيطاليين في صباح 20/10/1911 إلى مدينة بنغازي بقيادة نقيب يدعي بيانكو تحضر فراسة الشاعر الشعبي واعدة ومحذرة ص 30:

خيط العرب واعر عليك سكونه
يا (بيانكو) ياما تعاني دونه

   وبعد خروج إيطاليا مهزومة عام 1942م يحضر الشعر الشعبي مؤكدًا صدق مقولته في كلمات تنضح سخرية ص 343 :

هابا يامرمي الدفاتر
شورك فاتر
يللي كنت علينا قادر
هابا يا مرمي المدافع
مانك نافع
حتى والألمان عليك يدافع

   ونظم الشاعر أحمد رفيق المهدوي قصيدة بعد انتصار تركيا بقيادة أتاتورك على اليونان، وقد أثار هذا الانتصار في بداية الأمر موجة من الفرح والسرور ص 80:

صلوا يا أهل الكمال
على النبي باهي الجمال
نسأل المولى تعالى
يحفظ الغازي كمال

   ونري تأزم وعي النخب الإسلامية في حينها بين انتصار تركيا على اليونان، وفقدان الخلافة الإسلامية كرمز لوحدة المسلمين في شعر أحمد شوقي في بائية مطلعها :

الله أكبر كم في الفتح من عجب
يا خالد الترك جدد خالد العرب

  وعندما أسفر أتاتورك عن حقيقة انتمائه العقائدي والفكري رثى أمير الشعراء الخلافة بقوله:

عادت أغاني العرس رجع نُواح
ونُعيت بين معالم الأفراح
كُفنتِ في ليل الزفاف بثوبه
ودُفنت عند تبلج الإصباح 

عودة الناس وهزيمة ايطاليا

  صفحة الكتاب الأخيرة تتحدث عن هزيمة القوات الإيطالية وعودة الناس إلى بيوتهم وهم معدومون لا يملكون إلا القليل من حطام الدنيا، واصفة همة وإخلاص رجال تلك المرحلة: 

   فشمروا عن سواعدهم وقاموا بترميم مساكنهم ثم شرعوا في إعادة بناء بنغازي بسواعدهم ودون الاعتماد على عامل أجنبي واحد ، وعند قراءتي هذا النص وقفت متأملا بين لحظة الحاضر؛ الذي تحولت فيه حاضنة ضمير ليبيا عمر المختـار إلى الأرض اليبـاب ، ونموذجاً لمسرح العابثين ، وبين الماضي الذي قدم فيه جيل الفداء ـ على الرغم من قلة ذات اليد ـ كل ما يملك لأجل البناء، ذلك الماضي الذي كان أحد دعائمه ونجبائه الأديب الدكتور/ علي الساحلي الذي جادت ملكته الأدبية بقصيدة في وصف بنغازي وأهلها، منها:

قالوا هنا بنغازي قلت وهل سوى
بنغازي ملعب صبوتي ومراحي 
بنغازي مهد طفولتي وفتوتي
ورجولتي وكهولتي وكفاحي
أزكى من الريحان ريح سباخها
بل من أريج المسك والتفاح

إلى أن يقول، رحمه الله :

يتسابقون إلى المكارم والعلا
وإلى فعل الخير والإصلاح
لا يرهبون الموت عند حدودها
يفدونها بالمال والأرواح
كم بينهم أعتز عند لقائهم
من إخوة غُر الوجوه صباح
أزهو بصحبتهم وأفخر شامخا
سيان في فرح وفي أتراح

  هذه السطور لا تفي بحق الكتاب، فهو من الكتب المهمة، والمؤسِّسة للذاكرة البنغازية، وحبذا لو خلا من التصحيفات المطبعية ، وازدان بالفهارس التوضيحية والصور التاريخية. 

صفحات من كتاب بنغازي في فترة الاستعمار الايطالي 

النهضة الثقافية في بنغازي

    لم تغير ايطاليا طيلة فترة استعمارها سياستها التعليمية ولم تعدلها إلى الأفضل، فقد ظل التعليم الخاص بالعرب مقتصرا على المرحلة الابتدائية وثلاث سنوات أخرى بمدرسة الصنائع، ولم يكن سهلا على الناس الحاق ابنائهم بمدارس خارجية باستثناء قلة من المقتدرين، ومع ذلك فإن ليبيا كجزء من العالم العربي لم تقطع صلتها بلغتها وتراثها رغم المتغيرات السياسية والاجتماعية التي عرفتها المنطقة عبر القرون.

  ووجدت إيطاليا وقت الاحتلال مدارس وصحفاً ومعاهد دينية كما وجدت نخبة من العلماء والمثقفين حافظوا على التراث العربي رغم ما مرت به البلاد من أحداث ومتغيرات، غير أن الجيل الذي ولد وترعرع في فترة الاحتلال تعرض لطغيان موجة الثقافة الإيطالية التي استهوته وتقبلها، غير أنه في نفس الوقت أراد أن لا يفقد هويته وقد وجد في الجيل الذي سبقه من أمسك بيده وعزز ارتباطه بماضيه. وفتح المثقفون والعلماء قلوبهم وبيوتهم لمساعدة الراغبين في تعلم لغتهم وآدابها وأصول دينهم. وكان من بين هؤلاء الأفاضل الشيخ رجب عثمان والشيخ أحمد مرسي والشيخ بو ختالة والشيخ الصفراني والشيخ خليل الكوافي وغيرهم من الأفاضل الذين لم تسعفنا الذاكرة باسمائهم. ولا شك أن هذه المبادرات الفردية كان لها تأثيرها الإيجابي وشجعت على إحياء اللغة والثقافة العربية التي ظلت كالنار الخامدة تحت الرماد تنتظر من يحركها لتستعيد اشتعالها. وفي اعتقادنا أن عدة عوامل قد ساهمت في بعث الثقافة العربية والاهتمام بها:

أولا: دور الصحافة المصرية التي كانت تصل بنغازي بصورة غير منتظمة، وقد اقبلت الطبقة المتعلمة وخاصة الشباب، على قراءة مجلات الرسالة والهلال وأبوللو التي كان يكتب بها في تلك الفترة عمالقة الأدب العربي، وكانوا يناقشون مقالاتهم في جلساتهم وسهراتهم وكان تأثيرها عليهم عظيما.

ثانيا: الرغبة في العودة إلى الأصل والتمسك بالتراث في وجه الغزو الثقافي الإيطالي وسياسة التمييز العنصري.

ثالثا: صدور مجلة ليبيا المصورة في أواخر عام 1935 التي أرادها المستعمر بوقاً للدعاية لتحقيق أغراضه فتحولت تدريجياً إلى مجلة عربية حافلة بالشعر والمقالات الأدبية والتاريخية والقصة الليبية، ووجد المثقفون فيها الوسيلة لنقل أشعارهم وأفكارهم إلى غيرهم من المواطنين وساهم فيها الكثير من الكتاب من طرابلس ودرنة وغيرها من البلاد الليبية.

رابعا: وجود أحمد رفيق المهدوي في بنغازي : يعتبر أحمد رفيق قاعدة أساسية في بناء النهضة الثقافية الحديثة في ليبيا وقد بدأ دوره في هذا الميدان عندما كان لا يزال في مقتبل العمر وقد سر آنذاك بانتصار مصطفي كمال على اليونان ذلك النصر الذي هز العالم العربي والإسلامي فنظم قصيدته التي تحدثنا عنها في أوائل الكتاب.

  وبالرغم من إن أحمد رفيق اضطر إلى الإبتعاد عن الوطن والإقامة في تركيا مرتين، الأولي في العشرينيات، والثانية في الثلاثينيات، إلا أن صلته بأصدقائه لم تنقطع وظلت تصلهم أشعاره حاملة معها حنيته وأشواقه للوطن ومشاعر الأسي والألم لفراقه. ومن المعتقد أن تأثير أحمد رفيق في الحركة الثقافية ظهر بصورة أكثر وضوحا في فترة الثلاثينيات التي نظم فيها أجمل وأبلغ قصائده، فقد وجد أمامه بوادر نهضة أدبية ووجد العديد من الشبان المولعين بالشعر والأدب يلتفون حوله ويدفعونه إلى المزيد من العطاء الفكري.

  لقد كان رفيق مدرسة قائمة بذاتها، فقد جمع بين الشعر والأدب والوطنية والإباء والشمم، وأصبح مثلا وقدوة للشباب، وكان شعراء درنة وطرابلس على صلة به وفي مساجلات معه، وعندما دعي لزيارة درنة أعجب بجمالها وبخلق أهلها وأنشد فيها قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

قلت لما رأيت درنة ما هذا
تباركت ربي أحسن الخالقين

  وسها رفيق خلال زيارته لدرنة عن زيارة شاعرها محمد عبد القادر الحصادي فأرسل إليه بقصيدة عتاب لإهماله زيارته ورد عليه رفيق بقصيدة إعتذار إلا أنها لم ترق للحصادي واتفق الطرفان على الاحتكام لشاعر ليبيا الكبير أحمد الشارف ليصدر حكمه في النزاع، وهذا مثل للجو الأدبي الرفيع الذي أوجده رفيق والذي شمل كل ليبيا، وكان يدل على أن بوادر نهضة فكرية جديدة بدت في الأفق وكانت تشق طريقها بصعوبة بين الأنقاض التي خلفها العهد الإيطالي.

  وكانت قهوة البحر (قهوة الشاطئ) الواقعة في آخر شارع عصمان، ملتقي الشعراء الناشئين ومحبي الأدب، وكانت المكان المفضل الذي كان يقضي فيه رفيق جلساته مع أصدقائه والذي شاهد مولد بعض قصائده، ووصف رفيق قهوة الشاطئ بعدة أبيات مطلعها:

قهوة الشاطئ ما أحلى الجلوس بها
بين الأحبة في تلك العشيات

  وكانت الحركة الأدبية البنغازية تتحرك في مواجهة الغزو الثقافي الإيطالي الجارف وفي جو سياسي معاد للغة العربية وأدابها وفي غياب جميع الوسائل أو التنظيمات التي تشجع على نمو نهضة عربية تحافظ على اللغة والتراث العربي، وذلك في الوقت الذي كانت تتوفر فيه الأسباب لنشر وتعميم الثقافة الإيطالية لمن أراد ذلك.

  ولم تعرف بنغازي لا في العهد التركي ولا في العهد الإيطالي أية مكتبة عامة يستطيع الباحثون والمثقفون الرجوع إليها عند الحاجة، في حين أنشأت الحكومة مكتبة إيطالية تضم عشرين ألف مجلد ومكتبة للآثار تضم أيضاً عشرين ألف مجلد بالإضافة إلى مكتبات البلدية والزراعة وغيرها ولم يعملوا على تأسيس أية مكتبة عربية في المدينة.

  غير أن بعض المثقفين ورجال العلم كانت لديهم مكتبات تتفاوت في محتوياتها إلا أنها كانت توفر للباحث بعض ما كان يحتاجه.

  وكانت المكتبة الوحيدة في بنغازي لبيع الكتب والصحف هي مكتبة محمد علي بوقعيقيص الواقعة في ميدان الحداد، وكانت شبه مركز ثقافي بقصده المثقفون لشراء حاجتهم من الكتب والمجلات وللقاء زملائهم وأصدقائهم، وكان صاحب المكتبة يبذل جهدا وتضحيات ليوفر للمدينة ما أمكن من مطبوعات عربية وقد أدت هذه المكتبة خدمات جليلة لأدباء بنغازي ومثقفيها.

  وأنشأ عوض زاقوب مكتبة أخرى في سوق الظلام ساهمت بدورها في إستيراد وتوزيع المطبوعات العربية التي زاد عليها الإقبال.

  إنزعجت السلطات الإيطالية من نشاط أحمد رفيق المهدوي ومن آرائه وأفكاره وتأثيرها في الشباب، فأمرت بإبعاده، وكان يوم رحيله من بنغازي يوما مشهودا حيث جاءت جموع من أهل المدينة لوداعه وكانت مظاهرة صامتة ضد الإجراء الإيطالي ودليلا علي المكانة التي كان رفيق يحتلها في قلوب مواطنيه.

وقد ودع رفيق وطنه بثلاث قصائد الأولى مطلعها:

سكنته يوم الرحيل فهاجا
شوق آثار المدمع الثجاجا

ومطلع القصيدة الثانية:

رحيلي عندك عز علي جدا
وداعا أيها الوطن المفدى

أما القصيدة الثالثة فكانت بالعامية وهذه أبياتها:

تبقى علي خير يا وطننا بالسلامة
رنا ندامة يا عون من فيك كمل أيامه
يا عون من فيك كمل أوقاته
في عز مرتاح لا قهر لا شماته
حتي مع الفقر والقل والشحاتة
تطيب المقامة لوما العدو فيك ناصب أعلامه

  وظل تأثير رفيق، بعد مغادرته للبلاد قائما في كل ليبيا وظلت أشعاره تتداول في كل مكان، وظل اسمه على كل لسان وكان من منفاه يشارك أبناء وطنه آلامهم وشجونهم ويغذي باستمرار لبنات الحركة الأدبية التي شاهد نشأتها وكانت قصيدة (غيث الصغير) التي نظمها في منفاه ملحمة شعرية وطنية الهمت حماس الناس بصورة عامة وأعتز بها الأدباء بصورة خاصة وكان لها وقعها وتأثيرها داخل ليبيا وبين المهاجرين في الأراضي المجاورة.

   ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن الثقافة والمثقفين أن نذكر بكل إعتزاز الأوائل من الأدباء الذين كونوا هذا الجيل فكرياً وعلموه وزرعوا فيه روح الاعتزاز باللغة والثقافة العربية وكان عطاؤهم لا حدود له، وهم الشيخ السنوسي المرتضي الذي يدين له بالفضل معظم أبناء بنغازي، والأساتذة مصطفي دريزة وباكير بادي وعلي الشركسي وحسين أشرف وحسني فوزي الأمير، ومصطفى الطياش وحسين فليفلة ومحمد عباس، وغيرهم ممن لم تسعفنا الذاكرة باسمائهم.

  من الصعب مقارنة الحركة الثقافية المتواضعة والمتهيبة التي قامت في ليبيا في الثلاثينيات مع الحركات المتشابهة التي قامت في الأقطار العربية الأخرى لاختلاف الظروف السياسية والاجتماعية والخلفيات. لقد قامت الحركة الليبية في ظل حكم استعماري جائر أعلن الحرب بصراحة علي اللغة والثقافة العربية وفي مواجهة غزو ثقافي إيطالي جارف، وندرك من هذا المنطلق مبلغ المشاق والصعوبات والجهود التي بذلت من أجل ربط الجيل الناشئ بلغته وتراثه، ومن المعتقد أن سياسة التمييز العنصري المذلة قد دفعت بالشباب إلى الاهتمام بلغتهم وحضارتهم وتراثهم وذلك كرد فعل طبيعي ومظهر من مظاهر التحدي.

   ومن المعروف أنه لم تكن تتوفر ببنغازي في تلك الفترة الأسباب والسبل المساعدة على تنمية المعرفة وتوسيع الأفق الثقافي، فقد كان على المثقفين الناشئين أن يعتمدوا على أنفسهم وعلى أصدقائهم وأساتذتهم لتنمية مداركهم اللغوية والثقافية.

  وهناك واقع لا يمكن إنكاره وهو المجهود الذي قام به في هذه المرحلة المدرسون الذين انتشروا في جميع أنحاء البلاد والذين غرسوا في تلاميذهم روح الإعتزاز باللغة العربية والإقبال على تعلمها. وكانوا في الغالب يتجاوزون المنهاج المقرر ومرامي سياسة أيطاليا في حصر تعليم العرب في تعلم مبادئ اللغة العربية وبعض سور من القرآن الكريم.

    لقد كان المدرسون، خلال فترة الاستعمار الإيطالي في جميع أنحاء ليبيا، الطبقة النيرة التي دافعت وحافظت على اللغة والثقافة العربية في ظروف صعبة معادية وكان لهم فضل المساهمة في مولد النهضة الثقافية الحديثة في ليبيا.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة