سليمان العيسى شاعر الأطفال والأدب الضاحك
الراية - بقلم : جهاد فاضل - السبت 22/12/1434 هـ - الموافق 26/10/2013 م :
التقيت في بيروت مرة بالشاعر السوري الكبير الذي رحل عن دنيانا مؤخرًا سليمان العيسى. دار الحديث بيننا حول قضايا أدبية عديدة وأذكر أنه عدّد أمامي أمراء الشعر العربي المعاصر على مدى القرن العشرين. ذكر منهم شوقي والجواهري وبدر شاكر السياب، كما ذكر آخرين منهم فيديريكو غارثيا لوركا الشاعر الأسباني المعروف. ضحكت عندما ضم لوركا إلى هذه الكوكبة الكريمة من شعرائنا.
قلت له: كيف جعلت لوركا شاعرًا عربيًا مع أنه شاعر أسباني كتب شعره كله بالأسبانية؟ وقد أجاب بأن لا شك عنده في أن لوركا وهو أمير الشعراء الأسبان في العصر الحديث هو شاعر عربي كأي شاعر عربي آخر، ولو أنه منفي في الأدب الأسباني ولكن عُد إلى شعره تجد الروح العربية فيه واضحة وضوح الشمس.
فهو إذن شاعر عربي ولد وتربى في قرية من قرى غرناطة، وفي أسرة عربية موريسكية في الأساس. وفي مسيرته أنه قرأ كل المرويات العربية الإسلامية وهو صغير. ، وفي دواوينه وسائر كتبه ما يؤكد وعيه التام بأنه "موريسكي" الأصل ومن وحي وعيه هذا كان يقول لمن يسأله، وهو يغادر مرة إلى غرناطة، "إنه ذاهب إلى "مملكة غرناطة"، هكذا بالحرف الواحد. وفي أشهره الأخيرة كان يُهيّئ لاحتفال كبير عن ابن طفيل صاحب "حي بن يقظان" وابن طفيل كان فيلسوفًا كما كان أندلسيًا مثله.
وكل ذلك عن لوركا يعرفه الأسبان معرفة جيدة ويعتبرونه جسرًا ثقافيًا بين الأسبان والعالم العربي.
إلى اليوم ما زالت أذكر هذه الحكاية عن سليمان الذي التقيت به مرارًا بعد ذلك. وفي كل مرة كنت أستمتع منه إلى أدلة أخرى تتصل بعروبة لوركا. ونتضاحك، وأقول له: إن أحدًا لم يسبقك في مسألة عروبة لوركا وإن كان هذا الموضوع يتطلب توفر باحثين أكْفاء لجلاء هذه النقطة الحساسة جدًا عند الأسبان.
ذلك أن الأسبان ينزعجون عندما يسألهم أحد عن لوركا المُشبع أدبه بصور وعبارات وطرائف فنية كثيرة أخذها لوركا عن جدته لأبيه وعن أمه نفسها التي كانت تقول إن ابنها هو "نتاج" عربي أندلسي.
وأذكر أني سالت مرة أحد المستشرقين عن هذه المسألة الحساسة، فكان يضحك وهو يتلقى سؤالي ويقول: إن بني قومه الأسبان يقولون عندما يُسألون عن عروبة لوركا هذه: "نحن أمة شعرية يمتلئ تاريخها بما لا يُحصى من الشعراء الكبار، فلماذا تستكثرون علينا شاعرًا في مكانة لوركا، وكأن أسبانيا لم تُطلع سواة من الشعراء؟.
تذكرت كل ذلك وأنا أتلقى نبأ وفاة سليمان العيسى رحمه الله الذي لا شك عندي في أنه أمضى حياته، كشاعر وكناثر وهو موزع على فنون أدبية كثيرة. فقد كان شاعرًا من الدرجة الأولى شاعرًا مجددًا كان رفيقه في معهد المعلمين العليا ببغداد كل من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة. كما كان ناثرًا له الكثير من الدراسات والملاحظات الدقيقة حول الشعر بصورة خاصة.
ولا ننسى أن له ديوانًا في "الإخوانيات" وآخر في شعر موجه للأطفال والفتيات.من الناحية السياسية والقومية نشير إلى أن سليمان العيسى كان من مؤسسي حزب البعث في سوريا ومن أبرز أدبائه وقسم كبير من شعره قاله في موضوعات تتصل بطموح الأمة العربية المشروع في الوحدة. فهو شاعر وطني من الطراز الأول كما هو شاعر غزل رقيق.
ولكن سليمان العيسى اعتزل حزب البعث لاحقًا عندما بات هذا الحزب وكرًا للفساد والسلب والنهب واعتزاله هذا يعود إلى أكثر من ثلث قرن ومن بعدها انصرف العيسى إلى قضايا الأدب والشعر، رافضًا كل العروض التي قدمها النظام السوري له كي يتحول إلى شاعر "متخصص" في مدح البعث السوري وحافظ الأسد ونجله بشار.
ويمكن للمرء أن يلتمس صورة سليمان العيسى في دواوينه وبخاصة في كتاب له بعنوان "باقة نثر" ضمنه كل آرائه حول الشعر بصورة عامة كما ضمنه فصولاً تتصل بتجربته الشعرية وهي تجربة غنية ومهمة ونقتطف من "باقة نثر" سطورًا وفقرات تتصل بهذه التجربة.
يعترف العيسى أنه كان مشدودًا إلى التراث في الفترة الأولى من نتاجه وكانت ظلال القرآن والمعلقات وديوان المتنبي تحيط به وتشد على يده في كل قصيدة يكتبها. ولكنه ما لبث أن انفتح على عوالم جديدة عندما أخذ يطالع بشغف الآداب الأجنبية وشعراء الغرب.
مبكرًا قرأ الشعر الفرنسي وحفظ الكثير منه، وفي مطلع شبابه قرأ أيضًا الشعر الإنجليزي وتأثر بمدرسته الرومانسية.واتسعت مطالعاته فقرأ معظم شعراء الألمان والروس والأمريكيين والأسبان، وكان غارثيا لوركا أقرب هؤلاء الشعراء لنفسه وأحبهم إليه.
ومر في تجربته بالمدارس الشعرية من الكلاسيكية إلى الرومانسية، إلى الرمزية، فالواقعية الجديدة، وكان لكل من هذه المدارس أثرها في كتاباته، ولكنه يعترف أنه لم يتأثر بواحدة من هذه المدارس كما تأثر بالواقعية الشعرية الجديدة ولا سيما بعد أن عاش زمنًا مع قصائد ماياكوفسكي وبابلو نيرودا وناظم حكمت وكاتب ياسين.ولكن مع كل ذلك بقيت تجربته الشعرية تجربة عربية تضرب بجذورها في أعماق الصحراء، وتنأى عن أن تتزيا بغير زيّها العربي.
من كل ذلك نعرف أن سليمان العيسى ظل شاعرًا عربيًا أصيلاً وأنه لم يفقد إزاء الشعر الأجنبي توازنه فينبهر ويقلد كما يفعل شعراء كثيرون مثل زميله أدونيس الذي يترجم أحيانًا بعض ما يكتبه أو ينظمه ويسند ذلك إليه، كما فعل مع الشاعر الفرنسي سان جون برس.
ومن أطرف ما يرويه: ليس في نتاجي كله أثر لأسطورة يونانية مثلاً، ولم يدخل "سيزيف" وأضرابه أي قصيدة من قصائدي، بالرغم من قراءاتي الدائمة وشغفي بالاطلاع. كنت ألوم صديقي الشاعر المبدع المرحوم بدر شاكر السياب ونحن على مقاعد الدراسة في دار المعلمين العالية ببغداد حين كنت أجده يركض وراء كل حكاية غريبة عن تاريخنا وأسطورة لم ينسجها ترابنا ويحاول جاهدًا أن يتبناها وأن يتكئ عليها في شعره، كنت أقرأ ما يقرأ وأتذوق ما يتذوق ولكني آثرت أبدًا أن أقف على قدمي وأرى الدنيا بعيني.كان سليمان العيسى شاعرًا أصيلاً، من البداية يقف موقف الرافض لتقليد الشعر الأجنبي ومما رفضه ذلك الشعر (النثري أو الشعري) الذي يتحدث أصحابه عن أنهم يكتبون لقارئ المستقبل لا لقارئ معاصر لهم. فلم يستطع أن يتصور قصيدة تقال دون أن يكون لها سامع أو متلقٍ تتجه إليه وإلا فلمن تقال؟ ولماذا تقال؟.
وأكاد أسمع صوته الآن وهو يقول: "منذ خيمة أدم التي كانت تضرب للنابغة الذبياني في سوق عكاظ إلى آخر قصيدة حديثة ألقاها شاعر من شعراء الشباب. كان شعرنا العربي يخاطب الناس يحاول أن يسجل همومهم ويحمل إليهم أفراحهم وأتراحهم ومطامحهم وأحلامهم وما يزال، ما يزال!
وردد سليمان العيسى كلمات كثيرة تدل على نبل جوهره فقد ذكر في هذا الكتاب أن قصائد المتنبي وهو يسجل بطولات سيف الدولة ومعارك جيشه خطب شعرية مجلجلة كالرعد ومع ذلك فإن أحدًا يجرؤ على اتهام المتنبي بأنه كان شاعرًا رديئًا حين كان ينشد روائعه تلك على مسمع الناس ومسمع الدهر معًا:
وما أن إلا سمهري حملته
فزيّن معروضًا وراع مسدّدًا
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا
فسار به من لا يسير مشمرًا
وغنى به من لا يغني مغردًا
وجهت إليه ذات يوم فتاة لا تتجاوز التاسعة من عمرها سؤالاً حول كيفية ولادة قصائده، يورد سليمان العيسى في كتابه أبياتًا له قبل أن يجيب عن سؤال الطفلة.
تقول هذه الأبيات:
أومض في الأعماق لمح الشهاب
في شارع، في هدأة، في اصطخاب
أومض وخز البرق في رأسه
أتركه، أمضي وراء السحاب
يظنّني ضعت، يلمّ الرؤى
ينسى يدًا دقت بقلب الضباب
وينطوي يوم وعام فما
للعمر، للتاريخ عندي حساب
عمري هو التاريخ إشراقتي
مجد المدى لا ينتهي، لا يجاب
وبغتة ينفض عن جفنه
شيئًا كما رفّ جناحا عقاب
كما هوت فوق الثرى قطرة
من غيمة مجهولة، من سراب
وهْم.. أعادت؟ إنه صوتها
أعرفه، يهمس خلف الحجاب
يشتد، يجتاح بلا موعد
بلا صدى، ينذرني بالعقاب
يضيء بالذكرى يصب السما
في شفتي غمغمة من رباب
في هذه القصيدة يروي سليمان العيسى بعض ما يعانيه الشاعر وهو يكتب قصيدته. تولد القصيدة في رأس الشاعر أولاً، ثم يبدأ الصراع الحلو والمر مع الفكرة، مع الصورة، مع اللفظة، مع الموسيقى، مع عشرات العناصر الفنية الدقيقة التي لا يمكن تحديدها حتى تكتمل خلقًا سويًا.
ويخبرنا أنه يكتب القصيدة الطويلة من ثمانين إلى مائة بيت في يوم واحد، ثم ينقحها في يومين أو ثلاثة. وربما كانت عملية التنقيح هذه أهم وأدق ما في كتابة الشعر لديه.
تنقل سليمان العيسى بين أشكال فنية كثيرة استعملها جميعًا في نتاجه الشعري:
من قصيدة العمود ذات القافية الواحدة والروي الواحد، إلى قصيدة المقاطع المنوعة القوافي والروي، إلى شعر التفعيلة، إلى الشعر المنثور، أو ما يسمونه قصيدة النثر، إلى استخدام مجزوءات البحور على اختلاف أشكالها، إلى كتابة القصة الشعرية القصيرة: "ثائر من غفار" و"شاعر بين الجدران" و"صلاة لأرض الثورة"، إلى المسرحية الشعرية..
تنقل سليمان العيسى بين هذه الأشكال جميعًا واستعملها في نتاجه الشعري. كان يرى في قصيدة النثر أحيانًا من الشاعرية والموسيقى والانطلاق ما لا يراه في قصيدة الوزن وقل من أجادها من الشعراء.
أما اللغة ففيها يكمن سر الشعر والشاعر. كان الشاعر يعنى بالعبارة المشرقة الواضحة ويتجنب عجرفة اللغة ما استطاع.
ولكن ما الذي قصده بعجرفة اللغة التي وقع فيها كثيرون من فحول الشعراء قديمًا وحديثًا، والتي خُيل لهم، وهم يركبون متنها، أنها لون من ألوان البلاغة والإعجاز في الأداء؟
لا يوافق الشاعر هؤلاء الشعراء المتقعِّرين في مسلكه لأنها عبارة عن حزونة تدمي الأقدام ولا تخدم الفن في شيء وقد نفر منها الأجداد قبلنا وأطلقوا عليها مختلف النعوت السيئة كالتعقيد والمعاضلة والغرابة وحوشي الكلام.
ووجد الشاعر في الموسيقى عنصرًا من أهم عناصر الفن ولا سيما في البيان العربي.
فعنده أن الموسيقى هي عصب الكلام الجميل نثرًا كان أو شعرًا.
هي تبلغ ذروتها في الشعر والذين لا يحسون هذه الموسيقى ولا يجيدونها لا يملكون العصب السليم!.
لسليمان العيسى تجربة في الكتابة للأطفال وقد بدأها في عام 1967 واستمر فيها بعد ذلك حتى شهوره الأخيرة.
في مجموعته "غنوا يا أطفال" يقول:
بالشمس والهواء والماء تتفح أزهار الربيع
وبالموسيقى والحركة والغناء، يتفتح الأطفال على كل جميل ورائع.
دعوا الطفل يغني، بل غنوا معه أيها الكبار
إن الكلمة الحلوة الجميلة التي نضعها على شفتيه هي أثمن هدية نقدمها له.
لكي يحب الأطفال لغتهم
لكي يحبوا الناس والزهر والربيع والحياة
علموهم الأناشيد الحلوة
اكتبوا لهم شعرًا جميلاً
شعرًا حقيقيًا!
ويورد في كتابه نماذج من شعره للأطفال فعن فلسطين كتب:
فلسطين داري ودرب انتصاري
تظل بلادي هوى في فؤادي
ولحنًا أبيًا على شفتيَّا
وجوه غريبة بأرضي السليبة
تبيع ثماري وتحتل داري
وأعرف دربي ويرجع شعبي
إلى بيت جدي إلى دفء مهدي
فلسطين داري
ودرب انتصاري
وفي فصل من فصول كتابه يتساءل الشاعر: هل الأشكال التقليدية للأداء في الشعر العربي عاجزة عن استيعاب التجارب الفنية التي تمليها الحياة المعاصرة؟
ويجيب: أنا ممن يرفضون أن تقع ذبابة على لوحة جميلة، ولكن قبل أن أشرع بأي كلمة في الجواب، أطرد الذبابة الصغيرة عن السؤال الدقيق المثير. ويبدل كلمة "اعتبار" هذا الخطأ الشائع بين كتابنا.
فالاعتبار هو العظة والدرس الذي نتلقاه في حياتنا، إني أؤثر أن تكون لغتي سليمة جميلة ولا أحب أن استمع إلى نغمة تنبعث من وتر غير مشدود.
عبارة "الأشكال التقليدية" للأداء يرفضها الشاعر: لماذا لا نقول: تراث الشعر العربي؟ لمَ لا نقول: تاريخ القصيدة العريبة؟ وقبل كل شيء.
ويتساءل في الكتاب:
هل وجد في يوم من الأيام فن بلا جسد؟ شعر بلا شكل، قصيدة بلا موسيقى ونغم وألفاظ؟
رحم الله الشاعر الكبير سليمان العيسى ابن منطقة لواء الاسكندرون الذي أنهى دروسه الجامعية في دار المعلمين العالية في بغداد، رفيق بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والذي واكب شعره المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات والذي لا شك عندي في أن سنواته الأخيرة في سوريا كانت مرة كالحنظل وحزينة غاية الحزن لأن كل ما نصره وتحزب له وعمل من أجله توارى الثرى ولم يبقَ في بلده سوريا إلا الدمار والخراب!.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق