الرمز الأدبي
بين البلاغة العربية والرمزية الغربية
بين البلاغة العربية والرمزية الغربية
السيد رمضان السيد - مجلة الرافد - دائرة الثقافة والإعلام - الشارقة الإمارات العربية المتحدة :
يمثل الرمز الأدبي قيمة فنية كبرى في الشعر على اختلاف لغاته، ونحاول في هذه السطور العثور على الأصول الحقيقية التي أنتجته في شعرنا العربي الحديث، بالبحث عنها في التراث البلاغي العربي، وفي مذهب الرمزية الغربي على السواء، كما نبحث في مدى ملاءمة هذه الأصول لطبيعة اللغة العربية.
يُعرَّف مصطلح «الرمز الأدبي» - وفقاً لمذهب الرمزية - بأنه: «تركيب لفظي يستلزم مستويين: مستوى الصور الحسية التي تؤخذ قالباً للرمز، ومستوى الحالات المعنوية التي نرمز إليها بهذه الصور الحسية»(1)، ويتسم الرمز الأدبي بمجموعة من الخصائص الفنية التي يحسن حصرها كالآتي:
1. أنه علاقة بين مستويين: أحدهما محسوس، والآخر معنوي؛ فيلزم من هذا ألا يكون المرموز إليه شيئاً حسيّاً، وإنما هو حالة تجريدية، بحيث إذا تحققت الصورة الحسية أثارت الحالات المعنوية التي ترمز إليها(2).
2. أن تلك العلاقة حدسية، أي لا تعتمد على وجه الشبه الحسي بين الرمز والمرموز إليه، ولا يقصد بها التماثل في الملامح الحسية، بل يقصد بها العلاقات الداخلية بين الرمز والمرموز إليه، التي أساسها تشابه الوقع النفسي فيهما(3).
3. تعدد الدلالات، إذ يعتمد الرمز على فكرة الإيحاء التي قامت عليها أصول المذهب الرمزي؛ ولذا فإن الرمز الأدبي ينأى عما هو من خصائص المجاز كالقرينة؛ لأن التأويل فيه غالباً ما يعتمد على مجرد ارتباطاتنا وذكرياتنا العاطفية التي لا أساس لها في أية مقارنة منطقية؛ وبناء على ذلك، فإنه ليس بالإمكان أن نقول عن رمز من الرموز إنه يعني كذا وكذا فحسب، وإلا لما كان موحياً(4).
ولقد كُتبت العديد من الدراسات التي تناولت قضية الرمز في الشعر العربي الحديث، لعل من أبرزها كتاب «الرمز والرمزية في الشعر المعاصر»، الذي انتهى فيه مؤلفه د. محمد فتوح أحمد إلى نتائج عدة، كان من بينها أن ثمة قدراً من المفارقة بين النظرية الرمزية وتأويلاتها في الشعر العربي المعاصر، إذ لم يلتزم شعراؤنا - في الغالب - بالمفهوم المذهبي الدقيق للرمز الأدبي، فالرمز يعني الإيحاء بأوسع معانيه: في الصوت والتركيب والإيقاع والصورة الشعرية، هذا في حين لم يفهم كثرة شعرائنا من الرمز إلا أنه وسيلة للتعبير غير المباشر؛ فحصروه في نطاق الاستعارة الرمزية ذات الدلالة المحدودة(5).
ويحاول د. محمد فتوح تبرير تلك المفارقة بين النظرية والتطبيق، فيقول: «إن المتأثر بظاهرة أدبية، كثيراً ما يلجأ إلى تأويلها تأويلاً قد يقترب من الحقيقة أو يبتعد، ولكن ذلك لا ينفي تأثره في كلتا الحالتين»(6).
ويحاول د. محمد فتوح تبرير تلك المفارقة بين النظرية والتطبيق، فيقول: «إن المتأثر بظاهرة أدبية، كثيراً ما يلجأ إلى تأويلها تأويلاً قد يقترب من الحقيقة أو يبتعد، ولكن ذلك لا ينفي تأثره في كلتا الحالتين»(6).
ويبدو أن تلك المفارقة بين النظرية الرمزية وتطبيقاتها في الشعر العربي الحديث، قد اتسعت فجوتها إلى مدى بعيد، حتى طالت الاستعارة الرمزية ذاتها، فالناظر في الإنتاج الشعري الحديث يلمح تبايناً شاسعاً بين الرمز الأدبي - بمفهومه المذهبي - والكثرة الكاثرة مما يسمى رموزاً في نصوص ذلك الإنتاج، وكي لا يُعدَّ كلامنا هذا ضرباً من العبث؛ سوف نستدعي بعض الأمثلة الشعرية التي تؤيد ما نذهب إليه من الرأي:
أولها قصيدة «العائد» لصلاح عبد الصبور، وفيها يقول:
طفلنا الأول قد عاد إلينا
بعد أن تاه عن البيت سنينا
عاد خجلان... حييـّاً... وحزينا
فتلمسنا بكف نبضت فيها عروق الرعشة الأولى الجبينا
وتعرفنا عليهِ
وبكى لما بكينا في يديهِ
وارتمى بين ذراعينا. وأغفى مطمئناً. وغفونا(7)
أولها قصيدة «العائد» لصلاح عبد الصبور، وفيها يقول:
طفلنا الأول قد عاد إلينا
بعد أن تاه عن البيت سنينا
عاد خجلان... حييـّاً... وحزينا
فتلمسنا بكف نبضت فيها عروق الرعشة الأولى الجبينا
وتعرفنا عليهِ
وبكى لما بكينا في يديهِ
وارتمى بين ذراعينا. وأغفى مطمئناً. وغفونا(7)
فالرمز «الطفل» يمثل علاقة بين مستويين: أحدهما محسوس «الطفل»، والآخر معنوي «الحب»، وهي علاقة حدسية تعتمد على تشابه الوقع النفسي في كلا المستويين، كما أن هذا الرمز متعدد الدلالات؛ فقد لوحظ أن له ثلاثة مستويات من المعنى في القصيدة، هي الطفل والحب والزمن(8)؛ ولذا فقد نأى عن القرينة.
وأما المثال الثاني فمن قصيدة «يطير الحمام» لمحمود درويش، وفيها يقول:
يطير الحمام
يطير الحمامْ
أعدي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبك حتى التعبْ
.. أنا وحبيبي صوتان في شفة واحدهْ
أنا لحبيبي أنا وحبيبي لنجمته الشاردهْ
وندخل في الحلم لكنه يتباطأ كي لا نراهْ
وحين ينام حبيبي أصحو لكي أحرس
الحلم مما يراهْ
.. يطير الحمام
يطير الحمامْ(9)
يطير الحمام
يطير الحمامْ
أعدي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبك حتى التعبْ
.. أنا وحبيبي صوتان في شفة واحدهْ
أنا لحبيبي أنا وحبيبي لنجمته الشاردهْ
وندخل في الحلم لكنه يتباطأ كي لا نراهْ
وحين ينام حبيبي أصحو لكي أحرس
الحلم مما يراهْ
.. يطير الحمام
يطير الحمامْ(9)
فالرمز «الحمام» يمثل علاقة بين مستويين: أحدهما محسوس «الحمام»، والآخر معنوي «السلام»(10)، وهي علاقة حدسية تعتمد على تشابه الوقع النفسي في كلا المستويين، كما أن هذا الرمز متعدد الدلالات لعدم وجود علاقة مباشرة بين مستوييه(11)، وقرينة لفظية أو حالية تحصر لنا تأويله في هذا المعنى.
وأما المثال الثالث فمن قصيدة «رحل النهار» لبدر شاكر السياب، وفيها يقول:
رحل النهارْ
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نارْ
وجلستِ تنتظرين عودة سندباد من السفارْ
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعودْ
هو لن يعودْ(12)
رحل النهارْ
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نارْ
وجلستِ تنتظرين عودة سندباد من السفارْ
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعودْ
هو لن يعودْ(12)
فالرمز «السندباد» يمثل علاقة بين مستويين كلاهما محسوس، وهي لا تعدو أن تكون علاقة مشابهة مباشرة بين «السندباد» والمسافر الذي لا يتوقف عن الترحال، كما أن هذا الرمز لا يدل إلا على هذا المعنى الوحيد، الذي ساعد على تأويله القرينة الحالية المفهومة من السياق.
وأما المثال الرابع فمن قصيدة «أقوال اليمامة» لأمل دنقل، وفيها يقول:
قفوا يا شبابْ!
كـُليب يعودُ..
كعنقاء قد أحرقت ريشها
لتظل الحقيقة أبهى..
وترجع حلتها في سنا الشمس.. أزهى..
وتفرد أجنحة الغدِ..
فوق مدائن تنهض من ذكريات الخرابِ!(13)
قفوا يا شبابْ!
كـُليب يعودُ..
كعنقاء قد أحرقت ريشها
لتظل الحقيقة أبهى..
وترجع حلتها في سنا الشمس.. أزهى..
وتفرد أجنحة الغدِ..
فوق مدائن تنهض من ذكريات الخرابِ!(13)
فالرمز «كُليب» يمثل علاقة بين مستويين: أحدهما محسوس «كُليب»، والآخر معنوي «المجد العربي»، وهي علاقة خصوصية، إذ رمز الشاعر إلى المجد العربي عامة بعَلم خاص من عموم أعلامه وهو كليب بن ربيعة، وبالرغم من أن هذا الرمز متعدد الدلالات، كما صرح بذلك الشاعر نفسه في تذييل مجموعته «حرب البسوس» حين قال: «وقد حاولت أن أجعل من كُليب رمزاً للمجد العربي القتيل أو للأرض العربية السليبة»(14)، فإنه قد ساعد على تأويل هذا الرمز بهاتين الدلالتين المتقاربتين القرينة اللفظية المتمثلة في الفعل المضارع (يعود)، التي منعت من إرادة المعنى الحقيقي.
وأما المثال الخامس فمن قصيدة «لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان؟» لنزار قباني، وفيها يقول:
مُواطنونَ نحنُ في مدائن البُكاءْ
قَهْوتـُنا مصنوعةٌ من دمِ كـَرْبَلاءْ
حِنـْطتـُنا معجونةٌ بلحم كَرْبَلاءْ
طعامُنا.. شرابُنا
عاداتـُنا.. راياتـُنا
صيامُنا.. صَلاتـُنا
زُهورُنا.. قـُبورُنا
جُلـُودُنا مَخـْتـُومةٌ بخـَتـْم كربلاءْ(15)
مُواطنونَ نحنُ في مدائن البُكاءْ
قَهْوتـُنا مصنوعةٌ من دمِ كـَرْبَلاءْ
حِنـْطتـُنا معجونةٌ بلحم كَرْبَلاءْ
طعامُنا.. شرابُنا
عاداتـُنا.. راياتـُنا
صيامُنا.. صَلاتـُنا
زُهورُنا.. قـُبورُنا
جُلـُودُنا مَخـْتـُومةٌ بخـَتـْم كربلاءْ(15)
فالرمز «كربلاء» يمثل علاقة بين مستويين: أحدهما محسوس «كربلاء»، والآخر معنوي «الظلم»، وهي علاقة محلية، إذ رمز الشاعر إلى فكرة الظلم بمحل وقوعه، وهو مدينة كربلاء العراقية التي استشهد فيها الحسين - رضي الله عنه - كما أن هذا الرمز لا يدل إلا على هذا المعنى الوحيد، الذي ساعدت على تأويله القرينة الحالية المفهومة من السياق، ولو دل على غيره فإنه يدل على معان ٍ مرادفة للظلم كالقمع والقهر والاضطهاد وغيرها.
فهذه خمس عيِّنات من الرمز الأدبي في الشعر العربي الحديث، تباينت من حيث موافقتها لأصول النظرية الرمزية، فالرمزان في نصي صلاح عبد الصبور ومحمود درويش جاءا مستكمليْن السمات الفنية التي نصت عليها النظرية الرمزية، بينما جاءت الرموز في نصوص بدر شاكر السياب وأمل دنقل ونزار قباني مخالفة تلك السمات كلها أو غير مستكملة لها، وهذا يعني وجود نوعين مختلفين من الرمز الأدبي في الشعر العربي الحديث: أحدهما مذهبي، كرمزي عبد الصبور ودرويش، والآخر غير مذهبي، كرموز السياب ودنقل ونزار.
ولا ريب أن أمر الرمز المذهبي لا يحيطه أدنى غموض أو غرابة، فهو تطبيق حرفيٌّ لفكرة الرمز كما يراها الرمزيون، وهو نتيجة طبيعية لهبوب ريح الرمزية على الشعر العربي، وتأثر شعراء العصر الحديث بأصولها الفنية، أما الرمز غير المذهبي فإنه قضيتنا التي من أجلها حملنا القلم وسطرنا هذا المقال، محاولين الكشف والتنقيب عن أصول هذا الرمز وجذوره، إذ لا يمكن التسليم أبداً بأنه رمز أدبي أفرزته المدرسة الرمزية التي نشأت في أوروبا سنة 1886م، وانتشرت عدواها في جسد الشعر العربي الحديث.
كما لا يمكن أن نقتنع بهذه البساطة الخادعة التي بدت من تبرير د. محمد فتوح، وقوله إن المفارقة الواضحة بين فكرة الرمزية وتطبيقاتها في الشعر العربي الحديث، لا تنفي تأثر الشعراء المحدثين بالرمزية الأوروبية، ولو صح ذلك فإنه لا يحل لنا إشكالية ذلك الرمز غير المذهبي في شعرنا العربي الحديث، إذ لا يمكن أن يكون هذا الرمز قد نشأ بمجرد تصوُّر مغلوط من شعرائنا المحدثين لحقيقة المذهب الرمزي.
خلاصة القول: أن هذا الرمز غير المذهبي لا بد له من جذور أدت إلى تكونه وظهوره في شعرنا الحديث بهذه الصورة التي خالف بها طبيعة الرمز المذهبي، ولما لم نقتنع بأنه وليد المدرسة الرمزية الغربية، ولم نعثر على مصدر غربي آخر غير الرمزية كان هو السبب في ظهوره في شعرنا، وجب علينا أن ننقب في اتجاه آخر، ونسلك سبيلاً غير الذي سلكناه من البحث في المذاهب الأدبية الأوروبية، وذلك بالعودة إلى تراثنا البلاغي الأصيل، فلعلنا نقع بذلك على أثارة من القول لأسلافنا تدلنا على المصدر المجهول لرمزنا غير المذهبي، ولا يتحقق هذا إلا بتصفح كتب البلاغة العربية على امتداد تاريخها الطويل.
وحتى نخوض غمار هذا البحر اللــُّجيِّ لابد من أن نتأهب، ونتخذ الوسائل: اللازمة التي يُرجى منها أن تقينا خطر هذه الرحلة المحفوفة بأنواع الهلاك، وأولى هذه الوسائل تحديد موطن البحث في هذا التراث البلاغي الضخم بدقة، ولما كان الرمز غير المذهبي أسلوباً للتصوير البياني؛ فإنه بذلك قد دلنا على أن موطن بحثنا هو علم البيان، لكونه القسم الذي يختص بألوان التصوير البلاغي.
وأما الوسيلة الثانية: فهي البحث في ذلك الموطن الذي حددناه عن لون من ألوان البلاغة يشبه الرمز غير المذهبي، حتى يصدق الحكم عليه بأنه هو الرمز غير المذهبي ذاته، أو مصدره الذي منه انبثق، ولا بد حينها أن يتحقق التشابه بينهما إما في الاسم والتركيب معاً، وإما في التركيب وحده، لأن الاسم قد يقع على شيئين مختلفين في التركيب.
فقد نعثر خلال بحثنا على لون بلاغي هو سَمِيُّ الرمز غير المذهبي، لكنه لا يمت له بأية صلة، مثال هذا أن نقع في كتب البلاغة القديمة على شيء سماه علماؤنا القدماء «رمزاً»، وذكره السكاكي فقال: «إن الكناية تتفاوت إلى تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء، وإشارة»(16)، ثم قال: «وإن كانت ذات مسافة قريبة مع نوع من الخفاء كنحو عريض القفا وعريض الوسادة كان إطلاق اسم الرمز عليها مناسباً»(17).
فقد نعثر خلال بحثنا على لون بلاغي هو سَمِيُّ الرمز غير المذهبي، لكنه لا يمت له بأية صلة، مثال هذا أن نقع في كتب البلاغة القديمة على شيء سماه علماؤنا القدماء «رمزاً»، وذكره السكاكي فقال: «إن الكناية تتفاوت إلى تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء، وإشارة»(16)، ثم قال: «وإن كانت ذات مسافة قريبة مع نوع من الخفاء كنحو عريض القفا وعريض الوسادة كان إطلاق اسم الرمز عليها مناسباً»(17).
ولكننا حين نتأمل قول السكاكي نجد أن هذا المصطلح ليس من قبيل رمزنا المبحوث عنه، بل هو ضرب من ضروب الكناية كما ترى، وإنما وقع اسم «الرمز» عليهما اصطلاحاً، إذ لا مشاحة في الاصطلاح، وهذا التشابه في الاسم هو ما أغرى كثيراً من الباحثين؛ فقالوا بوجود الرمز الأدبي في شعرنا القديم متمثلاً في الكناية القليلة الوسائط الخفية اللزوم.
إذن، فلنطرح المسمَّيات جانباً، ولنـَعُـدْ إلى طبيعة تركيب الرمز غير المذهبي لنقارنها بطبائع تركيب العناصر البيانية المتنوعة، ولمَّا لم يكن الرمز غير المذهبي كناية، كما لا يمكن أن يكون تشبيهاً، فإنه بذلك قد حدد لنا موطن البحث بدقة أكثر مما سبق، وعلينا الآن أن نـَمُدَّ مناظير بحثنا للتنقيب عنه في المجاز، وفي المجاز اللغوي بالتحديد، لأن الرمز غير المذهبي لا يمكن أن يكون مجازاً عقلياً، إذ المجاز العقلي أو الإسنادي: هو المجاز الذي يكون في الإسناد أو التركيب، وتستعمل فيه الألفاظ المفردة في موضوعها الأصلي، ويكون المجاز عن طريق الإسناد(18)، ومثاله قول أبي الطيب المتنبي:
وَيَمْشِي بـِهِ الـْعُكـَّازُ فِي الدَّيْر تـَائِباً
َقـَدْ كـَانَ يَأبَى مَشْيَ أشـْقـَرَ أجْرَدَا(19)
وَيَمْشِي بـِهِ الـْعُكـَّازُ فِي الدَّيْر تـَائِباً
َقـَدْ كـَانَ يَأبَى مَشْيَ أشـْقـَرَ أجْرَدَا(19)
أما المجاز اللغوي: فهو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح به التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته(20)، ويتحقق ذلك عندما تتجاوز الكلمة معناها الأصلي الذي تفرضه الدلالة المعجمية، إلى معنى آخر غير محتمل، ولا يتسنـَّى هذا إلا بتوافر شيئين: علاقة مجازية تربط الكلمة بالمعنى غير المحتمل، وقرينة لفظية أو حالية تصرف الكلمة عن معناها الأصلي.
فإذا تأمَّلنا هذا ونظرنا إلى رموز السياب ودنقل ونزار، وجدنا أن كلمة «السندباد» لم تفارق معناها الأصلي «رحَّالة» إلى المعنى الذي لم يكن محتملاً «المسافر» إلا لتحقق شرطـَيْ المجاز اللغوي - العلاقة والقرينة - كما أن كلمة «كـُليب» لم تفارق معناها الأصلي «قائد عربي» إلى المعنى الذي لم يكن محتملاً «المجد العربي» إلا للسبب نفسه، ومثل هذا يقال أيضاً في كلمة «كربلاء» التي فارقت معناها الأصلي «مدينة عراقية» إلى معنى لم يكن محتملاً «الظلم».
فإذا تأمَّلنا هذا ونظرنا إلى رموز السياب ودنقل ونزار، وجدنا أن كلمة «السندباد» لم تفارق معناها الأصلي «رحَّالة» إلى المعنى الذي لم يكن محتملاً «المسافر» إلا لتحقق شرطـَيْ المجاز اللغوي - العلاقة والقرينة - كما أن كلمة «كـُليب» لم تفارق معناها الأصلي «قائد عربي» إلى المعنى الذي لم يكن محتملاً «المجد العربي» إلا للسبب نفسه، ومثل هذا يقال أيضاً في كلمة «كربلاء» التي فارقت معناها الأصلي «مدينة عراقية» إلى معنى لم يكن محتملاً «الظلم».
كما أننا لو قارنَّا رمز بدر شاكر السياب «السندباد» بأحد ألوان المجاز اللغوي وهو الاستعارة التصريحية، وهي ما صرِّح فيها بلفظ المشبه به دون المشبه(21)، ومثالها قول الله - تعالى -: «كِتـَابٌ أنـْزَلـْناهُ إلـَيْـكَ لِتـُخـْرجَ النـَّاسَ مِنَ الظـُّـلـُمَاتِ إلـَى النـُّورِ»(22)، لوجدنا أنفسنا أمام تركيبين بلاغيين متماثلين إلى حد كبير، فكلاهما يتألف من مستويين: ظاهر، ومحذوف، فالظاهر هو المشبه به، والمحذوف هو المشبه، والعلاقة بينهما هي المشابهة.
ولو قارنَّا رمز أمل دنقل «كُليب» بأحد ألوان المجاز اللغوي وهو المجاز المرسل ذو العلاقة الخصوصية، وهو إطلاق اسم الخاص على العام، ومثاله قول الله - تعالى -: «إنـَّا رَسُولُ رَبِّ الـْعَـالــَمِيـنَ»(23) أي: رسله(24)، لوجدنا أنفسنا أمام تركيبين بلاغيين متماثلين إلى حد كبير، فكلاهما يتألف من مستويين: ظاهر، ومحذوف، فالظاهر هو الخاص، والمحذوف هو العام، والعلاقة بينهما هي الخصوصية.
ولو قارنَّا رمز نزار قباني «كربلاء» بأحد ألوان المجاز اللغوي وهو المجاز المرسل ذو العلاقة المحلية، وهو إطلاق اسم المحلِّ على الحالِّ، ومثاله قول الله - تعالى -: «فـَلـْيَدْعُ نـَادِيَهُ»(25) أي: أهل ناديه(26)، لوجدنا أنفسنا أمام تركيبين بلاغيين متماثلين إلى حد كبير، فكلاهما يتألف من مستويين: ظاهر، ومحذوف، فالظاهر هو المحلُّ، والمحذوف هو الحالُّ، والعلاقة بينهما هي المحلِّية.
وإذا أنعمنا النظر في المقارنات الثلاث السابقة، شعرنا بأنه كان سيُكتب للتركيبين المقارنين التماثل التام، لولا ما امتاز به التركيب الأول عن صاحبه من العمق الناتج من خفاء القرينة، واحتياجها إلى مزيد من الاجتهاد في التأويل.
إن نظرة فاحصة في تلك الملاحظات السابقة لا تدع لنا مجالاً للشك في أن الرمز غير المذهبي هو ابن شرعيٌّ للمجاز، الذي هو المصدر البلاغي لمعظم الانحرافات الأسلوبية في اللغة العربية، كما أن تلك التشابهات الملحوظة بين طبيعة تركيب الرمز غير المذهبي وطبائع تركيب العناصر المجازية، التي نعدم لها وجوداً عند المقارنة بين الرمز غير المذهبي ونظيره المذهبي، تجعلنا نحكم مطمئنين بمجازية الرمز غير المذهبي، وننعتُه بـ «الرمز المجازي»، ونعرِّفه بأنه مجاز لغوي قرينته خفية.
بَيْدَ أنَّ تلك الملاحظات، وإن أثبتت لنا مجازية الرمز غير المذهبي وجريانه على قانون المجاز وعلاقاته، فإنها قد لا تكفي دليلاً لإثبات عروبته، إلا إذا تمكنَّا من إثبات وجود الرمز المجازي ظاهرةً فنيةً في مراحل زمنية من الشعر العربي تسبق مرحلة تأثر الشعراء العرب بالرمزية الغربية؛ ليصِحَّ هذا حُجَّةً تؤكد لنا أن الرمز المجازي قد نشأ على أيدي شعرائنا العرب، وأنه ظاهرة شعرية عربية لا يد للغربيين فيها.
وما أيسر أن أزعم عندئذٍ - كما زعم كثيرون - أن الرمز المجازي موجود في الشعر العربي القديم، وضارب بجذوره في مراحله الأولى، وأدَّعي وقوعه في الشعر الجاهلي مستشهداً على ادِّعائي بأمثلة، منها قول امرئ القيس في معلقته:
وَلــَيْـلٍ كـَمَوْج ِالـْبَحْر أرْخـَى سُدُولــَهُ
عَـلــَيَّ بـِأنـْوَاعِ الـْهُمُوم ِلـِيَبـْتـَلِي(27)
وَلــَيْـلٍ كـَمَوْج ِالـْبَحْر أرْخـَى سُدُولــَهُ
عَـلــَيَّ بـِأنـْوَاعِ الـْهُمُوم ِلـِيَبـْتـَلِي(27)
ثم أتمادى في زعمي، فأفسر «الليل» بأنه رمز للهموم التي يكابدها الشاعر، بل لا أقف عند هذا الحد، حتى أقول - أيضاً - بوقوع الرمز المجازي في شعر صدر الإسلام، وأن «سعاداً» التي عناها كعب بن زهير - رضي الله عنه - في مطلع قصيدته التي مدح بها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:
بَانـَتْ سُـعَادُ فـَقـَلـْبـِي الـْيـَوْمَ مَتـْبـُولُ
مُـتــَيـَّمٌ إثــْرَهَا لــَمْ يـُفـْدَ مَـكـْبـُولُ(28)
بَانـَتْ سُـعَادُ فـَقـَلـْبـِي الـْيـَوْمَ مَتـْبـُولُ
مُـتــَيـَّمٌ إثــْرَهَا لــَمْ يـُفـْدَ مَـكـْبـُولُ(28)
إنما هي رمز لجاهليته. ولا يشفى بعد هذا غليلي حتى أخرق رموزاً مجازية أخرى تنتمي إلى العصر الأموي، وأحشد فيها وأحشر أسماء المحبوبات في غزل العذريين، والتوريات والتعريضات في شعر السياسيين من أبناء ذلك العصر، إلى آخر هذا الخبط العشوائي الذي لا يزال يخبطه الكثير من الباحثين، ليحمِّلوا النصوص الشعرية التراثية فوق ما تحتمله من المعاني.
إن طبيعة الشعر العربي في تلك المراحل الزمنية وعفوية قائليه تأبيان مثل هذه التأويلات المتكلَّفة، حيث كان الشعراء يلتزمون نظام عمود الشعر التزاماً كليّاً في جميع عناصر النص الشعري من ألفاظ ومعانٍ وصور ووزن وقافية، حتى إذا أقبل العصر العباسي أخذت محاولات التجديد الشعري في الظهور، وكان ذلك على أيدي شعراء فحول تربَّت ذائقتهم على ما سلف من الشعر العمودي، ثم يُسِّر لهم أن يأتوا بشعر عمودي آخر ملائم لظروف عصرهم وبيئتهم المتحضرة.
وكان من بين هؤلاء شاعر جريء استطاع أن ينال بتجديده من القصيدة الرسمية، في حين لم يتجرَّأ أقرانه على مثل ذلك؛ فراحوا ينفثون طاقاتهم التجديدية في قصائد اللهو والمزاح، تخوُّفاً مما قد يصيبهم من النقد لو اقتربوا من القصيدة الرسمية وما أحيط بها من هالة تشبه القداسة، إنه حبيب بن أوس الطائي المكنى بأبي تمام (188هـ - 231هـ)(29)، الذي تمثلت تجربته الشعرية في توظيف البديع لتجديد لغة الشعر التي كادت تصبح فريسة لداء الرتابة والتقليدية.
وكان من بين هؤلاء شاعر جريء استطاع أن ينال بتجديده من القصيدة الرسمية، في حين لم يتجرَّأ أقرانه على مثل ذلك؛ فراحوا ينفثون طاقاتهم التجديدية في قصائد اللهو والمزاح، تخوُّفاً مما قد يصيبهم من النقد لو اقتربوا من القصيدة الرسمية وما أحيط بها من هالة تشبه القداسة، إنه حبيب بن أوس الطائي المكنى بأبي تمام (188هـ - 231هـ)(29)، الذي تمثلت تجربته الشعرية في توظيف البديع لتجديد لغة الشعر التي كادت تصبح فريسة لداء الرتابة والتقليدية.
ولم تقتصر مدرسة أبي تمام على تجديد اللغة الشعرية وحدها، بل اشتملت جوانبها على محاولات تجديدية لعناصر فنية أخرى، كان من بينها محاولة تجديد التصوير البياني، ويرى د. شوقي ضيف أن أبا تمام لم يقف بفنه عند الألوان القديمة من التصنيع، بل نفذ إلى ألوان جديدة يبتهج بها العقل، كان مردُّها إلى اعتماده على الغموض الفني الذي كان يلتف كالثياب حول أفكاره وصوره(30)، كما ذكر أن أبا تمام قد نجح في المزج بين ألوان التصنيع القديمة والجديدة، فاستخدم الرمز واستعان على إحكامه بصبغين مهمين من أصباغ التصوير، وهما: التجسيم والتدبيج(31)، وهو الأمر الذي يؤيد ما ذهبنا إليه حين عرَّفنا الرمز المجازي بأنه: مجاز لغوي قرينته خفية، فيبدو أن هذا الغموض الفني كان من أولى مراحل تصرُّف الشعراء في المجاز اللغوي، ما أفضى إلى اكتساب القرينة شيئاً من الخفاء، وأدى إلى تطور المجاز اللغوي إلى الرمز المجازي.
وقد ساق د. شوقي ضيف أمثلة من شعر أبي تمام اقتربت من رمزنا المجازي وابتعدت، ولعل أقربها الأمثلة الثلاثة الآتية:
أبـْدَيـْتَ لِي عَنْ جـِلـْدَةِ الـْمَاءِ الــَّذِي
قـَدْ كـُنـْتُ أعْهَدُهُ كَـثِيـرَ الطـُّحْـلُـبِ
وَوَرَدْتَ بـِي بُحْبُوحَةَ الـْوَادِي وَلَــوْ
خـَلــَّيـْتـَنِي لــَوَقـَفـْتُ عِنـْدَ الـْمِذنـَبِ(32)
أبـْدَيـْتَ لِي عَنْ جـِلـْدَةِ الـْمَاءِ الــَّذِي
قـَدْ كـُنـْتُ أعْهَدُهُ كَـثِيـرَ الطـُّحْـلُـبِ
وَوَرَدْتَ بـِي بُحْبُوحَةَ الـْوَادِي وَلَــوْ
خـَلــَّيـْتـَنِي لــَوَقـَفـْتُ عِنـْدَ الـْمِذنـَبِ(32)
فهذا الماء الذي جعل أبو تمام ممدوحه قد أبدى له عن جلدته إنما هو رمز مجازي تشبيهي للعطاء، كما أن الطحلب الذي عهد كثرته قبل ذلك إنما هو رمز مجازي تشبيهي للعسر، كذلك فإن أواسط الوادي التي وردها الشاعر مع الممدوح إنما هي رمز مجازي تشبيهي لتمام النعمة، التي لو لم يحظ بها لظل في النعمة القليلة التي رمز إليها برمز مجازي تشبيهي هو المذنب أو الساقية.
وأما المثال الثاني فقوله مخاطباً ممدوحاً آخر:
يـَا أبـَا عَبْدِ اللهِ أوْرَيـْتَ زَنـْدًا
فِي يَدِي كـَانَ دَائِمَ الإصْلادِ(33)
يـَا أبـَا عَبْدِ اللهِ أوْرَيـْتَ زَنـْدًا
فِي يَدِي كـَانَ دَائِمَ الإصْلادِ(33)
فهذا الزند الذي جعله الشاعر في يده إنما هو رمز مجازي تشبيهي لمطلبه؛ ولذا فقد رمز إلى نجح مطلبه برمز مجازي تشبيهي (الإيراء) وهو إظهار نار الزند، بينما رمز إلى إخفاقه برمز مجازي تشبيهي مقابل له (الإصلاد) وهو عدم إيراء الزند.
وأما المثال الثالث فقوله في الرثاء:
تـَرَدَّى ثـِيـَابَ الـْمَوْتِ حُمْراً فـَمَا دَجَى
لهَا اللــَّيـْـلُ إلا وَهْيَ مِنْ سُنـْدُس ٍخـُضْرُ(34)
فثياب السندس الخضر التي ألبسها الشاعرُ المرثيَّ عندما أظلم الليل بعد موته، إنما هي رمز مجازي تخصيصي للجنة، إذ هي مظهر خاص من عموم النعيم الذي يلقاه أهلها كما أخبر بذلك - سبحانه وتعالى - في قوله: «عَالـِيـَهُمْ ثـِيـَابُ سُنـْدُسٍ خُضْرٌ وَإسْتـَبْرَقٌ وَحُـلــُّوا أسَاورَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شـَرَاباً طـَهُـوراً»(35).
تـَرَدَّى ثـِيـَابَ الـْمَوْتِ حُمْراً فـَمَا دَجَى
لهَا اللــَّيـْـلُ إلا وَهْيَ مِنْ سُنـْدُس ٍخـُضْرُ(34)
فثياب السندس الخضر التي ألبسها الشاعرُ المرثيَّ عندما أظلم الليل بعد موته، إنما هي رمز مجازي تخصيصي للجنة، إذ هي مظهر خاص من عموم النعيم الذي يلقاه أهلها كما أخبر بذلك - سبحانه وتعالى - في قوله: «عَالـِيـَهُمْ ثـِيـَابُ سُنـْدُسٍ خُضْرٌ وَإسْتـَبْرَقٌ وَحُـلــُّوا أسَاورَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شـَرَاباً طـَهُـوراً»(35).
ثم لنتأمل طبيعة تركيب الرمز المجازي، ونقارنها بطبيعة تركيب الرمز المذهبي، وننظر في مدى ملاءمة كل منهما لطبيعة اللغة العربية، لنجد العلاقة المجازية التي يعقدها الرمز المجازي ليست محصورة بين حسيين كما في رمز السياب «السندباد»، بل من الممكن أن يتعلق الحسي بوصفه رمزاً بالمعنوي بوصفه مرموزاً، كما في رمز أمل دنقل «كُليب» ورمز نزار قباني «كربلاء»، والعكس صحيح، ويمكن أن تربط تلك العلاقة بين معنويين، والسبب في هذا أن فكرة الرمز المجازي ليست حكراً على شيء بعينه، حسيّاً كان أم معنويّاً، بل من حق المبدع أن يرمز بما شاء إلى ما شاء، شريطة أن يستند إلى علاقة مقبولة مجازاً لا حقيقة، بينما نجد العلاقة في الرمز المذهبي يُشترط فيها أن تكون علاقة بين رمز حسي ومرموز معنوي.
ثم إن العلاقة الرابطة بين مستويي الرمز المجازي هي في حقيقتها علاقة تحترم عقل المتلقي، حين تصرفه عن التفكير في المعنى المعجمي للكلمة إلى معنى جديد يتوصل إليه بوساطتها، بينما تسقط العلاقة الرابطة بين مستويي الرمز المذهبي - غالباً - صريعة ما سماه البلاغيون القدماء «التعقيد المعنوي»، وهو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني(36)، وقد لا يبدو هذا جليّاً إلا بمناقشة طبيعة علاقة الرمز المذهبي، تلك العلاقة التي تعتمد على تشابه الوقع النفسي على حد وصف الرمزيين، والتي تذكرني بقصة العالم الروسي «بافلوف»، الذي أجرى تجربته الشهيرة على كلب جعل يسمعه رنين الجرس في كل مرة يأتيه فيها بالطعام، وأخذ يكرر فعله هذا مع الكلب مرات، وفي المرة الأخيرة أسمعه رنين الجرس ولم يطعمه شيئاً، فإذا بالكلب يسيل لعابه استعداداً لتناول الطعام(37).
وتفسير هذا أن الكلب قد ارتبط لديه صوت رنين الجرس برائحة الطعام، حتى غدا ذلك الرنين رمزاً يذكره بشهوة الأكل، فلما سمعه في المرة الأخيرة بدا عليه أثر هذا الارتباط الذهني، ولو أن بافلوف أسمعه رنين الجرس مرتبطاً بشهوة أخرى غير الأكل، لغدا ذلك الصوت لدى الكلب رمزاً لتلك الشهوة الأخرى، ولاختلف أثر هذا عليه باختلاف ما ارتبط به الرنين من الأفكار.
وإذا صدق هذا على جنس الحيوان، فإنه غير كاذب في شأن بني الإنسان، فإن تلك الرموز المذهبية التي تخاطب ذهن المتلقي بما تحمله من وقع نفسي، تختلف دلالاتها باختلاف ما ارتبطت به من الذكريات لدى كل شخص، وحينها تتباين قراءات النص الشعري الواحد تبايناً كبيراً، ما يجعل من النص لعبة يعبث بها المتلقي كيفما شاء، ومطية يلوي عنقها إلى أي قصد أراد، وقد لا يجد الرمزيون غضاضة في هذا، أو كما يقول د. محمد فتوح: «وفي تلك الحالة قد تعني القصيدة معاني مختلفة لعدد من القراء، وقد يكون كل من هذه المعاني مختلفاً هو الآخر عما قصده الشاعر، بل ربما كان في بعض الأحيان خيراً منه، فالشاعر يعبِّر عن بعض تجاربه الخاصة مما لا علاقة له بشيء مطلقاً خارج هذه الخصوصية، ومع هذا قد يصبح الشعر بالنسبة إلى القارئ تعبيراً عن موقف عام، وقد يصبح تعبيراً عن بعض تجاربه الذاتية»(38).
وهنا نتساءل: ما قيمة ما يكتبه الشاعر إذا لم يستطع أن يتغنى بأحاسيسه فيطرب لها المتلقي ويشاطره تلك الأحاسيس؟ وما معنى الغنائية إذا لم تكن وظيفة الرمز هي التصوير، وأن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، كما قال العقاد(39)؟ وهل يصح في العقول أن يتحول النص الشعري إلى كلام يقرأه المتلقي ليفسره كما يحلو له، دون اعتبار مطلقـاً للمعنى الذي قصده الشاعر؟
إن تعدد دلالات النص الشعري وتباينها أمر وارد ومقبول، بل هو من سمات النص الإبداعي الثري، إلا أنه مقيَّد بضوابطِ ما يحتمله هذا النص من تلك الدلالات، وإلا تحوَّل الإبداع الشعري إلى عبث، وأصبح النقد جنوناً وخبلاً، أو كما قال الأستاذ محمود شاكر: «والنتيجة المنطقية لهذه الدعوى، أن كل امرئ مباح له أن يجعل في كل لفظ في اللغة، رمزاً لشيء يتوهمه هو، وإن كان غيره من الناس لا يرى له معنى مفهوماً عنده، إلا المعنى المتداول المعروف. وكذلك يصبح الناس يوماً إذا سارت الشعراء والكتاب هذه السيرة، وإذا اللغة ضرب من الخبل، ككلام الموسوسين والممرورين، لا يفهم أحد عن أحد شيئاً إلا بمعجم خاص بكل شاعر وكل كاتب»(40).
ولقد كان الدافع للرمزيين إلى هذا عدم إدراكهم لقيمة اللغة وما تدل عليها من المعاني، وذلك ما أثبته د. محمد مندور مبيِّناً مذهبهم الأدبي حين قال: «فقد أخذ الأدباء والشعراء ينكرون على اللغة قدرتها على أن تنقل إلينا حقائق الأشياء، وقالوا إنها لا تعدو أن تكون رموزاً تثير الصور الذهنية التي تلقيناها من الخارج»(41)، كما عاب العقاد عليهم هذا فقال: «وخُيِّل إليهم أنهم مطالبون بالتعبير عن أنفسهم بالرموز وإن أغنتهم الحروف الواضحة والكلمات المفهومة»(42).
وهكذا أولِعَ الرمزيون بفكرة الإيحاء، بيد أنه غاب عنهم أن الإيحاء إنما يتحقق من خلال ألفاظ لها معان ٍواضحة، وذلك حين ينجح الأديب في تحويل الألفاظ من قوالبِ معانٍ عامة إلى صور موحية تستثير خيال المتلقي، وهو ما أوضحه محمد فريد أبو حديد بقوله: «وهذه الألفاظ القاموسية، كما قلنا، قوالب عامة لمعانٍ عامة، والأديب إنما يريد التعبير عما هو أدق وأخص من تلك المعاني العامة، فهو في اختياره ينظر إلى ما وراء هذه القوالب، وإلى ما حولها من ظلال، وما تثير في الأذهان من صور فيها إيحاء»(43).
وهو الأمر الذي فهمه الأستاذ محمود شاكر على حقيقته حين أدرك أن الرمز إنما يؤتى به ليحيط بصور متعددة متداخلة، يكون الرمز كالمفجِّر لها، ليدع النفوس تستوعب أكبر قدر من الانفعال، يُحدِث لها أكبر قدر ممكن من المعاني(44).
وهذا الإيحاء هو ما يتيح الفرصة لتعدد دلالات النص في حدود المقبول، عندما يعمد الناقد إلى تأويل الرمز المجازي اعتماداً على ما أثاره في ذهنه من الصور، محتجّاً على تأويله بما تضمَّنه النص ذاته من القرائن، مثال هذا أن يرى د. إحسان عباس «القوس العذراء» للأستاذ محمود شاكر رمزاً للعمل الإنساني المتقن أو العمل الفني(45)، بينما يراها د. محمد الدسوقي رمزاً لتراث الأمة وحضارتها العربية الإسلامية(46)، وكلٌّ منهما مستدل على تأويله بالقرائن التي تضفي على قراءته قدراً من المنطق المقبول.
وهكذا يتبيَّن لنا مدى ملائمة الرمز المجازي لطبيعة العربية الفصيحة، التي لا تؤمن بالإيحاء المجرَّد من المعاني الظاهرة، كما لا تؤمن بالغموض الناجم عن افتقاد القرينة.
أهـم المصـادر والمراجـع:
§ أباطيل وأسمار: الأستاذ: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1426هـ - 2005م.
§ اتجاهات النقد في الأدب العربي الحديث، دراسات تطبيقية: د. إبراهيم عبد الرحمن محمد، مكتبة الشباب، القاهرة، 1994م.
§ الإتقان في علوم القرآن: أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق مركز الدراسات القرآنية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
§ الأدب الإسلامي، مجلة فصلية تصدر عن رابطة الأدب الإسلامي العالمية: العدد 16، لسنة 1418هـ.
§ الأدب ومذاهبه: د. محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة.
§ الأعلام: خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة عشرة، 2002م.
§ الأعمال السياسية الكاملة، نزار قباني: منشورات نزار قباني، الطبعة الثانية، 1999م.
§ أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة: مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1407هـ - 1987م.
§ الإيضاح في علوم البلاغة: الخطيب القزويني، شرح وتعليق وتنقيح وفهرسة ومراجعة د. محمد السعدي فرهود، د. محمد عبد المنعم خفاجي، د. عبد العزيز شرف، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1420هـ - 1999م.
§ بافلوف، أبحاثه في الجهاز العصبي والتعلم والتدريب وظواهر أخرى: د. عبد المجيد كركوتلي، مطبعة الهلال، دمشق، الطبعة الثالثة، 1986م.
§ جريدة الرأي الأردنية: عدد 20/7/2001م.
§ جماليات التلقي وإعادة إنتاج الدلالة، دراسة في لسانية النص الأدبي: د. محمد الدسوقي، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، كفر الشيخ، الطبعة الأولى، 2007م.
§ حصار لمدائح البحر: محمود درويش، دار العودة، بيروت، 1986م.
§ ديوان بدر شاكر السياب: دار العودة، بيروت، 1971م.
§ ديوان صلاح عبد الصبور: دار العودة، بيروت، الطبعة الأولى، 1972م.
§ الديوان في الأدب والنقد: عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازني، دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1417هـ - 1997م.
§ ديوان كعب بن زهير: صنعة أبي سعيد السكري، شرح ودراسة د. مفيد قميحة، دار الشواف لطباعة والنشر، الرياض، 1410هـ - 1989م.
§ الرمز والرمزية في الشعر المعاصر: د. محمد فتوح أحمد، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1984م.
§ شرح ديوان أبي تمام: الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة.
§ شرح ديوان المتنبي: عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407هـ - 1986م.
§ شرح المعلقات السبع: أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، تحقيق لجنة التحقيق في الدار العالمية، بيروت، 1993م.
§ الفن ومذاهبه في الشعر العربي: د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة عشرة.
§ لمحات من أسرار البيان: محمد فريد أبو حديد، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1997م.
§ معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: د. أحمد مطلوب، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 2007م.
§ مفتاح العلوم: أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي، تحقيق أكرم عثمان يوسف، دار الرسالة، بغداد، الطبعة الأولى، 1402هـ - 1982م.
§ يسألونك: عباس محمود العقاد، دار الكتاب العربي، بيرت، الطبعة الثانية.
(الهـوامـش):
(1) الرمز والرمزية في الشعر المعاصر: 202.
(2) السابق: 203.
(3) السابق: 203،40.
(4) السابق: 43،306.
(5) السابق: 423.
(6) السابق: 202.
(7) ديوان صلاح عبد الصبور: 133.
(8) اتجاهات النقد في الأدب العربي الحديث: 288-292.
(9) حصار لمدائح البحر: 221.
(10) الرمز في الشعر العربي الحديث، د. أحمد الزعبي، جريدة الرأي الأردنية: الجمعة 20/7/2001م.
(11) لا توجد علاقة تربط بين «الحمام» و«السلام» إلا ما يروى أن نوحاً - عليه السلام - حين كان في السفينة هو وما معه من المؤمنين والحيوانات، كانت الأرض غارقة في المياه؛ فكان يرسل الحمامة لكي يعرف إن كانت الأرض جفت أم لم تجف، وعندما عادت ومعها غصن زيتون، علم أن مستوى الماء قد هبط وبدأ سطح الأرض في الظهور ففرح، ومنذ ذلك الحين صارت الحمامة وغصن الزيتون شعاراً للسلام.
(12) ديوان بدر شاكر السياب: 229.
(13) أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة: 348.
(14) السابق: 354.
15) الأعمال السياسية الكاملة، نزار قباني: 101.
(16) مفتاح العلوم: 638.
(17) السابق: 647.
(18) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 591-592.
(19) ديوان المتنبي: 2/6.
(20) الإيضاح: 414.
(21) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 93.
(22) سورة إبراهيم: 1.
(23) سورة الشعراء: 16.
(24) الإتقان: 4/1512.
(25) سورة العلق: 17.
(26) الإتقان: 4/1514.
(27) المعلقات السبع: 29.
(28) ديوان كعب بن زهير: 109.
(29) الأعلام، 2/165.
(30) الفن ومذاهبه في الشعر العربي: 239.
(31) السابق: 247.
(32) ديوان أبي تمام: 1/261.
(33) السابق: 1/359.
(34) السابق: 4/81.
(35) سورة الإنسان: 21.
(36) الإيضاح: 82.
(37) بافلوف، أبحاثه في الجهاز العصبي والتعلم والتدريب وظواهر أخرى: 43.
(38) الرمز والرمزية في الشعر المعاصر: 307.
(39) الديوان في الأدب والنقد: 21.
(40) أباطيل وأسمار: 179-180.
(41) الأدب ومذاهبه: 118-119.
(42) يسألونك: 115.
(43) لمحات من أسرار البيان: 32.
(44) أباطيل وأسمار: 343.
(45) مجلة الأدب الإسلامي، العدد 16 لسنة 1418هـ: 88، وبناءً على هذا التأويل فالقوس العذراء رمز مجازي تخصيصي.
(46) جماليات التلقي وإعادة إنتاج الدلالة: 117، وبناءً على هذا التأويل فالقوس العذراء رمز مجازي تشبيهي.
(1) الرمز والرمزية في الشعر المعاصر: 202.
(2) السابق: 203.
(3) السابق: 203،40.
(4) السابق: 43،306.
(5) السابق: 423.
(6) السابق: 202.
(7) ديوان صلاح عبد الصبور: 133.
(8) اتجاهات النقد في الأدب العربي الحديث: 288-292.
(9) حصار لمدائح البحر: 221.
(10) الرمز في الشعر العربي الحديث، د. أحمد الزعبي، جريدة الرأي الأردنية: الجمعة 20/7/2001م.
(11) لا توجد علاقة تربط بين «الحمام» و«السلام» إلا ما يروى أن نوحاً - عليه السلام - حين كان في السفينة هو وما معه من المؤمنين والحيوانات، كانت الأرض غارقة في المياه؛ فكان يرسل الحمامة لكي يعرف إن كانت الأرض جفت أم لم تجف، وعندما عادت ومعها غصن زيتون، علم أن مستوى الماء قد هبط وبدأ سطح الأرض في الظهور ففرح، ومنذ ذلك الحين صارت الحمامة وغصن الزيتون شعاراً للسلام.
(12) ديوان بدر شاكر السياب: 229.
(13) أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة: 348.
(14) السابق: 354.
15) الأعمال السياسية الكاملة، نزار قباني: 101.
(16) مفتاح العلوم: 638.
(17) السابق: 647.
(18) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 591-592.
(19) ديوان المتنبي: 2/6.
(20) الإيضاح: 414.
(21) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 93.
(22) سورة إبراهيم: 1.
(23) سورة الشعراء: 16.
(24) الإتقان: 4/1512.
(25) سورة العلق: 17.
(26) الإتقان: 4/1514.
(27) المعلقات السبع: 29.
(28) ديوان كعب بن زهير: 109.
(29) الأعلام، 2/165.
(30) الفن ومذاهبه في الشعر العربي: 239.
(31) السابق: 247.
(32) ديوان أبي تمام: 1/261.
(33) السابق: 1/359.
(34) السابق: 4/81.
(35) سورة الإنسان: 21.
(36) الإيضاح: 82.
(37) بافلوف، أبحاثه في الجهاز العصبي والتعلم والتدريب وظواهر أخرى: 43.
(38) الرمز والرمزية في الشعر المعاصر: 307.
(39) الديوان في الأدب والنقد: 21.
(40) أباطيل وأسمار: 179-180.
(41) الأدب ومذاهبه: 118-119.
(42) يسألونك: 115.
(43) لمحات من أسرار البيان: 32.
(44) أباطيل وأسمار: 343.
(45) مجلة الأدب الإسلامي، العدد 16 لسنة 1418هـ: 88، وبناءً على هذا التأويل فالقوس العذراء رمز مجازي تخصيصي.
(46) جماليات التلقي وإعادة إنتاج الدلالة: 117، وبناءً على هذا التأويل فالقوس العذراء رمز مجازي تشبيهي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق