هوية القصيدة الحديثة في الشعر العربي
صحيفة 26 سبتمبر - أدب و ثقافة - العدد : 1503 - ص 7 - أ . أمين عيشان :
كانت القصيده الحديثة بنوعيها التفعيلة والنثرية في بداياتها تواجه بالرفض والإستهجان من قبل الكثير من الأدباء والنقاد الذين رأوا في ظهورها خروجاً عن المألوف وظاهرة من شأنها هدم الموروث الشعري العربي القائم على الوزن والقافية الموحدة وحكموا عليها بالفشل إلا أن هذه التجربة الجديدة للقصيدة العربية وبالتطوير المستمر لتقنياتها ومهاراتها وأساليبها من قبل روادها وكتابها إستطاعت أن تصل الى مرحلة النضج والتألق ولا سيما قصيدة التفعيلة لتثبت أنها إمتداد حقيقي واستمرارية تجديدية لروح القصيدة العربية العمودية شكلاً ومضموناً لسببين هامين أولهما:
أن القصيدة الحديثة والتفعيلية بالذات وإن كانت تخلت عن الأوزان التقليدية المتعارف عليها والمعروفة بأزوان البحور الشعرية في شكلها الكلاسيكي وعن القافية الموحدة في القصيدة العمودية إلا أنها احتفظت بالإيقاع الموسيقي للتفعيلة الشعرية وبالكثير من تقنيات القصيدة العمودية وجمالياتها ومحسناتها من كناية وتشبيه وتورية وغير ذلك من المحسنات البديعية مع استحداث صور وتراكيب شعرية جديدة ومعاصرة تتناسب مع حركة التطور الثقافي والإجتماعي في العالم العربي، فأروع القصائد الحداثية وأكثرها قبولاً وتذوقاً عند القارئ العربي هي تلك القصائد التي انطلقت من هذه الحيثيات مع اختلاف لغة كل شاعر وإسلوبه وإمكانياته وقدرته على المزج بين الأصيل الثابت والجديد المتغير وهو ما نجده عند رواد هذه التجربة الحداثيه في الشعر العربي وأخص بالذكر منهم الدكتور عبدالعزيز المقالح كواحد من أبرز الشعراء العرب المعاصرين والمتبنيين لهذه التجربة الحداثية في القصيدة الشعرية والذي استطاع فعلاً أن يضيف شيئاً جديداً إلى الشعر العربي بتجربته المتميزة كشاعرٍ حداثي تميز بالإلتزام والتجديد والوصول بتجربته إلى مرحلة النضج الأكثر روعةً والتزاماً بإسلوب فريد ولغةً أكثر فوارة بلغت حد التناهي في رقتها وعذوبتها بما منحت قصائده من حيوية الصور الشعرية وشفافيتها وتناغم الإيحاءات اللفظية وانسيابيتها بإسلوب سهلٍ وممتنع يمنع ذهن القارئ القدرة السريعة على الربط المنطقي بين الدلالة اللفظية أو الصورة الشعرية من جانب وبين الانفعال الوجداني عند الشاعر وروعة توظيف الصورة الشعرية لتجسيد المعنى من جانب آخر فتحدث الإستجابة السريعة عند القارئ ويتولد لديه الإنفعال وتطرب نفسه وهو يجد أمامه صور شعرية راقصه مفعمة بالشعور والفن الشعري وكأنه يقرأ نصاً من نصوص الشعر العربي الأندلسي الذي عرف عنه بلاغته وتناهي رقته وعذوبته وإطرابه للنفوس، مما يعني أن الدكتور المقالح كشاعر حداثي ملتزم إستطاع أن ينقل تقنيات الصورة الشعرية بما تتمتع به من جمال وقوة وشفافية وبلاغة تطرب نفس القارئ في القصيدة العمودية إلى القصيدة الحداثية وبإسلوب قد يكون أكثر روعةً وجمالاً مؤكداً بذلك أن القصيدة الحديثة، إنما هي استمرارية للقصيدة العمودية وتطوير لها وليست إنفلات عنها وتحطيماً لها كما اعتقد الرافضين لهذا النوع من الكتابة الشعرية أما السبب الثاني لتأكيد هوية القصيدة الحديثة في الشعر العربي فهو أن أي شاعر يكتب القصيدة الحداثية مهما كان لا يستطيع أن يجيد كتابتها ويصل بتجربته فيها إلى مرحلة النضج والتميز إلا من خلال مروره على القصيدة العمودية وإجادتها تذوقاً أو كتابةً بإعتبارها القاعدة الأساسية لإنطلاقة أي شاعر لأن الشعر في مجمله ليس ابتكاراً محضاِ أو تجربة مستحدثة لأي شاعر لكنه تجربة فكرية ثقافية إنسانية متواصلة ومستمرة بصورة تراكمية كما أنه فناً كسائر الفنون السمعية والبصرية له قواعد وأسس ومعايير وأدوات يجب أخذها بعين الإعتبار الى جانب الإمكانيات الخاصة للشاعر، والشاعر الأكثر وعياً من كتَّاب القصيدة الحديثة هو الذي يدرك أن مهمته في كتابة القصيده الحديثة هي إعادة صياغة الشكل الخارجي للقصيدة العمودية وبنائها وفق ما يتطلبه التطوير المناسب للحياة الفكرية والثقافية المعاصرة مع الحفاظ على روح القصيدة العمودية كمرحلة أساسية للشعر العربي وموورث أدبي وثقافي لا يمكن إلقاؤه خلف الظهر أو في طي النسيان مهما كان الواقع الحداثي للكتابة الشعرية المعاصرة متطلباً للتطوير بدليل استمرارية القصيدة العمودية التي مازالت الأحب والأقرب إلى نفسية القارئ وذوقه وبدليل انها مازالت وستظل حيةً في تجربة الكتابة الشعرية عند الشعراء المعاصرين ومتزامنة مع كتابة القصيدة الحديثه عند أغلب الشعراء وميل القارئ إلى قصيدة التفعيلة بدرجة أعلى بكثير من قصيدة النثر لشعوره أنها الأقرب إلى العمودية بما تمتلكه من إيقاع وموسيقى داخلية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق