الاتحاد -ثقافة وفن: رواية ( غايب ) لـ (بتول الخضيري)لوحة من زمن الحصار
كُليزار أنور : رواية “ غايب “ للروائية بتول الخضيري .. تمثل فترة تاريخية مهمة ودقيقة في حياة الشعب العراقي .. فترة كان لها أهميتها الخاصة لأنها كانت الرحى التي طحنت الجميع بدون استثناء وفوارق .
في هذه الرواية ألقت الكاتبة الضوء على سكان عمارة من عمارات بغداد السكنية ، إذ جعلتها صورة ملتقطة عن شرائح المجتمع العراقي من خلال هذه العمارة، فتحت لنا كوى لمعالم مجتمع بأكمله للإطلالة منها نحو سبر أعماق أبطالها .
تبدأ الرواية بضمير المتكلمة “ دلال “. لم يخطفها الموت مع والديها الذين توفيا معاً بعد أن طارت من نافذة المقعد الأمامي _ مع فرقعة لُغم منسي من بقايا حرب 1967 _ أثناء سفرهم بالسيارة من بغداد إلى مقر وظيفته الجديدة في صحراء سيناء .
كُتبَ لهذه الطفلة _ التي كانت تبلغ الشهر الرابع من عمرها _ أن تعيش . سلموها لخالتها .. لم يرغب زوج خالتها أن يُكنى باسمها رغم انهُ لا ينجب وأصّر أن يُدعى “ أبو غايب “ عاشت معهم كطفلة مدللة . وداهمتها الحُمى ، ثم جلطة وهي صغيرة فانسحب فمها نحو اليمين .
قبل أن تصبح خالتها خياطة ، كانت مُعلمة ابتدائية ، وقبل أن يصبح أبو غايب متقاعداً محترفاً كان دليلاً سياحياً ورساماً هاوياً . يقطنون في عمارة تطل على نادي العلوية وجامع الجندي المجهول .. نُصب الجندي المجهول لم يعد موجوداً ، لقد هُدم في هذه الساحة وتم بناؤه في منطقة أخرى غير سكنية . وساحة الجندي المجهول تغير اسمها رسمياً إلى ساحة الفردوس !
( الوحدة صعبة يا دلال . الحروب خطفت الكثير من الرجال . زبوناتي يشكين من ذلك . إحداهن اعترفت لي أنها لشدة وحدتها تحب أحياناً أن تتخيل أن ستارة غرفة نومها ، عندما تعبث بها نسمة هواء ، تصدر حفيفاً هادئاً يجعلها تغمض عينيها . تتخيل أن هذا حفيف دشداشة زوجها القادم في ظلمة الغرفة إلى فراشها . مع العلم أنه توفي قبل سنوات عديدة . ) ص 50 .
استأجر زوج خالتها بالمبلغ المدخر لعمليتها – عملية تجميل وجه دلال – ساحة التنس في نادي العلوية ليجعلها منحلاً . كل منهما ( خالتها وزوجها ) لديه اهتمامه وتشكيل وقته حسب مفهومه ، فالوقت لديهما موسمين : واحد للخياطة الشتوية والآخر للخياطة الصيفية .. أما هو ، فالوقت بالنسبة له موسماً لجمع الرحيق والآخر لفرز العسل .
كل عائلة تمثل حالة معينة تحاول أن تواجه الحصار الذي عاشهُ العراق فترة التسعينيات . أبطالها واقعيون وبكل ما تحمله الواقعية من دلالة .. حتى أحلامهم ليست رومانسية .. انها جادة ومعقولة . جارتها الهام تريد لدلال أن تتعلم الفرنسية لتعمل كمترجمة ، وسعد الساكن في الشقة الأرضية يريدها أن تتعلم الحلاقة لتعمل معه ، وخالتها تود أن تتقن التطريز كي تساعدها ، وزوج خالتها يريد أن تعمل معه في المنحل ، وجارها الآخر المصور (سابقاً) أبو رائد أراد أن يعلمها فن التصوير(-تلتقطين الحياة كما ترينها أنتِ ، وليسَ كما يراها أو يريدها الآخرون لكِ .
رفع يده :
- الدرس الأول : لا تأخذي أية صورة إن كنت غير مقتنعة بالزاوية . بضغطة زر واحدة ستجمدين لقطة من الحياة إلى الأبد ، لذا يجب أن تقتنعي بها كلياً قبل تجميدها .
- لستُ متأكدة إن كان لديّ ما أود أن أجمده إلى الأبد . ) ص 92 – 93 .
لكن في النهاية معدلها أدخلها كلية الآداب / قسم اللغة الفرنسية . واضطرت أن تعتمد على نفسها ، فلا توجد خيارات – أحياناً – في كسب العيش .. كانت بحاجة للمصروف ، واستطاعت أن تُوفق بين دراستها ودوامها عند زوج خالتها سعد ، فالحصار يخنقنا مثل بطانية صوف في عز الصيف .
كانت عمارة أرستقراطيين ، لكن بمرور الزمن أصبحت عمارة أم مازن لشهرتها كقارئة فنجان ، رغم أنها كانت مجرد مستأجرة حالها حال سكان العمارة الباقين . مرات عديدة زارت أم مازن في شقتها مع خالتها ومع جارتها الهام ( الممرضة ) . تصف بدقة طوابير النساء وهن ينتظرن نجدة أم مازن . تطرقت لأدق التفاصيل اليومية التي كانت جزءً مهماً في حياتنا آنذاك ، حتى جعلتنا نتساءل : لم تدع ( الكاتبة ) شيئاً يمر دون أن تلقي عليه الضوء وتُعلّق عليه بأسلوب ساخر لدرجة الاعجاب بها وبذكائها وتصويرها الدقيق لذاك الواقع المرير .
لكن هل يعني أن تتوقف الحياة ؟! الحياة استمرت رغم كل شيء ، رغم الحرب والحصار .. وفي لحظات مَن تأجل موته كان من حقهِ أن يعيش بالرغم من الخراب والدمار الإنساني والنفسي الذي من حوله . قال سعد : ( - أنا أحب الأطفال . أتمنى أن أنجب طفلاً يوماً ما .
رحت أرقب انفعال الهام :
- لماذا ؟ لتضيف فرداً آخر إلى المأساة ؟
- لستُ مسؤولاً عن المأساة . يجب أن نفكر في أن نحيا بشكل طبيعي ، وأن تكون لنا أحلام مشروعة . ) ص 132 .
الجدير بالذكر في هذه الرواية أنها أعطتنا معلومات وافية عن مهن كل الشخصيات وبالتفاصيل الدقيقة .. فعرفنا مقادير خلطات أم مازن ، وأنواع الأصباغ وما يقوم به سعد، وأزرار وباترونات وأقمشة خالتها ، وما يتعلق بالكاميرا وزوايا التصوير الذي كان يمارسه أبو رائد سابقاً ، ولكن أجمل المعلومات كانت عن منحل زوج خالتها .. فعرفنا الملكة ( أم النحل ) والشغالات ، والذكور الذين مهمتهم تلقيح الملكات العذارى ( أشياء كثيرة لا تعرفها عن هذهِ الحشرات . هل تعلم أنهُ لأجل أن يحصل أبو غايب على غرام واحد من العسل فأنه يجب على النحلة الشغالة جمع ثلاث غرامات من الرحيق ، ومن أجل هذا عليها زيارة أكثر من ألف زهرة تفاح مثلاً ؟ ) ص 159 .
ويدخل حياة البطلة ( عادل ) عن طريق سعد . واستطاع أن يغيّر – على الأقل – نظرتها في أشياء كثيرة .
رواية “ غايب “ تتكون من سبعة عشر فصلاً .. ستة عشر منها تلون لوحة الحصار يوماً بيوم .. أما الفصل الأخير ، فقد كان القشة التي قصمت ظهر البعير لنكتشف فيه بأن عادل كان ( ضابط أمن ) أعانه سعد في مراقبة سكان العمارة ، فهما المسؤولان عن الاخبار عن أم مازن بتهمة الدجل والشعوذة ، وعن الهام بتهمة بيع الأعضاء البشرية لصديقها المهندس الذي اضطر أن يشتغل كلحام .. وعن زوج خالتها بتهمة تهريب التراث العراقي لخارج الوطن !!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* “ غايب “ رواية الكاتبة بتول الخضيري الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت / 2004.
(غايب) رواية كاملة
جريدة الرياض - مقالات اليوم - نبض الكلمة - شريفة الشملان
(غايب) عنوان رواية جميلة لسيدة عراقية.. عفواً نصف عراقية. أبوها عراقي وأمها اسكتلندية.. بتول الخضري.. تغمس قلمها بعمق العراق، وبقلب العراق وتنقل صوراً للعراق.. من خلال روايتها (غايب).
تبدأ بتول روايتها بعمق الطلقة، وصرخة اللغم، اللغم القوي الذي زحزح كيان الأمة العربية، وأفاق نومها على صرخة 67لغم في صحراء سيناء لم ينفجر وقتها ولكنه بقي لينفجر بسيارة مهندس النفط العراقي القادم عبر سيناء.. ليأكله اللغم ويترك لفافة صغيرة هي الراوية.. هذه الراوية التي تملك فماً معوجاً.. من جلطة أصابتها وهي طفلة ويتبناها زوج خالتها وخالتها اللذان لم يرزقا بأطفال محملا اسم (أبو غائب وأم غائب) ولم يغيرا اسمهما ليحملا اسم الصغيرة (دلال) ويكنيا باسمها..
الرواية.. المجموعة احداث مترابطة، بعضها سمعنا عنها وشاهدناها حية في وقتها ايام استنزاف العراق قبل احتلاله وبعضها لم نسمع عنها إلا من خلال ما روته (بتول)..
الرواية يختلط بها البحث العلمي والتحليلي بالروائي.. يدل ذلك على حس قوي بالبحث والتنقيب.. لا يخلو ذلك من حس فكاهي كوميدي يلطف اللحظات المليئة بالحزن والألم..
الصدفية كمرض وتربية النحل وحكايا النحل الكثيرة والعجينة العسل وفرزه والنحل وحاسيته من الصوت والرائحة.. وما يمصه من رحيق.. والسحر والشعوذة وأوصافها وطرقها من ذلك تخلق لنا الجو الكوميدي السوداوي بالوقت نفسه عندما تهرب الناس من خيباتها الى الغيبات..
بتول.. تنقل لنا صور معاناة العراقيين، وصور الدمار وضياع الانسان بين كرامته وبين حقه بالحياة.. وحقه باللقمة كي يواصلها وهذه اللقمة لا تأتي الا مغموسة بذل عبر عملية متواصلة.. ذل الحكومة للهيئات الدولية.. والمواطن لذل الحكومة ومريدي الحكومة ومنافقيها.. كل ذلك يختلط ببعضه..
بتول الخضري.. النصف عراقية والداخلة في عمق النسيج العراقي، في القلب البغدادي تمر على الطرقات والأمكنة.. تنتقل كما تنتقل نحلات (ابو غالب) بين الزهور او بعد ما قطعت رؤوس النخيل بين بقايا الفواكه لتمتص الرحيق.. بتول تمتص الآلام وتفرغها على الورق..
هذه الرواية ذكرتني برواية (بيروت.. بيروت) لصنع الله ابراهيم مع فارق كبير بينهما.. يتيح لنا كمتلقين ان نعطي لكل منها حقه..
رغم كل احداث الرواية.. الكوميدية السوادء.. تظهر لنا بوارق امل هنا وهناك.. تطعمها بالرواية، فتشعرنا بأن الله حي لا يموت وان شعباً كشعب العراق لا يموت.. قد يضرب بكل المحرمات الدولية ويعوج فمه كما اعوج فم (دلال) الراوية.. إلا أنه يبقى هناك عراق وهناك امل..
تنتهي روايتها الجميلة والمؤلمة بحديث بين الراوية وبين بائع الصحف الذي يبدأ خطوات نحو المراهقة.. والذي يبيع الصحف ولا يعرف كيف يقرأها.. والذي ايضاً هو لقيط ويعرف أباه ويعرفه ابوه.. لكن لا يعترف به.. تحاول اثناء الحديث ان تقدم له مكافأة عبارة عن مضاعفة سعر الجرائد التي تبتاعها منه.. مقطعها الأخير يقول:
قاطعته متوجهة نحوه:
هيا سأعطيك الدرس الأول..
سحبته من يده وقدته حتى الكرسي.
اجلس، هكذا نبدأ.. ردد بعدي، ألف، باء، تاء...)
تنتهي الرواية بشكر كبير لمن ساعدها وتعدد الاسماء فأشعر ان كل واحد قدم لها معلومة.. صاغتها قلائد في روايتها وحبكتها جيداً، فحاكتها بلا ثقوب.. رواية كاملة،، ولأنها رواية كاملة تستحق العودة لها مرة أخرى..

|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق