تجليات الحداثة في القصة السعودية المعاصرة
لسعود بن مسفر العبدالله
أجيال داخل التصنيف.. وخارجه
الاتحاد - 27 فبراير 2014 - محمود عبد الله
يقول الأديب والناقد السعودي أحمد عائل فقيهي: «هناك صورة تم تعميمها في أذهان كثير من الناس، وحتى عند الكثير من الذين ينتمون إلى المعرفة والأدب داخل الوسط الأدبي بأن الحداثة هي ضد الثوابت الدينية والاجتماعية، والنظر إلى الحداثة على أنها لا قيمة لها، ولم تقدّم الجديد في عالم الفكر والثقافة والإبداع، وهي صورة نمطية ساهم في تكريسها غياب الفهم الحقيقي لمعنى هذا الاصطلاح الذي غزا حياتنا الثقافية بقوة، وما زالت تأثيراته واضحة على معظم نتاجاتنا الأدبية، لذلك فإن غياب الفهم الحقيقي والعميق، هو ما أدّى إلى تكريس هذه الصورة النمطية في تجلياتها المختلفة، ذلك أن الحداثة ليست مرتبطة بحداثة الأدب، وإيجاد لغة جديدة في الشعر والقصة والرواية والمسرح والفن والموسيقى، ولكن تطوير الذهنية الاجتماعية باتجاه استيعاب المصطلحات والمفاهيم الجديدة، والانفتاح على ثقافة وتقنيات العصر. إنها في الواقع منظومة حضارية كاملة، لم تتحقق عربيا في تحديث الدولة العربية والخطاب السياسي العربي، لكنها تحققت في الحداثة الشعرية والأدبية، وكان أبرز تجلياتها في الثورة الشعرية على نموذج القصيدة التقليدية» (1).
وقبل أن نبدأ، لا ضير أن نستعير بعض ما قاله الباحث الأكاديمي التونسي عبدالوهاب المؤدب: «أحب القديم من كثرة حداثتي»، ومعنى هذا الكلام المؤسس على وعي حقيقي، والمبني على معرفة بالتراث والحداثة، أنه كلما أوغلت في حب وعشق وقراءة القديم في الشعر والنثر والقصة والتاريخ والفلسفة ومختلف العلوم والآداب الانسانية، كنت أكثر إلماماً ووعياً بالحداثة.
نقول كل هذا الكلام، بعد قراءة أحد أهم الكتب في هذا الإطار بعنوان «تجليات الحداثة في القصة السعودية المعاصرة ـ دراسة تحليلية للقصة القصيرة السعودية من 1390هـ - 1419هـ»، لمؤلفه سعود بن مسفر العبدالله، المدرس بكلية اللغة العربية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ونقرأ أول جزء من هذا الكتاب القيم تحت عنوان «تجليات الحداثة في المضمون». فأين كل ذلك من المشهد الثقافي السعودي؟ في ظل السجال الذي ما زال دائراً: حول سوء الفهم الذي ارتبط بالحداثة منذ أن خرجت في ثقافتنا العربية منذ نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات في العراق على يدي نازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، وبدر شاكر السياب، وبلند الحيدري.
هجوم على الجيل الثالث
نعتقد أن خطورة هذا الكتاب تكمن في تصنيفاته للمشتغلين في حقل القصة القصيرة السعودية، نكتشف ذلك من مقدمة المؤلف، الذي يرى أن هناك أجيالا ثلاثة تعاقبت عليها، من جيل نسج على نمطية البناء التقليدي مزجا بين الرواية والقصة، وجيل ثان يحلّق بين الواقعية الجديدة والرومانسية، وجيل ثالث، لم يعد تصنيفه في أي مكان، بعد أن تحوّلت مفاهيمه ولغته، وبحسب بن مسفر: «فهم لا يلتزمون بالبناء التقليدي، ولا يحتذون نمطية غربية محددة، بل تجد الألوان الأسلوبية المختلفة بالخيال السريالي، والجدل الوجودي، والفكر التحليلي النفسي، كلها بين يديك تجمعها قوالب القصة السعودية المعاصرة في مجموعاتها القصصية، ويهدف القاص من خلال ذلك أن تبرز ذاتيته لتتصل بوجدان القارئ قبل عقله، فتعبث به كما تشاء».
لنقاد الأدب السعودي نصيب من هذا الهجوم، إذ يرى المؤلف أنهم «لم يفردوا الكثير في كتاباتهم لمظاهر الحداثة في القصة السعودية في جيلها الثاني والثالث ـ حسبما ظهر لي ـ بدراسات مستقلة، إلا النزر اليسير في بحوث ضمنية ومقالات وأوراق عمل ألقيت هنا وهناك» والكلام للمؤلف، ويضيف: «وتبين لي بعد استعراض الكثير من المطبوعات المنشورة في الوسط الثقافي السعودي، شدّة الافتقار العلمي لهذا المجال، وصعوبة الحصول على عنوان متفرد متخصص يبين تجليات الحداثة في القصة السعودية المعاصرة».
يريد المؤلف من كتابه هذا، تحقيق جملة من الأهداف، أهمها: الوقوف على محاسن الأسلوب الحداثي وجمالياته في النص القصصي، والآفاق الجديدة التي ستقدمها تلك الحداثة الشّابة للأجيال القادمة من ناحية، وإلى كشف أوجه الخلل ومكامن الخطورة في ذلك النتاج الأدبي الجديد الذي بدا يقتحم عالم القصة السعودية من ناحية ثانية، فهل حقق المؤلف مراده في أن يقرأ انعكاسات الحداثة على القصة القصيرة السعودية؟
في تمهيد الكتاب، وجدنا تعريفاً بالحداثة عبر المعجمية العربية والأجنبية، وبداياتها، وأسباب انتقالها للساحة الثقافية العربية، ثم للفكر السعودي، ودرجات اختلاف النقاد في تحديد مفهوم الأسلوب الحداثي، وتحديد مسمياته. وفي الفصل الأول من الكتاب يدرس المؤلف المضمون وتأثيرات الحداثة عليه من حيث: الحداثة وتطوير المضامين التقليدية، والحداثة والإبداع في المضامين التجديدية. وفي الفصل الثاني يتحدث عن الحداثة وتجلياتها في البناء الفني من خلال مناقشة ثماني قضايا إشكالية: الحداثة والفكرة، والأسلوب، واللغة، والحوار، والشخصيات، والبيئة، والحدث، والحداثة والنهايات المفتوحة. وينتهي بن مسفر بعد 160 صفحة، إلى نتيجة مهمة يقول فيها:
«لقد برز لنا من خلال دراسة المضامين القصصية، كيف تجلّت الحداثة فيها عبر تناولها للمضامين التقليدية أو عبر حداثة المضامين، وأن الجهد الحداثي قد أدخل على القصة السعودية جمالا بديعا، وتجديدا ممتعا، بل خلق أمام هذه القصة فضاء رحبا للقص، وأن هناك فرقا بين من يجدد في القصة بشكل إيجابي، ومن يشوّه القصة ويفسدها، ولقد ظهر على تلك المضامين سمات عامة أهمها: السهولة والعذوبة، البعد عن الأسلوب العلمي، الخيال الخصب، التصوير البياني. ولقد صادفتني قصص وفقرات وعبارات وجمل ومفردات تتعرض لكثير من المسلمات الدينية بالسخرية والتهكم تارة والاعتراض تارة أخرى، ومن نماذج ذلك ما أورده السباعي عثمان في قصته «وجه خارج الزحام»، من صراعه مع أفكاره التي باتت تلاحقه في كل مكان، كان في عراك مع خواطره وعالمه المليء بالضوضاء والآهات والإزعاج». (الكتاب ص 135).
قرأ المؤلف الحداثة في إطار مضامينها التقليدية، ودار بعضها حول القضايا المحلية، القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية، مثل أخذ الثأر، وعدم التراجع عن الكلمة ولو كانت خطأ، عدم الاعتراف بالطب الحديث، العزوف عن التعليم، الاعتماد على التراث الشعبي في الطب والعلاج، الذهاب للمشعوذين والدجالين، قصص الجن والشياطين، واتخذ المؤلف في المجال التطبيقي، قصصا لكل من: خليل فزيع، حسين علي حسين، قماشة العليان، وقال عنهم: «فها هم يتناولون صورة واقعية ترسم معاناة الوسط المجتمعي، فخليل الفزيع مثلا في قصته «أمام محطة السيارات»، صور آفة الفقر وهي تأسر طفلاً صغيراً لبيع السجائر رغم حداثة سنه، مما أوقعه في مهاترة كلامية مع الشاذين أخلاقيا». (الكتاب ص 53).
ركز بن مسفر في كتابه على ما تناوله بعض القصاصين السعوديين من مضامين تهتم بقضايا وشؤون المرأة، باعتبارها من أبرز القضايا المحلية الشائكة، وكمادة خصبة للقص والسرد، مستعرضا فرعيات هذه القراءة في: موقف الرجل من المرأة، صورة الرجل في كتابات المرأة، مستعرضا بعض النماذج التي تمتعت بطابعها التقليدي بوجه عام مع تحلّيها بالروعة الجمالية في هذا السياق مما كتبه محمد بن منصور الشقحاء، حسين علي حسين، قماشة عليان، ضمن مجموعتها بعنوان «الرجل الحائط». وأيضا قراءاته في أعمال كل من: رقية الشبيب، واستخداماتها للخيال السريالي، وبخاصة في قصتها دوائر عرضية، وأيضا القاصة أميمة الخميس، وسيطرة القصة الحداثية لتجسيد خفايا العالم النفسي للمرأة كما في مجموعتها القصصية «أين يذهب هذا الضوء»، واصفاً المؤلف أسلوبها بقوله: «جمالية القص وشمولية النظرة والتعايش مع اللحظة، مكّنت أميمة الخميس من سبر الموج العاطفي المتدفق في فضاء النفس الداخلي عند الفتاة التّواقة إلى الزوج المنتظر، وروعة التصوير لا تقل جمالا عن معالجتها للعيب والحرمان والعنوسة والانتظار». (الكتاب ص 74).
أثر المدينة على حياة القرية
من جماليات وحسنات هذا الكتاب، ما يكمن في تنويعات موضوعاته وقراءاته، وتحليله للمضامين القصصية، وفق رؤية جامعة، ومن ذلك قراءاته حول أثر المدينة على حياة القرية أو الصحراء والعكس، حيث إنه يناقض رؤية كتاب القصة للمفهوم التوعوي لهذا العنوان، ويقول في ذلك «أكثر الكتاب في تجسيد حجب المدينة لفضاءات القرية والصحراء، فالحياة المدنية في عالم القصة أشبه بقفص صغير يحتجز عملاقاً كبيراً، أي تجسد التسلطية فحسب، بينما فضاء القرية والصحراء يجسد الحرية والانطلاق، حيث الرغبة والمزاج، ويعتني القاص كثيرا بالمكان، كونه يعدّ أكثر التصاقا بالإنسان من الزمان، فالمكان هو خلفية المسرح التي تواكب أحداث القصة، مستشهدا ًفي السياق بقصة الغنم والسيل يا مهرة، لمريم الغامدي، منتهيا بأن القصة الحداثية ناقشت انعكاسات التطور والتحول على نفسية الإنسان المدني والقروي والصحراوي، وما يفرضه هذا التطور من مسؤوليات ومستويات وطبقيات وعقبات ومخاوف مستقبلية، بل والصدمات التي خلّفت الأوهام والغربة والاستلاب والأمراض العصرية والانتحار.
وكما بدا لنا فإن حرفية المؤلف الاستقصائية ومقارباته أوصلته إلى عمق القصة الحداثية، حينما تناقش أزمة المثقف نتيجة التحجر المدني أو القروي أو الصحراوي، ناقشت آثار ذلك كله من الناحية النفسية وتجسيد تأثره الداخلي للإنسان وملامسة إحساسه اللا شعوري تجاه كل القضايا والمشكلات التي تحف بالمكان والبيئة بتقاليدها، وإشكالياتها.
ينتهي المؤلف بتوجيه نقد لاذع للقصاصين الذين تعاملوا مع عالم وثقافة الصحراء، ونقتطف من وجهة نظره في القصاصين المعاصرين: «لكن ثمة شيء مستغرب جدا، ألا وهو عالم الصحراء، فللأسف كان تعامل القصاص المعاصرين معه بصورة ضعيفة، ولافتة للانتباه، فالمملكة العربية السعودية تشتمل على مساحات ضخمة من الصحراء، مما يدفع إلى دخولها في خيال القاص، وعالمه القصصي دائما، لكن الواقع كان العكس، وقد أشارت إلى ذلك الدارسة أميرة الزهراني في كتابها «القصة القصيرة»، وهذا بدوره أفقدنا مجالا خصبا للقص في أجواء الصحراء كما تقدمه الأفلام البدوية المستوردة» (الكتاب ص 90).
بعد كل ذلك، ما زلنا نتساءل: هل دخلنا على مستوى الكتابة إلى مرحلة (حداثة الفكر) خروجا من تلك الدوائر المغلقة التي جعلت الأكثرية من المهتمين والمتابعين وممن يعتقدون أنهم حداثيون لا يرون في الحداثة إلا كونها شعراً وأدباً، واختزلت مسألة الحداثة لمنظومة فكرية وحضارية إلى قضية دينية أو اجتماعية، هل قرأنا جيدا الاصطلاح الجديد الذي يغزونا منذ سنوات (عولمة الثقافة)؟ التي تعمل على إلغاء هوية الشعوب التي تلعب خارج دائرة رعاة الفكر الواحد.
هامش:
1 ـ من مقالة للناقد أحمد عائل فقيهي، بعنوان «المجتمع السعودي وتجليات الحداثة»، جريدة عكاظ ـ العدد 4320 ـ
15/ 4/ 2013.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق