مقدمة "الأدب الفلسطيني" في العصر الحديث
مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - وفا - ثقافة - دراسات وتقارير- بقلم: سلمى الخضراء الجيوسي :
تمهيد
التطور الداخلي للفن الشعري
على الرغم من أنني أوليت العوامل الاجتماعية والسياسية بعض الاهتمام في دراستي للشعر العربي الحديث وذلك بوصفها عوامل [خارجية] هامة وراء التغيرات التي طرأت على مفاهيم المبدعين العرب وعلى وعيهم (1) فإن اهتمامي الأول انصب على التطوّر الداخلي للفن الشعري، وهو تطوّر حدّدت معالمه بالدرجة الأولى عناصر من طبيعة فن الشعر نفسه. يستند هذا المنهج على نظرة تقول إن الفن يمل قوانين نموه وتطوّره الخاصة به، وإن العامل الحاسم في تطور الفن هو حاجات الفنّ نفسه ومتطلباته وإمكاناته في لحظة من لحظات تاريخه، مع أن هذه القوانين تتأثّر أيضاً بقوى خارجية اجتماعية وسياسية ونفسية.
عوامل تطور الأدب
ويعتمد تطوّر الأدب على عوامل عديدة تعمل معاً لتؤثر على وجهة تطوّره. غير أن الآراء النقدية تتفاوت في مقدار الأهمية التي تعزوها لهذه المؤثرات. فهناك، أولاً، من يؤكد على الحتمية الاجتماعية بوصفها أساس التغيّر في الفنّ، ويرى أنّ الفن يعتمد على عوامل اجتماعية ( وسياسية) تقرّر اتجاهاته وأغراضه وأساليبه، وكتابات الناقد الفرنسي إيبولت تين Hippolyte Taine معروفة حق المعرفة في هذا المجال، كما هي حال كتابات أتباع ماركس marx وإنجلز (2) من ذوي التوجه الاجتماعي. لكن هناك من مؤرّخي الأدب، أمثال شارل أو غسطين سانت بيف Charles Ausustin Sainte-Beuve. ومن بعده أتباع فرويد Frued، من يعد العوامل النفسية المؤثرة على شخصية المؤلف هي المحدّد في عملية التطوّر الأدبي، غير أن ثمة فريقاً ثالثاً يرى أن الأدب بوصفه شكلاً فنياً لا يتأثر بالعوامل الخارجية وحسب، بل بدينامية خاصة في الفنّ نفسه تدفعه إلى التغيير أو تعيقه عنه. (3) أما العوامل السياسية فكثيراً ما تتدخل، بسبب ما لها من أهمية مباشرة، في العملية الفنية بحيث تحرفها عن وجهتها الطبيعية لصالح التزام ما أو فكر سياسيّ معيّن. غير أن تاريخ الأدب العربي يبيّن أن الفن له طريقته الخاصة في العودة إلى مجراه الطبيعي في مجال التطوّر والنموّ.
هدف الدراسة
هذه هي، بشكل جليّ، حالة الأدب الفلسطيني كما سنرى، والشعر منه بخاصة، وهو أعمق الفنون العربية جذوراً. لكن يبقى هنالك فرق ملحوظ بين الطريقة التي تعامل بها الكاتب الفلسطيني المبدع مع العوامل الخارجية وتفاعل معها، وبين الطريقة التي اتبعها الكتاب الآخرون في العالم العربي، والهدف الأول لهذه المقدّمة لا يقتصر على وصف التطور التاريخي للأنواع الأدبية الفلسطينية الحديثة، فهذا يشكّل جزءاً من تطوّر الأنواع الأدبية العربية عموماً -
وهو موضوع تناولته ضمن سياق عربي عام في كتابات أخرى لي- (4) بل الهدف الأول هو وصف الطريقة التي حقق الأدب الفلسطيني بها خصوصيّته أو التي اختلف بها أحياناً عن غيره من الكتابات الأدبية المعاصرة في العالم العربي.
الأدب الفلسطيني والأدب العربي
وعلى الرغم من أن الأدب الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الأدب العربي الحديث، وأنه ساهم مساهمة كاملة في كل التجارب الثورية التي شهدها الأدب العربي خلال هذا القرن، ومنذ عقد الخمسينات بوجه خاص، فإنه تميّز باختلافات بيّنة في بعض النواحي، خاصة في علاقته بالمكان والزمان، وفي لهجة الخطاب والاتجاهات، وفي انشغاله الخاص بالقضية السياسية السائدة. وقد يمكن القول إن الأدب العربي برمّته مشغول هذه الأيام بالصراع الاجتماعي السياسي الذي يخوضه الشعب العربي، ولكن لا شك في أن السياسة تفرض عبئاً أثقل على الكاتب الفلسطيني، فهي تحدّد عادة أن يعيش هذا الكاتب ويكتب، وتستدعي قدراً أكبر ما يكون ملتزمين بأفكار سياسية معيّنة ومنتمين إلى صفوف المعارضة. فهناك مشكلة الهوية بالنسبة إلى الفلسطينيين أن يقضوا حياتهم إما منفيين في بلاد أخرى، أو مواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل في حالة بقائهم في أرض أجدادهم، أو فاقدين، وذلك قبل تأسيس الدولة الفلسطينية، لصفة المواطنة تماماً عندما كانوا يعيشون تحت الاحتلال العسكريّ الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة. هناك طبعاً كتّاب عرب كثيرون اختاروا أن يعيشوا منفيّين في أرجاء العالم بسبب ظروف القمع الموجودة في العديد من الأقطار العربية، ولكن هناك أعداد أكبر بكثير من هؤلاء ممن يعيشون - على عكس الفلسطينيين- في بلادهم المتمتّعة بالسيادة الكاملة.
تجربة الأدب الفلسطيني
إن التجربة الفلسطينية الحديثة قاسية لا ترحم، ولا تترك ناحية من نواحي الحياة دون التدخّل في أعمق أعماقها، وليس هنالك من فلسطيني يفلت من قبضتها، أو من كاتب يستطيع تفاديها. وهي تجربة لا يمكن نسيانها، كما لا يمكن تجاوز لوعتا. وسواء أكان الفلسطينيون في إسرائيل أم الضفة الغربية وغزة، أم في الشتات، فإنهم ملزمون، بحكم هويتهم الفلسطينية ذاتها، بأن يعيشوا حياة تتحكّم بها أحداث وظروف نابعة من رفضهم للأسر وضياع الوطن، مثلما تتحكّم بها نوايا الآخرين وشكوكهم ومخاوفهم وعدوانهم.
ليس ثمة من مهرب، فالكاتب الذي يفكّر في التوجه توجّها منفصلاً عن السياسة كاتب يتنكّر للواقع والتجربة، والانغماس في تجربة الحياة اليومية العادية معناه خيانة حياة الفرد ذاته وخيانة شعبه. هذا يعني أن الكتّاب الفلسطينيين ليس لدينهم مجال للهروب، لأن أحداث التاريخ المعاصر تجرفهم في تيارها حتى قبل أو يولدوا. وهم محرومون من نعمة اختيار ما أحبوا من ماضيهم، ومن انتقاء ذكرياتهم، ومن إعادة ترتيب العلاقات التي تتجاوز الأحداث والظروف الخارجية. لقد أضحوا منفيين دائماً: أضحوا ذلك النمط من الغرباء الأبديين، الذين يكافحون ضدّ عقبات من كل نوع وحجم. ولكن أعظم نضال خاضهُ الكتّاب الفلسطينيون وأعظم انتصار حقّقوه، هو رفضهم أن يكونوا ضحايا الإنسانية الخانعين في النصف الثاني من القرن العشرين. ومع أنهم لم يتوقّفوا أبداً عن الإحساس بالمعضلة التي يحياها شعبهم، فإنهم يبدون من قوة التحمّل ما يعلو على المأساة ويتجاوز الضرورة. وهذا ما لوّن الأدب الفلسطيني المعاصر وحدّد وجهته ولهجته.
قد يميل النقّاد ومؤرخو الأدب إلى أن يتوقعوا الرتابة والتقليد في هذا الأدب إن لم يدرسوه، وقد يتساءل المرء عن المدى المتاح لكتاب ارتبطوا بالوضع الفلسطيني ما دام هذا الوضع قد حدّد لهم مسار حياتهم الأساسي كله وأخضع هذا المسار لضروراته الخاصة، ولذا فإنه لممّا يبعث الدهشة والسرور معاً أن يكتشف الدارس أن الشعراء وكتّاب القصة والنثر الأدبي من الفلسطينيين (5) كانوا، حتى ضمن هذه الحدود الضّيقة، مبدعين إلى حدّ بعيد، وأنهم برزوا في مقدمة الكتّاب العرب، ولم يكتفوا بالمشاركة في التجارب الطليعة الناشطة المتعددة التي لا تنقطع، بل كثيراً ما قادوا الطريق نحو التجديد والتغيير.
الموضوعات والأدب الفلسطيني
كذلك يجب ألاّ يغيب عن بالنا أن هناك – رغم هذه الحدود المفروضة على الكتّاب الفلسطينيين من حيث الموضوعات – مادة غنيّة للأدب في الوضع الراهن للأزمة الفلسطينية.
فالنكبة الفلسطينية تحمل في طيّاتها مواقف كثيرة يمكن أن تتحول إلى رؤية مأساوية من ناحية، ورؤية بطولية من ناحية أخرى لمواقف المقاومة والأمل والإيمان بانتصار العدالة في النهاية. وما أكثر المواقف التي هي من هذا النوع، والتي تصلح للتناول الأدبي: الموت المجاني للضحايا والأبرياء؛ الموت الذي يسعى إليه الأبطال وهم في ريعان الشباب؛ المحاولات الدؤوب التي يصيبها الفشل؛ الاقتلاع الذي لا ينتهي من الجذور؛ المذلة التي يعانيها المهجّرون الفلسطينيون بتزايد مستمر في بقية أنحاء العالم العربي؛ ووضعهم المزري بوصفهم شعباً لا وطن له؛ وهناك في الضفة الغربية وقطاع غزة، اللذين كانت تسيطر عليها إسرائيل، الاعتقالات الضخمة التي مارسها العدو، وعمليات الإبعاد، ونسف المنازل، وإغلاق المؤسسات التعليمية، ومصادرة المياه والأراضي العربية، التي تشجّع الحكومة الإسرائيلية المستوطنين الصهاينة المتطرّفين على بناء المدن والمستوطنات فيها متحدّية بذلك قرارات الأمم المتحدة؛ وهناك الصراع العاطفي الذي يعاني منه عمّال الضفة الغربية وغزة وهم يستخدمون بأجور زهيدة لبناء إسرائيل ذاتها (6) وهناك الاغتراب المادي والمعنوي الذي لحق بالروح الفلسطينية في كل مكان.
غير أن هذه الروح تمرّدت على محنتها من خلال الانتفاضة، وهي الثورة غير المسلّحة التي قام بها آلاف الأطفال والشباب الفلسطينيين الذي صمّموا على النضال من أجل الحرية، مواصلين بذلك ما يقرب من قرن الصراع والمقاومة اللذين خاضهما الفلسطينيون ضد الاستعمار المنظّم، وقد حوّلت ثورة الحجارة التي بدأت في كانون الأول سنة 1987 واستمرت لسنوات، ما هو مأساوي إلى ما هو بطولي، وسعت إلى تأكيد كرامتها في العالم، فغيّرت بذلك نظرة الآخرين إلى القضية الفلسطينية، وظهرت لغة جديدة يتحدّث بها الناس للمرّة الأولى بدت معها المزايدات السلبية عديمة الحول والقُوّة تماماً، وتبيّن للملايين في العالم أجمع أنهم هنا إزاء شعب يرفض الذلّ والهوان. ذلك أن الانتفاضة، التي سرعان ما باركها الفلسطينيون في المنفى سواء انتموا إلى منظمة التحرير الفلسطينية أم لم ينتموا، كانت ثورة عفوية انبثقت من قلب المأساة نفسها ومن ضمير الشعب الحي – كانت ثورة مسّت شغاف القلوب، وامتلأت بالقدرة على التضحية بالنفس، وخاطبت أعماق الضمير، حتّى كادت تكون شاعرية.
إن هذه المقدمة لن تتوسّع في التاريخ السياسي الحديث لفلسطين، فقد أثبتّ سرداً للمعالم الرئيسة للأحداث التي حدّدت وجه الأدب الفلسطيني خلال هذا القرن، في بداية هذا الكتاب. والقارئ الذي يريد المزيد من التفاصيل يمكنه الرجوع إلى المراجع المتخصصة بتاريخ القضية الفلسطينية وأبعادها. وستقدّم الهوامش المُدرجة، في متن هذه المجموعة شرحاً للأحداث التي تشير إلى المختارات كلما دعت الحاجة.
مجابهة الأدب الفلسطيني
عندما نتحدّث عن الأدب الفلسطيني المعاصر، فإننا، في واقع الحال، نُجابه بأدبين: أحدهما أنتجه كتّاب يعيشون على أرض فلسطين التاريخية (7)، والثاني أنتجه كتّاب يعيشون في الشتات. ففي سنة 1948، انشطرت الثقافة الفلسطينية ذات الجذور الراسخة، وظلّت الصلات المباشرة. بين الكتّاب العرب الذين يكتبون في (إسرائيل) والكتّاب الذين يكتبون في المنفى. شبه معدومة لما يقرب من عشرين سنة. واختلفت الحياة، تحت الاحتلال الأجنبي في (إسرائيل). اختلافاً كبيراً في بعض النواحي عنها في الأردن (الذي ضم الضفة الغربية وكانت تعيش فيه أغلبية فلسطينية) أو في الشتات في بقية البلاد العربية، حيث كانت تعيش أعداد كبيرة من الفلسطينيين المنفيين بصفة لاجئين. وقد كان معظم الدول العربية يعمد إلى وسائل القمع في معاملة الفلسطينيين رغم انشغال تلك الدول سياسياً وعاطفياً بالقضية الفلسطينية، وهو وضع خلق مشكلات كثيرة للفلسطينيين لم يسبق لها مثيل. لكن جناحي الثقافة الفلسطينية في أرض فلسطين نفسها عادا إلى الاتحاد بعد أن فتحت الحدود بين إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة بعد حرب سنة 1967، وتفهّم كلّ منهما تجربة الآخر تفهّماً كاملاً، وتمثّلها كما لو كانت تجربته الخاصة.
الاختلافات الثقافية
لكن بقيت هناك بعض الاختلافات الثقافية، فالكتّاب العرب في (إسرائيل)، الذين ترعرعوا في ظل ثقافة غربية عن ثقافتهم وتعلّم أغلبهم اللغة العبرية لغة ثانية له، نشأت لديهم وجهة نظر ربما أثّرت على كتاباتهم (8) كذلك ينبغي أن نلاحظ أن عدداً كبيراً من الأعمال الإبداعية العربية، والقصة منها بشكل خاص، قد ترجم إلى اللغة العبرية، وذلك بالرغم من الإجراءات القمعية التي كثيراً ما فرضتها إسرائيل على الكتّاب الفلسطينيين، مثل ثمة انقطاع فعلي في التفاعل الأدبي بين الثقافتين: الثقافة العربية المتجذّرة في اللغة والتقاليد الموروثة، منذ أقدم الأزمنة، والثقافة الأخرى، التي تسعى بلغتا المجدّدة وبتجربتها الحديثة، (وهي تجربة تحقيق الذات التي ظلّ اليهود يطمحون إليها طوال قرون) إلى إيجاد معنى (بل إلى إيجاد تبرير في كثير من الأحيان) لهذه التجربة الجديدة المتمثّلة بسيادة قائمة على الفلسطينيون في الشتات اتصالاً مباشراً بالتجارب الأدبية الجذرية التي هيمنت على الأدب العربي منذ الخمسينات، وساهموا فيها مساهمة كاملة ومباشرة في فترة من أغنى فترات الأدب العربي، وما أن انتشروا في هذا العالم حتى أخذوا يتميّزون ويكتشفون إمكاناتهم الأدبية الكاملة، كما أخذ الشعراء الفلسطينيون المنفيّون يحتلّون مكان الصدارة بين الشعراء الطليعيين في العالم العربي.
غير أن الأدب الفلسطيني لم يتميّز تاريخياً بأيّ من هذه الصفات الطليعيّة، وقد وصف كاتب حديث وضع هذا الأدب في أوائل القرن العشرين قائلاً: حتى مطلع القرن العشرين كان الشعر مقصوراً على الإخوانيات والمديح المفتعل والمناسبات الاجتماعية الخاصة، وكانت تتكرّر فيه المعاني المتوارثة، والتشبيهات والاستعارات المستسهلة، وتنعدم فيه الهموم الإنسانية، ويصدر عن فراغ نفسي وفكري. (9)
ينطبق هذا الوصف على جانب كبير من الشعر العربي قبل النهضة الأدبية العربية الحديثة، التي بدأت في القرن التاسع عشر ثم نضجت في بعض مناطق من العالم العربي قبل تطورها في مناطق أخرى. (11) غير أن السببين اللذين أوردهما الرشدان لهذا الجدب – وهما أن فلسطين بلد مقدّس وأنها تخلو من المناظر الطبيعية الجميلة – لا أساس لهما من الصحة. فليس هناك ما يجعل قداسة المكان حائلاً دون الإبداع، فالإبداع الذي لا ينقطع في مدينة النجف العراقية، أقدس المراكز الشيعية في العالم، دليل على ذلك. أما الجمال الطبيعي فالواقع يخالف قول الرشدان. إذ إن فلسطين غنية بالجمال الطبيعي في بحرها وجبالها وبحيرتها، ولكن حتى لو كانت دعوى الكاتب الصحيحة فإن بعضاً من أروع الشعر العربي قد ولد ونضج في بيئة صحراوية خالصة. لكن ربما كان السبب هو أن فلسطين ظلّت منقطعة عن التيارات الثقافية الرئيسة التي كانت تنساب ما بين مصر ولبنان، وما بين لبنان والعراق ..... ولم تكن القدس في يوم من الأيام مركزاً لأي سلطة سياسية مركزية، خلافاً لغيرها من العواصم العربية، ولم يكن فيها أمراء أو رعاة للفنون يساندون الشعراء والكتّاب ويشجعونهم. (12) غير أن ثمة ظاهرة ثابتة جديرة بالملاحظة في تطوّر الأدب الفلسطيني الحديث، وهي أن معظم أصحاب المواهب من الفلسطينيين الذين اشتهروا، قبل عام 1948، عاشوا ودرسوا خارج فلسطين، فكل ما كانت تحتاجه قوة الإبداع الفلسطينية فيما يبدو هو الاتصال المباشر بالحياة الأدبية المزدهرة التي لم تكن قائمة في تلك الأيام إلاّ خارج حدودها. (13)
ثنائية الداخل والمنفى
وقد يفسّر هذا أيضاً ذلك التفاوت الراهن بين الأدب الفلسطيني الذي ما يزال يكتب داخل فلسطين، وذلك الذي يكتب في المنفى. ومما لا شك فيه، أن جزءاً غير قليل من الكتابة داخل إسرائيل وفي الضفة الغربية المحتلّة وقطاع غزة المحتلّة وقطاع غزّة يتّصف بالقوة والإبداع: إذ اشتهر العديد من الكتّاب الموهوبين هناك واكتسب بعضهم بجدارة، مثل إميل حبيبي، شهرة عالمية لما في أعمالهم من أصالة وقيمة جمالية عالية. (14) لكن كفّة ميزان الأدب الفلسطيني، الذي كُتب في المنفى ما تزال راجحة بشكل بيّن، وهذا يصح على الشعر والنثر معاً، (15) رغم أن التجارب الكثيرة في حقل المسرح داخل فلسطين تنقذ الوضع إلى حدّ ما.
الأدب الفلسطيني قبل سنة 1948
الشعر
إسعاف النشاشيبي
على الرغم من أن المؤلفين الذين اشتهروا في فلسطين قبل سنة 1948، كان أكثرهم من الشعراء، فإن عددا من كتّاب النثر المتميّزين نالوا حظّاً من الشهرة أيضاً، منهم بعض كتّاب المقالات المهيمن كإسعاف النشاشيبي (1880 – 1947) وبعض أوائل كتّاب القصة. وقد كان النشاشيبي صاحب أسلوب أدبي كلاسيكي المنحى، وكان ذواقة للأدب يفضّل شوقي (1889 – 1932) على كل معاصريه من الشعراء. أما محاولاته في نظم الشعر فكانت ضعيفة، ولكن تأثيره كان كبيراً على مواطنيه في فلسطين بسبب اهتمامه الشديد بالأدب العربي، بما في ذلك الشعر. كذلك حاز على شهرة محليّة وعربية بصفته خطيباً مفوّهاً وكاتباً لطراز رفيع من النثر. أما كتّاب القصة الأوائل فسيأتي ذكرهم في قسم مستقلّ.
وقد وجد الشعراء الفلسطينيون (بعد سنة 1948) أنهم لم يكونوا ورثةً لتاريخ شعري عربي طويل وحسب، بل وجدوا أنفسهم كذلك ورثةً لوضع سياسي جديد ومعقّد شعروا أنه لا فكاك لهم منه. وقد مال الشعر، قبل عقد الخمسينات، إلى الاستجابة العفوية للأحداث، فخضع لمتطلّبات المعنى في القصيدة، واكتفى بالتعبير عن الرسالة الخاصة التي بدا أنها هي الأهم ولها الأولوية المطلقة.
إبراهيم طوقان
كان في طليعة الشعراء الأوائل إبراهيم طوقان (1905 – 1941)، الذي عبّر تعبيراً مؤثراً، بلغة ناريّة محكمة، عن أعمق مشاعر الفلسطينيين في كل مكان، فكسب بذلك شهرة عظيمة في العشرينات والثلاثينات. وقد تفتّحت موهبته خلال سني دراسته في الجامعة الأمريكية ببيروت حيث التقى بغيره من الشعراء العرب وشارك في الحياة الأدبية النشطة في الجامعة، ثم عاد إلى فلسطين تملؤه الثقة بدوره شاعراً، وتحدوه روح المسؤولية لتوعية أبناء وطنه بمشكلتهم. غير أن التزام طوقان السياسي لم يكبت فيه نوازعه الأخرى، خاصة ميله إلى المداعبة والتصور الفكه للتجربة. وقد كتب على هذا المنوال بعض المقطوعات الشعرية الخفيفة الممتعة، التي ما يزال أبناء وطنه يحفظونها عن ظهر قلب مثلما يحفظون شعره السياسي.
وكان طوقان يمزج الهجاء السياسي بالسخرية اللاذعة كلما سمح المقام. هذه الموهبة النادرة، التي تمتزج فيها المأساة بالكوميديا وتلتحم النظرة الساخرة فيها بالالتزام العميق بالقضية التي يتناولها العمل الأدبي، لم تتكرر في الأدب الفلسطيني على أي مستوى ذي بال إلاّ في الأعمال القصصية التي كتبها إميل حبيبي، الذي يمتلك ناصية الكوميديا المأساوية.
بعد طوقان: محمود درويش وآخرون
ولم يُبدِ أيّ الشعراء الفلسطينيين الآخرين الذين ظهروا بعد طوقان – وقد يكون بعضهم أفضل منه – أي اهتمام بالفكاهة أو السخرية، بل ساد كتابتهم عادة جوٌّ جاد مأساوي أو بطولي. وليس هنالك، حتى بين الشعراء الفلسطينيين الأصغر سنّاً ممن ظهروا في الثمانينات أو التسعينات وتمكّنوا – كما سنبيّن بعد قليل – من التعبير عن تجاربهم تعبيراً وجدانياً فارهاً: ليس هنالك من بينهم من يمتلك لهجة مثل طوقان ذات الطبقات المتعددة. ورغم كل ما يتمتع به محمود درويش (المولود سنة 1942) من مواهب نادرة، فإنه وقع أسيراً لقضية شعبه التي التزم بها، ووقع كذلك – الصرامة نفسها – أسيراً للصورة التي اصطنعها لنفسه، ألاّ وهي صورة الشاعر الناطق باسم ذلك الشعب على حساب أغلب التجارب الإنسانية الأخرى. (16) على أن الشعراء العرب الحديثيين (وكتّاب القصة العربية الحديثيين أيضاً) في البلاد العربية كلها، حتى أولئك الذين لم يعانوا ويلات التجربة الفلسطينية الحديثة وهزّاتها معاناة شخصية، مالوا بشكل لا استثناء له تقريباً إلى استخدام اللهجة الجادة، سواء أكتبوا كتابة رومانسية أو واقعية أو رمزية أو سريالية.
لم تدخل أمور مثل الاستجابة الكوميدية للتجربة، والمحاكاة الساخرة، والمعنى المزدوج وأسلوب البيطار سك ( وهي قصة أو رواية تتحدّث عن مغامرات محتال ظريف)، والسخرية والتهكم [إلى الأدب العربي الحديث] بسهولة، ولم يستفد هذا الأدب من التراث الغنيّ بهذه العناصر في الأدبين العربي القديم والغربي إلاّ نادراً... [من الممكن] أنه كان ثمة عائق منع معظم الكتّاب من تفهّم الروح الكوميدية في الأدب في غمرة سعيهم لتصوير التجربة الإنسانية في وقت كان يشهد تغيرات سياسية واجتماعية عظيمة. (17)
وقد اشتهر عدة شعراء آخرين قبل نكبة سنة 1948 (18)،وكانوا كلّهم، باستثناء مطلق عبد الخالق (1910 – 1937) وفدوى طوقان (المولودة سنة 1917) في أول عهدها، شعراء وقفوا شعرهم على المواضع السياسية، وجعلوا من أنفسهم متحدّثين باسم بلادهم ومحنتها.
مطلق عبد الخالق
كان عبد الخالق نسيج وحده في زمنه، حيث كان الشاعر الرومانسي الوحيد في فلسطين قبل ظهور فدوى طوقان، وقد تأثّر تأثّراً عميقاً بشعراء المهجر في أمريكا الشمالية، فاختلف عن بقية شعراء بلاده بنظرته المتشائمة الخاصة للحياة، وكتب شعراً مليئاً بالكآبة والرغبة في الفناء:
أوثرُ الموت أُرثرةً لا تُجارى
وأرى في الحياة داءً وبيلا
أطلبُ الموتَ وهو ينفرُ منّي
يا لتعسي، هل أطلب المستحيلا!
وفي قصيدة أخرى يصف الموت بأنه غادته الغيداء. وتبلغ نظرته التشاؤمية ذروتها في قوله، بني الناس دنياكم جيفة، وليس على أرضكم ما يسرّ ويصور في شعره، الذي جمع بعد وفاته في ديوان (الرحيل، 1938)، أعماقاً روحية وفلسفية لم يبلغها الشعر الفلسطيني قبله... ويبدي إدراكاً مرهفاً وفهماً عميقاً لمشكلة الوجود. (19) خذ على سبيل المثال هذه الأبيات:
نحبّ ونكرهُ في لحظـةٍ
ونشقى ونسعد في ثانية
ونرتابُ في الأمر حتى اليقين
ونوقن في الريبة الطاميـة
وأبصارنا لا ترى في الضياء
وتُبصرُ في الحُلكة الداجية
عبد الخالق والشعراء الفلسطيني
كان عبد الخالق شاعراً موهوباً من غير شك، ولو لم تختطفه يد المنون لأضاف شيئاً من الأصالة والجدّة إلى الشعر الفلسطيني. غير أن الشعراء الآخرين لم يتأثّروا بشعره وذلك لقلّته من جهة ولغلبة الطابع السياسي على الشعر الفلسطيني، في ذلك الحين، من جهة أخرى، فمضوا يكتبون ضمن تراث الواقعية الذي استنّه إبراهيم طوقان، ولكن دون موهبة طوقان الخاصة. وكان الشعراء الفلسطينيون يكتبون بعضاً من أبيات الشعر العربي التزاماً بالقضايا السياسية، وذلك قبل احتدام الدعوة, في العالم العربي، للالتزام السياسي في الأدب خلال عقد الخمسينات. (20)
عبد الرحيم محمود وأبو سلمى
ويستحقّ اثنان من هؤلاء الشعراء أن يشار إليهما هنا بشكل خاص، وهما عبد الرحيم محمود (1913 –1948) وأبو سلمى (عبد الكريم الكرمي: 1911 – 1984). تقوم شهرة عبد الرحيم محمود على مشاركته الفعلية في الحياة السياسية، فقد كانت قصائده البليغة المشحونة بالعاطفة تتنبأ، منذ أواخر الثلاثينات، بمصير الفلسطينيين. أما الشجاعة والتضحية بالنفس دفاعاً عن الشرف والوطن، وهما صفتان عبّر عنهما هذا الشاعر في شعره كذلك، فقد كانتا صفتين ملازمتين له، وجاءت ذروة التعبير عنهما في استشهاده في ساحة المعركة عام 1948 (21)، وقد تخلّد اسم عبد الرحيم محمود بوصفه الشاعر – الشهيد في هذه القصائد البليغة اللاهبة التي تعبّر عن الإيمان بالوطن والتفاني في سبيله.وتكمن هذه المشاركة في الحياة السياسية وراء شهرة أبي سلمى كذلك، فقد بدأ الكتابة في الثلاثينات متغنّياً بشجاعة الفلسطينيين ومقاومتهم، مؤكداً على وحدة الفلسطينيين العرب حيث يعانق الصليب الهلالا لأن المسيحيين والمسلمين كانوا يقفون الموقف نفسه. وقد عاش أبو سلمي بعد سنة 1948 منفياً في دمشق يعبّر عن آلام الفلسطينيين وآمالهم في كل أنحاء العالم، وتعاظمت شهرته مع مرّ السنين.
لم يكن أيّ من أبي سلمي أو عبد الرحيم محمود شاعراً كبيراً، ولكن الموضوع السياسي الغالب في أشعارهما ضمن لهما مكانتهما الخاصة، فالسياسة تطغى في أشعارهما على كل ما عداها، ولكن انشغالهما بها كان من قبيل الانشغال المعروف والمقبول والمرغوب، ولا يظهر في شعرهما ميل للسيّر بعكس التيّار كما نجد في شعر عبد الخالق. وقد ظلّت هذه المشكلة كبيرة من مشكلات الأدب الفلسطيني، حتّى ما كان من إنتاج مواهب أكثر تميّزاً، فقد ندر أن غامر هذا الأدب – مع استثناءات نادرة مثل شعر توفيق صايغ (1924 – 1971) – قبل نهاية السبعينات، بتجاوز توقعات القرّاء والمستمعين والخروج عن المألوف والمعروف في الموضوع واللهجة والرؤية. ولم يستطع الشعراء الفلسطينيون، في تلك الفترة المبكّرة، أن يكتشفوا طرقاً لكتابة شعر طليعي راق يشبع الحاجات الروحية لقرائه ومستمعيه، ويحافظ في الوقت نفسه على الالتزام بالموقف السياسي الإيجابي. (22) غير أن المشكلة ظلّت فيما يبدو محصورة في الشعر، إذ نجد أن الفن القصصي الفلسطيني كان كذلك شديد الالتزام بالسياسة، عندما أخذ بالازدهار في الستينات وما بعدها، ولكنه أبدى قدراً أكبر من الحرّية والمرونة. وحيث أن الفن القصصي، الذي كان فنّاً جديداً نسبياً، لم يكن عميق الجذور في التراث الأدبي فإن جمهوره لم يكن يشعر بارتباط عاطفي به. أما الشعر فقد كان فنّاً تفاعل معه الجمهور تفاعلاً عفوياً مباشراً، وكان جمهوره منذ البداية جمهوراً عريضاً يضمّ نخبة المثقّفين وعامة الناس معاً. وكان الشعر توّاقاً إلى التعبير الجرئ عن الرفض المرير والتطلّع الواثق.
لم يكن أيّ من أبي سلمي أو عبد الرحيم محمود شاعراً كبيراً، ولكن الموضوع السياسي الغالب في أشعارهما ضمن لهما مكانتهما الخاصة، فالسياسة تطغى في أشعارهما على كل ما عداها، ولكن انشغالهما بها كان من قبيل الانشغال المعروف والمقبول والمرغوب، ولا يظهر في شعرهما ميل للسيّر بعكس التيّار كما نجد في شعر عبد الخالق. وقد ظلّت هذه المشكلة كبيرة من مشكلات الأدب الفلسطيني، حتّى ما كان من إنتاج مواهب أكثر تميّزاً، فقد ندر أن غامر هذا الأدب – مع استثناءات نادرة مثل شعر توفيق صايغ (1924 – 1971) – قبل نهاية السبعينات، بتجاوز توقعات القرّاء والمستمعين والخروج عن المألوف والمعروف في الموضوع واللهجة والرؤية. ولم يستطع الشعراء الفلسطينيون، في تلك الفترة المبكّرة، أن يكتشفوا طرقاً لكتابة شعر طليعي راق يشبع الحاجات الروحية لقرائه ومستمعيه، ويحافظ في الوقت نفسه على الالتزام بالموقف السياسي الإيجابي. (22) غير أن المشكلة ظلّت فيما يبدو محصورة في الشعر، إذ نجد أن الفن القصصي الفلسطيني كان كذلك شديد الالتزام بالسياسة، عندما أخذ بالازدهار في الستينات وما بعدها، ولكنه أبدى قدراً أكبر من الحرّية والمرونة. وحيث أن الفن القصصي، الذي كان فنّاً جديداً نسبياً، لم يكن عميق الجذور في التراث الأدبي فإن جمهوره لم يكن يشعر بارتباط عاطفي به. أما الشعر فقد كان فنّاً تفاعل معه الجمهور تفاعلاً عفوياً مباشراً، وكان جمهوره منذ البداية جمهوراً عريضاً يضمّ نخبة المثقّفين وعامة الناس معاً. وكان الشعر توّاقاً إلى التعبير الجرئ عن الرفض المرير والتطلّع الواثق.
شعراء قبل عقد الخمسينات
لم يستطع أيّ شاعر سياسي قبل عقد الخمسينات – باستثناء إبراهيم طوقان – أن يقدّم شيئاً فيه ما يكفي من الجدّة بحيث يخلق نهجاً جديداً. أما أبو سلمى نفسه، وهو شاعر ظلّ يكتب حتّى أواخر عقد السبعينات كما ظلّ محتفظاً بشعبيته، فإنه لم يُضف شيئاً يذكر إلى فنّية الشعر الفلسطيني وقيمته الجمالية بعد عقد الخمسينات. (23)
فدوى طوقان
وعندما ظهرت فدوى طوقان في الأربعينات صدمت الوعي الشعري المعاصر في فلسطين بما بدا في شعرها من موقف انطوائي، لكنها كانت في الواقع تخوض حرباً شخصية عنيفة ضد التراث الاجتماعي من خلال الشكوى الأنثوية في البداية، ثم من خلال الاحتجاج بعد ازدياد حدة وعيها بمرور السنين، وأخيراً بتوكيد الذات وهو ما يُعدّ أعظم انتصار لها. (24)
ولم تستطع فدوى طوقان أن تشارك بحريّة في صراع شعبها ضد العدوّ الخارجي إلاّ بعد أن كسبت حربها ضد مكانتها المنقوصة بصفتها امرأة، وقد تناولت هذه المسألة في سيرتها الذاتية وهي تستذكر طلب أبيها منها في الأربعينات أن تكتب شعراً سياسياً إذ تقول: كيف وبأي حق أو منطق يطلب مني والدي نظم الشعر السياسي وأنا حبيسة الجدران، لا أحضر مجالس الرجال ولا أسمع النقاشات الحادّة ولا أشارك في معمعة الحياة. حتى وطني لم أكن قد تعرّفت على وجهه بعد، فقد كان السفر محرّماً عليّ. (25)
وكان من شأن تحقيقها لحريتها الشخصية أن توفّر لها المجال لمزيد من الانشغال الجماعي في الحياة السياسية يوم كانت بلادها تقع في نكبة تلو أخرى.
الفن القصصي
الأدب القصصي والرواية والمرحلة التجريبية
ربما كان لزاماً علينا، قبل الانتقال إلى الحديث عن شعر فدوى طوقان المتأخّر وغيره من الشعر الفلسطيني الذي كتب بعد سنة 1948، أن نتناول الفن القصصي الفلسطيني قبل هذا التاريخ. كان هذا الفن بشكليه الحديثين (القصة القصيرة والرواية) ما يزال في مراحله التجريبية، في النصف الأول من القرن العشرين. والأدب عملية تراكمية، كما أنه نتاج مؤلّفين ناشئين يستجيبون للمؤثرات الخارجية أو لرغبتهم الكامنة في التطوّر. أما الفن القصصي العربي، فقد كان يفتقر إلى التجربة التراكمية، وإلى الشجاعة، وإلى متابعة التجريب في هذا الشكل الجديد الذي كان ما يزال غير واثق الخطى – وهذا وضعٌ تزداد صعوبته عندما تواجه الكتّاب ضرورة سياسية عاجلة، إذ يميلون، في ظروف كهذه، إلى تلك الفترة المبكّرة، يكافح لتثبيت أقدامه، وكان وضعه انعكاساً لضعفه في معظم أقطار العربية، حيث لم يُفلح الكتّاب بعد في إرساء المعايير والأشكال لهذا النوع الفني الجديد، كما لم يتمكّن المؤلفون الطامحون من ترجمة وقائع الحياة العربية المعاصرة إلى فنّ قصصي له قيمة جمالية حقيقية. لا مراء في أن ثمة تراثاً قصصياً عريقاً في اللغة العربية جرى تداوله عبر القرون شفاهاً وكتابة. وعندما نذكر قصص الحب والمغامرة التي ازدهرت في العصر الأموي بشكل خاص، (26) وقصص كليلة ودمنة ذات الصبغة الأليغورية، (27) وألف ليلة وليلة، والمقامات العباسية، (28) والقصة الترميزية الفلسفية التي تمثّلها قصة حي بن يقظان، (29) وفن النوادر، والقصص الشعبية البطولية الكثيرة، وآلاف الحكايات الشعبية التي حفظتها ذاكرة الناس العاديّين – والنساء بخاصة، فإن بوسعنا أن نرى الأدب العربيّ غنيّ جداً في هذا المجال. لكن هذه الأنواع من الفنّ القصصي تختلف عن فن القصة القصيرة وفن الرواية الحديثين، وهما فنّان من نتاج المجتمع البرجوازي من ناحية ومن نتاج تراث تأسس بعد اختراع الطباعة من ناحية أخرى. فالطريقة، التي يترجم بها هذان الفنّان عناصر الحياة إلى عناصر قصصية، تتطلّب طريقة مختلفة في القصّ.
الفن القصصي والأمثلة الحديثة
يبدو أن الفن القصصي الفلسطيني في القرن العشرين استوحى، في مراحله المبكّرة، القصة الغربية المترجمة إلى اللغة العربية بالمقام الأول، وكانت هذه حالة في البلدان العربية بأسرها، حيث أخذت أولى قواعد هذا الفن مباشرة من الأمثلة الحديثة الأولى لفنّي القصة القصيرة والرواية في الأدب الغربي الحديث. ولم يبدأ باستلهام أنواع القصص التي يزخر بها الأدب العربي إلاّ بعد ذلك، أي حوالي منتصف القرن.
خليل بيدس وأحمد شاكر الكرمي وجميل البحري
جاء أوّل الجهود المركّزة لشدّ انتباه الكتاب الفلسطينيين من ذوي الطموح الأدبي إلى الفنّ القصصي وإلى قدرته على تلبية حاجات جمهور القرّاء المتنامي، من جانب كتّاب مثل خليل بيدس (19875 – 1949) وأحمد شاكر الكرمي (1894- 1927) وجميل البحري (الذي توفى في ريعان الشباب سنة 1930). وبرم تأثيرهم بطرق متعددة: أولاً: أسّس كلّ منهم مجلّة أدبية خاصة به وأشرف على تحريرها بنفسه، وغدت تلك المجلات منابر مبكّرة لنشر القصص التي كان أغلبها مترجماً عن اللغات الأوربية. (30) ثانيا: عمل ثلاثتهم في مجال الترجمة الأدبية الهام: إذ ترجم بيدس، الذي درس في المدرسة الأرثوذكسية الروسية في الناصرة، مباشرة عن الأدب الروسي أو عن ترجمات روسيّة لكتّاب أوربيين آخرين مثل ماري كوريلّي وفكتور هوغو. وكان الكرمي يجيد الإنجليزية، فترجم أعمالاً لأوسكار وايلد ومارك توين، كما ترجم عن ترجمات إنجليزية لأعمال كتّاب أوربيين مثل جي دوموباسان، وبريناردان دي سان بيير، وتولستوي، وتشيخوف. أما البحري فقد حوّل العديد من النصوص القصصية إلى نصوص مسرحية، (31) وكان مولعاً بشكل خاص بترجمة القصص البوليسية. ثالثاً: كتب هؤلاء الكتّاب في النظرية، فأكدوا على أهمية الفن القصصي لمجتمعهم الفلسطيني المعاصر. كان بيدس يرى أن القصة ركن من أهم أركان الحضارة وأسهلها انتشاراً وأقدرها على التأثير على قلوب الناس وأرواحهم وعلى أخلاقهم وعاداتهم. (32)
وعلى كاتب القصة في رأيه أن يكتب للعامة وليس للخاصة، ولذا فإن عليه أن يختلط بعامة الناس ويتعرّف على حياتهم ومشاكلهم، فالكاتب في نظره نبيّ ما لا يراه الآخرون.
وعلى كاتب القصة في رأيه أن يكتب للعامة وليس للخاصة، ولذا فإن عليه أن يختلط بعامة الناس ويتعرّف على حياتهم ومشاكلهم، فالكاتب في نظره نبيّ ما لا يراه الآخرون.
والكاتب الحقيقي هو ذلك الذي يعيش للفنّ ويكتب للفنّ. (33) والعمل القصصي الكامل هو ذلك الذي يطمح لأهداف عليا فيُعلي من شأن الفضيلة ويذمّ الرذيلة سعياً للارتقاء بشخصية القارئ وتنوير عقله. يقول بيدس، لا شك في أن قيمة القصة تكمن بما فيها من منفعة وبما ترمي إليه من مغزة. (34) كذلك فإن أحمد شاكر الكرمي يرى أن على الفن القصصي أن يسعى للفائدة الأخلاقية ولتقديم نقد بنّاء للمظاهر البالية في المجتمع الفلسطيني في أيامه. (35) نجد هذا الموقف الأخلاقي كذلك عند جميل البحري الذي لم يتوان عن تحرير النصوص التي عمل على مسرحتها، مستبعداً ما كان يحسبه عديم الفائدة من المشاهد الغرامية التي لا تناسب أعين الشباب وأسماعهم في رأيه. (36)
يعزي لخليل بيدس فضل كتابة أوّل رواية فلسطينية معروفة هي رواية الوريث التي ظهرت في القدس سنة 1920، وقد كتب بيدس أيضاً قصصاً قصيرة ونشر أوّل مجموعة منها بعنوان (آفاق الفكر)، في القاهرة سنة 1924 (مع المقدّمة التي اقتبسنا منها أعلاه). (37)
ويعدّ خليل بيدس بحقّ أبا القصة الفلسطينية بسبب تعدّد أوجه نشاطه في الترويج لها. تصوّر رواية الوريث حياة شاب من عائلة سورية تشتغل بالتجارة هاجرت إلى مصر. وهناك يقع الشاب في حبّ راقصة يهودية تصوّرها الرواية على أنها مصّاصة دماء، ويساعدها في ابتزاز الأموال من الشاب نفرٌ من بني جلدتها، فيقع في حبائلهم ويغرق في ديون طائلة، ولا ينقذه من المرض والإفلاس إلاّ عودته إلى العمل وإلى كنف العائلة والحياة الطبيعية. لكن الرواية لا تتناول الخطر الحقيقي الذي كان يتهدّد المجتمع الفلسطيني في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين – أي مباشرة بعد أن كُشف عن وعد بلفور وبدأت الهجرة اليهوديّة المنظّمة إلى فلسطين – بل إنها تقدّم نظرة تحقيرية ليهودٍ على شاكلة شايْلُك، فتصوّرهم جشعين لا يتورّعون عن ارتكاب الفظائع للحصول على المال. وإن كان المؤلف قد قصد حقاً أن يحذّر أبناء شعبه الفلسطينيين ضد خطط اليهود للاستيلاء على أجزاء من وطنه فإنه عالج المسألة معالجة غير مباشرة، ولذا كانت عديمة التأثير، فجعل الشخصيات سورية والمكان مصرياً، وركّز على الأخلاقيات الموروثة والنظرة التقليدية، بدل أن يضع يده على الأبعاد الحقيقية للحركة الصهيونية وما تنطوي عليه هذه الحركة بالنسبة للفلسطينيين. (38)
إسحاق موسى الحسيني
والرواية المهمة الثانية (39) من تأليف كاتب فلسطيني، هي مذكرات دجاجة (1943) لإسحاق موسى الحسيني (المتوفى عام 1990) (40). وقد حازت الرواية، بمقدمتها التي كتبها لها طه حسين، عميد الأدب العربي آنذاك، على شهرة آنية في العالم العربي وأعيد طبعها عدة مرات. ولربما كانت هذه الرواية أول عمل قصصي معاصر يستفيد استفادة مباشرة من التراث الأدبي العربي، فهي قصة ترميزية على غرار كليلة ودمنة لابن المقفّع، حيث تروي الأحداث على لسان الحيوانات، والحيوان في المذكّرات دجاجة تُظهر قدراً كبيراً من الحكمة والميل لعمل الخير والقدرة على الحكم الصائب بشأن القضايا الأخلاقية والوجودية.
تبدأ القصة بالدجاجة وهي تنتقل إلى موطن جديد، حيث لا بدّ من إنشاء علاقات جديدة. لكن سعادة الدجاجة تتعرّض للخطر عندما يهاجم أعداء، على هيئة العمالقة، المكان الذي يعيش فيه الدجاجة ويطردون معظم السكّان . وعندما يصمم جيل جديد من الطيور على الانتقام من المعتدين فإن الدجاجة تقنعهم بالعدول عن الفكرة وبمحاولة حلّ المشكلة عن طريق الانتشار في العالم للدعوة للعدالة وإقناع المعتدين بأن أعمالهم سترتدّ عليهم: توزّعوا بين الخلق، وانشروا المثل العليا، والمبادئ السامية. وإني لواثقة بأنا سنلقي في مأوانا هذا بعد أن نطهّر العالم أجمع – لا وطننا الصغير فحسب – من هذه الضلالات. (41)
لكن المثل الأعلى الروحي، الذي تطمح إليه الرواية إلى الحذر والاسترضاء والسلام مهما بلغ الثمن، كان بعيداً كل البعد عن حقائق الحياة السياسية التي أحاطت بالمؤلف، فمن الواضح أنه كان يتمسّك بوهم مفاده أن هذا النوع من التضحية بالذات، حتى في وجه عدوّ لا يرحم، سيضمن السلام والنجاح النهائي.(42)
المحاولات الأخرى وأهميتها
كانت ثمة محاولات عديدة أخرى في مجال الفن القصصي في فلسطين العربية، ولكن هذه الأعمال لم تكتسب أهمية خاصة في الأدب الفلسطيني في ذلك الوقت. وذلك أولاً، لأن الشعر كان ما يزال هو المسيطر في الساحة الأدبية، وثانياً لأن هذه المحاولات كانت ما تزال في مرحلة التجريب، فلم تنتج أعمالاً أدبية قادرة على إثارة الاهتمام على نطاق واسع،(43) غير أن ثمة عدداً من النقاط التي تستحق الاهتمام النقدي، ففي المقام الأول كان الاتجاه التعليمي الوعظي هو السائد في معظم الأعمال مدار البحث، وهي أعمال تعكس مبادئها مع مبادئه الأساسية تناقضاً تاماً – وهي ثقافة المهاجرين اليهود الأوروبية في تلك الحقبة.
ركّز المنحى التعليمي، بالدرجة الأولى، على المشكلات الاجتماعية، حيث كان الأدب الفلسطيني في هذه الفترة يُبرز هيمنة المشكلات الاجتماعية على المشكلات السياسية (رغم أن هذه الأخيرة كانت بالغة الخطورة)، وذلك في مجتمع حديث العهد بالحياة العصرية، وقد كان يبدو واضحاً أن الوعي السياسي لم يصبح بعد جزءاً من الالتزام الفنّي لكاتب القصة، وكان الاتجاه العام نحو الصراع السياسي اتجاهاً مثالياً يجسّد قيم الشجاعة والتضحية والبطولة والمقاومة والجلد والخلاص، إلى آخر ما هنالك من قيم ترتبط تلقائياً بالنضال السياسي في مجتمع تقليدي ما يزال جاهلاً بالدبلوماسية السياسية العصرية وطرقها الملتوية. كانت هذه المثل العليا تشكّل مادة الشعر، وكان الشعر الفلسطيني زخراً بها، أما الموضوعات السياسية التي تناسب الفن القصصي – ذلك الفن الذي يفسح المجال للتحليل وللأمور الدنيوية ولمناح أوسع من التجربة الإنسانية – فلم يكن من السهل أن يعالجها الكتّاب الذين كانوا ما يزالون عاجزين عن تصوّر المواقف غير المثالية للشخصيات القصصية الحديثة، وعن تمثّل وعي سياسي يترجمونه إلى تجربة يومية يعيشها الأفراد العاديّون. ويجب التأكيد هنا أن صراع كتّاب القصة كان صراعاً مزدوجاً، إذ لم يكن عليهم أن يتقنوا استخدام أدوات هذا النوع الفنّي الجديد وحسب، بل كان لزاماً عليهم كذلك أن يتّخذوا موقفاً من المأزق السياسي الذي فرضته على شعبهم الاستراتيجية الصهيونية العالمية الخطرة، ولكنهم لم يحرزوا المعرفة الداخلية الضرورية للنوع الثاني من الصراع قبل نكبة عام 1948 التي لم تأتِ بالمأساة فقط، بل أنتجت وعياً أعمق بالمؤامرة العالمية العامة، والغربية بشكل خاص، وهي المؤامرة التي أحاطت بالحياة الفلسطينية طوال الجزء الأعظم من القرن العشرين.
وإذا ما نظرنا، في ضوء ما تقدّم، إلى غلبة المشكلات الاجتماعية على المشكلات السياسية فيما كتب من قصص قبل عام 1948، فإن ذلك يغدو أمراً يمكن تفهّمه. كذلك فإن الكتّاب الفلسطينيين، الذين خاضوا تجربة الكتابة في هذا المجال، لم يجدوا أمثلة جاهزة يحذون حذوها، ذلك لأنهم تأثروا بالفن القصصي الغربي الذي لم يكن يعرف الالتزام السياسي لارتباطه بعهود أكثر هدوءاً وطمأنينة.
في المقام الثاني: كانت المواقف السائدة نحو القيم الموروثة إيجابية ودفاعية في آن معاً.
وكما ذكرت سابقاً، فإن الصدمة الأولى المباشرة لوجود اليهود في البلاد هي التي شغلت العرب قبل كل شيء، فشعروا بأن الحرية الشخصية والاجتماعية، التي أبداها اليهود الأوروبيون الذين أصبحوا يعيشون الآن في معظم المدن الكبرى في فلسطين، تشكّل تهديداً للقيم الفلسطينية الموروثة ولقواعد السلوك الأخلاقي الصارمة عندهم. وقد تمسّك الناس بشدّة في هذه الفترة بهذه القيم التي تعود إلى مجتمعهم الفلسطيني والمجتمع العربي بوجه عام، ولم تصبح هذه القيم هدفاً للهجوم إلاّ في وقت لاحق من القرن، أولاً بعد فشل محاولة عام 1948 في استرجاع الوطن بمساعدة الجيوش العربية، ثم بعد ذلك، وبصوت أعلى، بعد حرب حزيران سنة 1967 التي كشفت عن إفلاس العديد من القيم والمعايير العربية الموروثة.
وكما ذكرت سابقاً، فإن الصدمة الأولى المباشرة لوجود اليهود في البلاد هي التي شغلت العرب قبل كل شيء، فشعروا بأن الحرية الشخصية والاجتماعية، التي أبداها اليهود الأوروبيون الذين أصبحوا يعيشون الآن في معظم المدن الكبرى في فلسطين، تشكّل تهديداً للقيم الفلسطينية الموروثة ولقواعد السلوك الأخلاقي الصارمة عندهم. وقد تمسّك الناس بشدّة في هذه الفترة بهذه القيم التي تعود إلى مجتمعهم الفلسطيني والمجتمع العربي بوجه عام، ولم تصبح هذه القيم هدفاً للهجوم إلاّ في وقت لاحق من القرن، أولاً بعد فشل محاولة عام 1948 في استرجاع الوطن بمساعدة الجيوش العربية، ثم بعد ذلك، وبصوت أعلى، بعد حرب حزيران سنة 1967 التي كشفت عن إفلاس العديد من القيم والمعايير العربية الموروثة.
في المقام الثالث: أبدى كتّاب الفن القصصي والمترجمون رغبة في تسلية قرائهم لا تقل عن رغبتهم في تعليمهم، فاختاروا عند ترجمة القصص الغربية ما كان مناسباً لروح العصر، مثال ذلك أعمال الروائية الفكتورية ماري كوريلي التي كانت كتبها ذات منحى أخلاقي ولكنها كتبت بأسلوب منمّق وكانت رائجة في زمانها. وقد اعتاد الناس في كل الأحوال أن يتوقّعوا التسلية في الأعمال القصصية لأن الأنواع الأدبية العربية التقليدية المتمثّلة في الحكاية الشعبية والقصة الغرامية الشعبية نحت هذا المنحى.(44)
الأدب الفلسطيني بعد عام 1948
النكبة الفلسطينية عام 1948 ونقطة التحول
ربما كانت النكبة الفلسطينية عام 1948، بما أحدثته من هزّات نفسية وجسدية مدمّرة، أول حدث يمكن وصفه بكلّ دقة بأنه نقطة تحوّل في الأدب العربي الحديث على صعيد العالم العربي بأسره؛ فقد مثّل ذلك الحديث خطّاً فاصلاً بين زمن ساد فيه هدوءٌ نسبيّ، وثقة وأملٌ زائفان، وزمن شهد إدراكاً مفجعاً للذات وعمّ فيه اليأس والقلق والشك العميق والاضطرابات العام.
غير أن النكبة فتحت العيون أيضاً، فقد ظهرت، مع الإدراك الفجائي لإفلاس النظام العربي القديم، قوة جديدة ولدت من ثنايا العذاب، وظهر ذلك النوع من إرادة الحياة ومن الرغبة في تجاوز الفجيعة مما لا يعرفه إلاّ أناس مرّوا بتجربة الفقد والمأساة، فقد دبّت الحياة فجأة في الفلسطينيين والعرب كافة خلال الخمسينات وشكّلوا تحدّياً قويّاً للذات وللعديد من المؤسسات الثقافية والاجتماعية والسياسية الموروثة بشكل لم يكن من الممكن تصوّره في الأربعينات. وشهدت المنطقة على الجبهة السياسية ثورات وانقلابات متكرّرة غيّرت خارطة المنطقة السياسية. حدثت عدّة انقلابات في سورية، بينما أنهت الثورة المصرية الكبرى عام 1952 حكم الملك فاروق والنظام الاقتصادي البالي والقاسي الذي كان سائداً في ذلك الوقت. وفي العراق وضعت ثورة عام 1958 حداً لحكم العائلة الملكية الهاشمية وأدخلت النظام الجماهيري. وفي الجزائر كانت الثورة التي دامت عشر سنوات ضد استعمار فرنسي راسخ الجذور وتُوّجت بالنصر عام 1962 مصدراً للثقة والفخر في عالم عربي كان بأمس الحاجة لاستعادة الثقة بالنفس. وفي أواخر الستينات نجح اليمن (الجنوبي عام 1967 والشمالي عام 1969) في إنهاء حكم الأئمة المظلم، الذي زج بالبلاد في حمأة الفقر المدقع والرجعية. كان التطلّع ة. كان التطلّع إلى التحرّر والحرية بادياً في كل مكان وعلى الجبهتين الداخلية والخارجية على حد سواء.
أما في المجال الاجتماعي فقد شهدت المنطقة شجاعة جديدة وضعت النظام الموروث موضع تساؤل، وتحدّت الاتجاهات القمعية فيما يخص الحبّ والجنس، وتحدّت كل شيء وضع المرأة ودورها في المجتمع. ولم يعد ذلك الشوق الملحّ إلى الحب والسعادة الفردية، وهو ما عبر عنه الشعر الرومانسي في العشرينات والثلاثينات والأربعينات تعبيراً مؤثراً في العالم العربي كله، لم يعد هذا الشوق موضوعاً مركزياً في الشعر. فقد خفّت القيود المفروضة على السلوك الجنسي - على الأقل بين المفكّرين والكتّاب المبدعين (وكذلك بين الرسّامين والنّحاتين الذين أخذت أعدادهم تتزايد باستمرار)، كما أخذ الناس ينشغلون بقضايا السياسة والمصير القومي، وهي أمور أثّرت على الأدب تأثيراً مباشراً.
وقد شكّلت مأساة عام 1948 تحدّياً للتراث الأدبي، وأتاحت الفرصة للمفكّرين والمثقّفين أن يُخضعوا هذا التراث للتمحيص النقدي، وكان من شأن هذا الفحص النقدي أن يكون ظاهرة صحية لو أنه لم يدفع ببعض الكتّاب إلى أن يتّخذوا موقف الرفض المطلق فينكروا، ولو على حساب نزاهة البحث العلمي ودقّته، أي قيمةٍ لهذا الأدب الكلاسيكي الغنيّ المتنوّع.
مأساة عام 1948 والشعر
وقد تأثّر فنّ الشعر تأثّراً واضحاً بهذا الموقف الجديد، فغدا التحدّي للأشكال الشعرية الموروثة، التي كادت تبلغ حدّ القداسة في الماضي، قضيّة كبرى فتح فيها المجال على مصراعيه لا للبحث النظري وحسب، بل للآراء العاطفية كذلك، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الشعر العربي. بدأت كتابة الشعر الحرّ، بوصفه تجربة جمالية خالصة، قبل مأساة فلسطين، بنشر نماذج عديدة من الشعر الحرّ، ولعلهما كانا قد اشتركا في التجريب الذي فاق محاولات أخرى سابقة وغير معروفة في هذا المجال.(45) غير أن تجربة السيّاب والملائكة حازت الإعجاب في الخمسينات، لا لأنها تجربة ناجحة فنياً وحسب، بل لأن المناخ النفسي، بعد سنة 1948، غدا متقبّلاً لفكرة تفكيك الشكل التقليدي - الذي كان محاطاً تاريخياً بهالة قداسة وقام على القافية الواحدة والأبيات ذات الشطرين - مما أخل بالنسق المتناظر والمتوازن الذي ساد القصيدة العربية منذ الجاهلية. لقد كانت هذه ثورةٌ لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعر العربي، إذ تلاشى تبجيل القديم بين الشعراء الشباب الذين بلغوا سن النضج في عقد الخمسينات، وشهدت العقود التالية تجارب جريئة وناجحة جداً في الشكل، تراوحت ما بين الشعر الحر وقصيدة النثر.(46) أما على المستوى الدلالي، فقد فرضت مأساة سنة 1948 أبعاداً جديدة على القصيدة من حيث الموضوعات والمواقف، كما أكّدت الدعوة الكبرى للالتزام الاجتماعي والسياسي بخاصة، وهي الدعوة التي تردّد صداها في جميع أرجاء الوطن العربي في أواسط الخمسينات، أن الشعر أيضاً يجب أن يكون ملتزماً اجتماعياً وسياسياً.(47)
غير أن ما يجب التأكيد عليه هنا هو تزامن الهزّة السياسية التي حدثت في أواخر الأربعينات مع فترة أدبية جياشة بالتجريب والمغامرة، إذ كانت الرغبة في التجريب تتنامى باطراد منذ بداية القرن فكان المبدعون توّاقون لامتلاك أدوات أدبيّة جديدة، وصاحب ذلك اكتسابهم الواعي للنظرية الأدبية وتنامى معرفتهم المباشرة بالتطوّرات الحديثة في الأدب العالمي.
وقد أدّى تدفّق الإبداع الشعري في الخمسينات، إلى جانب التجديدات المهمّة في الشعر، والاهتمام الجاد بالجماليات، والتطوّر المستمر في مجالي الفن القصصي والمسرحي وكذلك الجدل المحتدم في مجال النظرية- ذلك كله أدّى إلى ظهور مستوى عالٍ من الإبداع الجمالي في النصف الثاني من القرن العشرين.
وقد عجّلت مأساة عام 1948 بهذه العملية في مجال الشعر بشكل خاص وذلك للأسباب التي سبق ذكرها، بينما تطوّر فنّا القصة والمسرحية الحديثان بالسرعة التي كان يمكن أن يتطوّرا بها على كل حال. حيث أن هذين الفنين كانا ما يزالان قائمين على النماذج الغربية بصورة أساسية فإنهما لم يعتمدا على تقاليد صارمة يجلّها الناس بحيث يصبحان هدفاً لهذا الميل الجديد للرفض والتحدي للقديم.
وقد عجّلت مأساة عام 1948 بهذه العملية في مجال الشعر بشكل خاص وذلك للأسباب التي سبق ذكرها، بينما تطوّر فنّا القصة والمسرحية الحديثان بالسرعة التي كان يمكن أن يتطوّرا بها على كل حال. حيث أن هذين الفنين كانا ما يزالان قائمين على النماذج الغربية بصورة أساسية فإنهما لم يعتمدا على تقاليد صارمة يجلّها الناس بحيث يصبحان هدفاً لهذا الميل الجديد للرفض والتحدي للقديم.
القصة القصيرة والتطور
وكانت القصة القصيرة تتطوّر تطوّراً ثابت الخطى، وتزداد صقلاً ورهافة مع ظهور المزيد من الكتّاب المثقّفين المتسلّحين بقدر أعظم من الشجاعة، وبمعرفة أوسع بالأشكال الجديدة في القصة العالمية وبالنظريات الجديدة التي ظهرت حولها. ومع أن القصص التي كتبها الفلسطينيون (والكثير من الكتّاب العرب) غالباً ما عكست الوضع الجديد من حيث الموضوع، فليس ثمة ما يدلّ على أن تطورها الفنّي في الخمسينات قد تسارع بسبب المأساة.
الرواية والتطور
أما الرواية العربية، التي ظلّت موضع التجريب طوال الثلاثينات والأربعينات، فإن ازدهارها في أواخر الخمسينات وفي الستينات يعود بالدرجة الأولى إلى بزوغ نجم نجيب محفوظ وإلى نجاح تجابه وازديادها صقلاً وبراعة.(48)
الشــّعْــر 1948- 1967
الهجرة والتأثيرات الشعرية
يعكس تطوّر الأدب الفلسطيني، على المستوى الجمالي، التطوّر العالم في المراكز الأدبية الكبرى في العالم العربي. وقد عرّضت هجرة الجماهير الغفيرة، من سكان فلسطين عام 1948، الشعراء والكتّاب في الشتات إلى تأثيرات جديدة عجّلت في نهاية الأمر بتطوّر فنّهم أكثر مما عليه حال معظم مواطنيهم الذين ظلّوا في أرض فلسطين أو ما أصبح يعرف بإسرائيل. غير أن الكتّاب الفلسطينيين، سواء منهم من كان منهم خارج إسرائيل أو داخلها، مرّوا بفترة من الذهول بعد كارثة عام 1948، واحتاجوا إلى بعض الوقت ليجدوا أنفسهم ثانية ويتابعوا مسيرة الإبداع المضنية. لكن بدا أن الكتّاب الفلسطينيين، خاصة أولئك الذين كانوا يعيشون في الشتات، قد تجاوزوا الهزّة الأولية مع حلول منتصف الخمسينات،وعاودوا نشاطهم بحيوية وعزم، فأصاب الشهرة عدد من الشعراء وكتّاب القصة، بل تبوأ بعضهم طليعة الإبداع الشعري والتجديد في الفن القصصي.
الشعر: بين سنتي 1948 و 1967
سأتناول هنا الشعر الفلسطيني الحديث على مرحلتين: ما كُتب منه بين سنتي 1948 و 1967، وما كُتب بع سنة 1967، وذلك بسبب التطوّر المعقّد للشعر الفلسطيني بعد سنة 1948 من ناحية، والتأثير الحاسم للأحداث السياسية على الشعر العربي بأسره وخاصة بعد سنة 1967 من ناحية أخرى، لكن هذا التقسيم لا ينطبق على تطوّر القصّة الفلسطينية التي لم تُبد - رغم تأثّرها بالأحداث السياسية - تغيّرات أساسية مشابهة في اتجاهاتها نتيجة لتلك الأحداث، وكان العامل الحاسم هنا النضج الفنّي للإبداع القصصي، إذ كان غسان كنفاني قد كتب أفضل عملين من أعماله، وهما رجال في الشمس و ما تبقى لكم قبل عام 1967 (عام 1963 وعام 1966 على التوالي)، بينما لا نلمح أيّ أثر لحرب 1967 في رواية جبرا السفينة(1970)، بل نجدها تركّز على أحداث سنة 1948. أما أعمال إميل حبيبي القصصية، التي سأتناولها فيما بعد، فهي أشدّ تأثّراً من حيث موضوعاتها بما خلّفته حرب سنة 1967 من آثار، ولكن لا يمكننا القول إن براعته الفنية في رواية الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل(1947) تنبع من تلك الأحداث، إذ نجد فيها قدراً من النضج الفني لم يعرفه الأدب العربي من قبل، وهو نضج يعكس أسلوب الكاتب الخاص ومواقفه.
أبو سلمى
كان أشهر من عرف من الشعراء في فلسطين، إبان عهد الانتداب، فدوى طوقان، التي بقيت في الضفة الغربية، وأبو سلمى، الذي استقرّ في دمشق. أما أشعار أبي سلمى،التي تعبر عن حنينه للوطن المفقود وعن شوقه العميق الدائم لمناظره الطبيعية وعن إيمانه بعودته الحتمية إليه، فقد حببته للآلاف من الفلسطينيين، حتى أطلقوا عليه لقب زيتونة فلسطين، رمزاً لعمق جذوره الفلسطينية وإيمانه الذي لا يتزعزع، غير أن شعره الذي كتبه في الشتات يبدو عليه شيء من الاضطراب والتكلّف، وهما صفتان لا نجدهما في شعره النّاري العفويّ المكثّف، الذي كتبه في فلسطين قبل سنة 1948، وكأن رؤيته قد اهتزت وفقدت ثباتها.
ويتبدى ذلك بوجه خاص في إكثاره من استخدام الصور المجردة وفي تكراره للألفاظ ذاتها - على رشاقتها - دونما حاجة، إضافة إلى طرق موضوعات واهية وغير مقنعة. لكن قصائده ظلّت تأسر جمهوره - خاصة جمهور مستمعيه - إذ كان في الغالب يلقي شعره على غرار شعراء المنابر العرب (49) أمام حشود غفيرة من المستمعين في العالم العربي. وقد نشأت شعبيته عند هؤلاء المستمعين بسبب قصائده المرصعة بأسماء القرى والأنهر والجبال والشواطئ الفلسطينية، ولما في هذه القصائد من لمسة رومانسية تتبدّى في مزجه حبّ الوطن بحبّ المرأة التي سيلتقيها:
وفي النسيمات التي شرّدت
من ربوات القدس والجرمق
سنلتقي ما فوق أرض الحمى
ننشُر من أنفاسنا ما بقي
في الكرمل المحزون بعد النوى
على رمال الشاطئ الأزرق(50)
والمرأة التي يخاطبها في أشعاره تبقى مخلوقاً مجرّداً لا اسم له، وشخصية يحنّ إليها بعيداً عن أي تجربة مجسّدة، وترتبط بالشاعر في المصير المشترك، ألا وهو النفي. لكن رغم إشارات الشاعر المتكرّرة إلى هذا النفي فإن شعره يقصّر عن التعبير عن الأبعاد الحقيقية لمأساة وطنه أو عن طموحات الفلسطينيين الحقيقية.
فدوى طوقان
أما فدوى طوقان فقد تطوّرت بشكل مختلف، وظلّت شهرتها تنموا نموّاً مطّرداً شأنها شأن أبي سلمى، خاصة بعد حرب حزيران 1967، ولكنها عكفت على تطوير أسلوبها الخاص في التعبير بين عام 1948 و 1967، فأغنت الشعر العربي الحديث بالشعر الرشيق البعيد عن التكلف، المعبّر عن اكتشاف الأنثى لذاتها وفوزها في تحقيق هذه الذات.(51) كما خدمت الشعر بتحريرها للعنصر العشقي، وبتمهيدها الطريق للصدق العاطفي، متفوّقة في ذلك على معظم أبناء جيلها من الشعـراء الرجال. وخلافاً لمعظم الكاتبات اللواتي بدأن الكتابة بعد نكبة سنة 1948، أي في جو نفسي سادته روح الرفض للمفاهيم والقيم البالية، أظهرت فدوى طوقان مقدرةً فائقة على التعبير عن بهجتها بتحرّر الروح والجسد مع الحفاظ على اللياقة دون الانزلاق نحو ما شاع في بعض الأدب النسوي من الجرأة التي لا يضبطها ضابط. وقد عبّرت قصيدتها في العُباب التي كتبتها قبيل حرب حزيران سنة 1967، عن هذا التحرّر الداخلي العميق والسيطرة الغريزية على أدواتها الشعرية حيث تمتزج عناصر الحب والرغبة والتحليق الروحي بالحرّية الجسدية.(52)
لكن مكانة فدوى طوقان الشعرية لم تبلغ ما بلغته من رفعة إلاّ بعد حرب سنة 1967، عندما انضمّت إلى المجموعة البارزة من شعراء المقاومة الذين كانوا يكتبون منذ زمن داخل إسرائيل نفسها، ويعبّرون عن احتجاجهم ضد الهيمنة الإسرائيلية. وعندما رأت فدوى طوقان وطنها يقع ضحية للاحتلال مرة ثانية، وشاهدت الهجرة الجماعية الجديدة للفلسطينيين الذين أجبروا على ترك مساكنهم،تحوّلت إلى صوت من أقوى الأصوات المنطلقة دفاعاً عن شعبها وعن حقوقه، وكثيراً ما كانت تظهر أمام الحشود الضخمة في الحملات سعياً للحفاظ على إيمان الناس بجدوى النضال والمقاومة.
العلاقة بين الداخل والمنفى
ظلّ الشعراء والكتّاب الفلسطينيون داخل إسرائيل محرومين من لقاء أبناء بلادهم المهجّرين لسنوات عديدة، ولم يحصل أيّ اتّصال بين المجموعتين إلاّ في أواسط الستينات عندما اكتشف كتّاب الشتات بفرحٍ غير متوقّع – فيما يبدو – وجود نشاط شعري قوي خلف الجدران الحديدية التي فرّقت أبناء الشعب الفلسطيني، فعُرفت عند ذلك وللمرة الأولى أسماء توفيق زيّاد ومحمود درويش (الذي كان ما يزال يعيش في إسرائيل) وسميح القاسم، وأخذت أشعارهم تزوّد القرّاء العرب بسلاح لفظي قوي ضد الظروف المأساوية التي يحياها شعبهم. وقد قدّر لهذه الأسماء التي استُقبلت بابتهاج شديد أن تغدو مع مر السنين أسماء يعرفها الناس على انتشار رقعة العالم العربي.
غير أنه كان من الواضح أن عزلة هؤلاء الشعراء عن زملائهم في العالم العربي لم تؤدّ بهم إلى الجهل بتيّارات التغيير والتجديد الشّعريّين، فقد ظلّوا على صلة وثيقة بالحركة الشعرية الثورية التي قامت في الخمسينات وما بعدها في المراكز الأدبية العربية، وهي الثورة التي أرست دعائم الشعر الحرّ وأحدثت ثورة في عناصر القصيدة الأخرى. ولئن ظل بعض شعراء الشتات مثل أبي سلمى وكمال ناصر وحسن البحيري مخلصين للأشكال الشعرية القديمة التي كانت سائدة قبل سنة 1948 فإن الشعراء الجدد الذين نضجوا في الستينات داخل فلسطين قد ظلّوا على صلة وثيقة بالأحداث الشعرية المهمّة التي كانت تجري آنذاك. وقد انتهى الأمر بأحدهم، وهو محمود درويش، إلى أن يترك إسرائيل في أوائل السبعينات ويصبح واحداً من أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث وفي تاريخ الشعر العربي جميعه.
غير أنه كان من الواضح أن عزلة هؤلاء الشعراء عن زملائهم في العالم العربي لم تؤدّ بهم إلى الجهل بتيّارات التغيير والتجديد الشّعريّين، فقد ظلّوا على صلة وثيقة بالحركة الشعرية الثورية التي قامت في الخمسينات وما بعدها في المراكز الأدبية العربية، وهي الثورة التي أرست دعائم الشعر الحرّ وأحدثت ثورة في عناصر القصيدة الأخرى. ولئن ظل بعض شعراء الشتات مثل أبي سلمى وكمال ناصر وحسن البحيري مخلصين للأشكال الشعرية القديمة التي كانت سائدة قبل سنة 1948 فإن الشعراء الجدد الذين نضجوا في الستينات داخل فلسطين قد ظلّوا على صلة وثيقة بالأحداث الشعرية المهمّة التي كانت تجري آنذاك. وقد انتهى الأمر بأحدهم، وهو محمود درويش، إلى أن يترك إسرائيل في أوائل السبعينات ويصبح واحداً من أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث وفي تاريخ الشعر العربي جميعه.
جبرا إبراهيم جبرا
إن من المتعذّر، في هذه المقدّمة القصيرة، تتبّع جميع حركات التاريخ الأدبي وانعطافاته، لكن من المهم، رغم ذلك، أن نحاول إبراز التجارب التي أبدى فيها الشعراء والكتّاب ميلاً إلى التجديد وقدراً كبيراً من الإبداع. وكان من بين شعراء الشتات الذين ساهموا في ثورة الخمسينات الشعرية كل من توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي. وأظهر جبرا (إلى جانب نقده الأدبي القيّم) ميلاً مبكّراً نحو القصّة، وغدا فيما بعد واحداً من أبرز الروائيين في العالم العربي. وكان – بصفته شاعراً – من أوائل الذين أدخلوا قصيدة النثر إلى الأدب العربي والذين استخدموا أساطير الخصب التي شاعت في الشعر العربي في أواخر الخمسينات. كما ساهم جبرا في الواقع بتعريف الشعراء العرب بهذه الأساطير من خلال ترجمته البارعة عام 1957 لذلك الجزء من كتاب فريزر الغصن الذهبي، Frazer the Golden Bough الذي يعالج أساطير أدونيس أو تمّوز (كما كان لعدد من شعراء الغرب أثر في هذا المجال، خاصة ت.س. إليوت T.S.Eliot). وقد عكس استخدام هذه الأساطير، التي يبعث فيها الإله فيعود معه الخصب والحياة إلى العالم، أملاً عميقاً بأن تنطلق الروح العربية ثانية بعد نكبة سنة 1948، وإيماناً متجدداً بإمكانية البعث بعد الموت الرمزي.
توفيق صايغ
غير أن توفيق صايغ كان أول شاعر فلسطيني من شعراء الخمسينات يؤسّس للاتجاه الحداثي في الأدب العربي، وهو اتجاه كان ما يزال في مهده. فقد نشر أوّل مجموعة له من الشعر النثري الطليعي بعنوان (ثلاثون قصيدة) سنة 1953، ولكن دون أن تثير الانتباه إلى خصائصها الحداثية، وكان الشعراء وقرّاؤهم يتوقعون في ذلك الوقت نوعاً مختلفاً تماماً من الشعر، إذ كان الشعر يطمح إلى أن يكون حديثاً(54) لا حداثياً، ولم يكن مفهوم الحداثة في الأدب قد بحث بأي تركيز، بل إنه لم يكن قد اكتشف بعد.(55)
لم يبرز مفهوم الحداثة ويصبح قضية في الشعر إلاّ في أوائل السبعينات، حيث غدا مفهوماً لعدد كبير من المناقشات والكتابات. لكن هذا المفهوم بقي حتى الآن مسألة غامضة بالعربية رغم كثرة ما نشر حوله من كتب ومقالات قدّم الكثير منها في المؤتمرات المختلفة.
وهناك أسباب عديدة لذلك، أهمّها اثنان: الأول، أنه لم يكن ممكناً ربط الحداثة العربية بحركة الحداثة الأوربية التي ظهرت خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، ذلك أنها حركة انبثقت من حافز خاص كان غائباً في التجربة العربية. وثانيهما أن بعض كبار الكتّاب الذين تناولوا الحداثة العربية كانوا يحاولون دون نجاح مواءمة المفاهيم التي كانوا يصوغونها مع الشعر ومجازاته، الرغبة في التدمير، رفض المؤسسات القائمة، إلخ) بقيت عناصر كثيرة في شعره (رؤيته لذاته بصفته البطل والحكيم والنبي المهيمن الذي لاتّحد معرفته حدود) تقف حائلاً دون التوفيق بينها وبين الرؤية الحداثية الأصيلة. وكان هذا التصوّر البطولي للسيّد البطل الذي يرتفع عن الظروف ويمتلك القدرة على تعليم الناس وتنوير عقولهم (وهذه صورة ربما ناسبت زمنها ولكنها – قطعاً – لم تكن صورة حداثية) – كان هذا التصور إلى جانب الأسلوب البلاغي الذي ظلّ موجوداً في الكثير من هذا الشعر هو الذي وقف حائلاً بين العديد من الشعراء الموهوبين في الخمسينات (ممن عرفوا فيما بعد بجيل الروّاد) وبين الحداثة الحقّة.
ويجب ألاّ ننسى أن عقد الخمسينات قد سادته الرغبة في التجديد والانعتاق من عقدة الذنب وفي تغيير العالم، بعد هزيمة سنة 1948. وغالباً ما عبّرت هذه الرغبة عن نفسها بالعنتريات الزائفة أو على الأقل بالتأكيد علىالقوّة والتحدّي، وعلى الغضب والرفض الصارخ، فحافظت بذلك على بلاغة اللغة الشعرية التفليدية، وعلىنبرتها المؤكدة للذات ولهذا فإن لهجة توفيق صايغ الخفيضة وأسلوبه الشعري البعيد عن البطولية لم يجتذبا الكثير من الاهتمام بين معاصريه. وحتى اليوم، مع أن ثمة اتجاهاً حداثياً أصيلاً أخذت خطاه تثبت بهدوء مع مطلع الثمانينات، إلاّ أن النقّاد الذين يحاولون الكتابة عن الحداثة لم يركّزوا على هذا الاتجاه الحداثي الجديد ولا على تجربة توفيق صايغ الأكثر تبكيراً، ولم تحظ أعمال توفيق صايغ بعد بما تستحقه من مكانة في تاريخ الشعر العربي.
ويجب ألاّ ننسى أن عقد الخمسينات قد سادته الرغبة في التجديد والانعتاق من عقدة الذنب وفي تغيير العالم، بعد هزيمة سنة 1948. وغالباً ما عبّرت هذه الرغبة عن نفسها بالعنتريات الزائفة أو على الأقل بالتأكيد علىالقوّة والتحدّي، وعلى الغضب والرفض الصارخ، فحافظت بذلك على بلاغة اللغة الشعرية التفليدية، وعلىنبرتها المؤكدة للذات ولهذا فإن لهجة توفيق صايغ الخفيضة وأسلوبه الشعري البعيد عن البطولية لم يجتذبا الكثير من الاهتمام بين معاصريه. وحتى اليوم، مع أن ثمة اتجاهاً حداثياً أصيلاً أخذت خطاه تثبت بهدوء مع مطلع الثمانينات، إلاّ أن النقّاد الذين يحاولون الكتابة عن الحداثة لم يركّزوا على هذا الاتجاه الحداثي الجديد ولا على تجربة توفيق صايغ الأكثر تبكيراً، ولم تحظ أعمال توفيق صايغ بعد بما تستحقه من مكانة في تاريخ الشعر العربي.
ومع أن ذلك أحزن توفيق صايغ إلاّ أنه لم يفتّ في عضده، إذ مضى يكتب بالأسلوب نفسه، وازدادت أعماله عمقاً ورهافة وبراعة مع مضي السنين، فظهرت القصيدة سنة 1960 و معلقة توفيق صياغ سنة 1936، وتعدّدت مزاياه الحداثية، وثابر على كتابة الشعر في قالب نثري وكانت معالجته للشكل في الشعر معاجلة ثوريّة بالنسبة لما اعتاد عليه الناس في أوائل الخمسينات، فقد أثبت شرعيّة مطلقة للشعر المكتوب بقالب النثر، رغم شكل مهجّن لا يمكنه مضاهاة روعة الأوزان الشعرية التقليدية. وكان تناوله للغة الشعرية ثوريّاً كذلك، فقد تخلّى عن اللغة الشعرية القديمة المستهلكة، وكتب بلغة أقرب إلى اللغة العربية الحديثة، مستخدماً، أحياناً، الألفاظ النادرة الطريفة، وكانت استعاراته جديدة نضرة استمدّ معظمها من حياة المدينة حوله دون أية إشارة إلى الريف. وهكذا كانت القطيعة مع الشعر الرومانسي الذي كتبه من سبقوه من الشعراء مباشرة، قطيعة كاملة.
على أن ما فاق كل ذلك في الأهمية استخدامه لنبرة بعيدة عن الخطابية، إذ آثر التحدّث بأسلوب ساخر ملئ بالظرف والتلميحات الغنية بالمعاني، وتخلّى – بما اتصف به من تواضع- عن تعظيم الذات وعن صورة البطل وعن منزلة الشاعر النبي صاحب الرؤيا. وفي عصره سادته أزمة عامة ومؤامرات عالمية وخداع مأساوي عمّ الكون بأسره، حيث كانت الحياة تضجّ بالاضطراب والمعاناة، أدرك توفيق صايغ أنه ضحيّة عصره لا بطله، فعبّر عن الاغتراب والمعاناة اللذين فرضهما الشعر المعاصر من داخل الوطن ومن خارجه على حياة الفرد. إن تجربة صايغ المبكّرة ذات أهميّة بالغة في تطوير الشعر العربي باتّجاه الحداثة لعلاقته بالتجارب الجديدة، فقد كتب شعراً شمولياً في عهد الشعر الوطني وشخصياً في عصر التوجّهات الجماعية، وفردياً في فترة سادتها الأزياء والأنماط. كان صايغ مستوحداً، متفرداً، وضحية يهيم في أجواء كثيرة، وشعره كان أفضل مثال على حداثة مبكرة تم بلوغها بسبب صفات الشاعر الخاصة المتمثّلة في الرؤية والأسلوب.(56) لقد كان ظهور توفيق صايغ هذه الفترة المبكّرة أمراً يستحق الدراسة بصفته ظاهرة ذات الدلالة فنّية شديدة الأهمية في فترة كانت ما تزال تصارع الموروث الشعري العنيد المتحدّر من عصور شعرية سابقة: كلاسيكية القرون الوسطى، والكلاسيكية المحدثة التي خلّفتها النهضة الشعرية الحديثة، وكانتا ما تزالان تفرضان بلاغتهما الرفيعة ونبرتهما المؤكدة للذات على الشعراء والجمهور؛ والرومانسية بلغتها الضبابية وأسلوبها المفرط في العاطفية ونظرتها الغائمة وميوعتها وتمركزها حول الذات؛ والرمزية بأبراجها العاجية واستعمالاتها الأثيرية للّغة والصّور الشعرية.
الفن القصصـــي والرواية بعد سنة 1948
الفن القصصي بعد 1948
لم تنتج التجارب المبكّرة في الفن القصصي الفلسطيني، وهي التجارب التي تحدّثنا عنها في القسم السابق، أمثلة كبرى تحتذى، ويحقّ للناقد أن يستنتج من ذلك أن الفن القصصي الفلسطيني، بعد سنة 1948 تأثّر إلى حد بعيد بالأمثلة القصصية الجيّدة التي ظهرت في عدد من البلاد العربية خلال هذه الفترة. يتعزّز هذا الاستنتاج بحقيقة مفادها أن الفن القصصي الفلسطيني في الخمسينات، شأنه شأن مثيله العربي بشكل عام، ركّز على القصة القصيرة أكثر مما ركّز على الرواية – على عكس الوضع الذي كانت عليه بواكير هذا الفن في فلسطين.
وقد اشتهر أربعة كتّاب القصة كانوا جميعهم يعيشون، في هذه الفترة، خارج فلسطين، وهم محمود سيف الدين الإيراني، وجبرا إبراهيم جبرا، وسميرة عزّام،وغسّان كنفاني.
محمود سيف الدين الإيراني
كان الإيراني (1914 – 1974) يكتب القصة وينشرها منذ الأربعينات، وكانت حبكاته الواقعية البسيطة، ذات النزعة الأخلاقية في أغلب الأحيان، أكثر نضجاً مما سبقها من محاولات في فنه القصة القصيرة في فلسطين. وفي عام 1942 انتقل الإيراني إلى الأردن حيث عمل معلّماً ومفتّشاً للمدارس، ثم شغل مناصب ثقافية مهمّة في المؤسسة الأردنية.
ويبرهن إنتاجه الأدبي على وحدة الثقافتين الفلسطينية والأردنية. وربّما كان الإيراني أهمّ رائدٍ من روّاد القصة في شرق الأردن (الذي اتّحد مع الضفة الغربية سنة 1949 مشكلاً ما صار يعرف بالأردن) – لا بل في منطقة فلسطين والأردن قاطبة خلال الأربعينات وأوائل الخمسينات. وقد رسّخت مجموعته مع الناس (1956) أثر وأثبتت قدراته المتعددة.
جبرا إبراهيم جبرا
أما أعمال جبرا إبراهيم جبرا (1917 – 1994) القصصية فقد بشّرت بميلاد مستوى مختلف من القصص، ومهّدت الطريق أمام اتجاه جديدة أكثر حداثة. وكانت أولى التجارب القصصية لجبرا (الذي قدّر له أن يصبح، فيما بعد، واحداً من أبرز روائيي فلسطين) مجموعة من القصص القصيرة نشرت بعنوان عرق وقصص أخرى (1956). وكان جبرا قد مضى سني الحرب العالمية الثانية في كيمبردج بانجلترا للحصول على شهادة عليا في الأدب، فتشرّب الثقافة الغربية، وحصل على ثقافة أدبية ونقدية واسعة بشكل أفاد الحركة الحديثة في الأدب العربي.
تضمّ مجموعة عرق تسع قصص قصيرة، تتناول خمس منها التجربة الفلسطينية قبل الشتات، وتتناول ثلاث منها تجاربه في العراق (حيث هاجر بعد نكبة سنة 1948 وحصل على الجنسية العراقية)، والقصة الأخيرة، هي في ثلاثة أجزاء، تتناول حياته في إنجلترا. ولقد أظهر جبرا منذ البداية إعجابه الشديد بالثقافة الغربية وانسجامه العميق معها خلافا ً للمواقف والاتجاهات الثقافية السائدة آنذاك. ونجد في أعمال جبرا كلها توجّهاً إلى الصفوة المثقفة من القرّاء لما يسمها من نزعة فكرية واضحة، وميل لشرح الأفكار والقضايا التي أرّق بعضها المثقفين العرب طوال الفترة التي تلت عام 1948، كما جاء بعضها الآخر من ثقافة غربية تكنولوجية معقّدة ليفرض نفسه على الثقافة العربية المعاصرة التي لم تبلغ المرحلة الصناعية بعد. غير أن قرّاء القصة، في الخمسينات وأوائل الستينات، أبدوا إعجاباً يمكن تفهّمه بهذه الاتجاهات والمفاهيم، التي تناولتها هذه المجموعة المبكّرة من قصص جبرا.
تضمّ مجموعة عرق تسع قصص قصيرة، تتناول خمس منها التجربة الفلسطينية قبل الشتات، وتتناول ثلاث منها تجاربه في العراق (حيث هاجر بعد نكبة سنة 1948 وحصل على الجنسية العراقية)، والقصة الأخيرة، هي في ثلاثة أجزاء، تتناول حياته في إنجلترا. ولقد أظهر جبرا منذ البداية إعجابه الشديد بالثقافة الغربية وانسجامه العميق معها خلافا ً للمواقف والاتجاهات الثقافية السائدة آنذاك. ونجد في أعمال جبرا كلها توجّهاً إلى الصفوة المثقفة من القرّاء لما يسمها من نزعة فكرية واضحة، وميل لشرح الأفكار والقضايا التي أرّق بعضها المثقفين العرب طوال الفترة التي تلت عام 1948، كما جاء بعضها الآخر من ثقافة غربية تكنولوجية معقّدة ليفرض نفسه على الثقافة العربية المعاصرة التي لم تبلغ المرحلة الصناعية بعد. غير أن قرّاء القصة، في الخمسينات وأوائل الستينات، أبدوا إعجاباً يمكن تفهّمه بهذه الاتجاهات والمفاهيم، التي تناولتها هذه المجموعة المبكّرة من قصص جبرا.
وقد عبّر توفيق صايغ، الذي كتب مقدمة عرق عن قبوله التّام لمعالجة جبرا لموضوعي الحب والمدينة في بعض القصص، وعن إعجابه الواضح بهذه المعالجة – دون أن ينتبه فيما يبدو إلى أنّ وصف جبرا للخلل والانحلال يصحّ على المدينة الصناعية الغربية أكثر مما يصحّ على المدينة العربية في ذلك الوقت. لا ريب في أن العواصم العربية كانت قد بدأت، مع حلول منتصف القرن، باجتذاب أعداد متنامية من سكّان الأرياف الساعين للحصول على عمل أو حياة أفضل أو للدراسة أحياناً، لكن المشكلات الوجودية التي كانت تجابه هؤلاء المهاجرين لم تكن ذات صلة كبيرة بالتفسيرات المعقّدة ذات الصبغة لم تكن ذات صلة كبيرة بالتفسيرات المعقّدة ذات الصبغة الغربية الخالصة التي أضفاها عليها جبرا. ولنأخذ موضوع الحبّ في المدينة العربية على سبيل المثال، وهو موضوع تناوله الشاعر السوري نزار قبّاني في الفترة نفسها بقدر كبير من رهافة الحسّ، وهو من أشد الشعراء العرب الحديثيين التصاقاً بالمدينة وحياتها، إذ كان قد ولد وترعرع في مدينة دمشق العريقة، نجد أن شعر قبّاني، الذي حاز على شعبية ربّما فاقت شعبية أي شعر سواه في المجتمعات العربية، يصوّر حياة المدينة وعاداتها وسلوكياتها ومواقفها ومعاييرها دون الخلط بين تجارب العرب – رجالاً ونساءً – في الحب، وبين مفاهيم الاغتراب، بل العقم، التي تزخر بها أعمال جبرا،فالحبّ في شعر قبّاني تجربة متعدّدة الألوان والمستويات، كما أنه تجربة لا تتصف بالعجز أو الفتور. وإذا جنح الحب أحياناً إلى الانحراف فليس ذلك بسبب الاغتراب أو الوحدة اللذين يسمان المدينة الأوروبية.(57) ومدينة قبّاني، وهي موجودة دائماً في ثنايا القصيدة، وأحياناً – كما في قصائده عن بيروت – في المقدّمة، مدينة مليئة بالحياة والحيوية، تفسح المجال للعديد من مواقف الحب، بما في ذلك البغاء والسحاق، ولكنها ليست بالمدينة العقيمة أو الميّتة، بل هي مدينة يحيا فيها الناس معاً، حيث يجدون المتعة، وتتوفّر لهم فرص المغامرات الجنسية والعلاقات السريّة. أما مدينة جبرا فهي مدينة حوّلت الرجال إلى كائنات مصابة بالعنّة، فأرغمت نساءها إما على إنشاء العلاقات المتعدّدة أو المساحقة تلبيةً لحاجاتهم الجنسية.
ومع أن جبرا استخدم القصّة القصيرة للتعبير عن أفكارٍ أخذها عن الغرب مباشرة، دون أن يثبت بشكل قاطع صلة هذه الأفكار بالحياة العربية في ذلك الوقت، فإن قصصه كانت مصدر إلهام للصفوة من القرّاء في تلك الفترة، كما أكسبته مكانة أدبية مرموقة. ولم يكن المستعار والمفاهيم المستوردة التي أدخلت إلى الأدب قبل أن يكون الوضع الاجتماعي والثقافي مستعداً لتقبّلها بشكل طبيعي.(58)
وقد عرضت معظم قصص جبرا في هذه المجموعة،وخاصة قصصه عن الحياة البغدادية، موقفاً فكرياً مفتعلاً، وكانت بعض أفكاره، كتلك التي يقدّمها حول الالتزام الأدبي في أصوات الليل، ذات صلة بما يجري حوله، إذ إنها تعكس النقاش الذي كان يدور وقتئذ حول الموضوع في الدوائر الأدبية العربية.
إلاّ أن الأفكار الأخرى في القصة نفسها، التي تتناول الحب والعقم وقذارة المدينة مقارنة بحريّة الصحراء وفحولتها، لا تبدو لنا أفكاراً صادقة. ومع أن نظرة جبرا للمدينة تغيّرت فيما بعد تغيّراً جذرياً فإن انشغاله بقضايا الفكر ظلّ يتملّكه ويسود أعماله القصصية الواحد تلو الآخر.
سميرة عزام
أما سميرة عزام (1924 – 1967) فكانت الكاتبة الثالثة من كتّاب القصّة الفلسطينيين الذين اشتهروا في الخمسينات،وهي من مواليد مدينة عكّا الساحلية، وقد اضطّرت إلى مغادرة وطنها في هجرة عام 1948. وعاشت، قبل وفاتها المبكّرة عام 1967، في قبرص أولاً موظفة في محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية التي كان يديرها البريطانيون، ثم في بغداد، وأخيراً في بيروت، حيث نشطت في الحركة الأدبية في تلك المدينة المحبّة للأدب. كانت تجربتها الأدبية مستمدّة من نظرة واقعية للحياة، ولكنها نظرة تحكمها الضوابط الأدبية، وقد أجادت في تصوير العديد من مناحي التجربة الإنسانية، ومنها تجارب المرأة المتنوعة في الثقافة العربية، وتميّز أسلوبها بالدّقة والإيجاز والوضوح والبعد عن العاطفية المفرطة والاستعراض والابتذال. وتنبثق قصصها من الملاحظة الحذقة للسلوك الإنساني، خاصةً في المناحي الشمولية،وأحياناً، ولكن بقدر أكبر من البراعة، في تلك المناحي ذات الصبغة الفلسطينية(59). وكانت بارعة في تعليل ما يصيب أبطالها من تغير لا مناص منه – وهو ما تتميّز به القصة القصيرة الجيّدة. فقصّتها دموع للبيع مثلاً (60) تعرض معالجةً رائغة لموضوع إنساني عام ضمن إطار الشرق الأوسط. تصف في هذه القصة ردّ الفعل المتناقض الذي تبديه امرأة تمتهن النواح على الموتي، وتقتضي مهنتها أن تبكي في المآتم وتستدرّ دموع الآخرين، ولكنه تخيّب كل التّوقعات عندما لا تستطيع أن تذرف دمعة واحدة لدى موت ابنتها الوحيدة. والقصة التي تضمها هذه المجموعة بعنوان خبز الفداء هي إحدى القصص التي كتبتها عن التجربة الفلسطينية، وهي، على شاكلة العديد من قصصها الأخرى، تعبّر عن المفارقة الكامنة في المآزق الإنسانية المعقّدة إبان الاضطرابات العنيفة.
بدأت سميرة عزام الكتابة عام 1948، ويستدل من أعمالها وأعمال جبرا القصصية المبكّرة على أن وعي الكتّاب الفلسطينيين، في تلك الفترة، بالأحداث الخطيرة، التي كانت على وشك الاستحواذ على حياتهم وحياة الكثيرين سواهم، كان وعياً محدوداً.
وإذا ما قارنا بين الأعمال التي كتبت في تلك الفترة المبكّرة قبل سنة 1948 وبعدها مباشرة، وبين أعمال الكتّاب الفلسطينيين بعد حرب حزيران سنة 1967، بما فيهم جبرا نفسه (حيث أن سميرة عزّام توفيت عام 1967) يتبيّن لنا كيف أن الوعي السياسي أخذ يزداد هيمنة على الكتّاب الفلسطينيين في كلّ مكان، وكيف ارتفع مستوى التوقّعات السياسية لجمهورهم بالدرجة نفسها.
لقد تطوّرت القصة القصيرة بالعربية، على خلاف الشعر العربي، إبداعاً واعياً متحرّراً فنّياً من القبضة القوية للتراث الشديد الرسوخ. ولكن القصة القصيرة الفلسطينية وجدت نفسها، مع تنامي الوعي السياسي، أسيرة الوضع الوجودي الذي كان يحياه الفلسطينيون، وسرعان ما أوجدت تقاليد تتعلّق بالموضوعات وتقوم على واقع التجربة الفلسطينية، وبذا فقدت جانباً من الحرية التي تتمتع بها القصة القصيرة لا في الغرب وحسب، بل في بقية أنحاء العالم العربي، حيث بقيت القصة أكثر حرّية في اختيار التجارب التي تتناولها.
سميرة عزّام وجبرا
وعندما بدأ كل من سميرة عزّام وجبرا الكتابة كانا ما يزالان يتمتّعان بهذه الحرية رغم أن سميرة عزّام كانت، لما تمتّعت به من نظرة شاملة تجاه التجربة الإنسانية، أكثر تمثيلاً لإمكانات الثقافة العربية الأشمل. ولو قارنا أعمال سميرة عزّام بأعمال جبرا التي تفوقها في التعقيد والمهارة، لقلنا إن جبرا ترجم الواقع، في عدة قصص من عرق، إلى واقع آخر عديم الصلة به في الغالب، بينما بقيت سميرة عزام مخلصة لإمكانات الواقع الحي في العالم العربي، ولكنها ارتقت به إلى مرتبة الفن. إضافة إلى ذلك فإن بعض قصص جبرا في عرق لا تحاول، من الناحية الفنّية، أن تصل إلى لحظة ينحلّ فيها التوتّر، كي ترى العالم في حبّة رمل- كما يقال – بل تسعى، كما في أصوات الليل إلى تقديم نظام كامل من الأفكار في قصة واحدة.أما سميرة عزّام فتمارس الانضباط الناجح الذي تفرضه على نفسها، وهو انضباط يتطلّبه الشكل الفني الجديد – القصة القصيرة في هذه الحالة – ولا بدّ له من أن يكتشف بنفسه قواعده ومبادئه الخاصة به. ويعكس عملها احتراماً عميقاً لأدواتها الفنيّة والتزاماً بمبادئ القصة القصيرة بوصفها شكلاً فنيّاً يسعى إلى الإمساك بلحظة من لحظات الواقع، حيث يصوّر بدقة مرحلة من مراحل الفعل ويحافظ – كما تقول إليزابيث بوون – على التدليل الموضوعي وليس على السّرد الشخصي.(61) إن أعمال سميرة عزّام لا تملك ما لجبرا من بلاغة وتوهّج في الأسلوب أو عمق في الأفكار، وأفضل أعمالها هي التي تصوّر التجارب الاجتماعية الشاملة (والأنثوية منها بشكل خاص)، ولكن حين تتناول التجربة الفلسطينية فإن قصصها القصيرة هي خير ما يمثّل القصة القصيرة الفلسطينية في عقدي الخمسينات والستينات باستثناء قصص غسّان كنفاني.
غسان كنفاني
دخل غسّان كنفاني الحقل الأدبي فعليّاً في أوائل الستينات عندما نشر مجموعته موت سرير رقم 12، وهي مجموعة من سبع عشرة قصة قصيرة. وإذا كانت عبقرية هذا الكاتب قد احتاجت إلى بعض الوقت حتى يتعرّف عليها الناس تعرّفاً كاملاً، فإن ذلك يعكس نواحي الضعف في النّقد الأدبي آنذاك، إذا لم يكتشف ذلك النقد ما كان كنفاني قادراً على تحقيقه من العمق والتنوّع. ومع أن القصص في هذا الكتاب (على غرار المجموعات الثلاث الأخرى التي ظهرت فيما بعد) تتفاوت في النضج الفني، فإن عدداً كبيراً منها يعتبر من أقوى القصص القصيرة في الأدب العربي الحديث مثل موت سرير رقم 12، و لؤلؤ في الطريق، و ثماني دقائق و قلعة العبيد، وستة نسور وطفل و الخراف المصلوبة، و القصة التي أعتقد أنها سيرة ذاتية بعنوان في جنازتي. أما مجموعته الثانية، وهي أرض البرتقال الحزين(1963) فتضمّ عشر قصص، وتركّز على تجربة الفلسطينيين المتنوّعة المصطبغة أبداً بالصبغة المأساوية. وقد اشتهرت الثلاثية المعنوية ثلاث أوراق من فلسطين بوصفها تصويراً لأحداث ممكنة على درب النفي الفلسطيني الشاق. وقد ضــمّت مجموعته الثالثة، بعنوان عالم ليس لنا (1965)، خمس عشرة قصة تكشف عن رهافة حسّه بوصفه مراقباً للسلوك الإنساني في مظهره الشامل، في قصصه المتميّزة من أمثال الصقر و كفر المنجم و الشاطئ وعطش الأفعى و لو كنت حصاناً و المنزلق. أما مجموعته الرابعة بعنوان عن الرجال والبنادق (1968) فق نذرها للتجربة الفلسطينية.
الروايـــة
غسان كنفاني
بدأ الكنفاني الكتابة أثناء اشتغاله مدرساً في الكويت. وفي عام 1959 عاد إلى دمشق، حيث كانت أسرته تعيش منذ شتات عام 1948، ثم انتقل إلى بيروت حيث أصبح المتحدّث باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ومع أنه كان يعاني من مرض السكّري، إلاّ أن نشاطه الكتابي كان بغير حدود، فقد تابع، إلى جانب تحريره لجريدة الجبهة، تجاربه القصصية، ووصل إلى مستويات رفيعة من الإبداع في رواياته القصيرة الثلاث رجال في الشمس(1963) و ما تبقى لكم (1966) و عائد إلى حيفا(1969).
كانت رواية رجال في الشمس(62) أول رواية أكسبته الشهرة بين نقّاد الأدب العربي. والقصة تعالج مشكلة البقاء، إذ يحاول ثلاثة رجال، من أعمار مختلفة ومنابت اجتماعية متباينة، الدخول إلى الكويت (التي كانت آنذاك أرض اللبن والعسل التي تعد بإعاشة الكثير من الفلسطينيين الذين لا مأوى لهم ولا مصدر رزق). وكانت هناك شائعات يتناقلها الناس في العالم العربي عن تهريب فلسطينيين لا يحملون جوازات سفر إلى داخل الكويت في الصهاريج الكبيرة التي تنقل المياه إلى تلك الدولة الصحراوية الصغيرة من البصرة (كانت تلك أيام الكويت الأولى قبل بناء منشآت التحلية الضخمة).
وتتحدث القصة عن واحد من هذه الصهاريج يملكه سمسار اسمه أبو الخيزران، وهو فلسطيني كان قد اشترك في حرب 1948 وأصيب فيها بجراح أورثته العنة. وبعد أن يتقاضى أبو الخيزران أجر باهظاً من أبطال القصة سيئ الطالع، يخبئهم في صهريج الماء الفارغ، قبل الوصول إلى الحدود، بنيّة إخراجهم عند الابتعاد عن شرطة الحدود. غير أن موظّف الجمرك يختار هذه المرة أن يتباطأ في عمله ويهدر وقتاً ثميناً في تبادل النكات مع أبي الخيزران حول مغامرات الأخير المزعومة مع العراقيات. ويختنق الرجال الثلاثة عندما يطول حشرهم في الصهريج اللاهب. وتنتهي القصة نهاية مثيرة للمشاعر، حيث يلقي أبو الخيزران بالجثث الثلاث في المزبلة ( وذلك بعد أن يجرّدهم من كل ممتلكاتهم)، وهو يصرخ: لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ وتؤكد هذه القصة على المفارقة الكامنة في بؤس التجربة الفلسطينية التي أعقبت نكبة 1948 مباشرة وعلى سعي الفلسطينيين المضني من أجل البقاء، وعلى تماثل التجربة المأساوية لدى الجميع لدى اختلاف منشئتهم ومستوياتهم، وفوق كل شيء، تؤكد القصة على ما أصاب روح هؤلاء الفلسطينيين جميعهم من إحباط وكبت نتيجة لما تعرّضوا له من رفض مدمّر وظروف قاسية في هذا العالم العربي الواسع. لذا فقد تركوا الوقت الثمين ينزلق من بين أيديهم، وقد خدّرهم الخوف وهم يتلهّفون على تحقيق حلمهم في الكويت.
هذه القصة الرمزية ذات الأهمية الفائقة، بتصورها المكثّف المليء بالحيوية للعالم المادي والنفسي للفلسطينيين الأربعة، وضعت كنفاني في الحال في طليعة كتّاب القصة في الأدب العربي، والأدب الفلسطيني على وجه الخصوص.
أما روايته الثانية، ما تبقى لكم (63) ، فهي من أبرع ما كتب في القصة الفلسطينية والعربية، وهي محاولة مبكّرة أصيلة، أغلب الظنّ أنها لم تكن واعية، لتحديث الأدب القصصي العربي. ونه لمن المؤسف حقاً أن يموت غسان كنفاني في شبابه ولمّا تندمج بعد هذه الدفقات الحداثية المتقطّعة التي نراها في أعماله في تيّار متجانس ثابت الجريان. ولكن مما يثلج صدر الناقد أن يرى كيف أن كنفاني (وغيره من أوائل الحداثيين أو شبه الحداثيين من أمثال توفيق صايغ ومحمد الماغوط المولود عام 1934) (64) كانوا يجرّبون هذه الوسائل الحداثية بجرأة قبل أن يبدأ الحديث عن الحداثة في الأدب العربي بسنوات طويلة، وما يستوقف النظر أكثر من ذلك أن كتابات هؤلاء المبدعين الثلاثة إلى جانب كتابات الشاعر المصري صلاح عبد الصبور (1931 – 1981)، وهو كذلك من أوائل الحداثيين، لم تحتل هي مركز النقاش عندما غدا موضوع الحداثة موضوعاً رئيسياً في الأدب العربي بدأت بداية مفاجئة لم يجر التمهيد لها بالنظريات أو البيانات – وفي هذا دلالة تكشف أن الفن يعمل بشكل طبيعي في اللاوعي عند الكتّاب المبدعين ويدفع بالمُرهفين منهم نحو الانعطاف في اتجاه معيّن.
أما روايته الثانية، ما تبقى لكم (63) ، فهي من أبرع ما كتب في القصة الفلسطينية والعربية، وهي محاولة مبكّرة أصيلة، أغلب الظنّ أنها لم تكن واعية، لتحديث الأدب القصصي العربي. ونه لمن المؤسف حقاً أن يموت غسان كنفاني في شبابه ولمّا تندمج بعد هذه الدفقات الحداثية المتقطّعة التي نراها في أعماله في تيّار متجانس ثابت الجريان. ولكن مما يثلج صدر الناقد أن يرى كيف أن كنفاني (وغيره من أوائل الحداثيين أو شبه الحداثيين من أمثال توفيق صايغ ومحمد الماغوط المولود عام 1934) (64) كانوا يجرّبون هذه الوسائل الحداثية بجرأة قبل أن يبدأ الحديث عن الحداثة في الأدب العربي بسنوات طويلة، وما يستوقف النظر أكثر من ذلك أن كتابات هؤلاء المبدعين الثلاثة إلى جانب كتابات الشاعر المصري صلاح عبد الصبور (1931 – 1981)، وهو كذلك من أوائل الحداثيين، لم تحتل هي مركز النقاش عندما غدا موضوع الحداثة موضوعاً رئيسياً في الأدب العربي بدأت بداية مفاجئة لم يجر التمهيد لها بالنظريات أو البيانات – وفي هذا دلالة تكشف أن الفن يعمل بشكل طبيعي في اللاوعي عند الكتّاب المبدعين ويدفع بالمُرهفين منهم نحو الانعطاف في اتجاه معيّن.
نستطيع في حالة كنفاني أن نرى كيف أن عبقريته، التي استجابت بشكل مرهف للإمكانات الفنّية التي سادت في أيّامه، كان عليها أن تصارع عبء الالتزام الثقيل، الذي كان يشعر أنه مدين لشعبه بوصفه كاتباً كرّس نفسه لقضيّته، وربما يفسّر هذا ما أُشرتُ إليه من تفاوت في أعماله من حيث الكمال الفني. كما أن المستوى النقدي في تلك الفترة كان ما يزال يؤثر بوضوح فلم تحرز رواية ما تبقى لكم ما أحرزته رواية رجال في الشمس من استحسان، بسبب ما تتصف به هذه الأخيرة من وضوح في تعريفها لفلسفة البقاء وللمفارقة الكامنة في أساس السلوك الإنساني. أما روايته القصيرة الثالثة، وهي عائد إلى حيفا التي تدرس مشكلتي الهوية والانتماء دراسة عميقة، فليست عسيرة على فهم القارئ العادي.
ويبدو أن كنفاني، كان يكتب كما لو كان مدفوعاً بالفطرة ليخاطب عامة القرّاء أحياناً والمثقفين منهم أحياناً أخرى. وتصوّر عائد إلى حيفا مشكلة زوجين فلسطينيين يعودان إلى حيفا عندما تفتح الحدود بين إسرائيل والضفة الغربية بعد حرب حزيران سنة 1967 ليكتشفا أن ابنهما الذي تركاه عندما هربا عام 1948، نشأ إسرائيلياً على يدي زوجين يهوديين. إنها قصة مؤثرة تدور حول الصراع بين الولاءات المتعارضة، ويخيّب الكنفاني توقّعات قرّائه عندما يجعل الشاب يختار البقاء مع أولئك الذين قاموا بتربيته. والمهم هنا، فيما يشير كنفاني،ليس القومية الساذجة بل الصلة التي تدوم مدى الحياة، وليس صلات الدم بل المناحي الثقافية والإنسانية للحياة.
ويبدي كنفاني في مقدّمته القصيرة للرواية ما تبقّى لكم إدراكاً كاملاً للبنية المعقدة التي اختارها، إذ يوجد في الرواية خمس شخصيات رئيسة (أما الجندي الإسرائيلي الذي يظهر في آخر القصة فهو شخصية ثانوية). وهذه الشخصيات هي حامد ومريم وزكريا والزمن والصحراء. وهناك محاولة بارعة وناجحة لدمج الزمان بالمكان، كما يقول المؤلف نفسه: لا يبدو هناك أي فارق بين الأمكنة المتباعدة أو بين الأزمنة المتباينة، وأحياناً بين الأمكنة والأزمنة في وقت واحد. ويصف كنفاني عالم القصة بأنه عالم مختلط لا بد من إعطائه للقارئ دفعة واحدة.
ليس من الواضح إن كان فهم كنفاني ظاهرة المكان، على أنها شيء وجودي حاسم في الحياة الفلسطينية، ينبع من إدراكه للظاهرة نفسها في الشعر العربي القديم، حيث تمثّل الصحراء دوراً رئيساً في ترميز الشاعر لرحلة الإنسان المضنية عبر الحياة. وفي روايتيه الأوليين نجد للصحراء أهمية كبرى في تحديد مصير أبطاله، فالصحراء في رجال في الشمس هي التي تقرر مصير شخصياته بشمسها اللاهبة – التي وصفها ذو الرّمة قبل قرون عديدة بأنها شيء راسخ في السماء تطنّ في رأس المسافر وتسيطر عليه – على أن المسافر عند ذي الرمّة يصل دائماً إلى مبتغاه مهما أضناه السفر وأضعفه، وذلك يرمز إلى قدرة الإنسان على الاحتمال، أما في رجال في الشمس فإن الصحراء والشمس تهزمان الفلسطيني وتقضيان عليه. وفي ما تبقّى لكم يجابه الصحراء ليلاً، واليل ظاهرة مخيفة أخرى للمسافر القديم، حيث تتلفع الصحراء بدثار كثيف من الوديان والهضاب عليها من الظلماء جلّ وخندقُ، وحيث تتجاوب أصداء الليل ويزيد من حدّتها ذلك الصمت الذي يلفّ كل شيء.(65) غير أن كنفاني يجعل الفلسطيني في هذه الرواية القصيرة يواجه مصيره، حيث يستثير لقاؤه بالعدو كل شجاعته وتصميمه، أي أننا نبتعد هنا كثيراً عن القبول الخانع بالموت في صهريج الماء.
ويبدي كنفاني في مقدّمته القصيرة للرواية ما تبقّى لكم إدراكاً كاملاً للبنية المعقدة التي اختارها، إذ يوجد في الرواية خمس شخصيات رئيسة (أما الجندي الإسرائيلي الذي يظهر في آخر القصة فهو شخصية ثانوية). وهذه الشخصيات هي حامد ومريم وزكريا والزمن والصحراء. وهناك محاولة بارعة وناجحة لدمج الزمان بالمكان، كما يقول المؤلف نفسه: لا يبدو هناك أي فارق بين الأمكنة المتباعدة أو بين الأزمنة المتباينة، وأحياناً بين الأمكنة والأزمنة في وقت واحد. ويصف كنفاني عالم القصة بأنه عالم مختلط لا بد من إعطائه للقارئ دفعة واحدة.
ليس من الواضح إن كان فهم كنفاني ظاهرة المكان، على أنها شيء وجودي حاسم في الحياة الفلسطينية، ينبع من إدراكه للظاهرة نفسها في الشعر العربي القديم، حيث تمثّل الصحراء دوراً رئيساً في ترميز الشاعر لرحلة الإنسان المضنية عبر الحياة. وفي روايتيه الأوليين نجد للصحراء أهمية كبرى في تحديد مصير أبطاله، فالصحراء في رجال في الشمس هي التي تقرر مصير شخصياته بشمسها اللاهبة – التي وصفها ذو الرّمة قبل قرون عديدة بأنها شيء راسخ في السماء تطنّ في رأس المسافر وتسيطر عليه – على أن المسافر عند ذي الرمّة يصل دائماً إلى مبتغاه مهما أضناه السفر وأضعفه، وذلك يرمز إلى قدرة الإنسان على الاحتمال، أما في رجال في الشمس فإن الصحراء والشمس تهزمان الفلسطيني وتقضيان عليه. وفي ما تبقّى لكم يجابه الصحراء ليلاً، واليل ظاهرة مخيفة أخرى للمسافر القديم، حيث تتلفع الصحراء بدثار كثيف من الوديان والهضاب عليها من الظلماء جلّ وخندقُ، وحيث تتجاوب أصداء الليل ويزيد من حدّتها ذلك الصمت الذي يلفّ كل شيء.(65) غير أن كنفاني يجعل الفلسطيني في هذه الرواية القصيرة يواجه مصيره، حيث يستثير لقاؤه بالعدو كل شجاعته وتصميمه، أي أننا نبتعد هنا كثيراً عن القبول الخانع بالموت في صهريج الماء.
تدور حبكة الرواية حول عائلة تفرّقت خلال أحداث سنة 1948، فينتهي المطاف بالأخ وأخته في غزّة عند عمّة متقدّمة في السن، بينما ينتهي المطاف بالأم في الأردن.
وتستلم مريم، التي تبلغ الخامسة والثلاثين من عمرها وتكبر أخاها حامد بكثير، لإغراء الجنس، فتنشئ علاقة غرامية مع رجل متزوج معروف بنذالته وتعاونه مع السلطات الإسرائيلية. وعندما يكتشف حامد أن أخته حامل يكاد ذلك يدمّره، فقد لحق العار بشرف العائلة علي يد متعاون مع العدوّ، وهذا ما يزيد الأمر سواءأ. ويكون على مريم أن تتزوّج زكريا، ويقرّر حامد أن يلتحق بأمّه في الأردن تفادياً للعار الذي ألحقته مريم بالعائلة، وذلك بعبور الصحراء المخيفة مشياً على الأقدام في الليل تفادياً للحرارة وللدوريات الإسرائيلية.
ويلجأ المؤلف ببراعة فائقة إلى تقنية غاية في التأثير، إذ يتحدث عن ساعة معلّقة على الجدار في بيت مريم حيث تجلس بالقرب من زوجها مطأطئة الرأس والعذاب يعتصرها، وعن ساعة يد حامد التي يحملها. الأولى توقّت حركة أفكار مريم وذكرياتها المضطربة، والثانية توقّت خطوات حامد عبر الصحراء، والساعتان تقيسان الزمن بدقاتهما التي ترافق الحركات المتزامنة في القصة، ويقصد منهما أن تعبرا عن العذاب المشترك لكلتا الشخصيتين الرئيسيتين مع انتقال السرد من مريم وهي تراقب وتفكّر وتتألّم إلى حامد وهو يواجه الرعب في رحلته بعيداً عن فظاعة الواقع الذي خلّفه وراءه. وهناك قدر كبير من الاستعادة الذهنية خلال موازنة البطلين لوضعهما الراهن مع الماضي المباشر والبعيد. وتتشابك الفترات الزمنية، أما الشيء الوحيد الثابت فهو الصحراء بقلبها النابض الذي يريح حامد رأسه عليه. وتتحدّث في هذا العمل ثلاثة أصوات يشار لها بصريّاً بتغيير حجم حروف الطباعة، وهي أصوات حامد ومريم والصحراء ذاتها. والصحراء تتدخّل لتفسّر اللحظة الراهنة، ولتضيف بعداً آخر للأحداث التي تتألّب على حامد: وكان بعيداً أيضاً عن الطريق، والليل يتسرّب من حوله دون أن يدري. وددت لو أستطيع أن أقول له شيئاً إلاّ أن الصمت هو قدري..
بعدئذٍ تتشكّل خاتمتان معاً رغم البون المكاني الشاسع بينهما: إذ يخيّر زكريّا عروسه بين الإجهاض والطلاق، ويواجه حامد حارساً إسرائيلياً. وتكون مريم تحت رحمة القدر تماماً، إذ تجد نفسها وقد حوصرت وأذلّت وصارت وحيدةً في العالم بعد رحيل شقيقها، وليس لديها من طريقة للحفاظ على الحياة التي تنمو داخلها إلا بقتل الرجل الذي سبّب لها كلّ هذا الأسى. كذلك يدرك حامد أنه لا يستطيع البقاء إلاّ بقتل الجندي الإسرائيلي. وتمرّ فترة طويلة بالغة الأثر وهو يراقب عدوّه، ثم تنغرز سكّينتان: سكّينة مريم وسكّينة حامد، في الوقت نفسه في ضحيّتيهما. ومن الواضح أن حرص كنفاني على اللياقة والتوازن الداخليين يجعله يتردّد قبل أن يسمح لنفسه بقتل الجندي الإسرائيلي، فلا يحصل ذلك إلاّ بعد أن يسمع حامد أصوات جنود إسرائيليين آخرين يقتربون مع كلابهم. الفلسطيني هنا ملاقٍ مصيـــره لا محالة، ولكنه – على الأقل – لا يموت خانعاً، بل يقاوم حتى النهاية.(66)
القصة في الضفة الغربية
هيمنت أعمال جبرا وكنفاني وسميرة عزّام – وجميعهم كانوا يعيشون في الشتات- على ما أنتجه الفلسطينيون في القصة قبل سنة 1967. أما القصة التي كتبها الفلسطينيون في الضّفة الغربية،وهي آنئذ تحت الحكم الأردني، أو التي كتبها الفلسطينيون في خلال الخمسينات، فقد عانت من بعض بوادر الضعف من حيث الشكل والمضمون معاً. إلاّ أن عقد الستينات شهد ظهور عرف قصصي جديد في هاتين المنطقتين تطوّر بعد ذلك خلال سنوات قليلة، وازدهر في أعمال عدد من الكتّاب الذين يتمتّعون بحظ من الشهرة الآن.
في الضفة الغربية اشتهر في الستينات كتّاب من أمثال محمود شقير وخليل السواحري ورشاد أبو شاور ويحيى يخلف. وفي الفترة التي أعقبت حرب سنة 1967، أي بعد أن احتلت (إسرائيل) الضفة الغربية، هاجر العديد منهم إما طوعاً أو قسراً – كما حصل لكلّ من شقير والسواحري اللذين أبعدتهما (إسرائيل) وفي ذلك دلالة على التأثير الذي بدأت تحدثه كتاباتهم في القرّاء من حولهم، وهو تأثير كان في السابق وقفاً على الشعر.
أما في إسرائيل ذاتها فقد ركّز النشاط القصصي في الخمسينات – كما كان حاله قبل سنة 1948 – إما على ترجمة الأعمال القصصية الغربية أو على التقليد المباشر للنماذج الغربية في القصص المؤلفة. لكن أواخر الستينات شهدت ظهور إميل حبيبي، الكاتب السياسي البارز والعضو النشيط في راكاح – الحزب الشيوعي الإسرائيلي – وقد غدا حبيبي فيما بعد واحداً من أشهر كتّاب القصة في العالم العربي – خاصة بعد ظهرة الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل(1974)(67) ، وهي من أكثر الروايات أصالة في الأدب العربي الحديث. ومن الكتّاب الذي ظهروا خلال هذه الفترة توفيق فيّاض ومحمّد نفّاع ومحمد علي طه، وقد ظل هؤلاء الكتّاب، مع آخرين سواهم، يهيمنون على الساحة القصصية في إسرائيل حتى الوقت الحاضر، باستثناء توفيق فيّاض الذي غادرها ليعيش في العالم العربي.
أما في إسرائيل ذاتها فقد ركّز النشاط القصصي في الخمسينات – كما كان حاله قبل سنة 1948 – إما على ترجمة الأعمال القصصية الغربية أو على التقليد المباشر للنماذج الغربية في القصص المؤلفة. لكن أواخر الستينات شهدت ظهور إميل حبيبي، الكاتب السياسي البارز والعضو النشيط في راكاح – الحزب الشيوعي الإسرائيلي – وقد غدا حبيبي فيما بعد واحداً من أشهر كتّاب القصة في العالم العربي – خاصة بعد ظهرة الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل(1974)(67) ، وهي من أكثر الروايات أصالة في الأدب العربي الحديث. ومن الكتّاب الذي ظهروا خلال هذه الفترة توفيق فيّاض ومحمّد نفّاع ومحمد علي طه، وقد ظل هؤلاء الكتّاب، مع آخرين سواهم، يهيمنون على الساحة القصصية في إسرائيل حتى الوقت الحاضر، باستثناء توفيق فيّاض الذي غادرها ليعيش في العالم العربي.
إميل حبيبي
عندما صدرت مجموعة إميل حبيبي الصغيرة من القصص القصيرة، وهي المجموعة المعنونة سداسية الأيام الستة(1968)، أحدثت ضجة في كل من (إسرائيل) والعالم العربي على السواء. والمجموعة مستوحاة من عواقب حرب الأيام الستة في حزيران سنة 1967، حيث احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، فتمكّن الفلسطينيون نتيجة لذلك من السفر في جميع أرجاء بلدهم الأصلي بعد تسعة عشر عاماً من الانفصال. واستطاعت العائلات تلتقي ثانية بأفرادها الذين كانت قد فرّقتهم حرب عام 1948، وأن تستعيد الذكريات والصلات. ويشكّل موضوع لمّ الشمل بعد الفرقة إيقاعاً داخلياً في قصص المجموعة، أو خيطاً يوحّد ما بين هذه القصص المتباينة فيما عدا ذلك. والمجموعة هي بمثابة الموشور الذي تنحفر عليه أوجه متعددة من التجربة ذاتها، كما يثير مشاعر خاصة لا يعرفها إلاّ أناس فرّقتهم هزّات التاريخ الكبرى، ثم وجدوا أنفسهم يقطعون المسافة الزمنية التي فرّقتهم. والزمن في هذه المجموعة متقلّب سيّال: فقد سبّب مأساة الانفصال ولكنه ما يزال قادراً على قلب مسار المأساة بمجرّد استرجاع الأرض، التي احتلّت حديثاً، من براثن الاحتلال، أما الشيء الوحيد الثابت فهو أرض فلسطين ذاتها. ويسعى أبطال القصص المختلفون سعياً دائماً للحصول على جذور متينة تعطيهم الأمان، ولكنهم يعرفون أن هذا الأمان أمل بعيد تحت غيوم الهزيمة والاحتلال السوداء.
غير أن شهوة إميل حبيبي لم تتوطّد في العالم العربي، إلاّ بعد ظهور روايته الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، ثم توطّدت في (إسرائيل) والغرب عندما ترجمت هذه الرواية إلى العبرية وغيرها من اللغات. وقد ظهرت الرواية، أول ما ظهرت، عام 1974، وأعيد طبعها ثلاث مرّات في السنوات الثلاث الأولى، وظهرت مراجعات وتحليلات عنها في العديد من المجلاّت والكتب في العالم العربي وفي إسرائيل. والرواية تتناول أحداث عشرين سنة من حياة فلسطينيين في (إسرائيل) ذاتها، ثم توحّد شقّي فلسطين معاً، كما تفعل مجموعة القصص القصيرة، فيتحد الناس ثانية. والشخصية الرئيسة في الرواية هي شخصية سعيد الأحمق المتشائل، الذي يذكّرنا سعيُه للبقاء حيّاً تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي القاسي، بسعي شفايك في الرواية الشهيرة التي كتبها الكاتب التشيكي العروف باروسلاف هاتشيك بعنوان الجندي الطيّب شفايك(1923). وقد اعترف إميل حبيبي بتأثّره برائعة فولتير الهجائية كانديد (1759)، ولكننا في الحقيقة نجد أن التشابه أكبر مع شفايك، الأحمق الحكيم، ومن الجدير بالذكر أن الفرصة كانت كبيرة أمام إميل حبيبي لاكتشاف شفايك، إذ ذهب للعيش في تشيكوسلوفاكيا – حيث تتمتع الرواية بشهرة كبيرة- عدة مرّات.
وسعيد أحمق حكيمٌ آخر، وبطلٌ كوميدي يعمل جاسوساً لدولة (إسرائيل). لكنه يتحوّل،بفضل غبائه وجبنه وصراحته، إلى ضحية فلا يلتزم بدور الوغد الشرير، بل ينتهي به الأمر إلى قلب دوره ومساندة المقاومة الفلسطينية، إذ أنه لا ينجح تماماً في محاولاته لإرضاء الدولة الصهيونية. وهناك عدة مواقف عشقية في الرواية أشدّها تأثيراً حبّ سعيد الذي لا يموت لمعشوقته الأولى يعاد. ويتزوج المتشائل من باقية ويرزق بولد يسميه ولاء، يصبح مناضلاً من أجل الحرّية ويموت مع أمه أثناء مقاومته للسلطات الإسرائيلية. ويستمرّ سعيد – لحمقه وجبنه – في محاولاته إرضاء الدولة رغم حزنه، لكنّ خطأً غبيّاً يرتكبه يودي به إلى سجن شطّة، أحد أسوأ السجون الإسرائيلية سمعةً، وهناك، حيث يتوقّع منه أن يكون عين الدولة، يضربه الحراس الإسرائيليون ضرباً موجعاً ويلقون به إلى جانب البطل الشاب سعيد بن يعاد. فيعجب سعيد الأكبر سناً بقوة احتمال الشاب بينما يعامله سعيد الشاب الذي يحسب المتشائل رفيقاً في النضال من أجل الحرّية باحترام يليق بالأبطال. لكن سعيداً يجد بعد خروجه من السجن أنه لا يستطيع المضيّ في التعاون مع الدولة، لأن التجربة قد أثّرت فيه تأثيراً عميقاً. والمشكلة التي يعاني منها في النهاية يُرمز إليها بالخازوق الذي يجلس عليه في نهاية الرواية، ولا يخلّصه من هذه الورطة إلاّ حصول معجزة تتّخذ شكل شخصية من خارج عالمنا هذا، شخصية رجل من الفضاء الخارجي.
تتجاوز في هذه الرواية المهمة عناصر الظرف والسخرية، والصراحة المفرطة في بساطتها، والمواربة، والمفارقة والتلاعب بالكلمات. ونجد فيها مقاطع تصوّر أشد تجارب الحياة مأساوية وبطولية: الموت، الاستشهاد، المهمّات الخطرة، المقاومة الباسلة، الإيمان الذين لا يتزعزع. أما التصوير الكوميديّ للأحداث فهو مضحك جداً في بعض المواضع، كما أن الفهم المأساوي البطولي للتجربة، بل حتى لما هو إنساني فقط – كصداقة سعيد التي تدوم طوال الحياة ليعقوب:الجاسوس الإسرائيلي الذي يتكلّم العربية، يتصف برهافة الحسّ وعمق التأثير دون التردّي في الميوعة العاطفية. وتنتهي الرواية باللجوء إلى عنصر الخيال البعيد عن الواقع حيث لا يكون ثمة من مخرج لسعيد إلاّ على يد مخلّص من الفضاء الخارجي، ذلك أن الكاتب يدرك أن البطل الكوميدي لا بدّ له أن ينجو بطريقة ما، إذ لا يمكن تحوله إلى ضحيّة من أجل القضيّة رغم تراجعه عن موقفه الأصلي،وهذا من أفضل ما حققته الرواية من الناحية الفنيّة.(68)
إن الترحيب الشامل الذي لقيته الرواية لم ينشأ بالدرجة الأولى من كشفها عن التجربة المريرة التي يحياها الفلسطينيون تحت الحكم الإسرائيلي (رغم أن ذلك قد زاد في تأثيرها)، فقد نالت الرواية ما نالته من التفريط لأنها مثلت – على المستوى الفني – تحدّياً للنماذج الموجودة من الرواية العربية، ولبراعتها الفائقة في توظيف الأسلوب الساخر الذي تندرج في ثناياه عناصر الكوميديا والبطولة المأساة.
جبرا إبراهيم جبرا
كان جبرا إبراهيم جبرا أول روائي فلسطيني يحقق شهرة في أرض الشتات. وقد تحوّل جبرا، بعد مجموعته من القصص القصيرة في الخمسينات، إلى الرواية، وهي النوع الأصعب في الفن القصصي لأنها الأكثر ملاءمة للتجربة ذات المدى الأوسع والآفاق التي كان يسعى لتصورها،(69) وقد بدأ تجاربه في هذا الشكل الفنّي في الخمسينات، ونشر حتى وفاته في 12/12/1994 سبع روايات، كشفت أولاها، وهي الصراع في ليل طويل (1955)، عن طبيعة فكره ومجال رؤياه، وهما أمران ظلاّ باديين فيما تلا من أعماله.
وكتب روايته الثانية، وهي صيّادون في شارع ضيق بالإنجليزية، ونشرها عام 1960، ثم ظهرت ترجمتها العربية سنة 1974. غير أن سمعة جبرا الروائية توطّدت بعد ظهور رواية السفينة (1970)(70) ، ثم ازدادت رسوخاً بعد صدور البحث عن وليد مسعود (1978)(71). ثم تعاون على كتابة رواية مشتركة مع الكاتب السعودي الأصل عبد الرحمن منيف، وهو روائي كان قد بزغ نجمه مؤخراً(72) واكتسب شهرة في وقت قصير برواياته الجريئة التي تتناول موضوعات سياسية واجتماعية ذات أهمية كبرى،على روايتهما المشتركة عالم بلا خرائط(1982). وقد عانت هذه الرواية – كما هو متوقّع- من الاختلافات الأساسية التي يتعذّر التوفيق بينها في أسلوب كلّ من الكاتبين ورؤيته، كما أنه لا تعد من خبرة ما كتبه أيّ منهما. وكان من أواخر ما قدّمه جبرا في عالم الرواية، رواية الغرف الأخرى (1986)، وهي عمل يقوم على المفارقات الغريبة، حيث يكون فيها هو الشاهد والمتّهم والممثل والمتفرّج، في الوقت نفسه. وتقترب الرواية من الكوميديا السوداء وتقوم على واقع يبدو أشدّ استحالة من الحلم.
العنصر الرئيسي المميّز في روايات جبرا إبراهيم جبرا هو ذلك البيان المتوهّج في أسلوبه. إنه يبدي في رواياته كلها مرونة لغوية فائقة، وطاقة فيّاضة، ونفساً شعرياً مميّزاً، وبراعة كبيرة في اختيار الألفاظ. وبينما يكتب أسلوبه محتفظاً بصفائه وشفافيته، فإن باستطاعته أن يتناول المواضيع الحميمة، أو التي تحتاج إلى أعمال الذهن حسب مقتضيات الموقف، دون أن يفقد طلاقته وكياسته المميّزين. لكن جبرا كاتب حديث، ولذا فهو لا يلجأ إلى الأسلوب البلاغي الفخم في الأدب العربي القديم، لأنّه يدرك أن هذا الأسلوب لا يناسب اللغة الاستطرادية الحميمة للرواية. ومن الملفت للنظر أن شعره النثري لا يحافظ على ما يتصف به نثره من زخم وقوّة اندفاع مدهشين،فكأنه يخشى هنا أن يقوده الموضوع الشعري إلى الميوعة العاطفية، ولذا فإنه يتفادى ما هو عاطفي أو حتّى ما هو حميم، ويستعين بأسلوب خافت نجده، في أغلب الأحيان، جافاً خالياً من الإثارة والإيحاء.
يعزز الأسلوب الفريد في روايات جبرا المغزى الداخلي في تلك الروايات، مما يؤكد أن السمة الخاصة لعقل الكاتب هي ما يميّز اختياره لكل من الأسلوب والموضوع اللذين يجتذب أحدهما الآخر للتعايش معاً. إن أغلب الروائيين العرب يبدون اهتماماً أشدّ بالموضوع منه بالأسلوب، ولو أنّ ثمة كتّاباً آخرين، والحقّ يقال، من أمثال الكاتبين السوريين سليم بركات وحيدر حيدر يمتلكون أسلوباً متميّزاً، لكن يبدو أن هؤلاء الكتّاب لم يكن لهم تأثير واضح على غيرهم من كتّاب العصر. وقد تبيّن في هذا المجال أن النثر أشدّ مقاومة للتغيير من الشعر، فقد انتشر الأسلوب الذي ساد الشعر العربي (ومنه الفلسطيني) طوال الستينات والسبعينات – وهو أسلوب صعب يعتمد على الابتكار ويلجأ إلى الصور المجازية البالغة التعقيد- انتشار النار في الهشيم بين الشعراء الشباب، إذا اعتقد الشعراء أنهم لن ينجحوا إلاّ إذا استخدموا الأساليب الشعرية السائدة في تلك الفترة. أما في القصة فقد حافظ الكتّاب العرب على أساليبهم الخاصة، واختار معظمهم، ومنهم نجيب محفوظ، أبرز الروائيين في العالم العربي، أن يكتبوا بأسلوب سليم واضح، يتصف عموماً بالسهولة والاستطراد، بينما قامت شعبية جبرا في مجال الرواية وعلى براعته اللغوية الفائقة وتدفّق أسلوبه.
ويتناول جبرا في رواياته، كما في قصصه القصيرة، حياة الصفوة من المفكّرين في المقام الأول. وقد يصل ولعه بتفصيل الأفكار (التي كثيراً ما تعكس المشاغل الكبرى داخل العالم العربي) إلى درجة مزعجة من المبالغة والتضخيم، كما يحصل في رواية السفينة عندما يجعل صبيين في الرابعة عشرة من العمر في قدس الثلاثينات يتناولان بالنقاش الفلسفي موضوعات من بينها لوحة لبوتيتشيلي Bottiecelli وكتابات أناتول فرانس Anatole France، مما لا يمكن تصوّر صدوره في ذلك الوقت عن صبيّين في تلك السنّ، خاصة وأن الصبيّ الذي يبدأ الحديث الجدي الذي ينم على معرفة واسعة جداً بموضوع مثل بوتيشلي يعيش في حالة فقر مدقع في أحد أحياء القدس الفقيرة. لكن يبدو أن عادة جبرا في تحويل كل شيء إلى موضوع للنقاش الفكري عادة يصعب كبحها.(73)
السفينة رواية ذات بنية معقّدة، حيث تمزج أحداث الحاضر بماضٍ لا يّمحي ويكمن في الأساس من عواطف أبطال القصة وأحلامهم وطموحاتهم ويأسهم. وتدور الرواية حول تجربة النفي والذكريات والحنين إلى الماضي؛ وحول الصراع الجسدي والنفسي والمأزق الفكري. والزمن في هذه الرواية يستعاد على هيئة ومضات متلاحقة، بحيث يتداخل الماضي بالحاضر ويتحقق الحاضر بقوة الماضي بشكل يعكس حضور الماضي الدائم في وعي هؤلاء الأبطال. نه من غير الممكن تلخيص القصة بأسطر قليلة، حيث إن معظمها متشابك مع الذكريات ومع حبكات فرعية تلتقي كلها لتؤثر في الأحداث وتؤدي دورها في الوصول إلى حل العقدة في نهاية الرواية. وهناك مأساة في الكتاب، إذ تنتحر إحدى الشخصيات الرئيسة في النهاية. غير أن القصة تنتهي بنبرة إيجابية كما أن لو أن الموت شكّل مخرجاً للمؤلف ولبعض الشخصيات الرئيسة الأخرى، فكسّر حدّة المأساة بوعدٍ – وإن لم يكن غير مؤكّد – بحياة أفضل للآخرين.
هناك، من بين الشخصيات الرئيسة في الرواية، ثلاثة من العراقيين هم المهندس عصام السلمان والجرّاح فالح عبد الحسيب والمثقّفة الجميلة لمى. أما الشخصية الرئيسية الرابعة فهو رجل الأعمال الفلسطيني وديع عسّاف الذي يعمل في الكويت. وتتضمّن الحبكة المتشابهة العلاقة بين وديع عسّاف وخطيبته اللبنانية مها الحاج وارتباط الطبيب الجرّاح بعلاقتين ثلاثيتي الأطراف: فهو متزوّج من لمى ولكنه يتبادل الحب مع إميليا فرنيزي، بينما تكون زوجته على علاقة حبّ مع عصام السلمان. وتلتقي هذه الشخصيات جميعاً – باستثناء مها – على ظهر السفينة هيركيوليز، وهي سفينة سياحية تتنقّل ما بين بيروت ونابولي. لكن اللقاء لا يجري عن طريق الصدفة، فقد أقنعت لمى زوجها باصطحابها في هذه الرحلة البحرية عندما علمت أن عصام السلمان سيكون من ركّاب السفينة، بينما كان فالح قد خطّط سرّاً لهذه الرحلة مع إميليا التي كانت بدورها قد أقنعت صديقتها منها (أو هكذا اعتقدت) بالسفر مع خطيبها.
وتكمن خلف كل ذلك الطبيعة المعقّدة لأبطال الرواية الرئيسيين، فعصام هارب من بغداد بسبب عجزه عن مواجهة مشكلتين: زواج لمى الذي يجد أنه لا يستطيع احتماله، وثأر قبلي نشأ عن خلاف على الأرض جعل والده يقتل أحد أقرباء لمى، ويقضي بقية حياته في المنفى. وكان هذا الثأر القديم في الحقيقة هو الذي حال دون زواج عصام من لمى التي كان قد التقاها أثناء دراستهما في إنجلترا، فأدّى ذلك بلمى إلى القبول يائسة بزواج مصلحة ربطها بالجرّاح المبرّر الثري.
أما الفلسطيني وديع عسّاف فإنه يتمسك، إلى جانب حبه لمها، بحلم العودة إلى فلسطين، وإذا كان عصام يهرب من المشكلات التي خلقها نزاع حول أرض ورثها عن أجداده ووجد الحلّ في التخلّي عن ملكية هذه الأرض، وعن الصلات المتعلّقة بها، فإن ما يعطي لحياة وديع معنى وهدفاً هو أمله باستعادة الأرض في فلسطين، وهذا ما يعكس ارتباط ثروة لا بأس بها واشترى فعلاً قطعة من الأرض في فلسطين، حيث ينوي أن يقيم بيتاً كبيراً يعيش فيه مع مها. لكن مها تتردّد في ترك مهنتها الناجحة في بيروت وتعدّه حالماً رومانسياً، وكان الذي دفعها في آخر لحظة ألاّ ترافق وديع في رحلته البحرية هذه، شجار جديد نشب بينهما حول هذه المسألة.
وديع متعلّق كذلك بالذكرى الأليمة لموت صديقه فايز خلال أحداث عام 1948. وكان فايز هذا صبياً موهوباً يحبّ الرسم ويأتي من حيّ من أحياء القدس الفقيرة، وقامت بينه وبين عسّاف الصبي صداقة حميمة، كما حاربا ضد الصهاينة جنباً إلى جنب. وقتل فايز ولكنه ما زال يعيش في ذاكرة صديقه الحيّة، صديقه الذي لا ينسى قط موهبته الفنية، وصداقته الحميمة، أو المعرفة والأفكار الذكية التي كان يكتسبها بسرعة فائقة في قدس الثلاثينات والأربعيات.
تتخلّل الرحلة على الهيركيوليز مواقف متفجّرة، ففي إحدى الأمسيات تثير لمى زوجها إلى حدّ الجنون برقصها على ظهر السفينة فيرغمها على العودة معه إلى القمرة. وتهب عاصفة تصيب الجميع بدوار البحر إلاّ إميليا وفالح ووديع، وخلال هذه العاصفة يدرك وديع أن إميليا وفالح عاشقان (ونحن نعرف أنهما كانا يلتقيان سرّاً من خلال زيارات فالح العديدة لمتابعة الحالات المرضية التي كانت إميليا تتظاهر بها).
وعندما ترسو السفينة في نابولي يخطط أبطال الرواية للذهاب إلى كابري، ولكن يتخلّف البعض عن ذلك، فلمى تدّعي أنها مريضة ثم تذهب خلسة مع عصام إلى نابولي حيث يراهما فالح وإميليا (اللذان كانا يفعلان الشيء نفسه) وكلّ منهما يتأبط ذراع الآخر والسعادة بادية عليهما. وبذا تفسد متعة فالح ويشعر بإحباط وغضب جامحين لعدم تحقيق السعادة المنشودة في اللقاء الذي كان قد خطط له مع إميليا في فندق كان قد حجز فيه غرفة لذلك الغرض. ثم ينتحر عندما يعود إلى السفينة في تلك الليلة.
وتبيّن الرسالة التي تركها للمى قرب علبة الحبوب الفارغة، أن فالح كان قد خطّط لهذا الانتحار منذ مدّة، أي أن القرار لم ينشأ في الحقيقة من الصدمة التي سبّبها له خداع زوجته. ويبدو من النظرة السطحية أن الانتحار لم يكن له ما يبرره على الإطلاق، ففالح يمتلك فيما يبدو كلّ ما قد يرغب به مثقّف عربي يعيش في بلد غني من بلاد الشرق الأوسط في هذه الفترة بالذت: النجاح في المهنة، الزوجة الجميلة، المال، النساء، المركز الاجتماعي. فهذا كان في الواقع حلم الآلاف من المهنيين العرب في تلك الفترة التي تهيأت فيها فرص كثيرة لجمع الثروة، فشاع بين الجميع تعطّش محموم للمتعة والممتلكات الماديّة.(74)
ولكن فالح كان يفكّر في الانتحار منذ مدة(75) وهذا ما يستبعد الظنّ بأن فالح ربما انتحر لمس فجأة – وهو المثقف النكد المتشائم – سخرية الحياة وكيف يمكن للخداع أن يكون سيفاً ذا حدين.
صحيح أن لانتحار ليس أمراً شائعاً لدى العربي، لكن هناك في كل ثقافة من الثقافات من تضرب أمزجتهم ونزعاتهم وتكوينهم الفكري بالقاعدة العامة عرض الحائط. والحقيقة هي أن شخصية فالح وطريقة تفكيره ليستا من النوع الذي اعتدنا عليه، ولذا فقد نتوقّع منه – والحالة هذه – نمطاً سلوكياً يبرز فيه اختلافه برد فعله (غير المألوف في مثل هذه المواقف) لخداع زوجته، خاصة وأنه كان في اللحظة ذاتها يرتكب ذالت النوع من الخداع. أما جنونه السابق إزاء رقص لمى المثير على ظهر السفينة والجميع يتفرّجون بعيون نهمة فإنه – في الأساس – ليس أكثر من الغيرة ونزعة التملّك المعتادين عند الرجل العربي نحو زوجته، سواء أكانت موضع حبه أو لم تكن. ومن المعروف أن استجابة العربي للأمور الجنسية يغلب أن تكون – مهما ارتقت ثقافته – استجابة تقليدية لا تؤدي عادة بالرجل إلى الانتحار بدل الاقتصاص من زوجته. ويؤكد فالح لزوجته، في رسالة الانتحار التي تركها لها، أنه عندما رآها ترقص بتلك الطريقة المغرية أراد قتلها في التو واللحظة، ولكنه تركها وقرّر قتل نفسه. إن هذا التصميم الذي يعكس ردّ فعل غاية في الاختلاف يظلّ أمراً لم يعرضه المؤلف بشكل مقنع.
ولربما كان أكثر إقناعاً، في ضوء الأفكار والسمات التي أضفاها جبرا على شخصية كل ما يمكن أن توفّره الثروة من متع، قد أكّد له عبثيّة حياة (في المراتب العليا من المجتمع العربي ) موقوفة على التفاهات،كما أكّد لها خواءها وعجزها عن الكفاح، ذلك أن جبرا كان قد قدّم هذا الوصف لحياتهما فيما سبق. لكن جبرا خذلنا خذلاناً شديداً عندما لم يعزُ انتحار الطبيب إلى ذلك، بل إلى استجابته شبه الميتافيزيقية إزاء أهواء زوجته الجامحة وإلى الجمال المغناج الذي يمتاز به جسدها الشهواني وهي تعرض مفاتنه على العالم.
ليست السفينة مأساة من الناحية الفنيّة، فلا بدّ للرواية حتى تكون كذلك من أن تركّز تركيزاً أكبر على الشخصية المأساوية وأن تثير فينا إحساساً أشدّ بأهمية هذه الشخصية في سياق العمل كله بحيث نرى أن موت هذه الشخصية له تأثير مأساوي على الأحداث. فالمأساة هي النهاية الحادة الحاسمة التي لا مردّ لها. أما موت فالح فكل ما يمكن أن يحدثه هو تحويل مسار الأحداث نحو الأفضل، كما أنه لا يؤثر مأساوياً على حياة الشخصيات الأخرى. وعلى الرغم من كلّ ما تبديه لمى من حزن، فإن القارئ يعرف أن المستقبل أمامها ملئ بالوعود والإمكانات. أما عسّاف فإن مها، التي انضمّت إليهم الآن تقرر أن الحية معه هي قمة أولوياتها، وتنتهي الرواية بالتئام شملهما السعيد في نابولي.
لكن انتحار فالح يثير الاهتمام من وجهة نظر أخرى، ذلك أن يتضمن تصويراً موضوعياً لشخصية تقع لا خارج نطاق حياة المؤلف وتجربته وحسب، بل تتناقض معهما تناقضاً تاماً. ونلاحظ أن جبرا يميل دوماً إلى تصوير شيء من نفسه في شخصياته الرئيسة مما كان يودّ لو حققه شخصياً. وديع عسّاف في السفينة، ووليد مسعود في البحث عن وليد مسعود، وجميل فرّان في صيادون في شارع ضيّق كلهم فلسطينيون مثله، وهو يصوّرهم جميعاً ناجحين، متحضّرين، مثقّفين، مشحونين بالعاطفة والطاقة، جذّابين محبوبين،وفوق كل ذلك يمتلكون ناصية الحياة. إنهم لا يتصفون بالمناكدة أو الحقد أو اللؤم أو الخبث. أما غضبهم وحزنهم على ما لحق بشعبهم فيتحولان إلى تصميم إيجابي على النضال بشكل أو بآخر، فالفلسطيني الذي يملك قضية يعيش ويحارب من أجلها، ولديه أفق يسعى إلى بلوغه ومعركة يخوضها مع معتد خارجيّ، لا يصوّره الكاتب عدمياً أو انهزامياً، كما أنه أبعد ما يكون عن الرغبة في تدمير الذات. ويعيش هؤلاء الأبطال الثلاثة،كما يعيش جبرا نفسه، في منطقة الخليج ما بين بغداد والكويت فيشتركون في تجربة النفي من المنطقة ذاتها في فلسطين (القدس أو بيت لحم)، كما أنهم يفلحون جميعهم في دخول الصفوف العليا من المجتمع (في بغداد أو في غيرها من مدن العالم العربي)، ويحتفي ثلاثتهم بالنضال الفلسطيني من أجل التحرير) وجميعهم يتمسّكون بحلم كبير: حلم العودة إلى وطنهم المفقود واستعادة الأرض والجذور، كما يحملون في حناياهم مشاعر مسيحية عيمقة يصورها جبرا بلغة فكرية وروحية غاية في الصقل والتألق، مما يعبّر عما تبقّى لديه من شغف بالفلسفة المسيحية التي كان قد تشرّبها خلال نشأته الأولى. وأخيراً يتصف الثلاثة باتقاد العواطف والانجذاب الشديد نحو الجنس الآخر، كما يمتلك بعضهم (كما في حالة مسعود) شهوانية لا ترتوي، لكنها شهوانية مهذّبة ومصقولة في الوقت نفسه.(76)
إن بوسع فالح كذلك أن يظهر عاطفة جيّاشة أحياناً، كما يفعل في رسالة الانتحار الموجّهة إلى لمى حين يصف لقاءه الأول بإميليا، وبعبارات تذكّرنا بتجارب كل من مسعود وعسّاف المفعمة بالعاطفة، ولكنه، خلافاً لهما، يجد أن هذه العاطفة تخذله في بعض الأحيان عندما يقع ضحية الغثيان واليأس الوجوديين، فهو يحمل سمة الإنهاك الروحي العام، إنهاك المثقّفين العرب الذين يشعرون بالعجز التام عن محاربة النظم الرجعية التسلّطية اللامتنورة في بلادهم، ولا أمل لديهم، في المستقبل المنظور، بأي علاج للفوضى وسوء الإدارة المفروضة على عالم عربي ظلّ يعاني، على مدى قرون عديدة، من كل أنواع المؤامرات المحاكة ضد حريته، إذ النضال في ظلّ نظم كهذه ليس سبيلاً إلى الموت وحسب – فللموت نبله وجاذبيته في نظر الثائر – بل هو أيضاً موصوم ومشبوه. إن فالحاً يعاني من شذوذ عن القاعدة يجمّد الحافز للنضال عنده، فهو يعجز من ناحية عن النهوض لمجابهة وحشية السلطة ومن ناحية أخرى يصمّ أذنيه لكي لا يسمع ذلك الكلام الخطابي التعس الذي يملأ العالم من حوله، وفي حالته هذه يدفعه الغثيان إلى طريق مسدود على الصعيدين الفكري والعاطفي.
ولرواية السفينة أهمية خاصة في هذا المجال لما تبرزه من تباين جذري، ولو ضمنياً، بين الشخصية الفلسطينية وغيرها من العرب الآخرين، فالانتحار في النهاية يشير إلى توقّف السعي، ولكن خارج عالم الفلسطينيين. لعلّ جبرا لم يكن قد فكّر واعياً بهذا الأمر، ولكن من المؤكد أنه ما كان ليختار فلسطينياً فيصوّره تائهاً على وشك الانهيار ويجسّد فيه الشكوك والعذابات واليأس كما مثّلها جميعاً عند فالح بذلك الشكل المفجع.
لا تتّسع هذه المقدّمة لبحث مستفيض عن رواية جبرا المهمّة الثانية البحث عن وليد مسعود . يكفينا القول هنا إن هذه الرواية صرح شامخ للأسلوب والأفكار والوطنية والمشاهد العشقية التي يتمكّن فيها جبرا من الارتفاع بالعاطفة والسمو بالعشق رغم انغماس بطله الواضح في الجنس.إن البحث عن وليد مسعود شأنها شأن السفينة، لا تخلو من المآخذ ومع ذلك فإن هذا الروائي الآسر،المتمرّس، المتعدد الجوانب، البعيد الغور قادر دوماً على أن يبعث فينا شعوراً بالإثارة والمتعة، وأن يقدّم لنا حوافز فكرية وجمالية لا تفارق أذهاننا لأمد طويل.
إبراهيم نصر الله
ومن أبرز الروائيين الواعدين في أيامنا هذه (وهو شاعر كذلك) إبراهيم نصر الله، الذي تمثّل روايته براري الحُمّى (1985)(77) تجربة مهمة في الأدب العربي الحداثي.
والقصة تدور حول حياة معلّم عربي يعمل في منطقة من أكثر المناطق نأياً وعزلة في المملكة العربية السعودية (وهو وضع عانى منه مئات المعلّمين). وقصة الأستاذ محمد قصة اغتراب عميق ووحدة موحشة، فهو يعاني من المخاوف المرضية والهلوسة والكوابيس، كما يتعرّض للاستغلال المطلق ويكون الضحيّة على الدوام. وتصف الرواية مكاناً متخلّفاً تخلّفاً ساحقاً، إذ يخلو من ضروريات الحياة العصرية خلوّاً تامّاً، ويسوده ما خلّفته العصور الوسطى من محرّمات وعادات، وتتضافر فيه الأعراف الموروثة والمتّبعة دون أي مرونه مع أجهزة الدولة الصّماء لحرمان الفرد من أدقّ متطلبّات الحياة الطبيعية. وهناك تغيب شخصية المرأة غياباً يبعث الاضطراب العميق، ولذا فإنها تغدو طيفاً لا يمكن الإمساك به، وحلماً مبهماً يستحيل تحقيقه.
ولكن الإنجاز الأكبر لهذه الرواية هو ذلك الترابط بين شكلها ومحتواها، والتوازي الزمني بين أحداثها وذكرياتها وأحلامه. وتشكّل الصحراء، كما في روايات كنفاني، معلماً رئيساً في هذه الرواية، وقوّةً هائلةً تخلخل الزمن وتجعله يتسرّب في كل اتجاه، فيخلط الماضي بالمستقبل، بينما يؤكد على الحاضر الذي يغدو هوّةً مرعبة لا تحتمل، تجثم فوقها الصحراء المجدبة إلى ما لانهاية.إنّ هذه الرواية تصوّر المعاناة الهائلة التي تعرّض لها آلاف الشباب ممن أخذوا يغامرون، منذ اكتشاف النفط، بالذهاب إلى هذه المناطق الصحراوية النائية المنغلقة على نفسها في شبه الجزيرة العربية بحثاً عن لقمة العيش. والرواية محاولة إبداعية فريدة تقريباً (دون السعي لذلك سعياً واعياً) على العلاقة بين المؤلّف وجمهوره الذي يشكّل هو نفسه جزءاً من العملية الإبداعية.(78) إبراهيم نصر الله يمثّل في هذه الرواية القلة من الذين يكتبون دون الانشغال الدائم بجمهور يسعى إلى جلب استحسانه ورضاه. إن هذه الرواية صعبة لا يتضّح منطقها ومغزاها بسهولة عند القراءة الأولى، بسبب أسلوب سردها الذي لا يتتابع في خط واحد، وبسبب منظورها المتعدّد الأبعاد.
سحر خليفة
ولقد كان ظهور روائية في الضفة الغربية، هي سحر خليفة، حدثاً رحّب به الجميع. إن سحر خليفة كاتبة لا يجاريها فلسطيني آخر ممن كتبوا في مقدرتها على استحضار الإيقاعات واللهجات والمفردات وأنماط التفكير عند مختلف طبقات الفلسطينيين من أهالي المدن، العمال البسطاء منهم والمثقّفين على حد سواء. وتكشف سحر خليفة عن قدر كبير من الذوق الفني بتنويعها للغة حسب مكانة الشخصية التي تصوّرها ومستواها التعليمي. أما وصفها لحياة شخصياتها، في منطقة نابلس (مسقط رأسها)، حيث تعيش الشخصيات عادة فيما بينها، فهو وصفٌ ينبض بالحياة وينطبق على الواقع بكل تفاصيله، ولكنه في الوقت ذاته يتم بطريقة فنية تحافظ على الإيجاز والتوتر الضروريين لنجاح العمل الأدبي. وتركّز سحر خليفة على قضيّتين أساسيتين: هما الكفاح الفلسطيني، وكفاح المرأة من أجل التحرّر. وبين الوصف الذي يقدّمه إميل حبيبي لوضع الفلسطينيين تحت الاحتلال داخل إسرائيل نفسها (خاصة في روايتها الصبار 1976(79) و عبّاد الشمس 1982) يكتمل وصف الوجود الفلسطيني المعقّد والمحاصر في الوطن نفسه. وأفضل أعمال سحر خليفة حول المرأة هي رواية مذكرات امرأة غير واقعية (1986)، التي تستقصي فيها مشكلات الطموح عند المرأة والقيود المفروضة عليها، وتستخدم كذلك لغة تناسب حديث النساء من منطقتها، كما تكشف عن القيم الثقافية المتغلغلة في أعماقهن. وتدلّل سحر خليفة، خاصة في عباد الشمس، على علاقة التلاحم الوثيق القائم بين النضال السياسي والنضال النسوي، وتبدي كذلك مقدرة كبيرة على تصوير تلك الشخصيات التي لا بدّ لها – بحكم الظروف المحيطة بها – من تغيير مواقعها، وتلك التي تمثّل أنماطاً ثابة لا تتغيّر، ويمثّل كل من زهدي وأسامة في الصبّار هذين النمطين على التوالي.
أكرم هنيّة
وأكرم هنيّة كاتب آخر يستحق الاهتمام من الكتّاب الذين أُبعدوا من الضفة الغربية المحتلة قبل سنوات، فهو على جانب كبير من الأصالة، ويلجأ، في تصويره للواقع، إلى الرمز والإغراق في الخيال، فيصوّر المسجد الأقصى، أحد أقدس الأماكن في الإسلام، وقد اختفى، في قصته التي اختيرت للنشر في هذا المجلّد بعنوان بعد الحصار، قبل الشروق بقليل. تصف القصة ردود الفعل لدى أنماط عديدة من الناس إزاء هذا الحدث الخيالي. فتبدأ بأن يستيقظ رجل كان قد مات قبل إنشاء دولة إسرائيل بوقتٍ طويل في قصة أخرى، عنوانها تلك القرية، ذلك الصباح(80) ليكتشف أن العالم قد تغيّر جذريّاً منذ وفاته. وتروي القصة العذاب والحيرة عند الاكتشاف البرئ للوضع العربي الإسرائيلي، كما تزوّد قارئها بفرصة تجعله يكتشف من جديد وبدقة معنى العدوان والقهر المنظّمين اللذين يتعرّض لهما الفلسطينيون.
محمود شاهين
أما محمود شاهين فهو كاتب قصّة يعدّ بالكثير، ويختزن في ذاكرته، وهو من أصل بدوي، كل تقاليد المجتمع البدوي البعيد الجذور، وهو يكتب الرواية والقصة القصيرة، ويُبدي ميلاً نجده عند جبرا كذلك، للتعامل مع مجموعة كبيرة من الأحداث المتشابكة والمواقف العاطفية المعقّدة ضمن نطاق قصة قصيرة واحدة. وتتكوّن قصته البديعة نار البراءة(81) من شبكة متلاحمة من العادات والمعتقدات والمواقف التي يبرزها بشكل بارع على مهاد من العواطف العنيفة الفردية والجماعية. وتصوّر القصة الصدام بين العواطف والرغبات المنحرفة من ناحية، والأعراف والمعتقدات السائدة من ناحية أخرى. ففي مقابل الشهوانية المغرية التي تتصف بها الزوجة الجميلة لراع كثير الغياب، هناك العفّة الراسخة التي يبديها الشاب الذي يعجبها، وهو زوج وأب مخلص تكلّفه مقاومته سمعته وسعادته في النهاية، إذ تستدرج المرأة أحد أبناء عمها إلى فراشها، ولكن الزوج يباغتها في إحدى الليالي بعودته المفاجئة، فتجد المرأة فرصتها للانتقام من عليّ العفيف، فتصرخ بأن الرجل الملثّم الذي شوهد وهو يهرب من بيتها ذلك المساء هو علي نفسه وقد جاء لاغتصابها. ومن أشدّ المشاهد إثارة في القصة مشهد يصوّر حماها، الذي يعرف أنها تكذب ولكنه رغم ذلك يخضع لإغوائها، ومع أنه يعاقبها بقسوة على ما يعرف في دخيلته أنها قد اقترفته، فإنه لا يستطيع مقاومة إغرائها وكبح شهوته المستثارة، بل يستجيب إلى ذلك الإغراء برغبة عارمة. أما علي فيخضع إلى امتحان النار ويثبت جُرمه!
وهكذا نجد أن مقاومة علي المتوقّعة للحفاظ على شرف القبيلة ضد الإغراء الطاغي الذي تمارسه الشابة الشبقة والمتعطّشة للحبّ، تقف وجهاً لوجه إزاء السلوك المنحرف الذي يسلكه حموها. والأثر الحقيقي العميق للقصة وتميّزها الفنّي يكمنان في التفاصيل الدقيقة التي تُروى بها الأحداث، وفي التصوير المرهف لردود الفعل النفسية المعقّدة التي تبديها الشخصيات المختلفة. إن القصة تزخر بالأحداث بحيث يمكن تحويلها إلى فيلم من الطول المعتاد، ولذا فهي ليست قصة قصيرة فضفاضة بقدر ما هي رواية شديدة التكثيف تتناول مواقف معقّدة متفجّرة كما يتمثّل فيها إيجاز القصة القصيرة وتوتّرها في آن معاً.
وتضمّ قصة شاهين القصيرة النهر المقدّس، وهي القصة التي يحتويها هذا المجلّد، وصفاً معقّداً آخر لردود الفعل عند هذا المجتمع البدوي الفلسطيني ذاته الذي يظهر في العديد من قصصه المتعلّقة بالاحتلال الإسرائيلي بعد حرب حزيران سنة 1967. والقصة مأساة، تصف، بشكل مؤثر جداً، الحياة تحت الحصار، وهي تجربة جديدة هنا تمثّل البدو الفلسطينيين تحت الاحتلال الصهيوني وقد أصبحوا مكبّلين بقيود جديدة ونزعت عنهم تلك الحرية الرائعة التي تمتّع بها المتبقّون من المجتمع البدوي القديم، الذين ما يزالون يعيشون أحراراً طلقاء في أقطار عربية شرقي البحر الأبيض المتوسط. وقد ظلّت هذه البقية، بانعزالها الأبي عن المشاغل الدنيوية لسكّان الأرياف والمدن في العالم العربي، تتمتّع بحياتها الخالية من التعلّق بالأشياء ومن الدسائس السّياسية والمطامح المتناحرة والسعي المحموم وراء الثروة والتملّك. أما الآن وقد خضع هؤلاء للحكم الإسرائيلي، فقد وجدوا أنفسهم ضحيّة محزنة لنظام جديد كسر شوكتهم وحرمهم من حريتهم النبيلة السابقة كما أفسد بعض أفرادهم.
يحيى يخلف
لا يسمح المقام هنا بالتحدّث عن كثير من كتّاب القصة الفلسطينيين الذين تزداد أعدادهم باطّراد. لقد أنتح يحيى يخلف في أعماله التجريبية، في مجال القصة القصيرة والرواية، كتابات بالغة الرهافة رغم تفاوت مستوياتها. تقدّم لنا قصته تلك المرأة الوردة صورة محبّبة لعلاقة تقوم بين صبي وامرأة شابة جميلة ترعاه وتدعمه في عمله، ولكنها تقع، بسبب فقرها، ضحية الظلم والاستغلال، دون أن تفقد كرامتها وعزمها على المقاومة.
ويحيى يخلف هو أول فلسطيني يتجاوز حقاً مجال السياسة الفلسطينية الحالي ليصف عمليات الانتقام المرعبة التي تمارسها النظم القمعية الأصولية في بعض الأقطار العربية ضدّ من يثورون عليها. فهو يقدّم في روايته المعروفة نجران تحت الصفر (1975) وصفاً دقيقاً حيّاً، لا مثيل له في الأدب العربي الحديث، لعمليات قطع الرؤوس شبه الشعائرية لمجموعة من الثوّار في نجران.
أدب الداخل والشتات في السنوات الأخيرة
ومن الخصائص البارزة في الأدب الفلسطيني، خلال السنوات الأخيرة، سواء ما كُتب منه في الشتات أو داخل الوطن، قلّة التعامل مع القضايا العربية الكبرى، وهو وضع ازداد وضوحاً مع مرّ السنين (لم تكن هذه هي الحال في الخمسينات والستينات، حينما كانت استجابة الشعراء الفلسطينيين تحديداً لأحداث العالم العربي لا تقلّ عن استجابتهم للتجربة الفلسطينية)(82) وتبرز هذه الخصيصة بشكل خاص عندما يتعلّق الأمر بأقطار الخليج حيث ذهب الفلسطينيون، مع غيرهم من العرب، ليعملوا في حقل التعليم أو في إرساء البنية التحتية في الأقطار التي اغتنت حديثاً وأيقظها مجيء النفط على العالم الحديث.(83)
وقد أخذ الأدب الفلسطيني ينكفئ نحو الذات أكثر مع تفاقم الأزمة الوطنية بعد حرب حزيران سنة 1967، لكن كتّاب الشتات الذين كانوا يعيشون في أقطار مثل العراق ولبنان ظلّوا على علاقة أوثق بما يجري في البلاد التي يعيشون فيها.فروايات جبرا مثلاً تصور مجموعة متنوعة من المثقفين من لبنان والعراق، كما تصوّر ليانة بدر، في مجموعتها الجميلة بأجزائها الثلاثة، شرفة على الفاكهاني (1983) ثورياً تونسياً يعيش في بيروت، ويحارب، ويموت من أجل القضية الفلسطينية. (84) ويقدّم لنا رشاد أبو شاور في مذكراته عن الغزو الإسرائيلي عام 1982، التي عنوانها آه يا بيروت!(1983)، شخصيات من أقطار عربية وغير عربية. وتتضمن هذه الأعمال شعوراً بالتماثل مع العرب الآخرين، وليس مع قوميات عربية معيّنة وحسب. ومن الواضح أن الكتّاب الفلسطينيين،سيظلون يشعرون بهذا التماثل مع الثوريين والفقراء والمنفيين، وكذلك مع المثقفين كما في أعمال جبرا. ولكن على الرغم من أن كتّاباً فلسطينيين كثيرين عاشوا وعملوا في أقطار الخليج لسنوات عديدة فإنهم لا يشعرون بالتماثل مع مواطني هذه الأقطار التي اكتسبت الغنى حديثاً. وما يقدمونه من صور عن الحياة في الخليج تظلّ صوراً سلبية على الدوام. الكتّاب القلائل، الذين تضمّنت رواياتهم شخصيات من تلك المنطقة،يصوّرون تلك الشخصيات متخلفّة ثقافياً عن سواها. ذلك ما نجده مثلاً في رواية إبراهيم نصر الله براري الحُمّى، حيث يحيط بالشخصية الرئيسة عالم من الجهل والقسوة والتخلّف، وكذلك الأمر في رواية يحيى يخلف نجران تحت الصفر.
مريم قاسم السعد
ومن الأمور التي تبرز، عند القراءة المتأنية لأدب الشتات، انعدامُ الارتباط بالأمكنة الجديدة التي نزل فيها الفلسطينيون في أيّ مكان خارج وطنهم، فهذه الشاعرة مريم قاسم السعد، التي تعيش في الولايات المتحدة، تصوّر الشوق الأبدي للجذور، وتقول في قصيدتها القصيرة رؤية:
السنون تمضي
والانتظار يستمر
والإيمان الواثق يبقى
هالة تضيء الأجيال
الرؤية تبقى حية.(85)
لكن قد تكون بيروت وصيدا وصور وبقية الجنوب اللبناني استثناءاً لأنها كثيراً ما تذكّر بمحبّة ومودّة. أما عمّان، حيث جرت الحرب الأهلية في أيلول عام 1970 (أيلول الأسود) فإن اسمها في الذاكرة مقترن بتجارب مؤلمة، والإشارات الإيجابية للقاهرة أو دمشق أو بغداد قليلة في هذا الأدب.
موقف الكتاب الفلسطينيين من المدينة
ومما يتّصل بهذا البحث أن نتحدّث عن موقف الكتّاب الفلسطينيين من المدينة بشكل عام. إن المدينة ولتركيز على ما فيها من نواح سلبية موضوع بارز في الأدب العربي الحديث، خاصة في الشعر. ليس بالإمكان التوسّع في هذا الموضوع الغني هنا، لكن هذا الموضوع أضحى جزءاً من الاتجاه الحداثي منذ أن صب السيّاب جام غضبه على المدينة في الخمسينات واصفاً شوارعها:
وتلتفت حولي دروب المدينة
حبالاً من الطين يمضغن قلبي.
إلى أن يقول:
ويمناي لا مخلب للصراع فأسعى بها في دروب المدينة
ولا قبضة لانبعاث الحياة من الطين
لكنها محض طينة(86)
والمدينة هنا جدار صلد لا يمكن اختراقه، ومتاهة يضيع الشاعر في دروبها، وقد رأى فيها الشعراء آخرون مكاناً للرشوة والفساد والانحلال الاجتماعي والتآمر السياسي.
إنها أرض مليئة بالصبار، أو مطحنة، أو مفازة، أو مجرى قاذورات ليس له قرار، وغربة الشاعر فيها كاملة. كان هذا الموضوع من أبرز ما تناوله الشعر الحداثي، حيث امتزجت تجربة الشاعر عموماً في المدينة المخيفة بالتجربة الجماعية الساعية إلى فهم أعمق لمعنى الصراع بين المدينة والريف.
أما الاستثناء الوحيد لهذا الموقف من المدينة فنجده في الأدب الفلسطيني، فالمدينة الفلسطينية لم تكن يوماً ثمود أو سدوم أو عمورة، كما لم تكن يوماً مصدر تهديد أو مستودعاً للقذارة والفساد، بل كانت دوماً المدينة الضحيّة، ولم يكن الناس فيها يشعرون بالاغتراب والاستلاب لأنّها إمّا مدينة محاصرة يحتلها الغاصبون، أو مدينة فقدها أهلها وفي كلا الوضعين لا يمكن أن يكون ثمة اغتراب. والرعب المتصل بالمدينة الفلسطينية رغبٌ خارجي لا يصيبها على أيدي بنيها كما يحصل في المدن العربية الأخرى، بل تصيبها قوى خارجية معتدية. وهي ليست مدينة ضحية فقط، بل هي أيضاً مكان للبطولة، وموطن للمقاومة والنضال الوطني. ففي إحدى قصائده يصوّر راشد حسين (1936 – 1977) مدينة القدس وقد دقّت فيها ساعة المقاومة معلنة ميلاد الحقيقة. (87) ويصفها سميح القاسم في الأبيات التالية:
وعلى منعطف الشارع،
في أقصى المدينة
كان أطفال التواريخ الحزينة.
يجمعون الكتب والأخشاب واليتم،
البراويز، وأوتاد الخيام
علّها تصبح متراساً
يسدّ الدرب في وجه الظلام.(88)
هذه ليست مدينة الهزيمة التي تسكن بقية الشعر العربي، بل هي مدينة المقاومة بعد الهزيمة التي تفجّرت برقوقاً كما قول محمود درويش، ويضيف:
قفي ملء الهزيمة يا مدينتنا النبيلة....
قد صار للإسمنت نبضٌ فيك
صار لكل قنطرةٍ جديلة.(89)
ولا يرى محمود درويش ذلك في مدينته وحسب، بل يراه كذلك في بيوت:آخر معقل وآخر ملاذ لشعب حرم الأمان في مدنه. أما جبرا، فبعد هجومه الأوّلي على المدينة، كما رأيناه في قصصه القصيرة، نجده يصوّر القدس في روايته مدينةً محبوبةً رائعة، كما نجد أنه لم يعد يرى المدن العربية الأخرى، مثل بيروت وبغداد، أماكن اغتراب واستلاب.
والأدب الفلسطيني في الشتات يعبّر عن إحساس عميق بالمكان وعن ارتباط به غالباً ما يصوّر في مواجهة مشاهد من المنافي. وعندما يركّز الكتّاب على استعادة مكان ثابت – قراهم أو مدنهم – فإنهم يفعلون ذلك على مهاد متنقّل من المنفى يطفو في عالم كثيراً ما يتسّم بالعداء، ونرى في هذا الأدب صورة متّصلة لمكان معرّض للمخاطر يتحرك فيه الشاعر أبداً نحو مكان محدد في وطنه الأصلي يجد فيه الأمان والاستقرار المنشودين. يستحضر ذلك أيضاً لمحات من الشعر العربي القديم، حيث يصوّر الشاعر الصحراء التي لا حدود لها تصويراً حيّاً يبعث الرهبة في النفوس – فهي مكان خطر مترامي الأطراف ملئ بالغدر ومشبع بحرارة الشمس المحرقة – ولكنه يؤدي بنا في نهاية المطاف إلى المكان المنشود. أما الآن فإن الشعراء يشبّهون الصحراء الشاسعة بالشتات، حيث يتحتّم على الفلسطيني المنفي أن يقتطع لنفسه وجوداً بانتظار العودة إلى تلك البقعة الصغيرة الثابة على الخريطة، وتفصل بين المكانين مخاطر وأهوال الرحلة المضنية عبر القفار.
وهناك في الشعر صور جديدة تظهر بسبب استمرار التنقّل بين المنافي وتوحي بانعدام المكان عند الفلسطيني، ويصف محمود درويش هذه الحالة من الوجود / اللاوجود بهذه الأبيات المعبّرة:
أعدّ لسيدتي صورتي
علّقيها إذا متّ فوق الجدار
تقول: وهل من جدارٍ لها؟
قلت: نبني لها غرفةً.
-أين ؟ في أيّ دار؟
أقول: سنبني لها دارها.
-أين ؟ في أيّ منفى؟(90)
ويضيق المكان أمام الفلسطيني بشكل مخيف، في الشعر الذي أعقب سنة 1982، أي ما كتب منه بعد الغزو الإسرائيلي للبنان والخروج الفلسطيني من بيروت بحيث علينا كما يقول محمود درويش، أن نخلع أعضاءنا كي نمر. ويصوّر محمود درويش في شعره حالة من الوجود المخنوق، كما يفعل الشيء نفسه زكريا محمد ومريد البرغوثي وعبد اللطيف عقل وغيرهم، إذ يصوّرون الفلسطينيين وهم يحتشدون في المطارات ويبحثون عبثاً عن مكان صغير يتمّمون فيه زواجاً، أو يواصلون السفر إلى ما لانهاية في قوافل متلاحقة مع أطفالهم وصرر ملابسهم، كما يموتون دون رؤية أحبابهم،ويعانون من الوحدة والوحشة والحر الحارق للحصول على لقمة العيش في أحد منافي هذا العالم الواسع.
الشعر بعد سنة 1967
الشعر الفلسطيني في الثمانينات والحداثة
يزخر المشهد الأدبي الفلسطيني بفيض من الشعراء، وعلى الرغم من التطوّر المستمر للفن القصصي الفلسطيني، في المناطق المختلفة التي يعيش فيها الفلسطينيون (الأراضي المحتلة وإسرائيل، وعالم الشتات الشاسع المنتشر والآن، دولة فلسطين)، وعلى الرغم من المستويات العالية التي تبلورت في الشعر. فقد بلغ الشعر الفلسطيني في الثمانينات، من حيث الكم والكيف معاً، مستويات لم يبلغها من قبل. لكن هذا النجاح لم يتحقّق أخيراً إلاّ بعد فترة من المحاولات الفاشلة خلال عقد السبعينات على أيدي عشرات الشعراء. وحتى الإنجاز الذي حققه محمود درويش، وبلغ ذروته في السبعينات، فإنه، رغم كل غناه وقيمته الفنية، لم يكن كافياً لتخفيف الوضع الذي كان يعاني منه الشعر الفلسطيني (والكثير من الشعر العربي) في تلك الفترة، فقد مرّ الشعر الفلسطيني، بين إنجاز شعراء الخمسينات والستينات وإنجاز شعراء الثمانينات، في مرحلة من الاضطراب،وخاض تجربة شاعت شيوعاً شاملاً ومحموماً، فظهر عدد كبير من الشعراء في حقبة السبعينات سرعان ما أفل نجمهم، وإن يكن قد بقي لبعضهم شهرة فإنما يرجع ذلك إلى التزامهم بالموضوع السياسي والهموم الوطنية. هذا وضع يستحق المزيد من الإيضاح.
هناك نقطتان رئيستان يجب النظر فيهما عند البحث في شعر السبعينات، تتعلّق الأولى بجمالية القصيدة، وتتعلّق الثانية بدلالاتها المعنوية. أما النقطة الأولى فمصدرها تلك المغامرة الكبرى التي خاضها الشعر العربي بأسره (بما في ذلك الفلسطيني) في مجال اللغة والصورة في تلك الفترة. فقد أخذ الشعر يستقصي الإمكانات المجازية في الشعر العربي بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخه الطويل، حتى في التجارب الفائقة البراعة التي قام بها الشعراء العباسيون والأندلسيون في العصور الوسطى، وقد تزعّم هذه المغامرة الشاعر السوري أدونيس، الذي فجّر في أوائل الستينات القوة الكامنة في الصورة الشعرية وأبدع صوراً مضيئة ومعقّدة كثيراً ما باعدت بين طرفي التشبيه. وقد أصرّ أدونيس على الطرافة والجدّة وسعى نحو الغرابة، وأبدى مهارة فائقة في اقتطاف المجازات من جميع مناحي الحياة، فغدت تجربته محطّ نظر العديد من الشعراء الشباب، وانتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم، فغدا الابتكار في اللغة والصورة هدفاً يقصد لذاته في كثير من الأحيان. وكانت هذه التجربة في أحسن حالاتها تجربة مركزة تتجنّب التعبير المباشر وتنأى عن الأشكال المرئية في محيط الشاعر، وكانت المجازات فيها ضرورات جمالية تتطابق مع رؤيا الشاعر الخاصة. وهكذا بدأت فترة من الحرص الواعي على الناحية الجمالية اتصفت بدرجة عالية من التّأنق المتعمّد. هذه الخصائص الحداثية المحددة تكون أكثر وضوحاً في الفنون المرئية، لكنها تظهر في الشعر في طريقة التعامل الجريئة مع الصورة، حيث لا يقصد من الصور تمثيل الواقع بل بلورة الصور وتحقيقها لذاتها وفي الشكل الذي أبدعت فيه، وذلك يختلف عن الاستعمال التقليدي للصورة في الأدب الواقعي، حيث استعملت إما للزينة أو لدعم المقصد الدلالي المباشر للقصيدة.
هناك نقطتان رئيستان يجب النظر فيهما عند البحث في شعر السبعينات، تتعلّق الأولى بجمالية القصيدة، وتتعلّق الثانية بدلالاتها المعنوية. أما النقطة الأولى فمصدرها تلك المغامرة الكبرى التي خاضها الشعر العربي بأسره (بما في ذلك الفلسطيني) في مجال اللغة والصورة في تلك الفترة. فقد أخذ الشعر يستقصي الإمكانات المجازية في الشعر العربي بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخه الطويل، حتى في التجارب الفائقة البراعة التي قام بها الشعراء العباسيون والأندلسيون في العصور الوسطى، وقد تزعّم هذه المغامرة الشاعر السوري أدونيس، الذي فجّر في أوائل الستينات القوة الكامنة في الصورة الشعرية وأبدع صوراً مضيئة ومعقّدة كثيراً ما باعدت بين طرفي التشبيه. وقد أصرّ أدونيس على الطرافة والجدّة وسعى نحو الغرابة، وأبدى مهارة فائقة في اقتطاف المجازات من جميع مناحي الحياة، فغدت تجربته محطّ نظر العديد من الشعراء الشباب، وانتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم، فغدا الابتكار في اللغة والصورة هدفاً يقصد لذاته في كثير من الأحيان. وكانت هذه التجربة في أحسن حالاتها تجربة مركزة تتجنّب التعبير المباشر وتنأى عن الأشكال المرئية في محيط الشاعر، وكانت المجازات فيها ضرورات جمالية تتطابق مع رؤيا الشاعر الخاصة. وهكذا بدأت فترة من الحرص الواعي على الناحية الجمالية اتصفت بدرجة عالية من التّأنق المتعمّد. هذه الخصائص الحداثية المحددة تكون أكثر وضوحاً في الفنون المرئية، لكنها تظهر في الشعر في طريقة التعامل الجريئة مع الصورة، حيث لا يقصد من الصور تمثيل الواقع بل بلورة الصور وتحقيقها لذاتها وفي الشكل الذي أبدعت فيه، وذلك يختلف عن الاستعمال التقليدي للصورة في الأدب الواقعي، حيث استعملت إما للزينة أو لدعم المقصد الدلالي المباشر للقصيدة.
وكان مما ساعد على انطلاق هذه التجربة أن شعر الستينات، الذي ورث كل تلك التجارب المتنوعة التي ظهرت خلال العقود الستة التي سبقته، من الكلاسيكية المحدثة مروراً بالرومانسية والرمزية والواقعية المحدثة وبعض المحاولات السريالية، قد اكتسب من المرونة ما جعله يتقبّل المغامرة الجديدة. وبغض النظر عن نجاح الشعراء أو إخفاقهم فإنهم أصبحوا الآن قادرين على تشكيل المادة التي بين أيديهم وعلى اللعب باللغة والصورة دون مقاومة من الأدوات الشعرية ذاتها، التي اتضح أنها صارت في غاية الطواعية، ودون أن يعيقهم أي تقديس واع للأعراف والأساليب الشعرية الموروثة التي كانت قد اهتزّت وفقدت ثباتها القديم.
ومما ساعد على رسوخ التجربة أن لغة أدونيس حافظت، رغم مفرداتها الجديدة الخلاّقة، على صلاتها الكلاسيكية القوية ولعى جرس اللغة الشعرية القديمة وجزالتها وبلاغتها العميقة.
ورغم النزوع السائد بين الشعراء عامة إلى رفض القديم فإنه لا شكّ في أن الشغف الموروث برفعة اللغة ورقيها لم يختف قط، ولذا لم يشعر الشعراء والنقّاد من ناحية، والقرّاء المثقفون من ناحية أخرى (كان تعقيد الشعر عقبة أمام القارئ العادي)، بأن الشعر قد اجتثّ تماماً من جذوره كما لا بدّ أنّهم شعروا لدى قراءة شعر صلاح عبد الصبور، على سبيل المثال، وذلك بلهجته التي غالباً ما تقترب من لهجة الحديث العادي، وبلغته غير المشرقة والقريبة من اللغة المحكية.
كان أدونيس قد بدأ – كما سبق أن ذكرت – بالدعوة منذ مطلع السبعينات إلى مذهب الحداثة الذي اجتذب الشعراء المعاصرين بشدّة. وليس من شك على الإطلاق – كما سبق ذكره كذلك – في أن المغامرة التي أقدم عليها أدونيس في اللغة والصورة، إضافة إلى رغبته في التدمير ودعوته للتخلّي عن المفاهيم والأساليب الشعرية القديمة، كانت مظاهر حداثية حقيقية.
لكنني أودّ أن أعيد القول هنا ولو أني أجازف بالتكرار – إنه كان يجب على أي حركة حداثية ذات قيمة في العالم العربي أن تؤكده، قبل كل شيء، التحوّل في نظرة الشعراء العرب المحدثين للعالم تحوّلاً موازياً للثورة الجمالية في الشكل واللغة الشعرية والصورة. كذلك كانت هناك حاجة ملحّة للتغيير في كل من لهجة الشاعر ونظرته لنفسه رجلاً كان أو امرأة. ورغم كل المحاولات لاكتشاف لغة شعرية جديدة فإن جانباً كبيراً من هذه اللغة، خاصة لغة الروّاد في الخمسينات، من أمثال أدونيس وخليل حاوي، ظلّت كما يقول رتشرد شبرد RICHARD SHEPPARD - وسيلة لتأكيد السيادة الإنسانية(91) وقد ظلّ العديد من هؤلاء الشعراء، يحسبون أنفسهم أبطالاً منقذين ومحرّرين يمكنهم الوقوف خارج المجتمع وإصدار الحكم عليه كما لو أنهم ليسوا هم أنفسهم من نتاج الزمن الذي استنكروه، وقد وصف ستيفن سبندر STEPHEN SPENDER هذا النوع من الشعراء وصفاً ملائماً عندما قال إنهم يجسّدون الأنا الفولتيرية، أي اليقين بأنهم يقفون خارج عالم الظلم واللاعقلانية الذي يحكمون عليه حكماً جلياً، بينما تتعرّض الأنا الحداثية الحقيقية لتأثيرات عصرهم ويقاومونه فهم إنما يحملون قواه المدمّرة في داخلهم،(92) ولذا فإن الحداثة لم تتحقّق على يد المجموعة الأولى بشكل جزئي.
وقد غذّى وضع الحداثة الجزئية هذا عاملٌ آخر بعيد الأثر عن عوامل تطوّر الشعر الفلسطيني المعاصر في السبعينات، ألا وهو ظهور المقاومة الفلسطينية. لقد ظلّ شعر المقاومة جزءاً من الشعر العربي منذ بداية هذا القرن، ولم يظهر أي شاعر له وزن – باستثناء الرمزيين الأوائل، وبعض الرومانسيين في العشرينات والثلاثينات (وليس كلهم ) – دون أن يشارك في جوقة المنشدين تعبيراً عن الاحتجاج والرفض. لكن موضوع المقاومة الذي كان واحداً من المواضيع المهمة في الشعر الفلسطيني في الخمسينات، غدا هو الموضوع الرئيس في السبعينات.
ويعود ذلك إلى الاكتشاف المنعش في النصف الثاني من عقد الستينات عن حركة قوية نامية من شعر المقاومة تعود إلى شعراء يعيشون داخل إسرائيل،وقد ساعدت نبرتهم العالية المليئة بالتحدّي وجلدهم الصامد في إعادة الروح لعالمٍ عربي أحسّ بالغدر بعد هزيمة عام 1967. ومن الأمثلة الدّالة الحوار الشعري الذي جرى بين فدوى طوقان ومحمود درويش، فقد ذهبت فدوى طوقان إلى إسرائيل عندما رُفعت قيود الحدود بعد احتلال إسرائيل لما تبقّى من فلسطين في حرب سنة 1967، التقت هناك بالشعراء الفلسطينيين، وكتبت لهم بعد ذلك قصيدة مشحونة اختلط فيها الأسى بالأمل، فكتب محمود درويش قصيدة من أجمل ما كتب قبل مغادرته إسرائيل للعيش في العالم العربي، يقول فيها مخاطباً فدوى طوقان:
نحن في حلٍّ من التذكار
فالكرمل فينا
وعلى أهدابنا عشبُ الجليلِ
لا تقولي: ليتنا نركضُ كالنهر إليها،
لا تقولي!
نحنُ في لحم بلادي .. هي فينا!
لم نكن قبل حُزيران كأفراخ الحمام.
ولذا لم يتفتّت حبّنا بين السلاسل.
نحنُ يا أختاه، من عشرين عام
نحنُ لا نكتبُ أشعاراً، ولكنّا نقاتل(93)
وتعزّز هذا الشعور كذلك بظهور المقاومة الفلسطينية في أواخر الستينات، مما أعاد الأمل والثقة من جديد بعد فترة من التشكك والتبلّد والرفض الغاضب لكل مقومات المجتمع العربي. ووجد الشعراء الفلسطينيون أينما كانوا متنفّساً رائعاً في تكرار موضوعات المقاومة التي عبّرت عن إيمان راسخ بنتيجة النضال وبضرورة النهوض من أجل الحصول على الحقوق المغتصبة.
اختفت آنذاك معظم الموضوعات الأخرى من الشعر الفلسطيني. واحتاج الوضع النفسي العام في عقد السبعينات إلى الإنقاذ عن طريق التركيز على موضوع المقاومة، خاصة بعد الحرب الأهلية في الأردن عام 1970، التي أودت بحياة آلاف المقاتلين والمدنيين الفلسطينيين كما أدّت إلى طرد المقاومة من ذلك البلد. غير أن هذا الانشغال شبه التام بموضوع المقاومة كان لا بدّ من أن يثير المصاعب على المستوى الفني، وكان أحد هذه المصاعب خطر وقوع الشعر ضحيّة للتكرار في موضوع لا تسمح طبيعته نفسها (المقاومة، والتجديد،(94) وكان هذا الخطر كبيراً حقاً في ضوء بروز أعداد لم يسبق لها مثيل من الشعراء الفلسطينيين في أرجاء العالم العربي كافة. لكن الشعراء قاوموا هذا الخطر غريزياً وركّزوا جهودهم على الجدّة والطرافة إن لم يكن في الموضوع ففي استخدام الصورة واللغة الشعرية.
ولم تشهد أي فترة من فترات الشعر العربي مثل هذه الرغبة العارمة في حشد هذا الكمّ من الصور الشعرية المنتقاة غير المألوفة في القصيدة الواحدة. فابتُكرت آلاف الصور التي نحتها خيال عشرات الشعراء، من الفلسطينيين وغيرهم. ولم يتركوا حقلاً دون أن يتحرّوه مجازياً، فراحوا يستدعون الطبيعة بأسرها والتاريخ برمته بل والحياة بكاملها، لتعينهم في نحت صورهم المعقّدة. لكن هذه الجرأة الفنية لم تتحلّ دائماً بالمسؤولية، أو أنها لم تتكلّل دائماً بالنجاح الفني، فما أكثر الصور التي بدت مفتعلة، ناشزة، أو مجانية للصواب كلّياً، أو على الأقل زائدة تماماً عن الحاجة. ومما زاد المشكلة تعقيداً، تلك النزعة الجارفة، في العديد من هذه الصور، إلى إبعاد الصورة عما تشير إليه (أي أنه يكون كلّ من طرفي الصورة بعيداً كل البعد عن الآخر).
ولم تشهد أي فترة من فترات الشعر العربي مثل هذه الرغبة العارمة في حشد هذا الكمّ من الصور الشعرية المنتقاة غير المألوفة في القصيدة الواحدة. فابتُكرت آلاف الصور التي نحتها خيال عشرات الشعراء، من الفلسطينيين وغيرهم. ولم يتركوا حقلاً دون أن يتحرّوه مجازياً، فراحوا يستدعون الطبيعة بأسرها والتاريخ برمته بل والحياة بكاملها، لتعينهم في نحت صورهم المعقّدة. لكن هذه الجرأة الفنية لم تتحلّ دائماً بالمسؤولية، أو أنها لم تتكلّل دائماً بالنجاح الفني، فما أكثر الصور التي بدت مفتعلة، ناشزة، أو مجانية للصواب كلّياً، أو على الأقل زائدة تماماً عن الحاجة. ومما زاد المشكلة تعقيداً، تلك النزعة الجارفة، في العديد من هذه الصور، إلى إبعاد الصورة عما تشير إليه (أي أنه يكون كلّ من طرفي الصورة بعيداً كل البعد عن الآخر).
لقد أدّى كلّ ذلك إلى ظهور مشكلات عديدة،فأولاً،ليس كلّ شاعر مؤهلاً بالفطرة لابتكار الصور الشعرية وقادراً على رصّ أبياته بالصور بشكل ناجح، ولئن حالف أدونيس التوفيق في معظم محاولاته، وهو الشاعر البارع الذي تأثّر بكبار الشعراء الفرنسيين،فإن كثيراً من المغامرين الشباب أخفقوا إخفاقاً ذريعاً في تحقيق ذلك المنطق الداخلي الذي ينبغي لكل الصور الجيّدة أن تحققه، حتى تلك التي تفتقر إلى المنطق الخارجي. والشعراء يتفاوتون في اعتمادهم على أدوات شعرية معيّنة، كذلك فإن خلق الصور لا يمكن أن يخضع كليةً للوعي، ومهما بلغ من تصميم الشاعر على المستوى الواعي أن يستخرج صوراً جديدة أصيلة فإن هناك دائماً شيئاً لا واعياً في عملية إبداع الصورة الجيّدة، شيئاً يضيئه الإدراك المجازي الداخلي الذي يمتلكه الشعراء المجيدون بطبيعتهم. ثانياً (وهذا أمرٌ يفوق ما سبقه في خطورته)، إن محاولة الربط بين موضوع المقاومة، وهو موضوع جماعيٌّ موجّهٌ إلى الجمهور العريض، وبين هذا النوع من التصوير المجازي الصعب المعقّد، قد خلّفت وراءها فوضى شاملة. ولئن انسجم هذان الضدان معاً في حالة بعض الشعراء، من مثل محمود درويش (وهو قطعاً واحد من أفضل الشعراء العرب المحدثين), فإن التجربة كانت كارثة بالنسبة للغالبية العظمى، بحيث أخذ النقّاد والكتّاب يتحدّثون عن أزمة الشعر العربي المعاصر دون الإتيان بنظريات أو توجهات جديدة لمعالجة ما بدا أنه وضع ميئوس منه، وقد احتج محمود درويش نفسه على هذا الوضع فقال: إن تجريدية هذا الشعر قد اتسعت بشكل فضفاض، حتى سادت ظاهرة ما ليس شعراً على الشعر واستولت الطفيليات على الجوهر(95)
إضافة إلى ذلك، فإنه لم يكن ممكناً للهجة الشعريّة أن تخفف من الحدّة والجهوريّة التي تتطلّبها موضوعات الغضب والإحباط والمقاومة البطولية فتدخل حقاً في مناخ الحداثة، تماماً كما لم يكن بوسع الشعراء الذين تركّزت رؤياهم على عظمة البطولة وعلى التغنّي بالتحدّي الدائم للظلم أن يروا في حياتهم وحياة الآخرين من حولهم ذلك الوجود المحطّم المهان لرجال ونساء وقعوا ضحيّة مجانية للنظم الجائرة. كمواطنين عرف الشعراء حق المعرفة أن الرعب والمعاناة يهيمنان على مصيرهم ومصير غيرهم من الناس، ويجعلان الجميع ضحايا لزمنهم لا أبطالاً له، ولكنهم كشعراء تجاهلوا ذلك. وكان على الشعر، بعد هزيمة 67 مباشرة، أن يخوض معركة مقاومته الخاصة به، كي يقف إلى جانب البطل المضحّي بحياته، غير معترف بالهزيمة، وتطلّبت الروح الشائعة آنذاك استمرار هذا الموقف في الشعر. ولم يكن الشعراء عموماً قد اكتشفوا بعد (كما فعل جيل الثمانينات من بعدهم) أن الوقوف إلى جانب العدل والحريّة، وهو في حد ذاته موقف بطولي في أي زمان ومكان، لا يتطلّب بالضرورة عنتريات صريحة كما لا يعني أن الشاعر الباحث عن الحق يحتاج لتأكيد دوره قائداً أو حكيماً أو نبيّاً.
لقد عملت الموضوعات البطولية المتكررة، التي ورثها الشعراء عن قرون من مديح الأبطال الشجعان والمنقذين القوميين، وكذلك لهجة المفاخرة والتحدّي التي ملأت أعمال الشعراء القدماء، على عرقلة عملية التحديث.
إن النظر هذه المشكلات العامة، في مقدمة للأدب الفلسطيني، ضروري، أولاً لأن شعراء فلسطينيين كثيرين قد وقعوا في شركها، وثانياً لأنها نشأت في جانب منها بسبب المعضلة الفلسطينية ذاتها، التي جعلت المواضعي الشعرية التقليدية الأخرى تبدو أقرب إلى الهرطقة وفرضت على الشعر موضوع المقاومة المهيمنة، وهو في جوهره موضوع فلسطيني.
إن النظر هذه المشكلات العامة، في مقدمة للأدب الفلسطيني، ضروري، أولاً لأن شعراء فلسطينيين كثيرين قد وقعوا في شركها، وثانياً لأنها نشأت في جانب منها بسبب المعضلة الفلسطينية ذاتها، التي جعلت المواضعي الشعرية التقليدية الأخرى تبدو أقرب إلى الهرطقة وفرضت على الشعر موضوع المقاومة المهيمنة، وهو في جوهره موضوع فلسطيني.
وتتحدّى هذه الفترة عدداً من النظريات الشائعة: أولاً: إن مقولة بروفون BUFFON الشهيرة الأسلوب هو الكاتب نفسه قد ثبت بطلانها هنا، إذ لم يعد تمييز أسلوب شاعر عن أسلوب شاعر آخر مستحيلاً فقط، بل أصبح من المتعذّر على القارئ أن يخمّن البلد العربي الذي تنتمي إليه القصيدة. وغدت كل التصنيفات اللغوية والأسلوبية متطابقة، وهذه بلا شك دلالة على الوحدة الأساسية للثقافة العربية. لكنها ليست بالاتجاه المؤاتي لمسيرة الشعر. ثانياً: شكّل الوضع كذلك تحدّياً لفكرة بتنام PUTTENHAM القائلة إن الناس يختارون موضوعاتهم بحسب تكوينهم العقلي، إذ لا يعقل أن يكون هناك تطابق في التكوين العقلي لذلك العدد الغفير من الشعراء الذين كتبوا على الوتيرة نفسها. ثالثاً: لقد وضعت الفكرة القائلة إنه من غير الممكن فصل الأسلوب عن المحتوى موضع الشكّ، إذ كثيراً ما انعدمت الصلة بين الموضوع الرئيسي، أي موضوع المقاومة الشعبية، والأسلوب المعقّد المغرق في الرمزية الذي كتب به الشعر. وهذا ما جعل المرء يشعر بأن العديد من المفردات والتعابير والمقاطع لم تكن جزءاً تلقائياً من كلٍّ موحّد، بل كانت مقحمة عليه بصورة اعتباطية.
ويبدو لنا الآن، أن عقد السبعينات كان أشبه بساحة المعركة حيث تنافس الشعراء الفلسطينيون وغيرهم من الشعراء بقدر متزايد من الجرأة والابتكار، فسقط العشرات منهم على الطريق. ولقد كان ثمة ولعٌ بالغريب المثير، وبالتّوتّر المشحون، فساد جوٌّ محموم ملازم، ومع ذلك لا بدّ من التأكيد على أنه لا نتعامل هنا مع حشد من المتشاعرين، فكثير منهم كانوا من غير شك شعراء موهوبين لم يسعوا إلا لكتابة الشعر الجيّد. وما ذكرته أعلاه إنما يشمل بعض العوامل التي جذبتهم لهذا التجريب، فهناك الانجذاب إلى الأفكار الخاصة بالحداثة؛ الانبهار الجديد؛ مولد الرغبة الجديدة بالتجريب؛ والاندفاع الجارف لرفض الأنماط بالافتقار إلى النقد الثاقب المعافى. وانقسم المشهد الأدبي العربي منذ أوائل السبعينات إلى معسكرات تجاوزت الحدود الجغرافية، وانضوت تحت ألوية بعض الشعراء أو بعض الأساليب الشعرية، بحيث امتلأت الصفحات الأدبية في الصحف اليومية والشهرية، في جميع أرجاء الوطن العربي، بالنقد الجارح لما وصفه الكتّاب بالسيطرة المقيتة للشلل الأدبية، التي بدا أنها تهيمن على الساحة الأدبية، داخل الوطن العربي وخارجه، بسبب مساندة أعضائها الصاخبة بعضهم بعضاً إن حقاً وإن باطلاً. وقد بدأت كتابة الكثير من النقد بالعربية والإنجليزية والفرنسية لدعم بعض التجارب أو لمناهضتها في كل من الشعر أو النثر، ولكن لم تبذل جهود كثيرة لتزويد الأدب بمعالجات نقدية قائمة على المعرفة والاطلاع بهدف توجيه الشعراء وتبيان أخطائهم خدمة للفن الجيّد والإخلاص له. ولا بدّ من التأكيد على أن الأخطاء التي وقعت كان سببها الإحساس بالواجب الوطني، كما أنّها ارتكبت في سبيل التجديد الضروري. ولا تمكّنوا، لحسن الحظ، من استعادة استقلالهم الفني فبروزا مسلّحين بمهارات جديدة مكّنتهم من السيطرة ثانية على أدواتهم الشعرية.
غير أن تجارب السبعينات المحمومة إنتهت فجأة وبشكل غير متوقّع. فللشعر، كما للفن بأسره، معادلاته الغريبة التي لا تخضع للتنبؤات. ولقد كان العالم العربي في السبعينات يفيض بالمواهب المبدعة، وحب الاستزادة من المعرفة الفنّية الذي غذّاه الاطلاع على التجارب الشعرية العديدة في جميع أرجاء العالم، فكان لا بدّ لبعض النتائج الإيجابية من الظهور في نهاية المطاف في مثل هذه البيئة. وبدا في تلك الفترة كما لو أن قوة داخلية في الشعر قد حرّرته فجأة بانتزاعه من الفوضى والشطط، وأعادته إلى جو أكثر نقاء. ذلك أن شيوع التجارب المحمومة في ذلك العقد قد نزل بالشعر إلى درك من الإرهاق الجمالي، وكان ذلك في بداية الثمانيات عندما كان الشعر قد استنفد كل إمكاناته الفنية، وأدّى به التكرار والتشابه اللذان لا ينتهيان إلى طريق مسدود، فغدا من المستحيل على الشعراء الاستمرار في هذا المنحى، وصار ذلك التجديد، الذي بدأ أصيلاً وجاداً، زيّاً من الأزياء، وللأزياء قدرة عجيبة على الاختفاء دون أن تترك الكثير مما يذكّر بها. ومثلما لم يعد بوسع الشعراء الجادين في الموضوعات والصور التي شاعت في أواخر السبعينات قد فقدت ما كان لها من جاذبية، غير أن الشعراء أنفسهم شعروا بأنهم أصبحوا سادة أدواتهم الشعرية نتيجة للتجارب الكثيرة والتنافس المستمر الذي لم يتوقف طوال السبعينات. كذلك كانت هناك قوى محرّكة تعمل عملها بشكل غير واع. ولئن ظلّت بعض الأمور محتفظة بوجودها، فإن أموراً أخرى كثيرة انقطعت وتوقّفت، خاصة في مجال الأنماط اللغوية والمجازية. وكما يقول الشاعر الفلسطيني الشاب الملتزم غسّان زقطان (المولود عام 1954) كان ثمة رغبة شديدة لدى الشاعر (في النظر من زاوية جديدة) إلى ما يحيط به، مما ولّد لدى الشعراء الفلسطينيين وغيرهم من الشعراء العرب الرغبة في تدمير البطولة – كما يكسر المرء بيضة فاسدة – إضافة إلى تدمير الشجاعة والتأسي والحب والفروسية وجميع الديناصورات الأخرى.(96)
وهكذا بحلول عقد الثمانينات إذن خيّم إرهاق روحي شديد على عالم الشاعر. كما لم تكن، في يوم من الأيام، وطأة السلطة الحاكمة أشدّ ثقلاً، ولا النظام السياسي الداخلي أكثر عقماً، ولا العدوان الخارجيّ والتآمر العالمي أكثر حدّةً مما كانت عليه الحال آنئذ|ٍ. ولم يعد بالإمكان مواجهة النكبات القومية المتكررة بالتبجّح المعهود، فدفع هذا الموقف بالعديد من الرجال والنساء إما إلى الصمت أو إلى المنفى، ولكن بعض الأشياء بقيت صامدة وعلى رأسها الإبداع الأدبي الذي بلغ أعلى درجاته، والأيمان بقوة الكلمة الخلاّقة وذلك الزهو الذي شعر به جيل الشعراء الجدد باستقلالهم الفني عمّن سبقهم من شعراء السبعينات.
خيري منصور ومريد البرغوثي وأحمد دحبور
وسرعان ما تخلّص الشعر من الخصائص السلبية التي اتصف بها شعر السبعينات، بينما احتفظ في الوقت نفسه بالجرأة التي ميّزت ذلك العقد وبالقطيعة الجازمة مع عدد من الخصائص التقليدية. وظهر على الساحة شعراء الذين اشتهروا في السبعينات، لسبب أو لآخر، أفلحوا، كما سبق القول، في التحرّر من النزعات السلبية التي سادت في ذلك العقد، وبرزوا الآن مزوّدين بأدوات حداثية. ونذكر من هذه الفئة الأخرى ثلاثة أمثلة مهمّة من بين الفلسطينيين: خيري منصور (المولود عام 1945) ومريد البرغوثي (المولود عام 1944) وأحمد دحبور (المولود عام 1946)، فبعد أن كان هؤلاء الشعراء، قد نشروا عدة دواوين مليئة بالموضوعات البطولية والمواقف المتبجّحة (خاصة عند أول اثنين منهم إذ حافظ أحمد دحبور على بعض التوازن باستمرار) – عادوا إلى الظهور بأصوات مختلفة خلال عقد الثمانينات، ولا بدّ أنّ ما حصل لهم وللعديد من أمثالهم، كان نوعاً من الاختمار اللاواعي في قوّتهم الإبداعية. فما أن دبّ الإرهاق الجمالي في شعر تلك الفترة حتى برز هؤلاء الشعراء وقد تمّ نضجهم وانطلقت طاقاتهم.
الشعراء الجدد
كان أمام الشعراء الجدد عدة تجارب ناضجة رائعة في الشعر العربي ليتعلّموا منها، إذ لم يتوقّف تأثير الشعراء الرّواد من عقد الخمسينات – مثل أدونيس (الذي كان تأثيره – كما بيّنا – إيجابياً وسلبياً معاً)، وبدر شاكر السيّاب (1926- 1964)، وخليل حاوي (1925 – 1982)، وعبد الوهاب البياتي (المولود سنة 1926)، وخليل حاوي (1925 – 1981)، ومحمد الماغوط (المولود سنة 1934)، كما أخذ الآن شعراء من جيل أصغر سناً يتركون بصماتهم بوضوح، ومن أهمهم سعدي يوسف (المولود سنة 1934)، ومحمود درويش (المولود سنة 1942).
كان أكبر عرّاب لشعر الثمانينات من بين هؤلاء سعدي يوسف، وهو في الحقيقة شاعر ينتمي بقوة إلى هذا العصر، وما من شك في أن أعماله هي التي أرست أقوى الأسس للتجربة الحداثية في أيامنا هذه. فشعره يخلو بشكل رائع من الميوعة العاطفية والعنتريات بما فيه من مزج واضح بين البساطة والحذلقة، وبين الوضوح والغموض، وبين الصور المبتكرة واللغة البسيطة، والغضب المكبوت مع نبرة الشاعر الحداثي الخفيضة.
ونظرته في أساسها نظرة مأساوية تصوّر عالماً متفكّكاً أبطاله مهزومون والضحايا فيه هم ملايين العرب الذين يُعدّ الشاعر أحدهم. إلاّ أنها نظرة تلجأ في الأغلب إلى الأسلوب المأساوي الثمانيات مثل محمود درويش، وصلاح عبد الصبور، اللذين تحدّثا عن الكليّات الكبيرة (وخاصة عند عبد الصبور، إذ أن محمود درويش، الذي لم تتوقّف موهبته عن التطوّر،قد ركّز أكثر من صاحبه على الفرد العادي في الثمانيات) فإن من الأمور المهمّة جداً في تجربة سعدي يوسف، تلك الأشياء البسيطة في الحياة وخبرات الحياة اليومية الصغيرة التي يمرّ بها الناس العاديّون الذين يعيشون ويكدحون ويعانون من الشّر الذي يتهدّد عالمهم تماماً كما يفعل ميلاد الإنسان الصغير في الشعر العربي، في سياق شعر تعوّد، على مدى قرون، على الاحتفاء بالعظماء والنبلاء والأقوياء، وكان ذلك خطوةً كبيرةً إلى الأمام نحو المناخ الحقيقي للحداثة.
والمهمّ هنا هو أن هذه الأحاسيس الجديدة لم تظهر فقط عند الشعراء البعيدين عن السياسة في العالم العربي، بل ظهرت كذلك عند الشعراء الذين ارتبطت حياتهم ارتباطاً وثيقاً بالأزمات الاجتماعية السياسية في عصرهم: مثل الفلسطينيين وكذلك اللبنانيين والعراقيين والسوريين واليمنيين وغيرهم في شمال أفريقيا ومصر. أما في منطقة الخليج الغنية (وهي – منطقة من العالم العربي قلّما انشغلت بأزمات الحياة العربية الحقيقية) فإن الشعر فيها يمرّ بعملية التحديث الجادّة عندما ينضمّ الشاعر أو الشاعرة (منطقة الخليج تفخر بوجود عدد من الشاعرات الطليعيّات) إلى المنشقين في العالم العربي، فيشاطرهم رفضهم للمؤسسات الجامدة ولنظم الحكم الاستبدادية. أما الشعراء الموالون للنظم القائمة في المنطقة فيجب الإقرار بأنهم ما زالوا يكتبون في حدود التراث التقليدي. هناك أصوات جديدة في جميع أرجاء العالم العربي – تتحدث بلهجة مختلفة وتنظر إلى العالم نظرة مختلفة، وأينما ذهب المرء في عالم الغربة الفلسطينية المتناثر فإنه لا شكّ واجدٌ شاعرً واحداً على الأقل يساعد على خلق الأسس الجدية للفنّ الحديث. ولم يحدث قط أن أنتجت الإبداعية الفلسطينية مثل هذه الغلال الثرية من ذي قبل.
ومن المدهش أن هذه التغيرات المثيرة قد تمت بصمت ودون تبجّح أو استعانة بالنظريات والمجادلات، فلم يتقدّم أحد ببيانات، كما لم يعلن أحد عن آراء ضيّقة مبتسرة عن ماهية الفن أو اللغة الشعرية أو غير ذلك من النواحي الفنية.
وليد خازندار
وهكذا نعمنا بوجود شاعر من أروع الشعراء الشباب في الشتات، وربما في الأدب العربي الحديث برمته، هو وليد خازندار (المولود عام 1950)، الذي لم يبزه أي من معاصريه بأسلوبه الشديد التكثيف، وصوره التي تتميّز بالدقة والتعقيد في آن معاً. أما لغته الشعرية فإنه يختارها بعناية فائقة وكأنها الدر النادر، ومع ذلك فإنه تبدو سلسة وطبيعية، وتقترب أحياناً من اللغة المحكية، كما أن تنويعاته الحيوية لموضوعاته تتصف بحساسية مرهفة لا تسمح بتصوير الحياة حوله عبر التأكيدات القطعية الصاخبة كما حدث في الشعر قبله. إن مقاربته لموضوعه مقاربة شخصية بقدر ما هي جماعية، وفلسطينية بقدر ما هي شمولية، ولا شك في أنه من أبرز الشعراء الفلسطينيين الواعدين في الجزء الأخير من القرن العشرين.
غسان زقطان
وعندنا كذلك غسّان زقطان (المولود عام 1954)، بإحساسه الشخصي العميق بمأساة الآخرين، وبلغته المضيئة، وبارتفاعه بالتجربة اليومية المتواضعة إلى عالم الشعر الراقي، وباختياره الأصيل لموضوعاته المستقاة من حياة الناس البسطاء من حوله وتحويله إياها إلى موضوعات شمولية لا تُنسى. وعندنا كذلك زكريا محمد (المولود عام 1951) الذي فاق الآخرين جميعهم بالتخلّي نهائياً عن الموقف البطولي، أي موقف الشاعر البطل المحرر، حامل المسؤوليات القومية الكبرى، واتخذ بدلاً من ذلك صوتاً جديداً هو صوت الشاعر الساخر الناقد للذات:
لا تأمليني أميراً على صهوةِ الزوبعة
أنا سلّم الاعتذار الطويل الطويل
أنا نخلةُ الميلان الثقيل
أنا عنّفتني جميع العيون جميع العيون(97)
وشعره ملئ باعترافات حميمة يكاد يحطّ فيه من قيمة الذات، ولكنه مثقل رغم ذلك بالوعي الجماعي الكبير لشعبه. وهو يندب دون انقطاع، ولكن بنبرات في غاية الهدوء، مرور الفلسطينيين بمأساة تلو أخرى وانتقالهم من منفى إلى آخر. ويرتعش آخر ما نشره من شعر بصوت مأساوي لا تشوبه أيّة ميوعة عاطفية لشاعر قد وصل أقصى حدود الاحتمال، وأدرك أخيراً كيف أحكم العالم مؤامراته حول الفلسطينيين.
إبراهيم نصر الله
وهناك كثيرون آخرون: إبراهيم نصر الله (المولود عام 1954) الذي لا يقلّ شاعراً عنه روائياً؛ ويوسف عبد العزيز (المولود عام 1956)، وهو الوطني المخلص الذي لا ينفك يبحث عن السعادة الشخصية التي تفلت من قبضة الفلسطيني على الدوام؛ وراسم المدهون (المولود عام 1947)، بتصويره المرهف، الذي لا يُنسى لمحبة الأسرة ولوحشة المنفى المتواصلة التي تعتصر القلب؛ وطاهر رياض (المولود عام 1956)، بصفاء لغته الشعرية، وقوتّها، وبإيجازه ورموزه المعقّدة وإحساسه العميق بعنصري الزمان والمكان وكيف يتأثّر الناس بمرور الزمان غير أنه ليس بالإمكان ذكر الأسماء كلها هنا لكثرتها.
وما ذكرته من تغيّر كبير في شعر خيري منصور وأحمد دحبور ومريد البرغوثي يعكس الطبيعة الخفيّة المبهمة وذلك التماسك الداخلي في الفن الذي يقاوم اقتحام التجارب الطفيلية عيه عندما يكون هذا الفن في فترة من فترات حيويّته وقوّته (كما هو الحال في الفن الشعري العربي في القرن العشرين )- عندها فإن الفن نفسه يقاوم أي تدخّل طويل الأمد في مسيرته المعافاة ويظهر تماسكاً داخلياً صلداً في وجه التجارب الهجينة. وهذا بالضبط ما حدث عندنا مع هؤلاء الشعراء الثلاثة، وآخرين سواهم في العالم العربي، إذ أن شعرهم، كما ذكرت آنفاً، تغيّر مع مطلع الثمانينات. إن أحمد دحبور، على غرار كل من خيري منصور ومريد البرغوثي، يكتب شعراً موزوناً، لكنه أظهر ولعاً بالتجريب في الأشكال الشعرية الموزونة أكثر من أي شاعر آخر من شعراء جيله، فأفسح بذلك المجال لإمكانات الأوزان الموروثة الرسمي بخدمة الثورة الفلسطينية إلى كبت جزئي لأحاسيسه المرهفة(98) ، وذلك لصالح الخطاب السياسي المباشر، ولكنه كبتٌ جزئي وحسب، إذ أن شعره ينبض بالإدراك العميق شبه الغريزي للمعنى الشامل الذي يكمن فيما هو مشج ومأساويّ في الحياة الفلسطينية المعاصرة.
مريد البرغوثي
أما تجربة مريد البرغوثي في الثمانينات فتعود إلى ظهوره موقف جديد من شعره نحو كل من فنيّة القصيدة وطريقة فهم التجربة العربية المعاصرة، فقد اختفت الصرخات العالية المعبّرة عن الاحتجاج المأساوي وعبارات الغضب والقدح والتبجّح، وحلّ محلّها صوتٌ مهذّب، مدني، مشذب اللهجة، يعبّر أحياناً تعبيراً مأساوياً هادئاً ويعبّر وأحياناً أخرى بلهجة ساخرة بارعة ومتميّزة عن سخطه على النظم السياسية الداخلية والخارجية. وهكذا نجد أن حرس الملك في قصيدته الحرس هم أنفسهم أشبه بملوك ذوي ممالك وذوي جلالة، بينما يتنافس أفراد القبيلة في قصيدة القبائل بالقوة الجنسية والممتلكات المادية، والموناليزا معلّقة على جدران خيامهم المخملية تقابلها لوحة كتابات للحماية من عين الحسود، إلى جانب شهادة جامعية لأحد الأبناء يعلو الغبار إطارها الذهبي، وتنتهي القصيدة بالقول:
قبائلنا تستردّ مفاتنها
في زمان انقراض القبائل!(99)
محمد الأسعد
ولا بدّ من ذكر الشاعر محمد الأسعد (المولود عام 1944)، الذي حرص على تجنّب الانجذاب إلى ما شاع من أنماط شعرية والوقوع في مزالقها(100) ، كما بقي مسيطراً على شكل من التعبير مستقلّ بذاته. إنه شاعر يتصف بقدر كبير من الصدق الفني، كما يمتلك غريزة شعرية صائبة مكّنته من المحافظة على رؤيته الواضحة خلال فترة السبعينات المحمومة، ومن إبقاء الحدود اللغوية والمجازية مغلقة بإحكام في وجه الهذر والمغامرات الزائفة.
إن شعر محمد الأسعد، الذي يتميّز برؤيا حضارية متطورة وبلغة غضّة طبيعية لا تعمّل فيها، لهو دليل قويّ على الطريقة التي يعمل بها الفن بالغريزة المبدعة لدى بعض الأفراد. إنّ ميدان الفنّ عند بعض الشعراء واضح الحدود، وهي حدود يتم إدراكها غريزياً، ومع ذلك فهو ميدان هش عند شعراء آخرين – كما رأينا- بحيث تنتهك حدود بسهولة إذا ما استجاب الشاعر للدعوة الصارخة إلى الالتزام الاجتماعي – السياسي المباشر. لكن لا بدّ من المبادرة إلى القول إنه ليس هناك من شاعر أكثر التزاماً من محمد الأسعد. فطبيعة تكوينه الذهني والروحي ذاتها تنبع من حقيقة النفي الدائم والظلم المقيم، ومن عرقلة إمكاناته المتميّزة بسبب جنسيته الفلسطينية. ومع ذلك فإن شعره لدليل ساطع على أن التقنية الشعرية لا تخضع بالضرورة إلى الالتزام ببعض الموضوعات الشعرية بل إلى موقف الشاعر وتكوينه الفني، وإلى حساسيته الشعرية ومدى مقاومتها أو خضوعها للتسويات الفنيّة ذات الجاذبية الزائفة في عصره. وقد ظلّ محمد الأسعد، بما يتمتع به من تحضّر وانضباط فنّي، يرفض بهدوء كل التوقعات الاجتماعية المشروعة طوال تلك الفترة المحمومة، واستمر في تطوير فنه.
إن شعر محمد الأسعد، الذي يتميّز برؤيا حضارية متطورة وبلغة غضّة طبيعية لا تعمّل فيها، لهو دليل قويّ على الطريقة التي يعمل بها الفن بالغريزة المبدعة لدى بعض الأفراد. إنّ ميدان الفنّ عند بعض الشعراء واضح الحدود، وهي حدود يتم إدراكها غريزياً، ومع ذلك فهو ميدان هش عند شعراء آخرين – كما رأينا- بحيث تنتهك حدود بسهولة إذا ما استجاب الشاعر للدعوة الصارخة إلى الالتزام الاجتماعي – السياسي المباشر. لكن لا بدّ من المبادرة إلى القول إنه ليس هناك من شاعر أكثر التزاماً من محمد الأسعد. فطبيعة تكوينه الذهني والروحي ذاتها تنبع من حقيقة النفي الدائم والظلم المقيم، ومن عرقلة إمكاناته المتميّزة بسبب جنسيته الفلسطينية. ومع ذلك فإن شعره لدليل ساطع على أن التقنية الشعرية لا تخضع بالضرورة إلى الالتزام ببعض الموضوعات الشعرية بل إلى موقف الشاعر وتكوينه الفني، وإلى حساسيته الشعرية ومدى مقاومتها أو خضوعها للتسويات الفنيّة ذات الجاذبية الزائفة في عصره. وقد ظلّ محمد الأسعد، بما يتمتع به من تحضّر وانضباط فنّي، يرفض بهدوء كل التوقعات الاجتماعية المشروعة طوال تلك الفترة المحمومة، واستمر في تطوير فنه.
إن اللهجة المتحضّرة التي يتميّز بها شعر محمد الأسعد لا تعكس شيئاً من نشأته البسيطة، فقد ولد في قرية من قرى فلسطين، وتركها عندما كان في الرابعة، وترعرع فيما بعد في مخيّم للاجئين في جنوب لبنان: وتقدّم لنا مذكراته (أطفال الندى) ذكريات غير مباشرة عن طفولته وعن الهجرة، جمعها ممّن كانوا يكبرونه من أفراد أسرته. ولم يكن محمد الأسعد في ذلك المخيّم الذي نشأ فيه على صلة بالبيئة الزراعية التي انحدرت منها أسرته أو بالبيئة الخالصة، بل كان يتأرجح بين عدة بيئات لا يتوقّع المرء من أي ّ منها، فيما نظن، أن تنتج ذلك التحضّر المتميّز الذي يتسم به شعره. وهكذا نجد أن القوى البشرية المؤثرة في إبداع هذا الشاعر أو ذاك كثيرة ومتعددة ولكنها تبقى عصية على التفسير في معظم الأحيان.
بروز محمــود درويش
يقف محمود درويش عالياً في حقل يعجّ بالمواهب الشعرية، ويتألّق بما لدينه من طاقة إبداعية عجيبة؛ إنه شاعر زماننا هذا وكل الأزمنة. ولقد يتساءل المرء عند إمعان النظر في أعماله عما إذا كان وضعه الخاص، بوصفه ناطقاً باسم شعبه وملتزماً بالقضية الفلسطينية على حساب معظم المواضيع الشعرية الأخرى، قد أضرّ بمسيرته الشعرية أم أنه مهّد له الطريق إلى القمة. هل حرمه التزامه الدقيق بموضوعه،ومعه الشعر العربي عامة، من الغزاة، من الغزاة والإمكانات اللامحدودة المتأصلة في عبقريته الشعرية، أم أنه – على العكس من ذلك- تمكّن من أن يثبت حتى ضمن هذه الحدود – وهي حدود دامت دوام المأساة الفلسطينية ذاتها، ونفذت مثلها إلى كل ناحية من نواحي التجربة – أن يثبت أن طاقته الإبداعية يمكن أن تنطلق بحريّة وأصالة دائمة التجدّد وهي تخاطب جماهير عالمية تتزايد باستمرار؟
منذ أن بدأ محمود درويش مسيرته الشعرية في الستينات، أفسحت الحياة السياسية الفلسطينية المليئة بالأحداث المجال للشعر السياسي الفلسطيني لكي ينوّع بعض الشيء في هذا الموضوع. فقد فرض التاريخ الفلسطيني الحديث، وهو تاريخ ملأته المآسي والنكبات وتخلله البحث الدائب عن حلّ لمعضلة تتعمّق وتتعقّد باستمرار، تغييراً في دور البطال، كما استلزم، بشكل عام، تغييراً في طرق التعامل مع هذا الوضع. ويعكس شعر محمود درويش هذا الدور المتغيّر أكثر مما يعكسه شعر أي شاعر آخر من شعراء الجيل الذي ظهر ما بين الخمسينات وشعراء الثمانينات.
غير أن ما يبقى ثابتاً في شعره هو تلك المعاناة الشاملة على المستويين الشخصي والجماعي، مما يدعم مقولة كامو: إن المعاناة في الثورة تجربة جماعية ( أنا أتمرّد، إذن نحن موجودون) ورغم ما يتخلّل شعر محمود درويش من صوت شخصي حميم – صوت فريد يعلو وحيداً متميّزاً(101) - فإنه يندر أن تتسلّل إلى شعره موضوعات من حياته الشخصية*.
منذ أن بدأ محمود درويش مسيرته الشعرية في الستينات، أفسحت الحياة السياسية الفلسطينية المليئة بالأحداث المجال للشعر السياسي الفلسطيني لكي ينوّع بعض الشيء في هذا الموضوع. فقد فرض التاريخ الفلسطيني الحديث، وهو تاريخ ملأته المآسي والنكبات وتخلله البحث الدائب عن حلّ لمعضلة تتعمّق وتتعقّد باستمرار، تغييراً في دور البطال، كما استلزم، بشكل عام، تغييراً في طرق التعامل مع هذا الوضع. ويعكس شعر محمود درويش هذا الدور المتغيّر أكثر مما يعكسه شعر أي شاعر آخر من شعراء الجيل الذي ظهر ما بين الخمسينات وشعراء الثمانينات.
غير أن ما يبقى ثابتاً في شعره هو تلك المعاناة الشاملة على المستويين الشخصي والجماعي، مما يدعم مقولة كامو: إن المعاناة في الثورة تجربة جماعية ( أنا أتمرّد، إذن نحن موجودون) ورغم ما يتخلّل شعر محمود درويش من صوت شخصي حميم – صوت فريد يعلو وحيداً متميّزاً(101) - فإنه يندر أن تتسلّل إلى شعره موضوعات من حياته الشخصية*.
وكثيراً ما يتوهّج خياله السامق بمبادرات جديدة غير متوقعة، ولكنه يظل مسيطراً على فنّه وعلى الأبعاد التي فرضها عليه الوضع الفلسطيني المعقّد. وبينما يشعر المرء بأن لدى محمود درويش اطمئناناً داخلياً لدوره، إلاّ أنه يشعر كذلك بأن هذا الوضع الفلسطيني يرهقه باستمرار ويسلبه مجالات واسعة للتعبير الشعري كان بإمكان عبقريته الشعرية، لولاه، أن تبدع فيها إبداعاً متميزاً. لا يعنينا ما يستطيع الشاعر فعله أو لا يستطيع على المستوى الشخصي ما دام يتحمّل مسؤوليته الجماعية كاملةً بصفته شاعراً – أو شاعرة – في زمن الثورة. وقد نجح محمود درويش (حيث أخفق شعراء كثيرون غيره من جيل الرواد) في البقاء داخل العالم المتداعي الذي يحيا فيه الفلسطينيون، وفي كونه عامل توحيد لا على المستوى السياسي وحسب، بل على المستوى الثقافي كذلك، وهذا هو الأهم. إن الطوق الفلسطيني يحتويه كما يحتوي الآخرين، وهو – مثلهم- يبقى متأرجحاً على الخط الفاصل بين البطل والضحية.
إن المجتمع الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات مجتمع مأساوي، ومن المتعذّر على أدب يعكس تجربة شعب يعيش في حصار دائم ألاّ ينظر إلى التجربة نظرة مأساوية حتى وإن اختلطت هذه النظرة أحياناً بما هو كوميدي أو بما هو ساخر. ولكن – كما سبق أن ذكرنا – ثمة إحساس هائل بالعزة والكرامة متغلغل في هذا الأدب، كما أنه يسوده الرفض للسياسة الهادفة إلى إفناء الشعب الفلسطيني وإغراقه في دمائه، وقد رفع محمود درويش صوته عالياً مؤكداً هذه العزة والكرامة، كما فعل عدد من الشعراء وكتّاب القصة والمذكرات الشخصية من الفلسطينيين. وشعره يمزج اللوعة بالنشوة، والكبرياء باليأس والمقاومة البطولية بإدراك الشاعر للشر السائد الذي يحبط البطولة، بحيث تكمن الضحية تحت لبوس البطل. وقد أخذ صوت محمود درويش يتسم بالأسى الممزوج بكبرياء شاعر أخذ يدرك أن الشجاعة والإرادة الصامدة للكفاح انتصار البطل في عالم يسوده التفوّق التكنولوجي وسياسة القوى العالمية، وذلك بعد مجزرة تلّ الزعتر عام 1976(102) حيث قُتل عدة آلاف من الفلسطينيين على أيدي قوّات الكتائب اللبنانية وما تبعها من نكبات الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف عام 1982، وهو الغزو الذي استهدف المقاومة الفلسطينية وما نتج عنه من خروج آلاف الفلسطينيين من بيروت، ثم مجزرة صبرا وشاتيلا – التي تلت الغزو- وذلك على أيدي الكتائب اللبنانية أيضاً.
إن المجتمع الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات مجتمع مأساوي، ومن المتعذّر على أدب يعكس تجربة شعب يعيش في حصار دائم ألاّ ينظر إلى التجربة نظرة مأساوية حتى وإن اختلطت هذه النظرة أحياناً بما هو كوميدي أو بما هو ساخر. ولكن – كما سبق أن ذكرنا – ثمة إحساس هائل بالعزة والكرامة متغلغل في هذا الأدب، كما أنه يسوده الرفض للسياسة الهادفة إلى إفناء الشعب الفلسطيني وإغراقه في دمائه، وقد رفع محمود درويش صوته عالياً مؤكداً هذه العزة والكرامة، كما فعل عدد من الشعراء وكتّاب القصة والمذكرات الشخصية من الفلسطينيين. وشعره يمزج اللوعة بالنشوة، والكبرياء باليأس والمقاومة البطولية بإدراك الشاعر للشر السائد الذي يحبط البطولة، بحيث تكمن الضحية تحت لبوس البطل. وقد أخذ صوت محمود درويش يتسم بالأسى الممزوج بكبرياء شاعر أخذ يدرك أن الشجاعة والإرادة الصامدة للكفاح انتصار البطل في عالم يسوده التفوّق التكنولوجي وسياسة القوى العالمية، وذلك بعد مجزرة تلّ الزعتر عام 1976(102) حيث قُتل عدة آلاف من الفلسطينيين على أيدي قوّات الكتائب اللبنانية وما تبعها من نكبات الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف عام 1982، وهو الغزو الذي استهدف المقاومة الفلسطينية وما نتج عنه من خروج آلاف الفلسطينيين من بيروت، ثم مجزرة صبرا وشاتيلا – التي تلت الغزو- وذلك على أيدي الكتائب اللبنانية أيضاً.
ويظهر ذلك المزج البارع في شعر محمود درويش بين البطل والضحيّة واضحاً للمرة الأولى في قصيدته أحمد الزعتر التي تصوّر محنة الفلسطينيين بعد مذبحة تل الزعتر، كما يظهر معه إحساسه الطاغي بالتعاطف والحنان اللذين سيظلان ملازمين له بعد ذلك. إن تعاطفه من نوع راقٍ تمتزج فيه الرقة بالكبرياء، والألم بالتماسك والعزم، كما إنّ هذا التعاطف الرفيع ينصبّ على الجماهير التي كان الشاعر نفسه فرداً فيها، ومع ذلك فإننا لا نجد أي أثر للإشفاق على الذات بالمعنى الشخصي أو الجماعي، لأن ذلك من شأنه أن يفسد من رفعة الكفاح وعدالته، وأن ينفي عنه تلقائية التضحية وطبيعتها المجانية، كما أنه يعني التخاذل أمام مسؤولية يجب أن لا تلين في مقاومة الظلم. ففي مرثيته لعز الدين القلق الذي اغتيل في باريس في السبعينات، يصوّر البطل وقد أدرك أن أجله وشيك ولكنه يهزّ كتفيه استخفافاً ويلقي نكتة ويمضي في طريقه:
وكان يودّعني كلما جاءني ضاحكاً
ويراني وراء جنازته
فيطلّ من النعش:
هل تؤمن الآن أنهم يقتلون بلا سبب؟
قلت: من هم؟
فقال: الذين إذا شاهدوا حُلماً
أعدّوا له القبر والزهر والشاهدة(103)
قد يطلق ضحايا محمود درويش من الأبطال أنّه ألم ساعة الموت، ولكنهم يواصلون الدفاع عن حقوق شعبهم وشرفه، وهم يدخلون في الطريق البطولي المسدود الذي يموت فيه الرجال، وهم يصارعون نحو القمة(104) كما يقول ريموند وليمز RAYMOND WILLIAMS.
تعود الطبيعة الشمولية في شعر محمود درويش (ونثره) بالدرجة الأولى إلى كرهه الشديد للتشبّث بالعقائدية – وهو الشرط الأساسي لكل شعر عظيم. وما يكمن في الصميم من شعره ليس المذهب الفكري في الكفاح الفلسطيني بل ضرورته المأساوية، أو الحاجة الحتمية للوقوف بتحدّ في وجه الخلل الجذري الذي لحق بحياة الفلسطينيين أينما حلّوا.
ولقد جنى محمود درويش فائدة كبرى من ثورة الستينات والسبعينات في عالم الصورة الشعرية، ولربما انعكس في شعر أي شاعر آخر.
ولقد جنى محمود درويش فائدة كبرى من ثورة الستينات والسبعينات في عالم الصورة الشعرية، ولربما انعكس في شعر أي شاعر آخر.
وقد دفعت الرغبة في الابتكار، الذي لا تقيّدة قيود في السبعينات، يخياله الخصب إلى حرية لم يعهدها من قبل. وقد يشعر المرء أحياناً أن زمام الأمور يفلت من يده إذ يفقد السيطرة على صوره المجازية في القصيدة فينتج عن ذلك بعض الصور المنفلته هنا وهناك. غير أن هذا لا يحدث إلاّ نادراً، فصوره في العادة مضيئة لا تُنسى (إذ كيف لنا أن ننسى قوله: تضيق بنا الأرض، تحشرنا في الممرّ الأخير، فنخلع أعضاءنا كي نمرّ)(105) وصور محمود درويش المجسّدة، الحركية والشميّة، العامرة بألوان بلده ومذاقاته وأصواته، تجئ أحياناً مألوفة كل الألفة، وأحياناً مذهلة بغرابتها وجدّتها، ولكنها قادرة في الحالتين أن تنتقل بالقارئ إلى فضاء القصيدة. ولغته تنبض بالحياة والدفء والحميمية، وبحنان طفولي خاص في بعض الأحيان.
ليس من السهل أن ننسب محمود درويش إلى هذه الفترة أو تلك، فلقد تفجّرت موهبته في السبعينات وتغذت بالمغامرات الفنية الجارية آنذاك في حقل اللغة الشعرية والصورة، كما ألهبتها مأساة شعبية المتعاظمة أبداً وآمال ذلك الشعب المتنامية. ثم أصبح محمود درويش جزءاً لا يتجزأ من الحركة الشعرية الحديثة في العالم العربي الواسع واستمر في التطور. إنه شاعر يشع نجمه عبر الحدود والفترات الشعرية رغم اختلاف هذا الشعر من نواح كثيرة عن الشعر الطليعي في الثمانينات. ولئن كنا نشعر الآن أن شعر الرواد قد بهت ومضى زنه فإن ما أنتجه محمود درويش من شعر ونثر قد قاوم مرور الزمن ولم يفقد القدرة أبداً على إثارة الدهشة فينا. ولا شك أن ما فيه الآن من جدّة ونضرة وانتمائية لزمنه المعاصر لن يفارقه في المستقبل. إن خدماته للأدب الفلسطيني لا حصر لها، وهي خدمات جلبت الفخر لشعبه في العالم العربي وفي بقية أنحاء العالم. لقد رسّخ محمود درويش، إضافة إلى المنجزات الثقافية التي حققها سواه من الفلسطينيين في أرجاء العالم قاطبة، سمعة الفلسطينيين بصفتهم شعباً أسهم بإبداعه وعطائه الفكري في الحياة الثقافية العالمية في العصر الحديث.
سميح القاسم
في داخل إسرائيل، تابع سميح القاسم (المولود 1939) سيرة شعرية باذخة، وقد استطاع أن يفرض تجاربه الشعرية المتجددة أبداً، والتي لم تتوقّف قط، على الجمهور العربي الواسع خارج حدود بلاده ونال شهرة عالمية بقصائده الإبداعية النابضة بروح الكفاح والمقاومة والرفض للشر السياسي والمؤامرات العالمية على مصير شعبه. ولا شك في أن بسالة الروح المقاومة التي تشع في شعر سميح القاسم معدية وشديدة التأثير على القارئ أينما كان.
إن شعره، على غرار شعر محمود درويش، يكاد يكون وقفاً بكامله على القضية الفلسطينية وقد ارتبط اسما الشاعرين معاً. إلاّ أن سميح القاسم لجأ إلى أساليب مختلفة للتغلّب على الخطر الكامن في التكرار الممل للموضوع الواحد، فهو يدرك أن عليه المضي في تغذية جمهور ثبت أن شهيته للشعر الذي ينفّس عن آلامه لا تعرف الارتواء، ولذلك بقي الموضوع السياسي محور علاقته مع جمهوره،فأي تغيير كبير في هذا المجال سيبدو للجمهور تخلّياً عنه أو خيانة له. وقد تخلّص من هذا المأزق بطريقتين: الأولى أنه بعد أن كتب قدراً من الشعر السياسي (الذي برّز فيه) شعر أن بإمكانه التركيز أحياناً على موضوعات أخرى مثل الحب. من ناحية ثانية، اتّصف هذا الشاعر بالمرح والدعابة والشعور بالراحة مع نفسه ومع الآخرين مما لا يتسع له صدر محمود درويش نتيجة لمزاجه الخاص، وهكذا تمكّن سميح القاسم من ابتكار طريقة يضمن بها مشاركة الجمهور أثناء إلقائه القصيدة، فجعل من الجمهور نفسه في بعض تجاربه جزءاً لا يتجزّأ من القصيدة، إذ كان يلجأ أحياناً إلى نوع من التمثيل فيقف على المنصة منشداً قصيدته ويطلب من الجمهور أن يردد معه اللازمة في القصيدة أو أن يشترك معه في التصفيق.
أما محمود درويش فإنه، على النقيض من ذلك، يلتزم موقف الجد التام مفضلاً الطريقة التي ظلّ المشاعر يواجه بها جمهوره في العالم العربي، حيث يخاطبهم كنبي وينشدهم شعره بلهجة رؤيوية تتحدّث عن مصير الفلسطيني وقدره، بينما يصغي الجمهور مأخوذاً ومتعلّقاً بكل كلمة، وفي تواصله مع رسالة القصيدة ينفجر بين الحين والآخر بدفقات عاطفية من الهتاف والتصفيق، تشبع حاجاته الماسة إلى التطهير وتوفّر له المتنفّس المرتجى.(106)
يتنقّل سميح القاسم في شعره بين العديد من الأنماط، فنجده ينتقل من النمط التراجيدي إلى النمط الكوميدي بيسر كبير، ويعكس أحياناً رؤيا مرعبة يعبّر عنها لا بالصورة الفنية ومعالجة الموضوع وحسب، بل من خلال لهجة تغدو رنانة ومرعبة معاً.(107) كذلك نلمح في شعره شيئاً من خصائص مذهب ما بعد الحداثة يتبدّى أولاً في حرصه الشديد على إشراك الجمهور في إنشاد القصيدة، وثانياً في محاولاته العرضيّة، من حين لآخر، لتأليف (المعارضات PASTISHE) حيث أصدر عام 1983 ديواناً صغيراً بعنوان كولاج وكان خليطاً من كل أنواع الكتابة، فتراوح بين الشعر والنثر الشعري والبيانات الصحفية. واستعمل في هذا الديوان لة وإيقاعات متنوعة ما بين التعبير الخطابي الذي يذكرنا بالشعر القديم واللغة شبه العامية التي تذكرنا بالأغاني الشعبية الفلسطينية، كما تنوّعت لهجة الخطاب فيه بين المأساوي والساخر أو الكوميدي. وفي العام نفسه نشر سميح القاسم مجموعة أكبر من جهات الروح. اتسمت ببعض هذه العناصر كذلك، لكنها حافظت على قدر أكبر من البلاغة مما في كولاج(108). ويتصف إنتاجه الشعري الفني بالتجريب ولكن بطريقة يتميز بها عن سواه. ولعل سميح القاسم هو الشاعر الفلسطيني الأول (بل العربي الأول بقدر ما أعلم) الذي تظهر في أشعاره بعض من خصائص مذهب ما بعد الحداثة.
إن شعره، على غرار شعر محمود درويش، يكاد يكون وقفاً بكامله على القضية الفلسطينية وقد ارتبط اسما الشاعرين معاً. إلاّ أن سميح القاسم لجأ إلى أساليب مختلفة للتغلّب على الخطر الكامن في التكرار الممل للموضوع الواحد، فهو يدرك أن عليه المضي في تغذية جمهور ثبت أن شهيته للشعر الذي ينفّس عن آلامه لا تعرف الارتواء، ولذلك بقي الموضوع السياسي محور علاقته مع جمهوره،فأي تغيير كبير في هذا المجال سيبدو للجمهور تخلّياً عنه أو خيانة له. وقد تخلّص من هذا المأزق بطريقتين: الأولى أنه بعد أن كتب قدراً من الشعر السياسي (الذي برّز فيه) شعر أن بإمكانه التركيز أحياناً على موضوعات أخرى مثل الحب. من ناحية ثانية، اتّصف هذا الشاعر بالمرح والدعابة والشعور بالراحة مع نفسه ومع الآخرين مما لا يتسع له صدر محمود درويش نتيجة لمزاجه الخاص، وهكذا تمكّن سميح القاسم من ابتكار طريقة يضمن بها مشاركة الجمهور أثناء إلقائه القصيدة، فجعل من الجمهور نفسه في بعض تجاربه جزءاً لا يتجزّأ من القصيدة، إذ كان يلجأ أحياناً إلى نوع من التمثيل فيقف على المنصة منشداً قصيدته ويطلب من الجمهور أن يردد معه اللازمة في القصيدة أو أن يشترك معه في التصفيق.
أما محمود درويش فإنه، على النقيض من ذلك، يلتزم موقف الجد التام مفضلاً الطريقة التي ظلّ المشاعر يواجه بها جمهوره في العالم العربي، حيث يخاطبهم كنبي وينشدهم شعره بلهجة رؤيوية تتحدّث عن مصير الفلسطيني وقدره، بينما يصغي الجمهور مأخوذاً ومتعلّقاً بكل كلمة، وفي تواصله مع رسالة القصيدة ينفجر بين الحين والآخر بدفقات عاطفية من الهتاف والتصفيق، تشبع حاجاته الماسة إلى التطهير وتوفّر له المتنفّس المرتجى.(106)
يتنقّل سميح القاسم في شعره بين العديد من الأنماط، فنجده ينتقل من النمط التراجيدي إلى النمط الكوميدي بيسر كبير، ويعكس أحياناً رؤيا مرعبة يعبّر عنها لا بالصورة الفنية ومعالجة الموضوع وحسب، بل من خلال لهجة تغدو رنانة ومرعبة معاً.(107) كذلك نلمح في شعره شيئاً من خصائص مذهب ما بعد الحداثة يتبدّى أولاً في حرصه الشديد على إشراك الجمهور في إنشاد القصيدة، وثانياً في محاولاته العرضيّة، من حين لآخر، لتأليف (المعارضات PASTISHE) حيث أصدر عام 1983 ديواناً صغيراً بعنوان كولاج وكان خليطاً من كل أنواع الكتابة، فتراوح بين الشعر والنثر الشعري والبيانات الصحفية. واستعمل في هذا الديوان لة وإيقاعات متنوعة ما بين التعبير الخطابي الذي يذكرنا بالشعر القديم واللغة شبه العامية التي تذكرنا بالأغاني الشعبية الفلسطينية، كما تنوّعت لهجة الخطاب فيه بين المأساوي والساخر أو الكوميدي. وفي العام نفسه نشر سميح القاسم مجموعة أكبر من جهات الروح. اتسمت ببعض هذه العناصر كذلك، لكنها حافظت على قدر أكبر من البلاغة مما في كولاج(108). ويتصف إنتاجه الشعري الفني بالتجريب ولكن بطريقة يتميز بها عن سواه. ولعل سميح القاسم هو الشاعر الفلسطيني الأول (بل العربي الأول بقدر ما أعلم) الذي تظهر في أشعاره بعض من خصائص مذهب ما بعد الحداثة.
توفيق زياد
أما توفيق زيّاد (1932 – 1994)، فإنه يمثّل في نظر الفلسطينيين صورة الكفاح الذي لا يكل، بصلابته وثباته وحفاظه على رؤيته الخاصة بالعدالة، ولم يتغيّر شعره كثيراً منذ أن بدأ كتابة قصائده الوطنية المؤثرة في الستينات، وهي القصائد التي تشكّل تعبيراً حميماً عن الروح الفلسطينية لا يفوقه في ذلك تعبير آخر. ولقد لُحّن العديد من هذه القصائد وراح الناس يتغنون بها. وليس هناك فلسطيني لا يحفظ بعضها أو يترنّم بها،كما أنه ليس هناك أيّ تجمع للعرب، من بوسطن إلى بيت لحم وما بينهما، لا ينشدها في ملتقياته، فشعره يستجيب لتلك الحاجة الملحّة للتعبير الحازم عن الإيمان والعزم في وجه العدوان. وهو لا يكتب الشعر لذاته، لأن التزام توفيق زيّاد بقضيّة شعبه ربما كان أقدس بعنده من فنّ الشعر نفسه. ولكنه في الوقت ذاته لم يكتب هذا الشعر ليكون وسيلة لغاية فقط، بل كتبه لأنّ به وبأبناء وطنه حاجة للحديث الصريح شعراً عما يحسون أنه وضع ملئ بالمراوغة السياسية والغموض والتآمر. إن شعره رفض وتأكيد في آن معاً لوضع شعبه القلق؛ ولا شك في أن الواقع السياسي القاسي يولّد أحاسيس وطموحات تتحوّل بدورها إلى شعر.
علي الخليلي
إنه لمن المستحيل الكتابة عن الشعراء العديدين الذين أغنوا التراث الشعري داخل فلسطين وفي الشتات. لكن لا بدّ من ذكر ما أنتجه علي الخليلي (المولود سنة 1943) من شعر غني بالرمز. وهو شاعر واسع الثقافة من الضفة الغربية، يصوّر تجربته في ظل الوضع السياسي البائس هناك بأشعار تتميّز بحداثتها. ومن خصائص شعره المميزة استعماله للدفقات الشعرية القصيرة المتقطّعة التي تعكس قلق الشاعر العميق وتنتج أثراً حاداً وقوياً في أغلب الأحيان:
استعد
استرح
تدحرج يا رأس الملفوف الأخضر(109)
انهمري
أبطالاً منسيين، نوافذ مغلقة،
عمّالاً مغتربين ومنفيّين،
وفلاّحين بلا أرض،
وأغانٍ دون شفاه،
انهمري(110)
وتشير المبالغات في شعره إلى ما يحس به من عبث الحياة المحيطة به، وهي الحياة التي تحاصر الفلسطيني لا داخل إسرائيل وحسب، بل في العالم العربي بأسره. لكن هناك كذلك في هذه النغمات المحتدة، بحث دؤوب عن السكينة وعن جواب للمشكلات التي تقض مضجع الشاعر.(111)
وما أكثر ما تبزغ، من خلال التعابير المعقّدة المتلاحقة والصور الشديدة التوتر، مقولة بسيطة ولكنها ثاقبة:
هنا النفظ سقف هوى(112)
أو:
نحن ملح الأرض
والأرض لباس وأوسمة وأقراط ودبابيس وأصباغ وسجاجيد ... إلخ
للجنرالات الجدد.(113)
نجد في هذا المقطع الأخير ما يتميّز به الشاعر من الإدراك الساخر للأوضاع، كما أن هناك مقاطع أخرى يظهر فيها
لانشغال بالتجربة الإنسانية الشاملة، وخاصة بما فيها من المعاناة:
وما قصد ضحكات الرؤوس المقطّعة المكدّسة في
الرياض والقاهرة ومراكش والخرطوم وجنوب إفريقيا
وشيلي وواجهات العرض الزجاجية الفاتنة في نيويورك(114)
بهذا النوع من الجرأة يحافظ الشعراء الفلسطينيون الطليعيون على روح التجريب ناشطة دون شطط، ولكن خاضعة في الوقت نفسه لسيطرتهم الحاذقة على أدواتهم الفنيّة.
ويزدهر هذا الشعر فنيّاً باستمرار، لكنه لا يغفل إطلاقاً الواقع التاريخي الذي يواجهه الشعب الفلسطيني في الوقت الحاضر. ومن المهمّ أن يلاحظ النقّاد المعاصرون كيف أن هيمنة الواقع السياسي المباشر على الطاقة الإبداعية عند هؤلاء الشعراء لم تؤد بهم إلى الضلال كما حصل مع شعراء السبعينات. وهذا يشير إلى وجود نضج جمالي جديد يهيمن، ليس فقط على حفنة من الفلسطينيين الموهوبين الذين يكتبون هذه الأيام، بل على شعراء لا يقلّون عنهم إبداعاً وبراعة في أرجاء العالم العربي بأسره.
أدب المذكرات الشخصية
ربّما كان أدب المذكرات الشخصية الذي أنتجه الكتّاب الفلسطينيون أبلغ شاهد على عصر النكبات. ويمثّل الجانب الأكبر من هذا الأدب موقفاً إيجابياً في وجه المصاعب المفروضة على حياة الفرد اليومية، كما في وجه الدعاية السلبية التي تعرّضت لها القضية الفلسطينية على مدى عقود دون أن يردعها رادع، ودون أن يمحّصها مؤرخون معروفون من ذوي الشهرة أو أن يتساءل المواطنون العاديون عن صحتها.
وتكشف المذكرات والذكريات واليوميّات والسّير الذاتية قاطبة عن رغبة متّقدة بترسيخ هوية كتّابها ووصف تجاربهم الخاصة. لكن حياة الفرد الداخلية لا تؤدي وظيفتها في فراغ، خاصة في زمن الاضطراب الجماعي الذي لا يمكن فيه لأدب الشهادة الشخصية الجيّد أن يكون شخصياً خالصاً وحسب، إذ ينبثق هذا الأدب،لا محالة، من العصر الذي أنتجه ومن الهوية الجماعية التي تحدّد معالم الحياة حول الكاتب وتعكس الهموم الاجتماعية والسياسية في عصره. ولذا فإن هذا الأدب وثيق الصلة بالأحاسيس والمواقف التي تتجاوز حدود الفرد،وهذا هو في الحقيقة مصدر أهميته وجاذبيته وأثره العميق في النفوس. ومما يضفي على هذا الوضع بعداً خاصاً، في حالة الكتّاب الفلسطينيين،ا لبيئة الخاصة التي يعملون ضمنها، إذ يعطي كتّاب المذكرات الشخصية الفلسطينيون، في الأغلب الأعم، من الاهتمام للقوى الخارجية التي تتفاعل من حولهم أكثر مما يعطونه لما يعتمل في دخيلتهم من تأملات، ويجيش في صدورهم من عواطف خاصة.
وتصف كتاباتهم،عادة،السياق الاجتماعي حتى عندما يعبّرون عن مشاعرهم الشخصية، فاللوعة التي يعبّر عنها محمود درويش في مذكراته الشخصية حول الغزو الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 تزداد عمقاص وشمولاً بسبب الأحداث المهمة التي حدثت وسجلها ذلك التسجيل الحي البليغ، إذ أنّ الحرب حوله تستثير ذكريات ورغبات دفينة ما كانت لتظهر (كتابةً على الأقل) دون وجود ذلك الخطر المحدّق. كذلك فإن ما يتذكّره محمد الأسعد عن أخيه الشاب المتوفّى، رغم أنه صاغه بعبارات شخصية (هواجس طفل يشاهد الموت والتفجّع للمرة الأولى، تبرز هنا بشكل تجربة داخلية خاصة جداً دفنت لسنوات في ثنايا الذاكرة التي كادت تغيب في العقل الباطن) يتمثل أمامنا أيضاً في سياق موت فتيّ يحدث وسط وحشة مخيّم للاجئين في لبنان وعزلته حيث عالم من الغربة والذّل المريرين يبدو كأنه يضاعف مأساة الموت. أما الصمود البطولي الذي يصوره صلاح تعمري، في وصفه لحبسه الانفرادي في زنزانة داخل أحد السجون الإسرائيلية، فيدلّ على أن البطولة السياسية ظلّت دائماً تحمل رسالة جماعية.(115)
تنزع الآداب في الشتات إلى الاشتراك في عدد من النواحي العامة، منها اثنتان تظهران بوضوح في الأدب الفلسطيني،وخاصة في أدب المذكرات الشخصية، وهما الطبيعة السياسية الملحّة لهذه الكتابات، والطريقة التي يتخذ بها كلّ شيء في هذا الأدب قيمة جماعية.
أما الناحية الثالثة فهي الاهتمام الدائم الهوية الوطنية، مما شكل حافزاً كبيراً وراء هذا النوع من الكتابة الفلسطينية،لأن المشكلة التي كانت مثاراً مستمراً لقلقٍ لا ينقطع، كما أنها كانت في أساس التجارب المتنوعة والمعاناة الخاصة التي أضحت السمة المميّزة للحياة الفلسطينية منذ 1948. ونفهم أدب المذكرات الشخصية الفلسطيني على أنه وصف يقدّمه شاهد عيان للحياة الفلسطينية المعاصرة، قصد منه الإمساك بنوع من الهوية ضمن فوضى المأساة الجماعية، كما قصد منه التحدّث بقوة إلى العالم. كان هذا الجانب الثاني حاجة شاملة ملحة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لأن جانباً من إحباط الفلسطينيين وقلقهم، منذ نكبة عام 1948، تمثّل في وجود جدار يصعب اختراقه، حجب العالم عن رؤية القضية الفلسطينية وآثارها التي تتسع باستمرار. فقد انتشر في جميع أنحاء العالم طوفان من الدعاية الخبيثة المليئة بالتضليل والتلفيق، فطمس معالم القضية الفلسطينية برمّتها، وعتّم على عدالتها، وكثيراً ما أظهرت هذه الدعاية المضادة الفلسطينيين على أنهم مخلوقات عاتية لا ضابط لها في أنظار العالم. ولذا فقد شعر الكتّاب الفلسطينيون بالحاجة المُلحّة لرفض هذه العزلة وللوصول إلى وعي الآخرين عن طريق رواية قصّتهم مراراً وتكراراً بكلّ تفاصيلها ومناحيها التي لا حصر لها وكما خبرها الفرد نفسه.
ويسعى هذا النوع من الكتابة الفلسطينية إلى بيان حقيقة الوضع في العديد من مناحي الحياة. فهناك مثلاً الحاجة لمناهضة صورة التخلّف والبدائية التي أشاعتها الدعاية السلبية، عن طريق التدليل على وجود حياة متحضّرة عميقة الجذور في فلسطين. وقد صوّر يوسف هيكل، في وصفه لفترة صباه التي قضاها في يافا، أسلوب الحياة الراقية المتلوّنة الجوانب للطبقة الفلسطينية العليا في مطلع القرن العشرين، مذكّراً العالم بأن فلسطين لم تكن مجرّد صحراء جرداء متخلفة، بل كانت بلداً فيه حياة متحضّرة متقدّمة، إضافة إلى الأراضي الزراعية الخصبة التي تعمرها البيّارات والجنائن والحقول الخضراء. كما صوّر الدكتور صحبي غوشة، في معرض وصفه لأيّام شبابه في القدس، طبقة مدنية وسطى عميقة الجذور ينتظمها دستور اجتماعي وأخلاقي راسخ الوجود، ولها عاداتها وتقاليدها المعروفة. كذلك هناك تبيان للحياة الفكرية التي عاشها الناس إلى أقصى مداها، كما صوّرها خليل السكاكيني في يوميّاته الشهيرة التي تملأ مجلّداً ضخماً والتي بدأ كتابتها في أواخر القرن التاسع عشر. ومن بعده بعقود كتب هشام شرابي عن هذه الحياة الفكرية واصفاً القطبين اللذين دارت حولهما حياته الفكرية المبكّرة، وهما السعي الحر للحصول على المعرفة والطموح الصادق إلى التغيير والتقدم. ولدينا ذلك البيان الخاص بقدرة المرأة الفلسطينية على تجاوز المستحيل و تحقيق السمعة العالمية في وصف فدوى طوقان لحياتها بأسلوبها المرهف. وهناك وصف للحياة الريفية التي صمدت أمام الزمن، وهي الحياة التي صوّرها جبرا إبراهيم جبرا ذلك التصوير الحي، بما فيها من شبكة العلاقات الإنسانية الحميمة، وبأسلوبها الزاخر- رغم الصعاب– بالحبّ والخير وتراث الأجداد وأغانيهم الموروثة.
وأخيراً وليس آخراً، هناك الحديث عن المأساة. وقد يتناول هذا الحديث معاناة الأطفال أثناء الخروج وهم يطفئون ظمأهم بارتشاف الندى عن ورق الشجر، كما نقرأ في مذكرات محمد الأسعد، أو مأساة رجال ظلمتهم وعذّبتهم نظم قاسية في البلاد العربية سيطرت على مصائرهم بعد سنة 1948 كما صوّرها معين بسيسو، أو قد يتناول الحديث شهادات عن الحرب والعدوان أو المعاناة الموحشة لرجالٍ ونساءٍ سقطوا، بشكل أو بآخر، ضحايا لويلات الحرب الوحشية الحديثة كما نقرأ في مذكرات محمود درويش ومي صايغ ورشاد أبو شاور عن الغزو الإسرائيلي سنة 1982. وأخيراً قد تتناول المذكرات مصير الشجعان وهم يواجهون الأعداء وآلات التعذيب كما وصفها صلاح تعمري(116) ذلك الوصف المؤثر. ولقد شهد كتّاب آخرون كثيرون، إلى جانب أولئك الذين اخترناهم هنا، على التجربة الفلسطينية(117) ، ولا شك في أن كثيرين آخرين سيفعلون ذلك في المستقبل القريب. والفلسطينيون يعرفون حقّ المعرفة انهم إن لم يعلنوا عن تجربتهم للعالم فإن العالم سيكون مستعداً لنسيانهم. إن أدب الشهادة الشخصية هو مصدر دعمٍ وراحة للفلسطينيين أنفسهم مثلما أنّه مصدر شفاء للذين يقرأونه فضلاً عن الفائدة الخارجية التي يستطيع هذا الأدب أن يحققها من خلال إقامة العلاقات مع الآخر.
إن الجانب الأعظم من أدب الشهادة الشخصية يعتمد حتماً على الذاكرة، والذاكرة شديدة الاعتماد على الانتقاء. غير أن بعض الأدب الفلسطيني من هذا النوع، مثل وصف محمد الأسعد المؤثر للخروج عام 1948، وللحياة في فلسطين قبل الخروج، يعتمد على ذاكرة الآخرين،وقد جمعت هذه المعلومات في وصفه – كما سبق أن ذكرنا- من روايات كبار السن في عائلته وقريته. ومما تتصف به الكتابات في الشتات كذلك تأرجحها بين الذاكرة واحنين. لكن الأدب الفلسطيني في الشتات له جذوره العريقة. فالشعر العربي القديم ملئ بهذا الموضوع الذي تأسس مبكّراً في زمن الجاهلية عندما كان العرب ما يزالون رُحّلاً يعيشون حياة شتات باستمرار. والواقع أن الروح العربية ظلّت، منذ أقدم العصور، يمزّقها الحنين وتحييها الذاكرة، وهما عنصران لا ينفصمان ويسمان الأدب الفلسطيني كذلك.
وأخيراً وليس آخراً، هناك الحديث عن المأساة. وقد يتناول هذا الحديث معاناة الأطفال أثناء الخروج وهم يطفئون ظمأهم بارتشاف الندى عن ورق الشجر، كما نقرأ في مذكرات محمد الأسعد، أو مأساة رجال ظلمتهم وعذّبتهم نظم قاسية في البلاد العربية سيطرت على مصائرهم بعد سنة 1948 كما صوّرها معين بسيسو، أو قد يتناول الحديث شهادات عن الحرب والعدوان أو المعاناة الموحشة لرجالٍ ونساءٍ سقطوا، بشكل أو بآخر، ضحايا لويلات الحرب الوحشية الحديثة كما نقرأ في مذكرات محمود درويش ومي صايغ ورشاد أبو شاور عن الغزو الإسرائيلي سنة 1982. وأخيراً قد تتناول المذكرات مصير الشجعان وهم يواجهون الأعداء وآلات التعذيب كما وصفها صلاح تعمري(116) ذلك الوصف المؤثر. ولقد شهد كتّاب آخرون كثيرون، إلى جانب أولئك الذين اخترناهم هنا، على التجربة الفلسطينية(117) ، ولا شك في أن كثيرين آخرين سيفعلون ذلك في المستقبل القريب. والفلسطينيون يعرفون حقّ المعرفة انهم إن لم يعلنوا عن تجربتهم للعالم فإن العالم سيكون مستعداً لنسيانهم. إن أدب الشهادة الشخصية هو مصدر دعمٍ وراحة للفلسطينيين أنفسهم مثلما أنّه مصدر شفاء للذين يقرأونه فضلاً عن الفائدة الخارجية التي يستطيع هذا الأدب أن يحققها من خلال إقامة العلاقات مع الآخر.
إن الجانب الأعظم من أدب الشهادة الشخصية يعتمد حتماً على الذاكرة، والذاكرة شديدة الاعتماد على الانتقاء. غير أن بعض الأدب الفلسطيني من هذا النوع، مثل وصف محمد الأسعد المؤثر للخروج عام 1948، وللحياة في فلسطين قبل الخروج، يعتمد على ذاكرة الآخرين،وقد جمعت هذه المعلومات في وصفه – كما سبق أن ذكرنا- من روايات كبار السن في عائلته وقريته. ومما تتصف به الكتابات في الشتات كذلك تأرجحها بين الذاكرة واحنين. لكن الأدب الفلسطيني في الشتات له جذوره العريقة. فالشعر العربي القديم ملئ بهذا الموضوع الذي تأسس مبكّراً في زمن الجاهلية عندما كان العرب ما يزالون رُحّلاً يعيشون حياة شتات باستمرار. والواقع أن الروح العربية ظلّت، منذ أقدم العصور، يمزّقها الحنين وتحييها الذاكرة، وهما عنصران لا ينفصمان ويسمان الأدب الفلسطيني كذلك.
لربما حسب بعضهم أن الفلسطينيين، بنشوء أجيال جدية منهم دون ذكريات شخصية فعلية عن الوطن، ستخلون شيئاً فشيئاً عن المطالبة بأرض فلسطين ويندمجون في محيط البلاد التي يعيشون ويعملون فيها وفي حياتها. لكن المجموعة المختارة في هذا الكتاب تبيّن مدى خطأ هذا التفكير، ذلك أن الحنين ما زال حيّاً متواصلاً حتى في ذاكرة الفلسطينيين الذين نادوا خارج وطنهم، أو غيرهم ممن نجحوا وأثّروا في أماكن أخرى سواه. إن الأطفال الفلسطينيين في الشتات يجلسون حول مواقد النار في الشتاء ويطلبون من كبار السّن حولهم، أولئك الذين يحتفظون بالذكريات، المزيد من الوصف للوطن الذي لم يروه قط، ثم يتغذّون وهم يكبرون بهذه الذكريات.
الأدب الفلسطيني المعاصر
إنّ الأدب الفلسطيني المعاصر يشكّل مساهممة ثرية فاعلة في الثقافة العربية الحديثة، وهي مساهمة تنبض بالحياة والإبداع. وقد تطوّر هذا الأدب في مجال الفن القصصي بشكل مماثل لتطوره في الأدب العربي الحديث عموماً، كما شكّلت بعض تجاربه الطليعية، مثل تجارب غسّان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وإبراهيم نصر الله، مساهمات بناء ة في التجارب الجارية باستمرار في العالم العربي، وفي بعض الأحيان أنتج الفن القصصي الفلسطيني معالجات فريدة لا مثيل لها في الأدب العربي، مثال ذلك رواية إميل حبيبي الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل،و براري الحُمّى لإبراهيم نصر الله. وما زال العمل التجريبي في مجال الفن القصصي ماضياً بكل حيوية ونشاط.
وقد دفعت الظروف الخاصة التي يحياها الفلسطينيون، حيث يقعون باستمرار فريسةً للتشويه وتخضع هويتهم للطمس المتواصل، دفعت بالكثيرين منهم غريزياً إلى إنتاج العديد من أشكال الشهادة الشخصية، وهذا نوع أدبي يعد بأن يسهم بنصيب إبداعي كبير في الأدب العربي الحديث الغنيّ.
لكن فنّ الشعر هو الفنّ الذي يزخر به المشهد الأدبي الفلسطيني أكثر من سواه، ويبرز فيه الفلسطينيون أينما وجدوا الحركة الطليعية المزدهرة داخل الأدب العربي. وهذا وضع يثير حماسة الناقد. بشكل خاص بالنظر للمواضيع السياسية التي تفرضها على الشعر طبيعة الحياة الفلسطينية ذاتها. إنه لمن الصحيح أن الانهيار العربي العام قد سبب قلقاً مرهقاً وصدمةً عميقة للعرب جميعهم خلال القرن العشرين، ولكن الشعر الفلسطيني عانى من ذلك أكثر من أي شعب آخر فقد أخذ كما تقول الناقدة المبدعة فريال غزول – نصيب الكل مجتمعاً ووقف حيث تتلاقى كل السيوف: سيوف الأعداء وسيوف الأشقاء. ثم تستشهد فريال غزول بأبيات مريد البرغوثي وهو يخاطب الفلسطيني المنفي:
لكلّ مواطن حاكم
ووحدك أنت محظيّ بعشرين من الحكّام
في عشرين عاصمة
فإن أغضبت واحدهم
أحلّ دماءك القانون
وإن أرضيت واحدهم
أحلّ دماءك الباقون.
لكن فريال غزول تضيف: فبالرغم من احتلال الأرض الفلسطينية وحصار الشعب الفلسطيني والتعتيم على حقوقه، بالرغم من محاولات الإبادة والتصفية الجسدية والنفسية والحضارية لهذا الشعب، فما زال صوته يرتفع متخطيّاً الحواجز والسدود.(118)
غير أن ما يتضمنه الأدب لا يقتصر على وضع سياسي لا بدّ من شرحه للعالم، فلو اقتصر الأدب على نقل النقاش السياسي أو الدعاية لفقد ما له من قيمة عظيمة، ولكن ربما كان أعظم ما أنجزه الشعر الفلسطيني المعاصر تصويره المرهف الراقي جمالياً لوضع وجوديّ حقيقي. لكن ما يهمنا هنا هو مسألة العدالة والسعادة الإنسانية. فالأدب الفلسطيني تناول بالدرجة الأولى معاناة ونضال جزء من الإنسانية،وجد نفسه عالقاً في شرك وضع سياسي أُحكمت هندسته وفرض عليه دون رضا منه ودون ذنب ارتكبه. إن قصة فلسطين هي قصة البراءة الأولى في مواجهة استراتيجية عالمية استغلّت هذه البراءة، في العقود الأولى من هذا القرن، لتنفيذ سياسة تقوم على العدوان والترويع، ونتج عنها آلاف المآسي الشخصية. هذه التجارب الشخصية هي غذاء الأدب، وإذا ما نظرنا إلى هذا الأدب في سياق الكارثة المروّعة التي لم تتوقّف أبعادها عن التوسع منذ 1948، فإنه لا بدّ لهذه الروح العالية التي نجدها فيه، ولا بدّ لذلك الإيمان وتلك المرونة، وذلك التعاطف والحب،وتلك الشجاعة وقوة الاحتمال، وذلك الصمود الراسخ – لا بدّ لهذه الأمور جميعها من أن تلامس أحاسيس القراء أينما كانوا، وتجعلهم يتعرّفون فيها على التجربة الإنسانية – الشمولية ويتفاعلون معها بالتالي بكل قوة. إن الحرية والعدالة لا يمكن تجزئتها لأنهما قيمتان شموليتان، والمأساة أينما حدثت وبغض النظر عمّن تمسّ، فإنها تتخطّى الزمن ويظل لها وجه واحد هو الوجه الإنساني. وهي مازالت تؤثر فينا عبر القرون عندما نقرأ عنها في الأدب القديم، ويجب أن تستمر في التأثير فينا الآن، فقصة المعاناة الإنسانية والسعي الإنساني تُروى أفضل ما تُروى في آداب الأمم وإبداعاتها.
المراجع والمصادر
1- انظر كتاب سلمى الخضراء الجيوسي:Trends and movements in Modern Arabic Poetry (Leiden: Brill. 1977), 1:5).
2- (؟)
3- أنظر أيضاً كتاب آرنولد هاوزر المؤلف من 4 مجلدات:A. Hauser, The Social History of Art (London: Routledge and kegan Paul, 1956). وقد صدرت ترجمته الفن والمجتمع عبر التاريخ عن المؤسسة للدراسات والنشر، 1980. انظر مقدمة كتابي Trends and Movement s، ففيها تفصيل أكبر لهذه الناحية من التأريخ الأدبي.
3- أنظر أيضاً كتاب آرنولد هاوزر المؤلف من 4 مجلدات:A. Hauser, The Social History of Art (London: Routledge and kegan Paul, 1956). وقد صدرت ترجمته الفن والمجتمع عبر التاريخ عن المؤسسة للدراسات والنشر، 1980. انظر مقدمة كتابي Trends and Movement s، ففيها تفصيل أكبر لهذه الناحية من التأريخ الأدبي.
4- انظر مقالة رنيه ولك:Rene Wellek,” The Theory of Literary History,” in Travaux du cercle linguistique de Prague, no.4 (1936). وكذلك مقالته الفترات والحركات في التأريخ الأدبي.
“Periods and Movements in literary History , in English Institute Annual (New York: Columbia University Press, 1940).
5- انظر كتابي الاتجاهات: 1:5 Trends and in Movements, ومقالتي “vision and
ttitudes in Modern Arabic literature المنشورة في كتاب Studies in Modern Arabic Literature تحرير روبن أوسل. (Warminster: Aris and Philips, 1976) ومقالتي Two Types of Hero in Modern Arabic literature “ نمطان بطوليان في الأدب العربي الحديث no.1، 10Mundus Artium,
Modern Arabic Poetry: An Anthology (New York: Columbia ومقدمتي لكتاب (1977)
(1987)، University Press والفصل الذي بته بعنوان الحداثة في الشعر العربي الحديث Modernist Poetry in Arabic في الجزء الرابع من سلسلة Cambridge History of Arabic Literature, Vol.4. تحرير محمد مصطفى بدوي وقد صدر سنة 1994 عن دار جامعة كامبردج.
6- مثل ذلك القدر الكبير من أدب الشهادة الشخصية الذي ينتجه الكتاب الفلسطينيون باستمرار. ويشمل هذا الأدب السيرة الذاتية على غرار رحلة جبلية لفدوى طوقان (الطبعة العربية 1985) وصدر بالإنجليزية في سلسلة Prota ترجمة أولف كني (Olive Kenny) بعنوان: London The) A Mountain Journey Women’s Press, 1990) and (st. Paul, Minnesota: Graywolf , 1990).
وكتاب هشام شرابي جمر ورماد (1978) Embers and ashers، وكتاب جبرا إبراهيم جبرا البئر الأولى (1987). (طبعة ثانية/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر). ويشمل اليوميات مثل كذا أنا يا دنيا خليل السكاكيني (1955). وآه يا بيروت لرشاد أو شاور (1983). والمذكرات مثل يوميات الحزن العادي (1973) لمحمود درويش، وذاكرة النسيان (1986) له أيضاً. ودفاتر فلسطينية (1978) لمعين بسيسو، و الحصار (1988) لمي صايغ. كما يشمل الذكريات مثل شمسنا لن تغيب (1988) لصبحي غوشة وأيام الصبا (1988) ليوسف هيكل. انظر المقتطفات المأخوذة من هذه الكتب في الجزء الثاني من هذه المختارات.
وهناك كتب أخرى، مثل مذكرات ليلى السائح حول الغزو الإسرائيلي لبيروت بعنوان الجذور لا تغادر (1984).
7- انظر رواية سحر خليفة الصبّار التي ترجمها لبروتا (Prota) كل من تريفور ليغاسك (Le Gassick) وإليزابيث فيرنا (Fernea) بعنوان (Wild Thorns: Saqu Books, London 1986) وتتحدث هذه الرواية عن محنة هؤلاء العمال ومصير الفلسطينيّين في الضفة الغربية.
وكتاب هشام شرابي جمر ورماد (1978) Embers and ashers، وكتاب جبرا إبراهيم جبرا البئر الأولى (1987). (طبعة ثانية/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر). ويشمل اليوميات مثل كذا أنا يا دنيا خليل السكاكيني (1955). وآه يا بيروت لرشاد أو شاور (1983). والمذكرات مثل يوميات الحزن العادي (1973) لمحمود درويش، وذاكرة النسيان (1986) له أيضاً. ودفاتر فلسطينية (1978) لمعين بسيسو، و الحصار (1988) لمي صايغ. كما يشمل الذكريات مثل شمسنا لن تغيب (1988) لصبحي غوشة وأيام الصبا (1988) ليوسف هيكل. انظر المقتطفات المأخوذة من هذه الكتب في الجزء الثاني من هذه المختارات.
وهناك كتب أخرى، مثل مذكرات ليلى السائح حول الغزو الإسرائيلي لبيروت بعنوان الجذور لا تغادر (1984).
7- انظر رواية سحر خليفة الصبّار التي ترجمها لبروتا (Prota) كل من تريفور ليغاسك (Le Gassick) وإليزابيث فيرنا (Fernea) بعنوان (Wild Thorns: Saqu Books, London 1986) وتتحدث هذه الرواية عن محنة هؤلاء العمال ومصير الفلسطينيّين في الضفة الغربية.
8- يشتمل الوطن الفلسطيني التاريخي الذي يشعر الفلسطينيون عموماً بالانتماء إليه الأراضي التي استولى عليها الصهاينة سنة 1948 وحولوها إلى دولة إسرائيل فضلاً عن الضفة الغربية وقطاع غزة اللذين احتلتهما إسرائيل في حرب حزيران سنة 1967، وعندما يتطلب السياق تسمية موقع جغرافي فإنني سأفعل ذلك بطبيعة الحال، وسيكون هذا مناسباً مثلاً عند الحديث عن الاختلافات بين الأدب الذي كتبه عرب يعيشون داخل إسرائيل وذلك الذي يكتب في الضفة الغربية وغزة، أو عند الحديث عن كتابات تتناول في موضوعاتها المشكلات الخاصة بالفلسطينيين داخل إسرائيل أو الفلسطينيين في بقية فلسطين. ومن الأمثلة البارزة على ذلك رواية إميل حبيبي الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل الذي يصف حياة الفلسطينيين الذين بقوا في دولة إسرائيل بعد سنة 1948 على مدى عشرين عاماً، وكتاب سحر خليفة الصبار (انظر الهامش 6 أعلاه).
9- هذا لا يعني أن الكتاب الفلسطينيين الذين تفاعلوا مع اللغة العبرية والأدب العبري فقدوا هويتهم الثقافية فهذا هنان هيفر (Hanan Hever)، أحد النقّاد الإسرائيليين الشباب يقول: من اللافت للنظر أنه كلما عزّزت الأقلية العربية في إسرائيل من هويتها زاد الشعور بحضورها داخل ثقافة الأكثرية العبرية؛ انظر نقطة الضعف في الأدب الإسرائيلي. 30: (5) 4، Tikkum، Israeli literatures Achilles heel، كذلك يقول هذا الكاتب في هذه المقالة إن دور النشر تبدي اهتماماً متزايداً بنشر ترجمات عبرية للأدب العربي الإسرائيلي لعامة القراء الإسرائيليين.
10- خالد على مصطفى: الشعر الفلسطيني الحديث، ص 24.
11- انظر كتابي. 45 –25 : 1، Trends and Movements
12- محمد سليم الرشدان: الأدب في فلسطين، الرسالة، العدد 684 (3 آب 1946)، ص 897. وانظر أيضاً ناصر الدين الأسد: الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن (القاهرة 1957)، ص 28.
13- كتابي. 35-34 pp, Trends and movements
13- كتابي. 35-34 pp, Trends and movements
14- لقد عانيت أنا شخصياّ من هذا الحرمان من الحياة الأدبية الحقيقية خلال نشأتي في فلسطين في الثلاثينات والأربعينات. وكان أشدّ ما التزم به الشعراء في مجال التعبير الأدبي في فلسطين هو الهجاء السياسي.
وقد حاز كل من إبراهيم طوقان (1905- 1941) أعظم شاعر فلسطيني في العشرينات والثلاثينات، وعبد الرحيم محمود (1913 – 1948) على شهرة مباشرة من خلال شعرهما السياسي. أما ابتعاد فدوى طوقان عن السياسة في أوائل حياتها الأدبية فقد أدى إلى صراع عائلي تشرحه شرحاً جيداً في المقطع المنشور في هذا المجلّد من سيرتها الذاتية رحلة جبلية.
وقد حاز كل من إبراهيم طوقان (1905- 1941) أعظم شاعر فلسطيني في العشرينات والثلاثينات، وعبد الرحيم محمود (1913 – 1948) على شهرة مباشرة من خلال شعرهما السياسي. أما ابتعاد فدوى طوقان عن السياسة في أوائل حياتها الأدبية فقد أدى إلى صراع عائلي تشرحه شرحاً جيداً في المقطع المنشور في هذا المجلّد من سيرتها الذاتية رحلة جبلية.
15- خاصة رواية إميل حبيبي المتشائل (انظر الهامش 7).
16- يمكننا أن نرى ذلك مثلاً في نتاج أخوين موهوبين هما محمود وزكي درويش فشعر محمود درويش تطوّر بسرعة بعد مغادرته إسرائيل في أوائل السبعينات للعيش في العالم العربي الأوسع، واختلاطه بالشعراء الطليعيين وتعرضه لتأثيراتهم المتباينة عن كتب بشكل غير من طبيعة عمله ودفع به إلى ذروة الإنجاز الفني. ويُبدي زكي درويش في بعض قصصه القصيرة قدراً في البراعة والموهبة الخالصة التي يعزّ نظيرها. ولكنه غير معروف في العالم العربي عموماً. وأنا أشعر أنه لم يطوّر إمكاناته الفنية الغنية كما فعل أخوه محمود درويش.
17- انظر قصيدته وحدة العناية المركزة أدناه، وهي مثال نادر على الخروج عن الموضوع السياسي، يتحدث فيه حديثاً جميلاً بليغاً عن معاناته لأزمة قلبية.
18- من مقدمتي لرواية إميل حبيبي المتشائل. Pessoptimist, p. Viii أضيف هنا أن العرف الأدبي يميل إلى الاستمرارية، وأن تراث الشعر العربي بشكل عام (التراث الساخر المذكور أعلاه في الأدب العربي القديم) اتخذ أساساً أشكالاً نثرية كالمقامات المشهورة.
انظر الهامش 28: أقول: إن هذا التراث الشعري قد مال عادة إلى استخدام اللهجة الحادة. وفي الجاهلية، عندما كانت الحياة قائمة على المعايير والعادات البدوية كان الشاعر، وهو المتحدث باسم قبيلته والمدافع عن ثاراتها العديدة، مضطراً لاصطناع لهجة جادّة مباشرة ليناسب عقليّة لم تكن قد تمرّست بعد الحذلقة المدنية لكن ظهرت فيما بعد، مع التمدين الذي شاع في العصر الأموي والتغيّر الذي حصل في قضايا الشعر الرئيسة، بعض المعالجات الكوميدية للتجربة (انظر البحث في الهجاء الأموي، خاصة هجاء جرير، في دراستي عن الشعر الأموي في (The Cambridge History of Arabic Literature (London, Sydney, New York: Cambridge University Press, 1983), 1:409) – 13 غير أن هذه التجربة المبكّرة حلّت محلّها فيما بعد الأهلية المتزايدة للشاعر بوصفه مدّاحاً وغدا المديح فنّاً مهمّاً من فنون الشعر إن لم يكن أهمها قاطبة. وهو فن لا يحتمل السخرية أو الهزل أو التهكم لأنه مشغول بالاحتفال بعظمة الحاكم وكرمه وسلطانه.
19- شعراء مثل إبراهيم الدبّاغ (1880 – 1946)، وجريس العيسى (1906 – 1943)، وبدوي العلمي (1901 – 1958)، وإسكندر الخوري البتجالي (1890- 1973)، وبرهان العبوشي (المولود عام 1911) وغيرهم.
19- شعراء مثل إبراهيم الدبّاغ (1880 – 1946)، وجريس العيسى (1906 – 1943)، وبدوي العلمي (1901 – 1958)، وإسكندر الخوري البتجالي (1890- 1973)، وبرهان العبوشي (المولود عام 1911) وغيرهم.
20- انظر كتابي. 71- 470: 1، Trends and Movements حيث ترد هذه المقتطفات.
21- انظر فصل الالتزام واللا التزام وصورة الشعر في الأدب العربي الحديث في مجلة جامعة الخرطوم، المجلّد الأوّل، العدد الأول (1972).
21- انظر فصل الالتزام واللا التزام وصورة الشعر في الأدب العربي الحديث في مجلة جامعة الخرطوم، المجلّد الأوّل، العدد الأول (1972).
22- انظر في هذا المجلّد تحت اسمه قصيدته التي يخاطب بها الأمير سعود بن عبد العزيز عندما زار الأمير فلسطين سنة 1935، وانظر أيضاً قصيدته التي يندر فيها حياته لوطنه.
22- في الأمثلة على ذلك شعر زكريا محمد، أحد أبناء الجيل الجديد من الشعراء حيث اختفى.... البطولي وحلّت محله لهجة خافتة أقرب إلى طبيعة التعبير المدني.
23- انظر الحديث عن شعره في كتابي 302- 298: Trends and movements, 1.
24- هذا الانتصار الأنثوي النهائي الذي يتمثل في تأكيد الذات ضد كل القوى الرجعية المعادية. يجد أجمل تعبير في قصيدتها وجدتها (أي أنها وجدت نفسها. وهناك ترجمة [إنجليزية] لهذه القصيدة في كتابها – Amountainous Journey, pp. 213 – 14.
25- المصدر المذكور، ص 107.
25- المصدر المذكور، ص 107.
26- كانت الفترة الأموية مليئة بقصص الغرام التي كان الرواة يتناقلونها شفاهاً والتي تعود أصولها إلى شخصيات حقيقية. وما قصة الشاعر المشهور قيس بن الملوّح الذي انتهى حبّه اليائس بمأساة جنونه وموته وقصة قيس ابن ذريح الذي دمّرت حياته بطلاقة زوجته المحبوبة لبنى بناء على إصرار أبيه إلاّ أشهر هذه القصص. وكتاب الأغاني ملئ بمثل هذه القصص.
27- هذه قصص أليغورية (ترميزية) ترجمها عن الفارسية بالدرجة الأولى الكاتب ابن المقفع الذي عاش في القرن الثامن، والذي شكّل أسلوبه النّاصع البيان، السهل على الفهم الممتنع عن التقليد، قدوة تحتذى في الأسلوب لجيله ولعدة أجيال بعده. ومعظم القصص في كليلة ودمنة تعود إلى أصول هندية، لكن بعضها يعود إلى أصول فارسية، وبعضها الآخر إلى أصول عربية. وتعبّر المحاورات التي تجري بين أنواع الحيوانات المختلفة عن قدر كبير من الحكمة والفضيلة والدهاء.
28- المقامات هي قصص نثرية قصيرة مسليّة تعتمد السجع والإيجاز وتدور حول مغامرات (محتال) شاطر أو نصاب حاضر البديهة واسع الحيلة، يكسب عيشه باستغلال قابليّة الآخرين للخديعة. وكان أشهر كاتبين المقامات هما أحمد بن حسين الهمذاني (967 – 1007م) وأبو محمد القاسم الحريري (1054 – 1122م) وليس هذا النوع الأدبي بشكله الخاص ونثره المسجوع مثيل في غير العربية، حسب معرفتي.
29- من تأليف الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل (ت 1185).
30- أسس خليل بيدس مجلته الشهيرة النفائس سنة 1908 في حيفا، ثم نقلها بعد سنتين إلى القدس، وهناك استمرت في الظهور حتى عام 1913، ثم توقفت وعادت إلى الظهور لمدة عام واحد سنة 1919. (وهو نمط أصبح مألوفاً في حياة المجلات الأدبية عندنا. فهذا ما حصل للفنون في العقد الثاني من القرن العشرين، وما حصل لشعر في العقد السابع منه). وكانت النفائس مخصصة في أغلبها لنشر القصص. وعمل أحمد شاكر الكرمي في الصحافة قبل إنشاء مجلته الميزان التيظهرت في دمشق عام 1925 إلى عام 1926، ثم توقفت بسبب مرضه وموته المبكّر. وأسّس جميل البحري مجلّتين أدبيتين هما زهرة الجميل، والزهرة في حيفا سنة 1922، واختصت الأخيرة بنشر القصص والمسرحيات. وقد وضع موته المبكّر عام 1930 حداً لحياة أدبية مزدهرة أبدى فيها حيويّة نادرة المثال وتفانياً عظيماً في سبيل نشر فنّي القصة والمسرح الجديدين. ولا بد هنا من القول إن هذه المحاولات المبكرة في فلسطين لتأسيس فن القصة فيها لم تنجح يومئذ.
31- مما يؤسف له أن عائلة البحري فقدت معظم كتبه خلال هجرة سنة 1948 والكارثة التي رافقتها، ولذلك فإن الكتّاب ليسوا واضحين حول المصادر الدقيقة لأعماله أو سنوات نشرها، لكننا نعرف أنه نشر معظم هذه الأعمال في مجلة الزهرة قبل أن يصدرها في كتب.
32- انظر تصديره لمجموعته القصصية آفاق العقل (القاهرة. المطبعة العصرية)، ص 9.
33- المصدر المذكور، ص 12.
34- المصدر المذكور، ص 12-14.
35- انظر أحمد أبو مطر: الرواية في الأدب الفلسطيني، ص 23- 28. [ المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1982].
36- انظر مسرحيته أسرى القصر، ط2 (حيفا،مطبعة الزهرة، 1927)، (يقول فهرس الكتب العربية الفلسطينية [ القدس: مطبعة اللواء، 1946)؛ الطبعة الحالية من نشر اللجنة الثقافية العربية في فلسطين] إن الطبعة الأولى ظهرت في بيروت سنة 1920).
36- انظر مسرحيته أسرى القصر، ط2 (حيفا،مطبعة الزهرة، 1927)، (يقول فهرس الكتب العربية الفلسطينية [ القدس: مطبعة اللواء، 1946)؛ الطبعة الحالية من نشر اللجنة الثقافية العربية في فلسطين] إن الطبعة الأولى ظهرت في بيروت سنة 1920).
37- يذكر فهرس الكتب العربية الفلسطينية مجموعة قصصية أخرى عنوانها أحلام الحياة، ويقول إنها كان تحت الطبع سنة 1946 لكنني لم أستطع العثور عليها للأسف.
8- انظر دراسة فاروق وادي النقدية عن هذه الرواية في كتابه ثلاثة معالم في الرواية الفلسطينية،[ المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1985] ص 20 – 23. وتلك التي كتبها أحمد أبو مطر في الرواية في الأدب الفلسطيني، ص 48 – 49؛ وانظر ناصر الدين الأسد: خليل بيدس، ص 64 – 87.
39- تعرّض الفقر النسبي للأدب الفلسطيني في تلك الحقبة للنقد الشديد من جانب بعض الكتّاب العرب في الأربعينات. فقد نشرت مجلة الأديب البيروتية نقداً كتبه عبد العزيز الغربلي، وهو كاتب من منطقة الخليج، قال فيه إن الأدباء الفلسطينيين لا يعنون بالنشر كثيراً (الأديب، العدد 12، كانون الأول 1944). فردّ كاتب فلسطيني اسمه إسحق جار الله على ذلك بشدّة بقوله إن فلسطين تمرّ في محنة عصيبة وتتعرض لمخاطر كبيرة تهدّد هويتها العربية. ورغم أن المجال [الثقافي] مفتوح لأدب يؤجج الحمية في الجماهير، فنه لا أحد يفكر في الكتابة بينما يخوض الآخرون نضالاً دموياً والمجال هنا ليس مجال الكتابة، بل مجال الخطابة. كما أشار الكاتب إلى أن رقابة الحكومة (البريطانية) قاسية وأنها العامل الرئيسي وراء الركود الأدبي العام (والمصدر المذكور، العدد 1، كانون الثاني 1945). وكتب كاتب آخر اسمه ميشيل جبران في العدد التالي من الأديب دفاعاً عن جار الله بيّن فيه أن معظم الكتّاب. وقفوا جهدهم على كتابة المقالات السياسية الوطنية (المصدر المذكور، العدد 2، شباط 1945). وأكد إسحق موسى الحسيني في عدد آذار من السنة نفسها أن الكتابات النثرية في فلسطين اتخذ معظمها شكل المقالات وليس شكل الكتابات الإبداعية، وقال إن المحنة التي يمرّ بها البلد قد تكون هي السبب (المصدر المذكور، العدد 3، آذار 1945).
40- كان بودّي أن أنشر قطعة من هذه الرواية الفلسطينية الكبرى في هذه المجموعة من المختارات، ولكنني لم أتمكن من الحصول على إذن المؤلف في حياته، ربما لأنني لم أستطع الكتابة إليه مباشرة. هذا مع أن الرواية مترجمة إلى الإنجليزية، ترجمها تبرّعاً منه الأستاذ لورن كيني kenny، تلميذ الدكتور إسحق ترجمة دقيقة جيدة وقد منعنا من نشرها عدم حصولنا على الإذن الخطي من الدكتور إسحق رحمه الله.
41- مذكرات دجاجة، ط1، (القاهرة:سلسلة اقرأ، دار المعارف، 1943)، ص 157.
42- انظر النقد المممتع الذي كتبه فاروق وادي لهذه الرواية في ثلاثة معالم، ص 26 – 30،وأحمد مطر في الرواية في الأدب الفلسطيني، ص 33-39.
43- مثل محاولة محمد العدناني في روايته في السرير (ط1، 1964؛ ط2 حلب: مطبعة سعد، 1953)؛ ومحاولة إسكندر الخوري البنجالي: في قلب الأشياء (القاهرة: مكتبة العرب، 1947).
وتنقد الأولى العلاج الطبي في المستشفيات المصرية وتصف بعض النواحي السلبية الأخرى التي واجهها المؤلف عندما ذهب إلى مصر للعلاج. وهي تتضمن أيضاً وصفاً لرحلته إلى إيطاليا وبرلين بعد شفائه. وتمثل الثانية نقداً للأفكار التقليدية عن الحب والزواج والنظام الأبوي والآلام التي يسببها التمسك بهذه الأفكار. وتعزي للبتجالي محاولات أبكر لكتابة الرواية مثل رواية الحياة بعد الموت (القدس 1920) التي وصف فيها أحداثاً وقعت خلال الحرب العالمية الأولى. وقد فقدت هذه الرواية وكتبٌ قصصية أخرى كثيرة،مؤلفة ومترجمة في أحداث عام 1948 عندما اضطر بعض الفلسطينيين نتيجة للهجرة الجماعية أن يتركوا وراءهم مكتبات ضخمة.
ومن الجدير بالملاحظة أن بعض الفلسطينيين الذين كانوا معروفين في حقول أخرى قد جربوا حظهم في مجال الرواية. فقد كتب المؤرخ المعروف عازف العارف مثلاً رواية نشرها في القاهرة عام 1947 تحت عنوان مرقص العميان، وكتب المؤرخ المشهور محمد عزت دروزة فيما يقال رواية عنوانها سماسرة الأرض (أو طبقاً لرواية أخرى الملاك والسمسار: انظر أبو مطر: الرواية في الأدب الفلسطيني، ص 15، الهامش رقم 52). يهاجم فيها السماسرة الذين أغروا بعض ملاّك الأراضي الفلسطينيين يبيع أراضيهم لليهود.
وهناك معلومات متناقضة حول نشر هذه الرواية، بعضها يقول إنها نشرت فعلاً عام 1934 بينما يشير المؤلف نفسه إلى مخطوطة ضاعت تحمل العنوان نفسه. لكن المهم هنا هو أن هذه الرواية تبدو الأولى التي كتبت عن الوضع السياسي في البلاد. ويعزي للشخصية السياسية الكبيرة جمال الحسيني أنه كتب روايتين: ثريا، وسكة الحديد الحجازية نشرتا في الثلاثينات. ومن الطريف أن نلاحظ وجود أسماء عدد من المؤلفات والمترجمات في هذه الفترة المبكرة أشهرهن أسمى طوبي التي حازت على مكانة رفيعة بصفتها كاتبة من عكا في الثلاثينات والأربعينات، فترجمت القصص وكتبت عن السلوك الأخلاقي ونشرت فيما بعد عام 1955 أي بعد هجرتها مجموعة من قصصها القصيرة بعنوان كلمات من القلب وقد أنجزت عنبرة سلام الخالدي اللبنانية الأصل ترجمة للإلياذة نشرتها في القدس سنة 1946 فكانت تلك مغامرة تشجّع الكاتبات الفلسطينيات الناشئات. وكان ثمة امرأة أخرى ولدت وعاشت في لبنان وكتبت في فلسطين، وهي جمال سليم نويهض التي نشرت سنة 1922 رواية في حلقات في مجلة دنيا المرأة عنوانها ابنة القمر.
وفي سنة 1932 نشرت سبع عشرة قصة قصيرة في المجلة المقدسية العرب؛ وكتبت بين 1943 و 1944 ما يقرب من خمسين قصة قصيرة أذيعت من محطة القدس للإذاعة ولم تنشر جمال سليم نويهض، التي كانت تميل إلى العزلة، إلاّ روايتين من رواياتها الكثيرة هما موكب الشهداء (1959) والغربة في الوطن(1870) وهناك رواية ثالثة عرس في الجنة تحت الطبع ويدور الكثير من روايتها حول المأساة الفلسطينية وما رافقها من ويلات قبل سنة 1948 وبعدها.
44- في الأعم الأغلب ولكن ليس دائماً. فقد كانت بعض الحكايات الشعبية تُروى للحفاظ على المعنويات بعد حصول كارثة وطنية، ومن الأمثلة على ذلك هنا السير الشعبية، سيف الدين يزن التي تروي مغامرات الملك سيف اليمني وانتصاراته على أعدائه، فقد وضعت هذه القصة في مصر في القرن الرابع عشر بعد المصائب والهزائم التي لحقت بمصر. لكن الكثير من القصص الشعبية لا يقصد منه في الواقع إلاّ التسلية والإمتاع.
45- هناك بحث يتناول التجارب المبكّرة في الشعر الحر في كتابي. Trends and Movements,2: 534-60 الجزء الثاني.
45- هناك بحث يتناول التجارب المبكّرة في الشعر الحر في كتابي. Trends and Movements,2: 534-60 الجزء الثاني.
46- المصدر المذكور، ص 542- 550 و ص 557 – 560.
47- انظر الفصل عن الالتزام في كتابي. Trends and Movements,2: 574-83. على الرغم من أن الدعوة للالتزام في الأدب العربي الحديث تقلبت كثيراً من أفكار القائلة إن الشعر يمكن استثناؤه في الالتزام المطلوب في الأنواع الأدبية الأخرى. ذلك لأن الشعر هو أقدم فنون العرب وأكثرها شيوعاً وتأثيراً، ولذا فقد اعتبر النوع الأدبي الأول الذي ينبغي أن يساهم في معركة الحرّية والكرامة.
48- انظر مقدمتي لرواية محفوظ زقاق المدق، ترجمة تريفور ليغاسك Midaq Alley, trans., Trevor le Gassick (Washington D.C: Three Conditions Press, 1989), pp.ix – xii.
49- انظر الفصل المعنون شعر المنابر في Trends and Movements,2: 583-594
49- انظر الفصل المعنون شعر المنابر في Trends and Movements,2: 583-594
50- انظر هذه القصائد وغيرها من القصائد المترجمة لأبي سلمى في المصدر المذكور. 94-298: 1.
51- انظر على سبيل المثال قصيدتها وجدتها حول انتصارها بعد بحثها الطويل عن هويتها الإنسانية وتحقيقها لذاتها (انظر الهامش 24).
51- انظر على سبيل المثال قصيدتها وجدتها حول انتصارها بعد بحثها الطويل عن هويتها الإنسانية وتحقيقها لذاتها (انظر الهامش 24).
52-في مقدمتي لسيرة طوقان الذاتية. Mountainous Journey,p. xii وانظر أيضاً قصيدتها مع التيار.
53- انظر Mountainous Journey,p. ix حيث ترد تفاصيل أو في حول هذه النقطة. وانظر مقدمتي لهذه السيرة الذاتية لمزيد من الحديث حول دورها شاعرة.
54- انظر القسم المعنون (التقليدي والحداثي) في كتابي. Trends and Movements,2: 594-95
55- قدّم سنة 1957 الشاعر اللبناني يوسف الخال الذي أسّس سنة 1957 مجلته الطليعية المخصصة للشعر فقط، محاضرة عامة فصّل فيها القول عما اعتقد أنها معايير الشعر العربي [ اللبناني] الحديث. وشكلت هذه المعايير نظرة متناسقة لما ينبغي أن يكون عليه الشعر العربي الحديث دون ذكر أية معايير حقيقية في الأدب. وكانت المعايير الكبرى في هذه المحاضرة التي اتخذت أهمية كبيرة في وقتها، هي أن الشعر يجب أن يكون تعبيراً عن تجربة مُعاشة، وأن بنية القصيدة يجب أن تقوم على وحدة التجربة؛ وأن هدفها الأول يجب أن يكون هو الإنسان وهو معيار كان الناقد المهجري ميخائيل نعيمة قد وضعه منذ العقد الثاني: (انظر كتابي Trends and Movements,1: 113-114، وانظر أيضاً كتاب نعيمة الفريال، ط 7 [بيروت: دار صادر، دار بيروت، 1964] ص 25) وأن لغة الشعر القديمة التي فقدت حيويتها يجب اطراحها؛ وأن الأوزان العربية يجب تطويرها لتناسب السياق الجديد؛ وأن الشاعر يجب أن يستخدم الصورة الحيّة وليس التشبيهات والاستعارات البسيطة، وأن الصور يجب أن تتحدى المنطق. وهذا الشرط الأخير يمكن اعتباره اقتراباً أولياً من النظرة الحداثية. وهناك بحث أوفى حول هذه المحاضرة في كتابي. Trends and Movements,2: 570-72
56- من القسم الخاص به في الدراسة التي كتبها بعنوانModernist Poetry in Arabic” in Cambridge History of Arabic Literature vol. 4, 1994.
55- قدّم سنة 1957 الشاعر اللبناني يوسف الخال الذي أسّس سنة 1957 مجلته الطليعية المخصصة للشعر فقط، محاضرة عامة فصّل فيها القول عما اعتقد أنها معايير الشعر العربي [ اللبناني] الحديث. وشكلت هذه المعايير نظرة متناسقة لما ينبغي أن يكون عليه الشعر العربي الحديث دون ذكر أية معايير حقيقية في الأدب. وكانت المعايير الكبرى في هذه المحاضرة التي اتخذت أهمية كبيرة في وقتها، هي أن الشعر يجب أن يكون تعبيراً عن تجربة مُعاشة، وأن بنية القصيدة يجب أن تقوم على وحدة التجربة؛ وأن هدفها الأول يجب أن يكون هو الإنسان وهو معيار كان الناقد المهجري ميخائيل نعيمة قد وضعه منذ العقد الثاني: (انظر كتابي Trends and Movements,1: 113-114، وانظر أيضاً كتاب نعيمة الفريال، ط 7 [بيروت: دار صادر، دار بيروت، 1964] ص 25) وأن لغة الشعر القديمة التي فقدت حيويتها يجب اطراحها؛ وأن الأوزان العربية يجب تطويرها لتناسب السياق الجديد؛ وأن الشاعر يجب أن يستخدم الصورة الحيّة وليس التشبيهات والاستعارات البسيطة، وأن الصور يجب أن تتحدى المنطق. وهذا الشرط الأخير يمكن اعتباره اقتراباً أولياً من النظرة الحداثية. وهناك بحث أوفى حول هذه المحاضرة في كتابي. Trends and Movements,2: 570-72
56- من القسم الخاص به في الدراسة التي كتبها بعنوانModernist Poetry in Arabic” in Cambridge History of Arabic Literature vol. 4, 1994.
57- وصف الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي المدينة الأوروبية (باريس في هذه الحالة) بأنها مدينة يسودها الاغتراب والوحدة المتوحشة. وقد تناول موضوع المدينة منذ بداية شعره لكنه عندما كتب عن المدينة العربية (خاصة القاهرة) كتب من وجهة نظر الريفي الفقير الذي يجد نفسه غريباً في المدينة الكبيرة دون الدخول في عالم الاغتراب الروحي والعقم المرضي. فقد احتفظ بهذه للمدينة الأوروبية وللأفراد الكثيرين فيها الذين يشعرون بالوحدة وتطحنهم رتابة الحياة اليومية في المدينة. انظر قصائده :أسرار و حراث في محطات الزمن الآخر و غرفة المرأة الوحيدة وفي هذا التناول يكشف حجازي عن أصالة موقفه في الشعر وعمق تجربته ورهافة أحاسيسه بتجارب الحياة المختلفة وتناقضاتها وهي حرية لم تتوفر كثيراً لشعراء آخرين عاشوا في القرية.
58- تصادف نشر هذه المجموعة في منتصف الخمسينات مع الفترة التي بدأ فيه الشعراء الطليعيون في العالم العربي – تحت تأثير شعراء حداثيين من أمثال إليوت – بمهاجمة المدينة. وكان أول شاعر كبير يدخل موضع المدينة في شعره هو الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي هاجر من قريته جيكور (ولعلها اشهر قرية في الأدب العربي) للدراسة في بغداد حيث استقر فيها فيما بعد للعمل موظفا ًحكوميا. هذا الشاعر، بما اتصف به من تفتح واسع على التجربة الوجودية، ومن كراهيته ونفوره من الفساد السياسي في المدينة، ونتيجة لقراءته الواعية للشعر الغربي، وفوق ذلك لما عاناه من تجربة حقيقية كشاب قروي يتصف بالعبقرية ورهافة الإحساس يعيش طليقاً في المدينة، أنتج شعراً راقياً أضاف إلى التجربة أبعاداً أعمق.
ومن الواضح أنه شعر بوطأة أسلوب ونظام مدنيّ في الحياة يختلف تمام الاختلاف عن أصوله البسيطة، كما تأثر بآيديولوجية اشتراكية تنادي بالمساواة، وهذه كلها أعطت كراهيته للمدينة معنى أشمل.وإن كان تعبيره عن الاغتراب في المدينة قد تأثر مباشراً بإليوت وغيره من الحداثيين، فإن هذا التأثير ساعد في التعبير عن حالة ذهنية طبيعية لها من يبررها. لكن هذا التعبير ظل محصوراً ضمن حدود التعبير الشعري غير المباشر الذي يتصف بالإيجاز وعدم التهويل دون التوغل في البحث التفصيلي حول سوء الحياة في المدينة مما نجده في أعمال جبرا المبكرة. وقد يقال الشيء نفسه عن شعراء آخرين من عصر الروّاد، مثل خليل حاوي.
59- نشرت سميرة عزّام خمس مجموعات من القصص القصيرة هي: أشياء صغيرة (1954)؛ الظل الطويل (1956)؛... وقصص أخرى (1960)؛ الإنسان والساعة (1963)، المأدبة من النافذة الشمالية (وهذه المجموعة نشرت سنة 1971 أي بعد وفاتها) وليس هنالك من كلّ هذه المجموعات سوى سبع قصص كتبت حول التجربة الفلسطينية بالذات.
60- في مجموعة المختارات التي ستظهر بعنوان:Modern Arabic Fiction: An Anthology (Columbia University Press), 1997.
61- عن كتاب: Victoria Glendinning, Elizabeth; Portrait of a Writer London Weidenfeld and Nicholson, 1977), p.54.
62- ترجمت هلري كلباترك Hillary Kilpatrick هذه الرواية القصيرة مع ست قصص قصيرة أخرى كنفاني نشرتها دار هاينمان بلندن (1978). القارات الثلاث بواشنطن (1983).
63- ترجمت ميّ جيوسي وجرمي ريد هذه القصة وعشر قصص قصيرة أخرى لسلسلة Prota ونشرها مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة تكساس بأوستن (1990).
64- للمزيد عن تجربة الماغوط انظر مقدمتي لديوان الماغوط بالإنجليزية الذي نشر في سلسلة Prota بترجمة قامت بها كل من ميّ جيوسي ونيومي شهاب ناي بعنوان مروحة السيوف D.C.: The Fan of Swords (Washington Three Continents Press, 1991)
65- Cambridge History of Arabic وانظر الصفحات 429 – 431 للمزيد عن الرموز الصحراوية في الشعر العربي الكلاسيكي.
66- يعتبر بعض النقاد أن مجموعة القصص التسع الأخرى لكنفاني المعنونة أم سعد (1969) رواية بسبب موضوعها الواحد المتداخل، لكن كل قصة من قصص هذا الكتاب مكتملة بذاتها، ولا يمكن تسمية هذا العمل الشديد الالتزام رواية إلا بتحفظ شديد.
67- هذا كتاب من سلسلة كتب Prota ترجمة إلى الإنجليزية كل من تريفور لغاسك وسلمى الخضراء الجيوسي، ط2 (London: Zed Books, 1986).
68- هناك تحليل نقدي أوفى للمتشائل في مقدمتي للترجمة الإنجليزية.
69- انظر فاروق وادي ثلاث معالم، ص 145.
70- ترجمها إلى الإنجليزية روجر ألن وعدنان حيدر ونشرت في واشنطن سنة 1987.
71- ترجمها إلى الإنجليزية عدنان حيدر وروجر ألن ونقّح الترجمة كرستوفر تنغلي، وما تزال الترجمة غير منشورة السلبية للنظام الجديد في العالم العربي انتقاداً عميقاً، ذلك النظام الذي شكّلته الروح التجارية التنافسية، ونظم الحكم الظالمة وخصوصاً النتائج الشريرة (في رأيه) لمجئ النفط في المناطق العربية التي لم تبلغ من التقدم ما بلغته المناطق الأخرى في العالم العربي. وقد أدى ذلك في منطقة الخليج إلى الحرص على تجميع الثروة – بأي واسطة أحياناً – وإلى نشوء أنماطٍ جديدة من الحياة وأخلاقيات العمل وعادات التفاعل الإنساني. ورغم أن منيف يمدح ما هو نبيل وكريم ويثني على المروءة في المجتمع البدوي فإن أشد ما يؤكد عليه هو النتائج السيّئة لاقتصاد النفط. وهو يصف بتفصيل شديد ما يرى أنه رؤية قروسطية غيبية لطبقة بدوية وجدت نفسها فجأة في موضع السلطة، تتمتع بثراء فاحش، قادرة على السيطرة على هذا العالم الذي يوجهه النفط بمعونة موظفين مستعدّين أبداً للتعاون يتقاضون رواتب عالية وقد تمّ استيرادهم من المناطق العربية الأكثر تقدّماً (وهؤلاء يصفهم دائماً بأنهم أذكياء، خانعون، وأحياناً بأنهم فاسدون معدومو الإحساس بالمسؤولية). وتشكل رواية مدن الملح بأجزائها الخمسة (صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر طبعة رابعة 1997) أجرأ هجاءٍ موجّهٍ ضدّ هذا النظام الجديد في العالم العربي. وقد ترجم الأجزاء الأولى من هذه الملحمة الشاملة إلى الإنجليزية بيتر ثيرو Theroux ونشرتها دار راندم بنيويورك عام 1987. والفرق بين رؤية هذا الكاتب للأمور ورؤية جبرا لها (انظر أعلاه) فرق واضح.
73- انظر روايته السفينة (بيروت: دار النهار، 1970) ص 56 وما بعدها.
73- انظر روايته السفينة (بيروت: دار النهار، 1970) ص 56 وما بعدها.
74- لا يسلم البطلان الفلسطينيان في روايتي جبرا الرئيستين وهما عسّاف في السفينة ووليد مسعود في البحث عن وليد مسعود من هذا الولع بالثروة والمتعة (فمسعود مثلاً زير نساء من الطراز الأول) حتى ولو خالط ذلك فضول فكري وذكريات حزينة لا تُمحى عن وطنها المفقود.
75- انظر حديثه مع الشخصيات الأخرى في السفينة، ص 128 – 135.
76- هناك معالجة ممتازة كذلك في كتاب فاروق وادي: ثلاثة معالم، ص 154- 160.
77- ترجمتها إلى الإنجليزية لسلسلة Porta ميّ جيوسي وجرمي ريد، ونشرتها دار إنترلنك للنشر في نيويورك.
78- هناك بحث وافٍ لدور الجمهور في العملية الإبداعية في الفصل المعنون Platform Poetry في كتابي Trends and Movements,2: 583-94. لكن لا بدّ من ملاحظة أن شعر المنابر يمثل أشدّ أشكال هذه الظاهرة تطرّفاً.
79- ترجمتها إلى الإنجليزية لسلسلة Porta تريفر ليغاسيك Trevor LeGassick وإليزابيث فيرنيا E.
ernea ونشرتها دار الساقي بلندن سنة 1986.
80- ترجمها لـ Porta كل من لورن كني وجيرمي زيد وستظهر في كتابي Modern Arabic Fiction الذي سينشر قريباً.
81- ترجمتها إلى الإنجليزية ميّ جيوسي وأنتوني ثويت وهي منشورة في Modern Arabic Poetry, an anthology.
82- من الأمثلة على ذلك حرب الاستقلال الجزائرية وحرب السويس سنة 1956 عندما كان الشعراء الفلسطينيون من أبرز الذين حيّوا الثورة الجزائرية وأدانوا العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر.
82- من الأمثلة على ذلك حرب الاستقلال الجزائرية وحرب السويس سنة 1956 عندما كان الشعراء الفلسطينيون من أبرز الذين حيّوا الثورة الجزائرية وأدانوا العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر.
83- ينطبق هذا على كتّاب في البلاد العربية الأخرى عاشوا بهذه الصفة في الأقطار التي أثّرت حديثاً بعد اكتشاف النفط. والاستثناء الكبير هو عبد الرحمن منيف في روايته ذات الأجزاء الخمسة مدن الملح. انظر الهامش رقم 72 أعلاه.
84- قصة مذبحة تل الزعتر المنشورة في هذه المجموعة هي واحدة من القصص الثلاث في مجموعتها. وقد ترجم الكتاب لسلسلة Porta بيتر كلارك Peter Clark وكريستوفر تنغلي Tingley ونشرته مجموعة إنترلينك للنشر في نيويورك عام 1992. واختارته الكنيسة الميثودية في سلسلة الكتب المختارة لقرائها لعام 1993.
85- من مجموعتها الأرض والنجوم. (London: Aurora Press, 1991),p.61
86- من قصيدته جيكور والمدينة وهناك ترجمة كاملة لها قامت بها مي جيوسي وكرستوفر ميدلتون Middleton في كتابي Modern Arabic Poetry.
87- من قصيدته القس .. .والساعة. انظر ترجمة القصيدة الكامل في Modern Arabic Poetry.
88- من قصيدته أطفال رفح ترجمة نصير عاروري وإدمند غريب في Enemy of the sum.
89- من قصيدته قاع المدينة في مجموعته العصافير تموت في الجليل في، الأعمال الشعرية لمحمود درويش، (بيروت:دار العودة، 1980)، 1:401 – 402.
85- من مجموعتها الأرض والنجوم. (London: Aurora Press, 1991),p.61
86- من قصيدته جيكور والمدينة وهناك ترجمة كاملة لها قامت بها مي جيوسي وكرستوفر ميدلتون Middleton في كتابي Modern Arabic Poetry.
87- من قصيدته القس .. .والساعة. انظر ترجمة القصيدة الكامل في Modern Arabic Poetry.
88- من قصيدته أطفال رفح ترجمة نصير عاروري وإدمند غريب في Enemy of the sum.
89- من قصيدته قاع المدينة في مجموعته العصافير تموت في الجليل في، الأعمال الشعرية لمحمود درويش، (بيروت:دار العودة، 1980)، 1:401 – 402.
90- من الخيول تصهل على السفح، ترجمتها Porta ميّ جيوسي وآن والدن Anne Walkman
91- Richard Sheppard,” The Crisis of Language, “in Malcolm Bradburg and james Mc Farlance, Modernism: 1890 – 1930 (London: Penguin Books, New ed. 1987), pp. 325 – 329.
91- Richard Sheppard,” The Crisis of Language, “in Malcolm Bradburg and james Mc Farlance, Modernism: 1890 – 1930 (London: Penguin Books, New ed. 1987), pp. 325 – 329.
92-Modern and Contemporaries in The Idea of the Modern, ed. Irving Howe (New York: Horizon Press, 1967), pp. 43- 44.
93- ترجمة جون هيث ستيز بمساعدتي John Health – Stubbs. وهناك ترجمة كاملة للقصيدة قامت بها لينة جيوسي مع كرستوفر مدلتن. انظر Modern Arabic Poetry.
93- ترجمة جون هيث ستيز بمساعدتي John Health – Stubbs. وهناك ترجمة كاملة للقصيدة قامت بها لينة جيوسي مع كرستوفر مدلتن. انظر Modern Arabic Poetry.
94- لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنني لا أتحدّث إلاّ عن ناحية واحدة فقط من الموضع السياسي. أوسع بكثير من هذه الناحية وحدها.
95- محمود درويش:أنقذونا من هذا الشعر، الكرمل، العدد 6 (ربيع 1982).
96- غسان زقطان: الكلمات الأولى مدهشة وسوف نذكرها، الفكر الديمقراطي، العدد 3 (صيف 1988)، ص، 192- 193.
96- غسان زقطان: الكلمات الأولى مدهشة وسوف نذكرها، الفكر الديمقراطي، العدد 3 (صيف 1988)، ص، 192- 193.
97- انظر قصيدته اعتذارية ص 224.
98- ذكر لي دحبور أنه صادف (وكانت خلفيته التعليمية الضئيلة محصورة بما حصل عليه من مدرسة المخيّم في جنوب لبنان) أن حصل عام 1963 على نسخة من مجموعة توفيق صايغ الأولى بعنوان ثلاثون فشجعته تجربة صايغ الحداثية على إرسال رسالة إلى الشاعر من خلال ناشره. وعندما نشرت مجموعة دحبور الأولى سنة 1964 بعنوان الضواري والوحوش وأعين الاطفال أرسلها إلى توفيق صايغ مع إهداء يقول: يكفيني أن أقول إنني عشت في عصر توفيق صايغ. فأرسل صايغ الذي لا بدّ أنه وجد في إعجاب دحبور المبكّر واحة في صحراء الإهمال يومئذ برقيةً تحمل هذه الكلمات: أحمد، لقد أبكيتني.
99- ما أبعد هذا عن هجاء نزار قباني الشهير لهذه الجماعة عندما هاجم بكلمات مباشرة غاضبة رنانة ما رأى أنه شهوة بعض الشيوخ الذين اغتنوا حديثاً في الأقطار الخليجية ورجعيتهم. انظر قصيدته الحب والبترول في الأعمال السياسية الكاملة، في أيّ من طبعاتها. أما أسلوب البرغوثي غير المباشر في الخطاب، وهذا الأسلوب الذي يسخر من الأشياء ذاتها فإنه يبعث على التّأمل في الأساليب والاتجاهات الشعرية التي تغيّرت تغيّراً جذريّاً.
100- انظر في هذا المجال ملاحظاتي على محمد الماغوط في مقدّمتي لمجموعة أشعاره بالإنجليزية The Fan of Swords (وانظر الهامش رقم 64 أعلاه).
100- انظر في هذا المجال ملاحظاتي على محمد الماغوط في مقدّمتي لمجموعة أشعاره بالإنجليزية The Fan of Swords (وانظر الهامش رقم 64 أعلاه).
101- انظر قصيدته وحدة العناية المركزة.
102- انظر قصة ليانة بدر أرض الصخر والزعتر، حيث وصف نابض بالحياة لمجزرة تل الزعتر.
103- من قصيدته الحديث الأخير في باريس، وقد ترجمتها لينة جيوسي وكرستوفر مدلتن في Modern Arabic Poetry.
103- من قصيدته الحديث الأخير في باريس، وقد ترجمتها لينة جيوسي وكرستوفر مدلتن في Modern Arabic Poetry.
104- Raymond Williams, Modern Tragedy (London: Verso, 1979),p. 100.
105- من قصيدته نحن وناطحات السحاب ترجمة لينة جيوسي وكرستوفر مدلتن في Modern Arabic Poetry.
106- انظر الفصل المعنون Platform Poetry” في Trends and Movements حيث أناقش موضوع شعر المنابر والطريقة التي يشتق بها الجمهور جزءاً من بنية القصيدة.
107- انظر قصيدته بعد رؤيا الدمار After the Apocalypse ترجمة شريف الموسى ونيومي شهاب ناي في Modern Arabic Poetry.
105- من قصيدته نحن وناطحات السحاب ترجمة لينة جيوسي وكرستوفر مدلتن في Modern Arabic Poetry.
106- انظر الفصل المعنون Platform Poetry” في Trends and Movements حيث أناقش موضوع شعر المنابر والطريقة التي يشتق بها الجمهور جزءاً من بنية القصيدة.
107- انظر قصيدته بعد رؤيا الدمار After the Apocalypse ترجمة شريف الموسى ونيومي شهاب ناي في Modern Arabic Poetry.
108- انظر مثلاُ قصيدته الأغنية الثانية في أبعاد الروح (الأردن: لاذقية 1984، ص 9- 10، وهي خليط من الكلام المحكي واللغة الفصحى.
109- من قصيدته شبابيك العرض.
110- من قصيدته عشق.
111- من قصيدته شبابيك العرض.
112- من شبابيك العرض.
113- من قصيدته لسان وقد ترجمت حنان ميخائيل عشراوي جميع هذه القصائد.
114- من شبابيك العرض.
115- انظر المختارات المأخوذة من هؤلاء الكتّاب وأولئك المذكورين في الفقرات التالية في القسم المخصص الأدب شهادة الشخصية.
116- انظر الهامش رقم ،، وانظر أيضاً ليلى السائح، الجذور لا تغادر (1948) وناصر الدين النشاشيبي: هل تعرفون حبيبتي؟ (بلا تاريخ، ولكن بعد سنة 1980).
117- أحدث مثال على أدب الشهادة الشخصية لكاتب فلسطيني هو فيما أعلم الذكريات التي كتبها محمود الريماوي حول حياته لمدة 10 سنوات في الكويت، وهي التي نشرها في خريف سنة 1990، في جريدة القدس اليومية التي تظهر في لندن.
118- فريال غزول: لغة الأضداد الجميلة، فصول، العددان 1-2 (1986 – 1987): 192- 202 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق