السبت، 6 أغسطس 2016

لقاء مع رائد الثقافة في البطنان الأستاذ أحمد مصطفى بوقعيقيص ...


لقاء مع رائد الثقافة في البطـــنان

 الأستاذ أحمد مصطفى بوقعيقيص

التقاه : عوض الشاعري - نشر بصحيقة البطنان - يوم السبت 8 من شهر يوليو 2000 م - ركن البطنان الثقافي -  الصفحة الرابعة : 

   رغم أن الشعر كان ولا يزال هو ديوان العرب الذي سجلوا فيه أخبارهم التاريخية والاجتماعية ، وعلى الرغم من اهتمامهم بشعرائهم الذين يعدون مناط شرفهم وفخرهم لما يسجلونه من مناقب وأمجاد أقوامهم ، ومثالب خصومهم وأعدائهم .. إلا أن هذا الديوان مُنيَ على مر التاريخ بانتكاسات وفترات انحطاط ، لعل آخرها هذه المرحلة التي بدأ فيها أبناء العربية وشعراءها بالركض وراء نماذج مغايرة لطبيعة العربي وسليقته ، وتبني أنماط شعرية تخص أمماً أخرى لا ترتبط بحضارتنا أو ثقافتنا أو ظروفنا الاجتماعية ، ونسوا أو تناسوا أن دائرة الشعر العربي تتسع لكل الأذواق والاتجاهات .

  وفي هذه الأجواء آثر الكثير من الشعراء الحقيقيين أن يربأوا بتجاربهم الأصيلة عن الخوض في غمار هذا النكوص أو التقهقر الثقافي ـ إن صح التعبير ـ وأن يترفعوا عن هذه الأساليب التي تخرج عن الصور الطبيعية والمقاييس الجمالية التي رسمها الأقدمون .

من بين هؤلاء : الشاعر أحمد مصطفى بوقعيقيص 


   وهو صاحب تجربة متفردة في عالم الشعر ، رغم تواضعه الجم الذي كان حائلاً بينه وبين نشر أعماله الشعرية على مدى أكثر من أربعين عاماً ، والتي تربو على خمسة دواوين هي برأيي تنافس عيون الشعر العربي جودة وقيمة فنية .

    وصاحب هذه التجربة ذو صلة وثيقة بالحركة الثقافية في منطقتنا ، ولا أكون مجانباً للحقيقة إذا قلت أنه "الأب الروحي" لمعظم أدباء وكتاب البطنان (طبرق ) لما له من عظيم الأثر في تجاربهم الإبداعية ، من خلال إرشاداته ونصائحه ورعايته لجل المواهب التي تتلمس الطريق نحو عالم الإبداع في مدينتنا طبرق ، وهو شاعر موهوب غزير الإحساس والصور الفنية النادرة ، إلى جانب إنه ذو طبع إنساني ممتاز يجعله محل تقدير و إعجاب كل من يعرفه .

حياته :

   عندما نستعرض مسيرة شاعرنا الكبير أ. "أحمد مصطفى بوقعيقيص" نجد أنه أبصر النور بمدينة طبرق عندما تسللت أولى نسائم الحياة إلى رئتيه عام 1938م (1)  ، وما أن بدأ يخطو خطواته الأولى على ثرى هذه الأرض حتى ارتحلت عائلته مع غالبية العائلات الطبرقية إلى "زاوية المرصص" غربي طبرق عند اندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية .

   وفي زاوية المرصص بدأ تعلُم أبجدية الكلام ، ثم أردفها بأبجدية الكتابة ، هناك في خيمة متواضعة نصبها الأهالي الظامئون لرحيق العلم ، وبجهود ابن درنة البار المرحوم " أحمد لياس " اصطف التلاميذ تحت أروقتها رغم تفاوت أعمارهم ، وبكتب منهجية بسيطة في المطالعة والتهجي درس صاحبنا حتى نهاية الصف الثاني ، وفي عام 1948م وعندما عادت أسرته إلى مدينة طبرق ، التحق بمدرستها الوحيدة آنذاك ( المستشفى العسكري ) وواصل دراسته بها حتى نهاية تأهيلها وهو الصف السادس الابتدائي ، ودرس الحساب و اللغة العربية وغيرها ، ثم توجه إلى القسم الداخلي بمدينة "سوسة" ومكث إلى نهاية العام الدراسي ، ودفعته ميوله الأدبية وعشقه للغة العربية إلى مواصلة المشوار ، ومن النقاط البارزة في هذه المرحلة والتي أثرت في حياته ، وجود مكتبة : مكتبة كامل الكيلاني" للأطفال ، حيث تنامى لديه حب الكتاب والاطلاع ، ثم توجه إلى مدينة بنغازي عام 1956م والتحق بالقسم الداخلي بمدرسة النهضة " توريللي " لمدة عامين دراسيين وفي ذلك الوقت أُعلِن عن مسابقة عامة للتدريس ، اجتاز اختبارها شاعرنا بنجاح ، وتم تعيينه مدرساً للغة العربية و الدين بمدينة امساعد ، ومكث هناك ثلاث سنوات ، وكان لهذه الفترة الفضل في تثقيفه والتصاقه أكثر بالكتب والمطبوعات ، كما راح يحرص على تطبيق القواعد النحوية على النصوص ، فلم يكن يدرس القواعد لغرض النجاح في الامتحان فقط ، وهو يرجع فضل هذه الطريقة التعليمية لأستاذه "مصطفى الطرابلسي" ، ثم بدأ يعكف على كتب النحو ويستوعب كل قراءاته ، ويلم إلماماً كافياً بكل الإشكاليات النحوية والصرفية .

   ومن "امساعد" يعود إلى طبرق ليدرِّس بمدرسة "المجد" لمدة ثلاث سنوات ، وفي عام 1965م تفتتح "مكتبة طبرق العامة" ويختاره المرحوم محمد عبدالغفار للعمل معه ، ويبدأ في تنظيم الكتب وفهرستها وتصنيفها وترقيمها وصيانة أغلفتها في مقر المكتبة السابق " الملاصق لمصرف الجمهورية " حالياً ، وبعد أن وصل المرحوم " محمد عبدالغفار" إلى سن التقاعد تولى بوقعيقيص أمانة المكتبة ، وفي عام 1982م انتقلت المكتبة إلى مقرها الحالي ، ويفانى شاعرنا في عمله ومحافظته على هذا التراث العظيم من الكتب العلمية والأدبية و الدينية والتاريخية ، ويظل مثالاً يحتذى به في المواظبة على فتح المكتبة في مواعيد منضبطة ، ويستقبل كل روادها ببشاشته المعتادة ، ولا يتواني عن تقديم المعلومة والإجابة على الأسئلة التي يحتاج إليها طلاب العلم والمعرفة .

حكايته مع الأدب

   كان والده رحمه الله على صلة ببعض الإخوة العرب المتواجدين بمدينة طبرق آنذاك، وكان يجلب له بعض المطبوعات الأدبية و الشعرية مما أصَّل لدى شاعرنا عشق الشعر، فعندما وقع بين يديه ديوان ( مجنون ليل ) رغم رداءة طباعته حفظه عن ظهر قلب، وعندما تحصل على ديوان كامل للمتنبي كان كمن عثر على كنز ثمين فحفظه وتأثر به، و كان لعملية الحفظ دور في ترسيخ ملكة الشعر لديه .. ثم راح يطلع على دراسات ( عِلم العروض ) ليصحح مساره وهو يري أن ( العروض ) لا يخلق شاعراً، وإن الموهبة الحقيقة هي التي نفرض وجودها ومن ثم يأتي دور العروض ليضع الموهبة على الطريق الصحيح ، ودليله أن الشعر وجِد قبل أن يوضع علم ( العروض ) .. وكانت علاقته بالشعر سماعية من خلال حفظ الكثير من المعلقات وروائع الشعر الذي كان يستهويه لدرجة أن أستاذه المرحوم ( أحمد لياس ) كان يأتي إلى المدرسة ومعه إحدى الصحف التي كانت تنشر أشعار ( إبراهيم الأسطى عمر ) ويتلوها على طلابه، وكان أحمد بوقعيقيص ينفعل بها ويتفاعل معها بعمق بالغ . 

 نماذج من شعره

   ويشاكسه الشعر ويناوشه ويستدرجه في لحظة من لحظات القلق .. وفي أحد مساءات عام 1958م يسجل شاعرنا باكورة خلجاته في مفكرته مناجياً ( نجمه الأثير ) 

هجع النيام وفكري مضطرب شريد    وبقيت وحدي ساهراً بين الرقود 

متطلــــــعاً للنجــــــم أساله المزيد     في أن يقص علي لأواء الوجود 

    وينساب الشعر على لسانه كانسياب جدول رقراق وتداعبه الذكرى فيحن إلي ربعٍ من مرابع الصبا، ووقفاته مع أصائل (سوسة) ومساءاتها وصباحاتها المضمخة بعبق الجبل الأخضر الأشم ونسائمه العليلة التي تنعش القلوب وتعانق الأرواح فينشد : 

تَـذّكَّـرْتُــهُ عَــامــاً بِـسُـوسَــةَ حَـالِـيَــا
بِعَهْـدِ صِبَـاً وَلَّـى وَهَــلْ كُـنْـتُ نَاسِـيَـا
لَيـالِـيَ كَــانَ الـقَـلْـبُ هَـيْـمَـانَ وَاثِـبــاً
بِأحَـلامِـهِ جَـــذْلَانَ بِالـعَـيْـشِ رَاضِـيَــا
تُهَـدْهِـدُنِـي الآمَــــالُ وَهْــــيَ كَـثِـيــرَةٌ
فَـأَغْـرَقُ فِيـهَـا نَـاعِــمَ الْـبَــالِ غَـافِـيَـا
ويَقْـتَـادُنِـي شَـــوْقُ الْـحَـيــاةِ مَـلِـيـئَـةً
بِنُـعْـمَـى وَأحْــــلامٌ تَــجُــوبُ خَـيـالـيَـا
أَسُـوسَـةُ يَــا مَـهْـدَاً لـذِكْـرَى وَعَيْتُـهَـا
بِقَلْـبِـي إِلـيـكِ الْـيَــومَ أُزْجِـــي ثَنَـائِـيَـا

    ويستمر هذا العازف يصدح بألحانه وفي سرية تامة بعيداً عن هالات الضوء الخادعة وكرنفالات المواسم المحصودة سلفاً .. وظل يغرد وحيداً .. وحيداً حتى يستسلم بسلاسة لداعي الحزن الذي حمله على أعتاب طفولته ومأساة فقد والدته مبكراً ، فتهتاج ذاكرته التي اختزنت أحزانه وأجَّلتها في أحضانها الغضة حتى حين ، وتضطرم جوانحه الكسيرة فيختلي بقريحته المسهدة ذات ليلة ويبث أشجانه في إطار من أسي شفيف تردده .

 أصداء الليل 

 أيّها الليل يا غريب المساء       مثل روحي ويا سمير الخفاء 

أيّها اللـيل يا نجــي الأماني       ضائــــعات مخيـــبات الرجاء 

قد أويت إلى حــماك بقلبي        أنا منه في حــيرة عمــــــياء 

مزمهر النجوم فيك غريب        ساهم اللمـح مكفـهر الضـياء 

   ويمتطي شاعرنا صهوة الشعر ويطوف أرجاء لغتنا الجميلة يمتح من ينابيعها الصافية بشغف، ويغوص في بحورها مستخرجاً أنفس الدرر وأثمن اللآليء .. معتنياً بموسيقاها وألحانها مستكشفاً صورها وتراكيبها الجمالية الراقية التى تخلب الألباب وتأسر الأفئدة، فيرتل أرجوزته الرائعة في مدح الرسول صلي الله عليه وسلم ، ويحلق في فضاءات الشعر بجدارة واقتدار يداعب أوتار قيثارته الشجية بشفافية وتسامي، ولا ينسى شاعرنا ( مئوية ميلاد العقاد ) أديبه الأثير .. ذلك الرجل العصامي الذي أصبح علامة فارقة في أدبنا العربي وركناً من أركان ثقافتنا الأصيلة، رغم انه لم ينل سوى قسط يسير من التعليم ، معترفاً بفضله وتأثيره على تجربة الإبداعية ودور كتابته في تثقيفه ونوعيته وبلورة أفكاره .. فيتغني في رحاب العقاد : 

إني مدين لفـكر مـــــنك زودني         بــــثروة ثـرة ليســـت من النشــــبِ

لكنـــها ثروة للعقــل نافـــــــعة         لأنـّـها ثــــــروة في الفـــــكر والأدب 

علمتنا يا فــتى أسوان سابــقة         في الفضل مضمونها الإدراك بالتعب 

قرأت فــكرك مأخـوذاً بروعته         فيــما انقــضى عــجب إلا إلى عـجب 

وجدت مجتمعاً ما كان مفترقاً         في فكر غيرك ليس الصـقر كالخرب

  ومازال ( أحمد بوقعيقيص ) يشدو بألحانه مطرباً أصدقائه ومحبي فنه و قصائده، بعيداً عن النشر، يلوذ بنفائسه الكريمة في أعماق وجدانه، وبين أدراج خزائنه ... ونحن إذ يسرنا ويسعدنا أن نسطر هذه الكلمات المخلصة نتمنى على أستاذنا الفاضل ( أحمد بوقعيقيص ) أن يكرر هذه الاستضافة الكريمة .. لأنه كان ومازال ولفترة طويلة محوراً من محاور الحركة الثقافية في ربوع منطقة البطنان الغنية بالمواهب والإبداعات في شتي فروع الأدب والفكر والثقافة .. أمد الله في عمره وجزاه هنا خير الثواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ولد الأستاذ أحمد  يوم الاثنين 18 من ذي القعدة 1357 هـ الموافق 20 يناير 1938م .

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة