الدفتر الكبير
أغوتا كريستوف
ترجمة : محمد آيت جنّا
عن هذا الكتاب:
تبدأ الرواية بأجواء الحرب وتنقل إلينا بأمانة شديدة وبصورة مباشرة تضعنا في صميم الأحداث ، فالقصف المتتالى ليل نهار على هذه المدينة ونقص المواد الغذائية والطبية وكل ما يلزم لدوواعى النجاة من هذه الحرب ، والإجلاء الذى تم للأطفال كل هذه الصور تجتمع سوياً لتكون لنا ضراوة الحرب العالمية الثانية وما تركته فى نفوس الأطفال .
تُسرد القصة على لسان طفلين فى العاشرة من عمرهما بطريقة ساخرة ومشوقة ، وكيف عاشا الطفلين بعد عملية الإجلاء ليعيشا مع هذه الجدة الصامتة ، هذا الإنسلاخ من عالم المدينة إلى عالم القرية ، أسلوب تربوى جديد وفق عقيدة قروية متوارثة لدى الأجيال تربا عليها هذان الطفلان ، هذان الطفلان يعتبران شهادة على زمن قتل أية براءة أو طفولة ، فمع تساقط الشخصيات تباعاً يكمل الطفلان هذه المسيرة وهم يوقعان بالجميع تراهما يقومان بأعمال قد تصل إلى القتل ولا يستثنى من ذلك أحد حتى المقربين إليهم ، دعنا نرى ما خلفته تلك الحرب من بذور العنف والكراهية والنزاع في تشوية معالم المجتمع .
مقتطفات من الرواية :
الوصول الى بيت الجدة :
"جئنا من المدينة الكبيرة. كنّا قد سافرنا اللّيل بأكمله. عينا أمي كانت محمرتين. كانت تحمل صندوق كرتون كبيراً، فيما يحملُ كل منا حقيبة صغيرة تحوي ملابسه، بالإضافة إلى المعجم الكبير، الذي كان ملكاً لأبي، والذي كنا نتبادل حمله كلما تعب ساعد أحدنا. مشينا طويلاً. منزل الجدة بعيد عن محطة القطار، وهو من الطرف الثاني من المدينة الصغيرة. لا يوجد هنا ترامواي، ولا باص ولا حتى سيارات. وحدها بعض الشاحنات العسكرية تجوب الطرقات".
ليس ثمة سوى القليل من السابلة و المدينة تغرق في صمتها ، بوسعنا سماع وقع خطانا ؛ كنا نمشي دون أن ننبس بكلمة ، تتوسطنا أمنا ، نحن الاثنين ، و أمام حديقة بيت الجدة قالت أمنا :
- انتظراني هنا .
انتظرنا قليلا ثم دخلنا الحديقة ، درنا حول المنزل جثمنا أسفل النافذة حيث تنبعث الأصوات .
قال صوت أمي :
- ما عاد لدينا شيء نأكله ؛ لا خبز و لا لحم و لا خضر و لا حليب ، لا شيء ما عد بوسعي إطعامهما .
رد صوت آخر :
- إذا تذكرتني . منذ عشر سنوات لم تتذكري ، عشر سنوات لا زيارة و لا رسائل .
قالت أمي :
- تعرفين لماذا ؛ فأنا كنت أحب أبي .
الصوت الآخر :
- نعم ، و الآن تذكرت أن لديك أيضا أما . جئت تطلبين مساعدتي .
قالت أمنا :
- لا أطلب شيئا لأجلي . ما أريده فقط هو أن يعيش طفلاي أن يجتازا هذه الحرب . إن المدينة الكبيرة تقصف ليلا و نهارا و لم يعد ثمة شيء يؤكل . تم غجلاء الأطفال غلى القرى عند أجدادهم أو عند الغرباء أنَّى كانوا .
قال الصوت الآخر :
- ما عليك إلا أن ترسليهم عن الغرباء أنَّى كانوا .
قالت أمي :
- إنهما حفيداك .
- حفيداي ؟ لست أعلم حتى عددهم ؟ .
- هما اثنان ، ولدان ، توأم .
تساءل الصوت الآخر :
- ماذا صنعت بالآخرين ؟ .
تساءلت أمي :
- أي آخرين ؟ .
- الكلاب تضع أربعة إلى خمسة جراء في كل بطن ، نحتفظ بواحد أو اثنين و نغرق الباقي .
ضحك الصوت الآخر عاليا . ظلت أمنا صامتة ثم سألها الصوت الآخر :
- ألديهما على الأقل أب ؟ لست متزوجة على حد علمي . لم يدعني أحد إلى زفافك .
- أنا متزوجة ؛ أبوهما ذهب إلى الجبهة . و لا خبر عنه منذ أشهر ستة .
- بإمكانك إذاً نعيه .
عاد الصوت الآخر إلى القهقهة فيما انخرطت أمنا في النحيب . عدنا إلى باب الحديقة .
* "الدفتر الكبير".. عن جنون الحرب والبراءة المهدرة
ترصد الروائية السويسرية من أصل مجري آغوتا كريستوف (1935–2011) في روايتها "الدفتر الكبير" مشاهد من التداعيات الكارثية الخطيرة التي تخلفها الحروب في بنية المجتمعات.
تلتقط صورا حياتيّة من الجنون الذي تخلفه الحرب، كأن يتوحش الأطفال الذين يجدون أنفسهم في مواجهة مع الموت والفقر والجوع. إذ تحكي سيرا لأطفال شوهتهم الحرب ودمّرت طفولتهم، محذرة بذلك من خطورة القضاء على جيل المستقبل الذي يفترض التعويل عليه في البناء المنشود.
تبرز صاحبة "المذكرة" و"الكذبة الثالثة" في روايتها، التي ترجمها محمد آيت حنا ونشرتها دار الجمل مؤخرا، الوحشية المتنامية أثناء الحروب، وكيف يتمّ القضاء على معظم مظاهر الحياة، ويسود الموت ويعمّم القتل بنوع من التشفّي والانتقام، ويتمّ انتزاع إنسانيّة الإنسان ودفعه إلى مستنقع الجريمة والانتقام، بحيث يكون التصنيف بين معسكرين لا ثالث لهما: إمّا قاتل أو قتيل، جلاد أو ضحيّة.
صراعُ البقاء :
تلتقط صورا حياتيّة من الجنون الذي تخلفه الحرب، كأن يتوحش الأطفال الذين يجدون أنفسهم في مواجهة مع الموت والفقر والجوع. إذ تحكي سيرا لأطفال شوهتهم الحرب ودمّرت طفولتهم، محذرة بذلك من خطورة القضاء على جيل المستقبل الذي يفترض التعويل عليه في البناء المنشود.
تبرز صاحبة "المذكرة" و"الكذبة الثالثة" في روايتها، التي ترجمها محمد آيت حنا ونشرتها دار الجمل مؤخرا، الوحشية المتنامية أثناء الحروب، وكيف يتمّ القضاء على معظم مظاهر الحياة، ويسود الموت ويعمّم القتل بنوع من التشفّي والانتقام، ويتمّ انتزاع إنسانيّة الإنسان ودفعه إلى مستنقع الجريمة والانتقام، بحيث يكون التصنيف بين معسكرين لا ثالث لهما: إمّا قاتل أو قتيل، جلاد أو ضحيّة.
"ترسم كريستوف لوحة حياة بطليها، وكيف أن فقد الحنان يحرف مسار الحياة نحو اتجاهات خطيرة. تشبثَ الطفلان بالحياة، تجردا من الطفولة، وهما يبدوان أكبر من عمريهما "
تبدأ الرواية بهروب امرأة بابنيها التوْأم من المدينة التي تتعرّض للقصف والدمار إلى قرية صغيرة على الحدود لتبقيهما في كنف أمّها. وأمام رفض الجدّة تصرّ ابنتها أنّها لا تطلب شيئاً لأجلها، تتمنّى أن يجتاز طفلاها الحرب، لأنّه يستحيل إبقاؤهما في المدينة
تبقي كريستوف اسمَي الطفلين الصغيرين نكرتين، كما أنها لا تحدد القرية الحدوديّة، بل تكتفي بالإشارة إلى الحدود واختلاف اللغة والصراع والاقتتال على الطرفين. يتعرف الطفلان إلى تفاصيل بيت الجدّة بداية، ويتغلبان على العراقيل التي تضعها العجوز في طريقهما، ويصممان مفاتيح لفتح جميع أبواب البيت، حتى الغرفة التي تؤجرها العجوز للضابط الغريب لا تسلم من تلصّص الطفلين ولا اقتحاماتهما المتكرّرة.
الطفلان غير المسمّيين يكونان الشاهدين الشهيدين على جريمة الحرب المستمرّة بحقّ الطفولة، فهما ضحية مجتمع متحارب، يتفوّقان على الكبار بذكائهما، يجدان نفسيهما مجردين من المشاعر، يتصرفان بطريقة بعيدة عن الطفولة والبراءة، يحاولان التأقلم مع التخبط العام في صراعهما للبقاء والاستمرار.
من الصور المؤلمة التي تستعرضها الروائية، مشاهد من حياة الطفلة التي تقع فريسة الفقر والجوع، يتمّ استغلال حاجتها وجوعها وقنوط أمها. تتعرّض للابتزاز الوحشي، وتقع في براثن النبذ فتلوذ بممارسات لا تتماشى مع عمرها وطفولتها، كأن يتكالب على التمثيل بها عدد من الجنود، وقبل ذلك تعرّض نفسها لما يؤلم ويفجع من ممارسات شائنة.
ترسم كريستوف -التي هربت من بلدها إبان القمع السوفياتي للثورة المجرية عام 1956- لوحة حياة بطليها، وكيف أن فقد الحنان يحرف مسار الحياة نحو اتجاهات خطيرة. تشبث الطفلان بالحياة، تجردا من الطفولة، وهما يبدوان أكبر من عمريهما، في إشارة من الروائية إلى أن الحرب تقتل البراءة وتشيب الأطفال وتسرع في القضاء على الجميع.
يقوم الطفلان بتمارين الجوع والوجع والضرب والإهانة والعمى والصمم والتسوّل بغية التعرّف إلى الناس وردود أفعالهم، يعودان نفسيهما على قهر ما يتعرّضان له من الآخرين، وما يمكن أن يتعرّضا له مستقبلاً.
يتحوّلان إلى قاتلين صغيرين، يكتشفان محيطهما بكثير من الإيلام، يكونان رسولَي الفجيعة المتعاظمة والكارثة المتفاقمة. تسلّط كريستوف من خلال حياتهما الغريبة الأضواء على أجواء الحرب التي لا تستثني أحدا من وبائها. فالطفل يتشوّه كالكبير، كرجل الدين، كأي امرئ آخر، وتكون السمة الدارجة هي انعدام الثقة، بحيث ينقسم المجتمع ويتعادى الجميع.
"ترصد الرواية بذور استشراء النزاع والعنف بعد أن تضع الحرب أوزارها، فتشتعل شرارة حرب جديدة مختلفة، لتفجّر قنابل مجتمعية موقوتة وتدفع إلى تصفيات وانتقامات لاحقة منبوذة تساهم في تعميق الجراح وتشويه معالم المجتمع "
سيرة الطفلين التي تقدّمها كريستوف في روايتها هي سيرة أطفال الحروب جميعا بطريقة أو أخرى. فالدفتر الكبير الذي يفترض أنّه يجمع تفاصيل حياة الطفلين يكون شهادة على زمن قتل الإنسانيّة وإدانة للحرب المدمّرة.
لا تنتهي الحرب إلا مع قضائها على أيّة براءة أو طفولة، تتساقط الشخصيات تباعا، يكمل الطفلان رحلتهما وهما يوقعان بالجميع، ولا يستثنيان أقرب المقرّبين لهما. تراهما قد يقتلان من باب الرحمة، كحالة إحراقهما كوخ والدة الطفلة التي طلبت منهما إراحتها من بؤسها وفظاعة ما شهدته من مصير ابنتها.
وكذلك سلوكهما مع جدتهما التي أشيع أنها كانت قد سمّمت زوجها، وهي بدورها كانت قد سمّمت حياتهما كحياة الكثيرين، ثم يشهدان مقتل أمهما بقذيفة طائشة في نهاية الحرب، وكذلك يدبّران للقضاء على أبيهما الذي كان مراسلا حربياً واستعان بهما لاحقا ليساعداه على تهريبه إلى ما وراء الحدود.
الخوريّ الذي شهد بعض إجرامهما وتعرّض لابتزازهما وكشفهما له ولبعض ممارساته، يباركهما، وتكون في مباركته لهما رسالة إلى الجميع وهي: أن الطفلين الضائعين في عالم شنيع، هما نفساهما ضحيّتا عصر ممسوخ، لا يعرفان ما يفعلان. يعيشان في قلب الرعب معزولين عن العالم المنشود، والسماء تمطر قنابل طائشة، يخبران الإحساس بالعجز لاحقا، حين تنسد أبواب المحبة والجمال في وجههما فيضطران إلى التحايل على الطبيعة للبقاء والاستمرار.
تختار الروائيّة السرد بضمير الجمع المتكلم، أي أن الطفلين معا يسردان الحكاية، وينهيانها نهاية غريبة. ينفصل التوأمان عن بعضهما بعضا، وهما اللذان ظلا متلازمين طيلة سني الحرب. يختار أحدهما الانتقال إلى الجهة الأخرى محمّلا ببعض الكنوز، في حين يظل الآخر في كوخ الجدّة وفي القرية التي ساهمت بتحويله إلى وحش لهول ما عاشه ورآه.
ربّما يكون في اختيار ضمير الجمع ترميزا من الكاتبة إلى تبكيت صوت الفرد ودوره في أوقات الحروب الطاحنة التي يكون الأفراد وقودها وجمرها فقط دون أي اعتبار آخر.
وترصد بذور استشراء النزاع والعنف بعد أن تضع الحرب أوزارها، فتشتعل شرارة حرب جديدة مختلفة، لتفجّر قنابل مجتمعية موقوتة وتدفع إلى تصفيات وانتقامات لاحقة منبوذة تساهم في تعميق الجراح وتشويه معالم المدينة والمجتمع، بحيث تعثر على مَن يبتهج أنه مهزوم أو مبتور الأطراف أو مشوّه، وأنه ليس ميتا. الجزيرة نت هيثم حسين .
* بطلا أغوتا كريستوف في أسر الوحشية
" جدتنا هي أم أمنا. قبل مجيئنا للعيش في بيتها لم نكن نعلم أن أمنا لا تزال لديها أم. نناديها «جدتنا». الناس ينادونها المشعوذة. تنادينا هي «ابنَيْ الكلبة»». (ص11) رواية «الدفتر الكبير» للروائية المجرية الأصل أغوتا كريستوف، (ترجمة محمد آيت حنا عن الفرنسية ، منشورات الجمل 2013)، ليست رواية عادية مألوفة من أي ناحية من النواحي الروائية أكانت متعلقة بالأسلوب أو اللغة أو المضمون أو حتى الإطار الزماني والمكاني. فرواية «الدفتر الكبير»، رواية الفضيلة الملتحفة بالجريمة، رواية الطفولة البريئة التي شوهت الحرب مفاهيمها وحثتها على طلب عدالتها الخاصة بأساليبها الملتوية، رواية الفكاهة السوداء المنقولة بواقعية باردة حيادية، وحياديتها هذه هي جوهر إبداعها وجماليتها.
منذ صفحة الغلاف يلاحظ القارئ أن العنوان (الدفتر الكبير)، مرتبط بصورة ولدين توأمين صغيرين أشقرين جميلين، يلعبان ببراءة وهدوء جنبًا إلى جنب، ويحاولان اصطياد السمك على الأرجح. وهذا الصيد الموجود على الغلاف يشكل نواة قصة الصبيّين التي يرويانها بنفسيهما، لذلك سُميت الرواية باسم «الدفتر الكبير»، فهذا الدفتر هو الدفتر الذي يحمله الولدان ويدونان فيه أخبارهما وتفاصيل حياتهما عند الجدة.
والولدان معًا هما راويا القصة، فنجدهما يستعملان ضمير المتكلم الجمع «نحن» دائمًا، من دون أن نتمكن من معرفة اسم أحدهما أو حتى أن نفصل الأفعال ونقسمها عليهما، فهما ووفق وصف الأب لهما: «إنهما يفكران معًا، ويتصرفان معًا. يعيشان في عالم آخر غير عالمنا. عالم لا يخص سواهما. وهذا ليس طبيعيًا. لا بل إن الأمر مقلق. أجل إني قلق لأمرهما. إنهما غريبا الأطوار. لسنا ندري ما الذي بوسعهما التفكير فيه. يتجاوزان سنهما بكثير، ويعرفان أكثر مما ينبغي أن يعرفا من الأمور». (ص 29).
ووصفُ الوالد ابنيه، وصفٌ دقيق ومصيب؛ فالولدان القادمان من المدينة هربًا من الحرب والمجاعة والموت، الولدان المنبوذان من والدهما ووالدتهما على السواء، الولدان المنعزلان المنقطعان إلى عالمهما الخاص، يجدان ملاذهما في القرية القريبة من الحدود المجرية، في بيت جدةً فظة قذرة قاسية تستقبلهما بمجافاة وتجبرهما على العمل مقابل طعامهما وشرابهما ومنامتهما: «كان علينا القيام ببعض الأشغال لحساب الجدة. دون ذلك لا تطعمنا، وتطردنا ليلاً إلى الخارج». (ص 13). وعلى رغم صلابة الجدة وصعوبة العيش معها، نجدها امرأة مسنة وحيدة يعجز القارئ عن كرهها أو حتى النفور منها، بل قل يُعجب برجاحة عقلها ورصانتها وقدرتها على إدارة بيتها وجنينتها وكرمها وحيواناتها من دون احتياج أحد، وهي رغم تقدمها في السن، تجمع الفطر وتعتني بالكروم وتطعم الحيوانات وتحلب العنزات وتقوم ببيع منتوجاتها في سوق القرية، كما أنها تجمع الخشب وتقطعه للمدفأة وتعتني ببيتها. وبينما تقسو الأيام على الناس وتسلبهم الحرب منازلهم وسبل عيشهم، تمتلك الجدة قبوًا مليئًا بألذ الأطعمة من اللحم المدخن إلى مختلف أنواع الحبوب والمؤونة والمآكل التي تكفيها أشهرًا طويلة.
أما مسألة الصيد الظاهر على صفحة الغلاف، فالصيد بحد ذاته ليس مسيطرًا على الرواية، إنما يظهر عند الولدين من خلال لذة القتل للقتل: لا للطعام ولا دفاعًا عن النفس ولا حتى خوفًا من شر محتمل. يتمرن الولدان على القتل كما يتمرنان على الكتابة والجوع والصمت وعدم الحركة والضرب وغيرها من الأمور الغريبة. فهذه التمارين برأيهما تقوي شخصيتيهما وتمنحهما مناعة إزاء قسوة العالم الخارجي. فنسأل أنفسنا عن صفات العالم الذي يعيش فيه هذان الولدان اللذان هما في العاشرة من عمرهما، عالم يجبرهما على إخضاع بعضهما بعضًا وعلى التمرن على العنف والشتائم والقتل والقسوة تعزيزًا لشخصيتيهما.
وحشان أخلاقيان :
في بيت الجدة يمارس الولدان تمارينَ ويواظبان على تأديتها كل يومٍ بهدف تقوية شخصيتيهما في مواجهة شتائم جدتهما وضربها، وشتائم الناس المحيطين بهما وضربهما، وقسوة الحرب واحتمال حلول المجاعة بين يوم وآخر. فهدف هذه التمارين هو تقوية غريزة الحياة في نفسيهما، لتمتزج طيبة الطفولة بفساد الروح، وبراءة الصِغَر بسوء الطبع والمشاكسة، حتى يقف القارئ حائرًا عاجزًا عن إصدار حكم لمصلحة الولدين أو ضدهما.
وبعد تمارين الضرب، تأتي تمارين تبادل الشتائم، وتمارين الامتناع عن الحركة أو الطعام أو الكلام أو حتى تمرين التسول؛ تمارين كثيرة متعددة الأهداف والوسائل، لكنها كلها تصب في خانة الانتقال من الطفولة إلى النضج، من البراءة إلى القسوة، من الخضوع إلى تسلم زمام الأمور.
ونجد أن هذه التمارين توصل الولدين إلى خلق نظامٍ أخلاقي خاص بهما، من خلاله يعملان على تحقيق العدل حولهما. فهما يقيسان الأمور بمعاييرهما ويحكمان عليها انطلاقًا من ذلك، فنجدهما يبتزان رجل الدين ليأخذا منه المال ليقدماه لصديقتهما وأمها الجائعتين. الهدف نبيل ويهدف إلى إقامة العدل لكن الوسيلة دنيئة. وكذلك نجدهما يوقعان ساعي البريد أرضًا ويضربانه ويهددان بتركه يموت في البرد إن امتنع عن إعطائهما رسائل أمهما التي كانت الجدة تأخذها وتحرقها لأنها لا تجيد القراءة. ولا بد من ذكر قتلهما خادمة الكاهن التي كانت تحبهما وتعتني بهما وتحممهما وتغسل ملابسهما، لأن الجدة كانت تتركهما قذرين رثي الثياب، ونجدهما قد تسببا بتشوهها وانفجار النار فيها لأنها لم تعطِ فقيرًا الخبز بل راحت تأكل على مرأى منه وكأنها تتعمد إذكاء ألمه، فقاصصاها بأن وضعا المتفجرات في حطب المدفأة. أما قمة العدل والرحمة والقسوة في آن فهي حادثة وضعهما السم لجدتهما ومنحها موتًا رحيمًا كما أوصت عندما أصابتها جلطة ثانية في الدماغ بعد جلطة أولى كادت تصيبها بالشلل طيلة حياتها وهو أمر ترفضه. وتنتهي الرواية بعقاب الوالد، أو بالأحرى الرجل الغريب الذي عاد بعد سنوات طويلة من الإهمال والغياب، عاد ليطلب مساعدتهما كي يهرب عبر الحدود. وعلى رغم أن قصاصهما كان تمامًا ما يستحقه بسبب تركه إياهما، لكن ذلك لا ينفي قسوتهما وإجرامهما، فهما يدلان والدهما على طريق الهروب عبر الحدود ويعطيانه المخطط، ويتركانه يسير إلى حتفه كي يكون فأر التجربة الذي ستنفجر به الألغام، جاعلة بذلك الطريق سالكًا آمنًا لواحد منهما ليهرب إلى البلد الآخر سائرًا على خطواته. وهكذا تنتهي الرواية بانفصال الشقيقين وترك الأمور مفتوحة لتُستكمل في الجزءين الثاني والثالث من ثلاثية أغوتا كريستوف.
إيجاز ومتانة :
يتبادل الولدان في «الدفتر الكبير» الأدوار، فكل منهما يكتب عن موضوع معين، لكون الرواية مؤلفة من نحو ستين فصلاً لا يتعدى الواحد منها الأربع صفحات. وقد وُضع كل فصل في موضوع يكون كتبه أحد الولدين واصفًا منحى معينًا من مناحي حياتهما، مثلاً «الخادمة والجندي الوصيف»، «الضابط الأجنبي»، «اللغة الأجنبية»، «صديق الضابط»... أما هذه الكتابة فلها معايير ليتم إدراجها داخل «الدفتر الكبير». ويذكر الولدان هذه القاعدة في الفصل المخصص لـ «دراستنا»: «ولكي نحكم على الموضوع بأنه جيد أو ليس جيدًا، هناك قاعدة بسيطة: على التأليف أن يكون حقيقيًا، أي يطابق الواقع. ينبغي أن نصف ما هو كائن فعليًا، أن نصف ما نراه، وما نسمعه، وما نفعله». (ص 35).
«الدفتر الكبير»، رواية الطفولة والبراءة والمعايير الأخلاقية الملتحفة بالشر والفساد والقسوة والضلال، رواية الفكاهة السوداء الغريبة العبثية، والقريبة من مسرح بيكيت ويونيسكو، رواية الحرب والاستبداد والبحث عن العدالة ومحاولة إقامتها بأساليب ملتوية. «الدفتر الكبير»، رواية تداعيات الحرب على الطفولة وعلى الشيخوخة وعلى ما بينهما من أبوة تفقد معناها وأمومة تخسر أهم صفاتها وبنوة لا تشعر بالانتماء إلى عائلة. موضوعات كثيرة مكتوبة في جمل قصيرة وفصول دقيقة، ومعجم سهل بسيط يجذب القارئ ويوقعه في فخ واقعية حيادية تحولها حياديتها إلى وحشية باردة مقنعة.الحياة - كاتيا الطويل
في روايتها "الدفتر الكبير"، ترجمة محمد آيت حنّا، "منشورات الجمل"، تروي أغوتا كريستوف وقائع تمارين ولدين توأمين على القسوة في الحرب العالمية الثانية، في بلدة مجرية على حدود سويسرا، وعلى كتابة تلك القسوة كتابةً ماديّة عارية تماماً من أي مرجع أو سند أدبي، أسلوبي وثقافي وتعبيري، للكتابة.
يقترب غياب السند الأدبي والثقافي لهذه الكتابة العارية من أن يجعلها خروجاً بديهياً وغير مقصود على الأنواع والمصنّفات الأدبية والكتابية. مصدر الخروج هذا، أو علّته، هما جهل الكاتبة الخلاّق بماهية الأدب، الذي يمنحها الحرية والعفوية التامتين في الإقدام على كتابةٍ بكرٍ في وثائقيتها العارية من كل المؤثرات الأسلوبية والعاطفية والإيحائية والتعبيرية التي تحفُّ بالكتابة الأدبية.
تروي كريستوف في "الدفتر الكبير" فصولاً هي توقيعات روائية كثيفة لا تتجاوز الواحدة منها الصفحات الثلاث. يغلبُ الحوار المباشر على التوقيعات كلها، فلا يتخلّلها سوى استطراداتٍ إخبارية شديدة الإيجاز، كالحوارات نفسها. في هذا العرض للرواية، نستعير أسلوب الكاتبة التي تروي مقتطفات موجزة من حياة الولدين التوأمين اللذين أَرغمتِ الحربُ أمَّهما على إيداعهما لدى جدتهما في البلدة الحدودية. تصل الى بيت أمّها، فتقول لها: "ما عاد في وسعي إطعامهما". الجدة لا تعرف حفيديها، فهي لم ترَهما من قبل. ابنتُها، والدة التوأمين، منقطعة عن أمّها "منذ عشر سنوات، لا زيارة ولا رسائل". "والآن تذكّرتِ أن لديكِ أمّاً. جئتِ تطلبين مساعدتي"، تجيبُ الجدّة ابنتها التي تقول لأمها: "تعرفين لماذا. فأنا كنتُ أحبّ أبي"، الذي توفى منذ زمن بعيد.
يبدأ هذا الحوار ويستمر على مسمع الحفيدَين الواقفين خارجاً، "أمام حديقة بيت الجدة"، من دون أن يعلما مَن تكون. لأنهما كذلك، وبما أنهما الراوي في صيغة المثنى، و"ليسا سوى شخصٍ واحد ووحيد" - على ما تقول أمّهما في موضع آخر، رافضةً رغبة والدهما وإدارة مدرستهما الفصل بينهما - يسمّيان جدّتهما "الصوت الآخر" في الحوار الذي يسمعانه وينقلانه في مستهل الرواية. عن ذلك "الصوت" ينقلان أيضاً قوله لأمّهما: "أَلديهما (...) أبٌ؟ لستِ متزوجة، على حدّ علمي. لم يدْعُني أحدٌ الى زفافك". تجيب الأم: "أبوهما ذهب الى الجبهة. ولا خبر عنه منذ أشهر ستة". فيما الصوت الآخر يضحك ويقهقه، "انخرطتْ أمُّنا في النحيب" - يروي التوأمان - ثم "خرجتْ من المنزل رفقة امرأة عجوز، وقالت لنا: هي ذي جدّتكما. ستظلان معها بعض الوقت، الى حين انتهاء الحرب" التي "واردٌ أن تطول"، تقول الجدّة لابنتها: "سأدفع بهما الى العمل (...) هنا أيضاً ليس الأكل مجاناً". بعدما "قبّلتنا (أُمُّنا) وانصرفت باكية./ ضحكتْ جدّتنا بصوت عالٍ (...)/ أخرجنا لسانينا استهزاءً بالجدة. ضحكتْ بصوت أعلى وهي تضرب على فخذيها"، يروي الولدان الحفيدان في ختام الفصل - التوقيعةِ الأولى، قبل اختفاء أمهما.
المعجم والكتاب المقدس :
توقيعات "الدفتر الكبير" الروائية، مكتوبة كلها بهذا الاسلوب الحواري، الإخباري، اللاأدبي، الجاف والحديدي في واقعيته، والميت، على ما تسمّى رسوم "الطبيعة الميتة" في الفن التشكيلي. لماذا لكتابة أغوتا كريستوف الصفات؟ ندعُها هي نفسها تجيب على لسان التوأمين في توقيعة تمرينهما على الدراسة معاً، منفردين، طوال إقامتهما في منزل الجدة: معجم والدهما والكتاب المقدس، وحدهما كتاباهما في دروسهما الثنائية المنفردة، لـ"القراءة، تمارين الإملاء وتمارين الذاكرة(...) والتأليف" - الكتابة على "الدفتر الكبير" الذي تُعْلِمُنا كريستوف في كتاب سيرتها "الأميّة"، أنه المصدر الأول لأعمالها الروائية، وأنها هي نفسها أحد التوأمين، وأن معجم اللغة الفرنسية والكتاب المقدس هما أيضا كتابا تمارينها على الكتابة، بعد فرارها من بلدها في العشرين من عمرها، الى سويسرا، "أُميّة" تماما في اللغة الفرنسية التي كتبتْ بها رواياتها كلها، أثناء عملها المضني في مصنع للساعات.
لكن الأهم من هذا كله هو ما يروي التوأمان انه "قاعدة بسيطة" اعتمداها في "الحكم" على الموضوعات التي يكتبانها على "الدفتر الكبير": لكي يكون "التأليف حقيقياً، أي أن يطابق الواقع، ينبغي أن نصف ما هو كائن فعلياً، أن نصف ما نراه، وما نسمعه، وما نفعله".
مثلاً: ينبغي ألّا نكتب: "الجنديّ الوصيف لطيفٌ" لأنه "أعطانا أغطية". فصفة اللطف هنا ليست "حقيقية"، لأن هذا الجندي قد يكون "شريراً" في سلوك آخر مع سوانا. لذا "سنكتب ببساطة: أعطانا الجندي الوصيف أغطية".
مثل آخر: "ممنوع أن نكتب: الجدّة تشبه مشعوذة"، لأن تشبيهنا إياها بالمشعوذة، مطلقٌ، ولا يحدّد من أطلق عليها هذه الشبهة أو الصفة. علينا أن نكتب، إذاً: "الناس ينعتون الجدة بالمشعوذة"، ما دمنا نسمع الناس في البلدة يقولون إنها كذلك.
أما إذا كنا "نأكل الكثير من البندق"، فعلينا ألّا نكتب: "نحبُّ البندق". فـ"فعل أحبَّ (هنا) غير مضبوط" و"تعوزه الدقة والموضوعية".
الخلاصة من هذا كله: "الكلمات التي تصف الأحاسيس تظل مبهمة؛ والحري، إذا، الإعراض عنها، والانصراف الى وصف الأشياء، ووصف الآدميين ووصف أنفسنا، لنَقُلْ الانصراف الى وصف الوقائع وصفاً أميناً".
درس أوّلي في الكتابة :
يبدو هذا الدرس في الكتابة والتأليف، أولياً، بسيطاً، وبدائياً. لكنه في الكتابة العربية الراهنة، ومنذ "عصر النهضة الأدبية" على وجه العموم، مرير ومن أصعب الدروس، وأندرها استلهاماً واتباعاً ومناقشة في الأنواع الكتابية كلها، أدباً وصحافة وتأريخاً، وفي الاجتماعيات، وصولاً الى الشعر حتى. منذ أعلام تلك "النهضة": جبران، المنفلوطي، نعيمة، الكواكبي، زيدان، الافغاني، المازني، العقاد، شوقي، وصولاً الى معظم أعلام الرومنطيقية في الشعر، وروّاد "الحداثة الشعرية"، والكتابة العربية غارقة في البلاغة والإنشاء اللفظي والسيولة العاطفيّة والتهويل اللغوي والخطابة الوعظية والأخلاقية، إلا في ما ندر. هذه حال السياسة أيضاً، وكذلك الخبر الكلام والخطابة السياسية التي لا وظيفة لهما إلّا تصحير السياسة والتستّر على وقائعها وتزييفها، فلم ينجلِ تحطيم بعض أصنامها وآلهتها وأقنعتها، أخيراً إلا عمّا نحن عليه اليوم: المجزرة وأنهار من الدم، وخراب عميم.
أخيراً، تحية لمحمد آيت حنا الذي استلهم درس كريستوف في ترجمته روايتها. وتحية أخرى لذكرى الشاعر الراحل بسام حجار، الذي ترجم روايتين للكاتبة ، وكان أسلوبها من مصادره الشعرية.النهار - محمد أبي سمرا
* رواية أغوتا كريستوف وتوأمان في عالم قاسٍ
«الدفتر الكبير».. تداعيات الحرب لا تستثني أحداً
لا تستثني تداعيات الحرب أحداً، تصل إلى الجميع، لا تفرّق بين صغير وكبير، عسكري ومدني.. ربما هذا ما تريد إيصاله الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف في روايتها «الدفتر الكبير» التي نقلها إلى العربية أخيراً المترجم المغربي محمد آيت حنا.
تحيل الحرب التوأمين الصغيرين بطلي رواية «الدفتر الكبير» إلى ما يشبه «الشيطانين الخبيثين البريئين في الآن ذاته»، تجردهما من الداخل من ملامح المرحلة العمرية الغضة، وتدفع بهما إلى مرحلة أخرى. اللافت أن الكاتبة الراحلة أغوتا بنت تلك العوالم بشكل يجعل القارئ مشدوداً إلى هذين الصغيرين، ليرقب فصول تحولهما، ويتعاطف معهما، ويلعن تلك الحرب التي جعلت طفلين صغيرين يشبّان قبل الأوان، بعد أن تلوثت أعينهما بكل ذلك القبح، وكان لزاماً عليهما أن يعاينا ويواجها مآسي بالجملة، وحيدين في ظل غياب الأب والأم في ساحة المعارك.
تحفل الرواية التي صدرت ترجمتها العربية أخيراً عن منشورات الجمل في بيروت وبغداد، بمشاهد شديدة القسوة، في بلدة حدودية، وثمة جنود غرباء، وأناس يكافحون من العيش والنجاة بأعمارهم، وجدة «مشعوذة» متهمة بتسميم زوجها سلمت إليها ابنتها صبييها التوأمين، بعدما تم استدعاؤها للحرب هي الأخرى.
بين المجرية والفرنسية
ولدت أغوتا كريستوف عام 1935 في المجر، وغادرتها في الـ20 من عمرها لاجئة إلى سويسرا مع زوجها الذي كان أستاذها. تعلمت الفرنسية، وكتبت أعمالها الأساسية بها (روايات الدفتر الكبير، البرهان، الكذبة الثالثة، أمس) والكثير من المسرحيات والمسلسلات الإذاعية. ورحلت أغوتا في عام 2011 بعد أن صمتت في آخر حياتها عن الكتابة، رغم حصدها العديد من الجوائز المهمة، ومن بينها جائزة ألبرتو مورافيا عام 1988، وجائزة غوتفريد كيللر في 2001، وجائزة فريدريش شيللر في 2005، وجائزة الأدب الأوروبي النمساوية في 2008. وحصلت عام 2011 على جائزة كوسوث التي تمنحها السلطات المجرية.
|
أدخلت الكاتبة بطلي الرواية في تمارين قاسية، تجعلهما ممهدين لما هو آت من مشاهد دموية، فالصغيران علما نفسيهما كل شيء تقريباً، واكتفيا عمن سواهما، تدربا سوياً على مواجهة الجوع والشتائم، اختبرا شعور أن يعيشا متسولين، وأن يكون أحدهما أعمى والآخر أصم، أو أن يتبادلا دوري فقير وغني، وغيرها من المشاعر والصفات، حتى استطاعا أن يصلا إلى مرحلة من الحيادية والتجرد تجاه أشياء كثيرة غريبة يمتلئ بها العالم من حولهما. ولا تكتفي الروائية أغوتا كريستوف بذلك، بل تدخلهما في ميدان آخر، ربما لتعطي لسواها من المبدعين درساً في الكتابة، وكيفية رسم عوالم روائية مختلفة، فالتوأمان اللذان انقطعا عن المدرسة بعد الحرب، يواصلان تعليمهما ذاتياً، ينشآن فصلهما الخاص بهما، يبدعان في وصف ما يدور وما يحدث من حولهما، بواقعية أكبر من عمرهما يكتبان ما يشاهدان، يجردان اللغة من المجاز، لتكون حصيلة الكلمات التي يخطها الصغيران حقيقة خالصة من وجهة نظرهما، فالحاصل في الحياة من حولهما كفيل بأن يبوح بكل شيء، ولا داعي لتجمليه أو تزييفه أو محاولة تخفيف وقعه بصور مختلفة.
تلك الحالة التعبيرية، تآزرت مع مشاهد الرواية وكثير من أحداثها، فالتوأمان يستجيبان لتوسل الجدة بألا يتركاها تعاني إن أصابتها جلطة دماغية، ويساعدها على الرحيل في هدوء، والأمر مشابه حينما توسلت إليهما إحدى الجارات بأن يحرقا منزلها، خصوصاً بعدما شاهدت مصرع ابنتها «خطم الأرنب» في صورة قاسية، ويطيع الصغيران توسلات الجارة، وينفذان بشكل حيادي المهمة الموكلة إليهما.
تقسم الكاتبة الرواية إلى مشاهد كثيرة، يحمل كل واحد منها عنواناً، وهي في الغالب تشير إلى شخصيات حاضرة في العمل، وتستأثر جدة الصغيرين بمشاهد عدة، إذ أجادت الكاتبة في تصوير تلك الشخصية، وجعلتها كياناً حاضراً ذا تأثير كبير في عوالم الرواية. ومن أجواء «الدفتر الكبير» التي تحولت إلى فيلم حاز العديد من الجوائز: «جئنا من المدينة الكبيرة. كنا قد سافرنا الليل بأكمله. عينا أمي كانتا محمرتين. كانت تحمل صندوق كرتون كبيراً، فيما يحمل كل منا حقيبة صغيرة تحوي ملابسه، إضافة إلى المعجم الكبير الذي كان ملكاً لأبي، والذي كنا نتبادل حمله كلما تعب ساعد أحدنا. مشينا طويلاً، منزل الجدة بعيد عن محطة القطار، هو في الطرف الثاني من المدينة الصغيرة، لا يوجد هنا ترامواي، ولا باص ولا حتى سيارات، وحدها بعض الشاحنات العسكرية تجوب الطرقات، ليس ثمة سوى القليل من السابلة، والمدينة تغرق في صمتها، بوسعنا سماع وقع خطانا؛ كنا نمشي دون أن ننبس بكلمة، تتوسطنا أمنا».الإمارات اليوم المصدر محمد إسماعيل - دبي .
* {الدفتر الكبير} لأغوتا كريستوف... روح الدعابة السوداء
صدرت عن دار {الجمل} في بيروت رواية {الدفتر الكبير} للروائية الفرنسية من أصل مجري أغوتا كريستوف بترجمة المغربي محمد آيت حنّا. هي رواية النزوح والتعلّم وتهيمن عليها روح الدعابة السوداء، وقد قارنها نقاد فرنسيون مع أعمال صموئيل بيكيت وأوجين يونيسكو.
اجرت أغوتا كريستوف من هنغاريا إلى سويسرا في خضم قمع الاتحاد السوفياتي الثورة المجرية عام 1956 بالدبابات، وبإزاء هذا كانت نازحة حرب، كان عليها ترك بلدها وهي في سن الـ 21 عاماً، فغادرت مع زوجها (الذي كان معلمها لمادة التاريخ في المدرسة) وابنتها البالغة أربعة أشهر إلى نيوشاتل في سويسرا، حاملةً بعض الأشعار التي كتبتها بلغتها المجرية الأم.
وبعد خمس سنوات من المنفى، قررت ترك عملها في مصنع الساعات، كما تركت زوجها، واتجهت الى دراسة اللغة الفرنسية، لتبدأ في كتابة الروايات بتلك اللغة وانتهت في آخر حياتها ككاتبة مسرحية باللغة الفرنسية، وروائية وأستاذة للتعليم العالي بالفرنسية.
كانت تكتب روايتها {الدفتر الكبير} وتتعلم الفرنسية في الوقت نفسه، بمعنى أن الرواية كانت تدريباً على الكتابة. تتمحور الرواية حول طفلين يتعلمان الحياة ويتعلمان الكتابة ضمن مشهد مكثف أقرب إلى قصص قصيرة سردية بلغة سهلة وممتعة، فيها الكثير من الواقعية الاجتماعية والحياتية، ربما تعكس مسيرة الكاتبة، وهي تعكس الطابع المزدوج لحياتها بين المجر وفرنسا، ويضيء في الآن نفسه شيء من حياتها التي فصّلتها في سيرتها المقتضبة {الأمية}.
تقول كريستوف في أحد نصوصها: {جئنا من المدينة الكبيرة. كنّا قد سافرنا اللّيل بأكمله. عينا أمي كانت محمرتين. كانت تحمل صندوق كرتون كبيراً، فيما يحملُ كل منا حقيبة صغيرة تحوي ملابسه، بالإضافة إلى المعجم الكبير، الذي كان ملكاً لأبي، والذي كنا نتبادل حمله كلما تعب ساعد أحدنا.
مشينا طويلاً. منزل الجدة بعيد عن محطة القطار، وهو من الطرف الثاني من المدينة الصغيرة. لا يوجد هنا ترامواي، ولا باص ولا حتى سيارات. وحدها بعض الشاحنات العسكرية تجوب الطرقات}...
عالم الكبار :
كتبت أغوتا كريستوف في {الدفتر}عن قصف ونزوح، وعن الطفولة الصعبة لتوأمين أثناء الحرب العالمية الثانية، توأمين يصارعان في عالم الكبار العنيف، يصارعان للبقاء على قيد الحياة، يقيمان مع جدتهما الجشعة والمقرفة التي تعيش في غرفة قذرة وترتدي ملابس بالية ورثة. في هذه الأجواء الصعبة، يتعلم التوأم قوانين الحياة والكتابة والقسوة، التي تخلو من أي معنى أخلاقي. هذه الأجواء التي عاشتها الكاتبة كانت تدريباً لها على الكتابة وتمريناً على القص والسرد، عن حياة أشخاص هربوا من شرور الحرب والمجاعة والاستبداد.
تروي أغوتا كريستوف أنها حين بدأت كتابة {الدفتر الكبير} الرواية كان الأمر أشبه بمشاهد مسرحية تقوم بوصفها. كانت ترغب في كتابة سيرة ذاتية ما، ومن ثم، وتدريجاً، بدأ الأمر في التحول. لم تبدأ بتوصيف ما عاشته مع أخيها، بل ما رأياه، ما روياه لبعضهما البعض، وما كان يجري من حولهما.
اقتبست رواية {الدفتر الكبير} في فيلم سينمائي يتناول «الحرب ولكن من دون حرب، مع طفلين، كشخصيتين رئيسيتن. إننا نتابع تسلسل ما يحدث معهما وما تتركه الحرب على حالة الأطفال النفسية، والحرب لا تزال مستمرة اليوم»، قال مخرج الفيلم يانوش ساس.
توفيت أغوتا كريستوف في 27 يوليو 2011 في سويسرا عن عمر يناهز 75 عاماً، تاركةً مجموعة من الأعمال المهمة كان لها أثرها في الساحة الأدبية الأوروبية والعالمية وترجم بعض أعمالها إلى العربية من بينها {الكذبة الثالثة} و{أمس} بتوقيع الشاعر الراحل بسام حجار.
حصلت كريستوف على {جائزة أوروبا الأدبية} لروايتها الأولی عام 1986 بعنوان {المذكرة}، وحققت نجاحاً كبيراً آنذاك وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وفازت عام 2001 بجائزة غوتفريد كيلر في سويسرا وجائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي عام 2008. كذلك حصلت عام 2011 على جائزة كوسوث التي تمنحها السلطات المجرية.
لغة الأم :
ومن أولى أعمال أغوتا كريستوف ككاتبة في مجال الشعر والمسرح «لغة الأم» و{جان وجو»، لكن أعمالها هذه لم تترك اثراً كبيراً في مسيرة حياتها، وكانت رواية «المذكرة» عام 1986 جزءاً من ثلاثيتها المتحركة التي حمل الجزء الثاني منها الذي صدر بعد سنتين اسم «إثبات»، وثم نشرت الجزء الثالث عام 1991 بعنوان «الكذبة الثالثة». ومحور هذه الثلاثية يدور حول الحرب والدمار والحب والشعور بالوحدة واليأس ولقاءات الاهتمام الجنسي وفقدان الرغبة والحقيقة والخيال، وفي عام 1995 صدرت لها رواية بعنوان «القطع».
كذلك وضعت كريستوف كتاباًَ بعنوان «الأمية»، ونشرته عام 2004 وهو عبارة عن سرد لسيرتها الذاتية، عبرت فيه عن حبها للقراءة في خلال مرحلة طفولته، كأن القراءة كانت طريقاً بديهياً إلى الكتابة، ويتضمن الكتاب في ثناياه كثيراً من التفاصيل التي تروي سيرتها وترصد جوانب من حياتها الإنسانية والاجتماعية، خصوصاً رحلتها من المدرسة الداخلية التي تعلمت فيها، ومن ثم عبورها الحدود وانتقالها للعيش في النمسا، ومن ثم استقرارها في سويسرا خلال مرحلة الحرب وصراع الجيوش.
والنافل أن كريستوف انتقلت للعيش في سويسرا بعدما قمع النظام الشيوعي بمساندة الدبابات السوفياتية الثورة المجرية عام 1956، وعلى هذا كانت الحرب والاستبداد من الأمور التي حظيت باهتمامها في الكتابة.
ومن أعمالها الأخيرة مجموعة من القصص القصيرة بعنوان «لا شيء يحدث فرقاً» والتي نشرت عام 2005 في باريس. كذلك صدرت لها قصتان قصيرتان نشرتا في «مينزو» بالعنوانين «ماتياس» و{الخط». وقد استوحت الكاتبة اسم القصتين من رواياتها السابقة. الجريدة - محمد الحجيري
أو
أو
أو
أو
أو



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق