القدس في الأدب العربي الحديث
الساحة - ثقافة وأدب عن مؤسسة القدس للثقافة والتراث - 09 أكتوبر 2014 :
استأثرت مدينة القدس الشريف باهتمام المسلمين منذ العصور الأولى للفتح الإسلامي نظراً لمكانتها الدينية التي أشار إليها القرآن الكريم في أكثر من آية، وأكدّتها السنة النبوية الشريفة في عدد غير قليل من الأحاديث والأقوال المأثورة.
وعلى الرغم من تعاقب السنين وتقادم الزمن، فإن هذه المكانة الرفيعة بقيت آخذة بنفوس المسلمين وألبابهم دون أن يعيروها تراخياً أو وهناً، وقد شارك المجتمع الإسلامي، على مختلف عصوره ومستوياته، في التعبير عن احترامه لمدينة بيت المقدس بجميع الوسائل التي يملكها سواء بالأقوال المكتوبة أو الأفعال المادية في مجالات البناء والعمران وإن المصنفّات الدينية والمؤلفات التاريخية قد ازدحمت صفحاتها ذوات العدد، بالشواهد الناطقة على حرص جميع الشخصيات الإسلامية، عبر عهودها المتباينة على تخصيص هذه المدينة المقدسة بالنعوت السامية.
اختيار «القدس» عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2009، وهو خير دليل على استمرار الاهتمام بهذه المدينة المباركة، والحفاظ على مكانتها في نفوس المسلمين والعرب قاطبة.
وفي هذه الدراسة سنستعرض أهم ما كتب عن القدس في الأدب العربي الحديث. سواءً في الشعر أو في القصص والرواية أو في المسرحية.
القدس في الشعر:
إن معظم الشعراء الذين عرضوا للقدس أو تناولوها في قصائدهم في آواخر القرن التاسع عشر، كانوا يشيرون إليها -في الغالب- ضمن جو ديني خالص - ولم تكن مقصودة لذاتها. وخير دليل على ذلك ما نظمّه الشاعر الشيخ يوسف النبهاني، الذي كان معظم شعره في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وتتبع سيرته وتسجيل أحداثها، من ذلك قصيدته «الإسراء والمعراج به صلى الله عليه وسلم» التي نظمها عام 1896 م، وتحدث فيها عن إسراء الرسول عليه السلام من مكة إلى القدس، ومعراجه من المسجد الأقصى في القدس إلى السماوات العلى، يقول:
رسل الله هم هداة البرايا
ولكل محجة بيضاء
خص منهم محمداً بالمزايا الـ
ـغر منها المعراج والإسراء
مّر في طيبة وموسى وعيسى
ولقد شرفت به إيلياء
ثم صلى بالأنبياء إماماً
وبه شرف الجميع اقتداء
فالشاعر يذكر اسم «إيلياء» من أسماء بيت المقدس، ويجعل النبي عليه السلام يمر بطيبة في إسرائه وهو أمر مألوف، أما أن يمر في «الإنسان» كما يتضح من قوله «مّر في طيبة وموسى وعيسى» فهو أمر غير مألوف، والذي دفع الشاعر إلى ذلك، أنه تتبع تفصيلات الإسراء والمعراج.
وهناك محاور شعرية ثلاثة نظّم فيها الشعراء شعرهم عن القدس في هذه المرحلة.
أولاً: الشعر الديني:
وردت القدس في عدد من قصائد الشعراء في فلسطين والأردن، والتي نظموها لتعبر عن موضوعات دينية خالصة. ولم تكن القدس مقصودة لذاتها، وإنما وردت في هذه القصائد، لأنها ذات صلة وثيقة بتلك الموضوعات الدينية والتاريخية، أو أنها تشكّل معلماً رئيسياً من معالمها.
فالشاعر «وديع البستاني» والذي سمّى ديوانه «ديوان الفلسطينات»، يعد من أكثر الشعراء الذين كتبوا قصائد عن القدس وما يتصل بها، سواء أكانت تتعلق بالجانب الديني أم غيره من الجوانب الشعرية الأخرى.
من أهم قصائده التي نظمها في إطار ديني قصيدة «تحية العلم»، التي تحدث فيها عن أرض فلسطين المقدسّة، يقول:
أرض توطأها عيسى وشرّفها
ومات موسى إليها ناظراً أمماً
أرض محمد وافى بيت مقدسها
ومن عُلاه إلى رب السماء سما
فقدسوها ولا تبتغوا بها ثمناً
نجساً فبائعها شارٍ بها الندما
وقد اتضح أن عدداً من الشعراء - ومنهم البستاني - كانوا ينظمون هذه القصائد - في كثير من الأحيان - في مناسبات دينية معروفة، كذكرى المولد النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، مؤكدين صلة القدس بحادثة الإسراء والمعراج، ومبينين أهميتها وقداستها، ومركزيّن على فضائلها ومزاياها التي اتسمت بها. فالقدس «أولى القبلتين»، و«حاضنة الأقصى» و«مدينة الإسراء» و«مسرى النبي» و«مدينة الطهر» و«تراث المسلمين».
ووقف محمد العدناني في قصيدته الإسراء عند ارتباط وطنه فلسطين بإسراء النبي عليه السلام، وذكر أن حبه لوطنه قد نما وازداد بسبب هذه الصلة، يقول:
أسرى إلى الأقصى دُجى من مكة
جسد ابن عبد الله والحوباءُ
وسما به نحو السماوات العلى
رب نداه ماله إحصاءُ
والمسجد المبارك حوله
هزته عزة أحمد التعساءُ
ما أنتَ يا وطني سوى أنشودةٍ
في كهف أضلاعي لها أصداءُ
يا موطني أسرى إليك المصطفى
فتتوجت شرفاً به الآلاءُ
وقد التفت الشعراء، في عدد من قصائدهم، إلى استحضار بعض الشخصيات التاريخية، والمرتبطة بالقدس ارتباطاً وثيقاً، وذلك للتعبير عن فقد أملهم في حاضر الأمة العربية، التي لم تستطع أن تنقذ القدس من جلاديها فها هو وديع البستاني يستذكر مجيء عمر بن الخطاب إلى القدس، وتسلّمه لمفاتيحها من البطريق، مما يجعل للقصيدة قيمة تاريخية لأنها تبرز جانباً مهماً من جوانب تاريخ القدس في عصر الخلفاء الراشدين.
أما الشاعر كامل الدجاني، فقد استحضر صورة البطل صلاح الدين الأيوبي من أعماق التاريخ، ليحدثه عن حالة القدس المهينة في مقطوعة قصيرة له، يقول:
يا صلاح الدين قُم وانظر إلى
حالة في القدس تستذري العيون
أبدل العّز الذي تعرفه
ذلة واستأسد المستضعفون
ثانياً: الشعر الوطني والقومي:
إن أكثر الشعر الذي اشتمل على القدس في هذه المرحلة هو الشعر الوطني والقومي. فقد عَرَض الشعراء للقدس في إطار حديثهم عن مقاومة الأعداء، وثورات الشعب الفلسطيني المتتالية، ورفض المهمات التي كانت تناط بلجان التحقيق والتقسيم، إضافة إلى استكشاف معالم صورة القدس كما بدت في قصائد الشعر القومي، التي نظمها الشعراء في استنهاض همم العرب وقادتهم، للدفاع عن فلسطين وإنقاذ القدس من أيدي مغتصبيها.
1 – الشعر الوطني:
آ – موقف الشعر الوطني من البريطانيين:
سجل التاريخ الحديث أن البريطانيين هم الذين عملوا على توطين اليهود الصهاينة في فلسطين، منذ حصل اليهود على وعد بلفور، وزير الخارجية البريطاني، الذي يقضي بتأسيس وطن لهم في فلسطين.
وقد شّن الشعراء هجوماً عنيفاً على البريطانيين، من خلال حديثهم عن وعد بلفور، واحتلالهم للقدس، أو تعاطفهم مع اليهود.
فالشاعر حسني زيد الكيلاني، في قصيدته «يا وعد بلفور يا شؤم المواعيد» ينبئ عن موقفه بوضوح من هذا الوعد. حين أخذ يستذكر في القصيدة بطولة صلاح الدين الأيوبي وانتصاره في حطين، وأخذ يتخيله وهو يخوض وهو يخوض معركة التوحيد من جديد، ثم خاطب العرب قائلاً:
حيّوا فلسطين حيّوها مجاهدة
مهد العرانين والشم المناجيد
إني لأشتم أنفاسَ المسيح بها
وروح أحمد في سراه إذ نودي
ووقف عند احتلال البريطانيين للقدس الشاعران «وديع البستاني» و«مطلق عبد الخالق» في قصيدتين لهما:
فقد نظّم البستاني قصيدته «صوت الشعب» عام 1925 م، وخاطب فيها المندوب السامي البريطاني قائلاً:
يُريد المارشال صلاة شكر
ليهنئه انتداب واحتلال
أقد حررتها قُدساً؟ وممن
ومن ذا حطَّ لما قيل شالوا
أتحرير وسيفك فوق رأسي
لعمرك إنه القول المُحال
ونظّم الشاعر «مطلق عبد الخالق» قصيدة «يوم الهوان».. يوم فتح القدس التي بلغت خمساً وثلاثين بيتاً، بعد مرور عشرين عاماً على احتلال البريطانيين للقدس. وقد برز في القصيدة الاحتفال بالطباق ليبّين الشاعر أن لهذا اليوم وجهين متضادين: وجهاً باسماً للبريطانيين، ووجهاً حالكاً للعرب، وحين تلح على الشاعر ذكرى احتلال القدس نجده يثور في وجه البريطانيين، في صياغة تقريرية مباشرة أحياناً، إذ يقول:
ذِكراكَ يا يوم الهوان مريرة
ذهبت بميعة صبوتي وشبابي
يا من فتحت القدس مهلاً ما انتهت
ما زال في الميدان بعضَ صعاب
ما زال بينكم - إلبني - وبيننا
في هذه الدنيا رصيد حساب
هذي عناصر كرهنا موروثة
لكم ونورثها إلى الأعقاب
ب – موقف الشعر الوطني من اليهود:
كان اليهود يخططّون بدهاء ومكر لتثبيت وجودهم في فلسطين، ولذا فقد عملوا على إنشاء الجامعة العبرية بعد الانتداب البريطاني على فلسطين، إذ أقاموا في الرابع والعشرين من تموز عام (1918)م حفلة كبرى لوضع أساس الجامعة العبرية في القدس، وشارك في الاحتفال مطران الانجليز «مكنس» ومفتي القدس الشيخ كامل الحسيني
وقد ثار الشاعر «وديع البستاني» لهذه المشاركة، وأنكر عليهما صنيعهما في قصيدته «الفتوى» التي نظمها في اليوم نفسه الذي تم فيه الاحتفال يقول:
أفتني بالله بالكعبة بالـ
حجر الأسود بالركن الأغر
إنْ علت في غرها شامخة
فوق رأس الطور تلهو بالعبر
وغدتْ جامعة عبرية
ونهى الحاخام فيها وأمَرْ
أيقولُ الشيخ والقس ائتد
إن للمطران والمفتي حجر!
ومضى الشاعر بعد ذلك يحذّر من الخطر الذي سيترتب عليه إنشاء هذه الجامعة في القدس، ويستذكر مجد عمر ابن الخطاب الذي افتتح القدس، وحررها من الصليبيين ويدعو العرب إلى تكوين جيش قوي ينتصرون به على أعدائهم. وقد اقتربت المسافة بين الشاعر والقدس في قصيدته هذه، حيث كان مبصراً لما يفعله الأعداء في فلسطين والقدس، ويحّدق فيما يحدث حوله، دون أن يشير إلى الحدث فقط.
2 - الشعر القومي:
لعلّ من طلائع القصائد التي تذكر القدس أو تشير إليها في إطار من الشعر القومي، قصيدة «آمال وآلام» التي نظمها الشاعر فؤاد الخطيب، بعد إعلان الدستور العثماني عام ألف وتسعمئة وثمانية (1908) في معرض إنكاره على العثمانيين تحاملهم على اللغة العربية، إذ غدت القدس في قصيدته تعني فلسطين أو ترمز إليها لأنها عاصمتها التي تعرف بها.
وقد أكثر الشعراء في فلسطين والأردن من ذكر القدس ومقدساتها، وهم يدعون العرب إلى نصرة فلسطين وأهلها، وقد ألحّوا على ترداد اسم القدس والصخرة والمسجد الأقصى لإثارة نخوة العرب، وتحريضهم لإنقاذ المقدسات، وتخليصها مما تتعرض له من احتلال وإيذاء.
وحين تحدثت الشاعرة «فدوى طوقان» عن يقظة الشرق في فترة مبكرة من حياتها الشعرية، لم تستطع أن تنسى القدس، وتقدمها لنا في صورة حزينة تهز فؤادها الجريح للعرب، كما يتضح من قصيدتها «يقظة الشرق» التي تقول فيها:
هو ذا العيد أقبل اليوم محد
وّاً بروح في بردتيه جديد
فيه شيء من اعتزاز قديم
عرفته له خوالي العهود
في فؤاد القدس الجريح اهتزاز
لكم رغم صبره المنكود
انثنى مرهفاً على الجرح يشدو
ويحي أفراحكم في العيد
كما يلوم الشاعر البستاني جامعة الدول العربية، التي لم ترد القدس في بنودها الرئيسية، في إطار عتابه خير الدين الزركلي عام 1945، إذ يقول:
أجامعة وما للقدس فيها
سوى الذيل المعلق بالبنود
وما معنى العروبة في حماها
وفي قلب الحمى وطن اليهود
ثالثاً: الشعر الاجتماعي:
رسم شعراء فلسطين والأردن صورة لما كان يجري في القدس من أحداث أو مؤتمرات أو حياة اجتماعية، تتناول أحداث الحياة اليومية، كالحفلات التي كانت تقام للاستقبال والترحيب والوداع، أو تلك التي كانت تخصص لرثاء الشخصيات الهامة والأبطال الشهداء، إلى جانب الإشارة إلى تقليد المرأة العربية في القدس للمرأة الأجنبية في زيّها وبعض عاداتها، وغير ذلك من مظاهر الحياة الاجتماعية المتنوعة.
وكانت قصائد الشعراء في معظمها تركّز على ترديد عبارات الترحيب والثناء في إطار من الصياغة الفنية المباشرة التي تجعل هذه القصائد نظماً لا شعراً. وهناك قصيدة تفوقت على مثيلاتها من القصائد - وقيلت في مناسبة اجتماعية، خصصت للاحتفاء بأحد القادمين إلى فلسطين - وهي قصيدة الشاعر عبد الرحيم محمود التي - سماها «نجم السعود» وقدّمها بين يدي الأمير سعود بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت، عندما زار فلسطين ومرّ بعنتبا ونزل في القدس ضيفاً على سماحة المفتي. وآثر قضاء معظم أيام الزيارة في القدس.
وقد خاطب الشاعر عبد الرحيم محمود الأمير قائلاً:
يا ذا الأميرِ أمام عينيك شاعر
ضمت على الشكوى المريرة أضلعه
المسجد الأقصى أجئتَ تزوره
أم جئتَ من قبل الضياع تودعه
حرم تباح لكل أو كع آبقٍٍ
ولكل أفاق شريد أربعه
الطاعنون وبوركت جنباته
أبناؤه أعظم بطعن يوجعه
سرْ يا أمير ورافقتك عناية
نجم السعود وفي جبينك مطلعه
وقد استوقفت هذه القصيدة عدداً من الباحثين الذين امتدحوا الحس التنبؤي عند الشاعر، الذي أشار إلى الكارثة في وقت مبكر قبل وقوعها، ومبرزين قدرته على تصوير الهم الجماعي من خلال همه الذاتي، ورؤيته الشاملة التي استطاعت أن تصور الواقع وتستشرف أبعاد المستقبل.
وقد عرض بعض الشعراء في قصائدهم تأثر المرأة العربية في فلسطين بالمرأة الأجنبية، ولكنه تأثر خارجي، يتعلق بإظهار مفاتن المرأة للرجال، والتفنن في الملابس، كما نجد في قصيدتين من قصائد البيتجالي منكراً فيها على نساء القدس هذا التأثر أو التقليد من وجهة نظر أخلاقية، وكانت القصيدة الأولى بعنوان «غانيات القدس» وقال فيها:
يتخطرن في الشوارع تيهاً
بحلىً من أساور وعقود
يتلفتن تارة بازدراءٍ
ويتقهقهن تارة كالوليد
من بنات اليهود جئنا إلينا
من أروبا بكل زي جديد
مشهد من مشاهد القدس هذا
في غنى عن دلائل وشهود
غانيات الأعراب مهلاً فإنا
في احتياج إلى الصلاح شديد
احذري الزي هذبي الطفل كوني
بمثل النبل والتقى للوليد
وقد كرّر البيتجالي هذه المعاني في قصيدته الثانية بعنوان «مساء السبت في القدس».
وعندما نتحدث عن الشعر الاجتماعي الذي اشتمل على القدس، علينا أن نشير إلى قصيدة «إبراهيم طوقان» أو مقطوعته التي سمّاها «القدس» وافتتحها بذكر «دار الزعامة والأحزاب» دون أن يشير صراحة إلى القدس:
دارَ الزعامة والأحزابِ كان لنا
قضية فيكِ ضيعنا أمانيها
هل تذكرين وقد جاءتك ناشئة
غنية دونهَا الأزواج تفديها
تود لو وجدت يوماً أخاً ثقة
لديك يوسعها براً ويحميها
قضية نبذوها بعدما قتلت
ما ضَّر لو فتحوا قبراً يواريها
القدس في القصص:
إن الحديث عن القصص حول القدس له عدة اتجاهات، أهمها:
1- الاتجاه الذي يغلّب الإيقاع الاجتماعي أو الرواية الاجتماعية.
2- الاتجاه الذي يغلّب الرؤية الدينية في النسيج.
3- الاتجاه الذي يغلّب الحس الوطني والقومي.
1 – الاتجاه الذي يغلّب الرؤية الاجتماعية:
عرضت قصص القدس التي تمثل الاتجاه الذي يغلّب الإيقاع الاجتماعي وشبكة العلاقات على سائر الروابط، عرضت لأبعاد اجتماعية متنوعة، فقد تناولت بعض القصص الهموم الاجتماعية اليومية لسكان مدينة القدس، ومعاناتهم من الاحتلال، واصطدامهم بها يفرضه عليهم من قوانين وأنظمة تتعلق بحياتهم الاجتماعية، كالحصول على تصريح عمل، أو منع خروجهم من القدس إلى البلاد العربية الأخرى، أو الضائقة المالية التي يمرون بها، كما عرضت بعض القصص لصورة المرأة في القدس، إذ تناولت نموذج المرأة الأم، إلى جانب نموذج المرأة المناضلة التي تقاوم الاحتلال.
ففي قصة «الليرات العشر» لعمير دعنا، تناول الكاتب هموم العمال العرب في مدينة القدس تحت الاحتلال، واصطدامهم بقوانين الاحتلال وأنظمته، كما نجد في قصة «يوم تحت الاحتلال» لعبد الرحمن عباد، التي تعرض ما حدث مع الأستاذ خليل الذي فصل من عمله في التربية واضطر ليكون عاملاً وفي أول يوم يعمل فيه مع يونس في حاكورة يمتلكها اليهود، يأتي الموظف الاسرائيلي ويعطيه مخالفة بعشرين ليرة، لأنه يعمل دون تصريح، وما تكاد تمر ساعات حتى تأتي سيارة إسرائيلية، وتأخذ العمال العرب، ومنهم الأستاذ خليل إلى السجن، لأن لغماً انفجر قرب تلك المنطقة التي عمل فيها يوماً واحداً!
صورة المرأة:
عرضت قصص القدس صورة المرأة، فبينّت لنا أدواراً مختلفة لها في الحياة:
وأهم هذه القصص:
- التحديق في المرآة لـ خليل السواحري
- عودة الغريب لـ رشاد أبو شاور
- تحت سقف الليل لـ أحمد عودة
- ابتسمي يا قدس لـ نبيه القاسم
- عهد من القدس لـ نجوى قعوار فرح
وتعكس القصص السابقة صوراً مختلفة للمرأة في القدس، ففي قصتي «عهد من القدس» لنجوى قعوار فرح و«حتى لا ننسى» لجمال بنوّرة، تبدو فتاة مثقفة، تنتمي لحركة معينة لها لقاءات خاصة بالشباب المنتمي للحركة، كما جاء في القصة أو تحمل أفكاراً متحررة تؤمن بها، كما جاء في القصة الثانية التي تعرض -إلى جانب ذلك- أفكار المرأة اليهودية في صورة أخلاقية مبتذلة.
وعلى الرغم من تصوير القصتين لوضع المرأة المثقفة، إلا أن القدس لم تكن فيهما مكاناً جامداً تجري فيه الأحداث، وإنما نرى لها حضوراً واضحاً، دون أن يشغل الاهتمام بالمرأة كاتبي القصتين عن القدس.
ونلتقي في قصتي «ابتسمي يا قدس» لنبيه قاسم، و«عودة الغريب» لرشاد أبي شاور، بنموذج الفتاة المقاومة في القدس.
فوفاء بطلة قصة أبي شاور يلقى عليها القبض في القدس بتهمة وضع المتفجرات في إحدى دور السينما الإسرائيلية، أما الفتاة «بشرى» فقد قتل الأعداء والدها، لأنه رفض أن يتخلّى عن بيته لهم. ولكنها تنتقم لوالدها، وتثأر له من قاتليه، إذ قامت بعملية جريئة في حي الحبشة ضد الغريب وموكبه، كما يقول الكاتب، الذي جعل بطلة قصته مشدودة إلى القدس متعلقة بها، حين جعلها تصرخ رافضة تغيير اسمها وصورتها، لأن القدس عندها كالأم «ولا يمكن للواحد منّا أن تكون له أكثر من أم في وقت واحد» وهذا أكسب القصة قيمة، وأشاع في أحداثها نبض الحياة وحرارتها.
2 – الاتجاه الذي يغلّب الرؤية الدينية في النسِيج:
لم يكن هناك قصصاً كثيرة، تغلّب الرؤية الدينية في نسيجها، ولعل ذلك عائد إلى أن تلك القصائد كان يكتبها الشعراء في مناسبات دينية وثيقة الصلة بالقدس كالإسراء والمعراج، أما كتّاب القصة فلا يكتبون قصصهم ليعبروا بها عن احتفائهم بالمناسبات، دينية كانت أم غير ذلك، وذلك لا ينفي وجود بعض الإرشادات التي تحمل بعداً دينياً في قصص القدس المختلفة، ولكن الرؤية الدينية لم تكن هي الرؤية الغالبة على نسيجها.
وهناك أربع قصص، تعد ذات رؤية دينية، الأولى قصة «موعد في القدس» لسليمان المشيني، والثانية قصة «الراكبون إلى بيت المقدس» ليوسف صالح، والثالثة «الحانوت» لإبراهيم العلم، والرابعة «أعدّوا لهم» لسعادة أبي عراق.
وقد غلب على هذه القصة المباشرة والولع بسرد الأحداث، بأسلوب يقترب من المقالة الصحفية، كما جاء في قصة «الحانوت» لإبراهيم العلم.
ولعل من أكثر القصص الدينية صلة بالقدس قصة «الراكبون إلى بيت المقدس» ليوسف صالح، التي تعرض لرحلة أحد أفراد المدينة المنورة، وقد خرج في شلّة من قومه لزيارة بيت المقدس، بغية التعرف إلى المكان الذي عرج منه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء.
3 – الاتجاه الذي يغلّب الحس الوطني والقومي:
سنقف هنا عند ثلاث من القصص التي تمثّل قصص القدس - وتغلّب الحس الوطني على نسيجها، الأولى «نفس تنباك» لخليل السواحري، والثانية «حكاية للأسوار القديمة»، لمفيد نحلة، والثالثة «بعد الحصار، قبل الشمس بقليل» لأكرم هنية.
كما هناك بعض القصص التي تتناول موقف العرب من فلسطين بعامة، والقدس بخاصة، مبينة تقصيرهم تجاهها، أو موقفهم المرفوض منها، كما يتضح من قصة «مروخ هبا مار سادات» لمحمد علي طه، وقصة «فصول في توقيع الاتفاقية» لعادل الأسطة، وقصة «الشيخ مكتوم يصلّي في أورشليم» ليوسف طاهر العبيدي.
يتحدث يوسف طاهر العبيدي في قصته «الشيخ مكتوم يصلي في أورشليم» عن أحد شيوخ الخليج الذي يسافر إلى باريس، ويحلم بالقدس، ويتمنى أن يصلي ركعة واحدة فيها ثم يموت. ويذهب إلى إحدى حانات باريس، وهناك يقع في فخاخ (الموساد) الإسرائيلي، الذين يعرفونه بفتاة جميلة شقراء اسمها «أورشليم»، وحين يستبّد به السكر تسيطر عليه الفتاة وتزعم له أنها القدس، فيقضي معها ليلته، مقابل أربعمئة ألف فرنك فرنسي! فالقصة تمتلىء بالسخرية المرّة، ويشيع فيها النقد اللاذع للعرب الذين يمثّلهم عند الكاتب - الشيخ مكتوم - والذين يحلمون بالعودة إلى القدس والصلاة فيها بالقول فقط، بينما أعمالهم لا تمكنهم من ذلك. وقد تدخّل الكاتب في بناء أحداث القصة تدخلاً مباشراً، وبخاصة حين روى لنا كيف قضى الشيخ مكتوم ليلته الآثمة مع أورشليم (الموساد)، يقول «إنه صلّى بها، وصلّى لها، وتعبّد في محرابها.. ولكنه نسي بأن القدس ما زالت ثابتة واقفة راسخة الأقدام، رافعة رأسها نحو السماء».
القدس في الرواية:
تفاوتت عناية روايات هذه الفترة بالقدس وما يتصل بها. نجد بعض الروايات تذكر القدس عرضاً، أو في قلة اهتمام نراه في عدد منها. غير أن هناك بعض الروايات التي توجّه إلى القدس اهتمامها، أو تكاد تقصر تناولها عليها والروايات المتصلة بالقدس يمكن أن تندرج تحت محورين اثنين:
المحور الأول:
وهو المحور الذي تغلّبت الرؤية الاجتماعية في رواياته على نسيجها الفني. وتناولت هذه الروايات هموم الفلسطينين داخل الوطن وخارجه، والحديث عن رحيلهم وتشتيتهم في الآفاق، بعد مغادرة وطنهم.
المحور الثاني:
وهو المحور السياسي المتمثّل في الصراع مع الأعداء .أما الروايات التي غلبت الرؤية الاجتماعية على نسيجها الفني فتمثلّها رواية: «آلام نازحة» لأحمد عويدي العبادي ورواية «إلى اللقاء في يافا» لهيام رمزي الدردنجي ورواية «السفينة» لجبرا إبراهيم جبرا و«البحث عن وليد مسعود» لجبرا إبراهيم جبرا، أيضاً و«الدم والتراب» لعطيّة عبد الله عطيّة ورواية «الرحيل» لمفيد نحلة - ورواية «طريق إلى البحر» لفاروق وادي.
أما روايات المحور السياسي المتمثل في الصراع مع الأعداء فتمثّلها الروايات التالية:
«جراح جديدة» لعيسى الناعوري.
و«سداسية الأيام الستة» لأميل حبيبي
و«الوقائع الغريبة في اختفاء أبي النحس المتشائل» لإميل حبيبي
و«حارة النصارى» لنبيل خوري
وقد سيطرت النكسة على معظم أحداث الروايات التي صدرت بعد هزيمة حزيران عام 1967، فعرضت لتشرد الشعب الفلسطيني وما كان يدور من قتال في مدينة القدس في تلك المعركة. ولكن ذلك لم يكن إلا تسجيلاً للواقع، ونقلاً له كما هو في واقع الحياة.
وبدت صورة القدس وما يتصل بها تفوق هذا «الواقع التسجيلي»، وإن لم تكن صورتها فيها مفعمة بالحركة والحياة.
القدس في المسرحية:
إن المسرحيات التي عرضت للقدس كانت قليلة العدد، وربما يعود ذلك إلى جملة من الأسباب أهمها: قلّة المسرحيات المؤلفة في فلسطين إذا ما قيست بالدواوين الشعرية، والمجموعات القصصية، والروايات. وكان كثير من هذه المسرحيات إما مترجماً، أو معّداً إعداداً مسرحياً، ولكنه في الأصل منقول عن عدد من المسرحيات العربية، بعد إجراء شيء من التعديل والتغيير عليها.
وكانت المسرحيات التي عرضت للقدس تهتم في معظمها - بالجوانب التاريخية إلى جانب القضايا الاجتماعية، دون أن تكون هذه القضايا منفصلة عن بعضها، وإنما كانت تتداخل فيما بينها.
ومن هذه المسرحيات: «فتح بيت المقدس» للنادي الكاثوليكي في حيفا و«فلسطين مأساة عائلات الشهداء المجاهدين» لسعيد شقير و«وطن الشهيد» لبرهان الدين العبوشي و«القدس الشريف» لشكري سعيد ومسرحية «طالب الثأر ما قعد» لهدّية عبد الهادي.
و«أسرة الشهيد» لمحي الدين الحاج عيسى و«راحيل» لنجاتي البخاري و«الطريق إلى القدس» لعابدين بسيسو و«شعب صامد» لأحمد عبد العزيز دحنون وغيرها من المسرحيات. غير أن ما يتضح لنا أن صورة القدس في الأدب المسرحي في هذه الفترة، صورة مفككة الأجزاء لا تحمل قضية مصيرية، أو همّاً جماهيرياً من الهموم التي يحملها المسرح، ويعرضها أمام الجمهور أو المتلقين. وكان كثير من هذه المسرحيات يعد للطلبة أو الناشئين، ليقوموا بتمثيلها، مما جعل أصحابها - في الغالب - يكتبون تلك المسرحيات بأسلوب يوافق «السن المدرسي»، كما أن معظم الذين عرضوا للقدس في مسرحياتهم، كان همهم موجهاً لإبراز الأحداث التاريخية التي مرت بفلسطين وأهلها، ولكن تناولهم لتلك الأحداث كان أقرب إلى تناول المؤرخين والصحافيين منه إلى تناول المبدعين، فالمبدع قد يعرف ما يعرفه المؤرخ، لكنه ليس مطلوباً منه أن يقف عند دور المؤرخ، وإنما عليه أن يتخطاه، حتى لا يقوم بنسخ الواقع وتكراره كما هو.
ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن الذين عرضوا للقدس في مسرحياتهم لم يكونوا - في معظمهم - من المبدعين المتفوقين الذين يحسنون التعامل مع القضايا الحياتية، ويدركون كيفية عرضها على الجمهور. كما أن المسرحيات نفسها كانت ضعيفة وهشة لا تكاد في الغالب تتجاوز النظم، إن كانت مسرحية شعرية أو الوصف أو تسجيل الواقع إن كانت مسرحية نثرية.
وكل ما ذكرناه أسهم إلى حد كبير في رسم صورة غير مضيئة للقدس في المسرحية، بل لقد بدت القدس فيها ظرفاً تاريخياً تجري فيه الأحداث، دون أن تكون قادرة على تحريك هذه الأحداث والتفاعل معها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق