الحطية
حسين نصيب المالكي
الفصل الأول
( هذه الرواية من الخيال وكذلك الأسماء وإذا تصادفت الأحداث مع بعض الشخصيات فهو من محض الصدفة فقط )
-1-
أنت في حلم أم تتخيل أم ماذا ؟ هل يعقل أن تكون قدماك قد وطئت باريس؟ شوارعها النظيفة، المدينة التي تخلبك بسحرها وجمالها.. وأنت مجرد شاب بائس فقير ، كنت تقطن في حي يكتظ بأكواخ الصفيح المتلاصقة ، والأزقة الملتوية الضيقة ، والنوافذ الصغيرة الواطية ، ومسارب المجاري ، والقطط الغافية في البيوت، والكلاب التي لا تنبح إلا في الليل، والعجائز الذين يلعبون الشيزة عند مسجدها الوحيد من العصر وحتى آذان المغرب، وفتياتها اللواتي تكتظ بهن حنفيات مياه الحطية ..
و تتذكر كيف كنت تقطع تلك السبخة في الصيف نهاراً ، لصيد العصافير بالفخ والنشابة في وادي بوحبلة، أو مقبرة جدارية ،ثم مطاردة اليرابيع الشهية الطعم ، ثم كيف كنت تقوم بتعكير مياه عيون البردي ، حتى يفقد سمك البوري الأكسجين ، ويطفو فوق سطح المياه السوداء ، فيسهل لك القبض عليه، وتحمله في كيس إلى أمك ، حيث تجهزه لكم في وجبة شهية بالأرز ، إلى جمع النحاس وأواني الألمنيوم القديمة ، وبيعها للمرغني في وسط المدينة ، بعدها تتجه بما حصلت عليه من نقود ، تشتري سندوتش التن بالهريسة ، ومشروب صداقة من سي علي العمامي ، تدخل سينما حلمي تستمتع بمشاهدة فيلم الأبطال العشرة .. وصديقك الذي تتحول معه في شوارع المدينة الوادعة الصغيرة ، ويسمعك قصائده في حبيبته نزيهة..
مع مرور السنوات تذكرت كيف تحولت مدينتك الوادعة الصغيرة، إلى ثكنة عسكرية تضج بالمعسكرات غرباً وشرقاً والآف العسكر الذين هبطوا عليها فجأة ، بين يوم وليلة ،وأخيراً تتذكر هروبك من الجحيم ورحلتك الشاقة، وسفرك المفاجئ من مدينتك ، والارتماء على مقعد الحافلة القاصدة طرابلس في غرب البلاد ، رحلة استغرقت أكثر من اثنتي عشرة ساعة ، في تلك الحافلة السلحفاة المكتظة بالركاب وعند كل بوابة عسكرية ، كانت تتوقف الحافلة ، يصعد عسكري أو اثنان يحدقان في الركاب ، وعندما يقترب منك أحدهما يهتف بك :
- أوراقيك أنت؟
ومع صباح اليوم التالي كنت تدفن نفسك في مقعد الحافلة القاصدة تونس ، لترتقي في اليوم الثالث سلالم الطائرة القاصدة باريس، والتي تهبط بكم في مطار أورلي بعد ساعات ، إجراءات التفتيش وختم الدخول ، كنت تحمل حقيبتك وتسرع نحو أول سائق تاكسي تقابله يتوقف عند الرصيف ، كان قد تجاوز العقد الخامس من عمره أصلع الرأس أنيق الهندام دفعت إليه بالحقيبة التي وضعها في مؤخرة التاكسي كنا في آخر ديسمبر ،الجو قارس البرودة ورثاث الثلج يتناثر على زجاج التاكسي كالقطن كنت تعتقد أنه فرنسي حتى بادرك بالعربية:
- خوي عربي..
- نعم من ليبيا..
- من وين في ليبيا أنا أعرفها من طرابلس من بنغازي من زوارة..
- لا من طبرق ..
- هتف قائلا؛- عرب طبرق باهيين برشة أنا عملت هناك في السبعينيات مع صياد زواري على قارب صيد كنا نصطاد الحوت من شواطئ طبرق..
ثم تساءل :
- من أين في طبرق ؟
- من الحطية ..
- نعرفها الحطية وسوق العجاج وباب درنة والجبيله الحمرا أنا واللي كنت نشتغل معاه كنا نسكنوا في جبيلة النور..
يشغل مساحات التاكسي لإزالة الثلج عن الزجاج ، ثم بادرني قائلاً :
- أنت جاي هنا للدراسة..
- لا للبحث عن عمل ..
في دهشة وذهول :
- ليبي أمّسيب النفط وراه وجاي يدور شغل في بلد الجمال أمر غريب حقاً ..
التفت إليّ قائلا :
- هل لديك عنوان ؟ مرسل إلى أحد..
أجبته :
- لا
- سوف آخذك لواحد تونسي لديه مصنعا للورق.. لعله يجد لك عملا..
البرد قارس ورذاذ الثلج يتساقط ، السائق ينعطف بي من شارع إلى آخر وبعد دقائق توقف بي أمام مبنى قديم وطلب مني الترجل حملت حقيبتي الصغيرة وجرجرت قدمي خلفه دخل بي علي رجل مسن يرتدي نظارة سميكة كان يجلس في مكتبه رحب بنا جلسنا أخبره بحاجتي للعمل حدق في الرجل مليا ثم طلب جواز سفري أخرجته له بادرني قائلا:
- الذي جاء بك إليّ صديق قديم وأنا سوف أضعك تحت التجربة لمدة ثلاثة أشهر..
نهض السائق وقدم لي رقم هاتفه نقدته أجرته وزيادة ، وعدني أنه سوف يقوم بزيارتي في الأيام القادمة..
كان المصنع الصغير آلاته ساكنه لا أحد يعمل به ، فالساعة تقارب السابعة مساء مشى بي المدير نحو غرفة تقابل مكتبه قائلا لي :
- هذه الحجرة سكناك .. وأشار لي الحمام هناك..
كانت الغرفة بها سرير خشبي ودولاب وكرسي وطاولة وبعض البطاطين البالية ارتمت على السرير..
صحوت صباح اليوم التالي وسط البرد القارس جهزت لنفسي كوبا من الشاي سمعت بضعة عمال قد وصلوا خرجت إليهم سلمت عليهم شغلوا آلات المصنع كانوا جزائريين أقبل المدير بعد لحظات وضعني أمام ماكينة تخرج الكراسات وأمرني بوضعها داخل الكراتين..
ومضت الأيام على هذا المنوال رتيبة مملة ، لم أكن أخرج إلا إلى السوق المجاور، لأجلب الخبز والجبن والبيض والتن والماء، ثم أخلد إلى حجرتي الصغيرة ، وأدثر نفسي بالبطاطين ، لا أخرج منها حتى صباح اليوم التالي للعمل في المصنع ، وسط ضجيج الآلات وأحاديث العمال الجزائريين ، كنت أحاول أن أتأقلم مع الحياة وسط الغربة سأمت من الوحدة وأنا مازلت في أيامي الأولى .
-2-
وذات صباح سبت كان المصنع يخيم عليه الصمت والسكون، أطلت علي فتاة شقراء جميلة ، شعرها الذهبي مصفوف بعناية وجهها في لون سنابل القمح ، عيناها واسعتان كحبتي زيتون ، أنفها طويل شامخ بادرتني:
- بونجور
- أجبتها بونجور
سألتني :
- أبي ليس موجوداً
أجبتها :
- اليوم سبت وعادة لا يأتي.
- تفضلي
دخلت على استحياء مبتسمة ، كانت تحملق في الغرفة المرتبة المنسقة ، جلست على الكرسي الخشبي :- أنت أنا أراك هنا لأول مرة.
- نعم أنا العامل الجديد ..
- وأنا ياسمين ابنة مدير المصنع ونسكن قريباً هنا..
جهزت لها كوبا من عصير البرتقال بادرتني قائلة :
- ما اسمك ؟
- اسمي فتحي..
- هل تجولت في الحي اللاتيني مسيو فتحي..
- لا للأسف كنت لم أبرح غرفتي إلا إلى السوبر ماركت القريب من هنا لشراء احتياجاتي والعودة .
قالت وهي ترشف كوب العصير :
- ما رأيك أن نأخذ جولة في الحي اللاتيني و خاصة وأنا اليوم في إجازة..
هززت رأسي لها بالموافقة ، وارتديت معطفي أوصدت باب الغرفة وخرجت معها كانت رائحة عطرها نفاذة ، سبحان الله هذه هبطت علي من السماء أم ماذا؟ لتبدد وحدتي وتؤنس غربتي..
كان الجو دافئاً لا ثلج ولا مطر اقتربنا من مبنى كبير هتفت قائلة:
- هذه كتدرائية نوتردام
بعدها اقتربنا من حديقة جميلة قالت :
- هذه الحديقة كان من عادة فناني فرنسا إقامة معارضهم الفنية فيها في الهواء الطلق ، تركنا الحديقة، وسرنا في أزقة نظيفة ثم عبرنا إلى شارع تصطف على جانبيه مقاه مطاعم عديدة بادرتني:
- هذه مقاهي متخصصة مقهى للكتاب والأدباء مقهى للفنانين مقهى للناشرين وهكذا .
بعد أن تعبنا من السير قررنا الجلوس قليلاً في إحدى المقاهي العادية لاحظت العديد من التوانسة والجزائرية والمغاربة والأسيوية يعملون هنا في مقاهي الحي اللاتيني ، طلبنا كوبين من العصير اقترحت هي عليّ أن يكون على حسابها التفت إليّ متسائلة:
-أود أن أعرف يافتحي في أي عام ولدتم؟ وأين ؟
- أنا ولدت عام 1968م منذ ثمانية عشر عاماً ونحن اليوم في سنة 1986م في من أبوين ليبيين فقيرين لا يعرفان القراءة والكتابة في كوخ من صناديق الذخيرة الفارغة في مدينة طبرق وسط حي الحطية الأب كان يصحو من الفجر يتوضأ ويؤدي الصلاة ويغدو إلى عمله في الحامية البريطانية والأم ترعى شؤون الكوخ وإخوتي الأربعة الصغار ترعرعت في الحي دخلت مدرسة الضاحية قريبة من الحي تحصلت منها على الابتدائية والإعدادية عشت في حي الحطية عرفت مسالكه وأزقته وصادقت جميع صبيانه وحفظت أسماء فتياته ، وعشت طفولة بائسة وشقية..
- لكن نسيت أن سألك ما أسمك ومن أين هذا الجمال؟
- أنا أسمي آلين أمي فرنسية وأبي تعرفه ياسين مدير المصنع.
ثم نهضنا لنواصل نزهتنا حتى وصلنا إلى ميدان صغير قالت لي :
- هذا أصغر ميدان في باريس ميدان الأربعة شجيرات به متحف الفنان ديلاكرو ، كان المتحف موصداً وصلنا سيرنا حتى اقتربنا من محطة الميترو بادرتني قائلة:
- هذا الميدان يسمى ميدان الانتظار..
قضيت يوماً من أجمل أيام حياتي بصحبة آلين الجميلة في نزهة داخل الحي اللاتيني .
بعد ذلك عدنا حيث ودعتني عند باب المصنع عائدة إلى منزلها على أن نلتقي السبت القادم ..
يمر الأسبوع بطيئا حتى يأتي اليوم المنتظر للقاء آلين..
البارحة حلمت حلماً رهيباً عساكر مدججون بالسلاح يطاردونني للإمساك بي في سبخة الحطية وأنا أجري أمامهم ألهث ، وما أن دخلت أول زقاق ، حتى دفعت باب كوخنا وأوصدته خلفي من الداخل ودخلت غرفتي ، وارتميت على سريري وأنا اسمع دوي أقدامهم الثقيلة وهم يفتشون عني..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق