السبت، 6 فبراير 2016

الشعر العربي الحداثي ومستويات التلقي النص في المنظورات القرائية المعاصرة - د. عبد القادر عبو - الجزائر ...


الشعر العربي الحداثي ومستويات التلقي

النص في المنظورات القرائية المعاصرة

د. عبد القادر عبو - الجزائر

  القصيدة الحداثية هي نصوص متعددة في القراءة المعاصرة التي تنوعت مقارباتها النقدية، واختلفت الرؤى المتلقية لها، فالقراء أمام النص الشعري الحداثي مختلفون ومتعدّدون نظراً لاختلاف زوايا وأبعاد عملية التلقي التي تؤوّل تجليات هذه الكتابة وتمظهراتها الفنية المستحدثة.‏

  والمتتبّع لمسار هذه المقاربات النقدية التي أحاطت بالقصيدة الحداثية بالدرس والتحليل، يجد حضور آلية التأويل في القبض على المعنى المضمر فيها، أو تذوق سرية وميزة البنيات الجمالية المشكّلة للغتها وهيئتها الكتابية.‏

  إن كثافة الدلالة، واتكاء الشاعر المعاصر على عناصر متعددة في عملية البناء الفني، من توظيف لعنصر الرمز، والحكاية، وبنية السرد، والإيقاع الداخلي، وتشتت الصور، إلى لفّ ذلك في بنيات أخرى تعكس نفسية الشاعر مثل بنية الإحباط واليأس، والتمرد، والاغتراب إلى غير ذلك من البنيات المساهمة في تشكيل مراسيم جو النص الشعري الحداثي، كلّ ذلك جعل المتلقي يظفر بعنصر يدعوه إلى تلقي النص والتفاعل معه، وهذا ما يفسّر تعدّد القراء إزاء النص الواحد.‏

  ويمكننا أن ندلّل على هذه الظاهرة التي تمثل التنوّع في مستويات التلقي، بالدراسات النقدية التي عجّت بها المجلات النقدية والأدبية المتخصصة، إلى جانب المؤلفات التي راحت تطعّم مقارباتها النظرية بالعمل الإجرائي على النصوص المختارة، وبرزت في ساحتنا النقدية أسماء نقاد شكلوا مسارات متمايزة في هذه الدراسة والتي راحت تقرأ النص من وجهة الخلفية النظرية النقدية كمرجعية استقرت في وعي الناقد وخطابه كوسيلة للتلقي.‏

  وحقيق بنا أن نذكر بعض الأسماء التي قدّمت قراءات معاصرة وغنية بالزخم المعرفي والفلسفي والجمالي، وحققت نقلة نوعية في تطوير الآلة النقدية العربية، وإخراجها من سياج مقولات النقد التقليدي الذي بقي رهين النظرة الثنائية (الشكل والمضمون)، وفتحت مساحة أوسع في تذوّق جمالية كتابية جديدة، فيها من المتعة والولوج في أغوار اللغة الشعرية، والتعامل مع دلالاتها وإيحاءاتها مما يمنح للنص انفتاحه وتعدّده، بل وخلوده وقابليته للقراءات وتجدّده مع كل قراءة.‏

  وتمثِّل أعمال النقاد العرب المعاصرين مستويات من هذا التلقي أو مجموعة التلقيات التي تؤرخ للنقد وللإبداع معاً، لا من حيث زمنية إنتاج النص فحسب، وإنما من حيث تلقّيه والآثار التي يتركها في متلقيه بوصفهم مجموعات وأفراد تفرّق بينهم مستويات اجتماعية وطبقية وثقافية وتذوّقية، والنقاد هم أنفسهم أفراد ينتمون لطبقات اجتماعية ويمتلكون مستويات علمية متفاوتة ورؤى نقدية مختلفة، ومرجعيات إيديولوجية، وانتماءات مذهبية...‏

  ومن بين الأسماء التي نذكرها على سبيل التمثيل: (محمد بنيس، حاتم الصكر، شربل داغر، يمنى العيد، عبد الملك مرتاض، عبد الله راجع، أحمد يوسف، محمد الماكري، كمال أبو ديب، صلاح فضل، ماجد السامرّائي، الغذامي، يوسف سامي اليوسف، يوسف الحلاوي، فاضل ثامر، عبد العزيز المقالح....)‏

   والمتتبع لعناوين الدراسات النقدية المتنوعة التي عجّت بها الساحة النقدية العربية تنبئ على ا لتفاوت النوعي في استيعاب النظرية النقدية وتطبيقاتها على النصوص الشعرية، وهي بذلك تمثّل تعدداً في مستويات التلقي عند النقاد العرب المعاصرين، ومن هذه العناوين: (الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية ــ قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر ــ للدكتور عبد الله الغذامي وهي أول دراسة نقدية تعلن انتماءها لمنهج القراءة التفكيكية...‏

  ويقدّم لنا الدكتور عبد الملك مرتاض تجربة قرائية لقصيدة عربية معاصرة للشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح تحت عنوان "بنية الخطاب الشعري ــ دراسة تشريحية لقصيدة ــ أشجان يمنية ــ والعمل النقدي الآخر (التحليل السيميائي للخطاب الشعري ــ تحليل مستوياتي لقصيدة شناشيل ابنة الجلبي ــ)، والدراسة الموسومة بـ: القصيدة المغربية المعاصرة ــ بنية الشهادة والاستشهاد لعبد الله راجع ــ والأعمال النقدية للناقد الشاعر محمد بنيس "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب ــ مقاربة بنيوية تكوينية"، والدراسة النقدية التي قدّمها الدكتور أحمد يوسف: (يتم النص ــ الجينيالوجيا الضائعة ــ تأملات في الشعر الجزائري المختلف) ــ شربل داغر ــ (الشعرية العربية الحديثة ــ تحليل نصي)، ومحمد الماكري: (الشكل والخطاب ــ مدخل لتحليل ظاهراتي)، ود. صلاح فضل (ــ شفرات النص ــ دراسة سيميولوجية في شعرية القص والقصيد)... إلى غير ذلك من الدراسات التي مازالت تتوالى تباعاً في ساحة نقدنا العربي الراهن، وهي تشهد على ذلك الانفجار المعرفي في قراءة النص الشعري الحداثي مسجّلة بذلك تنويعات في عملية التلقي التي تعدّدت بتعدد النقاد انطلاقاً من اختلاف أبعاد زاوية التلقي وخلفية التحليل والقراءة والدراسة.‏

   وفي مواجهة النص الشعري الحداثي وقراءته وتلقيه توسّل كل ناقد قراءةً عُدّت منهجاً أو استراتيجية لتلقي هذا الشعر وفهمه، والسبب الأساسي في ذلك في نظرنا هو أن شعر الحداثة العربية المعاصرة صعب ومبهم ومشتت دلالياً، فيه من الفراغات والمساحات البيضاء ما جعله يستعصي على القراءة العادية، ويقحم القارئ في ملئها، ذلك أن المدلول يبدو منفلتا من الدال المعجمي ومتمرداً عليه حتى اتسعت المسافة أو البعد L,ECART بينهما، وأهم صفة كانت ملازمة لشعرنا العربي كونه ديوان العرب، يمثل الوثيقة أو السجل لما يتضمنه من المناسبة والحدث والتاريخ والواقعة، هذه الصفة سقطت من الشعر الحداثي وغابت هوية النصوص، وبالتالي غابت هذه الوظيفة التقليدية الإخبارية التقريرية، وعملية النقل التي مارسها الشاعر التقليدي تسجل وعياً تاريخياً، وهذا ما لم يتحقق في الممارسة الشعرية الحديثة أين تخلخل الوعي وغابت الدلالة وانتفت المناسبة والفكرة الجاهزة والحدث، وحلّت محلّها الرؤيا، مما جعل دور القارئ في تذوق النص مهمّاً لإنتاج المعنى واستيحائه، من خلال تحسس أي ملمح يشير إلى الدلالة وينتجها.‏

  والعامل المشترك بين التأويل كآلية للتلقي، وبين شعر الحداثة هو (التساؤل)، الذي يمثل أداة تأويلية مع المتلقي، وإذا جوهر شعر الحداثة هو قلق السؤال والمغامرة في مجهول الذات والبحث عن إمكانات جديدة للغة الشعرية واختبار طاقاتها التعبيرية، فإن التساؤل ذاته يتحقق لدى المتلقي في أثناء القراءة والتقبل، إذ ليس المعنى جاهزاً أو التعبير تقريرياً، وإنما تنامي التأويل يزداد حضوراً مع التساؤل الضارب في الارتباط والحيرة، وعلى هذا الأساس تتكاثر وتتوالد الأسئلة مع القراءة التأويلية في سلسلة من علامات الاستفهام، ذلك أن "شعر الحداثة ليس قراءة عابرة للكون وللعالم وإنما قراءة تفسرهما وتؤولهما، وتلقّيه بالتأويل وقوف إزاء موقفه من هذا العالم. وشعر الحداثة لا يحمل دلالة نهائية محددة، فالدلالة فيه احتمالية وملتبسة ومؤجلة، أي منفلتة من الحصر والجاهزية."(1)‏

  وبما أن شعر الحداثة يلفه الغموض والالتباس وكثافة المعنى فهو في طليعة الكلام الذي يجعل من التأويل مفتاحاً لمغاليق المعنى فيه، وخصوصاً بعد أن تقدمت نظرية جمالية التلقي في إبراز دور القارئ المتقبل للنص الأدبي في عملية الاستجابة وإنتاج المعنى، وهذا ما دفع صاحب الدراسة إلى جعل التأويل "هو القراءة أو آلية التلقي القادرة على انتظار المؤجّل وفهم الملتبس وقبول المحتمل..."(2).‏

   ونحن إذ نشير إلى التأويل بهذه الإشارة المستفيضة لا لنجعل منه القراءة الوحيدة التي تقترب من النص الشعري العربي المعاصر كما يدّعي أصحاب المقاربة التأويلية، ولا لأننا اخترناه كاتجاه من بين الاتجاهات النقدية التي طغت على ساحة نقدنا المعاصر، وإنما بهدف إبراز مقدمات التفاعل مع هذا الشعر من قبل قرائه على مختلف مستوياتهم، فكانت آليات التأويل من بين هذه الأدوات التي يستعين بها القارئ المتذوق على فك ما غمض من الشعر وما التبس فيه من معنى.‏

   وللإشارة فقط فإننا نبحث في ضروب التلقي التي واجهت قراءة هذا الشعر المعاصر مع ما أحدثه من اهتزازات لدى القراء والنقاد على السواء، وهذا لما حققته القصيدة المعاصرة من انتقال نوعي في بنياتها الجمالية. ويعدُّ ذلك النفور من هذا الشعر من قبل البعض أو الدفاع عنه من البعض الآخر، مدعاة إلى البحث في هذه الثنائية الضدية المتقابلة من جهة، ومن جهة أخرى هذا التعدد في التحليل والتفسير والتأويل للقصيدة الواحدة من قبل نقاد متعدّدين.‏

   وقراءتنا من قبيل التمثيل لقصيدة (عابرون في كلام عابر) تقودنا إلى تعددية في التفاعل معها من قِبل ناقدين اهتما بالشعر العربي المعاصر دراسة وتحليلاً، هما "عبد الله الغذامي وحاتم الصكر".‏

ــ الناقد الأول (الغذامي) انطلق من فكرة تعدّ نواة تحليله لمجموع تفاصيل القصيدة، إذ اتخذ من عنوان القصيدة علامة دالة تضيء له مغاليق المعاني فيها، وأعطى لهذه العلامة الوظيفية التنبيهية، أي تنبيه الآخر بوجود الأنا المقاوم، ويتخذ من السياق الخارجي الذي تتحرك فيه القصيدة وما تتركه من آثار نفسية وسياسية على المحتل مرتكزاً لتأويل النص من الداخل..‏

  ويتخذ أيضاً من الجملة الشعرية المتكررة في ثنايا القصيدة (أيها المارون بين الكلمات العابرة) والموجودة في مطلع القصيدة وفي ختامها نواةً تتفرع منها الدلالات وتتشظى المعاني التي تصب في النهاية في هذه ا لفكرة التي يؤمن بها الشاعر ويعتقدها في حسه ووعيه ويؤكدها إبداعاً. فالناقد يقف عند هذه الدلالات التي تؤكد على حق الفلسطيني في أرضه ومناهضته للمحتل.‏

   أما الناقد (حاتم الصكر) يقدّم قراءة أخرى تتقاطع مع قراءة الغذامي في التمركز التأويلي حول عبارة (أيها المارون)، غير أنه يفترق معه في اتخاذه للحدث المهيمن أو المنتج للقصيدة أساساً تأويلياً في فهم القصيدة والمتمثل في الانتفاضة، أي إسقاط الخارجي على الداخلي من النص الشعري.‏

  ففي دراسته لموسيقى القصيدة ولقوافيها المتكررة يقف على اندفاعية اتجهت قليلاً نحو الخطابية لولا إنسيابية الشاعر وتدفقه العفوي وتلقائيته التعبيرية سمحت له بالابتعاد عن هذه الخطابية المبتذلة في الشعر الحداثي، على الرغم مما فيها من حماسة وثورة وإصرار تجلت من خلال صيغ الأمر والنداء والتكرار..‏

وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء.‏

وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء.‏

   يتخذ (الصكر) من لفظة الحجر عنصراً دلالياً يحيل على الانتفاضة وإلى المقاومة التي لا تقبل المساومة أو التنازل وهذا إشارة تناصية إلى قصيدة (أمل دنقل) "لا تصالح".‏

   بهذا الاختصار في الإشارة إلى هاتين القراءتين لنص شعري واحد يبرز التلقي من خلال التعدد في التأويل وفي القبض على العناصر المهيمنة على النص، فما كان يمثل العلامة الدالة أو النواة عند (الغذامي) كان عنصر آخر عند (الصكر)، ومن خلال العناصر البارزة استطاع الناقد أن يحققا عنصر الاستجابة والتفاعل مع بنيات النص، في إطار عملية تأويلية وُظِّفت خلالها كل الإمكانات المتاحة من قبيل العناصر الخارجية السياقية، والعناصر الجمالية الفنية البانية للنص، وخصوصاً العلامات الدالة.‏

   أما النص الثاني الذي استهوى القراء وخُصِّصت له قراءات نقدية متعددة من قبل نقاد أمثال (خالدة سعيد، وكمال أبو ديب، ومحمد بنيس، وأسيمة درويش) فهو للشاعر الناقد "أدونيس" (هذا هو اسمي)، والقصيدة طويلة استغرقت من الديوان خمس عشرة صفحة، وبالتالي فإن تحليلها ودراستها بأية مقاربة نقدية يستغرق الكثير، ولهذا فإننا نركز على الزوايا التي انطلق منها كل ناقد على حدة في تفاعله مع النص من باب الاستجابة والتقبل وفق آلية التأويل التي اختارها لولوج عالم النص.‏

قراءة "خالدة سعيد" لقصيدة (هذا هو اسمي)‏

   تطرح الناقدة جملة من الأسئلة المتصلة بالقصيدة من حيث بنياتها الفنية، ومن حيث حمولتها المعرفية، ونظراً لما تثيره القصيدة من أسئلة حول ماهيتها ورسالتها التعبيرية فإنها تنمّ عن كثير من الغموض الفني الذي يكتنفها ويحيط بلغتها وطاقتها التعبيرية المخالفة للقول الشعري المألوف، مما جعل الناقدة تطرح أسئلة حول الوزن وتداخل الأصوات، ماهية القصيدة من حيث مضمونها الشعري وموضوعها، هل هي قصيدة حب أم قصيدة ثورة؟ لماذا غياب الروابط إلى درجة عدم التفريق بين عالم الوعي واللاوعي، ما هي حدود الذاتية وحدود الموضوعية في القصيدة؟‏

   تجيب الناقدة على هذه الأسئلة من خلال رؤيتها للتجديد الشعري الذي يحمله الشاعر "أدونيس" وتؤمن به هي أيضاً، فترى أن القصيدة دعوة إلى التخطي والتجاوز الشعري، فهي تمثل هدماً للثابت في الشعرية العربية من تقاليد تعبيرية وأسلوبية، وهي في الوقت ذاته إعلان شرعية التغير، وأيضاً هي دعوة للقارئ حتى يتسلّح بروح المغامرة والتجريب في الإبداع بدل السكونية والبقاء في الرتابة والتقليد.‏

ففي قول الشاعر:‏

ما حيا كل حكمة‏

هذه ناري‏

لم تبق آية‏

دمي الآية‏

  تنطلق الناقدة من مفرداتها التي تحيل حسب رأيها إلى الثورة وإلى الثائر العربي الذي يقدّم دمه فداء وتضحية، إذ إن دلالات الثورة والفداء بادية في لفظة (دمي)، (هذه ناري). فهل قُرِأت هذه العبارة بهذا المعنى عند النقاد الآخرين.‏

  أما قراءة "أبو ديب" لمقطع من هذه القصيدة ــ هذا هو اسمي ــ فقد انطلقت من زاوية أخرى اهتم من خلالها بالجانب الإيقاعي لتجسيد انفتاح النص بوصفه نصاً حداثياً قابلاً لتعدد القراءات وفق تشكيلات إيقاعية جديدة متجاوزة الإيقاع النمطي المتوارث شعرياً، فكثافته الإيقاعية تعدّ عنصراً من عناصر غموضه وجمال إيحائه، فهذا النص نسيج إيقاعي مركب من أصوات متداخلة ومتموّجة، تنفجر منه إيقاعات جديدة، إذ يمكن أن نتخيله "شعري كلوحة تجريدية تتداخل فيها الخطوط والألوان عبر مساحة اللوحة، خالقة أبعادها الخاصة، وحركتها التي لا قاعدة لها سوى نفسها، أو لا حدود لها إلا حيث تختار هي أن تقف، بعد أن تكون قد أكملت رحلتها الأخيرة"(3).‏

  وعليه نطرح نحن كقراء لهذا المتن الشعري ولهذه القراءة سؤال التلقي، ما الذي جعل من الناقد (أبو ديب) يهتم بدلالة الوحدة الإيقاعية دون غيرها من الدلالات الموجودة في النص؟‏

  قد يرجع الأمر إلى نوع من التماهي مع النص انطلاقاً من نظرة نقدية تدخل في إطار مشروع الحداثة الشعرية الذي يرى في تجاوز الشاعر المعاصر وأدونيس في الطليعة للإيقاع الشعري المنتظم في نمطية مكرورة ومتوارثة، وإبداعية بنيات إيقاعية متداخلة وموازية لحالات متعددة في نص واحد تمثل دلالة فنية تحيل على عناصر نفسية وجمالية وحضارية.‏

   ونأتي إلى قراءة ــ محمد بنيس ــ لهذا النص الشعري ــ هذا هو اسمي ــ ونقف على الزاوية التي انطلق منها، وبالأحرى من النقطة التي مثلت عنصر استقطاب لتملّيه هذا النص وتذوّقه لشعريته،وحقيقة وجدنا الناقد يركز على فكرة التناص مبتعداً عن التوجهات الدلالية الأخرى البانية للقصيدة.‏

  قد يوحي هذا التوجه القرائي إلى استحواذ فكرة التناص على قراءة ــ بنيس ــ وعلى رؤيته النقدية المواجهة لنص مثقل بنصوص مهاجرة إليه وفق طرق الامتصاص والمحاورة، في تداخل نصي أعطى للغة الشعرية دلالات وأبعاداً تشير إلى شخصية الشاعر وظروفه الحياتية ومواقفه الثائرة على السكونية والتقليد، فالمحو والاسم والدم نصوص مستدعاة من الرافد الديني والصوفي وهناك أيضاً نصوص من الثقافة الغربية، إذ يشير ــ بنيس ــ إلى عملية التأثر والتأثير كدلالة تناصية لها مشروعيتها في الإبداع الشعري المعاصر بتقنيات متجاوزة لما بيّنته البلاغة العربية القديمة.‏

   أما القراءة الرابعة* التي تفاعلت مع هذا النص لأسيمة درويش، وهي قراءة انطلقت من ثلاثة مبررات كمدخل لهذه القراءة وهي كون هذه القراءة أساسها مقترب تأويلي، وأيضاً لأنها تلتحم مع لغة النص بحثاً عن شاعريتها المتفجرة في عالم الدلالات والإيقاعات، وكذلك هي قراءة تتقصى الإشارات اللغوية والظواهر الأسلوبية، وهذا يحمل دلالة الالتباس والغموض التي تكتنف الشعر الحاثي ومنه شعر أدونيس.‏

  قصيدة (هذا هو اسمي) كما قرأتها الناقدة "أسيمة" وهي متسلحة بالعناصر الثلاثة التي بيّناها وخصوصاً اهتمامها بالجانب الإشاري للغة جعلها تتفاعل مع النص إلى درجة تداخل أفقها مع أفق النص. فهي ترى أن القصيدة دعوة إلى التغيير انطلاقاً من فكرة المحو التي استهل بها الشاعر نصه:‏

ماحياً كل حكمة هذه ناري‏

لم تبق آية، دمي الآية‏

هذا بدئي‏

...‏

قادر أن أغير لغم الحضارة ــ هذا هو اسمي‏

   في النص توهّج واتقاد وثورة تحيط بكيان الشاعر بل تملؤه إلى درجة أن لا أحد ولا أية قوة قادرة على أن تقف أمام مشروعه التغييري، وخاصة إذا أدرك القارئ أن النص جاء بعد هزيمة العرب عام 1967، مما يعطي للنص مجال تحققه في وعي القارئ العربي لما يمثله من ردة فعل من قِبل الشاعر الذي انتفض على كل ما يحيط به من أفكار المجتمع العربي وتقاليده وسكونه وهزائمه المتتالية، وفي الوقت ذاته يحمل دلالات رؤيته للواقع وللمستقبل.‏

  (هذا هو اسمي) عنوان يبوح بهوية صاحبه وبرسالة النص، ومن خلاله يُقرَأ النص، وهذا ما توصلت إليه الناقدة عندما أدركت من خلال هذه القراءة التأويلية لهذه العلامات الإشارية بدءاً بالعنوان أنّ عالم أدونيس الشخصي مليء بالحلم والتمرد والثورة على ما هو كائن، وأنّه يحمل مأساة الإنسان العربي المثقل بهموم الضياع والهزيمة والتخلف، والباحث عن عالم آخر.‏

  ويمكننا أن نجمل ما أورده الناقد "حاتم الصكر" في كتابه (ترويض النص)* من مقاربات نقدية اشتغلت على النص الشعري الحداثي مستندة على مرجعيات معرفية وأدوات إجرائية، وكانت موزعة بين رؤيتين الأولى: جزئية تقصر مهمة النقد في إظهار علاقة النص بجانب واحد من جوانب التأثير في الإبداع، وقد جسدت هذه الرؤية ثلاثة مناهج هي: المنهج الواقعي، والمنهج النفسي، والمنهج الرمزي الأسطوري، وقد أشرنا إلى هذا في الفصل الثالث من الباب الأول من هذا البحث، وأطلق عليها الناقد ــ الصكر ــ اسم التحليلات المنهجية الجزئية، وهي مناهج غير نصية تهتم بالعوامل الخارجية في تشكيل العمل الأدبي، وهي التي اهتمت بالسياق على حساب النص إلى درجة تقديم تفسيرات وتأويلات قد تبتعد عن الدلالة النصية لترضي رغبة الناقد أو القارئ.‏

  وانحصرت مهمة الناقد في نثر الأبيات الشعرية، وإنهاء التحليل بأحكام قاطعة، انطلاقاً من التركيز على فهم المضمون أو البحث عنه، "فكأن للشاعر هدفاً أخلاقياً أو اجتماعياً مقصوداً"(4).‏

   أما الضرب الثاني من التحليلات التي تتخذ من النص سبيلاً لتطبيق مصطلحاتها ومفاهيمها حتى يتوهم القارئ أن هذه المناهج أحاطت بالنص وفق شمولية عامة وتناولت جميع عناصر العمل الأدبي، غير أنّ المتأمل في هذا الإجراء النقدي يقف عند أحادية نقدية اتخذت من عنصر نصي مدخلاً لتحليلاتها، ذلك أن النص الأدبي تنصهر في بنيته عناصر متعددة تمنحه شعريته، وبالتالي التفرد بعنصر واحد في أثناء عملية التحليل وإهمال بقية العناصر الأخرى، والعلاقات الداخلية في تشكل النص لا يفي بالعملية النقدية المتكاملة. وهذا ما نجده في التحليلات التي انطلقت من عنصر واحد جعلته نواة استقطاب لاشتغالها النقدي، ويتضح "هذا العزل في التحليلات المنطلقة من علوم اللغة، والصوت والبلاغة والإيقاع على نحو خاص"(5).‏

  هذا الاتجاه التحليلي يبرز الناقد نمطين من التحليلات التجزيئية: فني يرصد الظاهرة من النص، ونوعي يهدف إلى جنس النص المحلل ومزاياه.‏

النمط الأول (الفني) : يعتمد على معيار واحد في تحليل خاصية واحدة من خصائص البنية النصية، وعلى سبيل المثال ما ذهب إليه أكثر من ناقد في اختيار ظاهرة الغموض كخاصية فنية في الشعر العربي المعاصر، ودراستها دراسة مستفيضة سواء من حيث بلاغتها في الفكر النقدي القديم أم في الوعي الجديد والممارسة الإبداعية الحداثية، وهذا ما قام به الناقد (خالد سليمان) في تحليله للنصوص الشعرية من منطلق الغموض في الشعر الحر" بعد أن مهد بدراسة نظرية مركزة حول ظاهرة الغموض في الدراسات النقدية القديمة والحديثة....‏

  وفي تحليل قصيدة (المصباح) لأدونيس يقف المحلل على الالتباس الذي يحصل بسبب إرجاع الضمير إلى عائده، والمعنى النصي لبعض المفردات، ثم التوافق والتضاد بين المتكلم والغائب وصورهما التعبيرية"(6).‏

النمط الثاني (نوعي): ينطلق من نوع العمل الشعري أي من إجناسيته لتبرير تشكله الفني، فيكون شكل العمل الشعري معياراً لفنيته، فمثلاً القصيدة القصيرة التي وردت على شكل أبيات معدودة تمثل في نظر النقاد دفقة فكرية واحدة لها بدايتها ونهايتها، أي سيطرة الشكل على المحتوى، وهذا ما توقف عنده الناقد (علي الشرع) في أثناء قراءته النقدية لقصائد "أدونيس"، ومنها (مرآة للقرن العشرين) المكونة من سبعة أبيات، مستنتجا أن هذه القصيدة تصلح مثالاً "على الجهد العقلي أو الحضور المنطقي لدى الشاعر عند تأليفه هذا النوع من الشعر"(7).‏

  وفي خلاصة بحثه السالف الذكر يؤكد الناقد على أن انتقال "التحليل بالنقد من التنظير وهيمنة التجريد الفكري وتبعية التطبيق له، إلى اقتحام النصوص، وجلاء أسرارها الخفية، لا ينجز هذه المهمة إلاّ محلل يدرك قوة النص، ولكنه يعمل على ترويضه للإحاطة بهذه القوة النصية..."(8).‏

  تمثل هذه الدراسة مسحاً لمجموع القراءات التي تلقت الشعر العربي المعاصر وقدّمت رؤيتها النقدية من زوايا فكرية مختلفة واقتربت من النصوص انطلاقاً من عناصر معينة كانت نواة اشتغالها النقدي.‏

   يمثّل النمطان النقديان ــ الفني والنوعي على حد تعبير صاحب الدراسة "حاتم الصكر" ضربا من التلقي الذي هيّأت أسبابه ظروف العصر الثقافية والفكرية والإبداعية، فكان النص الشعري في كليته البنائية دعوة للمتلقي/ الناقد ليسبر أغواره من الزاوية التي يرى فيها دلالة إنتاج المعاني وجمالية التركيب الشعري.‏

   هذا التعدد في الرؤية النقدية أفرز تنويعات على مستوى التعامل مع المصطلحات ومع النص الشعري في حد ذاته، لقد وصفت المناهج المعاصرة النص على نحو ما تراه من أهمية المستويات أو العناصر، فأصبح النص (تحفة) للتأمل والوصف على رأي مدرسة النقد الجديد، وصار (دليلاً) أو (نسيجاً) على رأي البنيويين والأسلوبيين، وانتقل إلى حيز القراءة لإظهار معانيه المغيبة أو المكبوتة. فغدا (بينة) لدى التأويليين و(ميثاق قراءة) لدى نقاد التلقي وجمالية الاستقبال، فيما كان (وثيقة) على رأي المناهج التقليدية"(9).‏

هوامش:‏

1 ــ د. عبد الرحمن محمد القعود/ الإبهام في شعر الحداثة ــ م. س: ص 296 ــ 297.‏

2 ــ نفسه: ص 297.‏

3 ــ كمال أبو ديب: الحداثة، السلطة، النص، مجلة فصول/ المجلد 16 ــ ع2 ــ خريف 1997، ص 51.‏

*ــ ارجع إلى الدراسة التي أنجزتها الناقدة ــ أسيمة درويش ــ في كتابها/ مسار التحولات: قراءة في الشعر أدونيس ــ دار الآداب ــ بيروت ــ ط1 ــ 1992.‏

*ــ للمزيد من الإطلاع ارجع إلى: حاتم الصكر ــ ترويض النص ــ دراسة للتحليل النصي في النقد المعاصر ــ إجراءات ومنهجيات ــ الهيئة العامة للكتاب/ 1998.‏

4 ــ نفسه ــ ص 150.‏

5 ــ حاتم الصكر ــ ترويض النص ــ م. س:‏

ص 166.‏

6 ــ حاتم الصكر ــ ترويض النص ــ م. س: ص 203.‏

7 ــ نفسه، ص 204.‏

8 ــ نفسه: ص 204.‏

9 ــ نفسه: ص 225.‏

للمراسلة: الأستاذ/ عبد القادر عبو ــ من مواليد 1946 بالجزائر.‏

ــ شارع مقدول سعيد رقم 09 ــ مدينة سعيدة 20000 ــ الجزائر.‏

الفاكس/ 45 ــ 51 ــ 51 ــ 84 ــ 00213 ــ‏

البريد الإلكتروني: med- abbou@ maktoub. Com‏

ملخص سيرة ذاتية:‏

ــ أستاذ النقد الحديث والمعاصر ــ كلية الآداب ــ جامعة سعيدة ــ الجزائر.‏

ــ متحصل على شهادة ــ ماجستير في النقد الحديث.‏

ــ رسالة دكتوراه في النقد ــ جمالية التلقي في الشعر الحداثي .


ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة