الأحد، 12 أبريل 2015

كم بدت السماء قريبة - بتول الخضيرى - للقراءة والتحميل ...


كم بدت السماء قريبة 



 بتول الخضيرى

عن هذا الكتاب:

   كم بدت السماء قريبة في تلك الأرجوحة المعلقة على شجرة الحياة حينما كانت الحياة باتساعها هي قريتنا الصغيرة .

    رواية سرد ذاتي، ولكن على لسان طفلة صغيرة، هل تتخيل ان ترى العالم من عيني طفلة، أمر مشوق فعلاً، ان ترى المزارع في الزعفرانية في العراق، ترى بيوت الفقراء، بيوت الطين.

    بتول الخضيري تكتب برشاقة طفلة تصطاد الفراشات، تقفز بين الكلمات، بين المعاني المختزلة العميقة، وتقدمها بشكل طفولي آسر، تكتب بألم المعاناة، تلون أشكال المعاناة في ألوان تختار معانيها بلون الرمال، حيث كل شيئ يكتسب لونه من لون الرمال.



كم بدت السماء قريبة !! مقاربة عصرية

 د. أحمد موسى الخطيب

قسم اللغة العربية - جامعة البتراء

   ملخص الدراسة

كم بدت السماء قريبة: مقاربة عصرية ..

   يدرس هذا البحث رواية الكاتبة العراقية بتول الخضيري "كم بدت السماء قريبة!!" في محاولة لاستجلاء ما تحقق فيها من جماليات الرواية العصرية على مستوى التشكيل والرؤية. فيتناول خطابات السرد الرئيسية من تتابع، وتداخل، وتواز، بالإضافة إلى تعدد أصوات الراوي، وأثر ذلك على لغة الرواية، ودوره في تعدد الضمائر في لغة السرد. كما يتناول تداخل الأنواع الأدبية في الرواية، مثل: السيرة الذاتية، والشعر، والفن التشكيلي، وفن الباليه، وفن السينما. كما يدرس البحث كيفية رسمها لشخصياتها الروائية، وكيف وظفت هذا كله، من خلال رؤية شمولية، للتعبير عن مجموعة من قضايا الواقع وهمومه الملحة، وذلك عبر أفق روائي يتسع لهموم إنسان العصر المتمثلة في: قلقه، وغربته، واضطرابه، وخوائه الروحي.

  

Abstract


This paper critically reviews Kam badat assama' qareebga! (literally: How close the sky seemed to be !!) a novel written by Batoul alkhudairi, an Iraqi woman writer.
The paper attempts to investigate modern aesthetics in the novel in terms of from and vision: narrative discourse in its sequencing, inter-connection, and parallelism, divers story-teller voices and its impact on the language of the novel; genre overlap in autobiography, poetry, formative art, ballet and cinema.  In the novel its expression in real-life issues seen from a modern perspective are also discussed.


  سيتناول هذا البحث بالدراسة رواية الكاتبة العراقية بتول الخضيري (كم بدت السماء قريبة !!) (1) في محاولة لاستجلاء ما تحقق فيها من جماليات الرواية الحديثة.
  وإن كانت هذه أول تجربة لها على طريق الإبداع الروائي، إلا أنها استطاعت أن تحقق فيها جملة من ملامح الرواية العصرية، استحقت أن تلفت الأنظار إلى موهبة جديدة تمضي بخطوات واثقة على هذا الطريق الصعب، تنم عن وعي ودراية بآفاق الرواية الجديدة.

التشكيل:-

(1) البنية السردية:
    لقد استوعبت هذه الرواية في إطار بنيتها خطابات السرد الرئيسية، وهي: التتابع، والتداخل، والتوازي.

التتابع:-

    وتعني بالتتابع المشاهد المركزية وفق ترتيب زمني في إطار تصور محدد، وهذا التصور الذي ينظم حركة المشاهد في تدفقها يشكل خط السرد الرئيسي (2).
    فالرواية تبدأ-خلال عملية استرجاع بطيئة- من لحظة دخول بطلة الرواية إلى المدرسة طفلة صغيرة، مروراً بعلاقتها بصديقتها "خدوجة والأولاد في قريبة الزعفرانية، ثم انتقالها مع الأسرة إلى بغداد، ذلك الانتقال الذي رافق تنامي وعيها، وإحساسها بنضجها المبكر، ثم وفاة والدها وتصفية مشروعه، يلي ذلك مرافقتها لوالدتها للعلاج في لندن بعد إصابتها بسرطان الثدي، وحتى وفاة والدتها هناك، ودخولها في دوامة الغربة، والوحدة، والضياع..وقد بلغت عامها الثلاثين.
    وخلال هذا كله تعرض لمجموعة من التجارب، لعل أهمها تلك العلاقة المتوترة بين والدها العراقي المتمترس خلف عاداته، وتقاليده، وشرقيته، وبين والدتها الإنجليزية التي لم تتنازل عن مفرده واحدة مما ألفته في حياتها بلندن، بعد أن أصيبت بخية الأمل حين وجدت أن الشرق ليس-كما تصورته أو زين لها قبل الزواج-أسطوريا ساحراً.     
وبين هذه العالمين المختلفين إلى درجة التناقض الحاد، ولم يستطع أحدهما أن ينفي الآخر، عاشت طفولتها، وسنوات مراهقتها، حتى وفاة والدها المبكرة الفاجعة.
    ولعل من أهم تلك التجارب تعرفها بالنحات سليم في بغداد، وبآرنو في لندن ومع الأول عرفت الأمل، الذي سرعان ما اغتالته ظروف الحرب، ومع الثاني عرفت الحمل، والذي أجهضته بعد أن اكتشفت أن آرنو صورة لواقع زائف هناك. هذا بالإضافة إلى نشوب حربي الخليج: الأولى والثانية.
    ولا يعنى هذا أن التتابع للمشاهد المركزية في الرواية قد استأثر بآلية السرد دون أن يفسح للتقنيات الأخرى، مثل التداخل، والتوزاي، لتشكل معها بنية هذا العمل المكتملة. كما أن هذا التنوع في تقنيات السرد لم يحل دون تراكم مكونات المادة السردية وفق منطق السببية بين المقدمات والنتائج. فعلاقة الأب والأم المحكومة بتناقضات ثقافتين استمرت فاترة واهية، وأقرب
ما تكون إلى الإنفصال منها إلى حياة زوجية حقيقية. وانتهت الأم إلى الغربة في العراق ولندن، فهي تقوم بعد عودتها إلى موطنها "لم أعد أنتمي إلى هنا، عندما غادرت انكلترا حينها، وقررت أن أحاول الانتماء إلى الشرق، لكن لم أنجح في انتمائي إلى الشرق رغم كل محاولاتي. الآن وقد عدت ثانية، أجدني لا أستطيع الانتماء من جديد إلى موطني الأصلي" (3). كما أن علاقة الأم بالطفلة (بطلة الرواية) لم تقم على حب حقيقي، لذا كانت أقرب إلى أبيها منها، كما أن الإبنة كانت مطالبة باسترضاء ثقافتين مختلفتين، فلم تفلح في الولاء لأي منهما، فهي تقوم لصديقها آرنو في لندن "لست من هنا ولا من هناك، هذه هي المشكلة"(4).
    كما يمكن تلمس هذا المنطق السببي في مصائر الأبطال جميعاً، وهي مصائر درامية كارثية، فحيناً تكون بالموت، كما حدث للطفلة خدوجة في ظل فقرها، وغياب الوعي والرعاية الطبية. ومثلما حدث للأب المجهد في العمل، المتألم لفشل حياته الزوجية، وإحساسه بعدم إخلاص زوجته له. وكما حدث للأم التي تكاد تقتلها الغربة والفشل، وخيانتها لزوجها، والتي انتهت فريسة لمرض قاتل.
    وحيناً آخر تنتهي حياة الأبطال بموت من نوع آخر، وذلك حين تضيع أحلامهم وتتبخر مشاريع حياتهم، كما حدث مع مدربة الباليه وتلاميذها، وبخاصة فاروق، وأحمد. وكما آلت إليه حياة النحات سليم. فقد كانت ظروف الحرب وتداعياتها هي السبب في فشلهم وغيابهم.

التداخل:
    لم يستأثر التتابع الأفقي للمشاهد المركزية في الرواية بتقنية السرد وحده، فلم تدخر الكاتبة جهداً في توظيف التداخل، التي تضمن لها تناثر مكونات السرد في الزمن. فالرواية المعاصرة تزداد بساطة كل يوم نتيجة كراهيتها للحبكات المعقدة الزائفة. ويذهب سكوت " أن الرواية تكتسب قدراً أكبر من الصدق إذا كتبت دون التماسك المخطط له ببراعة في الحبكة" (5). وعلى هذا حلت التشكيلات (Formations) محل الشكل (Form) في الرواية الجديدة (6).
    لقد تعددت صنوف التداخل في روايتها، مثل: تيار الوعي، والمونولوج، والأحلام، والاستدعاء من الذاكرة، والرسائل، والبيانات والتقارير والبلاغة العسكرية.
وقد خلط بعض الدارسين بين تكنيك المونولوج الداخلي، وبين تيار الوعي، أو تيار الفكر، أو تيار الحياة الباطنية (7). لكن الاتجاه السائد اليوم هو أن تيار الوعي ليس اسماً لتكنيك ما، بل اسماً لنوع أدبي. أما تكنيك المونولوج الداخلي، في بعض توظيفاته، فهو أحد التكنيكات التي تستعملها رواية تيار الوعي (8).
    والرواية موضوع الدراسة ينطبق عليها جانب مهم من معايير رواية تيار الوعي، وذلك في تجردها من الزوائد الاجتماعية والتاريخية، وتخلصها من التشبث بالأحداث الكبيرة والأبعاد البارزة التي تشكل المجتمع، مثل حربي الخليج الأولى والثانية، لكنها تقدمها بطريقة غير مباشرة من خلال تقنية التوازي، وتراسل الخارج والداخل. فهي ليست أكثر من مدخل إلى الأحداث الداخلية، لتؤكد على استلاب الشخصيات وغربتها. هذا بالإضافة إلى انشغالها ببعض الأشياء الصغيرة والأمور الهامشية التي لها حضور عميق في وجدان بطلتها المحورية، وبخاصة في علاقتها "بخدوجة" في الفصلين الأولين (9).
    ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نطلق عليها رواية تيار وعي، لأن القصة من هذا النوع لا تقرأ على أنها أحداث متسلسلة زمنياً، بل سلسلة غير متجانسة من المدركات..والكاتب يحاول دوماً أن يوهمنا بأننا نجرب بأنفسنا ما يحدث هناك، كما يطلب منا أثناء ذلك أن ننظر إلى شتيت من الأشياء الطارئة الغريبة، وكأننا في حلم من أحلامنا، حيث تحدث المستحيلات وغير المعقولات.. (10) لذلك فإن القصة الباطنية كثيراً ما توحي بأنها مضطربة (11). ففي هذه الرواية-على الرغم من استخدام صنوف التداخل بهدف المراوحة في الزمن-يمكن ملاحظة التتابع الأفقي للمشاهد المركزية في إطار تسلسل زمني مجدول مع مستويات من الزمن الأخرى، يبدأ من ذهاب بطلة الرواية إلى المدرسة طفلة صغيرة، وحتى تخرجها في الجامعة، واستقرارها في لندن بعد وفاة والدتها، ولها من العمر ثلاثون عاماً.
    وبالإضافة إلى أسلوب تيار الوعي، ودوره في التعبير عن الراوي الداخلي، سعياً إلى مزيد من الاتجاه نحو جوانية أوسع، كما هو الحال عند كتاب الرواية الجديدة، فهناك تكنيك المونولوج الداخلي (الحوار الباطني).
     ويقصد به تلك التقنية التي تقدم المحتوى النفسي للشخصية والعمليات الذهنية بداخلها دون أن تنطق بها الشخصية في كلام مجهور، في اللحظة التي توجد تلك الأفكار أو العمليات في مستوى الوعي، ودون أن تفترض تلك الشخصية أو تتوقع وجود سامع على الإطلاق، ويمكن أن يقدم المونولوج مادة الوعي بترتيب غير منطقي(12).
    وينهض الحوار الداخلي بالعديد من الوظائف في الرواية الجديدة. فحيناً يأتي عند بتول الخضيري موازياً للأحداث الخارجية، منعكساً عنها، كما حدث في تفكيرها بالنحات سليم إبان حرب الخليج الأولى "كيف سأحتفل بأجواء علاقتي بأول رجل يكبرني عشر سنوات، ولا يوجد وقت للأسئلة؟ هل يوجد وقت لعلاقة تحت الدوي؟! كيف نبني وسط أشياء تخرب. إنسان بعد آخر يسقط. الأبنية وبيوت الأهالي. الزمن يسقط. هل سيأخذ يدي بين يديه المتورمتين" (الرواية ص 136). وتشفع هذا المونولوج-الذي يكشف عن صارعها النفسي، وموقفها من الحرب، وما جرته على موطنها من ويلات-ببيان عسكري من الإذاعة.
     ومثل هذا الحوار في كشفه للبعد النفسي للشخصية، ولصراعها الداخلي الذي يأتي موزياً لما يحدث في الخارج، مع وضوح التطور الذي طرأ على الشخصية-ذلك الحوار الذي ارتبط بلحظة لقائها الحاسم مع سليم في بيته "رأسي يدور. أول رجل. عشر سنوات. خائفة أنا وحذرة. لا! المقولة تؤكد أن الحذر والفضول لا يأكلان من صحن واحد. يجب أن أقرر، هل أنا حذرة أم هل أنا فضولية؟ " الحرب في الخارج. نحن في الداخل. لا وقت للتعارف البطيء. لماذا أكرر كلماته؟ أين كلماتي؟ هل أغلقت باب الشقة خلفي؟ لدينا ساعة واحدة فقط. يرغب في زيارة والدته هذا المساء... "(الرواية ص 137).
     ويلاحظ الدارس من كثافة اللغة، واختصار الجمل، واحتشاد الحوار بالأسئلة. وقد جاء هذا متسقاً مع حركة النفس وإيقاعها المتسارع، وهي تتخذ قراراً مصيرياً، وتنتقل من وعي إلى وعي. وقد ساعد هذا الملتقى على ملاحظة أثر الحدث الخارجي في تشكيل العالم النفسي الداخلي للشخصية.
وقد يأتي الحوار الداخلي عندها لرصد التطور الذي يطرأ على وعي الشخصية. ونلاحظ ذلك في نهاية الفصل الأول. وهي تتحدث عن طفولتها مع خدوجة "أفكر الربيع في مزرعة المشمش، لولاه لكانت طفولتي مع خدوجة ترابية كلها. ليس فقط بسبب العواصف الرملية التي كانت تهجم صيفاً وأنا معها أثناء العطلة، لكن أكثر لون يحضر حين أذكرها هو لون التراب، مياه النهر الطينية، أو حال السواقي، بيوت اللبن المرقع بالقش.." (الرواية ص 34).
     وقد يعكس المونولوج عندها بعداً نفسياً للشخصية، تصور فيه هواجس الوحدة وما يتصل بها من قبل وخوف يتنامى ويكبر كابوساً مفزعاً. (الرواية ص 69).
     كما وظفت الكاتبة تقنية الأحلام والكوابيس لمزيد من الإضاءة الداخلية للشخصية المحورية، ولتكريس منحنى التشكيلات في بناء روايتها، تخلصاً من الحبكة التقليدية المعقدة، وذلك لما لهذه التقنية من قدرة على العصف بالزمان والمكان.
    فحيناً يأتي الحلم عندها تحقيقاً لرغبتها في كسر حدة حلقات الغربة التي استحكمت حولها في لندن، وذلك حين تفاقم مرض والدتها في خط مواز لتردي الأوضاع في موطنها، فيأتي الحلم ختاماً للفصل الثامن، لينقلها إلى عالمها الجميل في بغداد (الرواية: ص 189).
     وحيناً يأتي الحلم قريباً من عالم الكوابيس، فينهض بدور مهم في التعبير عن مشاعر الكره التي تكنها (لميلي) صديقة أمها، وأخت (ديفيد) عشيق أمها (الرواية : ص 48)، ويلاحظ في هذا الحلم كيف تعاورت تيار السرد الضمائر الثلاثة (المتكلم، والغائب، والمخاطب).
    ونجدها تستخدم تقنية الحلم إمعاناً في تناثر مكونات السرد في الزمن، فنراها تنتقل من بيان عسكري، غلى رسالة من صديقتها، إلى صوت المحلل السياسي، الذي استدعى حديثه عن الأطفال الأسرى مخزون ذاكرتها في صور حلمية، التقت فيها الصغير "حسون المعلون"، وهو يرقص بشيئة الصغير وقد نبع فجأة تحت دشداشته، وقد سألته عن صديقة طفولتها "خدوجة"، ونلاحظ فيه مراوحتها بين ضمير المتكلم وضمير الغائب (الرواية: ص 134).
     وقد يتداخل عندما الحلمي والكابوسي معاً، مؤدياً وظيفة الحلم السابق. فهو كابوس مفزع يبدأ بعد قراءة رسالة مخيفة من صديقتها ببغداد، وأقل ما جاء فيها أن النساء هناك يرددن: يارب الستر في الموت.. الستر في الموت. فتدخل في تحلمها الكابوس لتخرج منه إلى واقع مفزع، فأمها تصرخ لسقوط شعرها نتيجة للعلاج الكيميائي، (الرواية ص 189) وهكذا يتداخل الحلمي بالكابوسي بالواقعي.
     وتمثل تقنية الاستراجاع أو الاستدعاء من الذاكرة جزء مهماً في الرواية الجديدة، يحقق لها تلك الحركة التماوجية في الزمن، بالإضافة إلى ما نهضت به في هذا السبيل التقنيات التي سلف الحديث عنها.
    ففي الوقت الذي يحرص فيه الكاتب على رصد المسار الأفقي للحدث الروائي، يستدعي الماضي باستمرار في إطار التقنية الحديثة، التي تنظر إلى الزمن بوصفه لحظة مترامية الأطراف يظهر فيها الماضي منساباً في تيار الحاضر وفي غير نظام. وهذا يرتبط بالحياة الداخلية للشخصية" (13) .
    فالملاحظ أن التذكر عند بتول الخضيري يبدأ من خلال كلمة تسمعها (الرواية ص 143)، أو من خلال مشاهدة شخص ما (الرواية ص 109)، أو من خلال موقف معين (الرواية ص 64، 120، 115).
     وقد كان تركيزها في استخدامه يتمحور على الرغبة في الانتقال بتيار الزمن من الحاضر إلى الماضي، فالعودة إلى الحاضر، من خلال تلك الاختراقات المفاجئة، التي تجمد سير الحدث، "وهو تجميد يكشف ويفسر ويضيء" (14) وبخاصة عندما يطول مشهد التذكر (الرواية ص 120). وقد تنقلنا بهذه التقنية من الزمن الحاضر إلى المستقبل، ثم تعود بنا إلى الماضي فالحاضر ( الرواية ص69). وربما دفعتها تقنية التماوج بالزمن إلى العودة إلى الماضي، ثم المضي إلى زمن غائم ممتد (الرواية ص 120). فبعد أن استدعت منحوتات سليم في مرسمه أحداث الأمس المرتبطة بمعارك الجبهة في ديزفول-الشوش، خرجت من هذه إلى تأمل المنحوتات في المرسم ووصفها، فهي لم تعد إلى الزمن الحاضر، وإن كانت المنحوتات تعبيراً عن هم الراهن، فلجأت إلى تقنية التراسل مع الفن التشكيل على امتداد ثلاث صفحات. وزمن الفن-كما تعلم-زمن ممتد، لا ينتمي على نحو حاسم إلى واحد من الأزمنة الثلاثة "القطعة الأولى كانت لوليد حديث بالحجم الطبيعي. يمتد من بطنه حبل سري، يربطه بمشيمة منحوتة على شكل خوذة حرب. القطعة الثانية كانت لأم ترضع طفلها. بدلاً من تكورات نهديها الأملسين، توجد خوذتان خاكيتان بمثابة الصدر المرضع...".
     وإذا كان الاستراجاع قد جاء هنا متداخلاً مع الفن التشكيلي، فنجده في مواضع أخرى يأتي ملتحماً مع الحلم (الرواية ص 143). كما نجده متآزراً مع تيار الوعي والمونولوج الداخلي (الرواية ص 69). كل هذا من أجل إضاءة أكثر لعالم الشخصية المحورية من الداخل، ولتنشر مكونات السرد في الرواية في سلسلة من التشكيلات، تمرداً على البيئة الكلاسيكية المحكمة.
     وتقنية الرسائل ليست جديدة في الرواية العربية """فقد يستعين الكاتب أحياناً بأسلوب (الرسالة) ليكتب به القصة كلها أو جزءاً منها، من أجل أن يوهم القارئ أن ما يقصه قد جدث بالفعل" (15) ولكن بتول الخضيري توظف هذه التقنية منذ بداية الفصل الرابع تكريساً لمنحاها في التفكيك المدروس لبناء روايتها، محاولة المزج بين العديد من الأصوات الساردة، حتى لا يظل صوت الروائي، الذي يؤدي في الوقت نفسه دور الشخصية الرئيسية، هو الصوت الوحدي المهيمن، فنجدها تخلي المكان لوسيط آخر مثل الرسائل، والبيانات والبلاغات والتقارير العسكرية، ونشرات الأخبار والأناشيد والأغاني الوطنية.
     وقد عرضت علينا ضمن تيار السرد رسائل من شخصيتين ثانويتين مهمتين في الرواية، الأولى شخصية حبيبها النحات سليم، والثانية مدربة الباليه (المدام). وقد نهضت رسائلهما بدور مهم في إضاءة نفسيهما من الداخل، بالإضافة إلى دورها في تعرية الواقع وإدانته، ودورها في تقنية التوازي التي اعتمدت عليها كثيراً في بناء روايتها.
     وكما كان يأتي التذكر اختراقاً لزمن السرد ومكان الحدث، كذلك جاءت تلك الرسائل متجاورة أو متداخلة مع تقنيات أخرى، إمعاناً في تفتيت الحدث وتماوج الزمن والانتقال من مكان إلى آخر.
     فرسالة سليم الثانية جاءت بعد بيان عسكري، وقبل حديث المحلل العسكري، الذي يلاحقها كالكابوس، وبعد حديث المحلل العسكري حلم واستدعاء من الذاكرة. وهي رسالة تبدون قصيرة، ولكنها غاية في الكثافة والدلالة على استلاب الفنان وإحباطه، في أسلوب يفيض مرارة وسخرية،"...فأنا مازلت في نعمة تنفيذ مناضد عسكرية، دون نقاش. لكم إشاعة أهل القلم تقول إنهم سيوكلون إلى مهمة نقل جثث إلى المدينة" (الرواية ص 142). وتطول رسالته الثالثة إليها (الرواية ص 143)، والتي تقطع قراءتها بالرد على مكالمة هاتفية من (المدام)، ويبدون أن الطول كان مقصوداً، لأن الأزمة التي تشكلت في الرسالة السابقة آذنت بانفجار في الرسالة التالية، التي أومأت إلى موت (الفنان) بداخله، ونمت عن احتمال إجهاض علاقته بها، فهو لم يعد صالحاً للفن ولا للحياة. لذا جاءت رسالته الرابعة والأخيرة ضمن منظمة من النهايات لكثير من الأحداث المهمة، اختتمت بها الفصل الخامس من روايتها، ومنها أنه قد سافر إلى الشمال حيث أهله، وأنه يخطرها صراحة بطي ما بينهما من علاقة "حلقي يا صغيرتي، فهذا هو وقتك. أما أنا فسأبقى. سأمكث في مكان تعلمت فيه كل فنون قتل الوقت...اعبري إلى هناك. ارحلي بعيداً..طوفي في البلاد. ابحثي... لعلك تجدين تسوية عادلة مع النفس" (الرواية ص 151).
     وبلغت رسائل المدام إليها خمساً، امتازت بطولها ، وتركيزها على وصف ما تغفله وسائل الإعلام من حياة العراقيين في ظل حرب الخليج الثانية. وقد افتعلت بتول هذه التقنية لتقيم حالة من التواصل والتراسل بين مكانها في لندن بعد سفرها لعلاج والدتها هناك، وبين موطنها في العراق، ونجحت في هذا الجزء من روايتها في توظيف الرسائل لإحكام تقنية التوازي بين تفاقم مرض الأم، واستفحال السرطان في جسدها، وإخفاق العلاج الكيميائي، وغرف البطلة في حالة من الغربة والإحباط..وبين تردي الأوضاع في موطنها على نحو دراماتيكي مثير للفزع والجنون "انفجار سيارات بالجملة..شاب يبحث عن أصابعه وسط الركام. كلب يحمل إحدى قوائمه بين فكيه. أكثر الناس يتساقطون بسبب سكتة قلبية من الهلع الدائر" (الرواية ص 168). ووسائلها الأخرى لا تقل عن هذه في تصوريها الفنتازي لواقع الحياة العراقية في ظل الحرب والحصار من بعدها (16) . وليس هناك أمر وأقسى من تلك العبارة التي ختمت بها روايتها، واستشهدت بها من آخر مكالمة للمدام "نحن نأكل الخرا بالإبرة، لا الإبرة تشيل، ولا الخرا يخلص".
     ولا تقل التقارير، والبلاغات، والبيانات العسكرية، ونشرات الأخبار (17)،والأناشيد، والأغاني الوطنية(18) عن التقنيات السابقة في تعدد الأصوات الساردة، وفي مرواحة الزمان والمكان، وفي تحقيق تلك البنية المفككة المحسوبة القائمة على مجموعة من التشكيلات. وهناك فرق كبير بين التفكك عند جيل الرواد، فهو تفكك يدل على عدم الخبرة، أما التفكيك عند الجيل المعاصر "إنما هو تفكيك مقصود محسوب، يعكس مجتمعاً قلقاً مزدحماً بالناس والأحداث والأنباء المتضاربة، التي تؤدي إلى انفعالات متناقضة في اللحظة الواحدة" (19) ولا نستطيع أن نغفل أثر ما يقع من تطورات أدبية وفنية في الغرب، بالإضافة إلى محاولة هذا الجيل للتمرد على الأشكال الأدبية السابقة إثباتاً لوجوده (20).
     هكذا استطاعت بتول ان تؤكد لنا أنه لا تنقصها الخبرة ولا موهبة التركيب، حين استطاعت أن توظف هذه التشكيلات من خلال رؤيتها الموحدة، لتقدم بالتالي رواية متقنة، وهذه سمة الصنعة الممتازة "ألا يكون هناك شيء تافه إن لم يكن بالغ الضرورة" (21) . ويبدون أن مهارتها قد خانتها حين شغلت نفسها- على امتداد بضع صفحات-بتصوير تفاصيل عزاء جارهم (أبو نضال)، وكان بإمكانها الاستغناء عن هذا التوثيق الفولكلوري دون أن ينال بناء الرواية أدنى خلل. (الرواية ص 82-86). 

التوازي:
     كان التوازي أحد أنظمة السرد الرئيسية، التي اعتمدت عليها الكاتبة في بناء روايتها بالإضافة إلى التتابع والتداخل، وفيه تتزامن المشاهد والعناصر الحكائية، مما يساعد على تفجير المفارقة، وإضاءة الموقف، ورسم الشخصيات من الداخل.
    ونظراً لاعتمادها على أسلوب المقابلة والمقارنة في الفصول الأولى، متخذة منه سبيلاً لرسم عالم شخصياتها، وبخاصة شخصية كل من الأب والأم، لهذا نلاحظ غياب نظام التوازي فيها، فلا نكاد نظفر بنموذج منه إلا في نهاية الفصل الثالث (الرواية ص 87).
     أما في سائر الفصول فيصبح التوازي الخطاب السردي السائد، وبخاصة في الفص الخامس، الي افتنت في الكاتبة بتوظيف هذا النظام.
    وعلى امتداد تلك الفصول توظف الكاتبة إمكانات التوازي الفنية، حيث نراها تتجاوز مع التقنيات الأخرى، التي سبق الوقوف عندها. فنراها في مواضع عديدة تتخذ منها وسيلة لإضاءة عالم شخصياتها من الداخل: فضيق الأم بحياتها، وقلقها المتصاعد الي بلغ مداه، وآذن بانفجار، يتوازى مع صوت طبول حرب الخليج الأولى، التي أخذت تتعالى من خلال البيانات العسكرية، وأوشكت على الانفجار بين لحظة وأخرى. وهكذا، ومن خلال جدلية الخارج والداخل، يصبح الخارج مجسداً للداخل، أو يصبح مرآة له. (الرواية ص 92-94).
     ويتجلى التوازي عندها في تلك اللحظة التي دخلت فيها مرسم صديقها سليم، فأخذت في تأمل منحوتاته، التي شكلت في مجموعها إدانة للواقع الذي أفرزته الحرب. ويقطع لحظة التأمل تحليل عسكري مسموع يطوف بين القطع الفنية. عندئذ تقول لصديقها: المنحوتات تعبر عما يدون في الخارج فيرد عليها: نعم، الخارج يقتل الداخل.
     وإذا كان التوازي هنا قد أضاء الداخل، فقد كشف موقف الشخصية من الحرب أيضاً، وقدم روية تشاؤمية مفزعة لعبثية تلك الحرب. (الرواية ص 122).
     وينهض التوازي بدور مهم في تصوير صراع الداخل للبطلة، وذلك حين التقت صديقها سليم في شقته لأول مرة، فجعلت من البيان العسكري الذي يهبط عليهم من شباك الشقة خطاً موازياً لما يمور في الداخل من تساؤلات "نعم، فبعد أن وصلت الحرب إلى هذه المرحلة، لا يهم متى تنتهي..." (الرواية ص 133).
     وقد وظفت التوازي ثانية لموقف مشابه، حين التقت البطلة صديقها في لقاء حاسم بشقته، لكنها مزجته في هذا الموضع بتقنية المنولوج الداخلي "...الحرب في الخارج، نحن في الداخل..." (الرواية ص 137).
    كما أسهم التوازي في إضاءة موقف بعض الشخصيات من الحرب. ففي الفصل الرابع يتوازي تصاعد وتيرة الحرب مع إصرار معلمة الباليه (المدام) وعنادها على تكوين فرقة للباليه على الرغم من الصعوبات البالغة التي تواجهها. في بإصرارها تدين تلك الحرب واغتيالها لعناصر الجمال في الواقع، وإشاعتها للقبح فيه.
    وحين تطول الحرب، ويمل الناس إيقاعها البطيء، تمل فرقة الباليه رقصاتها المكررة التي اجترتها هنا وهناك. (الرواية ص 112).
     وفي موقف أخر تصف الكاتبة صورة جندي بائس أسير، بدت على شاشة التلفزيون، وقد تمزق جسده بين سيارتين تشده كل منهما في اتجاه مخالف، ثم تنقلنا تواً إلى صورة صديقها سليم، وقد جلس في الزاوية البعيدة من بيته،وهو يبكي ويدخن بشراهة، بعد أن حطم نصف تماثيله، وحين اقتربت منه قال لها: "في الماضي كنت أعرف في حياتي شعورا ، يسمونه إشراقة الإبداع، أما الآن، فلا أجد غير دقائق انتعاش  قصيرة في صراع مع الزمن يشبه صحوة الموت. (الرواية ص 146).
     وحيناً آخر توظف التوازي لتفجير إحدى مفارقات روايتها. وذلك حين قدمت لنا بياناً عسكرياً يتحدث عن انتصارات هائلة للقوات المسلحة، لتجعل من هذا البيان خطاً موازياً لهزائم الأم وخسائرها: حيث فقدت الزوج، والحبيب ديفيد، والصحة، والأمل..فأسلوب التوازي هنا أسهم بقوة في تفجير المفارقات. فالقراءة الحقيقية الصحيحة للبيان العسكري إنما تتأتى من خلال الحدث الموازي له. (الرواية ص 140).
    لقد قمنا بانتقاء بعض مواضع هذا الأسلوب السردي، لاعتماد الكاتبة عليه كثيراً في النصف الثاني من روايتها، فقد جعلت من رسائل المدام، وما حفلت به من أخبار واقع الحياة المتردي في العراق، خطاً موازيا لتدهور صحة الأم في لندن، ولتفاقم مرضها. فكان الحرب والحصار سرطان يتغلغل كل بنى الوطن، ولن يتركه إلى جثة هامدة تماماً مثل جسد الأم المتهالك تحت وطأة مرض السرطان(22).

(2) الراوي:
ويسلمنا الحديث عن تقنيات السرد إلى الحديث عن موقع الراوي، ولا يعني ذلك تحديد راو بعينه، فهذه فرضية غير واردة في دراسة الرواية الحديثة، حيث لا يستأثر راو معين برواية قصة ما "فالقصة الواحدة قد تحتوى على أكثر من نوع من الراوة، كما أن الراوي قد يتلون في داخل القصة الواحدة، فيبدل ثوبه من حين إلى آخر، فيبدون سافراُ مرة، ويختفي مرة أخرى، ويتحدث بضمير المتكلم مرة وبضمير الغائب مرة أخرى، وليست هناك أية ضوابط تحتم على الراوي أن يتخذ طريقة واحدة أو نمطاً واحداً، فالاكتفاء بصيغة روائية واحدة، أو المزج بين صيغتين أو أكثر مكفولة لحرية الكاتب ولأسلوبه في العرض"(23).
    وعلى امتداد روايتها بدا المنظور الذاتي هو العنصر الأبرز، مع الأخذ في الاعتبار أنه في نصف الرواية الأول كان العنصر السائد، نظراً لتضاؤل المسافة بين الراوي والشخصيات، وبخاصة شخصية البطلة المحورية للراوية، لذا استأثر ضمير المتكلم بهذا الجزء، وغدت الرواية، كأنها ضرب من السيرة الذاتية، حيث يصبح الراوي واحداً من الشخصيات، يمتزج موقعه بمواقعها، ويصبح الزمان الذي يتحدث فيه هو عينة زمانها الذي تتحرك خلاله  "وفي الوقت الذي يتولى فيه الراوي فعل القص فإنه يشارك الشخصيات في صناعة الأحداث ويتزاحم معها في صراعها مع الزمان، أو يشهد هذا الصراع ويراه بعينه"(24).

    والراوي المشارك غالباً ما يروي الأحداث بضمير المتكلم، مما يكسب الرواية الثقة، والحرارة، والمصداقية، وروح الذاتية. وقد ينعكس ذلك على وصف الراوي لبعض المشاهد، فيأتي الوصف مشحوناً بالموقف النفسي المأزوم، ومحملاً بدلالات رمزية مهمة. ولنأخذ مثلاً وصفها للطفل الذي رأته في الكافتيريا بعد أن قررت إجهاض نفسها والتخلص من الجنين الذي يربطها بصديقها "آرنو"، حيث تقول: "حدث كل شيء بسرعة ونظام. انتظرت لمدة ساعة في الكافتيريا. أرقب طفلاً يلهو بقدح شراب فاتح يغمس فيه البسكوت. تتكسر البسكوتات في يده، تغوص على شكل كتل عجينية إلى القعر. استمتع بالتجربة. راح يرمي المزيد منها حتى أفرغ العلبة. تهيأ لي البسكوت جنيناً في كحول حافظ. ثمة يد لرجل خمسيني تستقر على المائدة قرب الطفل. أعرف هذه التجاعيد جيداً. رفعت بصري نحوه، فإذا به برمشة عيني، قد أدار لي ظهره في طريقة مغادراً الغرفة. كانت تلك يد أبي". (الرواية ص 13).
    وفي هذه اللغة السردية المعتمدة على استخدام ضمير المتكلم (أنا)، فإن الكاتبة تسعى إلى إبراز الذات الساردة للراوي، وتحويلها إلى محور لعالمها الروائي "وهذا الإجراء يجعل العالم المروي عالماً نسبياً ذاتياً منظوراً من جانب واحد فردي، بل يعمل على جعله ذا طابع رومانسي" (25) كما يجعل المتلقي لتجربتها يتعلق بها أكثر " متوهماً أن المؤلف، فعلاً، هو إحدى الشخصيات التي تنهض عليها الرواية" (26).
    واصطناع ضمير المتكلم شكل سردى متطور، نشأ مواكباً لازدهار أدب السيرة الذاتي، كما نشأ عن ازدهار حركة التحليل النفسي التي كان تأثيرها عميقاً في الفكر والفن في الغرب، لذا عد اصطناعه في الفن الروائي ضرباً من المناجاة، لما له من قدرة على التوغل في أعماق النفس البشرية (27).
    وكثيراً ما يتجاور ضميرا المتكلم والمخاطب في لغتها السردية، وبخاصة في الجزء الأول من روايتها، حيث جعلت من أبيها مخاطبا، أو قل شاهداًً وشريكاً، "بيتنا، أو ما يطلق عليه أصحابك في العمل بيت الخبير، غرف تتداخل فيها أصوات. صوتك العميق الذي يشبه بشرتك الداكنة-وقد سألك أحدهم في إحدى المناسبات إن كنت قد استعرتها من سوق العنود-يشتبك مع صوت أمي عندما تنفعل... " (الرواية ص 20).
    ويذهب منظرو الرواية الفرنسية إلى أن ضمير المخاطب الأحدث نشأة في الكتابات السردية المعاصرة، وأن الروائي الفرنسي ميشال بيطور أشهر من استعمله في روايته "العدول" (28). لكن الحقيقة أن ضمير المخاطب ليس جديداً في تاريخ السرد الإنساني، فقد اصطنعه الراوي في ألف ليلة وليلة مثلاً، إنما المعاصرون هم الذين حاولوا إعطاءه وضعاً جدياً، مستغلين حميميته السردية، باعتباره ترجمة لضمير "الأنا" من جنس لغته" أو كأنه هو الماثل والحاضر والشاخص، ولكن بواسطة معادل لغوي آخر، وكأن المسألة لا تعدو كونها لعبة سردية ذات مضمون واحد مهما تعددت أشكالها" (29).
    والملاحظة أن ضمير الغائب كان الأقل حضوراً. ولعل طبيعة التجربة كانت تستدعي ذلك، باعتبار ضمير الغائب يجيل إلى الخارج باستمرار، وهذه الرواية كانت بحاجة إلى شكل سردي ينحو إلى الداخل، فاصطنعت ضمير المتكلم وصنوه ضمير الغائب.
    ولا يعني وجود الراوي الظاهر تقليديه الرواية، نظراً لسيطرة هذا النوع من الرواة وانتشاره في الأدب العربي القديم، والأدب الشعبي، فالراوي الظاهر المسيطر لم يمت في القصة العربية في العصر الحاضر.
    والملاحظة أن الكاتبة قد أفسحت كثيراً للراوي الخفي الجزء الثاني من راويتها، ليحل محل الراوي الظاهر، وذلك من خلال الأناشيد، والتقارير والبيانات العسكرية وتشرات الأخبار، والرسائل، بالإضافة إلى اتساع مساحة الحوار الخارجي، وتعدد مشاهد تيار الوعي..وكان لوجود هذا الراوي أثره الواضح-كما سنرى-على لغة الرواية.
ولعل "بتول" قد وفقت في ذلك أيما توفيق، بعد أن انتقلت بطلة روايتها من مرحلة الطفولة الساذجة في الجزء الأول منها، إلى مرحلة الإدراك والوعي فيما تلا ذلك،حيث أرادت أن تعبر عن إنسان العصر المأزوم المحبط "الذي اكتشف أخيراً أنه مجرد ترس في آلة ضخمة يعجز عن فهم أسرارها، وهي تسوقه دون رغبة منه إلى نهاية محتومة لا يمكن الفكاك منها، هي الموت" (30) وربما كان ذلك وراء حصار الموت بكل أشكاله وألوانه لأبطال روايتها، الذين عجزوا عن السيطرة غلى الأحدث، وغدوا ريشة في مهب الريح، وأصبح وعيهم مجرد وعاء لأحداث مهمة. كما كان وراء تخلصها من بطئ الإيقاع اللغوي الملحوظ في النصف الأول من راويتها، وذلك باستخدام لغة أسرع إيقاعاً. كما أسعفها أيضاًً في التخلي-على نحو واضح- عن ذاتها البارزة، وما أسبغته من نسبية ذاتية على عناصر عالمها المروي، لتصبح أكثر موضوعية وواقعية.
وفي إطار سعيها إلى تعدد الأصوات في روايتها، يطل علينا بينا الحين والآخر الراوي العليم بكل شيء، وما يتميز به من قدرة فائقة على استبطان الشخصيات والغوص في دخائلها وأسرارها الدفينة،  مما يجعل الأسلوب المصاحب له أسلوباً تحليلياً، يهتم بالبواطن أكثر من اهتمامه بالظواهر، وهي تميل إلى أن يكون الراوي العليم بكل شيء سلبياً محايداً موضوعياً، يكتفي بنقل العالم القصصي دون أن يتدخل بالنقد أو التقويم، فهو مجرد كاشف عن الحقيقة التي يعرفها فحسب (31).
ويبدو جلياً في مجموعة كبيرة من التقارير والبيانات العسكرية، بدءاً من الفصل الرابع وحتى نهاية الرواية، ومثل ذلك تلك الرسائل التي تلقتها من صديقتها (معلمة الباليه) على امتداد الفصول الأربعة الأخيرة. ويمكن تلمس ذلك في وصفها الحسي لبعض الأمكنة(32)، ولهيئات بعض الشخصيات(33). ولنستمع إليها وهي تصف شارع "همر سميث" في لندن حيث أقامت فور وصولها مع أمها المريضة إلى هناك، فهي تقول: "ألقيت نظرة عمودية. أرقب المارة، تلمع قبعاتهم البلاستيكية ومعاطفهم الشمعية، ينتقلون بين أشجار تيبست كأنها مكانس أوروبية غرست بالمقلوب، موزعة بانتظام على الرصيف. أغصانها مثل أيد تخشبت أصابعها إلى أعلى، ففر المطر المنهمر من بين العيدان، تصده حدبات المظلات الفسفورية الملون. بائعة الورد تدخل نباتاتها إلى المحل. إحدى اللافتات تعلن عن افتتاح مدرسة تعليم قيادة السيارة للرهبان والراهبات..إعلانات أخرى: الإيدز أسبابه ومخاطره. كيف تسوق متحف الشمع؟ هل تشعر بالوحدة؟ ما رأيك برفيق يختاره لك الكمبيوتر؟ كيف تتخلصين من حملك بدون ألم" (الرواية ص 152).
وحين نتأمل هذا الوصف نلاحظ أن الراوي العليم المحايد لا ينقل الحدث أو الشيء نقلاً مطابقاً لوجوده المادة الملموس فحسب، بل ينقله من خلال ملامسته لنفوس الشخصيات المحيطة بالحدث أو الشيء الموصوف.
 (3) تداخل الأنواع الأدبية:
لم يعد التمييز بين الأنواع الأدبية ذا أهمية في كتابات معظم الكتاب المعاصرين، فالحدود بينها تعبر باستمرار، والأنواع تخلط أو تمزج، فالأنواع "لم يعد لها ثباتها القديم، وأصبح كل نص جديد كأنه نوع في ذاته، ولم يعد من السهل أن تجمع مجموعة من النصوص لتقوم إنها تنتمي إلى نوع أدبي واحد" (34).
وهذه القضية ما زالت مثار جدل، فالتفكيكيون يعملون على هدم مفهوم "النوع الأدبي"، ويرون عدم تحديد النوع بالطريقة نفسها التي يبررون بها عدم تحديد الدلالة عموماً. ويعمل نقاد ما بعد الحداثة على محاولة العمل بلا نظرية للنوعين مستخدمين مصطلحات مثل "النص" و "الكتابة"، عامدين إلى تجنب التصنيفات النوعية. ونجد من يذهب إلى القول بأن "كل نص يستند إلى جملة خصائص تسمح (بتنويعه)، وإدراجه ضمن نوع أدبي عام، مهما بلغت درجة انتهاكه للقواعد الأولية لذلك النوع" (35).
لكن الرأي الراجح الآن أن الأنواع الأدبية فصائل مفتوحة. وهي ذات مفاهيم مرنة متطورة، بمعنى "أنها تتطور من عصر إلى عصر، ومن فترة إلى فترة، ومن مدرسة إلى مدرسة، ومن كاتب إلى كاتب. فكل عمل جديد-خاصة إذا كان عملاً أصيلاً- يضيف إلى النوع "(36). ويعنى هذا استبعاد فكرة نقاء النوع الأدبي، في ظل تميع الحدود أو مرونتها، وفي إطار العلاقات المتبادلة بين النوع الأدبي والفنون المجاورة أو غير المجاورة له.
    ففي هذه الرواية، نلاحظ كيف تداخلت مع السيرة الذاتية، وكيف تأثرت بفن الشعر، وأنها استعارت شيئاً من الفن التشكيلي، وأخذت بعضاً من فن المونتاج السينمائي.
    ولعل السؤال الذي يطرح نفسه على قراء هذه الرواية هو: هل هذه رواية أم سيرة ذاتية؟ لقد لاحظنا كيف شكل السرد بضمير المتكلم فيها ظاهرة أسلوبية مهيمنة، وهذه علاقة متبادلة بين السيرة والرواية. هذا بالإضافة إلى أن كل الروايات تقرأ كما لو كانت سيراً ذاتية(37). كما أن الفن الروائي العربي عرف عدداً من الأعمال التي يمكن أن نطلق عليها "رواية السيرة الذاتية"، مثل: طه حسين (أديب)، وتوفيق الحكيم (عصفور من الشرق)، ويحيى حقي (قنديل أم هاشم) ومحمد شكري في ثنائيته (الخبز الحافي وزمن الأخطاء)، وجمال الغيطاني (كتاب التجليات)، ومحمد العروسي المطوي (رجع الصوت)، والطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، وعبدالله الطوخي (سنين الحب والسجن)، وحنا مينا في ثلاثيته (بقايا صور، والمستنقع، والقطاف)، وبهاء طاهر (الحب في المنفى). ويمكن أن تندرج رواية بتول مع مجموعة الروايات تلك، التي سعت إلى تقديم شكل سردي حديث، تتقاطع الرواية فيه مع السيرة الذاتية، بهدف انتهاك الحدود، وكسر الحواجز بين الأجناس الأدبية. وروايتها تدخل في باب "رواية التكوين"، وهي أول نقاط التماس مع "رواية السيرة الذاتية". ورواية التكوين "تصور التحولات العاطفية والنفسية والفكرية التي تنتهي بنضج بطل شاب تصقله تقلبات الحياة أو تصلب عوده. ويمكن أن ينتسب هذا البطل انتساباً مباشراً أو شبه مباشر إلى الكاتب نفسه، أو يصوره في المرحلة التكوينية الأولى من حياته، مثلما ينتسب "فرتر" إلى جوته الشاعر،.. أو يدل البطل "ستيفن" في صورة الفنان شاباً "على جيمس جويس"(38).
     وإذا كانت السيرة الذاتية معنية بوصف الحياة الخاصة للشخصية، والرواية تحتفي بوصف العالم الخارجي، فنلاحظ أن روايتها، وبخاصة في نصفها الأول، هي وصف للحياة الخاصة لشخصية السارد = المؤلف، وقد جاء هذا الوصف عن طريق الاسترجاع الذي يعد قوام السيرة الذاتية. وكانت هذه العناية بحياة الشخصية المحورية تفسح-قليلاً-لوصف العامل الخارجين الذي سيتسع على نحو واضح في النصف الثاني من الرواية.
    فقد صورت في النصف الأول حياة الفلاحين وطيبتهم، وبؤسهم، وتخلفهم. أما النصف الثاني فقد اقترب من كونه وثيقة تصور الواقع الاجتماعي والنفسي للعراقيين في ظل حربي الخليج، وهو واقع  إلى الموت أقرب منه إلى الحياة. وربما كان هذا وراء استعارة"بتول" لآليات السيرة الذاتية وعوالمها، لأن السيرة بما أنها "رغبة في الانتصار على الموت، هي يقين، ذلك أنها تعتقد أن حياة الإنسان يمكن أن تروي، أو يمكن أن تترجم إلى ألفاظ، وأن اللغة قادرة على خلق الحياة من جديد"(39). كما أن السيرة الذاتية لا تنتهي بموت الشخصية، بل تظل مفتوحة، ولعل هذا ما دفع "بتول" إلى التداخل والتقاطع بين فن الرواية وفن السيرة الذاتية، رغبة منها في تجاوز حصار الموت لأبطال روايتها، ويبدو هذا جلياً من خلال خيط الضوء الذي ينسل وسط حلكة الواقع، ممثلاً في استمرارية حياة السادر (البطلة) وانتظارها للباص رقم 27، كما جاء في الجملة الأخيرة من الرواية.
    وربما كان دافعها للجنوح إلى السيرة الذاتية في روايتها هو رغبتها في العودة  إلى الجذور من خلال اشتداد البعد المكان، الذي قد يثير مخاوف انقطاع المرجعية التي يستند إليها الكيان الإنساني في تماسكه واستمرار وجوده. ومن المعروف أنها قد كتبت روايتها بعيداً عن وطنها، وهي ترى من حولها الكثير من أبناء شعبها وقد تقطعت بهم السبل، واستحال على الكثير منهم العودة إلى الوطن، فجاءت روايتها تعبيراً عن غربتها بخاصة، وغربة الإنسان بعامة في وطنها واستلابه وانسحاقه...وقد لاحظ بعض الباحثين(40) أن تشابك رواية (الغربة) بالسيرة الذاتية وتقاطعها معها يمثل ظاهرة في تاريخ الأدب العربي الحديث.
    لم تكتف "بتول" بالاعتماد على بلاغة القصة الخاصة، كما يفعل بعض الروائيين، ممن يسوقون حكاياتهم بغلة بسيطة، تخلو من اللمسات البلاغية الرفيعة والأنيقة. بل يلاحظ قارئ روايتها مدى قدرتها على امتلاك لغة جميلة وسليمة، تلامس شواطئ الشعر، وتستعير منه تلك الصور الخيالية الجميلة، في لغة تميل إلى الاكتناز والامتلاء، وتستغني-أحياناً-عن الروابط، لكن دون إسراف في هذا المنحنى، ودون أن تكون ترفاً يأتي على حساب تطور الحدث وحركة الشخصية. ولنأخذ مثلاً تلك الصورة الوصفية لها، حيث تعاقبت وصديقة طفولتها "خدوجة" ركوب الأرجوحة " جاء دوري. ركلت الهواء بقدمي..ارتفعنا إلى أعلى..ركلت أقوى..ارتفعت أعلى..سبحت في فضاء...أطرتني زرقة حليبية...كل النخيل تحت قدمي الحافيتين...الشمس تسبح في مياه النهر..أفرد أصابع قدمي...تنفذ أقلام ضوء من بين الفراغات الأربع...وبالقدم الأخرى أركل أقوى...أرتفع...استنشقت خط الأفق..وعندها...كم بدت السماء قريبة‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! " (الرواية ص 17).
    فبالإضافة إلى ما أومأنا إليه من شعرية لغتها، فهي تدهشنا في هذه الفقرة بما توفر فيها من إيقاع يدعم شعرية اللغة، وقد نهض به قصر جملها وتعادلها، وتكرار بعض ألفاظها على نحو لافت، وهذا النسيج الصوتي المتميز، وبخاصة تلك الحروف الهامسة مثل: الفاء، والعين، والسين، والحاء، والشين. ولعل الراء-هذا الحرف القوي-قد جسد بطبيعته وحضوره وتكراره حركة الأرجوحة، وحركة المشاعر الموارة في أعماقها. ويذكرنا هذا بقول الناقد جورج ديهامل: "إن موسيقى الأسلوب شرط لازم لسيطرته على النفوس. نعم إن الروائي الحق هو الذي يعرف قبل كل شيء بعض أسرار الحياة، لكنه أيضاً رجل-يلجأ في التعبير عما يعلم إلى موسيقى لفظية يستخدمها بطبيعته، فيتميز بها كإمارة خفية لخصائص نفسه "(41).
    وعلى هذا النحو يجمع أسلوب القصة-كما يرى الدكتور طه وادي-بين الفائدة القصصية، وبين القيمة الجمالية للعبارة القصصية سواء في السرد أو الحوار(42)
ويبدو أن الدعوة إلى العناية بلغة الرواية الحديثة عناية تقترب بها من جماليات اللغة الشعرية قد غدت اتجاهاً عاماً لدى الدارسين، حتى أننا نجد من يؤكد على ذلك بقوله: "إنا نطالب بتبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالية المستوى، ولكن ليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعراً وتفيهقاً.. (43) ولا يكتفي بذلك، بل نجده في موضع آخر يفصل طبيعة اللغة التي يعدعو إليها للرواية الحديثة، فيقول: "إذا لم تكن لغة الرواية شعرية، أنيقة، رشيقة، عبقة، مغردة، مختالة، مترهيئة، متزينة، متغجرة، لا يمكن إلا أن تكون لغة شاحبة، ذابلة، عليلة، كليلة، حسيرة، خلقة، بالية، فانية، وربما شعثاء غبراء"(44).
ليست رواية "بتول" من روايات تيار الوعي الخالصة لهذا النوع، لكن تيار الوعي، وتقنية المونولج الداخلي كانا ضمن وسائل السرد المعتمدة عندها، ولعل هذا كان سبباً في اقترابها من شواطئ الشعر بين الفينة والأخرى (45)، وملامستها لحدوده، واستعارتها لبعض ملامحه، لأن قصة تيار الوعي (كما يقول ليون إيدل) قريبة جداً من الشعر، وكتابها يتوسلون بالنثر في استقصائهم للفكر المنساب المتدفق، المتراقص، المعتم بالظلال-إلا أنهم ينتجون شعراً (46). فلم تكون "بتول"-إذن-تستعيد في تلك المواضع أحداثاً من حياتها مجردة من المشاعر والأحاسيس، وحين" يعيد الفن تركيب  عناصر الحياة تركيباً دقيقا، فإن جواً من الشعر يحيط بتلك الحقائق" (47).
    وتداخل الحدود بين الرواية والشعر ملمح عصري في الرواية الحديثة، أفرد له الباحثون دراسات مستقلة، وبخاصة عند كتاب رواية تيار الوعي(48).
    ولما كانت أعراف الرواية تتغير على ضوء المفاهيم المتغيرة للطبيعة الإنسانية والعلاقات الإنسانية، فإن الروائيين المختلفين في الفترات المختلفة عمدوا إلى أدوات وأساليب مختلفة للتعبير عن نظرتهم الجديدة. وهذه الأدوات والأساليب تؤول عند التحليل إلى مزيد من استغلال عامل الزمن وقيمه المتأصلة في الرواية، وكثيراً ما تنم عن شبه ملحوظ بتلك المستخدمة في الفنون الزمنية الأخرى كالموسيقى والأفلام السينمائية(49).
    وقد استعارت الكاتبة على امتداد روايتها بعض الأدوات المشتركة بين الأفلام والروايات. ففي حديثنا عن تقنية التداخل، تناولنا الاستدعاء من الذاكرة (Flash Back) ضمن مجموعة من ضروب التداخل، باعتباره جزءاً مهماً في الرواية الجديدة، يحقق لها تلك الحركة التماوجية في الزمن.
    وحين نتأمل لغتها نلاحظ تفاوت الإيقاع بين (الإسراع والإبطاء). ففي نصفها الأول شكلت روايتها من لغة تعتمد بناء جمل طويلة ذات زوائد شارحة ومفسرة. ولعل هذه اللغة ذات الإيقاع البطيء كانت أكثر اتساقاً مع تلك المرحلة العمرية للبطلة/المؤلفة، وذلك قبل أن ينمو وعيها وينضج، وتصبح أكثر تفاعلاً مع حركة الواقع من حولها، مما دفعها في النصف الثاني من الرواية إلى اعتماد لغة ذات إيقاع أسرع، متخذة من الجمل القصيرة، المتوترة، المستغنية عن الروابط والزوائد الشارحة سبيلاً لذلك. ولنتأمل مثلاً قولها:"عندما شعرت عمة زكية أن بقائي عندهم قد طال همت بإعادتي إلى أهلي. كم أحب هذه اللحظات التي ترفعني فيها عمة خدوجة عن الأرض بحركة رشيقة سريعة فتجلسني على كتفها..أشعر كأنني قدرو اللبن الرائب العالية التي تصفها الواحدة فوق الأخرى.. "(الرواية ص 41) لنرى مصداقاً لذلك الإيقاع البطيء، الذي يأتي نقيضاً لإيقاعها اللغوي منذ نهاية الفصل الرابع، الذي ختمته بقولها: "طقوس الدفن، قبضة يدي" (الرواية ص 116) وهو إيقاع يأتي متناغماً مع حركة نفسها القلقة، المضطربة، ومع واقعها بكل توتره، وتسارع أحداثه، وانقلاب معاييره تحت وطأة حربين متتاليتين، يشكل الحصار امتداداً وتواصلاً لثانيتهما. وقد كانت لغة رسائل (المدام) خير مثال لتلك اللغة المتسارعة اللاهثة.
    وبالإضافة إلى تلك الأدوات السينمائية، استعارت الكاتبة أداة تقريب الصورة (close up) وقد استعانت بها في تصوير عدد من المشاهد الحسية، (الرواية ص 39، 96، 152، 154)، أو تصوير بعض الشخصيات الثانوية، (الرواية: ص119، 159). فتصويرها-مثلاً-لمشهد خيانة الأم في المستودع، الذي شهدته من فتحة صغيرة ضيقة، يذكرنا بتلك اللقطات السينمائية التي تأتي من خلال ثقب الباب "اقتربت من الفتحة. أرمي نظرات تمسح زوايا المخزن. هذا العمود الجانبي اللعين يحجب نصف الرؤيا، فلا أرى غير الجدار الداخلي العريض أمامي. تتوتر عيناي إلى اليمين واليسار، أحاول أو ألعق ببصري مصدر الكركرات...ببطء، ارتفع أمامي على الجدار ظل بكتفين عريضتين، يحتوي ظلاً بشعر ملفوف للأعلى على هيئة كعكة، أين ميلي؟ الظلال تتقاطع. الكعكة تتدحرج. الشعر يتهدل. يزداد الاحتواء. الكرسي يضطرب. يتشاركانه، الفتحة الرطبة تضيف على مقلتي...الكرسي المكسور يهتز، يهتز، يهتز... " (الرواية ص 52).
    أما فن (المونتاج) فقد استعارته في مواضع قليلة، (الرواية: ص 137، 193) لتخليص نفسها من خجل التفاصيل حيناً، وحيناً آخر لتعبر عن الزمن النفسي للحدث، وفي كلا الحالتين كانت تسعى إلى تكريس إيقاع روايتها المتسارع في نصفها الثاني. ومن ذلك وصفها لأول لقاء مع آرنو في بيته "ضحكنا، تاركين القهوة تبرد...قضينا ساعة ليس بالغريبة، لم تتخللها أية حوادث ولا أصوات غير مفهومة. ليلة تفاهمنا عبر طياتها كعاشقين قديمين، تزوج كل منهما على حدة، يلتقيان مرة في السنة، على ضوء شمعة.. " (الرواية ص 185).
    وفي إطار سعي الكاتبة إلى استثمار تقنية التماوج بالزمن، لاحظنا من قبل كيف لجأت إلى عملية التراسل على امتداد ثلاث صفحات بين الاستدعاء من الذاكرة والفن التشكيلي، (الرواية ص 120-122) فإذا كان التذكر يعود بنا من الحاضر إلى الماضي، فإن الفن التشكيلي يمضي بنا إلى زمن ممتد غائم. وعدا عن دور الفن التشكيلي في إضاءة أبعاد شخصية ثانوية مهمة في الرواية، تمثل نموذجاً للفنان المستلب، والمثقف المقهور، فقد نهض بدور مهم في تجسيد هموم الواقع، ومرارته، وقيمه المقلوبة "على طرف المنضدة البعيد مجموعة من منحوتات أصغر حجماً لحمار في بدلة سهرة، جرذ يضرب بالسوط، خنزيرة ترضع رجلاً، قطة تضاجع كلباً..يد ترفع شارة النصر  ، أخرى تنزف، الثالثة تتوسل. يد تتضرع. يد على شكل قبضة غامضة. يد تفكر، أخرى تلعب، يد تعبت من الانتظار".
    كما وظفت فن الباليه من خلال عملية التوازي التي أشرنا إليها من قبل واستطاعت أن تخلق حالة من التراسل بين الحفل الذي أعدت له معلمة الباليه، وبين ما يحدث في الخارج في ظل حرب الخليج الثانية "يبدأ السيناريو بفريقين يفصل بينهما نهر. الفريق الأول يعيش تحت شمس مذهبة هادئة، لا يأبه بفريق بدأ يدب في المرض لاختفاء شمسه تحت غيمة كثيفة في شكل فطر عملاق شغل نصف خلفية المسرح. أبت الغيمة أن ترحل، فقرر أهلها أن يهاجروا طلباً للدفء في بلد بعيدة.. "(الراية ص 147) ونجحت على امتداد صفحتين-أن تجعل من "فن الباليه" جزءاًً من نسيج عملها الروائي.
    وقد بدا واضحاً الآن كيف قدمت "بتول" نصاً عصرياً مرنا، مفتوحاً، تسمح حدوده المتميعة بتبادل العلاقات مع الفنون المجاورة أو غير المجاورة له، حتى غدا نصاً متميزاً جديدا، كأنه نوع في ذاته. "ولعل تهاوي الحواجز الفاصلة بين أنواع الفنون على هذا النمو يشير إلى رغبة في التوصل إلى تعبير شامل عن القيم
العامة"(50).

(4) الشخصيات:
    يلاحظ في رواية السيرة الذاتية وجود بطل محوري، يمثل بؤرة التجربة، وما عدا ذلك من شخصيات أخرى، فهي تدور في فلطها، وتنهض بمهمة إلقاء مزيد من الضوء على جوانبها المتعددة.
    فالراوي/البطل/المؤلف في رواية " بتول" هو الشخصية التي تمحورت تجربتها حولها، تلك الفتاة الوحيدة لب عراقي وأم إنجليزية، التي عانت كثيراً من صراع ثقافتين مختلفتين، يحاول كل منهما-عبثاً-نفي الآخر.
    ولا يعني هذا بالضرورة مطابقة شخصية البطلة للكاتبة " فالشخصية الطبيعية عند دخولها في الرواية تتخذ وظيفة جديدة، وتدل على معنى جديد، وتكون جزءاً من لوحة كبيرة، حتى أننا في النهاية ننسى الأصل، ولا يبقى إلا الشخص الخيال باعتباره الخادم لفكرتنا ولإحساسنا "(51).
    وقد حاولت "بتول" تقديم شخصية روائية تتجاوز السائد في الرواية التقليدية، التي تتعامل مع الشخصية على أنها كائن حي لها وجود طبيعي، وسعت-على طريقة الروائيين الجدد-إلى الابتعاد عن وصف ملامح الشخصية، فاكتفت-على مستوى البعد المادي للشخصية-بوصفها بالسمرة والنحافة، ولم تخلع عليها اسماً، كما فعلت الشيء ذاته مع أبيها وأمها، ومع معلمة الباليه، ولم تسم إلا الأبطال الثانويين الأقل أهمية، مثل (ديفيد، وميلي، وآرنو، وجفري). هذا إذا استثنينا شخصيتين ثانويتين مهمتين (خدوجة وسليم) اللتين كانتا على جانب كبير من الأهمية في الكشف عن جوانب الشخصية المحورية.
    ولكن " بتول" لم تنجح في الحد من غلواء شخصيتها المحورية، وإغفال بعديها: الاجتماعي والنفسي. ويبدون أنها لم تسع جادة إلى الإعلان عن موت شخصيتها، كما فعل الروائيون الجدد في ربع القرن الثاني من هذا القرن، وغدا ملمحاً واضحاً للرواية الجديدة، حتى أن بعضهم قد اكتفى بإطلاق رقم على بطلة، أو تسميته بحرف من الحروف، كما فعل "كافكا"(52).
     وشخصية البطلة شخصية نامية مدورة، تكشفت بالتدريج، وتطورت متفاعلة مع الأحداث والشخصيات من حولها، متأثرة ومؤثرة، وتغيرت من موقف إلى آخر، سواء انتهى تفاعلها بالغلبة أو الإخفاق(53). وعن طريق هذه الشخصية النامية، التي تمثل رؤية الكاتب، يمكن تملس مواقف الكاتب، وعلاقتها بالحياة من حولها، ومدى تفاعلها مع القضايا الحيوية في راهنها. ويمكن القول بأن "بتول" استطاعت أن تقدم من خلالها شخصية نموذجية، تمثل جيل الحرب في العراق، الذي تفتح وعيه على حربين متتاليتين، وحصار مازال مستمراً، كما استطاعت أن تختزل صورة المثقف المستلب والمقموع...فقدمت العام من خلال الخاص. والشخصية النموذجية "تمثل المطلب الأسمى في الإنجاز الفني، والوصول إليها يتطلب قدرة فنية متطورة...إنها الطموح والحالة الأرقى فنياً، التي تمتلك القدرة على التعميم، وإعطاء صورة موضوعية مطروحة بصيغة فنية عن الحركة الاجتماعية في ظرفها التاريخي الذي تعيشه"(54).
     أما سائر شخصياتها فأكثرها شخصيات مسطحة، مثل (خدوجة، وديفيد، وميلي، وآرنو، وجفري). وأقلها شخصيات نامية، مثل (الأب، والأم، والفنان سليم، ومعلمة الباليه). وقد حظيت هذه الشخصيات باهتمام الكاتبة، وكان لها حضورها المميز، وأهميتها في حياة البطلة المحورية. وإضاءة أبعاد شخصيتها، وربما تجاوزت هذا الدور المنوط بالشخصيات الثانوية، لتصبح شخصيات نموذجية لها القدرة على التعميم، وتمثيل فئة بعينها.
    لقد لجأت "بتول" إلى أكثر من أسلوب في رسم شخصياتها، فنجها حيناً تلجأ إلى الأسلوب التمثيلي، وحيناًُ آخر تستخدم الأسلوب التحليلي.
    والملاحظ أنها قد اعتمدت الأسلوب التمثيلي في رسم شخصية بطلها المحوري، كما استخدمته في رسم بعض الشخصيات الثانوية المهمة، مثل: الأب، والأم، والفنان التشكيلي سليم، ومعلمة الباليه.
     وفي هذا الأسلوب ينحي الكاتب نفسه جانباً ليتيح للشخصية أن تعبر عن نفسها، وتكشف جوهرها بأحاديثها وتصرفاتها الخاصة(55)، بحيث لا ينفصم التلازم بين الشخصية والحدث، فيتضمن كل تطور في الحدث تغييراً في الشخصية ويتبع كل نمو في الشخصية تغير في الحدث، وتنام في الصراع(56).
ويحلو لبعض الدارسين تناول هذه الطريقة في رسم الشخصية في أسلوبين، هما: الأسلوب التصويري المعتمد على تقنية الحدث والحوار، والأسولب الاستيطاني المعتمد على تقنية الحوار الداخلي، والتذكر، والأحلام(57).
     ويرى الدكتور محمد يوسف نجم أن روايات السيرة الذاتية التي تستخدم ضمير المتكلم، أو الوثائق، أو تيار الوعي، لا يستطيع كاتبها أن يدس أنفه، بل يترك للشخصية أن تنضو الحجب عن جورها بواسطة البوح، والاعتراف، وتداعي الأفكار، والمراجعة الداخلية(58). وهذا ما لجأت إليه بتول في تصوير تلك الشخصيات التي أشرنا إليها.
     والملاحظ أن هذه الطريقة تركز على عالم الشخصية النفسي، وذلك من خلال اعتمادها على تقنيات خاصة تعد ضرورية لإضاءة عوالم الشخصية النفسية، والتي يستطيع بها القارئ أن ينتقل من الأحداث الخارجية التي تثير النشاط الذهني للوقوف على حركة الفكر والشعور. ويعد هذا الصنيع الذي ينحو إلى (جوانية أوسع) ملمحاً عصرياً مشتركاً في فن الرواية (59).
     أما الأسلوب التحليلي (التقريري) الذي يعنى برسم الشخصية من الخارج، يشرح عواطفها، وبواعثها، وأفكارها، وأحاسيسها، ويعقب على بعض تصرفاتها، ويفسر بعضها الآخر، فتبدو الشخصية جامدة، ثابتة، باهتة الملامح(60)- فقد لجأت إليه في رسم بعض شخصياتها الثانوية، مثل: ديفيد، وميلي، وآرنو، وجفري. أما شخصية الفنان سليم فقد لجأت في رسمها إلى الأسلوبين معاً. فقد بدأت بوصف تقريري للشخصية بقولها "فتح لنا الباب وجه عريض، ينبع منه أنف إغريقي. يتدلى من تحت منخريه الضيفين شاربان مائلان إلى شقرة تلائم لون العينين اللذين اختفيا تحت جفنين ثقيلين، عندما ابتسم مرحباً... " (الرواية ص 119). ثم تركت الشخصية تتكشف من الداخل بالتدريج من خلال الأحداث، وعلاقتها بالشخصية المحورية، ثم من خلال الرسائل التي بعثت بها إليها، فانتهت إلى رسم شخصية حية، دينامية، نامية، تتطور مع أحداث الرؤية.

الرؤية:
تطرح رواية "كم بدت السماء قريبة" مجموعة من قضايا الواقع وهمومه، وهذا شأن الرواية، وبخاصة الروايات ذات المنحنى الواقعي التي تتميز بشمولية رؤيتها في التعبير عن الواقع. والرواية بعامة تتشكل من قماشة واسعة، تسمح لكاتبها بتحريك أبطالها عبر زمان ومكان يتأبيان في الرواية الجديدة على الضيق والتحدد، لما تتمتع به من تقنيات حديثة، تعمل على تثوير الزمان والمكان، ويتم هذا التحريك عبر شبكة معقدة من العلاقات في الواقع.
     ولعل أسمى ما يطمح إليه الكاتب الروائي فنيا، هو أن ينجح في تقديم الشخصية النموذجية القادرة على التعميم، وإعطاء صورة موضوعية بصيغة فنية. وأظن ذلك قد تحقق لبتول الخضيري إلى حد كبير من خلال مجموعة من الشخصيات ترمز كل منها إلى فكرة أو منزع، فبطلة الرواية تجسد صورة الجيل الجديد الممزق بين ثقافتين، ولا يعرف لمن يكون ولاؤه، أيكون لهذا الأب الذي تعلم في لندن، وتزوج من امرأة إنجليزية، وظل وفياً لهويته الشرقية العربية: لغة، وعادة، وسلوكاً، ومزاجاً..؟ أم يكون ولاؤه لتلك الأم الإنجليزية التي مثلت ثقافة غربية مغايرة؟ ولنا أن نتساءل هنا: هل أرادت بتول أن ترمز بشخصية الأب إلى تراثنا وجذورنا، وهويتنا الأصلية في مقابل شخصية الأم، التي تمثل ثقافة (الضد)، أي ثقافة الغرب الحديثة؟
     فالدراسة لا تستبعد ذلك، بل تميل إليه، ولا سيما أن الشخصيتين اللتين رسمتهما تحتملان ذلك، فقد برعت في تقديمهما من خلال المقابلات والتوازيات التي شغلت أكثر من نصف الرواية، وأتقنت بذلك تصوير الصراع الثقافي الذي عاني منه مجتمعنا العربي. وخلال ذلك نتأمل موقف البطلة/الجيل الجديد، التي ظلت فترة من الزمن تقدر موقفها، ثم نراها وقد انحازت إلى شخصية الأب، الذي غدا أقرب إليها من أمها وأحب، وبدأ موقفها يتكرس بعد أن تكشفت لها حقيقة مشاعر أمها، التي لا تكن حباً لأبيها، ولا تتورع من خيانته، وإقامة علاقة مع صديقها "ديفيد" الذي يصر الأب على تسميته "داود". ولا تخفى الإيماءة الذكية لهذا الإصرار. وإمعاناً في استجلاء رؤيتها تلجأ إلا تقنية الحلم الكابوسي لتتصور "ميلي" أخت "ديفيد" وقد غدت زوجة أبيها.
     لعل هذا يتيح لنا لأن نتقدم خطوة أخرى لنقول: إن بتول ترى ملاذ الجيل الجديد يتمثل في تمسكه بتراثه، وهويته في مواجهة ثقافة زائفة، لا تعد بشيء سوى التشويه والضياع.
     وتثير دهشتنا وفاة الأب المبكرة المفاجئة، التي شكلت-ولا شك- حرماناُ للبطلة من ذلك الملاذ، وأدخلتها بعد ذلك في دوامة من الغربة الممضية، التي استحكمت حلقاتها من حولها بعد وفاة الأب/الملاذ، وأفضت بها إلى الارتباك، وفقدان التوازن، فها هي ذي تقيم علاقة محرمة مع الفنان سليم، وبعد ذلك تحمل سفاحاً من "آرنو، ثم تجهض حملها، وتتوه بعد ذلك في بحر من الغربة بلندن. كل ذلك وهي بصحبة تلك الأم التي عجزت عن الأخذ بيد ابنتها، وأنى لها ذلك وهي العليلة بالقلق قبل وفاة الأب، والمريضة بالسرطان بعد ذلك، والتي لم تستطع لندن بكل علمها وتقدمها من إنقاذ حياتها، والتخفيف من تدهورها الدراماتيكي  على نحو مخيف. فهل أرادت "بتول" القول بأنه هذه الثقافة/ثقافة الضد هشة، قلقة، مريضة، ومصيرها إلى زوال، ولا تعد بأكثر من الضياع؟ ربما أرادت ذلك، وليس لها أن تنكره أو تنفيه، طالما أن التجربة تحتمل ذلك دون أن نلوي عنقها ونقولها ما لم تقل.
     ولعل أهم القضايا الإنسانية التي عالجتها الرواية هي قضية الاغتراب، فكل أبطالها عانوا من مرارتها، وكانوا ضحايا لها. فالبطلة اغتربت وهي طفلة بين ثقافتين، تحاول كل منهما-عبثاً-نفي الأخرى، ثم تكرست غربتها وهي كبيرة بعد وفاة أبيها، وسفرها من ثم مع أمها المريضة إلى لندن، حيث استحكمت حلقات الغربة، فلندن بكل عملها ونظامها وتقدمها كانت تمثل ضياعاً تاماً لقاطنيها، الذين يتحركون في حرية متضخمة، لكن في غياب قيم الحياة النبيلة.
     كما عانى الأب من الغربة (طالباً) في لندن، ثم تضاعفت غربته (زوجاً) في بغداد، ولعله كان أقل الشخصيات غربة أو أقلها معاناة من حدتها. وذلك بعكس الأم التي عانت من غربتها في موطنها قبل الزواج. وحلمت بالخلاص من ذلك بالسفر إلى الشرق بعد الزواج، ولكن أحلامها تبخرت هناك، وعادت إلى موطنها، اكتشفت أنا ليست من هنا أو هناك!.
    ومثل الفنان سليم ومعلمة الباليه جمهور الفنانين المستلبين، والمثقفين المحبطين في المجتمع، ممن تكاد الغربة تقتلهم، وحقاً كان لها ذلك، إذ انهزم سليم، وعبر عن غربته من خلال أعماله، التي حطمها ذات ليلة، حين اشتدت وطأة غربته بفعل ظروف حربين متتاليتين، فقتلت روحه، ووأدت الفنان بداخله "فالمنحوتات تعبر عما يدون في الخارج، نعم، والخارج يقتل الداخل... "(الرواية : ص 122).
    أما معلمة الباليه، فلم تكن أقل معاناة منه، لكنها قبلت التحدي، وأصرت على تشكيل فرقة للباليه في ظروف صعبة ومذلة، واستطاعت أن تقدم عرضاً ناجحاً، كان تجسيداً لراهنها، وظلت بعده صامدة ترصد الواقع من خلال تلك الرسائل التي بعثت بها إلى صديقتها (البطلة) في لندن، معبرة بها عن وعيها بظروف راهنا، التي لم تحل دون زواجها. ولا يخفى ما للزواج من دلالة على الأمل في بدء حياة جديد، تنبثق وسط ذلك الدمار الشامل. فهل أرادت "بتول" إدانة سلبية (الذكورة) في مواجهة تحديات الواقع، وذلك في مقابل إيجابية المرأة؟ فنحن لا نستبعدها، بل لا نتردد في ترجيحه.
    ويبدو أن الكاتبة ترى الجيل الجديد على قدر كبير من الوعي، وأنه رافض لسلبيات واقعه، ويدينها ما استطاع، ويتمرد عليها ما أمكن، ولعل بطلة الرواية هي الأكثر تمثيلاً لهذه الروح، فكثيراً ما تمردت على تعليمات أبويها وهي صغيرة، وظلت تتطلع إلى الحرية على امتداد الرواية، وعبرت الكاتبة عن ذلك من خلال صلتها "بخدوجة" وعالمها السحري الذي كن يتيح لها هامشاً من الحرية، لا تظفر بشيء منه في بيتها، وهاذ يعلل لنا فجيعتها بوفاة خدوجة. كما أن نزوعها إلى الحرية يعد مفسراُ صالحا لحبها للنوم فوق سطح منزلهم، ولسعيها إلى الأماكن الواسعة في الزعفرانية، وبغداد، ولندن. ورسالة الفنان –كما يرى كامو-هي إشباع الحاجة إلى الحرية والكرامة، وعظمة الروائي هي بمقدار تمرده وجمعه بين الثورة والإبداع(61).
     وقد اتبعت "بتول" خلال ذلك الواقعية والتحليل النفسي لتلك الشخصيات وتطويرها، وتعميقها. ولم تكتف بتقديم واقع مؤلم قاتم، بل قدمت حالة فنية راقية، ورؤية فنية متقدمة.
    ولكن يؤخذ عليها سيطرتها-أحياناً-على بعض شخوصها، وإنطاقهم بلغتها وفكرها، ما يفقد الشخصية مصداقيتها وحيويتها، كما فعلت على لسان "فاروق" حين اعترض على طلب معلمة الباليه بأن تعمل الفرقة أكثر وأكثر، فقال: "نحن نبذل جهدنا طلباً لرضاك، ومحاولة لتفهم الدرب التي وضعونا عليها منذ الطفولة. وربما جنوا علينا بتعريضنا لعامل جعلنا نخشى ما يطلقون عليه الحياة العملية الطبيعية. فنحن لا نعرف غير الرقص، وهذه اللغة لا تجدي في الحرب. وربما كنا مخطئين بتمسكنا بما نسمينه بالحلم. ربما آن الأوان أن نفك الارتباط هذا إن كان سيدمر لنا أعصابنا على هذا النحو. على كل حال، الأمل يتضاءل بأن انتهاء الحرب قريباً. نحن على أبواب، تخرج، فلنكن أحكم من أن نطلب المستحيل'' (الرواية: ص 111).
    فهذا المستوى الفكري يتجاوز بكثير مستوى طالب في المرحلة الثانوية، ولكن موطن المؤاخذة هذه يطل استثناء في مقابل تقديرنا لتحرير شخصياتها الأخرى من سطوتها لتنمو وتتطور، وتعبر عن نفسها على مستوى الحوار والحدث.
    ليس هذا كل ما طرحته الرواية من هموم خلال شخوصها' '' فما يعطيه العمل الروائي لا يكمن بالضرورة في أحداثه الكبرى، وشخصياته الرئيسية.. فقد يكمن في بعض الزوايا الدقيقة، أو الإشارات الخافية'' (62) فقارئ روايتها لا يستطيع أن لا يتوقف ملياً أمام شخصية '' خدوجة'' وعالمها في الزعفرانية، فالغاية ليست مجرد رغبة في تحريك البطلة على مساحة مكانية واسعة، وطبيعة ريفية جميلة. ففي الرواية المتقنة لا يوجد حدث تافه. ولعل الكاتبة قد سعت إلى إدانة الواقع، الذي يهمش عالم الفلاحين، ولا يسعى إلى تطويرهم، بل يكرس تخلفهم. فإذا كان أولئك الفلاحون يعيشون على تخوم بغداد منسيين، فما بالنا من هم أبعد مكاناً من ذلك في قلب السواد العراقي.
    ولا تتورع الكاتبة من إدانة أبناء الطبقة البرجوازية، التي تنتمي إليها بطلة راويتها، وذلك من خلال عملية موازاة بين بيئتين عراقيتين تصور تجاور التناقض بين أسرتها وأسرة خدوجة المعدمة. فإذا كانت أسرتهما تنظر إلى عالم خدوجة نظرة تهوين لا تخلو من ازدراء، لأنها تملك المال، والعلم، ووسائل الحضارة الحديثة، فهذا لا يعني –من وجهة نظر الكاتبة- أنهل الأفضل. لن أسرة ''خدوجة'' تمثل بيئة عراقية أصيلة، تملك الحب، وتتمتع بعلاقات حميمة بين أفرادها، وتمتاز ببساطتها ونقائها.. وأفرادها متساندون، يأكلون معاً، ويعملون معاً، وبيوتهم تتساند أيضاً مشكلة وحدة بنائية واحدة، ولا يعرفون الكذب وزيف المشاعر، ولا يعرفون من أدوات الحضارة الحديثة شيئاً. علماً بأن بيت البطلة يخلو من الحب، ودفء العلاقات النبيلة.
    كما أدانت الكاتبة أيضاً إشعال الحروب بلا دوافع حقيقية جوهرية، ودون دراسة دقيقة لحساب المكاسب والخسائر، تضع آدمية الإنسان وروحه أول اعتباراتها. كما أن تلك العنجهية التي تخاض بها الحروب تليق بإنسان يخطو مسرعاً عتاب العقد الأخير صوب الألفية الثالثة. فقد بدا واضحاً من تلك التقارير، والبيانات العسكرية، ونشرات الأخبار الإذاعية والمتلفزة. التي حشدتها الكاتبة- مدى الزيف، وغياب الشفافية والمصداقية… ولا سيما أننا نرى- في خط مواز لتلك الانتصارات الإعلامية الوهمية- ضروباً من الهزائم والإحباطات للإنسان على كل المستويات، وحسبنا ما جاء في تلك الرسائل المتبادلة بين البطلة وحبيبها سليم، وبينها ومعلمة الباليه، ولا أدل على ذلك من قولها على لسان البطلة المحورية ''  كيف نبني وسط أشياء تخرب إنسان بعد آخر يسقط الأبنية وبيوت الأهالي تسقط. الزمن يسقط '' (الرواية ص 136).
    وقد لجأت الكاتبة إلى تقنيات التداخل، والتقاطع، والتوازي لتقديم تلك المادة الوثائقية المدهشة  عن الحرب، والتي كادت كثرتها تجور على حيوية السرد.
    والتجربة التي تقدمها مثل هذه الرواية- برغم خصوصيتها- تحمل بعض سمات إنسانية عامة، ما يؤهلها لأن تتجاوز حدودها الزمانية والمكانية إلى آفاق أرحب.
    وما يثلج الصدر أن هذه الرواية هي أول نتاج للكاتبة '' بتول الخضيري '' ويعني هذا مولد روائية عربية، تخطو على دروب الإبداع الروائي في ثقة وقوة. وهي على وعي بالكثير من آليات السرد الحديثة، وتقنيات الرواية العصرية.




هوامش الدراسة
1.
كم بدت السماء قريبة !!: بتول الخضيري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1999 م.
2.
تيسير سبول..خصوصية الرؤية وجماليات التشكيل: د.محمد الشنطي، المؤتمر الأول للحركة الأدبية في الأردن/ جامعة مؤتة/ عام 1993 (مخطوط)، ص 7.
3.
كم بدت السماء قريبة !!: ص 199-167
4.
نفسه: ص 163
5.
الزمن والرواية: أ.أ. مندولا، ترجمة بكر عباس، دار صادر بيروت، 1997، ص 58ز
6.
المرجع نفسه: ص 61
7.
القصة السيكولوجية: ليسون إيدل، ترجمة د. محمود السمرة، المكتبة الأهلية، بيروت 1959م، ص 115، 121، وانظر أيضاً: تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة: محمود غنايم، دار الجيل بيروت، ودار الهلال بالقاهرة، ط2، 1993م، ص 13.
8.
تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة، ص14
9.
انظر: الرواية: ص33، وانظر المواضع الأخرى: 62، 69، 71، 78، 86، 87، 109، 159
10.
انظر: القصة السيكولوجية: جـ 2، ص 304، 305.
11.
المرجع نفسه: 303
12.
انظر: تيار الوعي في الرواية الحديثة: روبرت همفري، ترجمة محمد الربيعي، دار المعارف، القاهرة، (د.ت)، ص 44، 45، وراجع: تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة: ص 14، 15. وانظر: القصة السيكولوجية: ج 1، ص116، 117.
13.
تيسير سبول.. خصوصية الرؤية وجماليات التشكيل: ص 12. وانظر أيضاً: دراسات في نقد الرواية: ص 36.
14.
فنون النثر العربي الحديث: د. شكري الماضي، منشورات جامعة القدس المفتوحة، ص1، 1996، ص 43.
15.
دراسات في نقد الرواية: د. طه وادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989م، ص46.
16.
الرواية: ص 165، 176، 185، 195.
17.
وردت هذه التقنيات في أكثر من خمسة عشر موضعاً: ص 93، 96، 103، 106، 107، 113، 126، 130، 133، 135، 136، 138، 140، 142، 157، 160.
18.
كانت محدودة، وردت في موضع واحد: ص91
19.
القصة تطوراً وتمرداً: يوسف الشاروني، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1995، ص 150
20.
المرجع نفسه: ص 151
21.
الزمن والرواية: ص 52
22.
الراوية: ص 168، 176، 186، 195
23.
الرواي والنص القصصي: د. عبد الرحيم الكردي، دار النشر للجامعات بالقاهرة، ط2، 1996م، ص 141
24.
المرجع نفسه: ص 120
25.
المرجع نفسه: ص 134
26.
في نظرية الرواية: د. عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1998م، ص 184
27.
انظر: المرجع نفسه: ص 185، 189
28.
انظر: المرجع نفسه: ص 191
29.
المرجع نفسه: ص 192
30.
الراوي: والنص القصصي: ص 87
31.
انظر: المرجع نفسه: ص 108، ص 109
32.
الرواية: ص 152، 154، 156، 158
33.
نفسه: ص 119، 175، 188
34.
تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 1960-1990: د. خيري دومة، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، 1998، ص 26 وما بعدها. وانظر: القصة القصيرة: آيان رايد، ترجمة د. منى مؤنس، الهيئة المصرية العامة بالكتب بالقاهرة 1990م، ص 79، وما بعدها.
35.
أصل الأجناس الأدبية: تزيفتان تودورف، مجلة الثفافة الأجنبية، بغداد، ربيع 1982م. والنص المنقول من مقدمة المقال للمترجم الدكتور محمد برادة، وهو متأثر في برأي صاحب المقال، الذي يذهب إلى ضرورة وجود النوع حتى يتم تجاوزه وانتهاكه. وهذا الرأي يتفق وما ذهب إليه ''فولر'' في كتابه الضخم '' أنواع الأدب''.

Alastair Fowler, Kinds of Literature: An introduction to the Theory of Geners and Modes, Oxford University Press, 1982, P: 278
36.
تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة، ص 33
37.
راجع: عالم القصة: برناردي فوتو، ترجمة د. محمد مصطفى هدارة، عالم الكتب بالقاهرة، 1969م، ص 38. وانظر زمن الرواية: د. جابر عصفور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م، ص 231
38.
زمن الرواية: ص 234
39.
السيرة الذاتية في الأدب العربية الحديث..حدود الجنس وإشكالاته: محمد الباردي، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، شتاء 1997م، ص 74.
40.
تداخلات النصوص والاسترسال الروائي..تقاطعات رواية السيرة الذاتية ورواية الاغتراب: د. أحمد درويش، مجلة فصول، ربيع 1998م، ص 35
41.
فن القصة: د. محمد يوسف نجم، دار الثفافة، بيروت (د،ت) ص 116
42.
دراسات في نقد الرواية: د. طه وادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 42
43
في نظرية الرواية: ص 126
44.
المرجع نفسه: ص 115
45.
الرواية: ص 24، 34، 59، 86، 96، 136، 137، 193
46.
انظر: القصة السيكولوجية: جـ 2، ص 275
47.
المرجع نفسه: ص 280

48.
انظر تفصيل ذلك في: دراسات في نقد الرواية ص 42، ونظريات معاصرة: د. جابر عصفور، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، 1998م، ص 250، وتداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة: ص 159، وما بعدها.
49.
الزمن والرواية: ص 65
50.
المرجع نفسه: ص 65
51.
فاروق شوشة: لقاء مع نجيب محفوظ، الآداب، حزيران، 1960مز
52.
انظر: في نظرية الرواية: ص 87-93
53.
راجع في مفهوم الشخصية النامية: فن القصة (مرجع سابق)ن ص 86
54.
النموذج وقضايا أخرى: عبد الله رضوان، منشورات رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، 1983م،
ص 47
55.
فن القصة: ص 98
65.
انظر: رسم الشخصية في روايات حنا مينة: فريا سماحة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999مم ، ص 34
75.
المرجع نفسه: ص 34 وما بعدها
85.
فن القصة: ص 99
95.
راجع: الزمن والرواية، ص 227 وما بعدها
60.
انظر: فن القصة: ص 98، وراجع: رسم الشخصية في روايات حنا مينة، ص 48
61.
فلسفة الفن في الفكر المعاصر: د. زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة (د.ت) ص 225
62.
قراءة الرواية: د. محمود الربيعي، مكتبة دار الزهراء بالقاهرة، 1985م، ص 13

المصدر : بتول الخضيرى


قراءة تحليلية في روايتها: كم بدت السماء قريبة ..

بتول الخضيري سمفونية الطفولة


صحيفة المثقف - قراءات نقدية - أحمد الحلي  :

  ربما لا يتوافر عمل روائي عراقي على مثل ما توافر عليه هذا العمل الأول لبتول الخضيري، والتي استطاعت أن تقدم لنا فيه الكثير من عناصر الجمال من ناحية الفن المعماري للرواية وتكتيكها الداخلي الذي يقرب من أسلوب حكايات وأساطير الأمم السالفة، وفي الوقت ذاته الذي لم تغفل فيه الروائية عن أن يكون عملها مستوفياً لاشتراطات الكتابة الحديثة ولا سيما الأوروبية منها..وبذلك تكون الروائية قد انتشلتنا من اليأس والقنوط الذي ظل جاثماً فوقنا من رؤية أعمال عراقية صميمية تنبض بكل هذا الدفق الرفيع من حيثيات الجمال وهي إذ تفعل ذلك فإنها تنفض الرماد عن جمرات ما تزال تشع بالألق الأخاذ.
    وهو ما يحيلنا إلى تلك النبوءة التي تبنّاها الناقد الروسي بيلنسكي بشأن المكانة  التي سيحظى بها الروائي دوستويفسكي حال انتهائه من قراءة روايته الأولى (المساكين).
    تعتمد الرواية على أسلوب سرد أحداث السيرة الذاتية لبطلة الرواية والتي من المرجع أن تكون هي الكاتبة نفسها بدليل أنها تهدي كتابها البكر هذا إلى أبويها ركني الحبكة الأساس، "إلى أمي وأبي ورحيل قبل الأوان".
   تسرد الرواية كما أسلفنا أحداثاً تتعلق بالسيرة الذاتية لإحدى الفتيات منذ سني طفولتها وصباها حتى شبابها وما جرى لهما خلال ذلك من وقائع وأحداث، ونتبين من خلال لغة السرد أن أم الفتاة إنجليزية وأن أباها تعرف عليها واتخذها زوجة أثناء دراسته في إنجلترا، ليعود بها بعد حصوله على شهادته العلمية إلى بلده العراق، لنرى كيف أن سحر الشرق وغموض معالمه وهما ما أغريا الأم الإنجليزية وغررا بها للقدوم مع زوجها إلى العراق، خاصة بعد أن حطت العائلة رحالها في إحدى قصبات بغداد وهي منطقة الزعفرانية، حيث الأجواء الريفية الكابية وحر الصيف اللاهب، والغبار والبعوض والأمراض ووجوه الفلاحين الشاحبة وبؤسهم، ومع ذلك فإنها تجد نفسها مضطرة لتقبل الأمر الواقع وهذا النمط من الحياة على اعتبار أن ذلك تم باختيارها هي  بالإضافة إلى أنها أنجبت منه طفلتها الوحيدة.
    لم تشأ الراوية أن تضع لأبيها اسماً ، مثلما لم تضعه لنفسها على ولعها بذكر الأسماء وهي تغرقنا في أجواء حكاياتها المدهشة، والتي لم تكن الدهشة فيها ناجمة عن أحداث جسام حدثت بقدر ما كانت متأتية من طريقة السرد بحد ذاتها  ؛ اشتغال مخيلتها وقدرتها على نسج وبلورة الأحداث والمفارقات والاستذكارات  الحميمة التي تضفيها شخصية الساردة بطلة الرواية، على مجمل الأحداث ، فشخصيتها الحاسمة ودينامية الرؤيا واشتغال المخيلة وابتكاراتها الذكية هي ما أعطى الرواية كل هذا الزخم المتدفق والمتوازن في آن معاً.
   بعد الانتهاء من قراءة الرواية، يستطيع القارئ التنبه إلى جملة معطيات، يأتي في مقدمتها أن تأثير مرحلة الطفولة بالنسبة للفتاة كان حاسماً وأثيراً جداً، وأن ذاكرتها  ظلت معلقة هناك حيث الأكواخ الطينية التي كان يقوم بتشييدها البسطاء الفقراء والأغنياء في وقت واحد، فقراء من ناحية بؤس أوضاعهم المادية وعدم توفر الممكنات ولكنهم أغنياء بعواطفهم الجياشة وطيبة قلوبهم ومشاعرهم الصادقة وعفويتهم، والتي أعطت لهم كل هذا الزخم المتواصل في مواجهة صعوبات الحياة والتغلب عليها بل وإيجاد سعادتهم الخاصة بطرائق سهلة وفذة ومن خلال هذا الشقاء ذاته .
   تختار الطفلة صديقة لها من بين أبناء العائلات الفقيرة المنتشرة حول بيتهم الذي يطلق عليه أهالي القرية ، (بيت الخبير) اسم هذه الصديقة الصغيرة هو خديجة والذي ما يلبث أن يتحول إلى (خدّوجة) وهي تقول ؛ "لم اشعر بحجمي الحقيقي إلا معها ، أصغر مني صُغّرت أكثر، بمشيئتي أنا، فاستحالت إلى خدّوجة ، كانت هي عالمي وكل ما يتعلق بالنصف الثاني من النهار، محبط ممتد بين بيتنا وكوخ الفلاح، أبيها حيث تستلقي مزرعة مشمش".
   وبعد أن تتعمق صداقتها معها وما يجري خلال ذلك من أحداث حميمية آسرة تتخللها مقاطع من أغنيات الطفولة باللغة الدارجة تتعرض (الطفلة) لأقصى صدمة لها في الحياة على الإطلاق من خلال اختطاف الموت لهذه الصديقة الوحيدة، لذلك فإن عقلها الغض لم يستطع تقبل هذه الصدمة ؛ (الموت وخدوجة، أخفقت في الربط بينهما، ولكن خدوجة ظلّت تلقي بظلالها على الرواية برمتها .
   نلاحظ أن لغة الخطاب التي ارتكزت عليها ثيمة الرواية تعتمد أسلوب مخاطبة الغائب الذي هو أبوها، حيث يتضح ومنذ الوهلة الأولى انحياز عواطفها له باعتبار أنه مثلها ابن البيئة البار، في مواجهة طروحات الأم القوية ومشاكساتها الكثيرة وكثرة تبرمها من بؤس وضيق أفق الحياة التي وجدت نفسها مقذوفة فيها عنوة وإن باختيارها، وقد يكون من الأسباب الكثيرة لانحياز الفتاة لأبيها على حساب أمها هو (دكنة) البشرة التي جاءتها من أبيها حيث كان التلاميذ في المدرسة يستقبلونها بـ (جاءت العبدة) كانت تصف نفسها بعد شجار لأمها مع أبيها وهي تنسحب معه إلى غرفته في الطابق العلوي؛  "وأنا حينها مثل أنثى البطريق أجر قدمي للحاق بك، ومع ذلك" ، مع كل هذه القتامة والأجواء الكابية اليومية في البيت من جراء المناكدات المستمرة بين الأم والأب الذي يبدو أنه كان أضعف حجة مع امرأته، تطفو على السطح أحياناً بعض الموافق الطريفة (لم تعد أمي تصر على تعلمي إنجليزيتها) وبدأت تحسن استعمال بعض المصطلحات في الفترة الأخيرة، فتفاجئنا مثلما فعلت مرة عندما أتيتك بدعوة من مدرستي لاجتماع للأهالي قررت أنت أن تحضره، وضعت يدها على خصرها اعترضت قائلة: "ليش إيني" قاصدة ليش عيني، مصرة على أن تحضر هي الاجتماع أيضا، انفجرنا ضاحكين معاً مما كسر قليلا من وجوم الأيام الأخيرة. يتضح لنا كذلك أن من جملة أسباب الخلاف الدائم بين الأم والأب اختلاف وجهتي النظر حول الطريقة المثلى بنظر كل منهما والتي يتوجب إتباعها في تربية الفتاة وتنشأتها وتعليمها، فالأب مثلاً كان معارضاً منذ البداية لفكرة دخولها لمدرسة الموسيقى والباليه، بينما الأم تصر على ذلك، وتضع فكرتها موضع التنفيذ حيث تجد الفتاة نفسها في اليوم الأول لدخولها المدرسة (يدخلون ويخرجون لا أحد يلحظني أشعر أنني كنملة). 
 محاولات الأم كسر القوقعة
   تقوم الأم بين آونة وأخرى باستقبال صديقتها الإنجليزية أميلي وشقيقها ديفيد الذي يصر الأب على تسميته (داود) وكمحاولة منها كسر عنصر الرتابة في حياتها والثأر لنفسها من زوجها، وتقيم علاقة حسية مع ديفيد، لا يلبث الزوج أن يعلم بأمرها إضافة إلى علم البنت، ولكن ، وكما يتضح لنا فإن الزوج يصمت ويتغاضى رغبة منه في إبقائها معه لرعاية شؤون البيت والفتاة حسب زعمه ، ولربما لخشيته من أن تبقى ابنته من دون راع خاصة وهو يخشى من أن يباغته الموت في أية لحظة ومع ذلك فإن ذلك لا يخلو من أعراض نزعة شرقية استئثارية متأصلة تقوم على الإمعان بإذلال الآخر، فهي حين تكرر أمامه طلبها المتكرر بالطلاق منه لم يجد إلا أن يتفوه بجملته النابية (أما عصمة الطلاق فبيدي، لا يمكنك التحرك بدوني، تذكري ذلك جيداً).
  ثم لا تلبث أحداث الرواية، أن تتخذ منحىً آخر أكثر قوة وقسوة حين تقرر العائلة الانتقال إلى بغداد حيث بدأت الفتاة في طور الدخول بمرحلة النضوج الجسدي والعقلي، في الوقت ذاته  يدخل في البلد في دوامة حربه الأولى، فتبدأ في التراجع والتقهقر الكثير من مظاهر الحياة الفائضة عن الحاجة ومن ضمنها مدرسة الرقص ففي وصف لها لأحد الشبان من رفاقها في الفرقة وهو فاروق " كانت فكرة الجبهة ترعبه ، قرر أن يبقى في الفرقة عسى أن يعفى من الخدمة العسكرية، باعتبار أنه سيخدم المسرح بعد تخرجه قائلاً بهمس، لن أفلح في حمل السلاح، الأجدر بهم أن يدعونني أرقص للوطن " ، ومع ذلك فإن مدرسة الفرقة، راقصة الباليه المتزمتة والتي يطلقون عليها لقب المدام والتي لم تستطع بسبب اشتعال الحرب ذاتها من إكمال دراستها العليا في موسكو، تبقى مصرة على التمسك برسالتها ومواصلتها حتى النهاية، فتقول لتلامذتها (يجب أن نتجاوز موضوع مادية الجسد، هذا هو فن الباليه)، ومن كلماتها الأخرى (لا تفخروا في الانطباع الذي ستتركونه على الخشبة، بل انصتوا لالتواءات مفاصلكم ودعوها تحدد لكم خبرتكم في إدراك الذات بدلاُ من الجري في جوارب سميكة تبرز أعضاءكم للجمهور ليس إلا)، و(أريد الآن من البنات أن يتسلقن جذوع الأولاد مثل اللبلاب)، (أطلقوا العنان للمفاصل، فهي مفاتيح الجمالية التي نسعى إلى تحقيقها، إنها تزاوج ميكانيكية المادة، أي نحن بشفافية الروح الموسيقى).
    أما الانطباع الذي كان يتركه فيهم رقصها ؛ (عندما ترقص المدربة نعلم أنها تتحرر) و (قفزت المدام في زي أبيض لامع كأنه أسطورة) و(وجدنا صعوبة بالغة في اللحاق بحلمها).
وتنقل لنا كذلك بعض التعليقات والمحاكاة الساخرة التي كان يطلقها زميلها فاروق، فمثلاً هو يعلق واصفاً أختين توأمين متدربتين معهم، (جاءت عيدان الكبريت) في إشارة إلى نحافتهما وتعليقها هي (التقى عند السلالم الدخول بسارة التي تظهر في إطار البوابة هزيلة كأنها قادمة من مجاعة). 
 إرهاصات التجربة الحسية عند بطلة الرواية
     تستمر علاقة المدربة بالفتاة حتى بعد انفراط عقد الفرقة وفي إحدى المرات تمر عليها بسيارتها إلى البيت، وتصحبها معها إلى بعض أصدقائها للترويح عن النفس ورؤية بعض الوجوه الطازجة، فتذهب بها إلى شقة النحات الذي ما يلبث أن يترك مائدة الجلسة التي كان يجلس إليها بالإضافة إلى مدربتها معمارية ومسرحي في الغرفة المجاورة حيث كان تتأمل الأعمال الفنية بدعوى أنه جاء يبحث عن منفضة السجائر ليدخل معها في حوار فلسفي فحين يطلب منها أن تصف نفسها لم تجد سوى أن تقول أجدني نموذجاً لمفترق خيالات شتى، اقتصرت الزيارة الأولى على التعارف والحوار فقط وفي غمرة أحداث الحرب وشبح الاستدعاء إلى الجيش، يجد الفنان نفسه مسوقاً إلى أهوالها، فيتصل بها طالباً اللقاء معها، وحدها هذه المرة، فتجد نفسها منساقة لا شعورياً لتلبية طلبه، وربما بدافع الفضول فالفنانون عموماً يشكلون إغراء ما بالنسبة لطبيعة المرأة، تدخل الشقة، وتصف لنا حراراتها (درجة الحرارة تلعق الرقم 40 في المحرار المعلق على جدار الممر) تحاول تغيير الموضوع بالحديث عن بعض المنحوتات لتستدل هي مع نفسها (الحذر والفضول لا يأكلان في صحن واحد)، وفي أوج لحظتها الحميمية  ؛ "وفي ومضة حلم بلون السماء، بنيت لنفسي قصراً من سكر، جسده الأشقر الأملس يقطر عرقاً، أذاب جدران قصري، سبحت في محلول حليبي دار بيننا، لن أنجو استسلمت وقبل أن أغرق ابتلعت موجة صغيرة من حلاوة أخيرة" .
    يذهب الفنان إلى الجبهة ، ومن هناك يبعث برسالة (عطري المكان بأنفاسك حتى نتلقي، أتمنى أن أجدك في انتظاري هذه المرة، أهديك قبلة رودانية. 
تحطيم النحات لتماثيله
   في ساعة متأخرة من الليل ينزلق الفنان من فراش الحب الذي يجمعهما لتجده في الغرفة الأخرى، وقد أكمل تحطيم التماثيل بالفأس كنوع من ممارسة عقاب الذات، فالعمل الذي وجدوه له في الجبهة بعد الوساطات هو إيصال جثث الشهداء في معارك الحرب إلى ذويهم، وهو مما يتناقض تماماً مع روحيته ونفسيته كإنسان ناهيك عن كونه فنان فتجده جالساً في الزاوية البعيدة يرقب الحطام يدخن بشراهة ويبكي، ليقول لها ؛ (في الماضي كنت أعرف  في حياتي شعوراً يسمونه إشراقة الإبداع، أما الآن، فلا أجد غير دقائق انتعاش قصيرة في صراع مع الزمن يشبه صحوة الموت)، وبصوت تشوبه نبرة اليأس: (أريد احتواءك قبل فوات الأوان) (مدد ثناياي على منضدة العمل الفارغة، شغلناها حتى الفجر بألم). 
الرحلة إلى لندن
   "صعدت سلالم الطائرة أحمل حقيبة واحدة تتبعني أمي بثدي واحد" ، حيث أن الأم أصيبت بسرطان الثدي فتضطر إلى استئصاله قبل سفرها إلى لندن، وفي أعقاب الأيام الأولى لوصولهما ورقود أمها في المستشفى لاستكمال العلاج، تتعرف إلى (آرنو) وهو شاب من أم إفريقية وأب فرنسي، والذي يسألها عن جنسيتها في جلسة صاخبة، فتقول له (تستطيع القول إني خليط متناقض أيضاً)، هز كتفيه (إذن لنشرب نخباً، سأسميه ارتباك) وأثناء ذلك تستمر في الوصول إليها رسائل المدام من العراق، شارحة فيها الظروف القاهرة التي يعيشها الناس جراء الحصار الذي تم فرضه على العراق بعد استعادة مدينة الكويت، (عثرت على صورة في مجلة لطائرتين هائلتين مضطجعتين في الجو يربط بينهما خرطوم نقل البنزين، وجاءتني الفكرة، التكنولوجيا تتعاشر فوق رؤوسنا، تلتقي ثانية بآرنو، ولكن هذه المرة بحميمية أكثر، وتضطره ظروف ما إلى السفر إلى موطن أمه (كينيا) وتنقطع أخباره عنها، تكتشف أنها حامل، (اعترض أسفل بطني شريط من لزوجة شفافة كان حلزوناً مبللا بحجم الكف زحف فوقي)، فتقرر (فاضطررت إلى مواجهة اتخاذ القرار بمفردي، أفكر في أمي، أردد كل ليلة، سأصلح الخطأ قبل فوات الأوان، لن أستسلم كما فعلت هي، وبعد مدة يزورها آرنو في المستشفى (نزلنا معاً إلى الكافتيريا، قبلني بشيء من برود، فتصارحه بالأمر يرتبك أو يتظاهر بالارتباك، يحاول تدارك الأمر، وفي خضم اضطرابه تفلت من لسانه جملة اعتراف بأنه متزوج سابقاً) أرجوك افهميني، هذا لا يعني أنني سعيد أو أي شيء من هذا القبيل، نحن على أبواب طلاق، لكن زوجتي إفريقية مثل أمي، وأوراق القانون عندهم جعلتني أقع في مصيدة، فتبادره (لست مديناُ لي بهذه الشروحات سواء أكنت في إفريقيا أم في القمر، كان في استطاعتك أن تكون صريحاً منذ البداية، على كل حال، لا يهم فنحن أغراب وسنفترق أغراباً، أضفت ؛ (سحالي بكل معنى الكلمة) ثم لا يلبث مرض أمها (سرطان الثدي) من التمكن من جسدها، فتتدهور حالتها الصحية، لتموت بعد ذلك، وفي لحظات هذيانية تطلق أمها بعض العبارات التي تنم عن أساها الفاجع وإحساسها بلا جدوى الحياة (ثم تزوجت وأخفقت في إسعاد الزوج، ثم تغربت وأخفقت في فهم بيئة زوجي، ثم أحببت رجلاً آخر من بني جنسي من خلف ظهر الزوج، ومع ذلك أخفقت في الحفاظ على العشيق)، ثم لتضيف (إنها فكرة بلهاء، قضية الانتماء، فنحن لا ننتمي إلا لظلال أجسادنا التي ترافقنا، ما دمنا أحياء). 
 براعة الأوصاف والتشبيهات
    من السمات البارزة التي بمقدور القارئ تمييزها في هذه الرواية، هي احتواؤها على تلك الجمل المقتضبة المبتكرة والتي هي أقرب شبهاً بمعادلات الرياضيات لقوة الحسم فيها بالإضافة إلى شعريتها العالية وتتبدى لنا أيضاً براعة الكاتبة في إطلاق مختلف أنواع التشبيهات والأوصاف التي زينت أسلوب الرواية وكأنها ماسات نادرة وأحجار كريمة يتم استجلاؤها للتو، وكمثال على ذلك نورد بعضاً منها: 
- في وصف لها لأمها (كانت تجلس بتراخ على الأريكة السوداء في غرفتها، ترتدي ملابس سوداء، شع بياض بشرتها، بحيث لفت انتباهي، كان وجهها وذراعيها وساقيها قطع من تلك الدمى الصينية المستوردة التي تستخدم في التمثيل الصامت).
- في وصف لها لصوت أبيها " صوتك العميق الذي يشبه بشرتك" .
- قبل أن تستأنف تعليقها، رن هاتف أخضر يزين قاعدته قرص بلاستيكي مذهب، أصدر الجهاز  ورورة متميزة كأنها مجموعة من صراصير ليلية محبوسة داخله.
- كم أحب هذه اللحظات التي ترفعني فيها عمة خدوجة عن الأرض بحركة رشيقة سريعة فتجلسني على كتفها، تتدلى إحدى قدمي على صدرها والأخرى على لوح ظهرها، طريقة لحمل الأطفال لم أجدها عند غيرهم ، يداي تمسكان بفوطة رأسها، أشعر كأنني قدور اللبن الرائب العالية، التي تصفّها الواحدة فوق الأخرى، تسير بها بتوازن عجيب عبر الطرقات الزراعية. من الجدير بالذكر أن لوحة الغلاف والتي قام برسمها الفنان أرداش كافيكيان اعتمدت على هذه الوصف بالذات حيث تم تناولها بطريقة التجريد.
- في وصف لأبيها أثر رؤيته لها بعد فترة من التدريبات في مدرسة الرقص "ستنمو عضلاتكم ويصبح جسمك مثل جسم رجل".
- في قول لأمها وهي تحتج على الزوج الذي يرفض فكرة انفصالهما والتي كثيراً ما كانت تلح بها عليه ماذا؟ هل سأظل تحت رحمة قوانينك؟ حقاً تتصور أن حياتي عبارة عن مكعب ثلج يطفو في كأس مشروبك؟).
- تصف نفسها ؛ (قرأت على ضوء الشموع، حتى استحالت الحروف نملاً يتنزه على الورقة.
- (كل شيء حولي يتحول إلى جثة)، إحساس راودها بعد موت أبيها.
- (أتمطى بجسدي مثل قطة).
ـ (ليونتي تستفيق من مخابئها، الدلافين الصغيرة أخذت تسبح في المجرى، بدأت أطوف في عمق المرأة، تفقٌ من جليد وفضة) .
..................
    يجمل بي في نهاية المطاف أن أثبت هنا بعض الكلمات التي أشادت بجهد الكاتبة والتي احتواها غلاف الطبعة العربية ؛
* كم بدت السماء قريبة عمل آسر يعلن عن ولادة روائيّة غير عاديّة ... الرواية الشخصيّة لكلّ منّا في ذاته، وروايتنا الجمعيّة مع أنفسنا ومع الآخرين، ومع الأغيار.
د. فهمي جدعان
*الرواية تأخذنا إلى ... أعمق نقاط الجرح في حياتنا، حيث فجيعة الموت، إهانة المرض، عبثيّة الحرب، دون أن تحجب عنّا عينُها الصافية جماليّات الحياة وإنسانها.
د. ليلى نعيم
*إن هذه الرواية تتميّز بنكهتها العراقيّة الأصيلة من حيث الأجواء والأحداث والمرحلة التاريخيّة التي تتحدّث عنها ... رغم أجواء الخيبة والحزن، إلا أنّها تهمس لنا بأمل ينتظر ما دامت الحياة تجري والحافلات تسير.
سليم مطر
*إن للروائيّة قدرة ً هائلة في الوصف والغوص إلى أعماق ودقائق الأشياء، سواء تفاصيل الحياة اليوميّة في العراق ولندن، أو ما يقع تحت بصرها، فضلاً عن قضايا أنطولوجيّة كعلاقة الفنّ بالحرب والموت والحياة والحبّ...
طراد الكبيسي
*لغة سلسة ورصينة في آن، ورسم بطئ متأنّ، وغوص في روح الإنسان وعقله لاستخلاص ما يسكن هذا الكائن من مشاعر وطموحات، ولاكتشاف مساحات الجمال والقبح والتشوّهات.
عمر شبانة
 *كم بدت السماء قريبة... تحفة أدبيّة في صدقها وصفائها وبنائها الروائيّ وشخوصها وأحداثها وذكرياتها وافقها المعرفي.
محمّد سعيد الصكّار
*رواية كم بدت السماء قريبة تتكلّم بلسان عربيّ عراقيّ حميم. والرواية ليست سيرة ذاتيّة، بل تحتدم بصراع شرق وغرب متعاديين...
محمّد عارف
* بتول ... عملت بنصيحة (هاملت) ... ترفع المرآة بوجه الطبيعة، لنرى ما تغضّن من وجه العراق، وما ينبض تحت الجلد من أنساغ الحياة (اللاتقهر).
د. عبد الواحد لؤلؤة
* رواية (عائلة) تجلو الحنين، وتصطفي تفاصيل وطن منظورٍ له من معيش وغربة وحرب ! توهم بسيرة ذاتيّة لأّنها تفيد من معلومة المكان لأغراص التخييل، حسب !
محمّد الجزائري


الكاتبة العراقية بتول الخضيري في رواية جديدة . الحب والحرب وجحيم الإختلاف

الحياة -عمر شبانة :
 
  في رواية "كم بدت السماء قريبة"، تتناول الكاتبة العراقية بتول الخضيري، من خلال نص تتقاطع فيه السيرة مع التأمل الواقعي، سيرة فتاة هي ثمرة علاقة بين أب عراقي وأم انكليزية، يلتقيان أثناء دراسة الأب مادة الكيمياء في بريطانيا، ويتزوجان، ويعود الأب بزوجته وطفلته الى قريته في العراق، لنتابع سيرة الطفلة الحائرة بين أم ذات ثقافة وسلوك يختلفان عن ثقافة الأب وسلوكه. طفلة تخلط المفردات العربية بالإنكليزية، وتستمع الى صراخ والديها حول طبيعة التربية والتعليم وما ينبغي وما لا ينبغي، وهل يحق لها الاختلاط ببنات القرية وأطفالها، وهل يكون شعرها قصيراً كما تريد الأم، أم طويلاً كما يفضل الأب، وهل تتعلم رقص الباليه أم عزف البيانو. وكلما تطور خلاف الوالدين، وازداد ضجر الأم واقترابها من الصديقة الإنكليزية وشقيقها ديفيد، ازدادت عزلة الأب في مخبره الذي يطور فيه صناعة العطور والأصباغ... ولتتسع المسافة بين الزوجين، ويزداد ألم الطفلة، وتكبر على ايقاع هذه العلاقة، والى حد أن تتعلم كيف تمكث في مكانها تستمع من دون أن تتدخل ثم الى مرحلة عدم الاستماع "كمغناطيس الخياطة عندما أجمع به الدبابيس المتناثرة، الدبوس الأول يحدث تكة مسموعة، ثم الثاني يتك، والثالث أيضاً، حتى يتغطى سطح المغناطيس... تبدأ أواخر الدبابيس بالتساقط لثقل الحمولة".

    من المحطات الأساسية في حياة الفتاة التي تظل - هي ووالداها - بلا اسم، تتوقف الساردة بضمير الأنا المتكلم الحاضر، عند طفولة غنية بالألعاب والمغامرات، لا يحدّ من غناها سوى تدخلات الأم لمنع طفلتها من دخول بيوت الفلاحين "القذرة" ومن الاختلاط بخدّوجة التي يمتلىء رأسها بالقمل. لكن من أين سيتأتى للطفلة أن تتعرف على بيئة الوالد البسيطة؟ وكيف ستقضي وقتها بعد انهاء الوقت المخصص للمدرسة؟ فالأم دائمة التشكي من الملل والضجر وعدم وجود عمل مناسب لها، والأب دائم الانشغال الى حدّ الإصابة بالجلطة.

    تكتب الكاتبة - الراوية تتحدث - بلغة طفلية على لسان الطفلة، وبرؤية طفلية الى العالم: العلاقات والأشياء. وحين تكبر قليلاً، تنتقل العائلة الى العاصمة، وتبدأ البلد تشهد مظاهر حرب هي العراقية / الإيرانية، وفيما تنشأ علاقة تشعر الفتاة أنها عاطفية بين أمها وبين ديفيد يصر والدها على أنه داوود، وبعد أن يشعر الوالد بالعلاقة يستمر في العمل بطاقة أكبر مما يتحمل قلبه المأزوم، فيرحل فجأة تاركاً ابنته مهزومة/ وعبر علاقة الفتاة بفنان تشكيلي، تعرفت عليه من خلال معلمة الباليه المدام، نتعرف على أخبار الجبهة التي ذهب اليها الفنان / النحات سليم مكرهاً.

  ثمة وقفات لنقل مشاهد من الحرب وأثرها في الناس... وقفات متمثلة في عودة المدام من روسيا قبل أن تنهي دراستها فن الباليه، وتعيينها في مدرسة يبدو الناس فيها أبعد ما يكونون عن الحاجة الى هذا الفن، فتحاول جهدها كله أن تصنع منهم راقصي باليه وليس راقصي دبكة، وتركز على حرية الروح وحرية الجسد "أريدكم أن تفهموا أجساد بعضكم بعضاً جيداً لأننا فرقة واحدة. هذا يعني أننا سنتحرك كجسد واحد. الحرج والحياء لا يرقصان معنا. يجب أن نتجاوز موضوع مادية الجسد. هذا هو فن الباليه". لكن الظروف كلها تعمل في اتجاه آخر. ووقفات متجسدة في وضع النحات وظروفه وتوقفه عن النحت، لكنها مناسبة للوقوف أمام منحوتاته، بعد أن صارت مهمته في المعسكر "تنفيذ مناضد عسكرية".

   في هذه المرحلة أيضاً يتكشف الوضع الصحي للأم بالإصابة بالسرطان، وبعد عملية استئصال أولى للنهد، تبدأ العلاقة بين الأم وابنتها تأخذ منحى آخر هو بين الاشفاق والخوف من الفقدان... لكننا لا نشعر بلحظة حب حقيقية واحدة من الفتاة تجاه الأم.

   وفي رحلة علاج الوالدة في لندن، حيث يبدأ انتشار المرض في أنحاء جسدها، تبدأ مرحلة أخرى من حياة الفتاة، حيث ستنقطع أجمل علاقة عاطفية عاشتها مع النحات سليم، وسنرى كيف يتخلى ديفيد عن الأم المريضة ويسافر الى السعودية، ولتبدأ حرب الخليج الثانية وتتابعها الفتاة عبر وسائل الإعلام ورسائل المدام، ثم تخوض تجربة حب عابر مع آرنو من كينيا وتحمل منه لكنه يختفي، ولن يظهر إلا بعد أن تجري عملية الإجهاض... وتظل الى جانب أمها التي أهانها المرض وأذل كبرياءها، حتى صارت تتمنى الموت، خصوصاً بعد أن فقدت كل قدراتها، وفوق ذلك فهي تشعر أن مسيرة حياتها كانت تنطوي على قدر من العبث، فهي لم تستطع أن تنتمي الى الشرق الذي ذهبت اليه بصورة زاهية صورة الشرق كما يتخيله الغرب، وحين عادت الى الغرب مريضة لم تستطع أن تنتمي اليه.

   وتنتهي الرواية بمقاطع مؤثرة مما وصلت اليه أحوال العراق في الحصار، تختصره جملة في رسالة المدام تقول ان زوجها يرددها، وهي قوله "نحن نأكل الخـ... بالإبرة. لا الإبرة تشيل، ولا الخـ... يخلص".

    إن قدرة الكاتبة على رسم المشهد الخاص والارتقاء به من حالة محددة الى فضاء إنساني، هي أهم ما يميز هذه الرواية. وإذا كانت تستطيع أن تستخدم المادة الوثائقية الواقعية - نسبة الى الواقعة في اغناء المشهد الروائي الذي ترسمه، فذلك لأنها لا تتناول الوقائع في استقلايتها، بل في اتصالها وتأثيرها على مجرى حياة الفتاة، بطلتها ومحورها الأساس.

  وما تطرحه الفتاة من أسئلة عن العلاقة بين الأم / الأب في البداية، سوف تطرحه عن العلاقة بين الشرق / الغرب فيما بعد، وعلى غير مستوى، فالعلاقات بين البشر هي جوهر السؤال الذي تحفل به الرواية على مدار صفحاتها. وهذه العلاقات التي تحكم البشر بقيم معينة سلفاً، لكنها العلاقات التي تولّد القيم وتمنح البشر القدرة على فهم الحياة وفهم بعضهم بعضاً.

   إن تأملات الراوية / الكاتبة تذهب في اتجاهات وأعماق تفوق السطح الذي تحدث عليه حوادث الرواية. فعلاقة الزوج والزوجة، في هذه المؤسسة التقليدية، علاقة شائكة، ولا يفعل كونهما مختلفين عرقياً سوى أن يضيف بعض التعقيدات. لكن هذا الاختلاف، والخلافات الأساسية التي تنشأ عنه، سيكون تأثيرها الحقيقي على الطفلة - الفتاة التي ستختار البقاء في لندن بعد وفاة أمها رغم وضوح انتمائها لبلد أبيها - العراق دون أن تقول كلمة واحدة عن هذا الانتماء.

   ثمة قوة وجرأة في وصف أدق حالات الإنسان، أحوال قوته وضعفه. الحب والكراهية. الضياع والتحقق. التجربة والثمن. ليست هذه الثنائيات سوى تصور لما تنطوي عليه الرواية من أحوال الإنسان الذي تظل حياته دائرة تتكامل وتتنامى لتنتهي بموته. والإنسان هنا هو الفرد أولاً وثانياً، لكن الفرد الاجتماعي، أو الفرد في علاقات معقدة ذات سمة تنشأ من مجتمعه وبيئته.

   لا تحاول الكاتبة ابتداع تقنيات وأساليب روائية في السرد. إنها - ببساطة - تروي، تسرد، تكتب حواراً، ترسم مشهداً، تتأمل، توثِّق، فتتشكل من ذلك كله لوحة روائية ذات بنية تتنامى ضمن المفهوم الكلاسيكي للزمن الروائي. لغة سلسة ورصينة في آن، ورسم بطيء متأنٍّ، وغوص في روح الإنسان وعقله لاستخلاص ما يسكن هذا الكائن من مشاعر وطموحات، ولاكتشاف مساحات الجمال وحجم القبح والتشوهات.

  نحن أمام الإنسان عارياً وفي حالات عدة، تسمح بقراءة معالم وملامح يمكن أن تفضي الى فهم الوجود الذي رغم تعدد عناصره، يظل الإنسان مركزه. الإنسان في بؤرة الكون هو ما ينبغي الاعتناء به ومعرفة ما يمكن معرفته عنه.

   هذه قراءة من قراءات عدة تتيحها الرواية. قراءة تتناول جانباً واحداً تراه أساسياً وفي أساس الرواية، هو العلاقات التي تعالجها، وما آلت اليه.

   يقول المفكر العربي - الفلسطيني الأصل، فهمي جدعان على الغلاف الأخير ما نصه "... عمل آسر، يعلن عن ولادة روائية غير عادية. الرواية شبكة محكمة، لحمتها الوجود، وسداها الإنسان، قبالة أشياء الحياة الراسخة والشاردة وأوضاع "الوجود في العالم"، والحالات - الحدود، والإنسان الذي تُقرَّب الينا أعمق أغواره وأبعد نهاياته ... نحن مدعوون الى أن نصمد ونتماسك لنخرج بأمان وسلام من "قراءة" هذه التجربة ـ... الى أن "نتابع الحكاية ونحيا الرواية" بصدق وأمانة... الرواية الشخصية لكل منا في ذاته، وروايتنا الجمعية مع أنفسنا، ومع الآخرين، ومع الأغيار، ومع المجهول!".

* صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999، 200 صفحة.


قراءة / «كم بدت السماء قريبة!» للروائية بتول الخضيري ... نكهة العطر الأسود والفانيليا المرّة




جريدة الراي| جاسم الولائي |

    في رواية بتول الخضيري (كم بدت السماء قريبة)، يحس القارئ بمتعة الكشف عن مواطن الجمال، إنْ في البيئات الثلاث التي دارت وتطورت فيها الأحداث والتفاصيل، أو في أبطال الرواية وعلاقة هؤلاء الأبطال بين بعضهم البعض، وبينهم وبين تلك البيئات. هذا التنوع في العلاقات والسلوكيات والأهداف، إضافة إلى ما تفرضه التقلبات والمفاجآت التاريخية من حروب وهجرة وحصار، جعلت الرواية مختبراً هائلاً ينتج ردود فعل نفسية، وتأقلماً قلقاً مع الأحداث اليومية الصغيرة والكبيرة، وإبداعاً في صنع آلية متجددة للتعامل مع الحياة، تتوافق أو تنهزم مع تسارع الأحداث والانتقالات المفاجئة والمنطقية غير المتوقعة في ذات الوقت، أثرى هذا التنوع موهبة الكشف والتقاط الصيغ والحوارات، وأتاح إمكانية تتبع عرق المعدن النفيس وصولاً إلى المنجم الأصلي لجغرافيا البيئة والبشر العراقيين. فرواية بتول الخضيري هي مساحة شاسعة تضم ثلاث مراحل لحياة، وثلاث بيئات مختلفة يوحدها رد فعل أحداث خطيرة على الناس وأنشطتهم الحيوية اليومية، هي مراحل ما قبل الحرب الأولى، ثم سنوات الحربين ضد إيران والكويت، ثم الحصار. وتدور في ثلاثة أماكن داخل وخارج البلاد، هي ضاحية الزعفرانية، ومدينة بغداد منطقة أبو قلام، ثم لندن. كلّ مرحلة تنتهي بفاجعة تلعب دوراً مهماً في حياة البطلة.
•موت صديقتها النحيلة «خدوجة» بمرض البلهارزيا، التي تنهي مرحلة طفولة البطلة.
•موت الأب بمضاعفات الجلطة القلبية.
•وأخيراً موت الأم البطيء بعد إصابتها بسرطان الثدي.
   
   بعد هذه الأحداث المفزعة الثلاثة تبدأ مرحلة ضياع البطلة. كل هذه الأحداث تتحرك على مسافة زمنية تزيد على ثلاثين عاماً.
  وفي الحقيقة فإن مراحل الرواية الثلاث، كان من الممكن أن تهيئ لثلاث روايات متتابعة، تحمل كل واحدة منها اسم مدينتها أو حدثها أو شخصية المتوفى في نهايتها، تحت عناوين فرعية تأتي بعد عنوان الرواية الأساسي. لو تحركت على رقعة أشمل وعدد أكبر من الأحداث وتفاصيل الأحداث، وعلى مساحة أوسع من الشخصيات والأمكنة والعلاقات، بحركة أكثر هدوءاً وصياغات أكثر تركيزاً، وبتأمل أكثر هدوءً وصبراً.

الفترة الأولى

ضاحية الزعفرانية - ما قبل الحرب الأولى - مرحلة الصديقة خدوجة.
  أي فترة طفولة البطلة التي خضعت لشد وجذب بين أب شرقي ذي نزوع مهني صناعي، استفاد من تعليمه في إحدى جامعات لندن، يعمل في مجال إنتاج وتطوير المطيبات الغذائية، وأم إنكليزية من أسرة أرستقراطية تخضع لأعراف وتقاليد خاصة. تحددت حياة البطلة في صيغة اتفاق شفاهي بين الأبوين، الدراسة في مدرسة الموسيقى والباليه وتعلم اللغة الأنكليزية ودروس خاصة على آلة البيانو مقابل حرية الاختلاط بعائلة صديقتها الصغيرة خدوجة «ناقلة الأمراض» كما تسميها الأم. وعائلة خدوجة تعيش في ثلاثة أكواخ طينية قريبة من منزل العائلة، تجمع الثمار وتشوي خبزها بعد إشعال روث الأبقار، هذه الأسرة تمنح البطلة الطفلة حرية ما وفسحة من السعادة بين تأفف الأم ورضا الأب، وتتيح لها عالماً أرحب من بيتها، وتدخلها في مغامرات بريئة وبسيطة إلى عالم مبهر وثري، وتشكل أيضاً حارساً للغتها العربية من سيطرة لغة الأم الإنكليزية التي تقتحم بمفرداتها اليومية اللغه الأصلية للبطلة. في حين لا يخلو بيت الأب من متع أخرى هي دروس الموسيقى وجلسات شاعرية اسبوعية مع الأب تستمر بضع ساعات تتدرب فيها على اكتساب الخبرة في المطيبات، ألوانها، روائحها وطعومها والبحث عن تسميات جديدة ومثيرة لها. تنتهي مرحلة الزعفرانية بموت الطفلة خدوجة المفاجئ، والانتقال إلى مركز مدينة بغداد في طرفها الشرقي الرصافة.

- الفترة الثانية

رصافة بغداد. منطقة أبو قلام. أثناء الحرب. مرحلة الأب.
   تبدأ مع بداية الحرب العراقية الإيرانية. تتحرك فصول الرواية في تصاعد درامي ناقلة عبث الحرب في حياة الناس، وتحويلها إلى كابوس مستمر. في أول كذبة مغناة توصف طبول الحرب بالعرس، ورائحة البارود بالهيل، لتقود بعد ذلك إلى مهرجان من الأحداث الدموية. تحولت الحياة إلى مشروع عسكري وشعار صغير من شعاراتها، حيث تطارد الحرب أبطال الرواية في البيت والشارع والمدرسة والجامعة. تقول البطلة: «لم أعد أنام على السطح وأسمع هلاهل العصافير عند الفجر، كنا ننقطع عن دوام المدرسة بين فترة وأخرى لتعليمات تنفذها الإدارة، يتم إخلاء الساحات برنة من جرس خاص. لقد أصبحت الحياة المدنية حرباء خاكية تنتصب أذناها لصوت غارة جوية، تتجول بصمت في شوارع معتمة حتى تمنع تجوالها».
   في مدرسة الموسيقى والباليه يشهد الطلبة نصب أسلحة لمقاومة الطائرات في الفناء المجاور للمدرسة. وبسبب الحرب يبدأ الطلاب والطالبات بالتسرب من المدرسة حاملين أوراقهم الرسمية إلى مدارس تقليدية أخرى، يقبل الطالب بعدها في الجامعات لكي يضمن التملص من المشاركة في الحرب سنوات أخرى. فمدرسة الموسيقى والباليه لم تعد ضرورة حضارية يمكن أن تخدم الحرب. فيما تحاول مدرّسة البالية التي قطعت دراستها في موسكو إنقاذ المدرسة في تدريب ما تبقى من طلابها، الذين لا يصل عددهم إلى عشرة. يقول أحد الطالبين المتبقين جملة مروعة في حواره مع زميلاته: لن أفلح في حمل السلاح، الأجدر بهم أن يدَعوني أرقص للوطن.
   مع دروس الباليه تسهب الروائية في حديثها عن تدريبات الرقص وقواعده وشروطه وتشرح أهمية الضوء، وفيزياء عضلات الجسد، تقطع استغراقها في الحديث عن آخر البيانات العسكرية، وبرامج موجهة تسهب في شرح الخلافات التاريخية على الحدود الدولية وحقيقة خط التالوك، حيث تسير الأحداث على سكتي قطار شريطاها الحرب والرقص.
    كانت الرواية ستتحمل تفاصيل وقصصاً أهم عن تأثير الحرب على حياة الناس واستقبال الأمهات لأبنائهن أو ما تبقى منهم، القصص الشاذة لبعض الآباء والأبناء في حالة التعاطي مع الحرب وقبول أثمان الأبناء من الضحايا، وتفاصيل أخرى كثيرة أهم من محاضرات الرقص وخط التالوك.
   أما حين تتخرج البطلة من مدرستها، فلا تجد سوى فرصة في إحدى الجامعات الأهلية لدراسة اللغه الإنكليزية. تصف الحياة في الجامعة بالقول : «قلق الجبهة يلعب لعبة الكراسي مع الطلبة».
   ومعادلة لعبة الكراسي معروفة، صراع محتدم للاحتفاظ بكراسٍ متناقصة، والحرب تبتلع الخاسرين.
   ضمن الفترة الثانية من الرواية، «مرحلة الأب ومنطقة أبو قلام البغدادية»، تصف الرواية عملية عسكرة الفن في حديثها عن «بحيرة البجع» التي تحولت إلى أوبرا «عروس مندلي»، ثم في وصفها لمعرض صديقها النحات الذي حطم في لحظة يأس كل أعماله الفنية ليترك بغداد إلى مسقط رأسه في الشمال. ضمن لوحاته تقول إنها شاهدت: «أفعى تستدير على ذنبها لتأكله». «خفافيش تلتصق بوجوه بشرية». «جنيناً يرتبط بحبل سري يرتفع ليتصل بخوذة عسكرية بدل المشيمة».
  «طفلاً ينام في مهد على هيئة خوذة». «أماً ترضع وليدها من خوذتين حديديتين على صدرها بدل ثديين طريين».
   في وقت صدرت قوانين وأوامر رسمية تمنع الأطباء والصيدليات من بيع وسائل منع الحمل، وتشجع على الإنجاب. إذاً فقد أممت الحرب أرحام العراقيات وصادرت الأجنة فيها.
  في جانب آخر من الرواية تلمس بتول الخضيري مدى التشوه الروحي والنفسي الذي سببته الحرب في حوار يدور بين البطلة وصديقها الفنان:

-أتقصد أننا سننسى الحرب بعد انتهائها؟ أم عندما تنتهي نكون قد نسينا كل شيء عن أنفسنا؟!
-كيف سنتذكر ما كنا عليه؟ كيف نستعيد زمناً من ماض ابتلعته الحروب؟
أسئلة وأسئلة إجاباتها مرهونة بنهاية الحرب، وأكثر ما تخلفه الحروب التي يطول أمدها - بغض النظر عن انتصاراتها وهزائمها النسبية، وعن قيمة هذه الهزائم والانتصارات- هو جيش هائل من البشر بحاجة إلى تأهيل للحياة. أبسط عناصر هذا التأهيل، النوم دون قلق وكذلك اسلوب السير في الشارع والتعامل مع المدينة وتفاصيل صغيرة أخرى عديدة.
   تتجلى هذه الحقيقة فيما انتهى إليه بطلا فترة الحرب، الفتاة وفنانها. حيث استثمرت الحرب إمكانات الفنان لتستخدمها في نحت المناضد الرملية العسكرية الصماء، وفي صنع خرائط مصغرة ناتئة لمواقع على الجبهة دون أن يعرف أين تقع، حيث ترسم عليها عليها النقاط فيما بعد. ثم تحول الفنان بعد ذلك إلى ناقل لجثث قتلى الحرب.
   تنتهي هذه المرحلة في الرواية بموت الأب المفاجيء، وبداية إصابة الأم بسرطان الثدي، وعملية التحضير للسفر إلى لندن، واختفاء الفنان وضياع أثر زميلي مدرسة الموسيقى والباليه فاروق وأحمد.

الفترة الثالثة

لندن. مرض الأم ومرحلة الحصار.
   تدخل الأم معهداً لمعالجة حالات الإصابة بالسرطان، تخضع لعلاج كيمياوي طويل ومعذِّب. تتحرك أحداث الرواية على سكتي مرض الأم وانهيار جسدها والتهام المرض خلايا ذلك الجسد والانتشار في أعضائه، وتحرك سرطان الحصار في جسد بلد البطلة تاركاً سمومه وآثاره.
   تنقل الرواية تفاصيل تطور مرض الأم كشاهد عيان يتابع عن كثب حالتها، أما تفاصيل الحصار فتنقلها عبر رسائل مهربة إلى الأردن تصلها من مدّرسة الباليه في عملية وصف آخاذة ودقيقة برعت فيها بتول الخضيري، تركت غيوم كآبة ثقيلة. إضافة إلى ذلك فهي تصف حياة بطلتها في لندن بحياة السحالي المتسكعة، وتصف ضياعها في علاقة غريبة مع متسكع نصف فرنسي تنتهي بعملية إجهاض سريعة.
   المأخذ على الرواية، أنها قدمت تفاصيل مسهبة ودقيقة خاصة بحالة الأم الإنكليزية المصابة بالسرطان منذ بدء انتشاره في ثدييها حتى وصوله إلى الكبد. لكنها اكتفت برسائل مدرّستها عن آثار الحصار على بلادها، ولم تلتفت إلى شاشات التلفزيون التي نقلت الكثير من التفاصيل والصور المهمة عن حياة الناس وقصص اليأس والانتحار والهجرة والغرق في بحار العالم في سفن متقاعدة. كذلك لم تلتفت إلى مفصل حدثي مهم وهو ما جرى بعد الانسحاب من الكويت والانتفاضة في ربيع 1991.
   تتتابع حياة البطلة وتنمو في علاقتها بوالدها. الروائية تكتب بإسلوب المخاطب في الجزء السردي من النص. يتوجه الخطاب إلى الأب وكأنها تذكره بتفاصيل حياته وعلاقته الأسرية وبعمله وشؤونه الخاصة. تستخدم الفعل الماضي المنتهي بتاء المخاطب المذكر المنصوبة «قلتَ، ذهبتَ، أكلتَ، عانقتَ». هذه العلاقة بين بنت وأبيها تبدو عادية، لكنها تصبح شبه نادرة حين يلازمها شبه جفاء تجاه الأم، أو حين يكون الخيار الأول والأساس هو الأب. هذه العلاقة تقود القارئ إلى تتبع الحدث واقتناص لحظة لقاء البطلة بأبيها. ليكتشف البؤر الجمالية في حواراتهما، خصوصاً اللقاء الإسبوعي. حيث ينفردان في جلسات اختبار المطيبات لوناً ومذاقاً، وتدور حوارات ساحرة يمكن القول إنها حوارات تبهر المتلقي وتملؤه بالصور الأخاذة. حوارات غنية بالخيال الواسع، شاعرية كأنها السحر.
   يبدأ السحر بالاختيار الأولي لأسماء غير مألوفة لمادة المطيب. يستغرق الإسم الناجح من خمس إلى عشر دقائق، في ما تستغرق عملية التفكير والنقاش والمثاربة في اختيار اسم نهائي من مجموعة الأسماء المدونة نصف ساعة.
   بين سلسلة الأسماء المقترحة تفوح عذوبة خاصة، ألوان وعطور وبيئات وبرارٍ وبحار ومخلوقات ورذاذات ساحرة مبهرة: «رقائق الصدف، مهرجان بارد، زرقة دلافين، الثلج الجاف، ضباب من فضة، عسل مذهب، فورة شلال… إلى آخره من مياه وأكوان وحصى تعيش في تلك الحوارات العذبة». هذه الحوارات الأبوية تدفع الرواية إلى عوالم جديدة على أي قارئ وإلى خيال مفتوح: بابا ما رأيك؟

قلتَ بابتسامة: عنجاصة تركية.
قلتُ: لا... توت متوحش.
أضفتَ: أحسنتِ... لكنه أشبه بعنب عجيب.
قلتُ: لا .. هذا اسم عادي، ماذا تقول لمسحوق الفيروز؟
قلتَ: ممتاز .. وحمرة المغيب؟
كم بدت السماء قريبة. رواية الماضي الملون، والحاضر الرمادي المحترق، مع إشارة واهية إلى المستقبل، أو لا إشارة.







 أو


 أو


 أو





ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة