الخميس، 29 أكتوبر 2015

النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد - الفصل الرابع - د. عبدالله أبوهيف



النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد


د. عبدالله أبوهيف

منشورات اتحاد الكتاب العرب



2000م


الفصل الرابع :الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها

   انتشرت الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها انتشاراً كبيراً في الثمانينيات، وكانت طلائعها البنيوية منظورة في نقد الشعر، على الرغم من محاصرة النقد الواقعي والإيديولوجي، إذ ترجم كتاب غارودي «البنيوية: فلسفة موت الإنسان De La Methode Structurale A La Phillosophie De La Mort DE L’Homme» (1969 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1979)، مثلما نشرت «الطريق» (بيروت) أكثر من مقالة تدين البنيوية ومثيلاتها، وما تمحور حول جماعة «تيل كل» الفرنسية، مترجمة عن مجلة «قضايا أدبية» السوفييتية، أو مؤلفة على استحياء، اصطفافاً خلف متاريس النقد الواقعي والإيديولوجي، ولا طائل من إيراد الشواهد على ذلك، فهي كثيرة، فليس ذلك مهماً الآن، لأن المتغيرات دهمت الكثيرين، كما أسلفنا، وكما سنوضح ذلك لاحقاً أيضاً، ولأن الكثيرين من دعاة النقد الواقعي والإيديولوجي بدلوا أدواتهم ومناهجهم، أو حاولوا تكييفها لمقتضيات هذه المتغيرات، مثلما أخذ غالبية النقاد والباحثين بهذه الاتجاهات الجديدة، منشغلين على صياغة منهجية، على تفاوت فيما بينهم، ارتباكاً أو انبهاراً، وهو الأكثر، ورصانة وتركيباً جديداً، وهم الأقل، وهذا عائد للموقف من هذه الاتجاهات الجديدة في الفكر الأدبي التي تبدو متطرفة ومغالية في فهم الظاهرة الأدبية، وفي كشف المعنى الأدبي، فقد أصبحنا نقرأ نقداً أدبياً يستعير أدوات العلوم الأخرى غير الإنسانية كالرياضيات والهندسة وسوى ذلك حتى غدت الأبحاث النقدية ميداناً للأشكال الهندسية والرموز والإشارات التي تنتمي إلى طبيعة غير أدبية كما هو الحال مع الاتجاهات الحداثية كالبنيوية واللسانية والتفكيكية، ثم لازم هذه الاتجاهات نزوع إلى التباس المصطلح بحكم قلقلته وعدم الاتفاق عليه، ونزوع إلى الاستهانة بالدلالة المعبرة عن حكمة التجربة الإنسانية، ونزوع إلى خطاب نخبوي يبتعد عن القارئ العادي ليستغرق في معنى خاص هو أشبه بالأسرار والطلاسم من خلال الإلحاح على فهم استعاري أو كنائي للمعنى الأدبي.

    ولا شك أنها ظاهرة عالمية جعلت دعاة التقاليد الأدبية يتوجسون خيفة من انتشار هذه الاتجاهات المهددة للمعنى الأدبي. فقد التفت الكثيرون إلى مأزق الفكر الأدبي الجديد مع مطلع الخمسينيات، ولاحظ بعضهم أن التفكير الأدبي منذ أوائل الخمسينيات يتصف بصفتين سائدتين، أولاهما أنه تخلى عن زعمه أن مكانه في مركز الدراسات الإنسانية أو قريباً منه، وقنع فيما يبدو إلى مكان جانبي.

   أما الصفة الثانية، وهي وثيقة الصلة بالأولى فهي أنه توقف عامداً عن أن يظهر بمظهر الذي يضيف حقائق هامة عن الطبيعة البشرية، فهو في تحمسه لعلاقاته بفروع المعرفة الأخرى تحول ذاته إلى لون من اللعب، وهذه نتيجة تكاد تكون ضرورية لتخليه عن زعمه بأن منزلته هي المركز بالنسبة إلى الأشياء، فحين فقد ثقته بمركزه من حيث هو معرفة تحول إلى ضرب، على الأقل، رأي المناهضين لها، وهذا من التسلية.

   إن هاتين الصفتين اللتين جرى تمحيصهما من قبل ناقد معتبر هو جورج واطسن، ألحقهما بخلاصة لا ترضي دعاة هذه الاتجاهات الجديدة المتطرفة والمغالية، وهي أن حاجتنا الملحة العاجلة اليوم في ميدان الفكر الأدبي هي أن نهتم بما إذا كانت الحجج التي تقدم لنا سليمة أم فاسدة، وأن نظهر اهتمامنا بجدوى البحث في المعنى الأدبي. ولن يخشى ذلك سوى أولئك الذين يعدون التفكير في الأدب تسلية أساساً، فهم وحدهم الذين تثبط همتهم هذه الخواطر. 

ويؤيد هذه المخاوف صدور أكثر من كتاب يتحسس مخاطر هذه الاتجاهات، وألفت النظر إلى ذلك، لاهتمام النقد الأدبي العربي الحديث بها، واستعجاله إلى ترجمتها، مثل كتاب «الفكر الأدبي المعاصر» (1978 ظهرت ترجمته العربية عام 1980)( )، وفيه نقد واسع لهذه الاتجاهات حظيت بتأطير منهجي تأريخي لها في مقدمة المترجم محمد مصطفى بدوي (مصر)، وهو الناقد الحصيف العارف، ومثل كتاب «المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية» (1984)، وظهرت ترجمته إلى العربية 1987)( )، وهو أشمل وأوسع في تعريفه النقدي بهذه الاتجاهات، وفي تعريتها، بقصد التعرف إلى طبيعتها المتطرفة التي تهمش الظاهرة الأدبية باسم علمية دراستها مما يجعل الأدب مفهوماً محيراً مغلقاً إلا على نخبة من المشتغلين به.

    ومن المفيد أيضاً أن أشير بادئ ذي بدء إلى أن ما يجري في ساحة النقد الأدبي العربي حتى نهاية الثمانينيات إزاء هذه الاتجاهات هو أقرب إلى «التلقف» السريع غير الناجز منه إلى التمثل والوعي الذاتي والصدور عن مواقف متأصلة، وهذا يبدو جلياً في جهود دوريات وضعت نفسها في خدمة الترويج لهذه الاتجاهات، كما هو الحال مع «الفكر العربي المعاصر» (بيروت) و«العرب والفكر العالمي» (بيروت). أما دورية «فصول» فتسعى إلى التوازن بين التأصيل والمثاقفة في تلقي هذه الاتجاهات. وفي حديث مع عز الدين إسماعيل (أول رئيس تحرير لها)، وهو ناقد أدبي وأستاذ جامعي معروف، لاحظ أن النقد الأدبي العربي الحديث يتأصل اليوم في وعي المثاقفة، فالتواصل المباشر مع الاتجاهات النقدية الحديثة والفكر الأدبي العالمي عن طريق اختبارها في العملية الأدبية القومية سبيل ـ تلحظه «فصول» بعناية واهتمام واضحين، وعندما سألته( ) عن مخاطر الاستغراق النقدي في هذه الاتجاهات المتطرفة، رأى أن الشغل النقدي العربي يتطور إجابة على مثل هذه المخاطر. أجل، إن المشكلة قائمة، حتى غطت على المناخ النقدي العام، فقد غدا الناقد الذي يلتفت عن هذه الاتجاهات متجنباً أيضاً، ولعل قراءات متمعنة للنتاج الغالب على النقد الأدبي، كما لاحظنا، تكشف عن شهوة اللحاق بالحشد والانغمار فيه، فثمة نقاد من أقطار عربية مختلفة طوروا مسارهم النقدي واتخموا إجراءاتهم النقدية بالرسوم والأشكال والكلام والإشارات التي لا تنتمي إلى طبيعة النقد، أو تسعف في رؤية المعنى الأدبي، وغالباً ما يستطيع هؤلاء النقاد أن يصلوا إلى خلاصاتهم، ويعيّنوا استخلاصاتهم من العملية النقدية في كتاباتهم بمعزل عن هذه الرسوم والأشكال والكلام والإشارات التي لا تثير سوى الأسف أحياناً، ومفارقة التقليد غير الأصيل إزاء طبيعة النقد الأدبي والأدب، وإزاء جهود التطور الذاتي للنقد الأدبي العربي الحديث. 

ومن جهة أخرى، هناك حشد كبير من النقاد والعرب التي ظهروا في الثمانينيات لاهّم لهم سوى تطبيق هذه الاتجاهات على الأدب العربي الحديث، ولن يجد المرء صعوبة في إيراد عشرات الأسماء من الدوريات العربية التي تحتفي بهذا النقد المغرق في شكلانيته وتطرفه الهندسي والإشاري واللغوي. إنهم يتقبلون اتجاهات ما بعد الحداثة ويمارسونها بجسارة فيما يصح وما لا يصح، حيث تحفل مئات الدراسات النقدية بالأشكال الهندسية والإحصاءات والجداول والأرقام والبيانات غير الأدبية( ). 


لا شك، إن المشكلة تتعدى حدود القراءة الأدبية إلى الارتهان المطلق للمثاقفة حيث يصعب معها تأصيل النقد الأدبي العربي الحديث في تربته ومناخه، وضمن تقاليده القومية. أما عن بعد النقد في فهم «المعنى الأدبي» فالنتيجة هي استغلاقه أكثر على التواصل العام، ومن المفيد أن أوضح شيئاً من فحوى كتاب «المعنى الأدبي» بالنظر إلى انتشار هذه الاتجاهات في النقد الأدبي العربي الحديث. فقد عبّر فيه مؤلفه عن معاناة النقد الأدبي الحديث في بحثه عن المعنى الأدبي، فالقضية قائمة، ليس في الأدب العربي فحسب، بل في بلدان متقدمة ذهب النقد الأدبي فيها، ويذهب، مذاهب شتى، لا توافي دائماً طبيعة الأدب والنقد. 

قال مؤلف الكتاب بصريح العبارة في مقدمته: «لقد أبدى النقد الأدبي دائماً قدراً من الألم لما يقوم به وللوجهة التي يقصدها. ولعل لكّل جيل غروراً يجعله يعتقد أنه على عتبة عصر جديد يسلك سلوك خاتم أو قاهر كلّ ما سبقه. لذا فقد كرس جزء من طاقة النقد الأدبي لتحديد الأهمية التاريخية للتطورات النقدية الجديدة، فظهر في العقد الماضي جدل عنيف بين أولئك الذين بشّروا بالحركتين البنيوية والتفكيكية Deconstruction، على أنهما فجر عصر جديد يزيل الغموض عن تأويل النصوص وتفسيرها، وبين الذين شجبوا الحركتين على أنهما هدم لكّل ما هو قيم وثمين في الميادين الخاصة بالدراسات الإنسانية. ومع ذلك فالفريقان يستندان إلى فرضية تاريخية واحدة هي أن التطورات الحديثة في النقد لا تمت بصلة إلى التقليد السائد. وكّل بدعة جديدة في الأسلوب تظهر وكأنها تستمد وجودها من مجموعة من الفرضيات الأساسية، جديدة، وكأن ميدان المعرفة هذا قد فقد أرضيته المشتركة، فعصرنا هذا إنما هو، للرجعيين والثوريين، عصر الخروج الجذري عن المعتقدات السابقة عن المعنى والقراءة والنقد الأدبي، ولابدّ للمرء أن يعتنق الثورة، أو أن يدافع عن التقليد السائد ضدها»( ). 

إن هذا الاستشهاد يوضح المشكلة، فكان هدف الكتاب المتواضع، كما يشير مؤلفه، هو إثارة الشك في الادعاء الذي يستند إليه كلا الفريقين والذي يؤكد الانقطاع التاريخي. والحق، أن محاولة المؤلف في تبيان التطورات النظرية والنقدية التي سادت في الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة قد تكشف عن الأرضية المشتركة التي استندت إليها المناهج الحداثية في البحث عن المعنى الأدبي منذ الظاهراتية إلى اليوم، ولكن هذه الأرضية المشتركة قد شاهت ملامحها في تلك الإجراءات غير الأدبية التي تجافي طبيعة النقد الأدبي. 

انطلقت المشكلة حول المعنى الخاص بالأدب، الذي يبدو كأن له معنيين، بتعبير المؤلف، ينطوي كل منهما على نظرية للنتاج الأدبي تختلف عن الأخرى، وقد تكون نقيضتها، وعلى تطبيق للنقد يختلف عن الآخر. ويمكن أن نجد أوضح مثال لذلك في الصراع بين بدهيتين مألوفتين عندنا للمعنى: المعنى على أنه مرتبط بالتاريخ يتحكم به قصد معين في لحظة معينة، والمعنى حقيقة ثابتة للنص، تتجسم في كلمة أو مجموعة من الكلمات يتجاوز معناها قصداً معيناً، ويمكن أن يفهمها في بنيتها كلّ فرد يحسن تلك اللغة. ويظهر الصراع بين هاتين الفكرتين المتناقضتين الموجودتين معاً، بين «ما أعنيه أنا» و«ما تعنيه الكلمة»، ويتخذ أشكالاً متنوعة في النظريات التي مهدت لهذه الاتجاهات،أو رافقتها، فيظهر الصراع عادة في هيئة طرفي نقيض، كما في الفاعل ضد الموضوع، أو المثال ضد النظام، أو الأداء ضد القدرة، أو الكلام ضد اللغة، أو اللفظي ضد المعنوي، أو الحدث ضد البنية. 

إن المسألة تدور حول القارئ والقصد، فثمة التباس قديم حول حجم القراءات التأويلية لكل نص في استخراج معناه الأدبي، وثمة التباس قديم حول مغالطة القصد في القراءة، هل هو قصد المؤلف أم قصد النص أم قصد القارئ؟ إن كّل قراءة تؤول قصدها بمعزل عن قصد المؤلف أو قصد النص أو بالاستناد إليهما معاً، وليس هناك قراءاتان متطابقتان بلا شك، ولا ينبغي أن نكرر القول حول طبيعة النقد التي ترى، فيما تراه، أنه ميدان من ميادين المعرفة يقوم على نظام متراكم للقواعد والقوانين تقع فيه جميع أمثلة التفسير، بما في ذلك تلك التي تعد نفسها خارجه. على أنّ المشكلة في بحث المعنى الأدبي لا تتوجه مباشرة إلى نسقها المعرفي والتاريخي لتهتم بالمعنى الأدبي كما يتولد من خلال القراءة، بل تلجأ إلى إجراءات نقدية هي ضد لغة النقد وإجراءاته، فلا تعنى بعد ذلك بكيفية ظهور المعنى الأدبي من خلال القراءة إلى الوجود، أو مظاهر تجسيمه، أو صلته بالأشكال الأخرى للفعالية العقلية، أو قابليات امتلاكه معرفياً وجمالياً، أو إمكانيات تقديره وتثمينه، بل تنهك نفسها بطرائق وأدوات وإجراءات أبعدت الشغل النقدي عن طبيعته وعن قيم القارئ العادي لصالح «نخبة» مختلفة فيما بينها أيضاً، وفي إجراءاتها العصية على الإيصال غالباً. 




1- تطور الاهتمام بهذه الاتجاهات: 




1-1 الدراسة الأدبية: 

كانت ترجمة كتاب رولان بارت «الكتابة في درجة الصفر L’Ecriture Dans Le Dégre Ziro» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1970) إيذاناً بإقبال النخب الثقافية والنقدية العربية على الاتجاهات النقدية الحداثية، وقد اكتفى مترجمه نعيم الحمصي (سورية) آنذاك، بإيراد كلمة في المؤلف، الذي يدير معهد التدريب لعلم اجتماع الدلالات والرموز والرسوم، وقدم في الوقت نفسه المقالات الأولى الأساسية عن روب غرييه والرواية الجديدة، بينما رأى ناشر الكتاب، المحرر من وزارة الثقافة، أن المراحل الثلاث: نظرة إنسانية وتأدب فكتابة، هي التي مرت بها قراءة التراث في فرنسا منذ عصر النهضة إلى أيامنا. وآخرها، الكتابة، ووضع مفهومها ده سوسير مؤسس علم اللغة الحديث، ثم وسعه البنيويون، وجعلوا من التعارض بين الكلام والكتابة الأساس الذي أنشأوا عليه فهمهم للثقافة. وهذا الكتيب وضعه أحد أشهر نقاد الأدب من هذه المدرسة، يلخص وجهة نظرهم، بأسلوب يجمع بين دقة العالم وشاعرية الأديب المبدع. وهو يرى أن الكلاسيكية قد تحطمت بتفكك البورجوازية، وبذلك بلغت الكتابة درجة الصفر، فهي تتوقع كاتباً يسمع الكلام الاجتماعي كاملاً، ويسجله كتابة كلاسيكية جديدة( ). 

ثم أعاد محمد برادة (المغرب) ترجمة الكتاب نفسه بعنوان «درجة الصفر للكتابة» (1981) إشارة إلى توكيد الانتقال إلى الاتجاهات النقدية الحداثية، مما سمح للمترجم أن يصدر ترجمته بضرورة «البحث عن معرفة ممكنة للكتابة»: 

«إن الكتابة باللغة ـ الموضوع، وباللغة الواصفة تأخذ، أكثر فأكثر، حجماً متسعاً في المجتمعات الحديثة، وبذلك تصبح مجالاً لتناسل الإيديولوجيات واختلاط المفاهيم، وإحكام طوق الاستلاب على القراء والمستمعين والمتفرجين. ومن ثم فإن الطموح إلى تشييد معرفة ممكنة للكتابات، وهو المشروع الذي أسهم بارت في بلورة بعض معالمه، يظل أفقاً مفتوحاً على العطاءات التي من شأنها أن ترصد التحولات الاجتماعية العميقة المندرجة أيضاً في مختلف أنواع الخطاب، وفي الكتابة الأدبية بصورة أعمق»( ). 

ثم شرع الباحثون والنقاد في ترجمة نصوص الاتجاهات الحداثية أو الجديدة وتقديمها، كما في أعمال أعلامها أمثال رولان بارت وتزفيتان تودوروف وميشيل فوكو وميخائيل باختين وروبرت شولز على وجه الخصوص. وتكاد تكون أعمال هؤلاء النقاد جميعها مترجمة إلى العربية. فقد ترجم من أعمال بارت، وبعضها لأكثر من مرة، «النقد البنيوي للحكاية Introduction a l’Analyse Structurale des Recits» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1988 بترجمة انطون أبو زيد (لبنان)، وتضم ترجمته نص كتاب آخر هو «نقد وحقيقةCritique et Verite »)، وترجم منذر عياشي الكتابين ثانية «مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص» (1993) و«نقد وحقيقة» (1994)، وكان سبق إلى ترجمة الكتاب الأخير إبراهيم الخطيب أيضاً، مثلما سبق منذر عياشي أيضاً إلى ترجمة كتاب «لذة النص» (1992)، مضافاً إليه مقالته «هسهسة اللغة»، ومقالة «موت المؤلف» إلى «نقد وحقيقة»، وهي المقالة التي مارست تأثيراً كبيراً في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية. 

وترجم قاسم المقداد (سورية) كتابه الكبير نسبياً «أسطوريات Mythes» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1996). ويلاحظ أن هذه الكتب حظيت بمقدمات نقدية ضافية عن الانعطافات المعرفية النقدية التي مثلتها هذه الكتب، كما في مقدمة منذر عياشي عن «بارت والقصة» تؤشر إلى نهاجية بارت، وهي مشكلة تبدت في التعدد والتبدل فيها كالمنهج الاستقرائي Inductif ومنهج الاستنباط Deductif، و«إذا كانت الأنماط متعددة، فإن بارت يرى في الوضع الراهن للبحث، أنه من الحكمة أن نجعل اللسانيات نفسها نمطاً أساسياً للتحليل البنيوي للسرد»( ). وبين عبد الله الغذامي (السعودية) في مقدمته لكتاب «نقد وحقيقة» أن المترجم عياشي يتصدى لمهمة جليلة تتمثل في مسعاه الحثيث لترجمة نصوص النقد الألسني من مصادره الحديثة، خاصة الفرنسي منها. «وهو بذلك يؤسس لمرجعية علمية تتشكل مع ما يماثلها لتكون مكتبة نقدية للباحث العربي. ولا ريب في أن النقد الألسني، أو اللساني لمن شاء أن يفضل ذلك، قد بدأ يأخذ موقعه الصحيح في قراءة النصوص الإبداعية والنقدية واللغوية، وفي تشريحها. ولعل الأولى بي والأحرى أن أقول: إن النقد الألسني قد بدأ يستعيد موقعه في الدراسات التحليلية والنظرية العربية»( ). 

وأوضح قاسم المقداد، في مقدمته لكتاب «أسطوريات»، «أن أكثر ما يسجل لبارت هو قيامه بإدخال الأدب في ميدان العلوم الإنسانية، لأن بارت أولاً أديب، فمن «الدرجة صفر في الكتابة»، وحتى «الغرفة المضيئة» قدم بارت أشياء كثيرة إلى السيميولوجيا، وللتحليل النصي، وللسانيات ولعلم الاجتماع. ولكنه في هذا كله لم يطرح نظرية، إنما نظرة وحدساً. لكن هذه النظرة علمت آلاف القراء أن بهارج المجتمع، والحوادث المتفرقة والصور والملصقات والممارسات اليومية كانت كلها عبارة عن علامات. وبالتالي، فقط أيقظ القارئ على قضية المعنى»( ). 

وكان عبد الرحيم حزل (المغرب) ترجم كتاب رولان بارت «الكتابة والقراءة Le Bruissement de la Langue» (1984 وظهرت ترجمته في العربية عام 1993)، والكتاب يكمل سعي بارت للتشييد النقدي لمفهومي الأدب الرئيسين: الكتابة والقراءة، اتصالاً بصور مصدريهما التاريخيين: الكاتب والقارئ، والأدوار (ونوعيتها: تناسباً وتفاوتاً) التي أسندت إليهما، على مر العصور الأدبية: عبر مراجعة لمعانيهما في كتبه السابقة، ولا سيما: «درجة الصفر» و«نقد وحقيقة»، وهي تسبق مرحلة القراءة الدلائلية في كتابه س/ ز: حيث اتصال وتداخل صيغ وطرائق: ناظمها النص واشتغال متنوعاته( ). 

وترجم لميخائيل باختين غالبية مؤلفاته، وهي «الملحمة والرواية» (بترجمة جمال شحيد سورية) (1981)، و«الأيديولوجية وفلسفة اللغة» (وهما الفصلان الأول والثاني من كتابه «الماركسية وفلسفة اللغة» بترجمة فيصل دراج (فلسطين) ـ في «الكرمل» 1982، و«الماركسية وفلسفة اللغة» كاملة (بترجمة محمد البكري ـ المغرب ويمنى العيد من لبنان1985)، و«النسيج اللفظي في الرواية» (بترجمة صبحي حديدي (سورية) من كتاب «مشكلات الأدب وعلم الجمال» في الكرمل 1985)، و«شعرية دوستويفسكي» (بترجمة جميل نصيف التكريتي ومراجعة حياة شرارة ـ 1986)، و«الخطاب الروائي» (بترجمة محمد برادة 1987)، وأعاد يوسف حلاق (سورية) ترجمته عن اللغة الروسية مباشرة بعنوان «الكلمة في الرواية» (1988)، و«أشكال الزمان والمكان في الرواية» (بترجمة يوسف حلاق عن الروسية أيضاً 1990)، بينما كانت ترجمات باختين السابقة عن الفرنسية أو الإنكليزية. وكانت مقدمة محمد برادة «موقع باختين في مجال نظرية الرواية» هي التعريف الأول الشامل لهذا المنظر والناقد الذي مارس تأثيراً ما يزال متزايداً في الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فرأى برادة «أن معظم النقاد الذين يهتمون اليوم بتحليل الرواية وتطبيقاتها، من أمثال كريستيفا، وتودوروف، وجينيت، وزيرافا، وفيليب هامون، وفلاد مير كريزنسكي، يتخذون أفقاً لتحليلاتهم مجاوزة الفصل بين بنية الرواية ودلالاتها عبر اللسانية، بين عناصر خطابها، والأبعاد السوسيولوجية لشعريتها وسيميائيتها، وهو نفس الأفق الذي كان ميخائيل باختين، منذ ثلاثينيات هذا القرن، رائداً في الدعوة إليه، ووضع أسسه الأولى»( ). 

وكشف برادة في وقت عن الأهمية المستمرة والراهنة لباختين، و«نحن لا نقصد بالراهنية الصلاحة المطلقة لنظرية باختين ولمقولاته ومصطلحاته، وإنما توفر أطروحاته ومنهجيته على عناصر حيوية صالحة لأن تخصب البحث والتحليل في مجال نظرية الرواية. وتمشياً مع جوهر منهجية باختين، فإن نتائجه لا يمكن أن تكون محدودة ومتطلبة لمتابعة التحليل والتفكير والتعديل، على ضوء ما استجد من إنتاج روائي ومن تنظيرات معرفية خاصة، وأن باختين لم يتناول بالتحليل روايات أساسية كتبت في القرن العشرين. ومن شأن تطور الإنتاج الروائي أن ينسب المصطلحات والمفهومات النظرية»( ). 

يتجلى إنجاز باختين، كما أوضح في مقدمة «الكلمة في الرواية»، في محاولته «تجاوز القطيعة بين الشكلية المجردة، والنزعة الأيديولوجية، التي لا تقل عنها تجريداً في دراسة الكلمة الفنية. إن الشكل والمضمون واحد في الكلمة، مفهومة على أنها ظاهرة اجتماعية ـ اجتماعية في كل دوائر حياتها، وفي كل لحظاتها: من الصورة الصوتية حتى أشد طبقات معانيها تجريداً»( ). 

وترجمت أيضاً غالبية كتب تودوروف، مثل «الشعريةLa Poetique » (بترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة من تونس1987)، و«مفهوم الأدب La Notion literaire» (بترجمة منذر عياشي 1990)، و«نقد النقد» (بترجمة سامي سويدان من لبنان 1991)، و«المبدأ الحواري ـ دراسة في فكر ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin: Le Princpe Dialogique» (1981 بترجمة فخري صالح من فلسطين 1992)، و«مدخل إلى الأدب العجائبيIntroduction a la Literature Fantastique » (1970 بترجمة الصديق بوعلام ومراجعة محمد برادة 1994).


وقد عبر منذر عياشي عن أهمية تودوروف المنهجية والنقدية في تكون الاتجاهات الجديدة لنقد لقصة والرواية، في مقدمة «مفهوم الأدب»: 

«يعتبر تودوروف معلماً من معالم التحول في الفكر النقدي في العالم. هذا إلى جانب شخصيات أخرى، وهي تقف معه، على ما بينها من تفاوت وتمايز، شاهدة على هذا التحول أو صانعة، نحد منهم مثلاً رولان بارت أستاذ تودوروف، وغريماس، وجيرارا جينيت، وجوليا كريستيفا وغيرهم. أما تودوروف نفسه، فقد ساهم بنصيب وافر من لكتب والدراسات والمحاضرات. ونكاد لا نجد مهتماً واحداً بالدراسات الأدبية والنقدية أو الإنسانية إلا وقد قرأ لهذا العقل الفذ»( ). 

وأضاف فخري صالح في توطئته أن لتودوروف فضل التعريف بباختين في فرنسا، مع جوليا كريستيف، وبسبب أهميته، وجد «في تصوره للأنا والآخر والتناص ونظريته اللغوية، التي تبحث في التلفظ مجاوزة السوسيرية إلى حقول جديدة من البحث، محرضات فعلية للفكر النقدي المعاصر»( ). 

ووجد الصديق بوعلام في منهجية تودوروف سيرورة التفاعل النقدي الغربي، و«ثمرة لتفاعل عميق وناضج مع أصوات عديدة، وعلى مستويات علائقية مختلفة: 

أ- الحضور المتميز لنتائج بحوث الشكلانيين الروس. 

ب- التعضيد البديهي لأصوات حركة النقد الجديد: جينيت، بلانشو، ويبلغ تبني طروحات هذا الاتجاه ـ الأم درجة الاستنساخ أحياناً. 

جـ- المزاوجة بين التحليل النفسي التقليدي، فرويد، وعلم النفس التكويني، بياجيه. 

د- الاستناد إلى ستراوس وبوبر في شأن ابستمولوجية التفكير العلمي وأسس البنيوية: الكلي/ الجزئي ـ البنية/ النموذج ـ الظاهرة الواقعية ـ الفرضية/ الاستقراء.. الخ. 

هـ- مناقضة نورثروب فراي في بنائية التصنيف ونظرية الجنس الأدبي. 

و- دحض دعائم النقد الموضوعاتي ـ الفرضية الحسية ـ والفرضية التعبيرية، متمثلاً في جان بيير ريشار على الخصوص»( ). 

وترجم لروبرت شولز ثلاثة كتب، هي «البنيوية في الأدب Structuralism in Literature: 

An Introduction» (1974 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1984)، بترجمة حنا عبود (سورية)، و«عناصر القصة Elements of Fiction» (1986 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1988)، بترجمة محمود منقذ الهاشمي (سورية)، و«السيمياء والتأويل Semiotics and Interperetion» (1982 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، بترجمة سعيد الغانمي (العراق). 

وقد عني شولز بالتأويل في نقده وفي تأليفه النقدي حول الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فضم كتابه عن البنيوية في الأدب معالجات معمقة واستبصارات حاذقة لقضية المعنى في الاتجاهات البنيوية من الألسنية إلى تبسيط الشكل إلى الشعرية البنيوية، إلى التحليل البنيوي للنصوص الأدبية، إلى الخيال البنيوي بوصفه مثار الرؤية البنيوية في الرواية المعاصرة، وإن غلب على نظرته نوع من الحتمية أو العدمية الإنسانية، ربما بتأثير حديثه عن البنيوية بالذات: 

«فإذا خدعنا الخيال، فإذا خدعتنا أنفسنا، فإن البنيوية تقدم لنا عزاءها البارد.إن الإنسان جزء من نظام مرتب ملموس. ومع ذلك فإنه ليس مخصصاً للإنسان، وليس من صنع الإنسان وهذه حقيقة واضحة ومنتشرة، فإن لم يتمكن من متابعة التوافق مع هذا النظام، فإن النظام سوف يستمر من دون الإنسان. يستطيع أن يدرسه، وأن يحبه، وأن يقبل عمله كشيء جميل لا يحتاج إلى موافقة، ولا حتى إلى وجود إنساني لتبريره»( ). 

وقد أشاد سعيد الغانمي بكتاب «السيمياء والتأويل» على أنه «محاولة للمزاوجة بين السيمياء الموضوعية والتأويل الذاتي، وبين علمية المقروء وفاعلية القارئ. إنه مراجعة للمدارس النقدية الحديثة في ضوء اهتمامها بهذين الحقلين، ومحاولة لتلمس الحدود المشتركة بينهما»( ). 




1-2- الشكلانية وموروثها: 

ربما كانت ترجمة إبراهيم الخطيب (المغرب) لنصوص الشكلانيين الروس في كتابه «نظرية المنهج الشكليTheorie de la Litterature: ****es des Formalistes Russe » (1965 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1982) الحدث الأكثر أهمية في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، وقد ضم الكتاب نصوصاً مترجمة عن كتاب «نظرية الأدب» الذي كان أعده بالفرنسية تزفيتان تودوروف، وشمل كتابات مختارة وضعت بين 1915 و1930. وأضاف المترجم نصاً لجاكوبسون، إلى نصوص بوريس ايخنباوم «نظرية المنهج الشكلي» «وحول نظرية النثر» و«كيف صيغ معطف غوغول»، يوري تينيانوف «مفهوم البناء»، وجاكوبسون «القيمة المهيمنة» و«عن الواقعية في الفن» ومشكلات الدراسات الأدبية واللسانية (مع تينيانوف)، وشكلوفسكي «بناء القصة القصيرة والرواية»، وتوماشفسكي «نظرية الأغراض». 

وأكمل إبراهيم الخطيب تعريفه بأعمال الشكلانيين الروس، فترجم كتاب فلاديمير بروب الشهير «مورفولوجية الخرافة Morphologie du Conte» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1986)، وهو الكتاب الذي أعاد ترجمته أبو بكر أحمد باقادر (السعودية) وأحمد عبد الرحيم نصر (السودان) بعنوان «مورفولوجيا الحكاية الخرافية Morphology of the Folktale» (1929 بالروسية وظهرت ترجمته بالعربية عام 1989)، وقد مالت الترجمة الأولى إلى النقد الأدبي، بينما حرصت الثانية على الطوابع الفولكلورية. 

وترجم محمد معتصم «المغرب» كتاباً مهماً في هذا المجال هو «مساجلة بصدد علم تشكل الحكاية L’etude Structurale et Typelogique du conte» (1970 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1988) لكلود لفي ستروس وفلاديمير بروب، والمساجلة حصيلة البحث النقدي «البنية والشكل: تأملات في مؤلف فلاديمير بروب» الذي كتبه ستروس لكتاب بروب بعد صدوره بالفرنسية بعامين عام 1960، ثم طلب الناشر الإيطالي من بروب أن يرد على ستروس، فكان المقال الثاني «البنية والتاريخ في دراسة الحكاية»، ثم طلب من ستروس أن يرد على بروب فكانت الحاشية، وتتألف من أقل من صفحة واحدة. واختار معتصم مقتطفات من دراسة إجمالية للباحث الروسي أفكيني ملتنسكي عن الاستقبال العالمي لكتاب بروب، بعنوان «الدراسة البنيوية والتنميطية للحكاية». 

وتومئ حاشية ستروس إلى انقطاع الحوار بين العالمين حين رأى بروب في نقد ستروس مكراً، بينما رأى ستروس أن «عمل بروب، على الرغم من كل شيء، سيحتفظ، في نظرهم كما في نظري، بالفضل الخالد بأن كان حائز قصب السبق»( ). 




1-3- اشتغال النقد الجديد على النظرية:

شهدت سنوات التسعينيات وجوهاً مختلفة من الترجمة والتأليف لاشتغال النقد الجديد على النظرية الأدبية تأثراً بالاتجاهات الجديدة. ولعل من طلائع هذا الاشتغال صدور ترجمة عز الدين إسماعيل (مصر) لكتاب روبرت هولب Robert Houb «نظرية التلقي Reception Theory: A Critical Introduction» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، وقد مهد له بمقدمة طويلة عن نظرية تلقي الأدب، أي العملية المقابلة لإبداعه أو إنشائه أو كتابته. و«عندئذ قد يختلط مفهوم التلقي ومفهوم الفاعلية التي يحدثها العمل، وإن كان الفرق بينهما كبيراً، حيث يرتبط التلقي بالقارئ، والفاعلية بالعمل نفسه. ومن هنا يختلف تاريخ التلقي عن تاريخ الفاعلية، كما تختلف جماليات التلقي عن جماليات التأثير. ونظرية التلقي ـ كما يعرضها المؤلف ـ تشير إجمالاً إلى ذلك التحول، في الاهتمام، إلى النص والقارئ»( ). 

ولم يغفل عز الدين إسماعيل عن ذكر فائدة هذه النظرية في تفاعلها مع الفكر النقدي العربي الذي ينطوي في جملته قديماً وحديثاً «على رؤى وأفكار يمكن أن تنتظم حول نشاط التلقي الأدبي أو الفني، وأن تنمّي لتصنع في النهاية إطاراً نظرياً خالصاً، يكون بمثابة تطوير أو إضافة إلى النظرية العامة»( ). 

وأصدر عبد العزيز شبيل (تونس) ترجمة لكتاب «نظرية الأجناس الأدبية» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، ويتألف الكتاب من أبحاث بأقلام كارل فيتيور، وولف ديتر ستمبل، وروبرت شولس، وهانس روبرت ياوس، وجان ماري شافر. وجزم المترجم شبيل بأن نتائج هذه البحوث قد وقع تجاوزها، وما يطمح إليه هو القبس منها روح الفكر العربي وطريقة تعامله مع هذه القضية الشائكة: «إن غايتنا البعيدة أن تكون مثل هذه المقاربات المتنوعة، دافعاً للباحث العربي للتسلح بهذه الروح النقدية حتى ينكب على الأدب العربي ناظراً في ما خلفه الأجداد من مصطلحات ودراسات وآثار، محاولاً الوصول إلى نظرية للأجناس الأدبية في تراثنا العربي نابعة منه متجذرة فيه»( ). 

وتقترب غالبية هذه الأبحاث من قضية التلقي، أو هي مكتوبة بحسبان هذه القضية، من بعض منظريها ودعاتها، والأبحاث هي: تاريخ الأجناس الأدبية، أدب العصور الوسطى ونظرية الأجناس، المظاهر الأجناسية للتلقي، من النص إلى الجنس: ملاحظات حول الإشكالية الأجناسية، صيغ التخييل. 

غير أن حامد أبو أحمد (مصر) لم يكتف بالترجمة، بل وضع كتاباً في التفكير الأدبي والنقدي الحديث بالنظرية، هو «الخطاب والقارئ: نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة» (1996). 

وقد أهدى المؤلف كتابه، تعبيراً عن اتجاهه النقدي والفكري، «إلى كل الباحثين عن الجديد، مع الالتزام بشرط الأصالة»( )، واعترف بأن مهمة الناقد العربي الآن عسيرة «لأسباب كثيرة من بينها أن مشكلة البحث عن منهج نقدي ما زالت غير واضحة وغير مستقرة لسبب بسيط هو أننا ما زلنا في مرحلة استيعاب للمناهج النقدية التي نشأت في الغرب خلال القرن العشرين، وقد كثرت هذه المناهج خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتفرعت بصورة تجعل متابعتها في حدّ ذاتها أمراً شاقاً، فما بالك بالاستيعاب والتمثل ثم التأصيل!»( ).





عرض أبو أحمد لنظرية القراءة في جذورها وإرهاصاتها الأخرى، وتطورها في بلدها الأصلي، ألمانيا، من خلال جهود أبرز أعلامها، وهما ياوس وفولفجانغ أيزر. وخصص الفصل الثاني عن نظريات أخرى: علم تحليل الخطاب والبلاغة، ونظريات ما بعد الحداثة. والمقالة الأخيرة عرض نقدي لكتاب «ما بعد الحداثة ـ تحليل نقدي» (1994) لمارجريت روز وترجمة أحمد الشامي. و«تنبع أهمية هذا الكتاب من أنه يقدم تحليلاً نقدياً لكثير من الكتابات التي تناولت مفهوم ما بعد الحداثة، وما يتوازى معه، أو يرتبط به من مصطلحات ومفاهيم أخرى، وخاصة مصطلح ما بعد الصناعي»( ).


وألحق أبو أحمد كتابه بترجمة لمقالة تون فان ديك عن علم النص أو تحليل الخطاب، بوصفه علماً جديداً عبر التخصصات: اللسانيات والدراسات علم النفس الإدراكي، علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع، علوم القانون والاقتصاد والسياسة، الدراسات التاريخية، علم الأنثروبولوجيا.


وأصدر خيري دومة ترجمته لكتاب هام في هذا السياق، هو «القصة ـ الرواية ـ المؤلف: دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة» (1997). وضم الكتاب أربعة أقسام هي: القسم الأول «نظرية النوع»، وفيه مقالات رالف كوهين «التاريخ والنوع»، وتودوروف «الأنواع الأدبية»، وتوماس كنت «تصنيف الأنواع»، والقسم الثاني «القصة القصيرة والرواية نوعين أدبيين»، وفيه مقالتان لشارلز ماي «التحفيز الاستعاري في القص القصير»، وروبرت لوشر «متوالية القصة القصيرة: كتاب مفتوح»، والقسم الثالث «عروض نقدية»، وفيه مقالات لوسيان جولدمان «مقدمة إلى مشكلات علم اجتماع الرواية»، ووالتر ريد «مشكلات بويطيقا الرواية»، وروبرت شولز «إسهامات المدرستين الشكلية والبنيوية في نظرية القص»، وتوني بينيت «سوسولوجيا الأنواع: عرض نقدي»، والقسم الرابع «ما بعد الحداثة»، وفيه مقالات جوناثان كلر «نحو نظرية لأدب الأنواع»، وميشيل فوكو «ما معنى مؤلف؟»، ورالف كوهين «هل توجد أنواع ما بعد حداثية؟».


لقد وجد المترجم خيري دومة في مقدمته «أن الخيط الرهيف والعميق، الذي يجمع بين مقالات هذا الكتاب جميعاً، حتى تلك المقالات التي تتفهم مقترحات ما بعد الحداثة، وتكشف عن وجاهتها أحياناً، هو الانطلاق من أرضية واحدة، تلخص فيما يمكن أن نسميه تجديد نظرية النوع، وبيان إمكانية تطويرها بدلاً من التخلي عنها»( ). 
غير أن دومة يبالغ كثيراً في تقديراته لبعض المسائل التي أوردها عن نظرية الأنواع في التراث النقدي العربي، وفي النقد الأدبي الحديث، كمثل هذه التقديرات التي تمضي في الشطط: «تكاد المكتبة العربية تخلو من دراسة جادة، تتابع مظاهر التحولات النوعية التي اعترت مختلف الأنواع التقليدية، وتكشف عن مدى عمقها أو زيفها، وتقرأ دلالتها»( )، بينما ثمة بعض مقالات الكتاب ترجمت مرات، وثمة تجاهل للكتاب الذي ترجمه شبيل، أما أراؤه فتفتقر إلى التعليل مثلما جاوزها النقد إقراراً بأهمية استمرار التقاليد السردية العربية، كمثل رأيه «أن التراث النقدي الذي يعالج الأنواع الأدبية الحديثة خصوصاً، القصة والرواية والمسرحية، تراث أوروبي في معظمه، لم يعرف النقد العربي الكثير منه. لقد قفزت أحاديث الكتاب والنقاد فجأة إلى النقد ما بعد الحداثة، وإلىرفض مقولة النوع ومحاولة تجاوزها بناء عليه، وغالبية هذه الأحاديث لا تستند إلى أرضية اجتماعية وأيديولوجية تبرر تجاوز النوع الأدبي في الواقع العربي، إنما هي الموضوعات المتوالية التي لا تتيح لشيء أن يأخذ مداه ، ويستقر عليه»( )، ويفترض هذا الرأي انقطاع الواقع العربي عن تراث الإنسانية، فليس له أن يتفاعل معه، وليس له إلا أن يقلده على سبيل الموضات المتوالية.. الخ، ولعل التوقف، فيما بعد، عند الملامح الرئيسة لاشتغال النقد العربي باتجاه ما بعد الحداثة يوضح شيئاً من الإشكالية التي لا تخرج عن مدار المثاقفة، وتعزز في الوقت نفسه دوافع بحثنا عن الهوية في النقد الأدبي العربي الحديث بتمحيص انتشار الاتجاهات الجديدة لنقد لقصة والرواية وسيرورتها. 




1-4- تحديث المناهج النقدية:


انطلقت عمليات تحديث النقد من البنيوية، ولأن البنيوية ذاتها لم تكن منهجاً صافياً، لاشتراكها بالموروث الشكلاني واللغوي واللساني، وبامتدادها إلى مناهج أخرى جاورتها، أو انبثقت عنها في منهجيات جديدة مثل سوسيولوجيا الأدب أو علامية الأدب أو شعرية السرد أو التفكيكية أو النقد الموضوعي وغيرها، فظهرت كتب كثيرة مترجمة ومؤلفة عن البنيوية( )، ولعلنا نشير في متن البحث إلى الإسهامات المقاربة للبنيوية في النقد، وللمناهج التي جاورتها، أو آلت إليها فيما بعد.


وضعت باحثات جزائريات (دليلة مرسلي وكريستيان عاشور وزينب بن بو علي ونجاة خدّه وبوبا ثابتة) كتاباً متميزاً في سياقه، هو «مدخل إلى التحليل البنيوي للنصوص» (1985) سعين فيه إلى تقديم بعض الاقتراحات حول تحليل النصوص الأدبية ضمن قراءة ذات وظيفة نقدية، وترجع إلى نظريات علم الرواية Narratologie (والأصح أن تسمى سرديات) قيد التكوين، على المستويين البنيوي الأكبرمع البنيوي الأصغر، وعلى الرغم من حرص هؤلاء الكاتبات على الملاءمة التربوية، فإنهن نبهن إلى خطر إنتاج مقالات تقدم نفسها كوصفات. إن استخدام تقنيات معقدة لاستنباط Formalises أو استخدام مصطلحات جديدة لا يمكن أن يكون هدفاً في ذاته، ولا أن يطمح إلى نظام علمي( ).


واختارت الباحثات وجوهاً منهجية كان اقترح تودوروف مثيلاً لها، وهذه الوجوه هي: 

- العلم دلالي الذي تتعلق دراسته بالاستعارات والمسائل Themes (والأصح أن تترجم موضوعات) والرموز، الخ.. والذي يطرح مشكلة العلاقات بين النص والواقع. 

- اللفظي الذي يسمح بدراسة الثوابت Parametres التي تتم وفقاً لها معالجة الأحداث والوقائع الخاصة بالتجربة، ضمن النص، من وجهة نظر أسلوبية (Mode)، ومن وجهة نظر زمنية Temps، ومن وجهة نظر موقف المؤلف Vision، ومن وجهة نظر درجة مشاركة المؤلف بما هو الذات الفاعلة للخطاب Voix. 

- النحوي الذي ترجع دراسته إلى العلاقات التي تقوم بين الوحدات الأدنى الخاصة بالنص( ). 

وهذه التقنيات مطورة عن بروب وناضجة في النحو السردي للأعمال والوظائف (بروب وبريمون وبارت، ولنظام الفاعلين Acteure (غريماس وتودوروف وهامون وتوماشفسكي)، وفي الفعلي للسرد والوصف (هامون وجينيت وبارت) وفي الزمن. وقد أرفقت الباحثات المفهومات النظريات بتطبيقات عملية على نصوص مغاربية.

وترجم أحمد المديني (المغرب) نصوصاً لتودوروف وامبرتو ايكو Umberto Ecoومارك انجينو Marc Angenot وستيفن نوردابل لاند Steffen Nordable Lund (وبحثه قراءة لرولان بارت) في كتاب ذي عنوان دال في سيرورة الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية «في أصول الخطاب النقدي الجديد» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1987)، والنصوص تبحث في الموضوعات التالية: 

1- اختصاص بالأدب والمكونات الأصلية له في اللغة والكلام والعلامة، والعلائق التي تنتج من كل مكون على حدة، وبين الأطراف المختلفة التي تنتج النص، ثم النص داخل النص. 

2- توقف عند الدوال الشكلية الأساس التي تلعب دور المنتج للنص بين الاختبارات اللسانية والمحددات السيميائية، مما يؤدي إلى وضع الكتابة في إطار الأدبية، ويساعد على استخلاص هذه القيمة بالدرجة الأولى. 

3- نظرة إلى النص الأدبي لا كمرجع انعكاسي لأدبية خارجية، ولكن كمجال يمتلك دواله القادرة وحدها على ربط العلاقة مع المدلولات ثم مقدرة هذه الأخيرة، انطلاقاً من أسس لسانية باتت معروفة، على توظيف وصياغة الدوال( ). وغيرها من أسس وموضوعات. تناولت النصوص والموضوعات التالية: الأرث المنهجي للشكلانية، مغامرة الدال، تحليل اللغة الشعرية، مفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد. 

وظهرت ترجمة صبار سعدون السعدون (العراق) ومراجعة جبرا إبراهيم جبرا (فلسطين) لكتاب بيتر مونز «حين ينكسر الغصن الذهبي ـ بنيوية أم طبولوجيا» (1987)، وفيه تفسير للميتولوجيا بوصفها مجموعة من الطبقات (الطبولوجيا هي الطبقات المكونة لأية بنية)، وهذه الطبقات قد تتألف من الميتافيزيقيا والرموز والإشارات وعلم النفس والصور المجازية. والكتاب، بهذا الإطار، نقد للبنيوية، وانطلاقة منها إلى العلامية والنقد الأساطيري الذي تطور مع نورثروب فراي والبنيوية الإناسية، «فثمة فرق هام وحيد بين حاجتنا إلى المجاز الاعتيادي والصور التي يعاد ترتيبها والتي تكشف عن نفسها في الأساطير والأحلام والحكايات والخرافات. إن المجاز الاعتيادي هو ظاهرة لغوية صرف، وبما أنه كذلك فإنه يكاد لا يتجاوز أية لغة معينة أو مجموعة لغوية. إنه كذلك مكيف بالثقافة، بمعنى أن التقاليد المجازية تستطيع في أية لغة أن تأتي وتذهب، غير أن منشأ الأسطورة وتناقلها يتجاوزان الحدود اللغوية على مساحات زمنية واسعة، ويشملان أكثر الشعوب تبايناً»( ).


وترجم يوئيل يوسف عزيز (العراق) كتاب وليم راي William Ray «المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية Literary Meaning from Phenomenology to Deconstruction» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1987)، وتكمن قيمته في احتوائه على شرح واف للحركات الجديدة في النقد الأدبي، ولا سيما النقد القصصي والروائي.


وقد ابتدأ المؤلف بظاهراتية القراءة، ثم تناول المعنى في نظرية التحليل النفسي والنظرية التأويلية، واعتنى بالبنيوية والسيميولوجيا، وانتهى بثلاثة نماذج للنقد الجدلي: الإحلال والتخطي (ستانلي فيش)، وهدم التاريخ ـ تأجيل الذات (رولان بارت)، ومفارقة التفكيكية ـ تفكيكية المفارقة (بول دي مان). ويكاد هذا الكتاب أن ينفرد بإقرار القطيعة التاريخية والمعرفية بين الاتجاهات الجديدة والتقليد السائد.


وعرّبت هدى وصفي (مصر) كتاباً صغيراً هاماً في سياقه عن النقد الأدبي من منظورات الاتجاهات الجديدة نظرياً وتطبيقياً، وحمل الكتاب عنوان «النقد الأدبي» (1989، يخلو الكتاب من وثائق كتابته والتعريف بمؤلفيه، وإن كانت المترجمة قد أشارت إلى أنه يتوقف عند عام 1977)، أما المؤلفون فهم ب.برونل، ود.ماديلينا، ود.كوتي، وج.م.جليكسون. وضم الكتاب فصولاً حول الوصف والمعرفة والحكم والفهم والنقد في موضع التساؤل، غير أن الفصل الأهم هو «الفهم»، ويُستهدى فيه، أكثر من بقية الفصول بإنجازات علم الأدب، وقوامه النظام الألسني والشعرية وتحليل الخبر والبنية وزمن الخبر ومدار النص، وتتردد في ثنايا هذا الفصل نظرات جاكبسون وإيخنباوم وبروب وبارت وغريماس وبريمون وكريستيفا وجينيت وسواهم( ).


ووضع عبد الكريم حسن (سورية) كتاباً بعنوان «المنهج الموضوعي: نظرية وتطبيق La Thematique» (1990)، ويختلف هذا المصطلح عنه في النقد الأنجلوسكسوني، ولكن حسن أراد كتابه تعريفاً بالتجربة النقدية الريشارية (نسبة إلى الناقد الفرنسي المعروف جان بيير ريشار) من أجل الوصول إلى بناء المنهج الموضوعي الريشاري. ودافع عن تقديمه للمنهج الموضوعي بأنه إعادة خلق، وليس مجرد نقل من لغة إلى أخرى، «فناقدنا ريشار لم يقدم منهجه في يوم من الأيام على النحو الذي قدمناه. وهذا ما يجعل من دراستنا مرجعاً للمنهج الموضوعي لا في اللغة العربية وحسب، وإنما في اللغات الأخرى»( ).


وذكر حسن أن التيار النقدي الريشاري لم يولد من العدم. فهناك معلمون وفلاسفة كبار يشكلون بحق الجدار النظري الذي تستند إليه أعمال النقاد الموضوعيين، فتأثر ريشار بغاستون باشلار، وجان بول سارتر، وادموند هوسرل. ونوه بالجهود المعرفية والفلسفية والنقدية التي أسهمت في تكون النقد الموضوعي، مثل رولان بارت في كتابه «ميشليه يكتب عن نفسه بنفسه» الذي يعدّ نوعاً من التحقيق العملي لنمط القراءة الموضوعية، ومارسيل بروست في كتابه الشهير «بحثاً عن الزمن الضائع» (وهو رواية وليس بحثاً نقدياً، وربما يقصد حسن أنه كان مجالاً خصيباً لدراسات المنهج الموضوعي)، والبير بيغان في كتابه «الروح الرومانتيكية والحلم»، ومارسيل ريمون الذي حاول في كتابه «من بودلير إلى السريالية» أن يستعيد الحياة الداخلية للمبدعين الذين حلل أعمالهم، غير أن حسن اقتصر على باشلار وسارتر وهوسرل، «فهؤلاء يشكلون ما أسميناه بالجدار الفلسفي الذي يستند إليه ريشار»( )، وهو ما يشكل مصادر النقد الموضوعي ثم شرح مفاهيم النقد الموضوعي: الموضوع ـ المعنى ـ الحسية ـ الخيال ـ العلاقة ـ التجانس ـ الدال والمدلول ـ شكل المضمون ـ البنية ـ العمق ـ المشروع والقصدية والوعي ـ المحالة، وترجم دراسة تطبيقية عن بول ايلوار، ثم عاين في الفصل الأخير المنهج الموضوعي ناقداً علاقاته بالتحليل النفسي والموضوعية البنيوية والبنيوية. 

وترجم رعد عبد الجليل جواد (العراق) كتاب كريستوفر نورس «التفكيكية: النظرية والتطبيق Deconstruction: Theory and Practice» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1992)، ويحفل الكتاب، على صفحاته القليلة (138 صفحة من القطع المتوسط) بعروض نقدية معمقة لجذور البنيوية والنقد الجديد من كانط إلى ما وراء النقد الجديد، ولإسهام جاك دريدا، وللنقلة من الصوت إلى النص، وصولاً إلى نيتشه، وما بين ماركس ونيتشه فيما اسماه سياسات التفكيك، وإلى الاتصالات الأمريكية، حيث التفكيكية بوجهها المتطرف: جيوفري هارتمان، ج. هيليز ميلر. ويختمم الكتاب بأسئلة حدة: هل وصلت التفكيكية إلى حدودها النهائية؟ وما آلت إليه الأصوات المعارضة، ولا سيما علاقة اللغة والشك، غير أن المؤلف ما يلبث أن يعترف بتسرب التفكيكية منهجاً عقلانياً في التراث النقدي العالمي: 

«لقد أرست التفكيكية هيمنة جديدة للمناقشات الدائرة منذ زمن طويل بين الأدب والفلسفة، ولم تكن دعاوى التحليل مطروحة من قبل البلاغيين المبدئيين كما طرحها بول دي مان، ولم يكن النقد قد امتلك مثل هذه الشجاعة والعقلانية والنمطية، كما طرحت كمنهج عقلاني في التفكيكية»( ). 

وترجم جابر عصفور (مصر) أول كتاب شامل عن البنيوية «عصر البنيوية» (1992) لإديث كريزويل، وهو كتاب نقدي أشبه بتقييم لحصاد هذا المنهج من نشوئه إلى انتصاره، وتغلغله إلى ميادين متعددة: علوم اللغة، والإناسة، والفلسفة، والتحليل النففسي، والتاريخ، والاجتماع، والنقد الأدبي، إلى امتداده إلى مناهج أخرى، إلى أفوله وانكفاء بعض رموزه عنه. وبينت مؤلفة الكتاب أنها قصدت إلى تقديم نظرة شاملة إلى البنيوية الفرنسية. ولما كان للبنيوية أثرقوي في مجتمع المثقفين الفرنسيين، ولها توجهها نحو الأنساق الفلسفية الأخرى، من مثل حركة علم التأويل Hermenetics، والماركسية وفلسفة الظاهريات Phenomenology، والوجودية والعقلانية.. الخ، فقد خصصت المؤلفة فصولاً لأبرز ممثلي البنيوية في الأنثروبولوجيا والماركسية والتحليل النفسي والأدب والتاريخ، وأبرز خصومها في الماركسية وعلم التأويل وعلم الاجتماع. ووجه عصفور إشارة انتقادية للمؤلفة على استحياء تستدعيها واجبات العلم وموضوعتيه، ورصانة العالم، في أنه لن يتدخل بين المؤلفة والقارئ في مناقشة المضمون التأويلي لمنظورها، و«لكن من المفيد أن نلاحظ أن أغلب كتابات البنيويين الفرنسيين قد تغيرت بالفعل بعد عام 1968. ولا يقتصر الأمر في ذلك على ألتوسير وفوكو اللذين حرصا على نفي صلتهما ببنيوية ليفي شتراوس، بل بتجاوزهما إلى رولان بارت الذي أعلن عام 1970 أنه هجر الطريقة التي كان يتبعها عام 1966 عندما كتب مدخله الشهير إلى «التحليل البنيوي للقص». ومن المفيد، أيضاً، أن نضيف أن مطالع السبعينيات قد شهدت أفول البنيوية في فرنسا نفسها، بالقدر الذي شهدت حركة جديدة مضادة (لم تكف عن التصاعد)، يتزعمها المفكر الفرنسي جاك ديريدا الذي انطلق، ابتداء، من مبدأ تدمير البنيوية على نحو ما فهمها البنيويون في مبدأ أمرهم»( ). 

وترجم قاسم المقداد (سورية) سفراً ضخماً لجان إيف تادييه Jean Yves Tadie هو «النقد الأدبي في القرن العشرين La Critique Litteraire Au XXe Siecle» (1987 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1993). ولعله المرجع الأكثر إحاطة بالاتجاهات الجديدة للنقد الأدبي وتواصلها مع التقليد النقدي الغربي: الشكليين الروس، النقد الألماني، نقد الوعي، نقد الخيال، النقد التحليلي النفسي، سوسيولوجيا الأدب، اللسانيات والأدب، علامية الأدب، الشعرية، النقد التكويني. سمى المؤلف النقد «منارة الأسكندرية»، وهو نسب معرفي، صار للنقد على قدم المساواة مع الأعمال التي يقوم بتحليلها: «النقد هو ذلك الضوء الذي ينير أعمال الماضي التي لم يبدعها، أو يسيطر عليها، لكنه لم ينتج مثيلاً لها»( ). يبين الكتاب الجهود النقدية الحثيثة لقيام علم للأدب، ولقيام علمية للدراسة الأدبية والنقد الأدبي. وترجم محمد عصفور (فلسطين) الكتاب الذي حرره جون ستروك John Sturrock، وعنوانه «البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى دريدا Structuralism and Since from Levi Stauss to Derrida» (1979 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1996)، ويضم الكتاب، بالإضافة إلى مقدمة المحرر، مقالات عن أعلام النقد والفكر بأقلام نقاد معروفين من جنسيات أوروبية وأمريكية: كلود ليفي شتراوس (بقلم دان سبيرير)، رولان بارت (بقلم جون ستروك)، وميشيل فوكو (بقلم هيدن وايت)، وجاك لاكان (بقلم مالكولم بوي)، وجاك دريدا (بقلم جوناثان كلر).

رأى محرر الكتاب «أن البنيوية ليست مذهباً، بل هي منهج، إذ لا يمكن للمرء أن يصبح بها وجودياً ـ فليس ثمة نواد ليلية بنيوية على الجانب الأيسر، من النهر، وليس ثمة ملابس بنيوية ترتدي أو أسلوب حياة يتبع، لأن البنيوية ما هي إلا منهج بحث، طريقة معينة يتناول بها الباحث المعطيات التي تنتمي إلى حقل معين من حقول المعرفة بحيث تخضع هذه المعطيات ـ فيما يقول البنيويون ـ للمعايير العقلية»( ). 


مثلما أوضح «أن المفكرين الخمسة الذين يتناولهم هذا الكتاب كتاب أيضاً، فهم شديدو الإحساس بالشكل الذي تتخذه كتاباتهم ومطلعون على حيل البلاغة وتأثيراتها.. وهم يرفضون أن يحشروا ضمن الحدود الأسلوبية الأضيق التي يتطلبها الخطاب الأكاديمي التقليدي.ويجب أن يكون إسرافهم الأسلوبي أمراّ يجذبنا لهم لا عقبة تحجبهم عنا. وهو تحد محسوب لتوقعاتنا بوصفنا قراء للتاريخ أو الفلسفة أو النقد الأدبي، أو مهما كان الاسم الذي نسمي كتاباتهم به، وهو تحد في محاولة قبوله متعة ومردود فكري»( ). 

وترجم وائل بركات وغسان السيد (سورية) كتاب «مقدمة في المناهج النقدية للتحليل الأدبي» (1994) وهو الكتاب نفسه الذي ترجمه رضوان ظاظا (سورية) بعنوان «مدخل إلى مناهج النقد الأدبي Introduction aux Methodes Critique Pour l’Analyse Litteraire» (1990 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1997)، وهو أحدث كتاب مترجم عن الاتجاهات الجديدة للنقد الأدبي، إذ نشر عام 1990 بباريس، ويحمل الكتاب نظرة جديدة لمفهوم النقد وممارسته: «ليس النقد ميتالغة، أي لغة حول اللغة، كلغة المعاجم، بل هو نشاط إبداعي مثله مثل الأدب. وإذا ما جاز القول بأن الأدب إبداع تركيبي، فالنقد إبداع تحليلي. ولا غنى عن الحوار بين الخطابين. إذ لا يقوم نقد مبدع إلا بوجود أدب مبدع، ولا يتطور أدب مبدع إلا بوجود نقد مبدع هو الآخر»( ). 

توزع الكتاب إلى فصول أبرزت مآل الاتجاهات الجديدة للنقد الأدبي: 

النقد التكويني 
La critique genetique، والنقد التحليلي ـ النفسي، والنقد الموضوعاتي La critique thematique، والنقد الاجتماعي La sociocritiqe، والنقد النصي La critique ****uelle، وقد كتب فصول الكتاب نقاد وباحثون فرنسيون. 

ولعل الكتاب الأهم هو «محاكاة: الواقع كما يتصوره أدب الغرب» الذي عرّبه عن الألمانية محمد جديد (سورية) عام 1998 بمعاونة الأب روفائيل خوري (سورية)، الذي ترجم نصوص العصر الوسيط التي تحتاج لفهمها وترجمتها إنسان متمكن من اللغة اللاتينية، كما ترجم الشواهد اللاتينية أو المكتوبة بلغة العصر الوسيط. والكتاب مكتوبٌ بمنهجية الاتجاهات الجديدة، ولاسيما التأويل الدلالي في مداه الأعمق، متجاوزاً التطبيق المدرسي أو الشروح النظرية، ماضياً إلى رؤى تطبيقية على نصوص أدبية من عصور مختلفة، وبلغاتها الأصلية، إذ يصبح فهم الواقع في هذا الكتاب مختلفاً عما هو سائد، مثيل الواقع، وتكون المحاكاة التي أطلقها أرسطو تفاعلاً للتأويل الدلالي حول نظرة الإنسان الغربي لعالمه الممتد قرابة ثلاثة آلاف سنة في نصوصه الأدبية. وقد أقر المؤلف نفسه بالتباس مصطلحات الاتجاهات الجديدة ولا مألوفيتها، وأحال قراءه إلى كتبه السابقة، ولاسيما «البحث في الرمز»، ونفر من الحواشي والاستشهادات، لتأليفه الكتاب في أستانبول بعيداً عن مكتبته الرئيسة، معتمداً على التحليل الدلالي الرمزي للنصوص نفسها، وهو في جوهر النزعةالتي عززتها الاتجاهات الجديدة( ). 

1-5- نحو علم السرد: 

تعرف النقاد والباحثون العرب إلى السرد في السبعينيات، وتشي مقالات وأبحاث كثيرة في الدوريات، مترجمة أو مؤلفة عن السرد، عن الإقبال الواسع على السرد في دراستهم ونقدهم. وشهدت التسعينيات انفتاحاً أكبر لبحوث القصة والروية على علم السرد، وربما كان لكتاب «طرائق تحليل السرد الأدبي: دراسات» (1992) التأثير الأكبر في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية. ويمثل هذا الكتاب ذروة الاهتمام العربي بالمسألة المنهجية في أبعادها المعرفية النظرية والتحليلية لمنظري علم السرد، وبالاستناد إلى روادها ونصوصها الأصلية والتأسيسية، وقد نفى عبد الحميد عقار باسم المترجمين أن يتعلق الأمر بترف فكري، أو بانسياق مع ما تذروه رياح «العوالم الأخرى»، لأن مثل هذا الاهتمام يترجم في الواقع، حاجة ماسة إلى تعميق المعرفة والوعي بالنظريات وبالمناهج التي تمكن من التقدم في القراءة النقدية للنصوص، ومن المساهمة في حل مشاكل التأويل وتصحيح القراءات التي تفتقد إلى الوجاهة أو إلى المصداقية»( ). 

ثم حدد المدارات المشتركة بينها إجمالاً فيما يلي: 

تنشغل هذه الدراسات بصناعة المفاهيم، وصياغتها بمستوى من الدقة والتحديد يبعد عنها الكثير من الالتباس والتداخل، مثلما تهتم كذلك باختبار مصداقية تلك المفاهيم في سياق التحليل النصي، ودون الاقتصار في ذلك على النصوص البسيطة، بل تتجاوزها إلى خطابات أكثر تعقيداً كالرواية مثلاً، وبمراعاة مقتضيات السياق الثقافي واللساني العام. 

إن استلهام اللسانيات واعتمادها نموذجاً للتحليل، لم يحل دون التأكيد على محدودية هذا النموذج بالقياس إلى تعقد الخطاب السردي والأدبي منه بشكل خاص. 

تخص طرائق التحليل ونماذجه المبلورة مجالات بحث بعينها: السرد الأدبي والروائي منه بشكل خاص. 

وتقف في التحليل عند مستويات نصية لا تكاد تتجاوزها: مستوى الخطاب أو القصة في الغالب إذا ما تبنينا هذه الثنائية الشائعة. 

وقد ضم الكتاب الأبحاث التالية: 

• مدخل للتحليل البنيوي للسرد (رولان بارت، وكان ترجم إلى العربية من قبل أكثر من مرة). 

• مقولات السرد الأدبي (تزفيتان تودروف).

• حدود السرد (جيرار جينيت).

• مقتضيات النص الأدبي (جاب ليننفلت).

• من لا يحكي الرواية (ولغ غانغ كايزير).

• الأسلوب السردي ونحو الخطاب المباشر وغير المباشر (آن بانفيلد).

• القارئ النموذجي (إمبرتو إيكو).

• بصدد التمييز بين الرواية والقصة (ميشيل رايمون).

• السيميائيات السردية: المكاسب والمشاريع (أ. ج. غريماس).

• من أجل سيميائية تعاقبية للرواية (فلاديمير كريزنسكي). 

ثم انطلقوا إلى ترجمة النصوص الأساسية لعلماء السرد ومنظريه ونقاده، أمثال رولان بارت وتودوروف، فترجم لامبرتو ايكو عدة نصوص في الدوريات، وفي كتب مشتركة، غير أن الأهم هو ترجمة انطوان أبو زيد (لبنان) لكتابه «القارئ في الحكاية: التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية» (1996). ويعكس هذا الكتاب مدى التقعيد والتفريع الذي آلت إليه الاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية، وذروته علم السرد، من أجل تقعيده وضبط منهجيته، حتى أن الناشر التمس العذر لمترجمه بالنظر إلى المشاق التي تكبدها بحثاً «عن التعبير واللفظ المناسبين، واستنباط المعاني، والمغامرة باستخدام مصطلحات واشتقاقات ليستطيع التعبير عما يريده عالم كامبرتو ايكو. وقد اضطر أبو زيد أكثر من مرة لتغيير بعض المصطلحات والمفاهيم أثناء العمل على تنضيد الكتاب»( ).

وقد كان المترجم على بينة من الصعوبات التي يفرزها تطور علم السرد منهجياً ومصطلحياً، فعمد إلى وضع الكلمة بنصها الفرنسي إلى جانب النص في عمود خاص، مع العلم أن النص مكتوب بالإيطالية بالأصل، كما وضع فهرساً مشروحاً للمصطلحات في ختام كتابه، وعلى الرغم من ذلك كله، فإن قراءة هذا الكتاب تحتاج إلى معرفة معمقة بجذور علم السرد، في إنجازات الشكلانية الروسية واللسانيات والبنيوية وما أفضت إليه من اتجاهات نقدية، ولا سيما العلامية، وفي جهود ايكو السابقة، ولا سيما كتابه «نظرية في العلامية» Theory of Semiotics (1975). 

وترجم عبد الرحمان أيوب (تونس) أول كتاب باللغة العربية لجيرار جينيت «مدخل لجامع النص» (1985)، ولكن كتابه الأهم في علم السرد هو «خطاب الحكاية: بحث في المنهج Figures III» (1972 بالفرنسية مقارناً بالأمريكية Narrative Discourse: An Essay in Method وظهرت ترجمته بالعربية الط2/ عام 1997)، وقد ترجمه محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلمي (وتفيد المقدمة أن الطبعة الأولى ربما صدرت بالدار البيضاء عام 1994). ولا يماري أحد، أن جينيت مارس، وما يزال، تأثيراً متعاظماً في انتشار الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، بالإضافة إلى بارت وتودوروف وغريماس والشكلانيين الروس على وجه الخصوص. 

واعتقد أن ترجمة «خطاب الحكاية » مثال جيد للجهد الترجمي العارف والمدقق، إذ حوت الترجمة تعريفاً بمارسيل بروست، لأن الكتاب تطبيق للمنهج والنظرية على روايته «البحث عن الزمن الضائع»، وبجينيت بصدد بروست، فيما تلقاه بروست من نقد، وفيما مثله جينيت في علم السرد، وفي الثقافة العربية، استقصاء لحركة ترجمة جينيت إلى اللغة العربية، وآخرها فصل من «خطاب الحكاية» نفسه تحت عنوان «المنظورات السردية» ضمن كتاب «نظرية السرد: من وجهة النظر إلى التبئير» (1989)، وقام بالترجمة مصطفى الناجي، إلى جانب نصوص لواين بوث، وبوريس اوسبنسكي، وفرانسوز روسوم كيون، وكريستيان انجلي، وجان ايرمان.

وأشارت المقدمة الأولى للترجمة أيضاً إلى استثمار جينيت في قراءة نصوص سردية عربية، كما عند سيزا قاسم وسعيد يقطين، وتناولت مشكلات الترجمة وحلولها، ولا سيما مشكلة المصطلحات، وضمانة «للدقة والوضوح حاول المترجمون مضاهاة ترجمتهم بالترجمة الأمريكية التي أنجزتها دجين. إ. لوين، وترجموا مقدمة جوناثان كالر للترجمة الأمريكية. وحرصوا في ترجمة المتن على إيراد عنوانات المؤلفات الأجنبية والتعابير اللاتينية في أسفل الصفحات، مثلما استعملوا خطوطاً متنوعة أحجام الحروف واللون الأسود، مما يجعل من هذه الترجمة مثالاً جيداً لترجمة أمهات الكتب، والمصادر الأساسية في التراث الإنساني القديم والحديث، وتتضاعف حاجتنا إلى أمثال هذه الترجمة في هذا الوقت الذي تردى فيه هذا العلم وهذا الفن إلى مستويات لا تحوز الحدّ الأدنى من الرضى في كثير من النماذج. وتتميز هذه الترجمة بملاحقها، وهي ثبت المصطلحات وثبت الأعلام، وثبت الأعمال الأدبية والفنية والنقدية، وثبت الشخصيات.

ولا شك، أن تأثير منهج جينيت كبير في الممارسة النقدية العربية، كما سنلاحظ فيما بعد في بحثنا، وهذا الكتاب، هو الأساس، في منهج جينيت، ومفاهيمه ومصطلحاته: الترتيب، المدة، التواتر، الصيغة، الصوت، والكتاب، كما يقول جوناثان كالر، بحث في بنى الأدب وطرائقه، و«عمل استفزازي، إضافة إلى أنه أداة لا غنى عنها للباحثين في الحكاية»( ).




1-6- السيرة: 

ووصلت عناية النقاد والباحثين إلى تعريب النصوص النقدية التي تدرس السيرة الذاتية، وتستهدي بالمناهج الحديثة، فترجم محمد القاضي وعبد الاله صوله (تونس) الكتاب العمدة في هذا المجال، وهو «السيرة الذاتية L’Autobigraphie» (1979 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1992) لمؤلفه جورج ماي Georges May، الذي وضع مقدمة للترجمة العربية، عبر فيها عن سعادته بنقل الكتاب إلى العربية لأسباب ثلاثة، أولها أنه عمد، منذ بداية هذا الكتاب، إلى ترديد فكرة شائعة مفادها أن السيرة الذاتية شكل أدبي تختص به الحضارة الغربية، وهذه المبادرة في سبيلها لبطلان هذا الزعم، فما يجمع بين بني الإنسان أكثر مما يفرق بينهم، وثانيها أنه سعيد أن يعلم أن ما كتبه في سالف الزمان لم تبل جدته الأيام، أي راهنية كتابه، وثالثها غبطته برؤية هذا الكتاب ينشر في ترجمته العربية، فمرده إلى أنه طالما أسف لجهله لغة الضاد، ولكن التقارب بين الشرق والغرب، وهذا مظهر من مظاهره، في سبيله لنفي ذلك الأسف، ولعل هذا المظهر أن يكون عن السيرة الذاتية. إنها مفارقة أو معجزة تتمثل في أن حديث المرء عن أخص خصائص حياته هو الذي يجعل قاريء سيرته الذاتية يجد نفسه فيه( ). والكتاب، باختصار، أشمل مرجع عن السيرة الذاتية من منظورات النقد الحديث، وأكثرها دقة وتمحيصاً لقضاياها ومصطلحاتها: تصنيف السير الذاتية، السيرة الذاتية والأجناس الأدبية القريبة، مثل المذكرات، وكتب الوقائع، واليوميات الخاصة، والسيرة، والرواية، والسيرة جنساً أدبياً.

ثم ترجم عمر حلي (المغرب) فصلين من كتاب فيليب لوجون الشهير Le pacte Autobiographique «السيرة الذاتية: الميثاق والتاريخ الأدبي» (1994)، وقد أراد المترجم من هذه الترجمة أن يصحح المفاهيم المغلوطة عن السيرة الذاتية التي «لم تكن ترى في الكتابة الذاتية والأوتوبيوغرافيا، سوى تورم ذاتي لا جذور له في الواقع الذي ينتمي إليه، والذي من المفروض أن يعبر عنه بدل الإغراق في الحديث عن عوالم الفرد ومتاهاتها»( ).

اقتصر حلي على فصلين، يضمان العديد من القضايا الجوهرية في خطاب السيرة الذاتية، وفي علاقة هذه الأخيرة بالتاريخ الأدبي. وقدم لهما بمقدمة ضافية عن نقد الميثاق الأوتوبيوغرافي: مشكلات الحد والمصطلح والتطابق والعقد والخانة الفارغة والأسلوب، وإعادة الخلق الشعري، وأيديولوجية السيرة الذاتية، ومسألة التوثين، وعقدة الذنب، مما يجعل قراءة لوجون للسيرة الذاتية أقرب إلى النص العلمي النقدي. 



1-7- عود إلى ما بعد الحداثة: 

تعامل النقد الأدبي مع مفهوم ما بعد الحداثة بارتباك زاد التباسه التباساً أشد، وإذا كان المفهوم في الغرب يعاني من القلق وفقدان التحديد، فإن الناقد العربي، ومثله المفكر، دوهم به، ولم يرق به إلى حدود واضحة، وموقف نقدي( ).

ومما يجدر ذكره أن مصطلح «ما بعد الحداثة» لم يستقر بعد، عندنا، أو خارج الحدود. لقد نشأ المصطلح متعثراً على أنه رد فعل على الحداثة، مما يشير إلى بلبلته، شأن ما يلازم ردود الفعل إبان صدورها المباشر، وكان الأمريكي، المصري الأصل، إيهاب حسن، الناقد الأكثر تتبعاً، وتنظيراً، للمصطلح خارج الحدود، ولاسيما كتابه «عودة ما بعد الحداثة» (1987). لاشك أن مؤلفات كثيرة، كتباً ومقالات وأبحاثاً، ظهرت قبل ذلك عما سمي «مابعد الحداثة» في النقد الفرنسي أو النقد الأنجلوسكسوني، غير أن إيهاب حسن عني منذ مطلع السبعينيات بهذه الانبثاقات أو التجديدات من داخل الحداثة، لمغايرتها، أو لتجديدها، ولعلنا نشير في هذا الاتجاه إلى مقالة مبكرة لإيهاب حسن عن «جويس، بيكت، وخيال ما بعد الحداثة». على أن استخدام إيهاب حسن نفسه للمصطلح مقلقل ملتبس، فيسميه «ما بعد الحديث»، وثمة تداخل قائم ومستمر بين اشتقاقات الحديث والحداثي والحداثة (Modern, Modernity, Modernism). وقد صارت بلبلة المصطلح إلى سخرية من المعجم الخطابي الذي يصف ظاهرة ما بعد الحداثة، وأورد صبحي حديدي (الكرمل، 1997، العدد51) أمثلة صاخبة لهذه الأصداء الساخرة كما في حديث عالم الاجتماع والناقد الثقافي الأمريكي دانييل بيل عن تخبط ولخبطة وشقلبة (Muddle, Jumble, Tumble).

رصد إيهاب حسن ظهور المصطلح في الثقافة الغربية، فوجد أن فيدريكو دي أوتيس (1882-1932) هو أول من استخدم المصطلح في كتاب له مطبوع عام 1934، ثم التقطه لي فيتس، وصنف في إطاره الشعر الأمريكي-اللاتيني المعاصر عام 1942. وتلاهما توينبي في كتابه «دراسة في التاريخ_» عام 1947، في سياق مختلف عن سابقيه. كان القصد لدى الأولين هو الإشارة إلى رد فعل ثانوي على الحداثة من داخلها، بينما عاين توينبي المصطلح حلقة تاريخية جديدة في الحضارة الغربية. دار المصطلح على أقلام النقاد مداراً للسخرية والهجاء أكثر منه دلالة رضى أو تقدير، مما يشي بتحول المصطلح إلى «تعبيرات» متباينة عن اتجاهات رافضة أو معارضة للسائد الأدبي: الحداثة ناجزة أو متصارعة مع التقاليد والأصول والتأصيل، توكيداً لهوية حاضرة أو غائبة أو مغيبة، وهي صراعات أججتها طوابع الحداثية الأوربية باسم المركز والأطراف التي مرت بأطوار متعددة من التبعية إلى الغزو الثقافي إلى العولمة، بينما شهدت، وما تزال اتجاهات «ما بعد الحداثة» صراعات الصمت، مضافة إلى صراعات المستور، مما يستدعي إعادة الاعتبار لثقافات تعاني من الإهمال أو اللامبالاة، وبينما سمى نقاد أمثال أرفنج هاو وهاري ليفين «ما بعد الحداثة_» سقوطاً عن الحداثة، رأى آخرون أمثال إيهاب حسن أن «ما بعد الحداثة_» حاضنة لثقافة الجماهير وأضزابها من فنون البوب أو الصمت أو السوبرمان أو غودو أو التفكك أو اللا توجه، حتى أنه أطلق على العصر الراهن اسم عصر «اللا توجه الملازم» (1981).

وقد كان كتاب سامي أدهم (لبنان) «ما بعد الحداثة: انفجار عقل أواخر القرن ـ النص: الفسحة المضيئة» (1994) أول استجابة للمفهوم، غلب عليها عرض تطورات الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الغرب، ونقد التخلف العربي: «بموازاة الحداثة في الغرب كان الشرق يعيش بقايا حضارة تشظت وتفتت، وكان الإنسان الشرقي يحاول لملمة بقايا عبقرية غابرة ليرمم بها ما تداعى وما سقط من حضارته السالفة»( ).

وترجم أحمد حسان (مصر) كتاب جان فرانسوا ليوتار Jean-Francois Lyotard «الوضع ما بعد الحداثي ـ تقرير عن المعرفة La Condition post-moderne» (1979 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، وملحق به مقال: الإجابة على سؤال: ما هي ما بعد الحداثة؟ مع تصدير بقلم فريدريك جيمسون، وهو واحد من منظري ما بعد الحداثة البارزين. وتكمن قيمة تصديره الأساسية في إضاءة هذا المفهوم في بعده الحضاري والفكري الشامل، أي أنه لا يقتصر على الأدب والنقد، مما يجعل الاستجابات العربية له ضعيفة، غير تاريخية، ناهيك عن عدم اتساقها مع الأنساق الثقافية العربية: 

«إن إصرار ليوتار على تحليل الحكاية في وضع تبدو فيه الحكايات نفسها مستحيلة، هو إعلان عن عزمه أن يظل سياسياً ومجادلاً، أي أن يتجنب حلاً واحداً ممكناً، وحتى منطقياً للمأزق يتمثل في أن يكون، مثل دانييل بل، منظراً أيديولوجياً للتكنوقراطية، ومدافعاً عن النظام ذاته. وطريقته في عمل ذلك هي نقل الأيديولوجيات الأقدم للحداثة العليا الجمالية، والاحتفاء بطاقتها الثورية، إلى العلم والبحث العلمي بالمعنى العلمي المحدد. بذلك فإن قدرة هذا الأخير اللامتناهية على الابتكار، والتغير، والقطيعة والتجدد، هي التي ستشبع النظام، الذي لولا ذلك لكان قمعياً، بالإثارة النازعة للاستلاب للجديد والمجهول (آخر كلمة في نص ليوتار)، وكذلك بالمغامرة، برفض الامتثال، وبتنافرات الرغبة»( ). 

ويُلاحَظ أن حركة تعريب الكتب الخاصة بما بعد الحداثة لم تنفع في إجلاء المفهوم أو أبعاده أو تاريخه أو تاريخيته، لأن المترجمين والمراجعين اكتفوا بتعريب الكتب دون مثل هذا العمل التعريفي أو النقدي اللازم، أو هم بعيدو الاهتمام عن هذا الفكر واشتغالاته، فقد ترجم فخري خليل (فلسطين، وقام بالمراجعة جبرا ابراهيم جبرا) كتاب إدوارد لوسي سميث «ما بعد الحداثة: الحركات الفنية منذ عام 1945» (1995)، غير أن هذا الكتاب لا يحدد مفهوم ما بعد الحداثة، ولا يوضح الحركات الفنية المعبرة عنه، بل يكتفي بالنظر إليها تطويراً لحركات الحداثة فيما الحرب العالمية الثانية، ويركز على الفنون الجميلة والاتصالية كالتصوير والنحت ومقارناتهما مع الموسيقى والسينما، ويورد أمثلة لهذه الحركات ما بعد الحداثية مثل التعبيرية التجريدية وما بعد الرسومية والسوبريالية..الخ.

بينما عرّبت فاطمة الجيوشي (فلسطين) كتاب جياني فاتيمو «نهاية الحداثة: الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة 1987» (1998، الكتاب بالأصل بالألمانية، وصدر عام 1987)، ولا يؤطر مؤلفه المفهوم أو تاريخه، بل يعالج هذا المفهوم من خلال النظرة الفلسفية لثلاثة من أكابر الفلاسفة الألمان: «هيغل ونيتشه وهيدرجر»، أما المعربة فهي معروفة في التربية، ولكنها بعيدة عن اهتمامات الحداثة وما بعدها وميادين النقد الأدبي والمعرفي، فهي تعرب الشكلانية الروسية Formaliste بالصوريين الروس أو الأصل الصوري، بينما الصورية مذهب آخر، ظهر في بريطانيا في مطالع القرن العشرين( ).

تتردد عبارات مقاربة في النقد الأدبي الحديث لمفهوم ما بعد الحداثة، ولكنها شائهة الملامح، غير محددة وغير وظيفية. 




1-8- الأسلوبية: 

برزت دراسات الأسلوبية في السبعينيات، وكان عبد السلام المسدي (تونس) من أوائل النقاد العرب الذين طرحوا الألسنية بديلاً في نقد الأدب، على أن الأسلوبية درس لغوي ألسني في نقد الأدب. وقد صنف كتابه «الأسلوبية والأسلوب» (1977) ليبين الآفاق التي فتحتها الألسنية أمام النقد الأدبي خلل التفقه في الأسلوبية، بتمثل أسسها وتفهم نظرياتها والمسك بزمامها. ولعلنا نلاحظ هذا التداخل الواضح بين الأسلوبية والألسنية في تعرف الباحثين والنقاد العرب لهذه المناهج وفي ممارستهم.

تعامل المسدي مع الأسلوبية منهجاً لغوياً تكون مع الحداثة والمعاصرة، فاهتم بالأشكال، وأسس البناء في النص، والعلم وموضوعه، وأخذ مفهومه للأسلوبية من م. آريفاي Michel Arrive ودولاس وريفاتير، فالأول يقول بأن الأسلوبية وصف للنص الأدبي حسب طرائق مستقاة من الألسنية، والثاني يعرف الأسلوبية بأنها منهج ألسني، والثالث يراها علماً يهدف إلى الكشف عن العناصر المميزة التي بها يستطيع المؤلف الباث مراقبة حرية الإدراك لدى القارئ المقبل لتغدو الأسلوبية ألسنية تعنى بظاهرة حمل الذهن على فهم معين وإدراك مخصوص( )، فدرس مصادرة المخاطب والمخاطب والخطاب والعلاقة والإجراء في سبيل إعادة تعريف الحدث الأدبي، وتوجيه الأسلوبية لتتحدد بكونها علماً إنسانياً.

وأعاد المسدي طباعة كتابه طبعة ثالثة منقحة ومشفوعة ببليوغرافيا الدراسات الأسلوبية والبنيوية، واشتمل التعديل على بعض المصطلحات تدقيقاً، ووضع سعد مصلوح (مصر) كتابه «الأسلوب، دراسة لغوية إحصائية» (1981) وجنح به إلى المواءمة بين خصوصيات الأسلوبية العربية، وبين اجتلاب المصطلح. وتبعه صلاح فضل (مصر) في كتابه العلمي الشامل «علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته» (1983)، ومحمد عزام (سورية) في كتابه الأكثر مقاربة منهجية «الأسلوبية منهجاً نقدياً» (1989)، وقطع فيه بحداثة الدراسات الأسلوبية في النقد العربي، وأنها «مستمدة من التفاعل الحضاري مع الغرب، ولكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك بدائل أو مقاربات أسلوبية في نقدنا القديم، ومن هنا يصبح منطلق هذا البحث هو مباشرة التراث والمعاصرة: مباشرة التراث من منطلق التفاعل بينه وبين الحداثة، ولن يمكن ذلك بغير فهم هذا التراث النقدي، واستجلاء أبعاد النظرية الأدبية التي يتضمنها، وتجاوز هذا الموقف إلى عرض مظاهر الحداثة في هذا التراث، والتي يمكن أن تساهم في تأكيد المعاصرة كظاهرة فاعلة لا منفعلة، ومبدعة لا مجرد متلقية مستلبة. ومباشرة المعاصرة لا من منطق الاستيراد، بل من أفق التفاعل الحضاري الذي يمكننا من غربلة تراثنا على ضوء منهج علمي يخرجنا من دائرة الاستلاب الثقافي الماضوي أو الغربي، من أجل إبداع موقف ثقافي معاصر»( ).

أراد عزام من كتابه إثارة الاهتمام بهذا المنهج النقدي الجديد، فحدد مفهوم الأسلوب، وتاريخه، وعناصر الخطاب الألسني، وتعريف الأسلوب، وبحث علاقة الأسلوبية بالبلاغة وبالنقد الأدبي، والاتجاهات الأسلوبية في النقد الأدبي، التعبيرية والفردية (أسلوب الكاتب والبنيوية)، ونظر بإيجاز في النقد الأسلوبي العربي عند القدماء، والنقد الأسلوبي العربي الحديث والمعاصر، مستفيداً من الاتجاهات المنهجية الجديدة: منهج تحليل الوظائف الأساسية في الحكاية، ومنهج تحليل الأشخاص ـ العوامل، ومنهج تحليل أشكال التعبير (الزمن ـ الضمائر ـ الأمكنة).

وأصدر فايز الداية (سورية) سلسلته النقدية «دراسات أسلوبية»، وبدأها بكتابه «جماليات الأسلوب ـ الصورة الفنية في الأدب العربي» (1990). ولا يخفى أن دراسته، ومثلها دراسته الثانية عن جماليات الأسلوب «دراسة تحليلية للتركيب اللغوي» (1982) أدخل في البحث البلاغي واللغوي منها إلى مفهوم الأسلوب والأسلوبية بالمصطلح الحديث.

وربما كان منذر عياشي (سورية) الأكثر تقديراً لمكانة الأسلوبية منهجاً يعتمدعلى علم اللغة بمفهومه الحديث، فقد عرّب كتاب «الأسلوب والأسلوبيةLe Style et Stlistique » (ظهرت ترجمته في العربية عام 1989)، لبيير جيرو Pierr Guiraud، وهو كتاب يعرض نظرية جديدة للأسلوبية بوصفها فناً بلاغياً وكتابياً يتجه نحو إنشاء علم للأدب، وجرى وضع مفهوم الأسلوب في منظوره التاريخي، وذلك لكي يفحص جيرو كيف يلد ببطء من إرث لا يزال فيه سجيناً، على حد تعبيره، فكانت أسلوبيته «دراسة للمتغيرات اللسانية إزاء المعيار القاعدي. وهذا يتطابق مع التقليد القديم الذي يضع البلاغة في مواجهة القواعد. والقواعد، في هذا المنظور، هي مجموعة القوانين، أي مجموعة الالتزامات التي يفرضها النظام والمعيار على مستعمل اللغة، فالأسلوبية تحدد نوعية الحريات في داخل هذا النظام. القواعد هي العلم الذي لا يستطيع الكاتب أن يصنعه. أما الأسلوبية، فهي ما يستطيع فعله. ولكننا لن نخلط بين ما يستطيع فعله وما يفعله، لأن هذا هو موضوع نقد الأسلوب على مستوى النص»( ). 

ثم اهتدى عياشي بهذه النهاجية الجديدة في فهم الأسلوبية لدى تأليفه لكتابه «مقالات في الأسلوبية» (1990)، اختلافاً عما هو شائع من أن الأسلوب هو الالتزام بقواعد اللغة، والأخذ بأساليب الفحول والمحاكاة للنماذج الأدبية الرفيعة، فالأسلوب، عند عياشي، خرق لقواعد اللغة، وخروج عن المألوف في التعبير وتحويل الكلام عن مساره النفعي الاستهلاكي إلى مسار آخر يجعل الكلام فناً وإبداعاً. ومدار ذلك تحويل على اللغة، بالأسلوبية، إلى منهج معرفي ونقدي فيما سماه عياشي «موقفاً من الخطاب»، فالأسلوبية «مضطرة في تحليلها، لكي تكون رسماً دقيقاً لواقع الأسلوب، أن تنفتح أولاً على وقائع حضارية وجمالية، وأن تعلو على المجتمع والتاريخ، لأنها في تعاملها معه إنما تتعامل مع كائن كلامي، تقول لغته مكونات المجتمع والتاريخ، أو تعيد بناءها لتتجسد فيها كائناً إبداعياً، يتجاوز المقول فيه حدود الآنية الاجتماعية، والظرف الوصفي، والتاريخ زمناً في الماضي»( ). 

ثم كانت مقاربة أعمق وأشمل لدى عدنان بن ذريل في كتابه «النقد والأسلوبية بين النظرية والتطبيق» (1989)، وقد اوضح عدنان بن ذريل في كتابه أن الصلات بين الأسلوبية والنقد الأدبي وثيقة وحميمية، إذ هما يتمم بعضهما بعضاً، ويستفيد بعضهما من البعض الآخر، الأسلوبية علم وتأصيل، والنقد الأدبي تطبيق وتقييم، ونقطة الانطلاق لهما في ذلك هي اللغة وحديثها، الملفوظات وملفوظيتها»( ).

وهذا الكتاب جزء من مشروع عدنان بن ذريل الكبير في درس اللسانيات وقيمتها المعرفية والمنهجية والنقدية، كما في كتبه الأخرى أيضاً: «اللغة والأسلوب» (1980) و«اللغة والدلالة» (1981)، و«اللغة والبلاغة» (1985).




1-9- اللسانية: 




نظر الباحثون والنقاد العرب إلى الألسنية، على أنها علم اللغة الحديث، أي جهود درس اللغة في نهاجيات حديثة، وعبر ذلك ميشال زكريا (لبنان) في كتاب مبكر يخصص للتعريف بالألسنية باللغة العربية، وهو «الألسنية ـ علم اللغة الحديث ـ مبادؤها وأعلامها» (1980)، أما عن المصطلح، فكنا أشرنا إلى ملاحظة عبد السلام المسدي حول تعدده وعدم الاتفاق على مصطلح واحد، وحوى الكتاب الكبير في عدد صفحاته (320 صفحة من القطع الكبير) فصولاً عن خصائص اللغة الإنسانية والحيوانية، واللغة بوصفها واقعاً قائماً بذاته: للغة بنية وتنظيم، اللغة وسيلة تواصل ونظرية التواصل، اللغة تنظيم رموز، اللغة نشاط إنساني، اللغة نشاط عقلي، والنهج التكنولوجي في درس اللغة من القواعد الشكلية إلى النظرة التوليدية إلى نماذجه، اللغة وليدة تطور، والقواعد المقارنة في درس اللغة، وتطور اللغة عند الطفل، ومنهجية الدراسة الألسنية، وموضوعها ومحاورها التأريخية والتعاصرية، واللغة في شكليها المكتوب والمحكي، ومادة الدراسة الألسنية وطرائقها الاستقرائية والاستنباطية، والنشاط العلمي التصنيفي والتنظيري، وتطبيق ذلك على الأنموذج اللغوي، وعناصر الدراسة الألسنية من التأمل إلى التنظيم إلى المادة والشكل، إلى التوزيع، إلى الوحدات اللغوية، إلى مفهوم القاعدة اللغوية، إلى مستويات اللغة الصوتية والدلالية (حيث ينشأ في الوقت نفسه علم الدلالات وعلم الإشارات)، والتركيبية، وشكل القواعد التوليدية التحويلية.

ثم خصص زكريا فصولاً لأعلام الألسنية: ادوار سابير، وفردينان دي سوسور، وليونرد بلومفيلد، ونيقولاي تروبتسكوي، وروهومان جاكبسون، ولويس يلمسليف، واندره مارتينه، وزليغ هاريز، ونوام تشومسكي، وولهام فان همبولد، وراموس راسك، وفزانزبوب، ويان بودوان دي كورتناي، واتوتو جاسبرسن، وشارل بالي، وانطوان مايه، وغوستاف غيوم، وجون فيرث، وتميز عرض زكريا بالإحاطة والعمق والشمول لإنجازات هؤلاء الإعلام، وختم كتابه بمعجم مصطلحات الألسنية، وبثبت لأهم مؤلفات أعلام الألسنية ومراجع ألسنية عامة في اللغتين الفرنسية والإنكليزية، ومراجع ألسنية في اللغة العربية، وتنصرف الأخيرة إلى ست مقالات وأبحاث في الدوريات العربية، وكتاب واحد مباشر في موضوعه هو «الألسنية العربية 1 و 2» (1972) لريمون طحان، وأطروحة جامعية لم تطبع بعد هي «رواد الألسنية الحديثة» (1973). وثمة كتب قليلة مكتوبة بتأثير من نظريات اللغة الحديثة، وأهمها: «أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة» (1978) لنايف خرما (فلسطين).

غير أن صالح الكشو (تونس) تقصى اللسانيات في جذورها التاريخية الأبعد وأوغل في إشكاليتها المعرفية والمنهجية أبعد مما بحثه زكريا، في كتابه «مدخل في اللسانيات» (1983) سواء في بعدها اللغوي والنحوي العربي، أو في كيفيات دلالتها عند النمطيين: الأفلاطونية والأرسطية والديكرتية، كالمقال الطبيعي في الكلام، والنحو العام والمقعلن، والنحو الفلسفي في القرن الثامن عشر عند الإيديولوجيين والنظريين مثل هريس وأبحاثه الفلسفية في النحو العام، وبرستيلي ومحاضراته في نظرية الكلام والنحو العام، وآدام سميث وتأملاته في أصل اللغات وتكوينها، وهومبالث وقدرة اللغة على التوليد، أو في جوانب إشكاليتها إزاء التحويل والتوليد لدى سابير، ولي وورف، وز. هاريس، ون. تشومسكي.

ويلاحظ أن الكشو ناقش بعض القضايا المعلقة في اللسانيات كما في تراثها الغربي مثل البيان الأركاني الأول، والعلاقات الجذرية الدلالية والبنى الواسطة، والصورة المنطقية، والدلالة التوليدية. وقد اعترف الكشو أنه لم يقصد إلى التاريخ للسانيات العامة، وأنه يرمي إلى الأشعار بوجوب تقييم العمل اللغوي العربي القديم، خاصة منه المادة النحوية من حيث هي مادة، مما بات ضرورة اليوم، أي استهدافه التعريف ببعض وجوه الدرس اللغوي القديم بتجميع ملخص لعدد من الآثار قد يصعب تناولها، أو حتى العثور عليها بالنسبة إلى الطالب، وتقديم بعض النصوص مترجمة عن الأصل حتى تتضح الأفكار في انتظار ترجمات كاملة تغني عن المداخل والتلاخيص، وتقريب النحو من مشاغل كل الذين يعنون بالعلوم الإنسانية من الطلبة، علّ الفائدة تكون كذلك في نماذج الاختصاصات والبحث الجمالي( ).

ووجه عبد السلام المسدي (تونس) عناية كبيرة للسانيات (يفضل استخدام هذا المصطلح، بينما يؤثر نقاد وباحثون آخرون مصطلحات مختلفة)، فوضع عدة مؤلفات في هذا المجال، هي: «قاموس اللسانيات مع مقدمة في علم المصطلح» (1984)، وعرضنا لمقدمته في موقع آخر من بحثنا في أثناء الحديث عن التأليف المصطلحي، و«اللسانيات من خلال النصوص» (1984)، و«اللسانيات وأسسها المعرفية» (1986)، و«مراجع اللسانيات» (1989)، غير أنه شارك أيضاً في جهد مهم مع عبد القادر المهيري وحمادي صمود (تونس) في تلمس اللسانية في التراث العربي.

في كتاب «النظرية اللسانية والشعرية في التراث العربي من خلال النصوص» (1988)، وهذا الكتاب مهم في توكيد أصالة المناهج المعرفية والنقدية عند العرب، ومفيد في الكشف عن القصور في درس التراث اللغوي والمعرفي والنقدي العربي في سيرورته من القديم إلى الحديث، إذ رأوا أن للتراث العربي في فعالية الصورة ـ على سبيل المثال «مساهمات جديرة بالاعتبار والاستحضار، إذ ينخرط الكثير منها في مشاغلنا المعاصرة. ولعل من أطرف ما يلاحظ تناول البلاغيين والنقاد مسألة الوظيفة في مستويين: مستوى وصفي يكتفي بالتقاط ما يعتري المتلقي من ردود فعل إزاء الفعل الشعري، ووضعوا لذلك ثبتاً بالمصطلحات حاولوا من خلاله النفاذ إلى تلك الحالة الغريبة التي تعتري المتلقي والفتنة التي تغشاه...

أما المستوى الثاني في دراستهم للقدرة، فقد حاولوا فيه تعليل ما يحدث في النفس عن الكلام الراقي والبحث عن السر فيه. فكان أن خرجوا من البحوث اللغوية والأدبية إلى بحوث نفسية فيزيولوجية، لا تخلو، أحياناً، من صبغة ما ورائية، لتبين مكمن اللذة ومبعث الرغبة وأصل الانفعال، فارتدت في هذا المستوى تصوراتهم الأدبية إلى أصول نظريتهم في المعرفة وترتيبهم لقوى النفس ووسائل الإدراك»( ).

وثمة إثارة لنقاط كثيرة في التواصل المعرفي لتكون الأنساق الثقافية، كمثل الإجابة على السؤال الهام: كيف تتولد الشعرية؟ إذ «تشهد نصوص التراث بالجهد الذي بذله النقاد والبلاغيون والمشتغلون بعلم الأدب لتقريب مفهوم الشكل والهيئة في الكلام ذلك أن اللغة خطية لا تشغل حيزاً، ولا يرتسم على ظاهرها شكل، ولا يبدو عند تمثيلها بالكتابة نتوء، ومن علامات ذلك الجهد اعتمادهم التشبيه والتقريب.. فقد حملوا عمل الشاعر على عمل غيره منطلقين من مسلمة مفادها أن الشاعر صانع كلام ومصور أشكال لا يختلف عمله عن عمل غيره من الصناع الذين تقوم صنائعهم على المزج والتركيب والتمثيل بالتصوير»( ). ولعلنا نعود إلى ذكر الشعرية ثانية.

ثم تطور البحث في اللسانيات من منظورات تأليفية أكثر أصالة، كما في أعمال منذر عياشي ومحمد عزام (سورية)، حيث يستقيم المنهج دون الاعتماد الكلي على الترجمة، أو تمام المقايسة على إشكالياته التي رافقت تكونه في الغرب، فدرس عياشي تطور اللغة العربية في فرادتها بين اللغات، داعياً إلى منهج خاص بها يراعي قدرتها على استيعاب الحياة والتعبير عنها في كتابه «قضايا لسانية وحضارية» (1991)، وتشير عنوانات فصوله إلى مقاربة هذا المنهجالخاص: اللسانيات بين واقع التخلف والمنهج العلمي، اللسانيات العربية وعوائق البحث، اللسانيات العربية بين الأصالة والتعريب، منظور اللغة في التراث العربي، العربية ووهم ازدواجية اللغة، اللغة والتطور في الدراسات اللسانية، اللسانيات ومنهج التفكير عند العرب، بنية اللغة العربية بين القواعد الشكلية والقواعد التوليدية. وقدم اقتراحاً يقضي بتحاشي استعمال المصطلحات العربية القديمة في مقابل المصطلحات، لينصرف الباحث إلى العمل في اتجاهين:

«أن يستنبط مصطلحات جديدة لاستعمالها في مقابل المصطلحات الغربية، وأن يستعمل المصطلحات الغربية مكتوبة بأحرف عربية، ولكن بشرط أن نرفقها بشرح بسيط يضعه ضمن قوسين، أو في أسفل الصفحة، وذلك بانتظار أن يأخذ البحث اللساني العربي مجراه ويعمق جذوره. ويجب على الباحث في الحالتين أن يعتمد على: 1- نظام الصرف العربي في استخراج المصطلح، 2- وأن يسعى إلى توحيد المصطلحات ما أمكنه ذلك»( ).

وخطا عياشي خطوة أكبر في مشروعه في كتابه «اللسانيات والدلالة ـ الكلمة» (1996) تطويراً للبحث اللساني الذي أدى إلى تطور جملة من العلوم، لها صلة بالظاهرة اللغوية. فقد أوضح في الوقت نفسه استقلالية المنهج اللساني من غير أن تحدث قطيعة معرفية معها. «وكان من نتائج هذا التطور أيضاً، أن استطاعت اللسانيات أن تجمع إليها ـ ضمن الحقل المعرفي للدراسات الإنسانية ـ جملة من ميادين البحث كان مقدراً لها أن تصبح علوماً مستقلة. وبهذا، فقد حلت محل الفلسفة. وصار مقدراً لها أن تثير الأسئلة، وأن تصوغ القضايا، فاندفعت العلوم الإنسانية، في ركابها، تشق طريقها نحو تطورها الخاص»( ).

وخصّ عياشي كتابه بدراسة علم الدلالة بوصفه جزءاً من اللسانيات، أو هو فرع من فروعها، وتناول في مدخله علم الدلالة في منظوريه العربي والغربي وموضوع علم الدلالة أي المنظور الفينومينولوجي، ثم عالج بعض القضايا الدلالية والمصطلحات والاتجاهات، على أن معالجته دائماً اتسمت بالروح النقدية والتأصيلية.

أما محمد عزام فكان مقاربته للسانيات أقرب إلى النقد الأدبي، أي أنه درس اللسانية منهجاً نقدياً في كتابه «التحليل الألسني للأدب» (1994)، مما يشير إلى التأثير العميق لمناهج العلوم اللغوية في الاتجاهات النقدية الحديثة. وتكمن مزية عزام في معالجته لموضوعه ضمن سيرورة تطور النقد اللغوي العريق في الثقافة العربية القديمة والحديثة. ولا يخفى أن عزام جانب الأوهام العالقة بالممارسة الأدبية في رأيه الحصيف حول حال المنهج اللساني، فقد «بادر العرب المعاصرون فأقدموا على ممارسة عملية في اللسانيات استقوها من مناهج الحداثة الغربية، مهتدين بروحها الوضعي، في مرحلة أولى على الأقل. وفي مرحلة تالية تجاوزوا مرحلة الأخذ من مصدري التراث العربي والحداثة الغربية، إلى مرحلة العطاء العلمي، في أربعينيات هذا القرن وخمسينياته. وعندما انفجرت الثورة الألسنية المعاصرة عند سوسير وشومسكي وغيرهما، ترامت إلينا بعض أصدائها، ورحل إليها بعض أبنائنا فغادروا بالزاد الوفير»( ).

وضع عزام التحليل الألسني للأدب في سياقه الثقافي العربي، فعرض تاريخ النقد اللغوي عند العرب، ومواقف النقاد العرب من قضية اللفظ والمعنى، ومستويات النقد الألسني عند العرب، وفصل القول في مناهج النقد الألسني: منهج إمكانيات النحو، منهج النظم، منهج الكلمات ـ المفاتيح، منهج تحليل الانحراف، منهج الاختيار، المنهج الإحصائي، وفي مستويات التحليل الألسني للأدب: المستوى الصوتي (الفونولوجي)، والمستوى اللفظي، والمستوى التركيبي (النحوي)، والمستوى الدلالي.




1-10- علم الدلالة:

وتفرع عن اللسانيات والعلوم اللغوية علوم أخرى مثل الأدلة والإشارة والشعرية. وكانت ترجمة محمد البكري (المغرب) لكتاب رولان بارت «مبادئ في علم الأدلة Elements de Semiologie» (1964 وظهرت ترجمته في العربية عام 1987) من المصادر الأولى للتعرف إلى القابليات المتنوعة للبحث الدلالي من منظور لساني. وعلى الرغم من صدور الكتاب بلغته الفرنسية قبل أكثر من عشرين سنة، فإن الحاجة إليه ما تزال راهنة، برأي المترجم، لاحتوائه على محاولة أولى لتقعيد علم الأدلة، وقد استعان على توضيحها، بالإضافة إلى هذا الكتاب، بكتب بارت الأخرى، وعدد موضوعات علم الأدلة:

وسائل التواصل الحيواني.

دلائلية التواصل الجماهيري.
دلائلية السرد.
دلائلية الأزياء.
صنافة (من التصنيف) الثقافة.
ثم عدّ المترجم «نشر هذه الدراسة سنة 1964 علامة فاصلة بين مرحلتين متمايزتين في تاريخ تكون علم الأدلة وتطوره، أولاهما المرحلة التي تحدثنا عن بداياتها، والتي انتهت بجهود جاكوبسن في الشعرية، وبنفينيست عن التحدث، ويالمسيليف في النظرية الدلائلية العامة وعلم الأدلة.. الخ.. وثانيتهما مرحلة بداية العمل الدلائلي المركز نظرياً وتطبيقياً، وصيرورة الإشكال الدلائلي إشكالاً رئيسياً، وبعث المشاريع الدلائلية الكبرى، ومن ضمنها أعمال م. باختين، خصوصاً بعد نضج الظروف التاريخية والتراكم المعرفي الهائل الذي توالى طوال ما ينيف على نصف القرن في شتى مجالات المعرفة والعلم»( ).
وعرّب فيما بعد منذر عياشي كتاب بييرو جيرو «علم الدلالة La Semantique» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1988)، وهو أكمل صورة لاكتمال هذا العلم في الغرب، وحظي الكتاب بتقديم باحث لساني بارز هو مازن الوعر (سورية)، أشاد فيه بتعريب عياشي لحقل الدلاليات الصعب، ولا سيما هذا الكتاب الذي حقق درجة عالية من المنهجية التحليلية العلمية. ويحفل الكتاب بشروح وافية للمعنى وقضية الدلالة والوظيفة الدلالية، وتغيرات المعنى وأشكالها وأسبابها، والمنظور البنيوي، وعلم الدلالة البنيوي. ويحتل اعتراف المؤلف بقيمة كتابه المحدودة أهمية خاصة لتواضع العلماء حين وجد بحثه مدخلاً لبعض المؤلفات الاكثر كمالاً واكتمالاً( ).
وتوالت حركة تعريب الكتب في علم الدلالة، واتوقف عند كتابين، الأول هو «مقدمة إلى علم الدلالة الألسني Eine Einfuhrungin die Sprach Wissen Ehaftlich» (1974 وظهرت ترجمته في العربية عام 1990) لهربيرت بركلي Herbrt Brekle ، الذي يضع فيه مؤلفه هذا العلم في سياق علم اللغة العام بعامة، واللسانيات بخاصة، ويفسر بعض مفاهيمه، ويرى مترجمه قاسم المقداد (سورية) أن الكتاب من شأنه أن يطور علم الدلالة باقتراحه «لنظرية جديدة تدرس المعاني استناداً إلى مكونات السيميائية الثلاث: علم التراكيب، والدلالة، والبراغماتيك. ويعتبر المؤلف أن نظرية من هذا النوع، هي وحدها القادرة على مجابهة إشكالية دراسة المعنى أو الدلالة»( ).
والكتاب الثاني هو«الأدب والدلالة Litteature et Signification» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1996) لتزيفتيان تودوروف، بترجمة محمد نديم خشفة (سورية)، ويدخل فيه مؤلفه من الدلالة إلى الشعرية بالنظر إلى تقارب التخوم بينهما في فترة تكون مثل هذه العلوم، لأن الكتاب عمل دراسي جامعي، بالأساس، يتخذ التطبيق على رواية «العلاقات الخطرة» موضوعاً له، ويضيف: «أن موضوعها الأعمق هو الشعرية ذاتها، بمفاهيمها، ومناهجها، وإمكاناتها»( )، فتغدو الدلالة عنده سبيلاً للتأويل بمستوياته: معنى الرسائل، تأويل الشخصيات، تأويل القارئ، تحليل السرد، المظهر الحرفي للسرد، السرد كعملية نطق، المجازات والصور البلاغية، البلاغة في حالتها الحاضرة.


1-11- علم الإشارة:
وجرى الاهتمام بعلم الإشارة، وظهر أكبر جهد تعريفي له في تعريب منذر عياشي لكتاب بيير جيرو «علم الإشارة ـ السيميولوجيا Semiologie» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1988)، على أن هذا العلم تطورت منهجياته، وتنوعت اتجاهاته، ومنها الاتجاه الفرنسي إلى دراسة اللسانيات الأدبية (اللغة الأدبية) عبر عن انتشارها خير تعبير ظهور مجلة السيميائيات (Semiotica) التي يصدرها الاتحاد العالمي للدراسات السيميائية (السيميولوجية)، توكيداً على علمية هذا الحقل واستقلاليته في الوقت نفسه( ).
وعمد محمد نظيف (المغرب) إلى تأليف كتاب تعريفي بهذا العلم سماه «ما هي السيميولوجيا؟» (1994)، و«هو العلم الذي عرفه دوسوسور بدراسة حياة العلاقة في كنف المجتمع»( )، وقد سجل نظيف في كتابه المخاض النظري الذي تعيشه السيميولوجيا خلال هذا القرن على يد باحثين أثروا بدرجة كبيرة البناء النظري السيميولوجي الحديث، وحدد مجالاته الأساسية: الصوتيات، الدلالة، المورفولوجيا.
ونلاحظ أن التداخل بين العلوم اللغوية الحديثة جميعها واضح، وهو أكثر صراحة كلما استخدمت تحليالها في دراسة الأدب ونقده.


1-12- الشعرية:
أثيرت الشعرية بقوة، على نطاق واسع، في كتاب علي أحمد سعيد (أدونيس) في كتابه «الشعرية العربية» (1985)، وأظهرت ترجمة كتاب جمال الدين بن الشيخ «الشعرية العربية Poetique Arabe» (1989 وظهرت ترجمته في العربية عام 1996)، وهو مكتوب بالفرنسية عام 1971، مدى انشغال النقاد العرب بالشعرية العربية، وهو تأثير مباشر للمناهج الحديثة في دراسة الأدب ونقده وثمة تداخل أيضاً في مفهوم الشعرية، الذي يجعل ميداناً خصباً لدرس علاقة تشكل مصطلح عريق وحديث، في الوقت نفسه، في الثقافة العربية الحديثة، سواء في اقتصار الشعرية على نقد الشعر، أو في استيعاب الشعرية لمصطلح الأدبية، ومثل هذا التداخل واضح في مؤلفات رومان جاكوبسون الذي يقف عند حدود اللسانيات الصوتية واللفظية والمعنوية، كما في كتابه المترجم «قضايا الشعرية» (1988)، أو في مؤلفي رشيد يحياوي (المغرب) «الشعرية العربية ـ الأنواع والأغراض» (1991) و«شعرية النوع الأدبي ـ في قراءة النقد العربي القديم» (1991) الذي يريد بالشعرية العربية مجموع المبادئ التي أسست عند العرب تصورهم للنمط الشعري في علاقاته الداخلية والخارجية، وهو مفهوم فضفاض باعتراف المؤلف نفسه، وما يزال هذا المفهوم ملتبساً لدى الباحثين والنقاد العرب.


2- الممارسة النقدية العربية لهذه الاتجاهات:
2-1- شعرية السرد:
الشعرية أو الأدبية أو الإنشائية تشير إلى أكثر من معنى، مثلما هناك أكثر من شعرية، كأن تكون معنى متداولاً تدل فيه على مجموع القواعد والمفاهيم الأدبية التي يضبطها شخص أو مدرسة أدبية محددة، أو تدل على العناصر المميزة التي يعتمدها الكاتب في بناء آثاره أو أغراضها أو أسلوبها، أو تدل على نظرية للأدب داخلية، أي نظرية تعرفنا بالظاهرة الأدبية من حيث هي شكل مخصوص من أشكال الكلام وإنتاج المعنى، لا باعتبارها نتاجاً لظروف نفسانية أو اجتماعية أو تاريخية. وعلى هذا، فالشعرية هي كل نظرية للأدب داخلية، ومن ثم فإن مقصدها إقامة مقولات نستطيع بها أن نتبين وحدة الآثار الأدبية وتنوعها( ).
أما شعرية السرد، فهي المقولات المخصوصة بنظرية السرد، كما يظهرها علم السرد، وتعود شعرية السرد إلى إنجازات الشكلانيين الروس، والمنظرين الإنجليز والأمريكيين أمثال ليبوك، وفورستر، وإدوين موير، وروبير ليدل، وبوث. ثم انطلقت الشعرية الفرنسية مع جورج بلن، وميشيل ريمون، ولاسيما تودوروف، مستنداً إلى الشكلانية الروسية، ثم منقطعاً عنها في كتابه «نقد النقد» (1984) «ليكتشف أن الأدب هو بناء، وبحث عن الحقيقة»( )، واكتمل نسق الشعرية مع جيرار جينيت، ولا تخفى مساهمة باختين الجوهرية في تشكل الشعرية الفرنسية.
وتطورت الشعرية الفرنسية، مستفيدة من العلامية على يدي فيليب هامون، ومن النقد الاجتماعي على يدي سوزان سليمان، ومن تخييل التاريخ في السيرة على يدي فيليب لوجون، فيما عرف «بالميثاق السردي» أو «حلف السيرة الذاتية» بترجمة قاسم المقداد( ).
وقد تعامل النقاد العرب على استحياء مع الشعرية، في تجلياتها الفرنسية، خلل تجاهل أو تغافل شبه تام عن الشعرية الأمريكية( )، سواء في درس الرواية أو القصة أو السيرة( )، ولعل أبرز النقاد العرب المنضوين تحت لواء الشعرية صبري حافظ (مصر) في أبحاثه الكثيرة( )، ومحمد القاضي في كتابه «تحليل النص السردي» (1997)، وبشير القمري (المغرب) في كتابه «شعرية النص الروائي: قراءة تناصية في كتاب التجليات» (1991)، وعلى هذا الكتاب الأخير تدور مناقشتنا النقدية، لأنه الأكثر تعبيراً عن هذا الميل النقدي.
كتب بشير القمري عشرات الأبحاث والمقالات النقدية، بالإضافة إلى كتابته الإبداعية في المسرح والقصة، غير أن كتابه الأهم هو «شعرية النص الروائي: قراءة تناصية في كتاب التجليات» (1991)، ومن الواضح، أن القمري يطبق دراسته على رواية جمال الغيطاني «التجليات»، مستفيداً من إنجازات الشعرية وعلم السرد، ليثمر مرجعيته الفرنسية منهجية لا تخفي ميلها إلى النقد الألسني والعلامي.
وضع القمري مدخلاً أولياً لبسط عناصر مقاربته مع عبارة مفتاحية لفوكو من كتابه «حفريات المعرفة»: «فحدود كتاب من الكتب ليست أبداً واضحة بما فيه الكفاية، وغير متميزة بدقة، فخلف العنوان والأسطر الأولى، والكلمات الأخيرة، وخلف بنيته الداخلية وشكله الذي يضفي عليه نوعاً من الاستقلالية والتميز، ثمة منظومة من الإحالات إلى كتب ونصوص وجمل أخرى»( ).
احترز القمري أنه يقوم بمشروع بناء ابستمولوجية القراءة، لأن أبرز طوابع النص الأدبي هو استقلاليته، «على أن النص يمتلك سننه ولغته الخاصين، ومن ثم تتأسس المكونات الكبرى في البناء والتركيب والدلالة»، و«القراءة، محكومة، بمنطقها الخاص من حيث وصف نظامه، واعتماد أدوات واصفة بهدف الكشف عن معناه أو تأويله»، فيتحول «القارئ إلى منتج للنص»( )، واختار لقراءة «التجليات» مستهدياً بإيكو وباختين ولوتمان: المظهر الأسلوبي، بنية الجنس الأدبي، مستويات الكتابة الأدبية التي يستوحيها النص مثل سجلات الكتابة السيرية وأنماط الحكي السردي التقليدي، فكانت مقاربته عامة للصيغة الروائية في كتاب «التجليات»، إذ تشتغل عناصر الصوغ السردي والخطاب الروائي في تناصها مع مواد أدبيةكثيرة، و«ذلك بهدف تشغيل عنصر الإيهام. وينتظم ذلك كلّه داخل شبكة من القول الذي يتخذ بدون صورة حكاية شعبية تستقي من هذه المواصفات دافعية في تنشيط التخيل. فتذكرنا على لسان السارد بحروب وفتوحات وحوادث يغلب عليها الأسطوري والعجائبي إلى حدّ الإحساس بوجود بؤرة حكي تتجاذبها ـ من حيث قانون التسريد ـ محيطات الأجناس الأدبية العتيقة عند العرب وغير العرب، بدءاً من «الأيام» و«السير» و«الملاحم الشعبية» حتى «القصة الدينية» و«السيرة التاريخية» التي يتخذ فيها جمال عبد الناصر ـ من خلال نص كتاب التجليات ـ صفة معادل مماثل لزعماء الشيعة، وصفه بطل شعبي تُتسَقَط أخباره وتروى، فيصير النص بذلك شكلاً مقتبساً من أشكال الهاجيوغرافيا L’hagiographie، وهو جنس أدبي يختص بذكر القديسين، وإشاعة سيرهم بين الناس، عن طريق الإشادة بأعمالهم، وتمجيد فتوحاتهم وكراماتهم وأفعالهم، ويتخذ ـ من جهة أخرى ـ شكل ترجمة حياة هؤلاء مشفوعة بصيغة الإطراء والمدح»( ).
قرر القمري أن «التجليات» بصدد تصور مغاير للجنس الأدبي، فهو لا يشبه الرواية، ويعتمد على أساليب المذكرات الشخصية والرسائل الفلسفية والرحلة الرمزية، وخص الباب الأول بوصف النص: بنية المحكي، والقصة والخطاب، إذ يسعى الغيطاني إلى شكل فني تجريبي يقوم على أساس تحطيم بنية الشكل التقليدي في الكتابة الروائية، ويستثير قانون الاسترجاع مكوناً سردياً، وموظفاً التماهي بين السارد والمؤلف من داخل بنية الخطاب، واستمدادها من القص الشعبي العتيق والمتداول، ومستعيداً الميثاق التواصلي في القراءة والتلقي مثل تجلي الحسين، وقد رأى فيه القمري أكثر البنيات السردية تعقيداً داخل تركيب النص( )، فقد سعى الغيطاني إلى تمثل رمزي لتجلي الحسين في محتوى خطاب إيديولوجي يجعل الناصرية نظيراً لمذهب الشيعة من حيث تأصلهما في كيان الجماهير الشعبية ووجدانها، على أن «كتاب التجليات» يقدم بعد ذلك نبرة يتحكم فيها الإرشاد والوعظ والهداية.
وميز القمري في سؤاله عن الزمن ثلاثة أزمنة، هي الزمن المرجعي وزمن القصة والزمن المطلق، تمهيداً لتوضيح تحقق مفاهيم السرد المعكوس والرواية داخل الرواية، فثمة خمس لحظات أساسية يتوزع عليها السارد هي: ما قبل الولادة، لحظة الطفولة، لحظة شباب السارد، لحظة رجولة السارد، لحظة ما بعد وفاة الأب، ثم يستمر البحث عن صيغ سردية يتلاقح فيها الاسترجاع بالاستباق لتجنب خطية تنامي القصة. ويثير في الوقت نفسه إمكانية التفكير في طرح مسألة الارتباط بين السارد والشخصية والمؤلف «الكاتب» في برمجة السرد من منظور التلفظ.
وصرف القمري جهده في الباب الثاني لدراسة حقول التناص في كتاب التجليات، ويرى أن التناص بعيد عن السرقات، لأنه يقوم على الإبداع والابتداع، وتحويل (بمعنى التشرب والاستيعاب والتمثل) لعدة نصوص يضطلع بها نص مركزي يحتفظ بمركز الصدارة في المعنى( ). ووجد أن أول مرتكز للتناص هو التسليم بعدم اكتمال الجنس الأدبي، وانفتاحه على أراضي (محيطات) مختلف الأجناس الأدبية المتاخمة له، أو التي تتشكل وتنمو مستقلة عنه أحياناً، لكنه يدخل في حوار معلن أو خفي معها، سواء على مستوى الشكل (الأشكال) أو على مستوى المضمون (المضامين) والثيمات. ودرس أصناف الأجناس (القصة والشعر) بوصفها أدبية، والعادات والنصوص البلاغية والعلمية والدينية بوصفها أجناساً خارج أدبية، أي أن التناص قد يقوم على عدة نصوص، وعلى مواد وإحالات غير نصية أو أدبية، بما يشي أن الرواية جنس أدبي متحول باستمرار( ).
وهكذا، يصير النص بمثابة تحويل بالنسبة إلى ما يماثله من نصوص روائية يستمد أو يستعير منها النموذج، وأضاء القمري أمراً مهماً هو ارتباط نصوص الغيطاني بتقاليد النثر العربي، و«منها استحداث الشكل وتعتيقه، وقصدية اختيار التعدد اللغوي من حيث الأسلبة والمزج بين الأجناس الأدبية، وتشغيل العتيق منها في تضاريس الخطاب الروائي، ثم الميل إلى الاستمداد من المكون السيري والسير ذاتي، والاغتراف من العجائبي، والاسترفاد من كرامات المتصوفة، واستحضار سجلات الخطاب التاريخي والصحفي، وأسلوب المقامات وأدب الرسائل والوصايا، وأنماط القص التقليدي في الخرافة والحكاية والسيرة الشعبية ككتابات مقولبة وملفوظات، وتنهض إلى جانب ذلك مظاهر التعليمية (التلقين) والمعرفة»( ).
وحدد القمري مظاهر التناص ومستوياته في كتاب التجليات، وهي:
• مظهر العتاقة وحوار الأجناس. ويبرز في تحليله كشف لأشكال من الاستعمال اللغوي داخل اللغة الأدبية.
• مظهر العجائبي/ الوصف والتفسير.
• عتاقة اللغة، عتاقة البناء، عتاقة السرد، كما في تفصيله لنوعية اللغات، اللغة الدينية والفلسفية، لغة المتصوفة، لغة الكتابة التاريخية، لغة الفتوى، لغة الوصية، لغة الخبر التاريخي.
ثم استدرك القمري رأيه حتى تعتيق الشكل وتحديثه، فالتناص الثقافي يعني استدراج مظاهر من الثقافة المعاصرة، ويتبدى في الطموح إلى تحقيق مضمون جديد داخل أشكال سردية قديمة، ولكن هذه اللغة، برأيه، تظل منعزلة، ولا تتعدى أن تكون مرجعية، ما دامت تكتفي بالتمظهر الأسلوبي، ولا تستطيع استقطاب وعي الذوات بها. ويصاعد القمري نقده إلى تناص الغيطاني إذ يتحول من مجرد تعالق النصوص إلى حوارية متعددة تتجاوز حدودها الشكلية لإحلال الغير في تكوين نفسه( ). ولا يخفى أن هذا الرأي ينطوي على مساءلة مقدرة الغيطاني على تحويل النجوى (أو المونولوغ) إلى تعدد أصوات، أو إفقار الفعلية وتذويبها في صوت واحد.
وانتقل القمري في فصل تال إلى دراسة الصوغ الذاتي في كتاب التجليات، فأوضح مفهوم الصوغ الذاتي للغة عند كثيرين، ليجيب عن طبيعة تعالقات الميثاق التلفظي بين المؤلف والسارد من خلال تعيين هذا الميثاق في بنيتي القصة والخطاب، تمهيداً لدراسة الصوغ الذاتي للغة بين المونولوجية والحوارية، فحدد السارد اللا مرئي (الذاتي) الذي يوهم بالموضعة: من المتكلم: هل هو المؤلف؟ هل هو الكاتب؟ هل هو السارد؟ هل هم الثلاثة دفعة واحدة يتواردون خلف صوت مشترك، هو صوت المؤلف: «نص كتاب التجليات أشبه ما يكون ـ كما يقول باختين نفسه بالوثيقة الشخصية، لأنه لا يعمق الوعي الذاتي بالعالم. والمهم في التصور البوليفوني (يقصد المتعدد الأصوات) للنص هو أن تدرك الشخصية ذاتها وذات الآخرين في نفس الوقت. وهذا ما تعذر داخل كتاب التجليات إذ لم تتوافر المسافة المطلوبة بين المؤلف والشخصية. وحتى إذا أردنا أن نخلع على هذا النص بعض سمات الحوارية، فإنها تظل سمات شكلية لا تتعدى التناص القصدي، والانفتاح على لغات الموروث العربي في ملامح الأسلبة»( ).
وختم القمري تحليله بمعاينة الصوغ الذاتي للجنس الأدبي: كتاب التجليات كسيرة ذاتية، إذ يندرج النص، سردياً وروائياً، ضمن الكتابة السيرية، ويحاور جنس الهاجيوغرافيا، بتقديسه لعناصر الشخصية أو إضفائه القداسة على عناصر السيرة، وذكر قرائن للتماهي لا يمكن إغفالها هي:
استعمال ضمير المتكلم.
الإحالة على نفس الاسم الذي يحمله المؤلف.
حضور صوت المؤلف عن طريق صوت الكاتب نفسه.
صوت السارد مسكون بصوت المؤلف وصوت الكاتب.
ابتكاره عالمه الميتي ـ الفانطازي في رحلته الرمزية.
غير أن القمري يبادر إلى الاستنتاج أن كتاب التجليات ليس سيرة ذاتية بالمعنى الضيق، ولكنه ينجذب إلى الرواية إذا وضعنا جانباً الميثاق السيري (الأوتوبيوغرافي) الذي أقحمه المؤلف، واعتبرنا أن المحكي حالة متخيلة من منظور التخيل الروائي وعملية تلقيه. ومن شأن ذلك أن ينطوي على محاولة خلع الموضوعية على الأنا عن طريق خطاب الاعتراف والشهادة، وهو يندرج فيما سماه باختين، مطابقة الوعي الداخلي للخارجي داخل الوعي الخاص، ثم تمجيد القيم الذاتية على حساب القيم الجمعية، ولم يغفل القمري أن يعلل غياب الروائية( )، مما جعله يضع خاتمة كتابه عن «الشكل والتشكيل: بحثاً عن معنى في كتابة الغيطاني».
عدّ القمري مقاربته تفكيكية على أن الغيطاني يستل من الهاجيوغرافياً، وهي جنس أدبي عتيق، الوظيفة التنويرية والتعليمية، بينما يعود كتاب التجليات في الوقت نفسه إلى نسق الرواية المونولوغية (رواية نجوى الذات) على الرغم من التعدد الصوتي واللغوي الذي يراهن عليه، حين يجمع بين عدة ممكنات أدبية، ويمضي عميقاً في تحديث الشكل، ويميل إلى محاورة القديم.
يتمتع القمري، كما رأينا، ببصيرة نقدية حاذقة متمكناً من منهج شعرية السرد، كما تبلور على يد الفرنسيين أمثال جينيت وكريستيفا وتودروف، ويمزج، بشكل حاد أحياناً، بين الشعرية والعلامية، مستفيداً، على نحو شديد الجاذبية من إنجاز فيليب لوجون في الميثاق السير سردي أو السير ذاتي.
ولعلنا لاحظنا أن إحدى أبرز معضلات أو قضايا الاتجاهات الجديدة أنها غير متكونة أو ناجزة سواء في النقد الغربي أو في النقد العربي، فثمة تداخل بين الشعرية والعلامية والتفكيكية، وهذا واضح في نقد القمري مثلما هو في اشتغال النقاد العرب على العلاماتية والتفكيكية، وقد اخترت تالياً الناقد سعيد السريحي (السعودية) مثالاً لهم.
ويبدو هذا التداخل في فهم النقاد العرب للشعرية، من الشعرية في الشعر، إلى تجليات علاقة الشعرية بالسردية وعلم السرد، فقد طرح بول شاوول (لبنان) تساؤلات عديدة عن علاقة القصة العربية بالشعر وبالقصيدة، مفترضاً التمايز ما بين القصصي بمعناه السردي، والشعري بمعناه الشامل الذي يستوعب السردي أيضاً، مما يستدعي فهم الفرز بين ما يجعل من القصة قصة ومن الشعر شعراً. ثم سجل الملاحظات التالية:
«1- تمكنت القصة العربية المعاصرة والحديثة من تكوين هوية خاصة بها، تميزها عن الشعر، وعن القصيدة، وعن الحكاية.
2- تمكنت القصة العربية أن تعدد تجاربها، فلم تقع في نمطية ما، أو أسلوبية سائدة.
3- تمكنت القصة العربية من بلورة التراكمات القصصية، والحكائية العربية والغربية، واستفادت من هذه التراكمات، كمعطيات، وكمواد وتجارب، ولكن القصة العربية لم تتمكن من:
أ- التخلص نهائياً مما هو شفوي، مما أثر على بنيتها، كما لم تتمكن عموماً من استيعاب هذا الشفوي في نسيجها الكتابي.
ب- لم تتمكن القصة العربية من تحويل الهواجس اللغوية الخاصة بالقصيدة إلى لغة قصصية داخلية.
جـ- الشعرية كانت تتخذ أحياناً منحى إنشائياً أو خطابياً مما أضعف تماسك القصة، ونفّس كتابتها، وأضعف هويتها.
د- لم تنجح القصة العربية في توفير استمرارية تجريبية على صعيد الشكل أو اللغة أو المضمون تضاهي تجارب القصيدة»( ).
تعاني لغة هذا النقد من الإطلاقية في الحكم وإبداء الرأي، كالحكم حول تماسك القصة العربية واستمرارية تجريبها، والشأو الذي بلغته، وهو عال بلا شك.
ونلمح مظهراً آخر من مظاهر التداخل في مفهوم الشعرية في نقد رمضان بسطاويسي محمد (مصر) على سبيل المثال، كأن تكون الشعرية مزيجاً من الجمالية والسردية، ففي قراءته لنصوص قصصية من الثمانينيات، رأى مثل هذه السمات:
«تعدد استخدام الضمائر في النص، مما يؤكد الانفلات من أسر الذاتية والغنائية إلى دراما النص، وهو نتيجة لانشطار الذات المبدعة.
التناص، بمعنى حضور نصوص كتاب آخرين في نص المبدع، ودراما الحوار بين نص المبدع ونصوص الآخرين دون إنكار ذلك.
استخدام اللغة بمستوياتها الدلالية والصوتية في التعبير، وعدم الوقوف عند حدّ الدلالة الإخبارية للغة، فالنص لديهم هو عالم لغوي في الأساس، وهذا مكسب يضاف لهذه الكتابات.
تبحث النصوص عن الدلالات المتفجرة الدموية، بالعنف بمستوياته المختلفة يظهر واضحاً في هذه النصوص.
استخدام الحواس في قراءة العالم، لا سيما التفكير البصري والسمعي واللمس، والاستفادة من الفنون المختلفة في ذلك.
تفتت البناء الفني كتعبير عن تمزق وحدة الزمان الخاص، وانشطارات هذا الزمن.
العادية واللابطل هي من الموضوعات الأثيرة لدى كثير من الكتاب، ويمثل هذا انفلاتاً من أسر الصورة التقليدية للشخصية النمطية في الأدب.
شاعرية القص، وهو يفهم في هذه النصوص على مستويين، أولهما شاعرية اللحظة الدقيقة المرهفة في صورة قصصية، وثانيهما شاعرية اللغة التي تقترب من لغة الشعر».( )


2-2- الألسنية:
هيمنت اللغة بوصفها مجموعة من الرموز والإشارات، كما انطلقت من دوسوسير، على مناهج نقدية متعددة، ولا سيما الألسنية والأسلوبية، بل إن ثمة صعوبات في الفصل بينهما، وقد آلت هذه المناهج إلى العلامية فيما بعد.
ولعلنا نلاحظ مثل هذا التداخل في كتابة أبرز ناقدين عالجا الألسنية والأسلوبية وتمثلاها، وهما عبد السلام المسدي (تونس) وعدنان بن ذريل (سورية).
إن نبيلة إبراهيم، وهي الناقدة الرائدة في التعريف بالاتجاهات الجديدة، تمزج بين الجمالية والألسنية في رؤيتها لمستويات لعبة اللغة في القص الروائي كما في قولها:
«ولا يمكن أن يفعل في القارئ فعل السحر إلا إذا أحكم بناء العمل القصصي، وأحكمت صنعة اللغة فيه بحيث توجه نحو خدمة هذا البناء. هذا هو الأساس الجمالي لأي عمل قصصي، وعلى الكاتب، بعد ذلك أن يختار النظام الذي يرضاه لروايته أو قصته، كما يحق له أن يتحرك باللغة على المستوى الواقعي أو الرمزي، أو على مستوى التعبير بالألم الساخر، أو يمزج بين هذه المستويات جميعها إن شاء»( ).
إن مثل هذا التداخل المنهجي والنقدي دعا فؤاد مرعي (سورية) إلى تمحيص مصطلح الأسلوبية نظرياً وتطبيقياً في علم الأدب وعلم اللغة، ووجد أنه يتيح إمكانية دراسة النصوص الأدبية بطرائق علم اللسان، ما دام مفهوم الأسلوب في علم الأدب أوسع من مفهوم الأسلوب في علم اللغة، غير أن الأسلوبية تقصر عن مجاراة الأدب في اكتشافه للعالم ومعرفته بالصور، وهي إشكالية قائمة تحد من أمداء الأسلوبية واللسانية في النقد:
«أما الأسلوبية فباستنادها إلى قواعد علم اللسان وامتناعها عن دراسة قضايا في علم الأدب لا تتعلق بالبناء اللغوي للنص الأدبي، تحكم على نفسها بالشكلانية، الأمر الذي لا يجعلها قادرة على أن تكون بديلاً للنقد الأدبي الذي يسعى للكشف عن جوهر الحياة في النصوص الأدبية، وعن محتوى تلك النصوص الذي يقدم معرفة فنية حقيقية عن الحياة المعاصرة، ويؤكد المثل الاجتماعية الجديدة التي تفتح أمام البشرية آفاق الارتقاء إلى الأفضل»( ).
ولعل محدودية الأسلوبية أو اللسانية منهجاً نقدياً، جعلت كثيراً من النقاد لا يعولون عليهما إلا ضمن حدود معينة، وهكذا فعلت ألفت كمال الروبي (مصر) في دراستها للأشكال القصصية في كتابات عبد الله النديم الصحفية وغير الصحفية، وفي تحديد طبيعة هذه الأشكال وخصائصها التكوينية وموقعها بالنسبة للبدايات القصصية في أدبنا العربي الحديث، فاستعانت على نحو ضئيل بخصائص الأسلوبية لإضاءة بلاغة التوصيل والقص عند النديم، وقد توصلت إلى نتائج مدهشة:
«أما المرحلة الثانية فيمثلها كتاب المسامير، ويتسم بالتعددية القائمة على تكافؤ الأضداد ومزج الجاد بالهازل على مستوى البناء القصصي والشخصيات والتنوع الأسلوبي: تجاور الشعر والنثر، اللغة الجادة واللغة الهزلية... الخ»( ).
واستفاد معجب الزهراني (السعودية) على سبيل المثال أيضاً، من الأسلوبية في دراسة اللغة، على أن «الناقد يتعامل مع الأساليب والأشكال والتقنيات والأغراض والوظائف باعتبارها ظواهر مشتركة بين مختلف النصوص والكتابات» وربما، بالنظر إلى هذه المحدودية المنهجية، سرعان ما أدغم الزهراني الأسلوبية بالعلامية:
«ولكي نستل من هذه الملاحظة الأخيرة ما نختم به هذه الفقرة من القراءة نؤكد مجدداً على أن مركز الجماليات في هذه اللغة الحلمية الهذيانية إنما يرتبط بكونها لغة جسد يحاول تعريف معاناته عبر لعبة الكتابة، وبالتالي فإنها تمثل، من المنظور السيميائي العام، علامة رمزية واحدة غامضة ومفتوحة الدلالات.. كأرقى ما تكون عليه اللغة الشعرية الحديثة»( ).
إنّ أهم جهد لساني عربي يأخذ بالاتجاهات الجديدة هو كتاب مازن الوعر (سورية) «نحو نظرية لسانية عربية حديثة لتحليل التراكيب الأساسية في اللغة العربية» (1987)، ولكن هذا الجهد لا يمتد إلى النقد الأدبي، مكتفياً، وهو كبير لا شك، بتحليل النظرية اللسانية العربية في تراكيبها وقواعدها ومضامينها( ).
ولعل هذا ما يفسر أيضاً توزع الاهتمام المنهجي والنقدي لدى محرري العدد الخاص من «عيون المقالات» الخاص بالفلسفة والأسلوبية والنقد والطليعة الأدبية، فليس ثمة بحث عن الأسلوبية أو الألسنية، بينما حفل العدد بأبحاث عن الشكلانية والشعرية في فهم النظرية الأدبية( ).
إننا نقع على نقد كثير يستفيد من الأسلوبية والألسنية، ولكنه لا يندرج في منهجيتهما، وأذكر مثالاً مما يكتبه عبد الرحمن مجيد الربيعي (العراق) في كتاباته النقدية المتأخرة، مثل نقده لرواية «توقيت البنكا»: «والرواية أيضاً هي رواية الثراء، ويمتد ثراؤها حتى اللغة سواء كانت الفصيحة فيها أو المحكية فإذا بقاموسه فيها كبير ومليء، ولعل هذه الرواية هي من أثرى الأعمال الروائية العربية لغة»( ).
وعود إلى أهم ناقدين تمثلا الألسنية والأسلوبية في نقدهما، نجد أن عبد السلام المسدي حصر جهده في التنظير غالباً وفي التطبيق النقدي قليلاً، وحول الشعر بالدرجة الأولى، في كتابيه «مساءلات في الأدب واللغة» (1994) و«في آليات النقد الأدبي» (1994)( ).
أما الناقد الأسلوبي والألسني بامتياز فهو عدنان بن ذريل، الذي ينظر إليه شيخاً للنقاد في سورية. فقد وضع أكثر من عشرين كتاباً نقدياً منذ الخمسينيات، غير أنه التزم، أو كاد، مشروعاً نقدياً ألسنياً بدأه رائداً ومجدداً في الثمانينيات، من خلال كتبه( ): «اللغة والأسلوب» (1980)، و«اللغة والدلالة» (1981)، و«اللغة والبلاغة» (1983)، و«النقد والأسلوبية بين النظرية والتطبيق» (1989)، ثم عززه بكتابه «النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق» (1995).
دعا ابن ذريل إلى التجديد باكراً، وقد كانت له صولات وجولات في التعريف بالرمزية والمنهج النفسي والتاريخي، وتشهد على ذلك مقالاته الكثيرة المبثوثة في الدوريات، وكتابه عن عبد السلام العجيلي: «دراسة وصفية نفسية» (1970). وفي السبعينات، اختار الألسنية وما مجاورها من اتجاهات حداثية فكتب فيها نظرياً وتطبيقياً، ولعل كتابه «مسرح علي عقلة عرسان» (1980) الجهد الأكبر الملحوظ في سياق تجربته النقدية التي صارت إلى إحاطة أوسع وأشمل وأعمق بهذا الخيار الفكري والنقدي، فقد شكّل ابن ذريل على مدار أربعة عقود من الزمن صوتاً منفرداً خارج سرب النقد الأدبي الحديث في سورية الذي جرفته الصراعات الأيديولوجية والتبشيرية.
ابتعد ابن ذريل عن الجماعات الثقافية والنقدية، لا سيما المتحزبة أو المؤدلجة منها، وحافظ على دور متوازن بين الصحافة والأدب، ونأى زج نفسه وقلمه في المعارك النقدية معتقداً أن من الأفضل له وللحركة الأدبية الناهضة في سورية أن يكتب نقداً ضمن مساره الخاص الذي شقّه شاباً. وأعني به تعريب النقد الأدبي الغربي الحديث وتأصيله في حركة الثقافة العربية المعاصرة. ومن الواضح أن شغله النقدي اعتمد على الدوام على مثل هذا التعريب، وليس مجرد الترجمة أو النقل مستنداً إلى خلفية متينة من درس التراث النقدي الغربي، ولا سيما البلاغي الذي سيطوره لتمثل إنجازات الحداثة النقدية التي دعا إليها مغلباً الاتجاه الألسني مع ميلٍ بنيوي وشكلاني واضح، وقد كان الاختيار واضحاً تقوى مع استغراقه في نقد السرديات، وهو ميدان تضاعفت أهميته الراهنة بتتويج فنون النثر القصصي على بقية الأجناس الأدبية بوصفها أكثر استجابة للعصر، ويتضح ذلك بجلاء في كتابه «النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق»، ربما بتأثير انصراف النقد الشكلاني والبنيوي إلى السرديات بالدرجة الأولى، وربما أيضاً بتأثير تعقيد السرديات قياساً إلى الأدب الغنائي أو الوجداني أو الذاتي حيث فنون النثر القصصي تلازم تعدد الحوار وتنوع الكلام وموضوعية الخطاب.
وسنلاحظ انصراف القسم النظري في هذا الكتاب إلى تحليل السرد والنص السردي: لغته، أسلوبيته، ملاشاته اللغوية، طرائق تحليله، بلاغته وإبلاغيته، منظوره السردي، نجواه وحواريته، الخ، أما التطبيق فلم يحظ فيه الشعر إلا بفصلين من أصل أحد عشر فصلاً، أحدهما للقصة وثانيهما للمسرحية، بينما كان هناك سبعة فصول للرواية.
أراد بن ذريل في كتابه الأخير أن يعرّف بطرائق المنهجية الألسنية في النقد الأدبي والأسلوبية، مركزاً من جهة على النص وخصوصيته، ومن جهة ثانية على الأسلوب وتفرده، فالنص هو المجال الحقيقي الذي تنعكس فيه الملامح الأسلوبية للكاتب المنشيء، كما الأسلوب هو الألق الشخصي لفرادة هذا الكاتب المنشئ.
خصص بن ذريل الفصل الأول لتعريف النص وفق مأثور النقد الفرنسي الجديد، و أعلامه البارزين كتودوروف وبارت وكريستييفا، موافقاً على أن النص هو لغته، لأن «تحولات اللغة الأدبية تمثل الممارسة الجدلية للذات داخل اللغة، وأن التاريخ هو مجموعة نصوص أكثر منه تاريخية دون لغة».
وفي الفصل الثاني «الأدبية والنص» انطلق بن ذريل من مأثور الشكلانيين الروس، ولا سيما شكلوفسكي على أن الأدبية (أي الخصائص التي تجعل من الأدب أدباً) هي محك النص ومحك دراسته، غير أن الشكلانية أو التعمق في بحث الخصائص الشكلية لا يكون بمعزل عن واقعه، وهذا ما جعله يخوض في الفصل الثالث في «البيئة الأدبية والأسلوبية» منطلقاً من مفهوم العلامة عند دي سوسور، إلى البنية الوظيفية عند «مدرسة براغ»، إلى الأسلوبية والأسلوب كزخرفة أو كدلالة ذاتية، أو كتمثيل، أو كنمط، لأن عمل المحلل الألسني كما يكتب، يقصر على «ربط النص» باللغة التي كتب بها، وبذلك تصبح «الأسلوبيات» دراسة مقارنة لأنماط التفضيلات التي يظهرها الكاتب في اختياره للغته، ضمن المصادر اللغوية التي في متناوله... أو بعبارة أخرى، تدرس الأسلوبيات تواترات الاختيار النسبية التي تميز لغة النص من لغة غيره، أي هي، بتعبير هاليداي، تطبيق للألسنية أكثر منها توسيع لها.
ثم درس بن ذريل في الفصل الرابع «ظاهرة الأسلوب ما هي؟» متتبعاً تعاريفه وما يثيره من قضايا تتعلق بالممارسة العملية ومجال الدلالات، فالممارسة العملية هي الفعالية منظوراً إليها في سياقها الحركي، وعلى الخصوص في الظروف الاجتماعية التي تعطيها «دلالتها» في عالم معاش فعلاً، وهكذا توقف ملياً عند تعددية «الشيفرة» والسنن والعلامات لأهميتها في فهم ظاهرة الأسلوب وتنظيمه للخطاب أو الرسالة، مميزاً بين البلاغة والأسلوب، ثم انتقل إلى تصنيف الأساليب عند بيير جيرو بالنسبة إلى طبيعة التعبير أو مصادره أو مظهره. ومن الواضح أن ناقدنا يوافق على هذا التصنيف، مما يثير أسئلة كثيرة حول استحكام ظاهرة الأسلوب للعلائق اللغوية أو البلاغية وحدها، ويجعل من البعد الدلالي في شبكة علاقات النص أمراً عصياً على تمثلها، وهو ما تتعمقه علاقات الأبنية التركيبية أو علاقات الأبنية الدلالية. على وجه الخصوص، حيث ينهض النص إلى أبعد من مستويات تركيبه اللغوي والبلاغي إلى تعدد قابليات تأويله أو انفتاحه على مرجعياته ومفرداته الغائبة.
ولعل هذا التركيز على المكون اللغوي أو البلاغي هو الذي قاده إلى تخصيص الفصل الخامس لبحث «البلاغة الجديدة» من خلال تنظير بيريلمان للتوكيد على الفعالية الدلالية، فلا تعود العلامات اللغوية تمثل الأشياء، بقدر ما هي تتحول نفسها إلى «أشياء»، فتحتل مكاناً في سلم القيم، كما تسهم في الشعائر، وبينما نجد «اللغة» في المجتمعات الديمقراطية ملكاً لكل الناس، وتتطور بحركة تامة، نجد أن اللغة في المجتمعات المترتبة يتم تجميدها، بحيث تكتسب طابعاً شعائرياً ومقدساً.
وللإجابة على أسئلة الأدبية إزاء الواقع، يفرد ناقدنا الفصل السادس لأسلوبية الرواية كما عالجها باختين طلباً لما تعكسه من علاقات اجتماعية وتاريخية هي شيء مما يعيشه الأبطال من تباينات، مجاوزة الشكلانية إلى فنية ما وراء الألسنية، حيث امتدادات القول الاجتماعية، وما ترتبها من مفاهيم نقدية وأسلوبية مثل «تعددية الأصوات» و«تصادم الأيديولوجيات» وغيرها، ويفيد ذلك أن باختين يتجاوز الشكلانية منذ كتابه عن «ديستويفسكي» المسمى «معضلات شعرية ديستويفسكي» (1929) متخطياً فنية الشكلانية الساكنة، أي اللغوية القديمة، فالرواية لا تتجه إلى جلاء وعي المؤلف في عالم وحيد فحسب، وإنما تكشف عن أنواع الوعي الأخرى للأبطال، واحداً، واحداً، بشتى عوالمهم، وهم يندمجون في وحدة حدث معين.
وهذا يعني أن البطل لم يعد مجرد موضوع يخص وعي المؤلف، بل هو وعي آخر، وأحياناً غريب، بما يفيد أن المؤلف هو الفاعل للكلام الفردي، أما النص أي الرواية فلم تعد انعكاساً لإيديولوجية وعي المؤلف، وإنما أصبح تصادماً لأيديولوجيات متنوعة، ذلك أن الفكرة في نظر باختين، حدث يجري حتى نقطة التلاقي التي هي الحوارية. إلا أن التفكير الإنساني لا يتحول إلى فكرة دون الاحتكاك الحي مع فكرة أخرى تتجسد في الآخر، وأيضاً أصوات الآخرين، والكلمة نفسها، أي القول الروائي، تسمح بذلك، لأنها تتكشف عن أنها مأخوذة من عدة أصوات، أو تأتي في تصالب عدة ثقافات، إلا أنها، كما يقول باختين، تكون في الأساس أيضاً كتابة بيضاء تهرب من جميع السماكات للعوالم، أو التي للدلالات الحافة، فتعيد للنظام اللغوي حريته وفنيته.
وفي مثل هذا الشرح يمضي ناقدنا في التعامل مع العامل الإيديولوجي للنص بما هو تحقق لغوي في السرد بالدرجة الأولى، مبيناً تطور فكرة الحوارية من الشكلانيين إلى إنجاز باختين مستنداً إليهم، حيث البذرة كانت موجودة عندها وتقوم على فهم خاص لانعكاس الواقع في الأدب. ويتوقف ناقدنا على عجل عند بعض من عالجوا ذلك التطور مثل فولوشينوف ومدفيدييف على أن الأدب يمثل الإيديولوجية في نظرهم، وهو شكل متميز لتجسد التفاعل الاجتماعي.
وقد تتبع بن ذريل قضايا أسلوبية الرواية بالنظر إلى بعدها «الأيديولوجي المجرد، أو بعدها الأيديولوجي الدعائي والتبشيري فقط كما في كتاب باختين التالي «الكلمة في الرواية» (1941) للإفصاح عن الأصالة الأسلوبية في الرواية، والخصائص المميزة للرواية، والنجوى والحوار فيها، ممهداً بذلك للتفصيل في أساس نظريته لفهم الرواية في خطين أسلوبيين، الأول خصيصته أحادية اللغة، والثاني الذي يدرج التنوع الكلامي في صلب الرواية موزعاً توزيعاً أوركسترالياً، ومتخلياً في كثير من الأحيان، عن «كلمة» المؤلف المباشرة، وإليه ينتمي أعظم ممثلي النوع الروائي في أوروبا الحديثة».
ثم شرح بن ذريل في هذا الإطار أنماط التحليل الأسلوبي والأسلوبية السوسولوجية مدخلاً لدرس «النص السردي وطرائق تحليله» وهو موضوع الفصل السابع. وفيه يمعن ناقدنا النظر والقول في العنصر اللغوي في التحليل البنيوي معالجاً قضايا النص الفردي، والقراءة والنقد والبويطقيا، والنمذجة السردية عند تودورف وبارت وجريماس وجينيت مشيراً إلى بزوغ علم السرد الذي غدا مكرساً مع جهود البنيويين ومن تلاهم، أو حذا حذوهم، أو انطلق من عصر ما بعد البنيوية.
وخصص بن ذريل الفصل الثامن لمصطلح «الملاشاة اللغوية» سواء أكانت تهديماً طبيعياً، تتكشف عنه لغة النص، أو طريقة تحليل لغوي للنص على سبيل التفكيك، ما دامت الملاشاة اللغوية ـ بتعبيره ـ تقوم على جدلية حميمية تكشف عن مركزية الذات، إذ إنها تتحرك في الذات، وبالذات، وضد الذات، أي هي مباشرة ذاتية لإمكانيات اللغة في التعبير، الأمر الذي يعطي الجملة قدرة تعبيرية لتكون «ابتداعاً عاطفياً» أو «ابتداعاً فكرياً»، كما يعطي النص قدرة تعبيرية ليكون مجال «تعددية الأصوات» ومجال «تصادم الأيديولوجيات» بعد ذلك. فيبرز ناقدنا طرائق التحليل المختلفة، كما عند جماعة «تل كل»، ويوضح خصوصية مصطلح «الملاشاة اللغوية» كالابتداء وضياع الذات وتخلخل النص وإعادة بنائه والصوت بوصفة ابتداءً «موقفياً» للوصول إلى خلاصة ذات دلالة عن صلة القول السردي بالمؤلف، حيث نجد أن المؤلف مبدئياً هو السارد التقليدي للنص، هو صاحبه وصانعه، صنع أنواله وصبغها بصبغة فكره وإيديولوجيته.
ويخصص ناقدنا بقية فصول كتابه للنقد التطبيقي على النحو التالي:
الفصل التاسع: رواية شكيب الجابري «وداعاً يا أفاميا».
الفصل العاشر: رواية هاني الراهب «الوباء».
الفصل الحادي عشر: رواية عبد النبي حجازي «المتألق».
الفصل الثاني عشر: رواية فاضل السباعي «ثم أزهر الحزن».
الفصل الثالث عشر: ديوان علي عقلة عرسان «تراتيل الغربة».
الفصل الرابع عشر: ثلاثية حنا مينة «حكاية بحار».
الفصل الخامس عشر: روايتا نبيل سليمان «الأشرعة وبنات نعش» (والأصح هما الجزءان الأول والثاني من رباعيته «مدارات الشرق)».
الفصل السادس عشر: ديوان فؤاد كحل «أزهار القلب».
الفصل السابع عشر: تجاوز المعيار في روايتين (هما «البلاغ رقم 9» لمسعود جوني و«الرجل والزنزانة» لوهيب سراي الدين)
الفصل الثامن عشر: مجموعة مالك صقور القصصية «الجقل».
الفصل التاسع عشر: مسرحية خالد محي الدين البرادعي «جزيرة الطيور».
وفي هذه الفصول التطبيقية جميعها يستند بن ذريل إلى إرث النقد الحداثي الذي تقصى بعض جوانبه في فصول كتابه النظرية، فيلتفت في نقده التطبيقي عن أدوات النقد التقليدي الشارح إلى الكشف عن بنيان النصوص وآلياتها الأسلوبية بمزيد من الإيجاز والتكثيف، باذلاً بعض العناية بتاريخية النصوص المدروسة، وموجهاً رأيه النقدي لاستطلاع الاستجابة المتبادلة بين النص وأسلوبيته نحو تبيين القول فيه ومستوياته، وخلل ذلك كله، وفي الأساس، تبيين جماليته، وهو يؤدي ذلك في اتجاهين، الأول: تعريفي ينزع نحو تبسيط المنهج النقدي وتقريب مصطلحه، وقد يدعوه ذلك إلى تكييف المنهج ومصطلحه لطبيعة النصوص العربية المدروسة، والثاني تقويمي متعاطف غالباً مع النصوص المدروسة. ولنأخذ كتابته عن رواية شكيب الجابري «وداعاً يا أفاميا» نموذجاً لنقده التطبيقي.
وتثير طريقة بن ذريل أسئلة كثيرة أشير إلى أهمها، وهو الموقف من تعريب المناهج النقدية الغربية داخل الصراع بين التبعية والتأصيل، وكأنه لا يقرّ بمثل هذا الصراع معترفاً بمكان رئيس للمثاقفة في الجهود القائمة بتأصيل النقد العربي الحديث، على أن تراث الإنسانية تراث مباشر ومتصل للنقاد العرب المعاصرين، إذ لا جدوى كبيرة من مماحكة شؤون الهوية الثقافية، لأنه، وهو يكتب فصول كتابه النظري، يدرج إسهامات نقد الحداثة الغربية وما بعدها في حركة الثقافة العربية ببساطة، بل إنه يورد تطبيقات جزئية أو إلماحات مقارنة لها مع الثقافة العربية والإبداع العربي الحديث أو علم البلاغة العربية، وهذا كثير في متن الفصول وفي الهوامش والإحالات لكل فصل، وهي تطبيقات وإلماحات في غاية الأهمية.
ومن الأسئلة أيضاً، تجنب بن ذريل لمسائل انتشار هذه المناهج النقدية الغربية، وتأثيرها في النقد العربي الحديث، كما أنه غير معني بتكوين هذه المناهج في بيئتها وفي الثقافة الحديثة، وأذكر على سبيل المثال، أنه تحدث عن باختين مستخدماً إنجازه النقدي دون معالجة الإشكاليات الكثيرة التي رافقته أو تلته، فمن المعروف أن باختين عني باللغة بالدرجة الأولى، وتلمس الإجابة في كتابه المبكر «الماركسية وفلسفة اللغة» (1929) منطلقاً لمنهجه في نظرية الأدب، ولا سيما نظرية الرواية، وأن بحثه في لغة الرواية وأدبيتها أو شعريتها كما شاع عند الكثيرين، لم يجد أجوبته المحددة في بحثه عن ديستويفسكي، مما دعاه إلى العناية «بأشكال الزمان والمكان في الرواية» (1938) أي حركة التاريخ. أما ناقدنا فقد تجنب هذه الإشكاليات على أن نظرية باختين ناجزة وقابلة للتطبيق، ولا فائدة من المماحكة.
وثمة سؤال آخر هام حول تعريب المصطلح النقدي، فعلى الرغم من جهود ناقدنا الشيخ بن ذريل في هذا المجال، فإنه غالباً ما يورد المصطلحات بلفظها الأجنبي، وهذا أمر يحتاج إلى رأي وتفسير لأنه لا يستقيم مع جهوده الريادية الكبيرة التي أشرنا إليها من قبل، ومجموعة كتبه عن علم الجمال والمسرحية والموسيقى والفنون الشعبية، وقد زاد عددها على عشرة كتب، وهي واضحة أيضاً في كتبه الفلسفية ولا سيما الفكر الجدلي والفكر الوجودي، مثل «البعد الروحي في تفسير الوجود والزوال» (1971)، و«الفكر والمعنى في تفسير جدلي للمعرفة» (1971)، و«ظواهرية الوجود الجدلي: دراسة وجودية في النقيض» (1972)، و«التفسير الجدلي للأسطورة» (1980)، و«الفكر الوجودي عبر مصطلحه» (1985)، و«الأرجوزة في الوجود والعدم» (1990).
على أن هذا كله، وربما لهذه الأسباب، يؤكد في الوقت نفسه، أهمية شغل بن ذريل في تطوير النقد الأدبي العربي الحديث، وفي تطوير الإبداع العربي الذي يتجه إليه هذا النقد، لأن من فضائل ناقدنا عنايته الفائقة بتعريب المناهج النقدية الغربية كما هو الحال مع الألسنية والأسلوبية وإدراجها في سياق النقد العربي الناهض من جهة، وعنايته الفائقة بنقد الإبداع العربي الحديث بروح إيجابية تكشف عن المستوى المتقدم والمضيء للأدب العربي الحديث من جهة أخرى.


2-3- البنيوية:
لم تستقر البنيوية على حال، ولم تستقم في مذهب أدبي ونقدي محدد، فهو منهج قابل للاغتناء والتطوير، أي أنه طريقة للدرس والفهم، وليست مبادئ فكرية( )، ولذلك لا ينتظم ظهور البنيوية مسارات محددة متساوقة، بل هي أشبه بطفرة عمقها مجموعة مفكرين ونقاد، وحاولوا جهدهم أن تكون بمنأى عما التصق به من نظرة «الموضة»، فتلونت بجهودهم الفكرية، ولا سيما رولان بارت وكلود ليفي شتراوس وميشيل فوكو وجاك لاكان وجاك دريدا، فصار ثمة بنيويات مالت إلى ميادين معرفية ومنهجية أخرى مثل البنيوية الإناسية عند شتراوس، والبنيوية الدلالية عند بارت (في بعض أعماله)، والبنيوية التفكيكية عند فوكو ولاكان ودريدا، ولا يخفى أن غالبية هؤلاء البنيويين، باستثناء بارت، لا يسعدهم أن ينضووا تحت لواء اتجاه يحدّ من تفكيرهم، غير أن الأساسي في البنيوية، منهجاً نقدياً، هو عنايتها بالشكل، وبالبنية، وبالتحليل اللغوي للنص، وبنظام العلامات الكلي، غير أن هذه العناية التي تروم للمنهج البنيوي أن يحقق مستوى علمياً يستوعب إشكالات ثنائية الذات والموضوع من جهة، والمعنى أو الدلالة من جهة أخرى، هو محط النقد الشديد الذي واجهته البنيوية، فعانى المنهج معاناة شديدة من الولوغ في الشكلانية وإغراءات التحليل اللغوي المتحكم في بنية النص.
على أن البنيوية لم تكن نقية في ممارستها لدى النقاد والباحثين العرب أيضاً، ولربما انطبعت هذه الممارسة بالتزامات هؤلاء النقاد والباحثين أنفسهم في ظل غلبة الاتجاه الواقعي بالدرجة الأولى، مما دفع الكثيرين إلى تكييف مناهجهم «البنيوية» أو تعديلها كما هو الحال مع يمنى العيد (لبنان) ومحمود أمين العالم (مصر) ونبيل سليمان (سورية)، ممن كانت لهم ممارسة نقدية إيديولوجية صريحة، هي الواقعية الاشتراكية والماركسية في مظاهرها الأكثر تشبثاً بالنمذجة والانعكاس والتحزب والتماهي بين عقيدة المؤلف والمنظور السردي أو وجهة النظر.
وليس بمقدورنا أن نورد أسماء النقاد والباحثين العرب الذين أخذوا عن البنيوية وتمثلوها كلياً أو جزئياً، أو مازجوها باتجاهات أخرى، ولعلنا نذكر نماذج لهم، فثمة العشرات الذين عنوا بالبنيوية التكوينية استفادة من منهج لوسيان جولدمان، كما هو الحال عند خالد الغريبي (سورية) في كتابه «التناقض والوحدة في رواية المستنقع لحنا مينه» (1995) وحسني حسن (مصر) في كتابه «يقين الكتابة: إدوار الخراط ومراياه المتكسرة» (1996). اعتمد الأول على تراث النقد الماركسي، ولا سيما لوكاتش، وعلى فهم حنا مينه لنظرية الرواية وممارستها، ومزج ذلك بشيء من بنيوية في مظاهرها الأبسط، واعترف بعلاقة الجانب المضموني للرواية بالتقنية الروائية، مثل تفاصيل الحدث وتركيبة الشخصية وصيغ التعبير والبناء الفني( )، بينما استغرق الثاني في الشرح المضموني، مستعيداً تصريحات الخراط وآراءه النقدية داخل عناية أقل بالبنية الروائية معولاً على شيء من النقد الاجتماعي المتطور عند جولدمان، مثل تمييزه لمستويات الواقع المتداخلة والمركبة، وهي الواقع الوقائعي، والواقع الحدثي، والواقع الحلمي، والواقع الأسطوري، ومجاوزة الواقع( ).
بينما صرح نقاد آخرون بانتهاجهم البنيوية التكوينية في مقارباتهم النقدية أمثال محمد عزام (سورية) في كتابه الأخير «فضاء النص الروائي: مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان» (1996)، على أنه، في الوقت نفسه، يمتح من معين التحليل الشكلاني للرواية والتحليل البنيوي للسرد (ويسميه التحليل البنيوي للرواية)، تمهيداً لإظهار العلاقات العميقة والسطحية بين داخل النص وخارجه فيما أزمعت البنيوية التكوينية على التصدي له، استيعاباً للمفاهيم الأساسية لسوسيولوجيا الأدب عند غولدمان كالبنية الدالة ورؤية العالم والرؤية المأساوية والوعي إزاء الواقع الاجتماعي، والوعي الممكن؛ وهي المفاهيم الأساسية التي طبقها الأخير منهجاً نقدياً بنيوياً تكوينياً في دراسة الآثار الأدبية والفكرية لراسين وباسكال وكانط ومالرو وسارتر وغيرهم، رافضاً كل نزعة ذرية تريد أن تفهم الأعمال الأدبية بالوقوف عند جزئياتها، ومحاولاً إدراك المجتمع في كليته، ورابطاً ما هو اقتصادي بما هو سياسي، بل وحتى بما هو أدبي وفني، ومكتشفاً العلاقات الوظيفية بين المؤسسات الاجتماعية والأعمال الأدبية، ومتبنياً مفهوم الكلية الذي يرى أن التجربة المجتمعية والتاريخية في كليتها تتكون وتتكشف عن ذاتها من خلال الممارسة الاجتماعية. والكلية عنده هي مجموع الوقائع التي نعرفها، والأحداث التي ننتجها، وليست كلاً متعالياً عن المجتمع والتاريخ كما كانت لدى هيغل مثلاً»( ). أما تطبيقه للمنهج فكان انتقائياً تجزيئياً، إذ عالج وجهة النظر (المنظور الروائي)، والبطل الروائي (الشخصية الروائية)، وبنية المكان، وبنية الزمان، ثم انتقل لدراسة الفضاء السوسيولوجي للرواية (نحو قراءة خارجية للنص الروائي).
وتظهر شهوة مجاراة البنيوية واللحاق بها، واستعمالها كلياً أو جزئياً لدى الكثيرين لثرائها المنهجي، كما في دراسة سمر روحي الفيصل (سورية) الأخيرة «بناء الرواية العربية السورية 1980-1990» (1995)، فقد صرح أنه استند في كتابه إلى منهج نقدي محدد، «هو المنهج البنيوي الشكلي، وخصوصاً السرديات التي بدأ اتجاهها يتضح في سبعينيات القرن العشرين»، ورأى أنه بغنى عن توضيح البنيوية، لأن مراجعها مبذولة، وعلاقاتها بالأسطورة وعلم النفس والتاريخ والأدب والنقد الأدبي معروفة»( ).
ويلاحظ أن الفيصل اقترب كثيراً من مصطلحات علم السرد في تحليله البنيوي سواء المفهوم البنيوي للروائي: الراوي والرؤيا، أو بناء الشخصية الشخصية، أو بناء الزمن الروائي، أو بناء المكان الروائي، أو بناء السرد الروائي، وكان أنعم النظر في هذه المصطلحات وطبقها على الرواية العربية السورية في فترة بحثه، ثم قام بمحاولة تركيب لبناء هذه الرواية، مما يؤكد حسن استثماره للمنهج البنيوي، وتطويره ليتمثل بعض إنجازات علم السرد.
ولكننا نقع على استخدام أبسط وتثمير أقل لمعطيات المنهج البنيوي لدى نقاد كثيرين مثل عدنان خالد عبد الله (العراق) في كتابه «النقد التطبيقي التحليلي» (1986) ومحمد نديم خشفة (سورية) في كتابه «جدلية الإبداع الأدبي: دراسة بنيوية في قصص عبد السلام العجيلي» (1990)، وعبد الحميد بورايو (الجزائر) في كتابه «منطق السرد: دراسات في القصة الجزائرية الحديثة» (1994).
وضع عدنان خالد عبد الله عنواناً آخر لكتابه هو «مقدمة لدراسة الأدب وعناصره في ضوء المناهج النقدية الحديثة»، أما المناهج النقدية الحديثة فهي:
المدارس التي تتعامل مع النص على أنه كيان لغوي قائم بذاته، ومنها الشكلانية الروسية Russian Formalism، والنقد الجديد New Criticism والنقد السياقي Con****ual Criticism، والبنيوية Structuralism، والنقد اللغوي الذي يستند إلى التطورات الحديثة في علم اللغة أو اللسانيات، ويحاول تطبيق اكتشافاتها على النصوص الأدبية.
المدارس التي تتعامل مع النص كظاهرة حضارية، وهما النقد الماركسي، والنقد الاجتماعي.
المدارس التي تتعامل مع النص كاستجابة جمالية، مثل الظاهراتية Phenomenology والمدارس النفسية، والمدرسة الذاتية Subjective Criticism، والمدارس النقدية التي تعنى باستجابة القاريء.
وعلى الرغم من العمومية والنبرة الإطلاقية في الحكم على المدارس النقدية، كأن يعد النقد التكاملي Eclectic هجيناً من حيث عدم التزامه بأية مدرسة معنية، والحال ليس كذلك، فإن توكيده على أمر «البدء بالنص وليس الانتهاء به»( ) في المناهج النقدية الحديثة مما يحمد عليه.
خصص عدنان خالد عبد الله باباً للفن القصصي، قاصداً الرواية والقصة القصيرة، واستفاد من الدراسات المبكرة للسرد في النقد الأنجلوسكسوني، مشيراً، على عجل، إلى بعض نظرات البنيوية في تحليل السرد دون أن يسمي ذلك. ومن الواضح، أن كتابه مبكر، ويعتمد مرجعية النقد الإنجليزي التقليدي وبعض اكتشافات النقد الجديد في ميدان السرد.
بينما استغرق محمد نديم خشفة منذ الصفحات الأولى في كتابه في موضوع واقعية القصة أو مرجعيتها الواقعية، وعرض المناهج النقدية بابتسار، ليأخذ بالبنيوية، بما هي الوصول إلى حالة علمية في التعامل مع النص، «فلا يقحمون عليه عناصر خارجة عنه، ولا محيطة به»، غير أن تحليله البنيوي يفقد اتساقه عندما يطلب الإحاطة «بالسيرة الذاتية للمبدع نفسه ودراسة أثرها في توجهاته الفنية وأغراضه الأدبية»( ).
ويطلب أيضاً الإحاطة بتاريخ الأفكار للبيئة التي نشأ فيها وتبادل معها التأثر والتأثير. وهكذا، رأى دراسته «محاولة لمعرفة التوجهات الفكرية في قصص العجيلي، والعلاقة الممكنة بين نصوصها ومعطيات البيئة الاجتماعية والثقافية من خلال مقاربة بنيوية تهدف إلى تفكيك آليات العمل الأدبي ثم إعادة تركيبها، لاكتشاف العلاقة المحتملة بين تلك التوجهات وبين المعمارية القصصية المعبرة عنها، لأن ارتباط الأشكال بمضامينها يتراءى لنا من خلال علاقة جدلية»( ).
وعني عبد الحميد بورايو بالخاصية الأدبية للنص الأدبي، أما مناهج العلوم الأخرى مثل علم النفس والتاريخ والجمال فقد «فتحت المجال أمام ركام من الكتابات النقدية التي ظلت تحوم حول النصوص عاجزة عن استكناه أسرارها ومعرفة حقائقها. وعوضت هذا العجز عن طريق مسائل عامة تتعلق بفلسفة الفن، وبالمجتمع، وبالنفس الإنسانية، وبالتاريخ، وبالسير والتراجم والبيئة.. الخ»( ).
ثم عمد بورايو إلى التزام المنهج البنيوي في مستواه المبسط، وعرض جذوره في الشكلانية الروسية، ولا سيما إرث بروب، وما بعدها، مثل شتراوس وجريماس وتودروف وكلود بريمون، ومن المعروف أن شغل هؤلاء جميعاً لا يندرج في بنيوية خالصة، ولعل مرد ذلك إلى أنه جمع بين التحليل الشكلاني والبنيوي للشكل القصصي على أنهما شيء واحد، وعزا الاختلاف بين الباحثين الغربيين إلى المادة التي اتخذوها مجالاً لتطبيق المنهج قصد تعديله وإثرائه، فهم يتفقون في عدة مبادئ حددها كلود بريمون، برأيه، في مقدمة كتابه عن «منطق القصة Logique du Recit»: «التمييز بين مستويين بنيويين للقصة، يتعلق أحدهما حسب اصطلاح جريماس بالمستوى الكامن للبنيات السردية، ويتعلق الآخر بالمستوى الظاهر للبنيات اللغوية، وحسب اصطلاح تودروف يتعلق بالتضاد بين التاريخ والخطاب، وعندنا يتعلق بتفرع القصة المروية والقصة الساردة.
- الإيمان بإمكانية أداء الحوادث المروية في متواليات للأحداث (وظائف بروب) حيث بعضها على الأقل يستطيع أن يأخذ مكانه في معجم للمفردات الشاملة للسرد. وكذلك الإيمان بإمكانية استخراج قواعد تركيب هذه الوحدات، في قواعد شاملة أيضاً»( ).
وإذا نظرنا إلى تواريخ كتابته النقدية، وبعضها يعود إلى أواخر السبعينيات، نجد أن بورايو من أوائل الذين عرفوا بالبنيوية متداخلة مع مناهج أخرى، ثم طبق ذلك في مقارباته حول القصة القصيرة والرواية الجزائرية.
وحظيت أشكال مزاوجة البنيوية بالعلامية أو الدلالية أو السيميائية باهتمام عدد كبير من النقاد والباحثين العرب، وإن بدت مثل هذه الممارسة النقدية أشبه بالطفرات، أو لم تظفر بالالتفاف حولها في جهد شامل أو كامل، وثمة اختلاف في المرجعية النقدية الغربية من جينيت إلى امبرتو ايكو، إلى تودورف إلى كلود بريمون، إلى رولان بارت، إلى باشلار إلى آخرين، وأذكر أمثلة لهذه الممارسة النقدية، وهم عبد الفتاح إبراهيم (تونس) في كتابه «البنية والدلالة في مجموعة حيدر حيدر القصصية الوعول» (1986)، وفريد الزاهي (المغرب) في كتابه «الحكاية والمتخيل: دراسات في السرد الروائي والقصصي» (1991)، ومحمد عزام (سورية) في كتابه «النقد والدلالة: نحو تحليل سيميائي للأدب» (1996).
وضع عبد الفتاح إبراهيم كتابه أطروحة جامعية عام 1981، وطبعها دون تحوير، ولكنها ما تزال ساخنة وراهنة في تطبيق البنيوية الدلالية على مجموعة قصصية واحدة. وتشير الأطروحة إلى جرأته ونفاذ بصيرته ومقدرته على تعريب المنهج وتداوله، فصاغ أطروحته على قسمين: الحكاية باعتبارها خرافة، والحكاية باعتبارها خطاباً، وهذا هو منطلق البنيوية وعلم السرد في الوقت نفسه، واعتنى بالرمزية والشاعرية في المجموعة، ليوضح العالم القصصي وقيمته بعد ذلك.
شرح إبراهيم المصطلحات البنيوية والسردية، مثلما فعل آخرون، وإن خالطتها نبرة ألسنية في بعض المواقع كما في قوله:
«إن حيدر حيدر لم يستغل هذه العلاقة الممكنة بين الراوي والمروى له، وما تتيحه من تعديد مستويات الرواية، فجاءت الرواية مباشرة من راو ـ كاتب (حتى وإن وردت على لسان المتكلم الفرد) إلى مروي ـ له قارئ، وفي هذا توكيد لما ذكرنا من قلة اهتمام القصاص بعملية التلفظ بالقياس إلى اهتمامه بالملفوظ»( ).
وتبرهن كتابة فريد الزاهي النقدية إلى الاستغراق في المناهج الحديثة، ولا سيما البنيوية الدلالية، وإلى التمثل المتعدد المستويات لقراءة المتخيل: «لكل نص تخييله الخاص، به يقوم، وعلى صوغه ينهض في تميزه وقراءته. لكن نصوصاً معينة (ومن سجلات سيميائية مختلفة) تختار ـ بوعي أو بدون أن تتواطأ فيما بينها كي تبنى معالم حكاية لها نمطها الخاص: حكاية تكتب نفسها كتخييل لا كواقع أو وهم واقعي، متمفصلة حول حركاتها مفكرة لذاتها، ومعلنة نفسها ككتابة للحكاية، وكحكاية للكتابة. تتجسد الحكاية إذن ولا تضيع في موضوعها وفضاءاتها. تستعلن وهي تمارس وجودها، تمظهر الدال نفسها في المدلول، وتنفي أي تعال ماهوي للفكرة والحدث والمغزى. وهي بذلك لا تغمط حق الحدث أو المدلول، إنما تجعل منه أيضاً فرصة دائمة للصياغة ـ الكتابة»( ).
أراد الزاهي لكتابته أن تنعش ذاكرة النقد بمداراة عسر الهضم، عسر القراءة الناتج عن ذلك وتجاوز التضخم النظري عبر السيولة النقدية ذات الرصيد القرائي الملموس والحركي. ولعله بادر إلى تحقيق سعيه، وقد التفت عن الشروح النظرية منغمراً بأعراف التحليل البنيوي الدلالي.
غير أن كتاب محمد عزام يوضح مدى حضور البنيوية الدلالية في تطلع النقاد العرب إلى استيعاء هذا المنهج النقدي الثر. إنه مواكبة دؤوبة من مؤلفه للاتجاهات النقدية الجديدة، فقد جاء كتابه عن النقد والدلالة إثر كتب كثيرة عن مناهج أخرى مثل «الأسلوبية منهجاً نقدياً» و«التحليل الألسني للأدب»، وألمحنا إليهما من قبل.
عدّ عزام السيمياء «أحدث منهج نقدي انتشر بعد انحسار البنيوية، فقد بات التعريف به ضرورياً، ليس في أصوله الفكرية ونظريته النقدية فحسب، بل وفي تطبيقاته العملية أيضاً»( ). إن ثمة مبالغة في تقدير المؤلف حول انحسار البنيوية أو مدى نقاوة هذه المناهج الحديثة ذاتها، كما تظهر في هذا الكتاب، على وجه الخصوص، حيث التداخل الواضح بين البنيوية والسيميائية.
ويلاحظ أن مزج البنيوية بالعلامية أو السيمائية غالب على أقلام النقاد والباحثين العرب، الذين عمدوا إلى تثمير طاقات التأويل في النص الأدبي، ومن ثم في التخييل السردي. وبدأ مثل ذلك سعيد علوش (المغرب) في محاولته التنظيرية في كتابه «هرمنوتيك النثر الأدبي» (1985)، مستعيناً بالمناهج النقدية الحديثة، فافتتح كتابه بكلمة مفتاحية لفوكو:
«لا يوجد موضوع من موضوعات التأويل، إلا وقد أول من قبل، بحيث تقوم علاقة التأويل على عنف، بقدر ما هي علاقة توضيح وكشف. ومن هنا لا يكتفي التأويل، بالكشف عن خفايا مادة التأويل، التي تمنح نفسها بشكل سلبي وانفعالي، بل يستحوذ التأويل بعنف على تأويل آخر، سابق عنه، فيقبله لكي ينزل عليه ضربات عنيفة»( ).
تقصى علوش المكونات الهرمنوتيكية للنثر الأدبي في الكلمات والأشياء، والحقيقي المنهجي، والظاهراتي والأبستمولوجي، والدائرة الهرمنوتيكية، وثنائية السخرية، وجدلية اللعب والرمز، والألفة والغرابة، والتأويل والتفسير، والمستنسخات الهرمنوتيكية. وقد غلب على هذا التقصي نبرة توليف «تنظيري» لمنهجية تأويلية، مستخدماً ما توصل إليه السيميائية واللسانية والظاهراتية للكشف عن دلالات النص المسكوت عنها من أسطرة وسواها قبل الواقعي، العياني، المشخص. على أن جهد علوش منقول يفتقر للتوثيق، والبرهنة، لأنه لا يمضي بتنظيره إلى التطبيق على النصوص، ولأنه لا يوثق مراجعه، إذ لا يكفي أن تضع قائمة بمراجع الموضوع في نهاية الكتاب، وكأن ما ورد داخل المتن تأليف كله!.
وخصصت مجلة البلاغة المقارنة «ألف» (القاهرة ثم الدار البيضاء) أحد أعدادها «للهرمنوطيقا والتأويل»، بوصفها «الفرع المعرفي الذي يتناول التفسير والتأويل، قديمه وحديثه في آن واحد، ففي الماضي كانت تدور حول النصوص المقدسة، أما الآن فأصبحت تعنى بنوعيات مختلفة من النصوص. ويتمثل إحياء هذا الفرع المعرفي في انتشار نطاق فاعليته من نصوص مقدسة بعينها إلى أنواع كثيرة من الخطاب العلماني»( ).
وذكر محرر العدد المذكور أن تاريخ الهيرمينوطيقا في مجال الثقافة العربية، ما يزال في دائرة الدور الاجتماعي، ونادراً ما اهتمت بتحليل تعقيد عملية الفهم وأبعادها. وإذا كانت الهيرمينوطيقا قد أسهمت في الغرب في دحض الأسطورة، فربما يصلح القول، برأي المحرر، بأنها عملت في العالم العربي على قهر الاستعمار في الفكر. وينبغي أن يفهم الاستعمار في إطاره الأعمق والأعم، ولا يختلف تشخيص وضعية الدراسات الهيرمينوطيقية عن المواد التي حواها العدد، فليس ثمة بحوث نقدية أو تعنى بالنقد الأدبي، نظرياً أو تطبيقياً، وإنما هناك دراسات حول الهيرمينوطيقا في النص الديني والثقافي، مثل قراءة النص بعامة، والتفسير القرآني: توالد النصوص وإشباع الدلالة، والتأويل في كتاب سيبويه، وتصور الحب والنور عند زوار السيدة زينب بالقاهرة، وبول ريكور وإشكالية ثنائية المعنى.
إننا لا نقع على جهود نقدية معتبرة في استعمال المنهج التأويلي، نظرياً أو تطبيقياً، لأن الميل أوضح باتجاه تطعيم البنيوية بالعلاماتية أو السيميائية أو الدلالية بتعبير عشرات النقاد والباحثين، وقد اخترت مثالاً لهم محمد الحسن ولد محمد المصطفى (موريتانيا) في كتابه «الرواية العربية الموريتانية: مقاربة للبنية والدلالة» (1995)( ). وقد عمدت إلى هذا الاختيار لأسباب ثلاثة أوجزها فيما يلي:
يتعلق السبب الأول بحال الأدب العربي في موريتانيا الضارب في التقليدية (الاتباعية)، والمتجذر في تقاليد الأدب العربي، ولاسيما الشعر، فقد ساد الشعر الاتباعي، ومعه الشعر الحساني (الشعبي)، ميادين الأدب الموريتاني حتى منتصف القرن العشرين، أو بعده بقليل. أما الأجناس الأدبية الأخرى، مثل المسرح والقصة القصيرة والرواية فجرى الالتفات إليها خلال العقود الثلاثة.( )
ويتصل السبب الثاني بقلة الروايات الموريتانية المكتوبة، سواء بالعربية أو بالفرنسية، أو لنقل، ندرتها، فهناك رواية واحدة بالفرنسية لموسى ولد ابنو «الحب المستحيل» (باريس 1990)، وثمة خمس روايات بالعربية، هي «الأسماء المتغيرة» للشاعر أحمد ولد عبدالقادر (بيروت 1981)، و«القبر المجهول أو الأصول» للشاعر نفسه (الدار البيضاء 1986)، و«أحمد الوادي» لماء العينين ابن الشبيه (أبو ظبي 1987)، و«القنبلة» لأحمد سالم بن محمد مختار (نواكشوط 1993)، و«مدينة الرياح» لموسى ولد ابنو (بيروت 1996)( ).
ولعل السبب الثالث هو باعث المفاجأة أكثر من السببين السابقين، إذ إن الناقد الموريتاني محمد الحسن ولد محمد المصطفى كتب نقده للرواية الموريتانية وفق منهج حديث، هو مزيج من البنيوية والسيميائية (العلامية)، مما يؤكد وحدة الأدب العربي، وعمليات نقده، بتنوعه من قطر عربي لآخر، من بيئة ثقافية عربية لأخرى، ولافرق في هذا المجال بين عاصمة ثقافية كالقاهرة أو تونس أو بيروت، وبين مدينة عربية على الأطراف كنواكشوط، أو صنعاء (وثمة نماذج متطورة للاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية في هذه الأقطار العربية.. الخ).
ولعلنا ننظر في هذا الشغل النقدي للناقد الموريتاني في نقد الرواية الموريتانية، (ولربما كان بالأصل أطروحة جامعية!) لالتزام مؤلفه بحاجات البحث العلمي ومقتضيات المنهج الذي يقاربه.
ينطلق ولد محمد المصطفى من الاقرار بأن الأدب العربي الموريتاني جزء لايتجزأ من نهر الأدب العربي الكبير، سائر في ركبه عموماً، يتقاطع معه في الهموم، ويسير معه في التجديد الفني حيثما سار دون أن يفقد أصالته الخاصة، كأي أدب عربي في أي قطر يتسم بسمات تخصصه بقدر ما تحضر فيه معالم عامة تؤكد انضواءه في سياق الهوية العامة( ). ويلاحظ، فيما يلاحظ، أن اقبال الموريتانيين متأخرين على كتابة الرواية لاينفي التطور المنسجم لحركة التأليف العربي، فقد بدأت الرواية الموريتانية أكثر نضجاً، أو مستفيدة من النضج الذي وصلت إليه في بعض الأقطار العربية الأخرى، وقد ظهرت أول رواية عام 1981، وخلال قرابة عقدين من الزمن طبعت خمس روايات فقط، وشهد هذا المآل ظاهرة مشتركة بين أقطار المغرب العربي، هي تحول كاتب روائي فرانكفوني من الكتابة بالفرنسية إلى الكتابة بالعربية، هو موسى ولد ابنو، الوحيد الذي أصدر روايتين بالفرنسية، ثم بادر، أسوة برشيد بو جدرة، إلى الكتابة بالعربية.
وذكر ولد محمد المصطفى في مقدمته أن ثمة نقداً روائياً لهذه التجارب الروائية اقتصر على بعض المقالات العلمية والصحفية، مثل رسالة محمد ولد عبد الحي الجامعية لنيل شهادة البحث المعمق من الجامعة التونسية، وفيه تناول نقدي لمظاهر التجديد في الأدب الموريتاني الحديث (القصة، الرواية، الشعر، المقال النقدي)، وخلا تلك الرسالة مقالات صحفية في جريدة «الشعب» اليومية التي ظلت المنشور الأساسي الوحيد حوالي عشرين عاماً، أي أن نقد الرواية ضعيف، لذلك قال ولد محمد المصطفى متأسياً: «باستثناء ذلك فإنه لم يصل إلى علمنا شيء آخر كتب عن الرواية الموريتانية مما يعتد به من الناحية العلمية»( ). غير أن هذا الحكم ينطبق على مانشر داخل موريتانيا، لأن ثمة مقالات ومراجعات كثيرة كتبت عن الرواية الموريتانية في الدوريات العربية، ولاسيما رواية «الأسماء المتغيرة». وبهذا المعنى أيضاً، فإن هذا العمل النقدي لولد محمد المصطفى هو الأول والأكمل عن الرواية الموريتانية.
اعتمد ولد محمد المصطفى في نقده على المنهج البنيوي في تحليل الخطاب الروائي: وصف السرد وتحليله، والزمن، والأحداث، والمكان، والشخصيات صفاتها وأنماطها، والقضايا التي شكلت المرتكز الأساس لهذه الروايات، مع عناية أقل بالمنهج العلاماتي (السيميائي). وهو تطبيق خجول إلى حدّ ما، لأنه يختلط غالباً في بعض المواقع بالمنهج التقليدي الشارح والمفسر للروايات. وقد وزع ولد محمد المصطفى كتابه إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، بالإضافة إلى ثبت المصادر والمراجع، هي:


حول المهاد النظري للرواية الموريتانية.
البناء الفني في الرواية الموريتانية (الحبكة والسرد، الزمن، المكان، الشخصيات، الحوار).


البعد الدلالي في الرواية الموريتانية.
أوجز ولد محمد المصطفى، وحسناً فعل ذلك، القول في المهاد النظري والتاريخي للرواية العربية الموريتانية، مشيراً إلى المجتمع الموريتاني، والعرب الحسانيين، والزوايا، والغارمين (فئة مستضعفة)، والخراطين (العبيد المحررون والمغنون والصناع)، لينطلق بعدئذ، إلى مفهوم الرواية الموريتانية وسماتها العامة، من خلال إلماحات تاريخية إلى إطارها العربي ونشأتها الفنية في مصر، وتلا ذلك إلماحات إلى الرواية في موريتانيا، ولاحظ أن روايتي أحمد ولد عبد القادر تندرجان في مفهوم الرواية التاريخية، بينما رد الرواية الثالثة «أحمد الوادي» إلى تيار الواقعية الرمزية، والرواية الرابعة «القنبلة» إلى تيار الرواية الأيديولوجية، وهي الروايات الأربع التي عالجها.
وجه ولد محمد المصطفى عنايته للبناء الفني في الرواية الموريتانية، وتطرق أحياناً إلى مصطلحات الخطاب الروائي، ومازج ذلك كّله بشيء من الشرح أو التفسير مما يلازم النقد الروائي التقليدي. إن المستوى الغالب على نقده هو النقد الشارح وصولاً إلى تبين البناء الروائي أو الفني، فقد احتل، على سبيل المثال، تعريفه برواية «الأسماء المتغيرة»( )، ثم انتقل إلى معالجة السرد الروائي على استحياء: الراوي بضمير المتكلم، الراوي بضمير الغائب، الراوي الموضوعي. والتفت إلى جوانب فنية اخرى في مواقع أخرى، مثل مصطلحات السرد الاسترجاعي أثناء الحديث عن الحبكة، وسرعة القصّ والتلخيص والوقفة والمشهد والثغرة لدى الحديث عن الزمن الروائي، أي أن ناقدنا يقبل على المنهج البنيوي حذراً، ثم يمعن في النقد التقليدي الشارح.
ويتجه نقد ولدمحمد المصطفى للقضايا الدلالية على أنها موضوعات غالباً، مثل الحرية والعبودية والمقاومة والبعد الأخلاقي وصورة الغرب، أما المنهج العلامي فيجري الألماح إليه في العنوان وحده، بينما غاص نقده في الشرح المضموني، بعد ان صار البناء الفني إلى شرح أسلوبي تقليدي، كما هو الحال في هذا المثال عن رواية أحمد الوادي:( )
وهكذا نستطيع أن نورد الملاحظات النقدية على نقد ولد محمد المصطفى:
انطبع نقده للرواية العربية الموريتانية بطوابع النقد التقليدي الشارح على الرغم من إعلانه السعي لمقاربة بنيوية ودلالية، وعلى الرغم من اعتماده أحياناً على مراجع بنيوية، أو تعني بالسرديات من منظورات هذا المنهج الحداثي مثل كتاب يمنى العيد «تقنيات السرد في ضوء المنهج البنيوي»، وكتاب ميخائيل باختين «الخطاب الروائي»، وكتاب سيزا قاسم «بناء الرواية»، وكتاب حميد لحمداني «بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي»، وكتاب سعيد يقطين «تحليل الخطاب الروائي»، وسوى ذلك.
ثمة ميل لايخفى هو العناية بالموضوع على حساب معالجة البنية، وبرز ذلك جلياً في سياق نقده للبناء الفني بعناصره المختلفة، فيتحول الحديث مثلاً عن الترتيب الزمني للسرد إلى شرح للوقائع، أو أنه يمهد نظرياً للعنصر الفني ثم، ما يلبث في التطبيق، أن يصير الحديث عن هذا العنصر الفني استغراقاً في الشرح. إنه يورد فقرة سريعة عن مفهوم الشخصيات وأنواعها لاتتعدى الصفحة الواحدة( )، ثم يغلب الشرح الموضوعي عن تطور الشخصية خلل ومضات قليلة عن المنظور الفني.
ولعل التوقف عند استعماله لأنواع الرواة الثلاثة مما يوضح طريقته النقدية: الراوي بضمير المتكلم، الراوي بضمير الغائب، الراوي الموضوعي( ). يوضح هذه المفاهيم البنيوية السردية على عجل في أقل من صفحتين، ثم لايوافي في نقده على الدوام هذه المصطلحات الحديثة لصالح الاسترسال في أدوات النقد التقليدي الشارح.
لايفارق ولد محمد المصطفى هاجس نقد الموضوع على امتداد بحثه، فقد مرّ سريعاً في الخاتمة على الرأي في العناصر الفنية لتظهر، جلية خلل ذلك كله، هواجس الموضوع، كما في هذه الخلاصة:
«والحق، إن الروايات الأربع تجمعها منظومة فكرية واحدة تتلخص في الهوية، سواء هوية الفرد داخل مجتمعه ووطنه، أو هوية الأمة في سياقها الحضاري العام إزاء الغرب»( ).
يحتاج البحث للتدقيق المرجعي والإشاري، فقد ذكر، على سبيل المثال، رأياً مفاده أن هذا التناقض يبرز عمق الاشكالية التي تمزق المثقف عندما يروم التغيير. إنه بطل مأزوم كأبطال لوكاتش»(ص157). ولم يكتب لوكاتش روايات أو قصصاً، فهو منظر أدبي معروف.
يفتح نقد محمد الحسن ولد محمد المصطفى نافذة على الرواية العربية الموريتانية تعريفاً يهتم بمحتواها المضموني والقيمي، ويستعين على ذلك بأدوات المناهج الحديثة حيناً، غير أن اختياره للبنيوية ممتزجة بالعلامية واضح، على غرار عشرات النقاد والباحثين العرب.


2-4- التفكيكية:
برز الميل التفكيكي مع اشتداد عود البنيوية من جهة، ومع تميز المنهج المعرفي الذي يوظف مفهوم العلامة، ومفهوم الحفر المعرفي من جهة أخرى. وإذ كنا لمسنا شيئاً من ذلك في نقد بشير القمري، فإننا مثل ذلك أكثر وضوحاً في نقد سعيد السريحي، وآخرين لا مجال لذكرهم. ولكننا نقتصر على ذكر السريحي، لأنه الأكثر تعبيراً عن هذا الميل.
وضع سعيد السريحي عدة كتب في نقد الشعر والسرد، ولكننا نتوقف عند كتابين هما «تقليب الحطب على النار: في لغة السرد» (1994) و«حجاب العادة: اركيولوجيا الكرم، من التجربة إلى الخطاب» (1996).
اختار السريحي لكتابه الثاني نصاً شعرياً، صار في منهجه التفكيكي إلى نص سردي حين «تصبح أنظمة اللغة هي مناط المعنى ومرجعيته، وهي أنظمة شاركت في صياغتها ذوات لا نهاية لها بحيث تغدو التجلي لثقافة أمة بأسرها»( ).
ويتوضح مسعى السريحي بقوله: «من هنا فإن المعنى يكون متسامياً عن قصد مؤلف النص كما لا يمكن أن ينسب إلى فعل القراءة ذلك أن القراءة نفسها استنطاق لأعراف اللغة، كما أن الكتابة استكناه لنفس الأعراف»( ). ولعلنا نمضي إلى دراسة كتابه الأول، لأنه الألصق ببحثنا.
يوهم عنوان الكتاب«تقليب الحطب على النار» (1994) بغير محتواه للوهلة الأولى، ولكن سرعان ما يتضح اللبس إذا قرأنا العنوان الثاني للكتاب، وهو «في لغة السرد»، فهو إذن كتاب في النقد الأدبي الجديد، أو هو يتوسل المناهج الجديدة في النقد الأدبي حين يتصدى لقضية نقدية تتصل بلغة السرد. أما عنوان الكتاب الرئيس فهو تناص مع عبارة لناقد معروف من جماعة الشكلانيين الروس، واسمه شكلوفسكي، وقد رأى هذا الناقد الألمعي أن مقاربة النقد للغة في تعاملها مع مضمون لا يبعد أن يكون ضرباً من تقليب الأمر على وجوهه المختلفة، والاستغراق في استثمار إمكاناته، كما يقلب الحطب على النار، ومن هنا، كما يقول السريحي، «يتوارى المضمون خلف الآفاق المتجددة التي تنبثق من تشكلات النص فتمنحه مشروعية أن يكون، وتمنحنا عند اكتشافها مشروعية أن نزعم قراءة النص»( ). وأما الكتاب فهو يجمع أربعة أبحاث انشغلت بالسرد ولغته واشكالاته ومظاهر تجلياته، وألقيت من قبل في لقاءات ومؤتمرات ثقافية في الكويت والشارقة ومسقط والرباط.
حرص السريحي في أبحاثه على تأسيس وعي نقدي، وأضاف، «أزعم أن ثقافتنا العربية في حاجة ماسة إلى تأسيسه»( )؛ واعترف أنه لم يكن له فضل اختيار الموضوعات، فكان يحتال في اختيار زاوية الرؤيا ونهج التناول، وعلى عادة النقاد الذين يمنون النفس بإعادة القول فيها، ثم ما تلبث الأيام أن تثنيهم عن همّ بهمّ، وعن غاية بغاية. ولما حالت الظروف دون ذلك، استجاب لحسن ظن الأصدقاء به في أن يضم أشتات هذه الأبحاث، وأن يفي بنسبة الورقات إلى الجهات التي أوعزت بكتابتها؛ غير أنه يزعم أن هذه الأبحاث منسجمة البناء والرؤية النقدية والفكرية، ولذا يعد الشكر واجباً للجهات التي دعته لكتابتها لأنها حفزته لإنجاز هذه الأبحاث ـ الكتاب وهي «مجلس التعاون لدول الخليج» (1988) و«اتحاد كتاب الإمارات» (1989) و«المنتدى الأدبي» العماني في مسقط (1991)، و«الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب» لندوة «نجيب محفوظ والرواية العربية» بالرباط (1990).
تتناول الأبحاث الثلاثة الأولى تجارب قصصية خليجية هي: «تطور البناء الفني في القصة القصيرة: جدل الشفهي والمكتوب» و«القصة القصيرة في الإمارات: إشكالية اللغة» و«بدايات القصة القصيرة في عمان: الدور الاجتماعي والقصور الفني»، بينما اتجه البحث الرابع لدراسة «إشكالية الزمن في رواية حديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ».
يستفيد السريحي من المنهج الشكلاني في النقد، ولعل أهم إنجازات الشكلانية كانت في السرد والأشكال السردية، ولكنه ليس شكلانياً، لأنه أقرب إلى المنهج الموضوعي، مستفيداً من منهجية التفكيك في الوقت نفسه. ولاشك، أننا نقرأ في أبحاث السريحي السردية نقداً يعد نموذجاً للمستوى العربي المتقدم في تناول السرديات. لا يرتهن السريحي لمرجعية منهج بعينه مثل الشكلانية أو التفكيكية أو النقد التاريخي، ليدغم أدواتهما وتقاناتهما في منهج موضوعي تقويمي، فهو يحتفي حيناً بتوصيف الأعمال المنقودة، أو يعنى بتمحيص الاشتغال السردي في هذه الأعمال حيناً آخر، وما يلبث في بعض الأحيان أن يتجه إلى إصدار أحكام القيمة الفنية والفكرية على ما ينقد؛ وهذا واضح في عنوانات أبحاثه وفي متونها، فقد وضع عنواناً لدراسة القصة القصيرة في عمان المنحيين التاليين: «الدور الاجتماعي والقصور الفني».
إن السريحي متمكن من فعاليته الإجرائية ولغته النقدية، ويدعم ذلك ذائقة نشطة في الاستجابة ومقدرة عالية في التحليل. ولعل نقده لرواية نجيب محفوظ أكمل نموذج لتطلع الناقد؛ لأن ناقدنا السريحي نفور من الشرح وإطنابه، والنقد النصي وتطويله، طلباً لفعالية نقدية تجعل القراءة النقدية سبيلاً للرؤية الفكرية، وإظهاراً لعمليات البناء السردي. 
اختار السريحي إشكالية واحدة من إشكاليات البناء السردي لكاتب عظيم هو نجيب محفوظ، وفي إحدى رواياته المتأخرة الدالة على اشتغاله الخاص ببناء رواية فريدة في صوغها الفني. إنها مبنية على تقنية التواريخ الشخصية لعشرات الشخصيات على أنها تاريخ لمصر خلال قرنين من الزمن؛ ولعلها تعدّ اختزالاً أمثل لبناء الرواية عند نجيب محفوظ في اعتمادها الوثيق على تاريخ مصر على وجه الخصوص، وعلى فهم التاريخ اندغاماً للمصائر الفردية في المصير القومي العام على وجه العموم.
بدأ السريحي نقده بتحديد إطار نوع المعالجة الروائية التي عمد إليها نجيب محفوظ بإيجاز شديد الدلالة، دون إنشائية، دون استعراض معلومات، دون فذلكة علمية، وأكمل بإيجازه المعهود، وبلغته النقدية الصارمة، توصيف المعالجة الروائية مدخلاً لفهم إشكالية الزمن، فقد لمس فجوات «تتجاور فيها أحداث المنطقة وثورة عرابي واحتلال الإنجليز، أو تتقدم فيها وفاة الحفيد علي ميلاد جدّه أو أبيه»( )، ووجد أن الرواية بعد ذلك لا تمنحنا إمكانية لرسم خط مسار الزمن كما يتجلى فيها، وشكا من الإرهاق الذي يسببه ذلك الاضطراب الذي يبلغ حدّ المعاظلة في تركيب زمن الرواية وترتيبه، إن صحت استعارته لمصطلح المعاظلة من البلاغيين الذين استخدموه في وصف تركيب الجملة وترتيبها، مثلما أبدى إعجابه بإغراء ذلك التناسق الذي ينشأ عن الإشارات الصريحة للأزمنة والأجيال وتاريخ الأحداث. غير أن ذلك كله لم يمنعه من ترتيب منطقي تاريخي جديد للرواية، ليتوازى تاريخ المصائر الفردية مع التاريخ العام، أو ليتوازى التاريخ الفني مع التاريخ العام، مسلماً بسمو غايات هذا التاريخ الفني، وأمانة سرد أحداثه، ورصد تأثيراته ونتائجه، وروعة انحياز الراوي للثورة الوطنية ولمن انحازوا إلى صفها، ثم أبدى السريحي رأياً بأنه لا يخال « أن الراوي كان بحاجة إلى إرهاقنا بما ارهقنا به من تقنية في روايته لكي ينسج لنا هذه الشخصيات، وإن كانت من لحم ودم ووراثة واكتساب وتعلم ومصالح، بل لعل هذه الغايات والأهداف، وهذا الانحياز، وتلك المقدرة على نسج الشخصيات ما كانت لتنهض مبرراً لكتابة الرواية، فهي ذات الأهداف والغايات، وهو نفس الانحياز، وهى عين المقدرة على النسج التي تجلت جميعها فيما سلف من رواياته التي جاءت هذه الرواية على رأس سلسلة طويلة منها»( ).
وعلي، قبل أن أتابع عرض رأي السريحي في معالجة نجيب محفوظ لبناء روايته، أن اختلف معه حيناً، وأن اتفق معه حيناً آخر: الاتفاق في أن الرواية تحمل الأهداف والغايات ذاتها في غالبية أعماله، والاختلاف في أن الرواية تتفرد في بنائها الروائي عن بقية رواياته، فقد استطاع محفوظ أن يضع أمامنا تاريخاً فنياً حقاً يوازي التاريخ القومي العام، وأن يحمل هذا التاريخ الفني أكثر مما يحيط به عمل المؤرخ في ذكره للوقائع والأحداث، ولقد أفلح محفوظ في أن يحوّل الوقائع والأحداث من نسقها الواقعي إلى نسق سردي ينبض برؤية الفنان الرحيبة استناداً إلى تعليل هذه الوقائع والأحداث. غير أن السريحي حذر في الوقت نفسه من الاستغراق في محاولة محاكاة الواقع أو التاريخ، وهو محق في ذلك. مثلما هو واع لطبيعة بناء الرواية ونسق تنضيدها السردي، وهذا ما جعله يورد آراءه السديدة تمهيداً لتشريح بنية الرواية.( )
على هذا النحو من دقة المصطلح وسلامة المنهج يمضي السريحي في تحليله المعمق النافذ لإشكالية الزمن في رواية محفوظ، ولعل نظرة أخرى في دراسته «لإشكالية اللغة في القصة القصيرة في الإمارات العربية المتحدة» تؤيد بلاغة نقد السريحي للسرد. حدد السريحي مقاربته للقصة في الإمارات في الإحاطة بنشوء الظاهرة وتطورها واحتشاد الكتّاب القصاصين حول هذا الفن الذي شهد انتعاشه في أواخر السبعينات، ثم كسب عشرات الأصوات المتميزة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات؛ ولا سيما عبد الحميد أحمد ومحمد حسن الحربي اللذان وجدا عناية فائقة من السريحي. وفي هذا المجال، اختلف أيضاً مع ناقدنا في اقتصاره على جانب لغوي بحت، لأن ثمة أبعاداً ومنظورات أكثر تعبيراً عن استواء فن القصة القصيرة، وبلوغه إنجازاته الكثيرة. ألم يلاحظ السريحي ما يتوخاه، على سبيل المثال القاص عبد الحميد أحمد من حرص على تصوير الأشياء ورصد للعالم الخارجي. لا يؤمن عبد الحميد أحمد بالواقعية اللغوية، وإن أورد بعض التراكيب والألفاظ العامية أو الأجنبية، وهذا عائد لتسرب أحكام القيمة في نقد السريحي، ومما يحمد للسريحي أنه غير مولع بها، فالنقد يرتقي إلى ذرى بلاغيته وإبلاغيته كلما تجنب أحكام القيمة. وتشير دراسته الآنفة الذكر إلى صولاته وجولاته الملحوظة في تحليل الأعمال القصصية السردية على الرغم من اقتصارها على جانب الاستخدام اللغوي بما هو ألفاظ وتركيب، ربما بتأثير منهجية اللغوي العربي على سيرورة تشكل المنهج الموضوعي لديه. وهذا جلي في الحكم على لغة السرد بمنظور جماليات البيان والتبيين.
وتظهر نجاعة أسلوب السريحي النقدي في تخليله الممتع والمفيد لجدل الشفهي والمكتوب في القصة الخليجية، من خلال قصص قصاصين مهرة مثل إسماعيل فهد إسماعيل وليلى العثمان وسليمان الشطي (الكويت) وعبد الحميد أحمد (الإمارات) وأحمد السباعي وعبدالله باخشوين وعبده خال (السعودية) وأمين صالح (البحرين) على وجه الخصوص. وأعتقد أن دراسته تلك من الدراسات القليلة التي تقرّب القصة الخليجية من القاريء، وتبين، بلغة نقدية نقية، حركة تطور القصة القصيرة والبنية الشمولية التي تضبط إيقاعها، وتكشف عن علاقتها بوظائف العناصر التي يشتمل عليها بناء القصة.
سعيد مصلح السريحي، كما هو واضح، ناقد متمرس ومقتدر على دراسة السرد ولغته في منهج موضوعي يحيط بتلاوين بناء القصة والرواية، ويجعل من قراءاته النقدية متعة ذوقية عالية، ومثار استجلاء دواخل النصوص السردية المختلفة، ولا يخفى أن مثل هذا النقد الجديد هو الأقدر على تحقيق ذلك: وقد مثّله السريحي خير تمثيل كلما التفت عن أحكام القيمة من أجل مقاربات أكثر مواءمة واستطاعة للإشتغال النصي السردي، وكلما أمعن في تثمير معطيات المنهج التفكيكي لسيرورة نقد تقويمي؛ وهذا جلي في غالبية أبحاثه.

3- ملاحظات ختامية:
لعلي أوجز ملاحظاتي الختامية على الموقف من الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها فيما يلي:
أولاً- تطور الاهتمام النقدي العربي بهذه الاهتمامات بوساطة الترجمة عن الفرنسية بالدرجة الأولى، ولأعلامها الفرنسيين بخاصة، وتأخر الاهتمام بالتجليات الألمانية والإيطالية والأمريكية، مثلما تركز الاهتمام على البنيوية في بواكيرها الأولى، أما الاتجاهات المتفرعة عنها أو المتطورة عن ممارستها كالشعرية والعلاماتية والتداولية اللغوية وسواها، فتداخلت مع البنيوية والنقد اللساني والأسلوبي إلى حد كبير.
ثانياً- اختلاط الترجمة إلى حدود مريعة في غالبية الكتب المترجمة، لأن مترجمي هذه الكتب لا يعنون بخصوصية هذه الاتجاهات وفضاءاتها المعرفية والمنهجية ومصطلحاتها ولغتها النقدية، خلا استثناءات قليلة، ناهيك عن فقر الترجمة بالتعريف التاريخي والفكري والنقدي والمنهجي، وثمة كتب ونصوص مترجمة مقتطعة عن سياقاتها، أما تعدد الترجمات لكتاب واحد أو نص واحد فمما يضاعف الخلل، ويراكم الأخطاء، وهذا هو الحال مع ترجمة نصوص بارت على سبيل المثال.
ثالثاً- ماتزال صورة الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها متداخلة في وعي الناقد الأدبي العربي الحديث وفي ممارسته النقدية، فإننا نقع في واقع الحال على محاولات نقدية غير ناجزة تتمثل هذا الاتجاه أو ذاك، أو أن تطوره ضمن سيرورة النقد العربي الحديث. ثمة استثناءات قليلة لم يُكمّل أصحابها مشروعاتهم النقدية نحو اتجاهات شعرية السرد أو التفكيكية أو العلاماتية أو البنيوية التكوينية..إلخ.
رابعاً- لا ينكر المرء أن الغلبة في الممارسة النقدية العربية الحديثة للاتجاهات الجديدة وما يدور في فلكها، متأثرة كلياً أو جزئياً، أو هي تكييف للشغل النقدي مع معطيات الاتجاهات الجديدة على نحو قليل أو كثير، وعياً أو دخولاً في «هوجة» الجديد. ويكشف الموقف من نزعات ما بعد الحداثة ذلك الولع المستفحل بالاتجاهات الجديدة، بينما ما تزال هذه النزعات ملتبسة ومتداخلة، حتى إن الكثيرين ممن اشتغلوا على التعريف بها أو ترجمة بعض النصوص عنها، لم يقدموا تعريفاً واضحاً لها.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة