الثلاثاء، 24 فبراير 2015

رواية تحت أقدام الأمهات - بثينة العيسى ...

رواية تحت أقدام الأمهات



للكاتبة والروائية الكويتية بثينة العيسى   
 عن هذا الكتاب:
  رواية مختلفة، ذات سردٍ عبقري، ينتقل بخِفّة بين أصوات الشّخوص، و خيوط أعمارهم كعرض مسرحي، تُدرك بثينة على مَن، ومتى، وأين تسلّط الضوء، والقصّة تروي ذاتها بذاتها بحوار الشّخوص، و حركة أجسادهم.
    تحوي الرواية الكثير من الأحداث العفوية الصادقة التي تجعلك تضحك معها/ تبتسم / تقشعر! والكثير من المشاعر والمواقف التي تشبهك، وكأنها تتحدث بدلًا عنك.
    تثير الرواية الكثير من التساؤلات التي لا تنتهي بانتهائها، والتي لطالما تغافلنا عنها ظنًا باننا ربما سنكون في حال أفضل بعيدًا عن حقيقتها المرة، ثم أتت مضاوي لتثبت عكس ذلك.
قراءة في رواية "تحت أقدام الأمهات"لـبثينة العيسى
إبراز تسلط المرأة وإفلات الرجل أخيراً من هذا الدور  
وريد - جسد الثقافة :
   وأنت تقرأ رواية "تحت أقدام الأمهات" الرواية الخامسة للروائية الكويتية بثينة العيسى والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون وتقع في 280 صفحة من الحجم المتوسط، لابد أن تتسائل: ما الذي تحت أقدام الأمهات في هذه الرواية؟ هل هي الجنة المعهودة؟ خاصة وأن فصول الرواية تتحدث عن أنهار :"أنهار من لبن" تغير طعمه كثيرا!،"عسل غير مصفى"وطن الشوائب والدود، "أنهار من خمر" ثلاث سنوات.. ولم نسكر،"أنهار من ماء" عودٌ ذميم لمجاري الصدأ. هذا الاقتراب من الشائع ومحاولة تحطيمه وإعادة بناءه وتشكيله كما تريده الراوية يحتاج فعلا لـ وقفة من التأمل فـ الرواية عامرة بما يمكن أن يستخلص منها وأعني من مجتمعها وشخوصها وقضاياها الكثيرة والمحصورة في "البيت الكبير" العامر بالأمهات المأزومات، ولنجيب بشيء عن ما تحت هذه الأقدام الطرية والناعمة علينا معرفة الحكاية.. 
  الرواية تتحدث عن خمس نساء، ثلاث أمهات (نورة أم موضي)(هيلة أم فاطمة) (شهلة أم فهاد) والجدة(غيضة) والخادمة (رقية) بالإضافة للأبناء( موضي و فاطمة وفهادكل هذه العائلة مع أزواجها تتكدس في البيت الكبير التي تحكمه قبضة الجدة "غيضة" ولأن ظهور الأزواج في الرواية يكاد يكون هامشي فـ نوره وهيلة بنات الجدة يسكنون مع أزواجهم في بيت أمهم غيضة وكذلك أبنها علي زوج نورة، لـ وهلة قد لا يبدو الأمر به سوء إذا ما أرجعنا هذه الأحداث لزمنها المعقول والذي يمارس عادة امتداد الأسرة في البيت الواحد، لكن الأحداث هنا استثنائية، فجأة يموت علي ابن غيضة ولدها الوحيد والأنكأ أنهم يصدمون بخبر موته في قندهار مشتبكاً بحرب ما وينتمي لجماعة إرهابية كما أفادت الشرطة الكويتية مما يوقع الأسرة بحرج بالغة لعدّة أسباب منها أنهم لم يشعروا أبدا بـ انتماءه علي لأي من الجماعات والأمر الأكثر سوء أن سمعته وأهله أصبحت سيئة، مما جعل الجدة تقوم بـ خلق روايات عن أن ابنها علي بن فهاد ذهب لايصال شحنة مساعدات وقتل هناك شهيدا يؤدي دورا إنسانياً وتنجح لحد ما في تسويقها لهذه الذرائع من أجل أن يحظى طفله فهاد بفخر الأب الشهيد. 
    تتغير حياة الأسرة بعد هذا الحادث وتحديدا بعد إنجاب شهلة زوجة علي مولودها اليتيم فهاد، تمارس الجد عليها كل الألاعيب لتعود بها وطفلها لبيتها الكبير، وتصدر مرسوماً لا يقبل النقض بأن تتعامل الأمهات بمستوى واحد مع جميع الأطفال، بمعنى أن قبّلت أم طفلتها عليها أن تقبل جميع الأطفال، وإذا اشترت لعبة أو قطعة شكولا أو ثيابا لصغيرها عليها أن تأخذ للبقية تماما كما أخذت لطفلتها، كل ذلك تقديرا لليتيم للولد ابن الولد فهاد ليعوض فقدان أبيه بثلاث أمهات. 
    أصبح فهاد النجم وجميعهنّ كواكب يدرنّ من حوله، حتى الطفلتين "مضاوي وفطوم" كان هدفهما أن تحظى كل واحدة بوده وتم برمجتهما سلفاً على أن هذا الطفل ليس على الخليقة مثله أبداً. 
  "خالتي هيلة تستقي من ثقافتها الدينية أسباباً لكي تؤكد على استثنائية فهاد بن علي، فليس كافيا أن يكون الابن الوحيد للابن الوحيد،الولد ابن الولد، عمود البيت وربه الأعلى، بل ينبغي أن يكون مؤيداً من لدن الله في عليائه! وانطلقت في حبك حكاياها التي تبرهن بأن انفلاتة فهاد إلى العالم التي حدثت بدون صرخة الميلاد هي وجه من وجوه الكرامة الإلهية، وبأن صرخات الوليد في مهده كانت بسبب تعرض المردة والشياطين له، وبأن الحليب الذي تفجر من ضرع أمه يشبه تفجر الماء من الحجر بعد أن ضرب بعصى موسى، .." . ص 20 .
   السنوات تمضي والضيق يتفاقم بـ الأمهات وحدها نورة كانت "أكثرهم وجوداً وأقلهم موتاً" توسوس لـ بنتها مضاوي بأن تجد الحقيقة خارج هذا الإطار المصنوع على يد الجدة، تريدها أن تعرف أن فهاد رجل عادي وليس له كرامات إلا هرطقات الخالة و الجدة، لكن مضاوي تنساق لـ رغبتها في الزواج من فهاد الذي انتابته عدّة نكسات من فرط المحيط الأنثوي فكان أولها ظهور الانجذاب للعالم الأنثوي من ملابس ومكياج مما أثار سخط الجدة لتعود لترويضه وحين وجدته عبدا صالحا أهدته بندقية صيد كانت تخص أبيه، لكن الأخير يتورط بقتل عامل بناء فيسجن ثلاث سنوات ليخرج بعدها لجد أن الجدة قد أعدّة البنتين له ليختار أيّهما أقرب لقلبه، ورغم انجراف فطوم له إلا أنه يظل يلحق بمضاوي إلى أن تكتشف الأخرى أنه لا يريد لها أن تخرج للدراسة أو العمل فتتركه ليعود فيجد فطوم تنتظره بغواية. 
الجانب المعتم..
  الرواية حاشدة بالتفاصيل، وأحببت التركيز على جانب معتم منها وهي شخصية "رقية" ورغم أن شخصية "شهلة" مثار للشفقة وشاهد عيان على تدمير الآخرين بحكم الأنانية المفرطة إلا أن رقية فاقت الجميع بـ محبتها للجميع ونكران نفسها لدرجة الصفر.
    تظهر رقية لتكمل المشاهد والأحداث وهذه التقنية التي اتبعتها العيسى جاءت بثمارها فهي تنتقل بالمشهد من شخصية لأخرى لتعطي القارئ أكثر من رؤية لذات المشهد مما يعطي دهشة مضاعفة، والمتتبع لـ ظهور رقية سيجد أنها كانت تمهد لظهورها بشكل يجبر القارئ على الترقب..
تتحدث رقية عن نفسها:
    " كيف يمكن أن أكون حقيقة فيم كل شيء أعرفه عني هو محض كذب؟ منذ لحظة الميلاد وحتى الاسم المستعار، والأبوين المجهولين والتاريخ الفجيعة، لا داعي لأن يعرف الصغار من أنا، تكون تلك هي اللحظة التي يفقد فيها العالم أمامهم سمعته الطيبة، فلأبق هكذا إذاً، في الغرفة الخلفية من الحوش، أشرّع لهم عالماً من الخواء والأدراج الفارغة، أقص عليهم قصصاً لم تحدث، أسمع منهم قصصاً لم تحدث، أساعد حيواتهم على المضي، الحيوات التي تمشي على عكازين، كنت أنا..طوال وجودي هنا، مع هذه العائلة ،مجرد عكاز مرمي في الغرفة الخلفية من الحوش، الأم السوداء التي وجدت قبل أن يوجدوا، التي هي جزء من هذا العالم دون أن يفقهوا كيف وصلت إليه، وإذا ما كنت قريبة أو جارة أو ابنة أو صديقة أو عدوة، هؤلاء الأطفال-ولله الحمد- لا يتساءلون بما يكفي ، فلتبق الأمور هكذا إذا، في الغرفة الخلفية من ذاكرة العائلة"ص45 .
   هنا تصف نفسها بـ الربيبة السوداء واللقيطة والأم السوداء و الغريبة والابنة السوداء وهو ما يتكرر على لسان الشخصيات الأخرى.. 
   "عرفنا كلنا بأن على هو ابنها الوحيد ، وكان كل ما عداه، وهذا العالم بأسره، وابنتيها القريبتين من قلبها، والأجنة الثلاثة، والكنة الزائغة الوجود، والربيبة السوداء ..بلا معنى" . ص 58 .
    "كان التغيير قد طال كل شبر من المنزل، الحوش، البوابة الخارجية، الحضيرة،كل شيء باستثناء الغرفة الخلفية في الحوش والتي تكرّمت ومنحتها لربيبتها اللقيطة،..." . ص 72 .
  نوره"أن يحوز الصبي على ثلاثة أمهات ، في كل أم ثلاثة آباء، عوضا عن الأم الكبرى والأم الغريبة.." .ص 79 .
  "أختي السوداء الجميلة!تعرف ما ينبغي وما لا ينبغي أن تعرف به العجوز..." . ص 86 .
   موضي " زوج كهل وأبناء ثلاثة وحفيدين وربيبة سوداء وجدوها تركض في الشارع وسط وابل من الرصاص.. ص 99 .
  رقية" البيت الكبير كله مسئولية الغريبة، اللقيطة، الابنة السوداء :أنا!"ص 164.
   إلى أن نصل إلى حقيقة هذه الـ "رقية" فـ نكتشف أنها لقيطة تم العثور عليها إبان الغزو العراقي للكويت عام 1990.
    " في الثاني من أغسطس لعام 1990، تعثرت_أنا رقية من أب وأم مجهولين_ بالعائلة الوحيدة التي حظيت بها طوال حياتي. كنت أقطع الشارع ركضا و وابل من الرصاص يخترق وجه السماء والأرض، كان الوقت دخاناً وذعراً، وأنا، الهاربة من عالم مجنون، بأعوامي التي لا تتجاوز التسعة، أو العشرة، أو أيا كان ..أركض في الشوارع، ومن حولي قطعان من الغزلان و الخراف والماعز الهاربة من حظائر أسيادها ظزز كنت أركض وحيدة وذعري، حتى رأيت سيارة جم\يمس حمراء تقف في الشارع أمامي، وانفتح باب ورأيت برقع غيضة يطل من اللا مكان ويناديني"تعالي يابنبة! تعالي لا تموتين!".ص 174.
  السؤال الملح إذا ما كانت تعريف الربيبة هو :"والربيبة بنت امرأة الرجل من غيره بنسب أو رضاع قريبة أو بعيدة،"
    فإن وصف رقية بـ ربيبة وصف غير دقيق تماماً هي لقيطة أو ابنة متبناه في هذه الحالة. وتركز على قضية مهمة جدا كـ شرعية هذا التبني الذي يقوم على أساس الخدمة كـ الاستملاك وبذلك يعد متاجرة بالبشر بشكل خفي يحمل طابع الرحمة وفي باطنه يكمن العذاب. 
عالم المرأة..
    في الرواية تتجلى عوالم المرأة ويمكن استنباط الكثير من الشوارد والإضاءات التي مرت في التفاصيل الكثيرة والحاشدة، مثل سلطة المرأة وبالنقيض ضعف وتبعية المرأة ، هواجسها وأفكارها المعلنة والباطنية فهي تجد أن الزواج هو ما يجعل المرأة فاضلة من عدمه كما تشير مضاوي في حديث مع أمها نوره:
    "و أنا المدربة على الصمت أمام خاطر الزواج، كيف يسعني أن أتنكر لتلك النواميس التي من شأنها أن تجعل(أو لا تجعل) مني فتاة فاضلة؟" .ص 204.
أيضا المرأة هي المشغل الأول لـ خلق أسطورة خرافية من الرجل، كما يبين مقطع لحوار الأطفال عندما كان فهاد في الخامسة من عمره :
"يعني؟
يعني أنا أبي أتزوجكم مع بعض.
وبدأنا نبحلق في وجهه طويلا عندما ختم خطابه:
- أنا رجال..الشرع حلّل لي أربع!" .ص 18.
    كان السائد في الرواية النسوية أن تتغنى بسلطة الرجل بينما نجد الرجل في هذه الرواية هو أحد الضحايا والمجني عليهم من تسلط أنثوي طاغي سواء بسواء مع الأنثى المغلوب على أمرها وهنا تكمن مفارقة هذه الرواية بشكل خاص.
تقنية السرد..
    بالإضافة للتنقل بين الشخصيات التي تمسك زمام أمرها بسرد المشاهد من وجهة نظرها الخاصة بـ استثناء المرحلة ما بعد الافراج عن فهاد ويظهر الراوي العليم من خلاله ليتشارك معه السرد فكل الشخصيات معنونة بأسمائها ما عدا فهاد معنون بـ "هو" وتجدر الإشارة لـ انفلات بسيط وتداخل في الأصوات بين السارد كـشخصية والراوي العليم من جانب آخر ولـ نأخذ حديث رقية مثلا:
   " ريثما يعود الفتى /النجم إلى مداره ،لتعود الأمهات /الكواكب إلى الطواف حوله..تمجيده، ولثم أصابعه، قررن ببساطة أن يعطلن حواسهن لكي يكون لمضي الأيام وقع أقل، فهل كان؟"ص 158.
    طرح السؤال في خاتمة الحديث يشي بـ سؤال للراوي العليم "فهل كان ذلك؟" وإن كانت رقية هي من يتساءل يشوب العمل نوع من الاستهلاكية وكأنك تشاهد مسلسلا كارتونياً يقول لك: هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة. وهو أيضا ينم عن دخول الراوي العليم على أية حال.
   هذه الملاحظة لا تعد شيئا ذا بال حين نقارن بين الراوية الأولى "سقوط لم يسمع له دوري" للكاتبة بثينة العيسى وبين هذه الرواية التي تثير دهشتك وغبطتك لهذا المستوى الراقي التي وصلت إليه الروائية في فترة قياسية نسبياً.
    عندما تنتهي من هذه الرواية تكرر على نفسك السؤال ذاته ما الذي "تحت أقدام الأمهات؟" وتستنتج أن ليست الجنة وحدها التي تقبع هناك بل ثمّة جحيماً من نوع خاص والأدهى أن ثمّة أمهات تحت أقدام أنفسهن بسبب الرضوخ للسلطة أيّا كان مصدرها، وأخير يفلت الرجل من السلطة الموسوم بها لتقع المرأة في شرك طغيانها.

قراءة التناص الديني في رواية تحت أقدام الأمهات

د. بدالحكيم الزبيدي -مجلة الإمارات الثقافية  :
التناص الديني في عتبات الرواية
   تبدو رواية "تحت أقدام الأمهات" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى مبنية على التناص الديني منذ العنوان الذي يحيل إلى حديث نبوي شريف مشهور على ألسنة الناس يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "الجنة تحت أقدام الأمهات" للدلالة على عظم حق الأم ووجوب برها الذي يقود إلى رضاء الله عز وجل ومن ثم يؤدي إلى دخول الجنة. وإذا كان الحديث السابق فيه أقوال، فإن هناك حديثاً صحيحاً يتفق معه في المعنى ويختلف في اللفظ، وهو: "أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنةتحترجليها".
   وإن غاب لفظ الجنة من عنوان الرواية، فإن الجنة كانت حاضرة من خلال عناوين الفصول الأربعة للرواية، التي جاءت متضمنة لنعيم الجنة، كما وصفتها الآية الكريمة في قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).وإن كانت الكاتبة لم تحافظ على تسلسل الوصف كما ورد في الآية، فجاءت عناوين فصول الرواية على الترتيب التالي: أنهار من لبن، وعسلٍ مصفى، أنهار من خمر، أنهار من ماء.
   كذلك نلحظ أن الكاتبة استخدمت التناص بصورة معكوسة، إذا جاز التعبير. فقد وضعت إلى جانب العناوين الرئيسة لكل فصل، عناوين فرعية بين قوسين تهدم المعنى المتبادر إلى الذهن من استخدام ذلك التناص مع الآية الكريمة. فعنوان الفصل الأول: "أنهار من لبن"، يحيل إلى الآية الكريمة السابقة، ولكن الآية الكريمة وصفت اللبن بأنه: (لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ)، ولكن الكاتبة وضعت بعد العنوان السابق عنواناً فرعياً بين  قوسين، هو: (تغير طعمه كثيراً). وهي بذلك تعكس المعنى المتبادر إلى الذهن من التناص مع الآية الكريمة، إذ تصدمه بأن هذا اللبن قد (تغير طعمه)، ثم لم تكتفِ بأن جعلته متغيراً، بل جعلته متغيراً (كثيراً).
   وكذلك الشأن في الفصل الثاني، فإلى جانب العنوان الرئيس: "وعسل مصفى"، وضعت عنواناًفرعياً بين قوسين، هو: (وطن الشوائب والدود). فعكست معنى العسل المصفى إلى الوطن المليء بالشوائب، ولم تكتف بذلك أيضاً بل أضافت إليه الدود، لتجعله منفراً، وتمسح أي أثر لمعنى الصفاء فيه.
وهكذا تفعل في عنوان الفصل الثالث: "وأنهار من خمر"، فتضيف إليه: (ثلاث سنوات ولم نسكر). وهي بذلك تجعلها خمراً كخمر الدنيا تسكر وتؤذي، لا كخمر الجنة التي هي لذة للشاربين.
وفي الفصل الرابع، تجعل العنوان الرئيس: "أنهار من ماء"، الذي يستدعي إلى الذهن أنهار الجنة، التي هي: (أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ)، ولكن الكاتبة تصدمنا بعنوان فرعي بين قوسين، هو: (عود ذميم لمجاري الصدأ)، لتجعل الماء آسناً صدئاً، لتنفي عنه كل صفات ماء الجنة.
ونخلص من هذا إلى أن الجنة التي تصورها الرواية، هي جنة معكوسة، كل ما يفترض أن يكون فيها جميلاً نظيفاً ممتعاً، هو عكس ذلك تماماً. كذلك فإن حذف لفظة (الجنة) من العنوان، وجعله هكذا: (تحت أقدام الأمهات) يوحي بالهوان والضعة بذكر الأقدام، وينفي عنها صفة القداسة التي يحيل إليها النص الشريف: (الجنة تحت أقدام الأمهات). فالنص كما هو في الحديث الشريف يوحي بقداسة أقدام الأمهات التي أصبحت الجنة -وهي أعلى منزلة يطمح أن ينالها المسلم- لا تنال إلا بالركوع والخضوع تحت أقدام الأمهات. أما حين حذفت لفظة (الجنة)، فإن النص أصبح يوحي بالهوان والذل، كما أسلفنا، ولعل هذا ما أرادته الكاتبة، كما سنبين عند الحديث عن دلالات التناص في الرواية.
التناص الديني في متن الرواية
   يظهر التناص الديني جلياً في متن الرواية من خلال الألفاظ التي استخدمتها الكاتبة في السرد أوعلى ألسنة شخصيات الرواية، على النحو الذي سنبينه في هذه الدراسة المختصرة. وسنبني دراستنا على محاولة تتبع التناص الديني الوارد في الرواية أولاً، ومن ثم سنحاول أن نتلمس الدلالات التي نحسب أن الكاتبة قد أرادتها منها. وقد تجلى التناص الديني الوارد في الرواية في اقتباس آيات من القرآن الكريم وعبارات من الحديث النبوي الشريف، وقد جاء إما مباشراً، وذلك باقتباس النص القرآني أو الحديث الشريف اقتباساً تاماً كما ورد بألفاظه، وإما غير مباشر، وذلك باستخدام المعنى القرآني أو معنى الحديث الشريف مع التصرف في الألفاظ والصيغة. وسندلل على كل شكل منهما في السطور الآتية.
أولاً: التناص المباشر مع القرآن الكريم:
     ورد التناص المباشر مع آيات من القرآن الكريم في مواطن كثيرة من الرواية. منها ما ورد بتقديم يشير إلى أن ما يأتي آية كريمة، ووضعت بين علامتي تنصيص، كما في قول الكاتبة: (أن تقضي شهلة عدتها في البيت الكبير بحسب ما تقتضي الآية القرآنية (لا تخرجوهن من بيوتهن)).
   والآية بتمامها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ). وواضح من السرد مدى إلمام الكاتبة بفقه الطلاق وبتفسير الآية الكريمة.
   قال الزمخشري في تفسير الآية: "(لا تخرجوهن) حتى تنقضي عدتهن (من بيوتهن) من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة، وهي بيوت الأزواج". ولكن ورود الآية على لسان (رقية)، وهي الفتاة اللقيطة التي تعمل في البيت أشبه بالخادمة، فإن ذلك –في رأيي- غير موفق، إذ لا يتناسب مع ثقافتها، التي من المفترض أن تكون متواضعة.
   وتكاد تكون هذه الآية هي الموضع الوحيد الذي ورد فيه النص على أنه اقتباس قرآني مباشر، إذ نجد الاقتباسات الأخرى ترد دون نص على أنها من القرآن الكريم، ولكن ورودها بالألفاظ القرآنية نفسها جعلنا ندرجها ضمن التناص المباشر. فمن ذلكقول الكاتبة: (سَلامٌ قَوْلا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ)، الذي ورد على لسان العجوز (غيضة) حين رأت قصاصات الورق تلاحق يد فهاد، ترتفع إذا رفع يده وتهبط إذا أهبط يده. وقولها على لسان أم فاطمة حين سألتها ابنتها لماذا فهاد متميز عن بقية الناس؟ فردت الأم: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء). وقولها: (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ). حيث وردت الآية الكريمة بين قوسين مزخرفين للدلالة على أنها نص قرآني، وقد وضعتها الكاتبة تحت عنوان القسم الأول من الفصل الثالث (رقية)، وكأنها عنوان فرعي.
     وقد دأبت الكاتبة على جعل اسم الشخصية التي يدور السرد حولها أو على لسانهاعنواناً للقسم.ولكن الملاحظ أن الفصل الثالث بكامله قد جاء على لسان (رقية) إذ تولت السرد لأقسامه الستة عشرة. وفي هذا الفصل يتم سرد تفاصيل سجن فهاد بسبب قتله لرجل، وأثر ذلك على النساء في البيت اللواتي أصبحن في حالة سيئة، تصدق عليهن فيه هذه الآية الكريمة التي تتحدث عن قوم هود الذين أهلكهم الله بالريح العقيم.
ثانياً: التناص غير المباشر مع القرآن الكريم:
    أما التناص غير المباشر من القرآن الكريم، فكثير نكتفي منه ببعض النماذج للتمثيل. فمن ذلك قولها( ): (بعد أن حرمت عليه المراضع). ففيه إحالة إلى قول الله تعالى حكاية عن نبي الله موسى عليه السلام: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ). والعبارة جاءت في الرواية على لسان (هيلة) بعد أن أرضعت الطفل (فهاد) لأن أمه لم تستطع أن ترضعه، وقد حرمت جدته على عمتيه (هيلة) و(نورة) أن يرضعنه حتىلا يصبح أخاً من الرضاعة لابنتيهما فيمتنع عليه الزواج بإحداهما، ولذلك جاء استدعاء الآية مناسباً جداً للسياق، ومتسقاً معه.
ومن ذلك أيضاً قولها: (أوصت غيضة الحوامل الثلاثة بأن يدخلن من أبواب متفرقة). ففيه إحالة إلى قول الله تعالى على لسان النبي يعقوب –عليه السلام- يوصي أولاده حين أرسلهم إلى مصر ليمتاروا في سني القحط: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ). وكان سبب ذلك كما ورد في تفسير ابن كثير أنه خشي عليهم من العين: (قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَغَيْر وَاحِد إِنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِمْ الْعَيْن وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي جَمَال وَهَيْئَة حَسَنَة وَمَنْظَر وَبَهَاء فَخَشِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبهُمْ النَّاس بِعُيُونِهِمْ). وهو السبب نفسه الذي جعل (غيضة) تطلب من الحوامل الثلاث أن لا يدخلن من باب واحد خوفاً عليهن من العين.
ومن ذلك أيضاً قولها: (أن يفجر من تحتها أنهار الخمر والعسل). ففيه تناص غير مباشر مع أكثر من آية في القرآن تتحدث عن تفجير الأنهار، مثل قوله تعالى: (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ). وفيه أيضاً إحالة إلى آية أنهار الخمر والعسل التي سبقت الإشارة إليها في صدر المقال. وشبيه بها قولها: (كانت أنهار الجنة تجري من تحته) ففيه تناص غير مباشر مع قول الله تعالى: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)( ). وقد جاءت العبارة على لسان (رقية) تصف الجنة التي أرادت العجوز (غيضة) أن تنشأها لعائلتها: (استطاعت العجوز خلال أربعة أشهر أن تدشن جنتها الموعودة، وأن تجري من تحتها أنهار الخمر والعسل). ولكن سيتضح فيما بعد أن هذه الجنة كانت معكوسة النعيم.
   ومن ذلك أيضاً قولها على لسان (رقية) تصف (شهلة) أم (فهاد) بعد أن ساءت حالتها الصحية، وتضاعف وزنها: (حال المرأة التي تحمل في جسدها سبع بقرات سمان). ففيه تناص غير مباشر مع قول الله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).
    وقولها على لسان (رقية) متحدثة عن العجوز (غيضة): (لم تهش علي بعصاها الخشبية)، ففيه إشارة إلى قول الله تعالى على لسان سيدنا عليه السلام: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى). وهو كناية عن أن (غيضة) كانت تعاملها معاملة الأغنام، ولكنها في تلك الحالة لم تفعل لأنها كانت تمر بحالة نفسية صعبة بعد سجن فهاد. قال الزمخشري في تفسير الكشاف: (وأهش بها على غنمي) هش الورق: خبطه أي: أخبطه على رؤوس غنمي تأكله.
    ومن ذلك أيضاً قولها على لسان (رقية) تصف رأي (هيلة) في عدم جواز الاحتفال بعيد الميلاد: (ولأن كوننا أحياء هو دليل قاطع على قلة عقولنا، لأننا رضينا بحمل الرسالة التي أشفقت منها السموات والأرض وأبين أن يحملنها وحملها الإنسان .."إنه كن ظلوماً جهولاً"). ففيه إشارة إلى قول الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا).ومرة أخرى ترد هذه الآية وهذا المعنى الشرعي الدقيق على لسان (رقية)، وإن كان وروده حكاية عن (هيلة) يخفف من عدم اتساقه مع الشخصية.
    ومن ذلك قولها: (عالم النساء السباحات سبحاً السابقات سبقاً المدبرات أمراً)، ففيه تناص غير مباشر مع قول الله تعالى( ): (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا). ومرة أخرى وردت الآية على لسان (رقية). ولا ندري ما الذي تقصده الكاتبة من جعل هذه الصفات للنساء؟ وهي كما يقول المفسرون صفات للملائكة. فهل أرادت الكاتبة أن  النساء يقمن بدور الملائكة، فيقبضن الأرواح وينفذن قضاء الله في تدبير الكون؟.
    ومن ذلك قولهاعلى لسان (موضي) تصف حالتها عندما فرت من أمها وذهبت لتقابل (فهاد) رغم عدم موافقة أمها: (بفستاني الذي قد من دبر)، ففيه تناص مع قول الله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)( ). وكانت قد وصفت عراكها مع أمها في الجزء السابق، ومنه ما يخص أمر الفستان: (أركض، تسبقني إلى الباب، تشدني من فستاني، أدفعها، يرتطم رأسها بالجدار .. أفتح الباب..)..إلخ. وفيه إحالة إلى قصة (يوسف) عليه السلام مع امرأة العزيز، حين استبقا الباب، وحاولت الإمساك به من الخلف، فقدت قميصه من دبر. وفي استدعاء قصة (يوسف) عليه السلام مع امرأة العزيز ما يشير إلى التشابه بينهما، فكما كانت امرأة العزيز في حالة وله وعشق ليوسف، كانت (موضي) في حالة عشق ووله بفهاد، حتى أنها أغلظت القول لأمها التي حاولت منعها بالإقناع أولاً، فلما لم تفلح حاولت منعها بالقوة، وشدتها من فستانها فقدته. إلا أن الحالة معكوسة إذ قد فستان (موضي)، وليس قميص (فهاد)، ولكن الكاتبة أفلحت في الاستفادة من النص القرآني، بتصوير استيلاء العشق على (موضي) حتى منعها من التفكير، وجعلها تعصي أمها، وتمضي للقاء (فهاد) في سطح المنزل.
ثالثاً: التناص غير المباشر مع الحديث الشريف:
     لم يرد في الرواية تناص مباشر مع الحديث الشريف، ونقصد بذلك أن يرد قبله ما يدل على أن النص التالي هو حديث شريف، كعبارة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو ما شابهها. وإن كانت قد وردت بعض العبارات المشهورة بين الناس على أنها أحاديث بين علامتي تنصيص، ولكنا أدرجناها ضمن التناص غير المباشر، لأن الكاتبة لم تنص على أنها أحاديث.
    فمن تلك الاقتباسات التي وردت بين علامتي تنصيص، قول الكاتبة على لسان (رقية) حكاية عن العجوز (غيضة): (وأنه واجب ديني على كل أم وأب، أن يعلما أولادهما "السباحة والرماية وركوب الخيل")، وذلك عندما اعترضت النساء الثلاث حين أهدت العجوز (فهاد) بندقية صيد لما بلغ الخامسة عشرة من عمره، فما ورد بين علامتي التنصيص هو قول مشهور على ألسنة الناس على أنه حديث، وإن كان هناك من المحدثين من ضعفه. واستدعاء هذا القول المأثور متناسب مع السياق، حيث بررت به العجوز سبب إهدائها البندقية لحفيدها أنها تفعل ذلك عملاً بتعاليم الدين التي توصي بتعليم الأبناء الرماية.
أما التناص غير المباشر فأمثلته كثيرة في الرواية، فمن ذلك قول الكاتبة على لسان (نورة): (وصوت آثم في أعماقي يخبرني بأنني أقسمت على اجتراح المستحيل دون رغبة مني، وبأنني لأجل ذلك سأكب على وجهي في النار) ففيه إحالة إلى قول الله الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الحديث المشهور: (وهل يكب الناس في النارعلى وجوههم إلا حصائد ألسنتهم). وهي تقصد ما جعلتها أمها العجوز (غيضة) تقسم عليه هي وأختها (هيلة) وزوجة أخيها (شهلة)، بأن يقسمن حبهن بالتساوي بين أطفالهن (فهاد) و(فطومة) و(مضاوي)، دون أن تؤثر إحداهن ابنها أو بنتها بمعاملة خاصة. والتناص متناسب مع المعنى المراد من الحديث، فالحديث يتحدث عن أن ما يصدر عن اللسان هو أكثر ما يكب الناس على وجوههم في النار، و(نورة) أقسمت، ولكن ليس من قلبها بل من لسانها فقط، لذلك فهي تخشى عاقبة ذلك.
   ومن ذلك قولها على لسان (نورة) أيضاً: (كثيراً ما رددت علينا أمنا بأن الله يحاسب عباده على ديونهم حتى الشهداء)، ففيه إشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يُغفر للشهيد كل ذنب، إلا الدين).والعبارة وردت حكاية عن العجوز (غيضة) للنساء الثلاث وهو أن أي واحدة تفرط في القسمة العادلة للحب بين الأطفال الثلاثة، ستثقل كاهنها بدين، ولن يسامحها الله في ذلك الدين، لأن الله لا يسامح حتى الشهيد –على عظم منزلته عند الله- على الدين.
     ومن ذلك قولها على لسان (فهاد) حين عاد مرتجفاً بعد أن قتل عامل البناء ببندقية الصيد: (اندس تحت لحاف جدته وراح ينادي على أمهاته أن دثروني)، ففيه تناص مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي لأول مرة: ( جاورتُ بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني، وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فنزلت: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر})( ). وقد وردت تلك العبارة في الرواية على سبيل التهكم والسخرية، حيث قالت الكاتبة بعده: (تحققت النبوءة إذن حين شب الإبن على أبيه قاتلاً وبجدارة). فكأن قوله: (دثروني)، كان علامة على تحقق النبوءة، كما كان قول النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بدءاً بتلقيه الوحي.
ومن ذلك قولها تصف (فهاد): (وابتسم حتى بانت نواجذه). وفيه تناص غير مباشر مع كثير من الأحاديث الشريفة التي وردت فيهاهذه العبارة: (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه). وذلك حين سأل (فهاد) (موضي) إن كانت قد اشتاقت له أثناء غيابه في السجن، وحين قالت: يعني، قال لها: كذابة، ثم ابتسم حتى بدت نواجذه. على أن الوارد في الحديث هو أنه (ضحك حتى بدت نواجذه)، أما في الرواية ففهاد (ابتسم حتى بانت نواجذه)، والابتسام لا يؤدي إلى ظهور النواجذ، إذ النواجذ هي أقصى الأضراس، وهي ما تعرف اليوم بضروس العقل، ولا تظهر عند مجرد التبسم، بل عند الضحك. وإن كان بعض المفسرين قد حمل النواجذ في الحديث على الأنياب، لأن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا تبسماً، ومن حمله على الأضراس، أوله أنه على المبالغة لا على الحقيقة.
دلالات التناص في الرواية
    بعد استعراض أشكال التناص الديني الواردة في الرواية، يجدر بنا أن نتساءل عن دلالات تلك التناصات، وعلاقتها بفكرة وموضوع الرواية. وينبغي أن نقر هنا إلى أنه ليس لدينا دليل قطعي نستطيع من خلاله التأكيد على ما سنقوله، ولكننا سنجتهد أن نستنبط تلك الدلالات، ونأمل أن نوفق في هذه الاستدلالات وإلا فحسبنا أننا بذلنا الوسع واستنفذنا الطاقة، ويبقى العمل الأدبي دائماً مفتوحاً على كل التفسيرات والتحليلات.
أشرنا في صدر هذه الدراسة إلى أن الكاتبة جعلت من مكان الرواية في ذهن بطلتها وأهم شخصية فيها وهي الجدة (غيضة) جنة تجري من تحتها الأنهار. ولكن الكاتبة –كما أسلفنا أيضاً- جعلت هذه الجنة معكوسة، فكل ما في نعيم الجنة من صفات الجمال والكمال ينعكس في جنة (غيضة). فالماء آسن، والعسل تشوبه الشوائب، والخمر ليس لذة للشاربين. كذلك فإن حذف عبارة (الجنة) من العنوان وجعله فقط: (تحت أقدام الأمهات)، يوحي بالضعة والمهانة والذل، بدلاً من التقديس والتبجيل. فماذا أرادت الكاتبة من كل ذلك؟ لتلمس تلك الأسباب، يجدر بنا أن نلخص أحداث الرواية في أسطر قليلة، لنحاول أن نستشف منها مراد الكاتبة.
   تتحدث الرواية عن الجنة التي استطاعت غيضة أن تدشنها في بيتها بعد أن غيرت في تصميمه، وجهزته ليكون الجنة الموعودة التي سينشأ ويتربى فيها حفيدها (فهاد بن علي)، الذي فقد أباه وهو في بطن أمه (شهلة)، وأصرت الجدة على أن تبقى أمه مقيمة معها لينشأ (فهاد) على عينها، فأطاعتها الأم رغم اعتراض أهلها فغضبوا عليها وانقطعت صلتها بهم. ويعيش معهم في المنزل ابنتا العجوز (هيلة) وابنتها (فاطمة) و(نورة) وابنتها (موضي)، بالإضافة إلى (رقية) وهي فتاة سمراء تبنتها العجوز بعد أن وجدتها تركض في الشارع أثناء أحداث الغزو العراقي للكويت عام 1990م، وأصبحت كالخادمة في المنزل. وتفرض العجوز (غيضة) التي تنتمي إلى قبيلة بدوية، وتزوجت وهي في التاسعة من عمرها وزفت إلى عريسها وهي في الرابعة عشرة من عمرها، سيطرتها على كل من في المنزل، فلا يستطيع أحد أن يناقشها أو يعترض على أوامرها. ونظراً لأنها عاشت في جيل قديم توارث عادات ومعتقدات، قد أصبحت اليوم محل تساؤل وجدل، ولم تعد من المسلمات، فإن صراعاً خفياً ينشأ بين النساء اللواتي يتطلعن إلى الحرية خارج هذا السجن الذي ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، وعدم قدرتهن على التمرد نظراً لعدم وجود المعين. فـ(شهلة) تخلى عنها أهلها ولم يعد لديها من تلجأ إليه، و(نورة) تعيش مع زوجها المشغول بسهراته وملذاته متخلياً عن واجبه نحو أسرته، و(هيلة) تعيش بلا زوج، و(رقية) لا تعرف لها أهلاً.
وتجعل العجوز محور الحياة في المنزل/الجنة هو (فهاد) فالكل عليه أن يعمل على تلبية طلباته فهو رجل البيت وسيده المطاع رغم أنه طفل صغير، فينشأ (فهاد) وهو يرى أنه فوق الجميع. وحين يبلغ الخامسة عشرة تهدي له جدته بندقية والده، فيلعب بها مع أصحابه، ولكن يحب مرة أن يجرب أن يقتل بها رجلاً، فيصوبها نحو عامل بناء فيرديه قتيلاً، ويحكم على (فهاد) بالسجن ثلاث سنوات. وحين يخرج من السجن يجد الطفلتين: (فاطمة) و(موضي) قد أصبحتا فتاتين ناضجتين، وأخذتا تتنافسان على كسب وده، فيختار أولاً (مضاوي) ولكنه يتركها حين تخبره برغبتها في مواصلة الدراسة، ومن ثم رغبتها في العمل. ثم يختار (فاطمة) ويتزوجها. وهنا تلجأ (مضاوي) لأمها التي كانت تحذرها من (فهاد) ولكنها لم تستمع إليها، تعود إليها نادمة، وتقترح الأم على ابنتها أن تتصل بأبيها ليأتي ويأخذهما إلى حيث يعيش مع زوجته الأخرى، ولكنها بعد ذلك تتراجع، وتقرر أن تغادر مع ابنتها إلى حيث يعيشان حياة خاصة بهما وحدهما.
    والذي يظهر لي أن الكاتبة قد أرادت أن تقول أن حياة المرأة التي تعيش تحت مظلة الرجل هي حياة ظل، وأنه ينبغي على المرأة أن تتخلص من ذلك القيد الذي يجعلها تابعة للرجل، تأتمر بأمره، وتعيش تحت ظله، فإن كان كريماً بطبعه أكرمها، وإن كان لئيماً أهانها.
     ويبدو كذلك أن الكاتبة تلوم المرأة وتتهمها بأنها هي التي أعطت كل تلك السلطات للرجل، فأخذ يعتبر نفسه الحاكم المطلق الذي لا يرد له طلب. فالعجوز (غيضة) هي التي نشأت حفيدها (فهاد) على تلك الصفة، وجعلت من حوله يعامله على أنه (الحاكم بأمره) الذي يكون هوى الجميع تبعاً لهواه. فالطفلتان يجب أن تربيا بطريقة خاصة حتى  يختار منهما (فهاد) عروسة المستقبل، ولا يهم مشاعر تلك التي لا يقع عليها الاختيار ولا يهم مصيرها. و(نورة) أم (موضي) ضلت تنتظر الحل أن يأتيها من زوجها الذي أهملها هي وابنتها وتركهما تتجرعان تسلط الجدة. وهكذا لم يأت الحل إلا حينما قررت (نورة) أن تأخذ ابنتها إلى عالم آخر وأن تعيشا معاً بمفردهما تواجهان مصاعب الحياة وتتقاسمان النجاح والفشل.
   من منطلق هذا الفهم لمغزى الرواية، نستطيع أن نؤول التناص الديني الوارد فيها. واعتماداً على ثقافة الكاتبة الدينية العميقة التي تتضح جلياً من خلال الرواية، فإننا سنبني تصورنا على أن الكاتبة ذات أيديولوجية متسقة مع الدين الإسلامي، وبناء عليه، فإننا سنؤول التناص الوارد في الرواية بأن تصور مجتمع الرواية وفهمه لمنزلة المرأة في الإسلام، هو فهم وتصور خاطئ يحمل من العادات والتقاليد البدوية التي تربت عليها العجوز (غيضة) أكثر مما يحمل من تعاليم الإسلام الذي كرم المرأة وجعل الجنة –وهي أسمى ما يطمح إليه المؤمن- تحت قدميها. وأن الجنة التي خلقتها (غيضة) هي جنة معكوسة عن الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين، وجعل الوصول إليها يمر من تحت قدمي المرأة. فعلى المرأة أن تعي هذه المكانة السامية لها التي وضعها الإسلام فيها، وأن لا تتنازل عن حقوقها التي كفلها لها الشرع الحكيم، وأن تجاهد من أجل  الحصول عليها.
ويبقى للقارئ - بعد ذلك- الحق في أن يفسر التناص على النحو الذي يراه مناسباً، وبذلك تتعدد قراءات الرواية، وذلك من علامات نجاحها بلا شك.



ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة