الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

قراءة في كتاب ظاهرة الشعر الحديث للكاتب أحمد المعداوي المجاطي ...


قراءة في كتاب ظاهرة الشعر الحديث للكاتب أحمد المعداوي المجاطي




دراسة نقدية تتبعت مسار تطور الشعر العربي الحديث

   يتناول أحمد المعداوي- المجاطي في هذا الكتاب حركيتن تجديديتن في الشعر العربي، واجهتا الوجود العربي التقليدي :

الحركة الأولى: واجهته و هو يتمتع بقدر مناسب من التماسك، فكان التطور بالنسبة إليها تطوراً تدريجياً، و يدخل في هذه الحركة كل من جماعة الديوان، و تيار الرابطة القلمية، و جماعة أبولو.

الحركة الثانية: واجهت الوجود العربي التقليدي في وقت كان التجديد بالنسبة إليها قوياً و عنيفاً ، يجمع التفتح على المفاهيم الشعرية في الغرب، و بين الثورة على الأشكال الشعرية العتيقة.

تمهيـــــد:

  يعتبر أحمد المعداوي ( أحمد المجاطي) من أهم الدارسين للشعر العربي الحديث بصفة عامة و ما يسمى بشعر التفعيلة بصفة خاصة إلى جانب نازك الملائكة وعز الدين إسماعيل وإحسان عباس ومحمد النويهي وغالي شكري وناجي علوش وكمال خير بك وريتا عوض و أدونيس ومحمد بنيس .
  وقد تميز أحمد المعداوي في دراساته الأدبية والنقدية ولاسيما في كتابيه:" ظاهرة الشعر الحديث" و" أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث" بخبرة كبيرة في الطرح والتحليل وجدية المقاربة التي تجمع بين التأريخ والتنظير والتحليل وممارسة النقد وتقويم الآراء المخالفة.
   ويلاحظ أن المعداوي كان ينطلق في قراءاته من رؤية شاعر محنك في مجال شعر التفعيلة، ومن تصور أستاذ جامعي له ممارسة طويلة في مجال تدريس الآداب و فقه اللغة وعلومها واستيعاب علم العروض والقافية استيعابا جيدا؛ وكل هذا أهله ليكون من أهم الشعراء النقاد العرب الذين تناولوا شعر الحداثة أو شعر التفعيلة بالدرس والتمحيص إلى جانب مجموعة من الشعراء النقاد نذكر منهم: أدونيس ومحمد بنيس وإلياس خوري وعبد الله راجع على سبيل التمثيل. 
وسنركز في هذه الدراسة على كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" لمدارسته ونقده مضمونا وشكلا ومنهجا وتصورا.

أ- من هو أحمد المعداوي؟

   ولد أحمد المعداوي سنة 1936م بالدار البيضاء، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية بين الدار البيضاء والرباط،. وحصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، كما نال دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1971م تحت إشراف الدكتور أمجد الطرابلسي، وكان موضوع الرسالة هو:" حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة( 1947-1967م)"، كما حضّر دكتوراه الدولة حول أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، ونوقشت الأطروحة كذلك بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.
   هذا، وقد مارس أحمد المعداوي الملقب بأحمد المجاطي كتابة الشعر والنقد، كما امتهن التدريس بجامعة محمد بن عبد الله بفاس منذ 1964م ، و بعد ذلك انتقل للتدريس بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط،، وكان من المؤسسين الأوائل لحركة الحداثة في الشعر بالمغرب، وقد فاز بجائزة ابن زيدون للشعر التي يمنحها المعهد الإسباني/ العربي للثقافة بمدريد لأحسن ديوان بالعربية والإسبانية لعام 1985م على ديوانه الشعري" الفروسية" . كما فاز بجائزة المغرب الكبرى للشعر سنة 1987م، وانتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية بكلية الآداب بالرباط منذ 1991م، وكان عضوا بارزا في تحرير مجلة" أقلام" المغربية التي كان يترأسها كل من عبد الرحمن بن عمرو وأحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو، ومثل المغرب في مهرجانات عربية عدة.
   وقد كتب المجاطي عدة مقالات وقصائد شعرية كانت تنشر بعدة صحف وملاحق ثقافية كجريدة "العلم"، وجريدة "المحرر"، وجريدة "الأهداف" المغربية، ومجلة "آفاق"، ومجلة" المعرفة" و"الثورة العراقية " و"أنفاس" و"دعوة الحق"، ومجلة " شروق"، ومجلة " الآداب" اللبنانية... 
   وبدأ أحمد المعداوي كتابة الشعر منذ الخمسينيات من القرن العشرين عندما كان طالبا بالثانوي، فكتب قصائد شعرية عمودية وقصائد رومانسية تأثر فيها بشعراء الديوان وأپولو وشعراء المهجر لينتقل بعد ذلك إلى كتابة الشعر المعاصر مع مجموعة من الشعراء المغاربة الذين سيصبحون في فترة الستينيات هم المؤسسون الحقيقيون لشعر التفعيلة في المغرب وهم: محمد السرغيني وعبد الكريم الطبال ومحمد الميموني وعبد الرفيع الجواهري وأحمد الجوماري وبنسالم الدمناتي وأحمد صبري وعبد الإله كنون ومحمد الخمار الكنوني ومحمد .ع.الهواري. وقد سماهم محمد بنيس في كتابه" ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" بشعراء السقوط والانتظار"، بينما سيسمي تابعه عبد الله راجع شعراء السبعينيات بشعراء المواجهة والتأسيس أو شعراء الشهادة والاستشهاد.
   و توفي أحمد المجاطي سنة 1995م بعد سنوات زاهرة بالعطاء التربوي والبيداغوجي ،ومزدانة بالعمل والاجتهاد والإبداع والكتابة والنقد.

ب- بنية كتاب" ظاهرة الشعر الحديث":

   يحوي كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" الذي صدر سنة 2002م في طبعته الأولى، و2007م في طبعته الثانية عن دار المدارس بالدار البيضاء، 171 صفحة من الحجم المتوسط بمقاس20.5 سم في13.5 سم، ويضم كذلك قسمين رئيسيين: القسم الأول بعنوان: نحو مضمون ذاتي، والقسم الذاتي بعنوان: نحو شكل جديد. أما عدد الفصول فهي أربعة، وهي:
1- الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث؛
2- الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع؛
3- الفصل الثالث: تجربة الحياة والموت؛
4- الفصل الرابع: الشكل الجديد.
   ويلاحظ أن الكتاب تلخيص وتمطيط لما قدمه أحمد المعداوي في رسالته الجامعية المعنونة "حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة( 1947-1967م)"، وما كتبه في أطروحته الجامعية عن "أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث"، ولاسيما الفصل الثالث منه والذي الذي سماه بالرسالة الشعرية . ويعني هذا أن الكتاب ماهو إلا توفيق بين أطروحاته الواردة في رسالته الجامعية وأطروحته التي أعدها لنيل دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث.

ج‌- مضــــامين الكتــــــــــاب:

القسم الأول: نحــــو مضمــــون ذاتـــــي

الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث

1- الشعر العربي القديم:

  يخضع التطور في الشعر العربي – حسب أحمد المعداوي- إلى أمرين مهمين، وهما: الحرية والاحتكاك بالثقافة الأجنبية. ولم يتحقق هذا التطور في الشعر القديم إلا جزئيا في العصر العباسي مع مجموعة من الشعراء الذين رفعوا لواء الحداثة الشعرية وراية التحول وهؤلاء هم: أبو نواس وأبو تمام والمتنبي وأبو العلاء المعري، كما تحقق هذا التطور فنيا في شعر الموشحات الأندلسية على مستوى الإيقاع العروضي.
   وعلى الرغم من ذلك ، فقد بقي هذا التجديد ضئيلا بسبب هيمنة معايير القصيدة العمودية التي كان يدافع عنها نقاد اللغة. وفي هذا الصدد يقول أحمد المجاطي:" غير أنه لابد من القول بأن الشاعر العربي لم يكن يتمتع من الحرية بالقدر المناسب، ذلك أن النقد العربي قد ولد بين يدي علماء اللغة، وأن هؤلاء كانوا أميل إلى تقديس الشعر الجاهلي، وأن المحاولات التجديدية التي اضطلع بها الشعراء في العصر العباسي، لم تسلم من التأثر بتشدد النقد المحافظ. لا، بل إن هذا النقد هو الذي حدد موضوع المعركة، واختار ميدانها، منذ نادى بالتقيد بنهج القصيدة القديمة، وبعدم الخروج عن عمود الشعر، فأصبح التجديد بذلك محصورا في التمرد على هذين الشرطين، وفي ذلك تضييق لمجال التطور والتجديد في الشعر العربي." 
  ومن هنا، يتبين لنا أن الشعر العربي القديم، لم يحقق تطورا ملحوظا بسبب انعدام الحرية الإبداعية وقلة الاحتكاك بالآداب الأجنبية؛ مما جعل الثبات أوالمحافظة على الأصول هو المهيمن على الشعر العربي القديم ونقده بالقياس مع خاصة التجديد و التحول والتطور.

2- التيـــــار الإحيـــــائي:

   يقوم التيار الإحيائي في شعرنا العربي الحديث على محاكاة الأقدمين وبعث التراث الشعري القديم وإحياء الشعر العباسي والشعر الأندلسي لتجاوز ركود عصر الانحطاط ومخلفات كساد شعره عن طريق العودة إلى الماضي الشعري الزاهر لنفض الغبار عليه من أجل الخروج من الأزمة الشعرية التي عاشها شعراء عصر النهضة. 
  ومن أهم الشعراء الذين تزعموا هذا التيار محمود سامي البارودي الذي عاش على أنقاض الماضي والتوسل بالبيان الشعري القديم؛ مما جعل هذه الحركة الشعرية حركة تقليدية محافظة بسبب مجاراتها لطرائق التعبير عند الشعراء القدامى. ومن ثم، فقد كانت العودة إلى التراث الشعري أهم مرتكز يقوم عليه هذا التيار، وبذلك فقد أهمل التعبير عن الذات ورصد الواقع، ولم يحقق تطورا حسب الكاتب بسبب انعدام الحرية الإبداعية و انعدام التأثر الحقيقي بالثقافة الأجنبية.

3- التيــــار الــــذاتي:

• جماعـــة الديــــوان:

    لم يظهر التيار الذاتي الوجداني إلا مع جماعة الديوان( عباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري، وعبد القادر المازني)، وجماعة أپولو( أحمد زكي أبو شادي، وأحمد رامي ،وأبو القاسم الشابي، ومحمود حسن إسماعيل ، و عبد المعطي الهمشري، والصيرفي، وعلي محمود طه، وعلي الشرنوبي، ومحمود أبو الوفا، وعبد العزيز عتيق...)، والرابطة القلمية في المهجر( إيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي...) في أواخر العقد الأول من القرن العشرين لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية.
   وإذا بدأنا بمدرسة الديوان ، فإن أصحابها يربطون الشعر بالذات والوجدان مع اختلافات طفيفة بين الشعراء، فالشعر عند العقاد هو المزج بين الشعور والفكر الذهني، وإن كان العقاد يرجح كفة ماهو فكري وعقلي على ماهو وجداني شعوري كما يتجلى ذلك في قصيدته الشعرية " الحبيب" التي غلب فيها المنطق العقلي على ماهو جواني داخلي؛وهذا ماجعل صلاح عبد الصبور يعتبر العقاد مفكرا قبل أن يكون شاعرا.
   أما عبد الرحمن شكري فقد تأمل في أعماق الذات تأملا يتجاوز في غايته حدود الاستجابة للواقع، مستهدفا الوقوف بالشاعر أمام نفسه في أبعادها المختلفة من شعورية ولاشعورية ( شعر الاستبطان واستكناه أغوار الذات).
  بينما الشعر عند عبد القادر المازني هو كل ما تفيض به النفس من شعور وعواطف وإحساسات وخاصة الإحساس بالألم. ولعل" في هذا الاطمئنان إلى الألم، مايفسر تحول المازني من الشعر إلى النثر، ومن معاناة الألم والضيق باليأس، إلى اعتناق مذهب السخرية من الناس ومن الحياة والموت جميعا." 
ويتسم الشعر الذاتي عند جماعة الديوان بالتميز والتفرد والتغني بشعر الشخصية. ويعود الاهتمام بالذاتية عند شعراء هذه المدرسة لسببين يتمثلان أولا: في إعادة الاعتبار للذات المصرية، وثانيا: انتشار الفكر الحر بين المثقفين والمبدعين المصريين.
   وعلى الرغم من ذلك، فهذا التيار حسب أحمد المعداوي تيار شعري سلبي ليس إلا؛ لأنه بقي أسير الذات ولم يتجاوزها إلى تغيير الواقع:" والحق أن إيمان شعراء هذه الجماعة بقيمة العنصر الذاتي، قد استمد أصوله من أمرين اثنين: أحدهما أن شخصية الفرد المصري كانت تعاني من انهيار تام على مختلف المستويات، وأن طبيعة الفترة التاريخية كانت تتطلب منه أن يعيد الاعتبار إلى ذاته، والآخر تشبعهم بالفكر الحر، الذي بسط ظله على العقل العربي، في تلك الفترة من تاريخ الأمة العربية. ولقد أتاح لهم ذلك التتبع أن يعبروا عن أنفسهم بوصفها قيما إنسانية لها وزنها، وأن يكفوا عن محاولة توكيد الذات بمحاكاة النماذج السابقة، ولكنه لم يتح لهم أن يذهبوا برسالتهم الشعرية إلى أبعد من ذلك، فيرتفعوا إلى مستوى الشعار الذي طرحته المرحلة، وهدفت من ورائه إلى وعي الذات لنفسها ولظروفها، وإلى التأهب لخوض المعركة، بغية تغيير تلك الظروف التي منعت المجتمع العربي من التحول وبناء الغد الأفضل، وهذا هو السر في أن أثر الوجدان في شعر هذه الجماعة كان أثرا سلبيا، يؤثر هدوء الحزن وظلمة التشاؤم على ابتسامة الأمل واستشراف النصر، فحفر بذلك أول قناة مظلمة في طريق الاتجاه الرومانسي الذي أعقب هذا التيار وورث معظم خصائصه التجديدية". 
وبعد أن قوّم أحمد المعداوي الشعر الإحيائي وشعر جماعة الديوان تقويما سلبيا يسبب انتقاده للذاكرة التراثية و الذاتية المثالية الباكية، انتقل إلى تقويم أدب المهجر الشمالي دون الجنوبي الذي كان يحف شعراؤه حول العصبة الأندلسية.

• تيار الرابطة القلمية:

   توسع مفهوم الوجدان عند شعراء الرابطة القلمية ( جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي)، ليشمل الحياة والكون في إطار وحدة الوجود الصوفية، فاختلط الوجدان بالذات والهجرة والغربة والوحدة.
ولئن كان جبران قد آثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة، فإن نعيمة انقطع إلى التأمل في نفسه، إيمانا منه بأن ملكوت الله في داخل الإنسان". أما أبو ماضي فقد استعصم بالخيال والقناعة والرضى بالله والفرار من الحضارة المعقدة إلى القفر أو إلى الغاب الطوباوي المثالي كما فعل من قبله جبران ونعيمة أو عاد إلى نفسه ليتسامى جوانيا وروحانيا.
   ومن المعروف أن شعر الرابطة القلمية قد عايش المد القومي، ثم تأثر تأثرا كبيرا بالآداب الأجنبية، إلا أنه ظل حبيس الذات والمضامين السلبية كاليأس والألم والخنوع والقناعة والاستسلام . بيد أن هذه المضامين بعيدة عن حقيقة الوعي القومي الذي يستلزم الأفعال الإيجابية والتغيير الثوري والممارسة العملية وترجمة المشاعر إلى الواقع الفعلي.

• جماعــــة أپــــولو:

   تأسست هذه الجماعة الشعرية في مصر سنة 1932م مع الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وتستند في مفهومها للشعر إلى التغني بالذات والوجدان، والتطرق إلى المواضيع الاجتماعية والقومية دون نسيان الشعراء لهمومهم الذاتية ولواعجهم المتقدة وصراعهم التراجيدي مع الحياة من شدة اليأس والألم والحزن.
   وتمتاز معاني شعراء أپولو حسب أحمد المعداوي بالسلبية بسبب تعاطي شعراء الجماعة مع مواضيع الطبيعة والهروب من الحياة الواقعية إلى الذات المنكمشة، والفرار من المدينة حيال الغاب أو الريف ،وترنح الشعر بكؤوس الحرمان والخيبة واليأس والمرارة ، والمعاناة من الاغتراب الذاتي والمكاني كما في قصيدة" خمسة وعشرون عاما" لعلي الشرنوبي. 
   غير أن القضاء لم يستجب لهم جميعا،" فينهي آلامهم بتجربة الموت، فقد مات الشابي والشرنوبي والهمشري وهم صغار، وبقي غيرهم من شعراء هذه الجماعة، يعزفون على الأوتار نفسها، حتى بليت ورثت ولم تعد تضيف جديدا، ذلك أنهم قد رفضوا أن يفتحوا أنفسهم للحياة المتجددة، وآثروا على ذلك حبس مواهبهم، في دائرة التجربة الذاتية الضيقة، ثم خلف من بعدهم خلف اقتفى آثارهم، ونسج على منوالهم، فتشابهت التجارب، وكثر الاجترار، وقلت فرص الجدة والطرافة، حتى صح فيهم قول الناقد محمد النويهي:" قد أغرقوا في شعرهم العاطفي حتى أصيب بالكظة، وزالت جدته، وفقد بالتكرار معظم حلاوته، وتحولت رقته إلى ميوعة، وإرهاف حساسيته إلى ضعف ومرض" 
   وانتهت جماعة أپولو بالانفصال وتمزق الجماعة وهجرة بعضهم الحياة العامة كأحمد زكي أبو شادي الذي سبقه إلى ذلك" ناجي إلى ماوراء الغمام، وسبقه علي محمود طه إلى ماوراء البحار مع الملاح التائه، وسبقه محمود أبو الوفا إلى معاناة أنفاس محترقة وامتدت عمليات التخلي والانفصال بعد ذلك عند الصيرفي في الألحان الضائعة، حتى وصلت إلى آخر دواوين محمود حسن إسماعيل أين المفر؟ وتعددت الاتجاهات التي تختلف في تفاصيلها، ولكنها تلتقي عند انفصال الشاعر المصري عن مجتمعه" 
   بيد أن أحمد المعداوي يتناسى القصائد الواقعية والقومية والوطنية التي دبجها شعراء أپولو في استنهاض همم الشعب كما فعل أبو القاسم الشابي في قصيدته الرائعة " إرادة الحياة" التي مازال الشعب التونسي يتغنى بها إلى يومنا هذا، واتخذت القصيدة نشيدا وطنيا لتونس . 
   لكن أحمد المعداوي يجيبنا بجواب غير مقنع وغير موضوعي يريد من خلاله أن يمهد لشعر الحداثة الذي كان في رأيه شعرا إيجابيا مرتبطا بالحياة والواقع" نحن لاننكر أن هذه الجماعة شأنها في ذلك كشأن جماعة الديوان وتيار الواقعية وتيار الرابطة القلمية قد خلفت شعرا يتناول القضايا القومية والقضايا الاجتماعية بصفة عامة، ولكننا نرى أن ما يمكن أن يعتد به من شعرهم هو الشعر الوجداني الصرف، أما الشعر الواقعي الاجتماعي، والشعر الواقعي القومي الذي يأخذ الشاعر فيه نفسه بنوع من الفهم العلمي والموضوعي للظروف الاجتماعية والسياسية، فقد قام على أنقاض هذا التيار الذاتي الذي أغرق في الانطواء على هموم الذات الفردية إغراقا تحول في نهاية الأمر إلى مايشبه المرض. نعم لقد انحصر تيار العودة إلى الذات بعد أن استنفد إمكاناته الموضوعية، وتدفق مكانه تيار آخر لم ينكر أهمية الذات إنكارا تاما، بل أراد لهذه الذات أن تفتح نفسها على ماحولها، وأن تقيم وجدان الجماعة مكان وجدان الفرد، ذلك أن المرحلة كانت تتطلب هذا النوع من التآزر بين الفرد والجماعة، وتنفر كل النفور من أية دعوة إلى الانطواء والتفرد والعزلة" .
  وهكذا، استطاع أحمد المعداوي أن يتخلص من جماعة أپولو كما تخلص سابقا من جماعة الديوان والرابطة القلمية بطريقة غير موضوعية من أجل أن يعطي الصدارة والمشروعية للشعر الحديث باعتباره شعر الثورة والتغيير والممارسة الفعلية.

القسم الثاني: نحـــو شكــــل جديــــد

   إذا كانت القصيدة الإحيائية تعتمد على امتلاء الذاكرة وتقليد النموذج، فإن التيار الوجداني قد استخدم لغة أكثر سهولة ويسرا من لغة القصيدة الإجيائية التي كانت تميل إلى رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وبداوة المعجم. بل تستعمل القصيدة الوجدانية لغة الحديث المألوف ولغة الشارع كما عند العقاد في الكثير من قصائده الشعرية ولاسيما قصيدته" أصداء الشارع" الموجودة في ديوانه" عابر سبيل". كما أن الصورة الشعرية البيانية صارت تعبيرية وانفعالية وذاتية ملتصقة بتجربة الشاعر الرومانسي. بينما اقترنت الصورة الشعرية لدى الإحيائيين بالذاكرة التراثية مستقلة عن تجربة القصيدة الذاتية ، وغالبا ما تأتي للتزيين والزخرفة ليس إلا.
   و" لقد أراد الشاعر الوجداني أن يجعل للصورة وظيفة أساسية، وأن تكون هذه الوظيفة نابعة من تجربته الذاتية، ومن رؤيته للحياة، عبر تلك التجربة، ولم يعد التدبيج والزخرفة هدفه الأساسي من استخدامها، لا، بل أن هذه الوظيفة أصبحت ذات علاقة بوظائف العناصر الشعرية الأخرى، من أفكار وعواطف وأحاسيس، ومن هذه العلاقة الأخيرة، تنشأ خاصة أخرى من خصائص الشكل في القصيدة الوجدانية الحديثة، هي خاصة الوحدة العضوية. فكما أراد الشاعر الوجداني أن يربط بين الصورة وبين عواطف الشاعر وأحاسيسه، أراد كذلك أن يربط هذه العواطف والأحاسيس والأفكار ببعضها، ربطا من شأنه أن ينشىء روحا عاما يشيع في أجزاء القصيدة المختلفة، ويظهرها بمظاهر الكائن الحي، لكل عضو من أعضاء الجسد دور هام ومتميز، يحدده مكانه من الجسد." 
  ومن القصائد الوجدانية التي تتمثل فيها خاصة الوحدة العضوية قصيدة "حكمة الجهل" لعباس محمود العقاد التي يحافظ فيها الشاعر على الرابط العضوي والمنطقي، لذا من الصعب أن يخل الدارس بتسلسل الأبيات تقديما وتأخيرا.
وتبقى هذه الوحدة العضوية موجودة ومرتبطة بالوجدان مهما اختلفت القوافي كما في قصيدة "الخير والشر" لميخائيل نعيمة أو تعددت الأوزان العروضية كما في قصيدة"المجنون" لإيليا أبي ماضي.
   هذا، وقد مال الوجدانيون إلى تحقيق بعض الملامح التجديدية في أشعارهم كتنويع القوافي والأوزان، وتشغيل الوحدة العضوية في بناء القصيدة، واستعمال القصائد والمقطوعات المتفرقة، وتليين اللغة وترهيفها وإزالة قداستها البيانية ، وتوظيف القافية المرسلة والمزدوجة والمتراوحة، واللجوء إلى الشعر المرسل. لكن هذا التجديد سيواجهه النقاد المحافظون بالمنع والتقويض كمصطفى صادق الرافعي وطه حسين والعقاد في إحدى مراحله النقدية وإبراهيم أنيس صاحب كتاب " موسيقا الشعر".
    وإذا۫، فقد" كانت نهاية هذه التيارات الذاتية محزنة، على صعيدي المضمون والشكل، أما المضمون فلأنه انحدر، كما لاحظنا في القسم الأول من هذا الكتاب، على مستوى البكاء والأنين والتفجع والشكوى، وهي معان ممعنة في الضعف تفصح بوضوح عما وراءها من مرض وتهافت وخذلان. أما الشكل فلأنه فشل في مسيرته نحو الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات خاصة، ومميزات مكتملة ناضجة، وكان فشله تحت ضربات النقد المحافظ، الذي استمد قوته مما كان الوجود العربي التقليدي يتمتع به من تماسك ومنعة، قبل كارثة فلسطين. فلما تحقق النصر للكيان الصهيوني المصطنع، وعجز الوجود العربي التقليدي بكل ما أوتي من قوة عن رد الخطر الذي يتهدد الأمة، سقط ذلك الوجود، وكان سقوطه على كافة المستويات، السياسية والاجتماعية والثقافية، وأتيح بذلك للشاعر والناقد والمفكر أن يمارسوا قدرا من الحرية لم تكن ممارسته متاحة لهم من قبل في عالمنا العربي.". 
  وهكذا، يحكم أحمد المعداوي على التيار الذاتي بأنه لم يأت بجديد يذكر على مستوى المضمون والشكل معا على الرغم من بعض المحاولات التجديدية ؛ لأنه بقي أسير النغمات الحزينة والمحاولات التجديدية المحتشمة التي كانت تهاب أنياب النقد العربي المحافظ.

الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع

  لم يظهر الشعر العربي الحديث أو مايسمى بشعر التفعيلة إلا بعد نكبة 1948م ، وتعاقب مجموعة من النكسات والهزائم المتوالية وخاصة هزيمة 1967م. وقد تأثر هذا الشعر الجديد بالمد القومي وانهيار الواقع العربي الفظ الذي زرع الشك في نفوس المثقفين والمبدعين، وأسقط كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت المقدسة والطابوهات الممنوعة.
  كما كان للاحتكاك بالثقافة الأجنبية دور كبير في انفتاح هذا الشعر على كل ماهو مستحدث في الخارج لتجديد آليات الكتابة والتعبير بله عن التسلح بمجموعة من المعارف والعلوم للسمو بهذا الشعر كالفلسفة والتاريخ والأساطير وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا ، واستيعاب الروافد الفكرية الآتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات الهندية والفارسية والحرانية(الصابئة)، والتأثر بأشعار الجامي وجلال الدين الرومي وفريد العطار والخيام وطاغور فضلا عن الاستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة الاشتراكية والتفاعل مع أشعار أودن وبابلو نيرودا و وپول إيلوار و لويس أراگون و گارسيا لوركا وماياكوفسكي وناظم حكمت والاستعانة بقصص كافكا وأشعار ريلكه وإليوت مع الانفتاح على الثقافة الشعبية كسيرة عنترة بن شداد و كتاب ألف ليلة وليلة و سيرتي : سيف بن ذي يزن وأبي زيد الهلالي ، والتعمق في القرآن الكريم، وقراءة الحديث النبوي الشريف، والتجوال الدائم في الشعر العربي القديم.
  وصار الشعر وسيلة لاكتشاف الإنسان والعالم، كما كان فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى، وبدأ الشاعر يحمل رؤيا للإنسان والحياة والكون والوجود والقيم والمعرفة. بل أصبح الشعر الحديث أداة لتفسير العالم وتغييره. 
   ولا يعرف الشاعر الحديث معنى الاستقرار فهو كثير التنقل تناصيا وكثير الترحال معرفيا، فقد" طوف مع يوليس في المجهول، ومع فاوست ضحى بروحه ليفتدي المعرفة، ثم انتهى إلى اليأس من العلم في هذا العصر، تنكر له مع هكسلي ،فأبحر إلى ضفاف الكنج، منبت التصرف، لم ير غير طين ميت هناك، وطين ميت هنا، طين بطين، ولا تقف رحلة الشاعر الحديث عند حدود الزمان والمكان والتاريخ والحضارة، فقد حمل صليبه مع المسيح، وحمل صخرته مع سيزيف، وعاقر الأتراح والآلام مع كلكمش في رحلته الطويلة بحثا عن شجرة الخلود، ومع الحلاج في مأساته بين البوح والكتمان، ورهن المحبسين مع أبي العلاء، قرأ اسمه على شاهد قبره، وقرأه على الآجر المشوي في أطلال نينوى، وعلى الصوامع المهدمة في أحياء نيسابور، حتى إذا أعياه الضرب في الأرض، ألقى عصاه في انتظار الذي يأتي ولا يأتي". 
   ومن ناحية أخرى، أصبح الشكل الشعري الجديد يعبر عن ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة، بعد أن أفرزته مجموعة من النكبات والنكسات والهزائم. ومن هنا، فقد استوى الشكل الشعري الجديد مع مجموعة من الشعراء المحدثين كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي...
ومن الموضوعات التي نصادفها بكثرة في شعرنا العربي الحديث نلفي تجربة الضياع والتمزق النفسي والاضطراب الداخلي والقلق الوجودي والغربة الذاتية والمكانية تأثرا بشعر توماس إليوت صاحب القصيدة الشهيرة" الأرض الخراب"، فنموذج الآفاق عند الوهاب البياتي " ليس سوى رمز للإنسان الضائع الذي اضمحل وجوده في الحضارة الأوربية كما يتصوره إليوت" ، وتأثرا أيضا بأعمال بعض الروائيين والمسرحيين خاصة الروايات والمسرحيات الوجودية التي ترجمت إلى اللغة العربية، ودراسة كولن ويلسن عن" اللامنتمي"، علاوة على عامل المعرفة، وكل هذا جعل الشاعر الحديث يعاني من الملل والسأم والضجر واللامبالاة والقلق، وبدأ يعزف أنغاما حزينة تترجم سيمفونية الضياع والتيه والاغتراب والانهيار النفسي والتآكل الذاتي والذوبان الوجودي بسبب تردي القيم الإنسانية وانحطاط المجتمع العربي بسبب قيمه الزائفة وهزائمه المتكررة.
   وتحضر هذه النغمة التراجيدية في أشعار أدونيس في قصيدة "الرأس والنهر " من ديوان " المسرح والمرايا"، وعند عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور في قصيدته "مذكرات الصوفي بشر الحافي" من ديوان "أحلام الفارس القديم"، و لدى عبد المعطي حجازي.
   وتتنوع الغربة في أشعار المحدثين لتشمل الغربة في الكون، والغربة في المدينة، والغربة في الحب، والغربة في الكلمة.
  وتعني الغربة في الكون ميل الشاعر إلى الشك في الحقائق والميل إلى التفلسف الأنطولوجي ( الوجودي)، وتفسير الكون عقلا ومنطقا، والدافع إلى ذلك أن الشاعر يحس بالعبث والقلق والمرارة المظلمة كما نجد ذلك في نصوص صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب وأدونيس ويوسف الخال.
   أما الغربة في المدينة، فتتجلى في تبرم الشاعر الحساس من المكان المديني الذي حول الإنسان إلى مادة محنطة بالقيم المصطنعة الزائفة، وهذا المكان المخيف هو المدينة العربية المعاصرة التي علبت الإنسان وشيأته، وأضحت بدون قلب أو بدون روح، فالقاهرة بدون قلب عند عبد المعطي حجازي، ونفس الشيء يقال عن بغداد السياب وبيروت أدونيس وخليل حاوي. وتتخذ المدينة في شعر هؤلاء قناعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، وتمثل وجه الحضارة بكل أبعادها الذاتية والموضوعية.
وعليه، فقد صور الشعر الحديث المدينة في ثوبها المادي كما عند الحجازي، أو الناس داخل المدينة وهم صامتون يثقلهم الإحساس بالزمن كما في جل أشعار عبد المعطي حجازي في ديوانه" مدينة بلا قلب". 
  ويلاحظ أن الشعراء المحدثين لم يستطيعوا الهروب إلى الريف أو إلى عالم الغاب كما فعل الرومانسيون ، بل فكر السياب أن يهرب إلى قريته جيكور في الكثير من جيكورياته، ولكنه وجد أن المدينة تحاصره في أي مكان وتطوقه بأحابيلها المادية الإسمنتية، ولم يجد صلاح عبد الصبور أيضا سوى أن يجسد الخلاص في الموت كما في قصيدة "الخروج". 
  وإذا كان الشاعر الحديث قد فشل في فهم أسرار الكون ووجوده، وفشل كذلك في التأقلم مع المدينة، فإنه فشل كذلك في الحب الذي أصبح زيفا مصطنعا وبريقا واهما. ومن ثم، تتحول العلاقة بين الزوجين إلى عداوة وقتال كما في قصيدة"الجروح السود" عند خليل حاوي في ديوانه" نهر الرماد"، أو يموت الحب عند عبد المعطي حجازي أو يصاب بالاختناق عند صلاح عبد الصبور.
   هذا، و تعيش الكلمة غربتها الذاتية في واقع لايعرف سوى الصدى وخنق الجهر و قتل الكلام الصارخ الذي قد يتحول إلى حجر عند أدونيس في قصيدة "السماء الثامنة" من ديوان " المسرح والمرايا"، وقد يلتجئ الشاعر إلى الصمت كما عند البياتي في قصيدة " إلى أسماء" من ديوان " سفر الفقر والثورة". ومن هنا، فالغربة في الكلمة، أو في المدينة، او في الحب، " ليست سوى وجه واحد من عدة أوجه، يمكن تصورها لغربة الشاعر العربي في واقع ما بعد النكبة" 
   ويلاحظ أن هناك من الشعراء المحدثين من وقف عند لون واحد من الغربة، وهناك من مزج بين لونين ، وهناك من تحدث عن الألوان الثلاثة للغربة، وهناك من جمع بين الأربعة في وحدة شعرية منصهرة:" تلك الوحدة سوغت له أن يمزج في بعض الأحيان، بين لونين من ألوان الغربة في القصيدة الواحدة، على نحو ما فعل إبراهيم أبو سنة حين مزج بين الغربة في الحب والغربة في المدينة، في قصيدة له بعنوان " في الطريق". وعلى نحو ما نجد عند صلاح عبد الصبور، الذي يمزج بين الغربة في المدينة، والغربة في الكلمة في قصيدة" أغنية للشتاء". وقد يمضي بعض الشعراء بعيدا، فيمزج في قصيدة واحدة بين ألوان مختلفة تتعدى ما سبقت الإشارة إليه من ألوان الغربة ، كما هو الشأن في قصيدة" فارس النحاس" لعبد الوهاب البياتي" ، التي جسدت الغربة في المكان والغربة في الزمان والغربة في المدينة والغربة في العجز. وهذه الغربة تتفرع عنها الغربة في الحياة والغربة في الموت والغربة في الصمت. وهذه النظرة الشمولية للغربة تنطبق أيضا على قصيدة يوسف الخال" الدارة السوداء".
   وقد تتداخل تجربة الضياع والغربة في قصائد الشعراء المحدثين مع تجربة اليقظة والأمل. وإنه:" من المفيد أن نشير بصفة عامة، إلى أن إيقاع التجدد والبعث والأمل بلغ أوجه في الارتفاع والتألق، في الفترة الواقعة بين تأميم القناة، وبين واقعة الانفصال بين مصر وسورية. على حين بدأ إيقاع اليأس يسود بعد هذه الحادثة الأخيرة، وأن نشير بصفة خاصة، إلى أن استجابة الشاعر للإيقاع السائد في المرحلة ، لاتكون استجابة مطلقة". 
  وسبب هذا الضياع عند الشعراء المحدثين هو تأثرهم بالأدب الوجودي كما عند سارتر وألبير كامو، ومن الشعراء الذين تغنوا بالسأم الوجودي والقلق والاغتراب والضياع نستحضر كلا من صلاح عبد الصبور في قصيدة "الظل والصليب " من ديوان" أقول لكم" ، وكما حصل في بعض قصائد عبد الباسط الصوفي من ديوانه" أبيات ريفية" كقصيدة" قصيدة ومقهى"، وقصيدة" أحزان قديمة"، وقصيدة " تثاؤب".
   وقد دفع هذا اليأس وهذا الضياع عند الشعراء المحدثين بعض النقاد( حسين مروة، وجلال العشري، ومحمود أمين العالم، وفاروق خورشيد) إلى اتهام هذا الشعر الجديد بالسلبية والنكوص والضعف والاستسلام والميل إلى الذاتية الباكية على غرار الرومانسيين الوجدانيين. بيد أن أحمد المجاطي يدافع عن هذه التجربة بقوله:"إن هذه النغمة المستوردة هي التي حملت بعض النقاد على اتخاذ مواقف متحفظة من تجربة الغربة كلها، ولاشك أن موقفهم هذا، ناتج قبل ذلك من الخلط بين ماهو أصيل من تلك التجربة، وبين ماهو غير أصيل، وإن الخوف المبالغ فيه من كل مايمت بصلة إلى الحزن والضياع والتمزق، كأن الحياة نزهة مترفة، لامكان فيها للخوف، والتردد، والرعب، وكأن الشعر لايملك أن يكون إيجابيا حتى وهو يشق العظام ليؤكد وجود المادة النخاعية" كما يقرر روزينتال". أما الشيء الذي يؤسف له فهو أن موقف هؤلاء الباحثين قد قادهم إلى تجاهل النجاح الذي حققته هذه التجربة، وهو نجاح يرجع إلى أن الهم الذي عانى منه الشاعر الحديث، لم يكن هما فرديا كالهم الذي أغرق تجربة شعراء التيارات الذاتية، في الظلمة والقتامة، واليأس، إنه هم جماعي نابع من تفتت الأرض تحت أقدامنا، ومن ارتفاع أسوار الحديد أمام كل خطوة نخطوها،نابع من قصر عصر الأفراح، التي تبزغ في سمائنا بين الحين والحين، فنحسب أنها الفجر الصادق، حتى إذا فتحنا أذرعنا للقاء المنتظر، تكشف أقنعة الضوء عن أنياب الفزع والموت. إن هذه الغربة هي غربتنا، وكل صوت نرفعه في وجه الشعر حين يشير إليها يجب أن يتحول إلى فعل، وأن يكون هدف ذلك الفعل، الواقع العربي، لامكان للحسرة في نفوسنا وكلماتنا. لا أريد بهذه الكلمة أن أدافع عن تجربة الغربة، ولكن هدفي هو لفت النظر إليها، وعلى الدور الذي لعبته في تهييء الشاعر الحديث لتجربة أخرى... وهي تجربة الحياة والموت" .
   بيد أن أحمد المعداوي سيعتبر تجربة الغربة والضياع تجربة سلبية فاشلة وجدت نفسها في طريق مسدود كما أثبت ذلك في كتابه "أزمة الشعر العربي الحديث" في الفصل الثالث المخصص للرسالة الشعرية. 

الفصل الثالث: تجربـــة الحيـــاة والمـــوت

  لم يكن الشعر العربي الحديث كله شعر يأس وغربة وضياع وقلق وسأم، فهناك أشعار تغنت بالأمل والحياة واليقظة والتجدد والانبعاث او مايسمى عند ريتا عوض بقصيدة الموت والانبعاث التي نجدها حاضرة في أشعار بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي. وسبب هذا الأمل والتجدد في أشعار هؤلاء التموزيين الذين تغنوا بالموت والانبعاث هو ماتم إنجازه واقعيا وسياسيا كثورة مصر و تأميم القناة ورد العدوان الثلاثي واستقلال أقطار العالم العربي والوحدة بين مصر وسوريا إلى غير ذلك من الأحداث الإيجابية التي دفعت الشعراء إلى التغني بالانبعاث واليقظة والتجدد الحضاري. ولم تستقل حقبة الأمل بفترة معينة، بل نراها تتداخل مع فترة إيقاع الغربة والضياع تعاقبا أو تقاطعا.
   وقد نجد فكرة التجدد عند الشعراء المهجريين كأقصوصة " رماد الأجيال" و"النار الخالدة" عند جبران خايل جبران، وقصيدة" أوراق الخريف" لميخائيل نعيمة، " غيرأن هذه اللمحات الأدبية والشعرية ، التي تراءت في إنتاج أدباء المهجر الشمالي ، لاتؤلف في واقع الأمر تجربة متماسكة، تضع الإيمان بالتجدد والعبث فوق كل اعتبار،فباستثناء قصيدة " الحائك" لنعيمة، تبقى الحيرة والتردد، وإيثار الحياة الحالمة، هي طابع هذه التجربة العامة". ويعني هذا أن التجدد عند شعراء المهجر مقترن بالتناسخ، بينما التجدد عند الشعراء المحدثين مرتبط بالفداء المسيحي.
  وقد استفاد الشاعر الحديث من مجموعة من الأساطير والرموز الدالة على البعث والنهضة واليقظة والتجدد، واستلهمها من الوثنية البابلية واليونانية والفينيقية والعربية، ومن المعتقدات المسيحية ومن التراث العربي والإسلامي ومن الفكر الإنساني عامة. وتجسد هذه الأساطير غالبا صراع الخير والشر، ومن بين هذه الأساطير الموظفة نجد: تموز وعشتار وأورفيوس وطائر الفينيق وصقر قريش والخضر ونادر السود ومهيار والعنقاء والسندباد وعمر الخيام وحبيبته عائشة والحلاج ولعازر والناصري.
   ولقد أفرزت هذه الأساطير الرمزية التي وظفها الشاعر المعاصر منهجا نقديا وأدبيا وفلسفيا يسمى بالمنهج الأسطوري" يقدم به الشاعر مشاعره وأفكاره، ومجمل تجربته في صور رمزية، يتم بواسطتها التواصل، لا عن طريق مخاطبة الفكر، كما تفعل الفلسفة والمنطق، بل عن طريق التغلغل إلى اللاشعور، حيث تكمن رواسب المعتقدات والأفكار المشتركة". 
   ويعد أدونيس من أهم شعراء التجربة التموزية الذين تغنوا بالموت والانبعاث كما في ديوانيه" كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل"، وديوان" المسرح والمرايا". ومن أهم خصائص شعره التي تحدد نظرته إلى أمته على المستوى الحضاري خاصة التحول عبر الحياة والموت، أي إن أدونيس يشخص في أشعاره جدلية الإنسان المتأرجحة بين الحياة والموت، كما في قصائده الشعرية " الرأس والنهر"، و" تيمور ومهيار"، وقصيدة "السماء"، وقد اشتغل أدونيس في شعره كثيرا على أسطورة العنقاء وشخصية مهيار .
   أما إذا انتقلنا إلى الشاعر خليل حاوي فقد عبر في دواوينه الثلاثة " نهر الرماد" و"الناي والريح " و" بيادر الجوع" عن مبدإ آخر غير مبدإ التحول عند أدونيس هو مبدأ المعاناة، أي معاناة حقيقية للخراب والدمار، والجفاف والعقم. وقد شغّل في شعره أسطورة تموز وأسطورة العنقاء للدلالة على هذا الخراب الحضاري والتجدد مع العنقاء.
   ومن القصائد الدالة على معاناة الحياة والموت قصيدته" بعد الجليد "وقصيدة" السندباد في رحلته الثامنة"، و"حب وجلجلة"، و"البحار والدرويش"، و" ليالي بيروت"، و" نعش السكارى"، و"جحيم بارد"، و" بلا عنوان"، و"الجروح السود"، و" في جوف الحوت" ، و"المجوس في أورپا" و"عودة إلى سدوم"، و"الجسر"، و"عند البصارة" ، و" وجوه السندباد"، ومسرحية"عرس الدم" للوركا، و" سيرة الديك الجن"، و"الكهف"، و"جنية الشاطئ"، و" لعازر عام 1962 م".
   ومن جهة أخرى، فقد تناول بدر شاكر السياب في الكثير من قصائده معاني الموت والبعث، وعبر عن طبيعة الفداء في الموت، إذ يعتقد بأن الخلاص لايكون إلا بالموت، إلا بمزيد من الأموات والضحايا كما في قصيدته " النهر والموت" ،وفي قصيدته " قافلة الضياع "، و" رسالة من مقبرة". وقد استخدم السياب رمزا أسطوريا للتعبير عن فكرة الخلاص وهو رمز المسيح كما في قصيدته" المسيح بعد الصلب"، وقصيدة " مدينة السندباد" و"أنشودة المطر".
   وتتسم أشعار عبد الوهاب البياتي بجدلية الأمل واليأس كما يظهر ذلك جليا في ديوانه" الذي يأتي ولايأتي". ويلاحظ الدارس أن هناك ثلاث منحنيات في جدلية الأمل واليأس في أشعار عبد الوهاب البياتي:
  " في المنحنى الأول، انتصار ساحق للحياة على الموت، وتمثله الأعمال الشعرية السابقة على" الذي يأتي ولايأتي"، ولاسيما " كلمات لاتموت"، و" النار والكلمات" و" سفر الفقر والثورة".
في المنحنى الثاني تتكافأ الكفتان، ويمثله ديوان" الذي يأتي ولايأتي".
أما المنحنى الأخير، فيتم فيه انتصار الموت على الحياة، ويمثله ديوان" الموت في الحياة"" 
  هذا، و قد جسد عبد الوهاب البياتي في دواوينه الشعرية حقيقة البعث من خلال الخطوط الأربعة الهامة لمضمون ديوانه" الذي يأتي ولايأتي" كخط الحياة وخط الموت، وخط السؤال، وخط الرجاء، وكل هذا يرد في جدلية منحنى الأمل ومنحنى الشك.
   وبعد، لقد أصبح الشاعر الحديث شاعرا يجمع بين هموم الذات وهموم الجماعة ، يروم كشف الواقع واستشراف المستقبل متنقلا من التفسير إلى التغيير. وبمعنى آخر،" لقد أصبح وعي الشاعر بالذات وبالزمن وبالكون مرتبطا بوعيه بالجماعة، ومتضمنا له. وماكان لشيء من ذلك أن يحدث لولا وعي الشاعر الحديث، وإدراكه للتحدي الذي يهدد حاضره ومستقبله، بالقدر الذي يهدد وجوده القومي. الأمر الذي جعل موقف الشاعر من الذات، ومن الكون، ومن الزمن ومن الجماعة، موقفا موحدا، تمليه رغبته في الحياة والتجدد والانتصار على كل التحديات، التي يرمز إليها برمز واحد، ذي طابع شمولي، هو رمز الموت الذي يعني موت الذات وموت الزمن( الماضي بكل أمجاده والحاضر بكل تطلعاته) ، والذي يعني تبعا لذلك محو الوجد القومي والإنساني للأمة العربية.
  إن الصراع بين الموت والحياة في تجربة الشاعر الحديث يعني في آخر الأمر الصراع بين الحرية والحب والتجدد الذي يجعل الثورة وسيلته، وبين الحقد والاستعباد والنفي من المكان ومن التاريخ." 
   وعلى الرغم من مضامين الشعر الحديث الثورية، فإنه لم يتحول إلى طاقة تغييرية، بل نلاحظ انفصالا بين الشعر الحديث والجماهير العربية، والسبب في ذلك يعود حسب أحمد المعداوي إلى عامل ديني قومي، وعامل ثقافي، وعامل سياسي، ولكن أهم هذه العوامل حسب الكاتب تعود إلى العامل" المتعلق بتقنية هذا الشعر، أي بالوسائل الفنية المستحدثة التي توسل بها الشعراء، للتعبير عن التجارب التي سبقت الحديث عنها. فلا شك في أن حداثة هذه الوسائل حالت بين الجماهير، وبين تمثل المضامين الثورية لهذا الشعر." 

الفصل الرابع: الشكـــــل الجديــــــد

   استعمل الشعر الحديث شكلا جديدا يتجلى في استخدام الرموز والأساطير والصور البيانية الانزياحية، كما أن اللغة تختلف من شاعر إلى آخر، فالشعراء العراقيون الذين يمثلهم بدر شاكر السياب يستعملون لغة جزلة وعبارة فخمة وسبكا متينا على غرار الشعر القديم الذي يتميز بالنفس التقليدي كما يظهر ذلك جليا في دواوين السياب القديمة والمتأخرة وخاصة قصيدته "مدينة بلا مطر"، وقصيدة" منزل الأقنان"، بينما هناك من يختار لغة الحديث اليومي كما عند أمل دنقل في ديوانه" البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وهناك من يخلخل اللغة الشعرية النفعية المباشرة ويستعمل لغة انزياحية موحية تنتهك معايير الوضوح والعقل والمنطق كما نجد ذلك عند الشاعر أدونيس والبياتي ومحمد عفيفي مطر وصلاح عبد الصبور، وهناك من يشغل اللغة الدرامية المتوترة النابعة من الصوت الداخلي، وهذا الصوت" منبثق من أعماق الذات، ومتجها إليها، خلافا لماهو الأمر عليه لدى الشاعر القديم، الذي امتاز سياقه اللغوي بصدوره عن صوت داخلي يتجه إلى الخارج، وهو في اتجاهه إلى الخارج يأخذ شكل خطاب أو التماس أو دعوة إلى المشاركة والتعاطف، الأمر الذي يمنعه من أن يقيم جدارا بينه وبين العالم الخارجي أثناء المعاناة والتوتر، فهناك دائما شخص آخر يقاسم الشاعر آلامه" ، كما نجد ذلك لدى الشاعر محمد مفتاح الفيتوري في قصيدته " معزوفة لدرويش متجول".
   وعلى مستوى الصورة الشعرية، فقد تجاوز الشاعر الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية عند الشعراء الإحيائيين، والصور المرتبطة بالتجارب الذاتية عند الرومانسيين، إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح والرموز والأساطير وتوظيف الصورة الرؤيا وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة الإيحاء. ولا ريب أن ولع" الشاعر الحديث بالضرب في بحور المعرفة السبعة ، قد أتاح له أن يجتني المزيد من الصور والرموز، التي تعتبر من أهم الوسائل التي يلجأ إليها الشاعر الحديث للتعبير عن تجاربه الجديدة، ولا ريب في أن الشاعر حين فعل ذلك، وحين وسع مدلول صوره البيانية، أو حدده بربطه بمدلولات سائر الصور في القصيدة الواحدة، أو حين فتح مدلول الصورة الواحدة على آفاق تجربته المختلفة، قد ابتعد كثيرا عن مفهوم الصور البيانية في البلاغة القديمة، وأن هذا البعد قد ساهم مساهمة فعالة في إبعاد تجاربه الشعرية عن ذوق عامة الناس،كما منحهم نوعا من التبرير لوصف شعره بالغموض. ". 
   ولكن أهم خاصة شكلية يتسم به الشعر الحديث هو تطور الأسس الموسيقية، وإن كان بعض الشعراء المحدثين مازالوا يستعملون الطريقة التقليدية في كتابة قصائدهم كما هو حال البياتي في هذا المقطع المأخوذ من ديوانه" الذي يأتي ولا يأتي":

عديدة أسلاب هذا الليل في المغاره
جماجم الموتى، كتاب أصفر، قيثاره
نقش على الحائط، طير ميت، عباره
مكتوبة بالدم فوق هذه الحجاره.

  بيد أن هناك من الشعراء من نسف عروض الشعر لينتقل إلى عروض القصيدة معتمدا على التفعيلة وتنويعها والتصرف في عددها حسب انفعالات التجربة الشعرية وتوقفها. أي إن التجربة الشعرية الذاتية الداخلية هي التي تستلزم الإيقاع الشعري والوقفة العروضية والنظمية والدلالية عند الشاعر المعاصر.
  هذا، وقد التجأ الشاعر الحديث إلى تنويع البحور الشعرية داخل قصيدة واحدة، واستخدام البحور الصافية منها ، وتنويع القوافي والتحرر من القافية الموحدة التي تمتاز بالرتابة والتكرار الممل، ناهيك عن تفتيت وحدة البيت المستقل وتعويضه بالأسطر والجمل الشعرية التي تخضع للنسق الشعوري والفكري.
   وشغّل الشاعر الحديث ستة بحور شعرية كالهزج( مفاعيلن)، والرمل( فاعلاتن)، والمتقارب( فعولن)، والمتدارك ( فاعلن)، والرجز( مستفعلن)، والكامل(متفاعلن)، ولقد أصبح " في وسع الشاعر أن يستخلص من البحر الواحد عددا هائلا من الأبنية الموسيقية، التي ربما أغنته عن التفكير في الانصراف من البحر ذي التفعيلة الواحدة إلى غيره. ولقد فطن الشاعر الحديث إلى هذه الخاصة منذ السنوات الأولى لاكتشاف الشكل الجديد، فقد لاحظ الدكتور إحسان عباس في كتابه" عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث" الصادر سنة 1955م، أن" في ديوان " أباريق مهشمة" إحدى وأربعين قصيدة، منها ثمان وعشرون تستمد نغماتها من البحر الكامل، ومنها ست على بحر الرمل" .
   ومن سمات التجربة الجديدة الخلط بين البحور داخل قصيدة واحدة كما عند السياب في قصيدتين من قصائد ديوان" شناشيل ابنة الجلبي"، وأدونيس في قصيدته" مرآة لخالدة" من ديوان" المسرح والمرايا".
ومن " النصفة تقتضي منا – يقول أحمد المعداوي- أن نشير إلى أن الطاقات الموسيقية للبحور المختلطة، بالرغم من أهميتها، لم تستغل على النحو الذي رأيناه عند أدونيس إلا نادرا". 
   ومن الظواهر التي تم توظيفها في الشعر الحديث التنويع في الزحافات ، وتنويع الأضرب، واستعمال صيغة فاعل في بحر الخبب ، والاتكاء على التدوير والتضمين، وتنويع القوافي حسب النسق الشعوري والفكري مع استخدامها بشكل متراوح أو متعانق أو متراكب أو موحد أو متقاطع أو متراوح.
ويرى أحمد المعداوي في آخر الكتاب أن الحداثة من العوامل التي كانت وراء وصف الشعر العربي الحديث بالغموض، إلى جانب ما تتطلبه القصيدة الحديثة من إعمال للجهد واستلزام لذوق قرائي جديد، ثم انفصال هذا الشعر عن الجماهير مادام لا ينزل معها إلى ساحة المقاتلة والنضال والصراع ضد قوى الاستغلال والبطش ولا يشاركها في معاركها الحضارية.

قراءة تحليلية في مؤلف ظاهرة الشعر الحديث لاحمد المعداوي المجاطي


" ظاهرة الشعر الحديث" 

تقديـــــــم: 


  إن قراءة مؤلف نقدي في حجم مؤلف" ظاهرة الشعر الحديث" قراءة تحليلية جادة، تشترط فضلا عن قراءة المؤلف قراءة متأنية حيزا زمنيا واسعا وهو الشرط الذي ينعدم أو يكاد ، فإذا ما أجملنا الحصص المخصصة لقراءة هذا المؤلف من مجموع حصص اللغة العربية، وإذا ما نحن استثنينا منها أيام العطل والإضرابات وجدنا أنفسنا حيارى في الطريقة والكيفية التي بإمكاننا كأساتذة أن ندرس بها هذا المؤلف، وتزداد الحيرة وتتعقد المأمورية حينما تفاجئنا شريحة كبرى من التلاميذ بعدم قراءته أو قراءة جزء منه فقط ولربما أحيانا الاكتفاء فقط بالتلاخيص وما تجود به شبكة الأنترنت. 
  ولما كان الأمر على هذا المنوال وجدت نفسي مكرها لا بطلا على تبسيط هذا المؤلف في هذه القراءة السطحية العابرة والتي ستركز بالأساس على ما يتضمنه المؤلف من أفكار نقدية تكون أرضية للمناقشة داخل الفصل بحول الله،وهي قراءة سطحية سنجمع فيها إنشاء الله كل ما اختمر من أفكار حول هذا المؤلف انطلاقا من قراءة شخصية أغناها التواصل المفتوح مع الأساتذة جزاهم الله خيرا و ما جاد به التلاميذ من آراء وأفكار طيلة سنة بأكملها. 
  وقبل البدء اعلم عزيزي(تي) التلميذ(ة) أن هذه القراءة المتواضعة لا يمكن أن تفيدك ولن تفيدك في شيء إذا ما أنت تجاهلت هذا المؤلف وعزفت عن قراءته، فهذه القراءة لن تغنيك عن المؤلف بل ستبسطه لك وتمهد لك الطريق لفهمه وتغنيك عن كتابة الملخص داخل الفصل حتى تكون عملية تدريسنا له سريعة من جهة و نستطيع توفير حيز زمني للمناقشة معكم من جهة أخرى. 

- القراءة التوجيهية i

1- التعريف بالناقد
  ولد أحمد المعداوي سنة 1936م بالدار البيضاء، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية بين الدار البيضاء والرباط،. وحصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، كما نال دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1971م تحت إشراف الدكتور أمجد الطرابلسي، وكان موضوع الرسالة هو: “حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة (1947-1967م)”، كما حضّر دكتوراه الدولة حول أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، ونوقشت الأطروحة كذلك بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.وقد مارس أحمد المعداوي الملقب بأحمد المجاطي كتابة الشعر والنقد، كما امتهن التدريس بجامعة محمد بن عبد الله بفاس منذ 1964م ، وبعد ذلك انتقل للتدريس بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط،، وكان من المؤسسين الأوائل لحركة الحداثة في الشعر بالمغرب، وقد فاز بجائزة ابن زيدون للشعر التي يمنحها المعهد الإسباني/ العربي للثقافة بمدريد لأحسن ديوان بالعربية والإسبانية لعام 1985م على ديوانه الشعري “الفروسية” 3. كما فاز بجائزة المغرب الكبرى للشعر سنة 1987م، وانتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية بكلية الآداب بالرباط منذ 1991م، وكان عضوا بارزا في تحرير مجلة” أقلام” المغربية التي كان يترأسها كل من عبد الرحمن بن عمرو وأحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو، ومثل المغرب في مهرجانات عربية عدة. و توفي أحمد المجاطي سنة 1995م بعد سنوات زاهرة بالعطاء التربوي والبيداغوجي ،ومزدانة بالعمل والاجتهاد والإبداع والكتابة والنقد.

2- قراءة في عنوان المؤلف

   من النصوص الموازية التي ازداد الاهتمام بها في نظرية التلقي، نص العنوان لما له من قيمة في توجيه التلقي وجهة التلقي السليمة، فيكفي أحيانا أن تقرأ عنوان الكتاب لتحدد جنسه وموضوعه، فعنوان هذا المؤلف على سبيل المثال "ظاهرة الشعر الحديث" يؤشر على أن هذا الكتاب يندرج ضمن المؤلفات النقدية التي تعالج موضوع الشعر الحديث، كظاهرة أدبية بارزة وجديرة بالدراسة والتحليل، ووصف الشعر الحديث هنا بالظاهرة، يكشف عن موقف صاحب الكتاب من الموضوع، لأن وصف الشيء بالظاهرة اعتراف بعظمته وشموخه وبروزه، فعندما نقول فلان ظاهرة رياضية، يعني ذلك أنه موهبة زمانه في المجال الرياضي، هذا من جهة ومن جهة أخرى فالعنوان مضلل لمن اعتاد أن يستعمل مصطلح الشعر كمقابل للشعر الذي ظهر بعد القرن 19، لأن الناقد يقصد به هنا الشعر المعاصر أو شعر الحداثة الذي جاء بعد النكبة التي وافقت سنة 1948.

3- العلاقة بين ظاهرة الشعر الحديث وأزمة الحداثة في سطور 

  مؤلف ظاهرة الشعر الحديث قبل أن يكون مؤلفا نقديا كان في الأصل بحثا تقدم به صاحبه لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، وفيه تناول الناقد بالدرس والتحليل حركتين تجديديتين ظهرتا في القرن العشرين وشكلتا جوهر الشعر الحديث، الحركة الأولى هي حركة الإبداع الرومنسي التي يمتلها شعراء الديوان والرابطة القلمية و أبولو، وهي حركة في نظر الناقد انتهت نهاية محزنة على صعيدي المضمون والشكل لأن المضامين غلب عليها البكاء والشكوى والتفجع، والشكل لم يستطع الصمود أمام ضربات النقد المحافظ، أما الحركة الثانية فهي حركة الحداثة التي استطاعت أن تهدم الشكل الشعري القديم وتقيم على أنقاضه صرحا شعريا جديدا، إنه مؤلف وليد انبهار إلى حد الهوس بموجة الحداثة التي اكتسحت الساحة الأدبية في المغرب، وهو انبهار دفع الناقد إلى تمجيد شعر الحداثة شكلا ومضمونا على حساب الشعر الذي جاء به شعراء التيار الذاتي يقول مؤكدا صحة هذا الكلام في مقدمة كتاب أزمة الحداثة "ولكننا معشر النقاد أنصار هذه الحركة والمنبهرين بها إلى حدود التماهي والاستلاب قد اعتبرنا ذلك ذلك النصر نصرا شعريا خالصا إلى درجة أن علاقتنا به ألغت كل علاقة بما عداها من الحركات الشعرية" ص5. أمــا مؤلف أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث الذي يعود أصله إلى الأطروحة التي تقدم بها المجاطي لنيل هادة الدكتوراه، عشرين سنة بعد صدور المؤلف الأول فيمكن القول بأنه قراءة جديدة للشعر المعاصر بعيون جديدة وبذهنية جديدة حالية من الأحكام المسبقة الجاهزة، يقول الناقد " بعد ذلك قررت أن أعود إلى ذلك المثن وما سيكتب بعده من شعر لأقرأه بعيون جديدة، وكان لا بد أن أخلي ذهني من كل القناعات التي ترسبت فيه حول موضوع الحداثة الشعرية لأبدأ من نقطة الصفر" أزمة الحداثة صفحة 6. 

إنه كتاب جاء ليجيب على ثلاثة أسئلة وهي على التوالي:
* ماذا أضاف الشاعر العربي المعاصر إلى ايقاع القصيدة العربية؟ وهو سؤال نجد الإجابة عنه في قول الناقد" هي بنية إيقاعية تعاني من أزمة ذاتية بسبب ما أثبتناه من أنها لم تأتي بجديد" أزمة الحداثة ص11
*ماذا أضاف إلى تركيبها اللغوي؟ بخصوص هذا السؤال يعتقد الناقد المجاطي بأن ثمة فرقا شاسعا بين اللغة كما تقدمه تنظيرات الحداثة وبين اللغة كما يقدمها المثن الشعري، بمعنى أن المثن الشعري لم يستطع أن يفجر الأشكال الشعرية التي وعد الشاعر بتفجيرها، وبقيت اللغة محكومة بما كانت محكومة به من قواعد البلاغة والصرف والتركيب.
* ما هي رسالة شعر الحداثة المتميزة إلى جمهوره؟ بخصوص هذا السؤال يؤمن المجاطي بأن الشعر المعاصر يعاني من أزمة رسالة، سواء في تجربة الغربة والضياع، التي يقول عنها" إنها تجربة تفتقر إلى الصدق وإلى الأصالة بحكم عدم صدورها عن وجدان الشاعر بل عن انبهار متسرع بفكر وأدب أجنبيين" ص16، أو حتى في تجربة الموت والحياة، التي فشلت في تحقيق مشروعها المتمثل في إعادة إحساسنا بالموت إلى إحساس بالحياة ، والسبب في اعتقاد الناقد هو توظيف أساطير مستمدة من تراث أجنبي لا علاقة له بالثقافة العربية الإسلامية يقول: " فهل استطاع الشاعر العربي الحديث عن طريق توظيف أسطورة الموت والحياة أن يرتفع بشعره إلى مستوى موت الحضارة العربية وبعثها ؟ والجواب لا، لعدة عوامل أولها أن هذه الأساطير مستمدة من تراث أجنبي لا علاقة له بالثقافة العربية الاسلامية التي شكلت وجداننا وذوقنا..." ص 16
وعموما يمكن القول بأن بين المؤلف الأول والثاني تناقضا كبيرا، لأن المؤلف الأول كشف لعظمة رسالة شعر الحداثة على صعيدي الشكل والمضمون ، بينما المؤلف الثاني جاء ليكشف هشاشة هذا الشعر سواء على مستوى الايقاع أو اللغة أؤ الرسالة الشعرية.

-القراءة التحليلية ii
تمهيد: 
  مؤلف "ظاهرة الشعر الحديث" ، مؤلف نقدي يتناول فيه صاحبه حركتين تجديديتين في الشعر العربي الحديث،الأولى واجهت القصيدة العربية وهي تتمتع بالقوة والتماسك فكان التجديد عندها نسبيا تدريجيا والثانية واجهت القصيدة العربية بعد أن زالت عنها صفة القداسة وفقدت بعضا من تماسكها الداخلي، ولكن بتحيز أكبر إلى الحركة التجديدية الثانية التي تزامنت مع نكبة فلسطين 1948،فالناقد خصص الفصل الأول المعنون ب" التطور الدريجي في الشعر الحديث" لدراسة الحركة التجديدية الأولى والتي تمتلها أشعار كل من جماعة الديوان والرابطة القلمية وجماعة أبولو بينما خصص الفصول التلاثة المتبقية لدراسة أشعار الحركة التجديدية الثانية ، وهو توزيع يظهر من خلاله أن الناقد اعتبر الحركة التجديدية الأولى كمدخل لدراسة الحركة التجديدية الثانية ، ليلفت انتباهنا إلى أن الشعر الجدير بالدراسة هو شعر ما بعد النكبة، الذي أطلق عليه مصطلح الشعر الحديث .والذي كان ظاهرة لم يسبق للشعر ان عرف مثلها. 

الفصل الاول: التطور التدريجي في الشعر الحديث:

*الشعر العربي بين التطور والتطور التدريجي:

 نبه الناقد في مستهل هذا الفصل إلى أن الشعر العربي عموما لم يتطور إذا ما قورن " بالحقب الطويلة والأحداث الجسيمة التي تعاقبت على الأمة العربية" ص7 وسبب هذا السكون في نظره هو غياب شروط التطور فالتطور " مرهون بتوفر جملة من الشروط يهمنا منها شرطان إثنان أحدهما ان يسبق ذلك التطور باحتكاك فكري مع الثقافات والآداب الأجنبية والآخر أن يتوفر للشعراء قدر مناسب من الحرية يتيح لهم أن يعبروا عن تجاربهم"ص6 
  ومن هذا المنظور يمكن القول بان غياب الحرية حسب الناقد هو السبب الذي كان وراء تأخر التجديد في الشعر العربي القديم بالخصوص، ومرد ذلك هو أن النقد العربي الذي ولد بين أحضان علماء اللغة كان يقدس الشعر الجاهلي لأن لغته لغة استشهاد لم يلحقها اللحن،لذلك لا غرابة أن نرى محاولات المتنبي وأبي تمام وأبي نواس تتأثربهذا النمط من النقد الذي لا يؤمن سوى بصرامة عمود الشعر. أما الشعر الحديث فيعتقد الناقد بإمكانية تقسيمه إلى حركتين، حركة كان التجديد عندها تدريجيا كما رأينا وهي حركة الإبداع الرومانسي لأن شعراءهم لم تتح لهم الحرية الكافية لممارسة التجديد في ظل نقد محافظ يمجد القديم يتزعمه طه حسين، وحركة كان التجديد عندها عنيفا لأنها تزامنت مع نكبة فلسطين وهو الامتياز الذي أتاح " للشاعر الحديث أن يمارس حريته بكيفية وبقدر لم يتح مثلهما لغيره من الشعراء المجددين"ص7، وهاهنا نطرح سؤالا للمناقشة: هل الحرية مطلب يعطى للشاعر ؟ أم حق ينتزع؟ يحتاج إلى شخصية الشاعر وجرأته. 

القسم الأول من الفصل الأول: نحو موضوع ذاتي : 
   في الوقت الذي بدأت شخصية الإنسان العربي تشعر بانهيار تام، وفي الوقت الذي تعالت فيه الفلسفات المنادية بحرية الإنسان ظهر الشعر الرومانسي بتجمعاته الثلاثة ( الديــــــــــــوان، الرابطة القلمية، وأبولو) ليقود المضامين الشعرية من التغني بالجماعة إلى التغني بالوجدان الذاتي، فكيف تمظهر هذا الموضوع في شعر كل جماعة؟ وما موقف المجاطي من طريقة تناول كل جماعة لهذا الموضوع الوجداني؟ 

مدرسة الديــــــوان:
   لا تذكر جماعة الديوان إلا ويذكر معها العقاد وشكري والمازني ،ولا تذكر كذلك إلا ويذكر معها موضوع الوجدان الذاتي الذي يعتبر أعظم جديد هذه المدرسة، فقد "إلتقى هؤلاء الشعراء عند فكرة هي أن الشعر وجدان غير أن مفهوم الوجدان عندهم كان متباينا فقد أراده العقاد مزاجا من الشعور والفكر... حتى قيل بأن العقاد مفكر قبل أن يكون شاعرا، أما شكري فقد فهم الوجدان على أنه التأمل في أعماق الذات لأن المعاني عنده جزء من النفس لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بعين الباطن أي بالقلب" ص....أما المازني فالوجدان عنده كل ما تفيض به النفس من شعور وعواطف وإحساسات ، إنه شاعر يحب أن يتعامل مع الأشياء تعاملا أساسه الإنفعال المباشر. 
أما رأي المجاطي في طريقة تعامل شعراء هذه المدرسة مع موضوع الوجدان، فيمكن تلخيصه في قوله" أثر الوجدان في شعر هذه الجماعة كان أثرا سلبيا يؤثر هدوء الحزن وظلمة التشاؤم على ابتسامة الأمل واستشراف النصر فحفر بذلك أول قناة مظلمة في طريق الاتجاه الرومانسي" ص 18 

الرابـــــــــــطة القلمية:
  تغنى شعراء الرابطة القلمية بدورهم بالوجدان، لكنهم أرادوا أن يوسعوه ليشمل الحياة والكون والذات الإلهية،فالتأمل في الذات في نظرهم لا يجعلك حبيس ذاتك فقط بل يجعلك تنفتح على عالمك الخارجي بكل تفاصيله وجزئياته ، بمعنى أن التأمل في الذات يساوي ضرورة فهم الحياة والكون والذات الإلهية، وهذا ما نفهمه من خلال هذه الأقوال: 
إذا أغمضت عينيك ونظرت في أعماق أعماقك رأيت العالم بكلياته وجزئياته. -
الحياة تنبثق من داخل الإنسان. -
- كل ما في الوجود كائن في باطنك. 
إن أنا ينبوع تتدفق منه الأشياء كلها وإليه تعود. -
  على هذا النحو أراد شعراء الرابطة القلمية أن يفهموا الوجدان فهو النفس والحياة والكون، فهل كانوا كذلك في أشعارهم؟ 
  لقد أكد المجاطي أن الوجدان الذي تغنى به شعراء الرابطة القلمية كمشروع لم يتحقق في أشعارهم وإبداعاتهم ، لأننا سنجد مكانه هروبا من الناس ومن الواقع فقد هرب جبران بأحلامه إلى الغاب( هل اتخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور)، وتبعه في ذلك كل شعراء الرابطة ،والتجأ إليا أبو ماضي إلى الخيال،( نحن أهل الخيال أسعد خلق الله حتى في حالة الحرمان )، يقول متهكما" ألم تشتمل الذات والحياة والكون جميعا على شيء سوى الهروب والاستسلام والخنوع؟وهل يتعذر على المرء أن يرتفع إلى أفق الرب دون أن ينكر قيمة السير مع الجماعة؟" ص25. 

جماعة أبـــــــــــولـــــــــــــو: 

  لا تذكر جماعة أبولو إلا ويذكر معها أحمد زكي أبو شادي الذي كان له شرف تأسيسها سنة1932 رفقة جماعة من الشعراء أمثال: أبي القاسم الشابي وعلي محمود طه والصيرفي...، وهي جماعة آمنت بأن مصدر الشعر هي ذات الشاعر وما تعيشه من أحوال وتقلبات إلى درجة أن حياة الشاعر يمكن تلمسها في أشعاره ،يقول أبو شادي: 
وما كان شعري في نظم أصوغه ولكن شعري أن أكون أنا الشعرا

   أما بخصوص تعليق المجاطي على شعر هاته الجماعة فيعتقد بأن في أشعارهم نوعا من الإغراق والانطواء على هموم الذات الفردية إغراقا تحول في نظره إلى ما يشبه المرض "ص 34 مرض سيقابله حسب الناقد تيار آخر سيمجد الذات الجماعية ويعيش هموم الناس ويواجه الحياة بمسراتها وأوجاعها، في إشارة إلى شعر ما بعد النكبة "الشعر الحديث،الذي يوازي الحداثة أو الشعر الحر ....والذي سيسلط عليه الضوء في الفصول الثلاثة المتبقية. 

القسم الثاني من الفصل الأول: نحو شكل جديد 

  إذا كانت القصيدة الإحيائية تعتمد على امتلاء الذاكرة وتقليد النموذج، فإن التيار الوجداني قد استخدم لغة أكثر سهولة ويسر من لغة القصيدة الإحيائية التي كانت تميل إلى رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وبداوة المعجم. بل تستعمل القصيدة الوجدانية لغة الحديث المألوف ولغة الشارع كما عند العقاد في الكثير من قصائده الشعرية ولاسيما قصيدته” أصداء الشارع” الموجودة في ديوانه” عابر سبيل”. كما أن الصورة الشعرية البيانية صارت تعبيرية وانفعالية وذاتية ملتصقة بتجربة الشاعر الرومانسي. بينما اقترنت الصورة الشعرية لدى الإحيائيين بالذاكرة التراثية مستقلة عن تجربة القصيدة الذاتية ، وغالبا ما تأتي للتزيين والزخرفة ليس إلا.
  و” لقد أراد الشاعر الوجداني أن يجعل للصورة وظيفة أساسية، وأن تكون هذه الوظيفة نابعة من تجربته الذاتية، ومن رؤيته للحياة، عبر تلك التجربة، ولم يعد التدبيج والزخرفة هدفه الأساسي من استخدامها، لا بل إن هذه الوظيفة أصبحت ذات علاقة بوظائف العناصر الشعرية الأخرى، من أفكار وعواطف وأحاسيس، ومن هذه العلاقة الأخيرة، تنشأ خاصية أخرى من خصائص الشكل في القصيدة الوجدانية الحديثة، هي خاصة الوحدة العضوية. فكما أراد الشاعر الوجداني أن يربط بين الصورة وبين عواطف الشاعر وأحاسيسه، أراد كذلك أن يربط هذه العواطف والأحاسيس والأفكار يبعضها، ومن القصائد الوجدانية التي تتمثل فيها خاصة الوحدة العضوية قصيدة “حكمة الجهل” لعباس محمود العقاد التي يحافظ فيها الشاعر على الرابط العضوي والمنطقي، لذا من الصعب أن يخل الدارس بتسلسل الأبيات تقديما وتأخير هذا، وقد مال الوجدانيون إلى تحقيق بعض الملامح التجديدية في أشعارهم كتنويع القوافي والأوزان، وتشغيل الوحدة العضوية في بناء القصيدة، واستعمال القصائد والمقطوعات المتفرقة، وتليين اللغة وترهيفها وإزالة قداستها البيانية ، وتوظيف القافية المرسلة والمزدوجة والمتراوحة، واللجوء إلى الشعر المرسل. لكن هذا التجديد سيواجهه النقاد المحافظون بالمنع والتقويض كمصطفى صادق الرافعي وطه حسين والعقاد في إحدى مراحله النقدية وإبراهيم أنيس صاحب كتاب ” موسيقا الشعر”. 

تعليق المجاطي على جديد الشكل عند الشعراء الرومنسين: 

  غير أن هذا التجديد الذي جاء به شعراء التيار الذاتي على مستوى الشكل وكما أشار إلى ذلك الناقد لم يكن صفة ملازمة لجميع شعراء هذا التيار ، بل لم يتحقق إلا في بعض القصائد النخبوية والسبب عنده راجع إلى تشدد النقد المحافظ والذي لم يكن مستعدا لتقبل الجديد يقول المجاطي" أما السر في انحصار التطور والتجديد على مستوى الشكل في هذا الحيز الضيق من الشعر الوجداني فيرجع في نظري إلى تلك الحملة التي شنها النقد المحافظ على الحركة التجديدية منذ أن رأى محاولاتها تستهدف اللغة والأوزان والقوافي والصور البيانية "ص48 ،ويكفي أن نذكر من أولئك النقاد المحافظين مصطفى صادق الرافعي الذي نبه جبران إلى أن اللغة العربية مقدسة يجب الحفاظ عليها، وطه حسين الذي نعث قصيدة إليا أبي ماضي بالجنون في قوله"فإذا أردت العبث الذي لاحد له بالموسيقى الشعرية فاقرأ قصيدة المجنون ، فترى أنها جنون كلها" فاعتبر بذلك جديد إليا أبي ماضي جنونا وعبتا وحكي لجنون المجانين. 
   ولما كان الأمر كذلك كان لا بد أن تتأثر تلك المحاولات التجديدية بذلك النقد المحافظ الذي وصل في كثير من الأحيان حد السب والتهكم والسخرية، لكن رغم ذلك تظل التجربة الرومانسية تجربة رائدة في الشعر العربي الحديث لأنها مهدت الطريق أمام الحركات الشعرية التي سترى النور بعد النكبة1948 لتواصل رحلة التجديد والتطوير 

الفصل الثالث والرابع: تجربة الغربة والضياع وتجربة الحياة والموت 

تقديــــــــــــــــــم:
 
   هزيمة الجيوش العربة سنة 1948 و التي تزامنت مع نكسة فلسطين، كانت كافية ليفقد الشباب العربي ثقتهم بأنفسهم وبكل ما يحيط بهم من ثقافة وعلاقات اجتماعية وآداب ويدعوا فرصة للشك ليمارس منطقه على الأنا والآخر بل كاد الشك أن ينال من علاقة الإنسان العربي بخالقه، وفي ظل واقع الهزيمة والشك راح الشاعر العربي يبحث لنفسه عن شكل شعري جديد يتجاوز به الأنظمة التقليدية التي كانت تقيد إبداعاته ويستعين به على تحليل واقعه والوقوف على المتناقضات التي تكتنفه وإدراكها إدراكا موضوعيا تتبدى من خلاله صورة الواقع الحضاري المنشود الذي يريده، وهو الشيء الذي سيتحقق عندما فتح الشاعر العربي ذهنه للثقافات الأجنبية والفلسفات التحررية فكانت النتيجة ظهور شعر جديد يتغنى بمضامين جديدة ، لخصها الناقد في تجربتين شعريتين هما: تجربة الغربة والضياع وتجربة الحياة والموت، فما الفرق بين التجربتين؟ 

تجربة الغربة والضياع:

  تجربة الغربة والضياع،تجربة شعرية فريدة من نوعها تتغنى بالغربة والضياع والكآبة والتمزق عرفها الشعر الحديث في بداية الخمسينات ووسمت أشعار جماعة من الشعراء كصلاح عبد الصبور والبياتي وبدر شاكر السياب وسميح القاسم ...فماهي أسبابها؟ وماهي تجلياتها في الواقع الحضاري للإنسان العربي؟ بخصوص الأسباب التي كانت وراء هذه التجربة الشعرية المأساوية رأى بعض الدارسين بأن الأسباب كثيرة قد يكون بعضها هو التأثر بأعمال بعض الشعراء الغربيين من أمثال توماس إليوت أو بعض المسرحيين والروائيين الوجوديين كألبير كامو وجان بول سارتل ممن ترجمت أعمالهم إلى اللغة العربية و أغلب الظن كما يذهب إلى ذالك المجاطي أن السبب الأساسي هو الواقع العربي الذي حولته الهزيمة إلى أنقاض وخرائب ولوثت تاريخه المشرق بنكسة لم تكن في الحسبان، يقول الناقد" إن شهادة هؤلاء الشعراء و هم جميعا من رواد الشعر الحديث- ويقصد البياتي وصلاح عبد الصبور وأدونيس- تؤكد أن النكبة كانت أهم عامل في الاتجاه بالتجربة الشعرية الحديثة نحو آفاق الضياع والغربة" ص 66 . 
  أما بخصوص تجلياتها في الواقع الحضاري،فيمكن رصدها في كون الإنسان العربي بعد النكبة صار غريبا في الكون الذي يشمله و في المدينة التي يضطرب فيها وفي الحب الذي يملأ قلبه وفي الكلمة التي أريد لها أن تكون سيفا سلوكا نضاليا فاستحالت صمتا حجرا ومنية. 

الغربة في الكون: 

   لقد رسم الشاعر الحديث بقصائده صورا لكونه مثقلة بالظلمة والمرارة والإحساس بالعبث،تفسيرها الوحيد هو أن الشاعر وحيد متفرد غريب في كونه إلى درجة تمنيه الموت خلاصا: 
هجرتني 
نسيتني 
حكمت بالموت علي قبل ألف عام 
وهاأنا أنام 
منتظرا فجر خلاصي ساعة الإعدام 
  فالكون عنده مرة متاه يتغلغل فيه كالمسمار بلا صوت"يكفيك أن تعيش في المتاه منهزما أخرس كالمسمار" وهو مرة أرض بلا خالق" مسافر تركت وجهي علي زجاج قنديلي،خريطتي أرض بلا خالق و الرفض إنجيلي’’وهو مرة فضاء بلا حدود" رجلاي في الفضاء والفضاء هارب’’،بل حتى الزمن ليس هو الزمن الذي اعتاد الناس على تقسيمه إلى دقائق وثواني وليل ونهار: 
هل تدري في أي الأيام نعيش 
هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامن 
من أيام الأسبوع الخامس 

  في الشهر الثالث عشر’’وبلغت غربة الشاعر الحديث في كونه ذروتها فتمنى لو أعيد خلق الكون من جديد " ألا صورة من جدي لهذا الوجود" 

الغربة في المدينة: 

   لقد أحس الشاعر الحديث بغربة تواجهه في علاقته بالمدينة التي يعيش فيها من جهة، وبمن فيها من أناس وقيم وأشياء من جهة ثانية وسلك للتعبير عن تلك الغربة طرقا مختلفة، فصور المدينة في ثوبها المادي الخالي من كل حمولة إنسانية،فهي تارة من الزجاج وتارة من الحجر وهي تارة بلا قلب لا تجيد فلسفة الحب، تقسو عل الأحياء و الأموات، الناس فيها صامتون" وأهلها تحت اللهيب و الغبار صامتون"، مشغولون بأنفسهم لا يلقون التحية ولا يعرفون الشفقة،يتجاهلون موتاهم لا يعرفونه لا يبكونهم"
في زحمة المدينة المنهمرة 
أموت لا يعرفنــــي احد 
أموت لا يبكينـــــي أحد. 
الغربة في الحب: 
   كما فشل الشاعر الحديث في التلاؤم مع جو المدينة الخانق وحمل غربته ليواجه الموت، فشل كذلك في الوصول إلى جوهر المرأة،لأن همومه أكثر من أن تحصى وتركيبه النفسي أصبح معقدا لا تجدي معه جرعة الحب بمفهومها الجسدي والروحي شيئا. 
* فعلى مستوى الجسد لم يستطع الشاعر أن يصل إلى كنه المرأة ولا هي استطاعت ذلك ، فبقدر العناق يكون الفراق، فقد توحدا في جسد واحد لكن ظل لكل واحد منهما سجنه الخاص عالمه الخاص المغلق، يمتد العناق بينهما مدة طويلة ولا يستطيع الشاعر أن يهدم الصور القائم بينه وبين ضجيعته، "وكيف أصبحنا عدوين وجسم واحد يضمنا" أما على مستوى الروح فلم يعد الحب يعني للشاعر شيئا،لأن وقع الهزيمة التي حولت الواقع العربي إلى خراب كان عظيما طمس كل معالم العاطفة النبيلة، يقول عبد المعطي حجازي "إن وقت الحب فات إن الحب مات" ويقول السياب " اقتليني كي أحبك" و نجد صلاح عبد الصبور يحمل مسؤولية ضياع الحب للزمن الذي يعيش فيه " إذا افترقنا يا رفيقتي ،فلنلقي كل للوم على زماننا". 

الغربة في الكلمة: 

  لقد أراد الشاعر الحديث أن تكون كلمته سيفا يشهره في وجه الظلم وأن تصبح كلمته قوة وسلوكا نضاليا، فإذا بها تتحول إلى حجر وموت أبدي "اللفظ حجر، اللفظ منية"، وكلمات تقف في حلق قائلها كأنها قيثارة مكسورة الوتر،خرساء لا صوت لها إن نطقت كانت سوداوية "صارت أنغام الشاعر خرساء، فإذا نطقت كانت سوداوية" 
تجربة الحياة والموت:
  تجربة الحياة والموت، تجربة حاول الشاعر العربي من خلالها أن يتجاوز اليأس و الغربة والموت إلى الحياة من خلال إيمانه المطلق بضرورة الولادة و التجدد والبعث،لأن الموت في نظره ليس سوى معبر نمر عليه إلى الحياة، والإنسان جدل دائم بين حياته وموته بين بدايته ونهايته، بهذا المعنى تصبح مهمة الشاعر ورسالته أشبه بمهمة البطل أو النبي، فهو مطالب بأن يحيل إحساسنا بالموت إلى إحساس بالحياة أي أن عليه أن يوجد حياة كاملة من العدم من هنا التجأ الشاعر إلى توظيف الأساطير ذات العلاقة بالبعث فوظف أسطورة تموز الذي اعتاد النزول كل شتاء إلى العالم السفلي(عالم الموت)فتلحق به عشتار على أن يكون بعثهما قبيل الربيع،و أوروفيوس الذي استطاع بأنغامه أن يقهر الوحوش فأطلقوا صراح حبيبته أوريديس من براثن الموت،وصقر قريش الذي شق قبره وألقى موته وطار،وطائر الفنيق الذي يتجدد من رماده ومهيار الذي مات لينهي عهد الموت. 

   وباستخدام كل هذه الأساطير التي لها علاقة بالبعث والتجدد صار بإمكان الشاعر العربي الحديث أن يحدث الناس عن إمكانية التجدد والولادة بعد الموت ومن أمثلة أولئك الشعراء نذكر على سبيل المثال : 

*علي أحمد سعيد أدونيس: 

   لقد آمن أدونيس بإمكانية بعث الأمة العربية وتجددها من خلال مفهوم التحول، الذي اكتشفه عبر مراحل ثلاث، مرحلة التساؤل عت الطريقة التي ستعيد للأمة حياتها" من أين كيف أوقض النيام" ثم البحث" أبحث في مملكة الرماد عن وجهك المدفون يا بلادي" وأخيرا الاكتشاف ، اكتشاف التحول الذي يضمن للطبيعة الدوام والتجدد، ويقصد به تلك اللحظة الزمنية التي يموت فيها وجود قائم بذاته ليحل محله وجود آخر،غير أن المجاطي يرى أنه لم يوفق دائما في تطبيق مبدأ التحول في أشعاره،بحيث وفق حين كان التحول من الموت يتم بطريقة مقنعة غير فجائية،كما في "الرأس والنهر " وقصيدة "تيمور ومهيار" ففي القصيدة الأولى يقول"نبتت زهرة على الضفة الأخرى بموتي"وهذا شيء منطقي لأن التضحية بالنفس سبيل الأمة نحو الحياة ، أما في القصيدة الثانية فنجد تيموروهو رمز الاستعباد والموت يحاول التخلص من مهيار رمز الشعب وفي كل مرة نجد مهيار يصنع لنفسه حياة جديدة بقوة إرادته في أن يستمر حيا رغم الموت الذي يريد أن يلحقه به تيمور، وسر نجاح التحول في هذه القصيدة هو توظيف مجموعة من الأساطير كأسطورة العنقاء والفنيق من جهة، و اعتماد مهيار كرمز للإرادة والإرادة كما لا يخفى على أحد لا يمكن أن تقه ، ولم يوفق حين كان التحول يتم بطريقة ميكانيكية فجائية كما في قصيدة" الأسماء" عندما يقول"سأسمي اللهيب مطرا واسمي وجهك المغلق الدفين كوكبا" فلا ندري كيف يمكن للهيب أن يصير مطرا ولا للوجه الدفين أن يصير كوكبا. 

خليل حاوي: 

   إذا كان البعث عند أدونيس يتحقق بمبدأ التحول، فإن خليل حاوي لا يتحقق عنده إلا بتحمل المعاناة،وكثيرا ما ترددت لفظة المعاناة في مقدمات قصائده، فقد قدم لقصيدة"بعد الجليد" بقوله " القصيدة تعبر عن معاناة الموت والبعث" ولقصيدة" السندباد في رحلته الثامنة"بقوله"والقصيدة رصد لما عاناه عبر الزمن في نهوضه من دهاليز ذاته، إلى أن عاين الانبعاث" وأبرز القصائد التي برزت فيها المعاناة من أجل الحياة قصيدة"حب وجلجلة" في قوله: أعاني الموت في حب الحياة" وكذلك في قصيدة "حب وجلجلة" والتي لم يتحقق فيها البعث إلى بعد مخاض طويل وتقطيع أرحام" صرخة ، تقطيع أرحام، وتمزيق عروق و بعد ذلك يظهر جيل الشباب الجديد يعبرون الجسر الذي صنع من أضلع الشاعر"يعبرون الجسر في الصبح خفافا،أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد"، فهل الشعب العربي مستعد لتحمل المعاناة من أجل تحقيق البعث؟ 

بدر شاكر السياب: 

   في اعتقاد بدر شاكر السياب الموت هو المعبر الذي نمر عليه إلى الحياة، فقد ظل يعتقد بأن الخلاص لا يكون إلا بالموت،إلا بالمزيد من الأموات والضحايا، ففي قصيدته"النهر والموت"يصير الموت انتصارا" أود لوغرقت في دمي على القرار، لأحمل العبء مع البشر،وأبعث الحياة إن موتي انتصار" وفي قصيدة أخرى يؤكد أن حياته بعد الموت ستكون أخصب "كم حياة سأحيى،ففي كل حفرة صرت مستقبلا، صرت بذرة صرت جيلا من الناس..." وفي قصيدة أخرى يقول بأن الأشياء لا تصير حية إلا من رمادها" الأشياء ليس تنهض إلا على رمادها المحترق ". 

عبد الوهاب البياتي : 

    تميزت تجربة الموت والحياة في تجربة عبد الوهاب البياتي بجدلية الأمل واليأس كما يظهر ذلك جليا في ديوانه” الذي يأتي ولايأتي”. ويلاحظ الدارس أن هناك ثلاث منحنيات في أشعاره عبد:” في المنحنى الأول، انتصار ساحق للحياة على الموت، وتمثله الأعمال الشعرية السابقة على” الذي يأتي ولايأتي”، ولاسيما ” كلمات لاتموت”، و” النار والكلمات” و” سفر الفقر والثورة”.في المنحنى الثاني تتكافأ الكفتان، ويمثله ديوان” الذي يأتي ولايأتي”.أما المنحنى الأخير، فيتم فيه انتصار الموت على الحياة، ويمثله ديوان” الموت في الحياة”"24هذا، و قد جسد عبد الوهاب البياتي في دواوينه الشعرية حقيقة البعث من خلال الخطوط الأربعة الهامة لمضمون ديوانه” الذي يأتي ولايأتي” كخط الحياة وخط الموت، وخط السؤال، وخط الرجاء، وكل هذا يرد في جدلية منحنى الأمل ومنحنى الشك. 

الفصل الرابع: نحو شكل جديد 

  لقد آمن الشاعر الحديث بأن تجربته الشعرية التي تحاول الكشف عن واقع الإنسان العربي النفسي والاجتماعي والحضاري واستشراف مستقبل ممكن مليء بالتجدد والحياة ، لا يمكن أن تظل حبيسة شكل شعري قديم، بل لا بد من تطوير الأشكال التعبيرية حتى تتوافق والمضامين الجديدة المعبر عنها، لأن نجاح التجربة لابد أن يشمل جانبي الشكل والمضمون،يقول خليل حاوي "وعندما تكون التجربة ذاتية وموضوعية يضيق عنها القالب القديم" ويقول أدونيس"ومن يحيا الحياة لا يسقط أسير أي شكل نهائي"، من هذا المعطى جاء المجاطي في هذا الفصل الأخير ليؤكد بأن الشعر المعاصر وبعد عشرين سنة من الإبداع والتألق استطاع أن يهدم الشكل القديم ويقيم على أنقاضه شكلا شعريا جديدا ، لغة وتصويرا و إيقاعا ، بل ذهب إلى تبرئة الشعر المعاصر من تهمة الغموض ، وحمل المسؤولية للقارئ الذي لم يستطع استيعاب هذا الشكل الجديد يقول "استطاع الشكل الشعري الحديث بعد عشرين سنة من النمو أن يتجاوز الشكل القديم أقام بين نفسه وبينه جدارا يصعب على قارئ الشعر أن يتخطاه ما لم يلم الماما حسنا بالتحولات الثورية التي أصابت العناصر الأساسية للشكل الشعري، كاللغة والإيقاع والتصوير البياني"ص201 فماهي التحولات الثورية التي مست اللغة والتصوير البياني والإيقاع ؟ والتي إن لم نستوعبها حرمنا لذة الاستمتاع بالشعر الحديث وحرمنا من الاستفادة من قيمه الشعورية والفكرية. 

تطور اللغة : اللغة في الشعر الحديث حسب المجاطي تطورت في اتجاهات مختلفة وأصابتها تحولات متعددة، فهي لم تقترب من لغة الحديث اليومي فحسب، كما ذهب إلى ذلك النويهي متأثرا برأي إليوت القائل بأن على " الشاعر أن يستخدم الكلام الذي يجده من حوله والذي يألفه أكبر ألفة " بل اقتربت أحيانا من اللغة القديمة فوظفت العبارة الفخمة والسبك المتين ، كما نجد عند بدر شاكر السياب أحيانا ، واستعملت لغة الرمز والإشارة والهمس والإيماء، وابتعدت أحيانا عن لغة التداول وذلك باستعمال بعض الكلمات بمدلولات لغوية جديدة تخالف استعمالها في القاموس اللغوي إلى درجة أن الشاعر أحيانا يفاجئنا بإقامة ارتباط غير متوقع بين الكلمات التي يبني بها عباراته فيصير للكلمة إطار جديد وتركيب جديد، ناهيك عن استعمال لغة ذات نفس درامي لأنها مفعمة بأحزانه وهمومه وآهاته . 

تطور الصورة البيانية : ما تتميز به الصورة في الشعر الحديث حسب المجاطي هو أنها ابتعدت عن الصورة البيانية في البلاغة القديمة وتوسعت لتتسع لأكبر قدر من الاحتمالات المتصلة بعمق التجربة التي يحياها الشاعر ، بل أصبح مدلول الصورة مرتبط بعلاقتها وتفاعلها مع الصورة الأخرى ، وبات بإمكان الصورة الواحدة أن تنفتح على آفاق تجربة الشاعر المختلفة ، وسبب هذا أن الشاعر أصبح ينهل من ثقافته الواسعة ومن إلمامه بالمعارف السبعة ، والتي تمده بالمزيد من الصور والرموز كلما احتاج إلى ذلك.تطور الأسس الموسيقية : أهم ما يميز جديد الإيقاع في الشعر الحديث حسب المجاطي هو نجاح القصيدة الحديثة في تفكيك بنية البيت والحد من صرامته والحد من تسلط القافية على مشاعر وأحاسيس الشاعر ، فإذا كان الإيقاع القديم الذي وضع أسسه الفراهدي هو الذي يتحكم في الدفقات الشعورية للشاعر فإن مشاعر الشاعر اليوم هي التي أصبحت تتحكم في الإيقاع ، فالأبيات أصبحت تطول وتقصر حسب طول وقصر الدفقات الشعورية للشاعر وتنويع الأضرب والزحافات والتدوير كل ذلك أصبح معمولا به، فقط لإرضاء مشاعر الشاعر الذي يجب أن تتدفق مشاعره دون أن يعرقل تدفقها الإيقاع، والميزة الثانية هي أن القافية أصبحت مرنة لأنها كذلك خضعت لحركة مشاعر الشاعر وأفكاره، واختصارا نقول بأن الذي يتحكم في إيقاع الشعر الحديث هي مشاعر الشاعر وليس العكس.

ملاحظة : سأكون سعيدا جدا إن وجدتكم أعزائي التلاميذ قد توجتم قراءتكم لهذا التحليل، بأسئلة دقيقة، تغني فهمنا وفهمكم لظاهرة الشعر الحديث، أو التعليق على هذا التحليل أو الاجابة على أحد هذه الأسئلة انطلاقا من قراءة الملخص:
*حدد جديد شعراء الرمانسية على مستوى أشكالهم التعبيرية، ووضح تجليات هذا التجديد وبين أسباب فشله .
* أكد المجاطي بأن المضامين التي تغنى بها شعراء الرابطة كمشروع لم تتحقق في أشعارهم بين ذلك.
* حدد الفرق بين تجربة السياب وتجربة أدونيس في تناول موضوع الموت والحياة.
* تغنى شعراء الديوان بالوجدان بشكل متباين، وضح أثر الوجدان عند كل شاعر من شعراء الديوان.
* حدد أسباب تغني الشعراء بالغربة في نظر الناقد ووضح تجلياتها في المدينة والحب. 

تمهيد:

   لا يخفى علينا جميعا أن هناك تعددا في الدراسات النقدية التي تخوض في إشكالية الشعر الحديث، لكن رغم هذا التعدد تبقى دراسة أحمد المعداوي( المجاطي) من بين أبرز الدارسات النقدية وأهمها، التي تعرضت لظاهرة الشعر الحديث بالدرس والتمحيص،إلى جانب دراسات مجموعة من الشعراء النقاد نذكر منهم: أدونيس ومحمد بنيس وإلياس خوري وعبد الله راجع و… ونرى أن المعداوي قد قارب كل الجوانب التي تدور حول هذه الظاهرة، اذ تعتبر مقاربته هذه محط اهتمام العديد من المفكرين والأدباء، ليس فقط على الصعيد الوطني بل حتى الصعيد العربي.
ومن المعلوم أن أحمد المعداوي قد تميز في دراساته الأدبية النقدية، ولاسيما في كتابيه: ” ظاهرة الشعر الحديث” و”أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث” بخبرة كبيرة في الطرح والتحليل وجدية المقاربة، التي تجمع بين التأريخ والتنظير والتحليل وممارسة النقد.

بنية الكتاب:

  يحوي هذا الكتاب 171 صفحة من الحجم المتوسط، ويضم قسمين رئيسيين: الأول بعنوان: نحو مضمون ذاتي، والثاني بعنوان: نحو شكل جديد. أما عدد الفصول فهي أربعة، وردت على الشكل الأتي:
الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث
الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع
الفصل الثالث: تجربة الحياة والموت
الفصل الرابع: الشكل الجديد
   ويلاحظ أن الكتاب تلخيص لما قدمه المؤلف في رسالته الجامعية “حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة (1947-1967م)”، وما كتبه في أطروحته الجامعية عن “أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث”، ،ويعني هذا أن الكتاب ما هو إلا توفيق بين أطروحاته الواردة في رسالته الجامعية، وأطروحته التي أعدها لنيل دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث.
  سنحاول في دراستنا هذه أن ندرس جميع الفصول الاربعة دون استثناء، لكن قبل الخوض في تفاصيله، دعونا نشير إلى أهم المحطات في حياة صاحب هذا الكتاب الذي بين أيدينا أحمد المعداوي المعروف بالمجاطي.
   فهو من مواليد سنة 1936م بالدار البيضاء، تلقى دراسته الابتدائية والثانوية بين الدار البيضاء والرباط،. حصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، كما نال دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1971م تحت إشراف الدكتور أمجد الطرابلسي، وكان موضوع رسالته: “حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة (1947-1967م)”، كما حضّر دكتوراه الدولة حول أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، وقد مارس أحمد المعداوي الملقب بأحمد المجاطي كتابة الشعر والنقد، كما امتهن التدريس بجامعة محمد بن عبد الله بفاس منذ 1964م ، وبعد ذلك انتقل للتدريس بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط،، وكان من المؤسسين الأوائل لحركة الحداثة في الشعر بالمغرب، وقد فاز بجائزة ابن زيدون للشعر التي يمنحها المعهد الإسباني/ العربي للثقافة بمدريد لأحسنديوان بالعربية والإسبانية لعام 1985م على ديوانه الشعري “الفروسية”. كما فاز بجائزة المغرب الكبرى للشعر سنة 1987م، وانتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية بكلية الآداب بالرباط منذ 1991م، وكان عضوا بارزا في تحرير مجلة” أقلام” المغربية التي كان يترأسها كل من عبد الرحمن بن عمرو وأحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو، ومثل المغرب في مهرجانات عربية عدة…

-Iالقسم الأول : نحو مضمون ذاتي
الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث
يؤكد أحمد المعداوي في الفصل الاول من الكتاب أن حركة تطور الشعر العربي مرهونة بتوفر شرطين أساسيين هما:

1- الاحتكاك الفكري بالثقافات والآداب الأجنبية:
   وقد تحقق شرط الاحتكاك الفكري في الشعر العربي منذ العصر العباسي والأندلسي، فأثمر تجارب متميزة نمثلها بالمتنبي وأبا نواس والمعري وبشار ابن برد، كما تحقق هذا التطور فنيا في شعر الموشحات الأندلسية على مستوى الإيقاع العروضي، أما العصر الحديث فأثمر تيارات تتفق على الخروج بالشعر من إطار التقليد إلى حدود التجربة الذاتية.. وفي هذا الصدد يقول أحمد المجاطي:” غير أنه لابد من القول بأن الشاعر العربي لم يكن يتمتع من الحرية بالقدر المناسب، ذلك أن النقد العربي قد ولد بين يدي علماء اللغة، وأن هؤلاء كانواأميل إلى تقديس الشعر الجاهلي، وأن المحاولات التجديدية التي اضطلع بها الشعراء فيالعصر العباسي، لم تسلم من التأثر بتشدد النقد المحافظ. لا، بل إن هذا النقد هو الذي حدد موضوع المعركة واختار ميدانها، منذ نادى بالتقيد بنهج القصيدة القديمة، وبعدم الخروج عن عمود الشعر، فأصبح التجديد بذلك محصورا في التمرد على هذين الشرطين، وفي ذلك تضييق لمجال التطور والتجديد في الشعر العربي“.

2- التوفر على قدر من الحرية كي يعبر الشعراء عن تجاربهم :
   إلا أن غياب شرط الحرية ضيق مجال التطور في الشعر العربي، خاصة عند هيمنة علماء اللغة على النقد الأدبي فقد قدسوا الشعر الجاهلي، وجعلوا من قصائده المثال والنموذج المحتذى، مما فرض على تيارات التجديد التدرج في تطوير الشعر العربي.
وقد عرف الشعر العربي الحديث حركات تجديدية كثيرة، ارتبطت بنكبة فلسطين وهزيمة 1967 التي زعزعت الوجود العربي التقليدي، وفسحت مجالا واسعا للحرية ، مما هيأ المجال لظهور حركتين تجديديتين في الشعر العربي الحديث:

- حركة اعتمدت التطور التدريجي في مواجهة التقليد (التيار الذاتي: الديوان، الرابطة القلمية، جماعة أبولو).

- حركة ظهرت بعد انهيار التقليد وكان التجديد عندها قويا وعنيفا، يجمع بين التفتح على المفاهيم الشعرية الغربية والثورة على الأشكال الشعرية القديمة، بغرض التعبير عن مضامين نجمت عن معاناة الشاعر وواقعه الذي تشكل هزيمة 1967 ونكبة فلسطين 1947، إضافة إلى الشعور بالاغتراب في عالم بدون أخلاق (الشعر الحر).

  وبهذا الصدد يرى المعداوي أن الاتجاه إلى الذاتية جاء بمثابة رد على الحركة الإحيائية، التي اتجهت نحو محاكاة الأقدمين دون أن تولي ذات الشاعر أهمية كبرى، ووقفت وراء هذا الاتجاه جملة من العوامل والأسباب:
عوامل تاريخية: تتجلى بالأساس في امتداد الرغبة في التطوير عبر العصور، واتساع مجال التفتح على ثقافات الأمم الأخرى.
عوامل فكرية : ونجملها في التشبع بالمفاهيم الشعرية الغربية(عامل مؤيد)، وهيمنة علماءاللغة على النقد العربي (عامل معارض).
عوامل سياسية : متمثلة في أن غياب الحرية فرض وتيرة التدرج في تطور الشعر العربي(عامل معارض)، كما أن نكبة فلسطين شجعت على التحرر والثورة بكل قوة وعنف(عامل مؤيد).
عوامل اجتماعية: وتتمثل في التشبث بالوجود العربي التقليدي المحافظ(عامل معارض)، وكذا انهيار عامل الثقة في الوجود العربي التقليدي(عمل مؤيد).

  ولمزيد من التوضيح نورد فيما يلي ظروف نشأة كل تيار أدبي على حدة، وأهم خصائصه وأبرز ممثليه.

1- التيـــــار الإحيـــــائي:
   يقوم التيار الإحيائي في الشعر العربي الحديث على محاكاة الأقدمين وبعث تراثهم الشعري، عبر إحياء الشعر العباسي والأندلسي لنفض رواسب عصر الانحطاط ومخلفات كساد شعره، عن طريق العودة إلى القصيد العربية في عصر ذروتها وازدهارها، فعارضوا لغة القدماء وأساليبهم البيانية واقتفوا آثارهم في المعاني والأفكار، مهما اختلفت موضوعاتهم ومناسباتها.
   ومن أهم الشعراء الذين تزعموا هذا التيار نجد محمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومحمد الحلوي ومحمد بن إبراهيم، فعاشوا على أنقاض الماضي والتوسل بالبيان الشعري القديم وبعث اللغة البدوية ؛ ومن ثمة كانت نقطة التحول / التجديد الأولى في الشعر العربي الحديث تقليدية، التفتت إلى التراث أكثر مما التفتت إلى ذات الشاعر وواقعه.
  غير أن شعار العودة إلى الماضي سرعان ما أزيح ليقوم مقامه شعار آخر، هو البحث عن الذات الفردية وتوكيدها، فترك الإحيائيون الباب مفتوحا في وجه التيار الجديد الذي ولد في أحضان هذه الدعوة، وجعل الاستجابة لنوازع الذات شعاره الأول.

2- الـــتيار الـــذاتــي:

  ظهرهذا الاتجاه(الذاتية) في أول الأمر مع جماعة الديوان وممثليها:عباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري، وعبد القادر المازني، لكنه لم يكتمل إلا مع جهود شعراء الرابطة القلمية في المهجر( إيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران،…) وجماعة أبولو( أحمد زكي أبو شادي، وأحمد رامي،وأبو القاسم الشابي، ومحمود حسن إسماعيل، و عبد المعطي الهمشري، والصيرفي، وعلي محمود طه، وعلي الشرنوبي، ومحمود أبو الوفا، وعبد العزيز عتيق…) في أواخر العقد الأول من القرن العشرين لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية.

أ- جماعة الديوان:

  سميت بهذا الاسم نسبة إلى الكتاب الذي اشترك في تأليفه عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني عام 1921?الديوان في الأدب والنقد”، ولم يشارك فيه عبد الرحمان شكري لخصومة بينه وبين المازني. وقد حرصت هذه الجماعة في دعوتها على التجديد من خلال استيفاء القصيدة الشروط التالية:

- أن تكون معبرة عن وجدان الشاعر ومجسدة لصدقه ومعاناته

- أن تتسم بالوحدة العضوية وتنوع القوافي

- أن تعتني بتصوير جواهر الأشياء، وسبر أغوار الطبيعة والتأمل فيما وراءها.

- أن تتجنب التشبيهات الفارغة وأشعار المناسبات والمدائح الكاذبة، ووصف الأشياء والمخترعات إمعانا في التقليد.
  وكان الشعر في نظرهؤلاء الرواد وجدان، وأضفى عليه كل واحد منهم معنى خاصا تجنبا لإنتاج شعر متشابه في وسائله وغاياته، وسعيا إلى التفرد والاختلاف:

- العقاد: عد الوجدان مزيجا من الشعروالفكر، وهذا ما جعله يميل في شعره الى التفكير.

- شكري: اعتبر الوجدان تأملا في أعماق الذات إلى حد تجاوز حدود الواقع، وهو ما يعني تجنب العقل المحض، وتأمل ما يجول في أغوار ذاته الكسيرة، والبحث عن بواعث شقائه وألمه.

- المازني: كان الوجدان عنده كل ما تفيض به النفس من أحاسيس وعواطف، وهذا ما جعله يعبر عن انفعالاته بشكل عفوي وبصورة طبيعية، أي دون تدخل العقل أو توغل في أعماق النفس.

ب- جماعة الرابطة القلمية:

  هي إحدى الجمعيات الأدبية التي أسسها الأدباء العرب(جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، ندرة حداد، إيليا أبو ماضي، نسيب عريضة… ) المهاجرون في أمريكا عام 1920 للتواصل فيما بينهم، ولتقديم رؤية جديدة للشعر العربي، استمر نشاط الرابطة عشرة أعوام، وكان أعضاؤها ينشرون إنتاجهم الأدبي في مجلة “الفنون” التي أسسها “نسيب عريضة”، ثم في مجلة “السائح” لعبد المسيح حداد، وقد توقف نشاط الرابطة بوفاة مؤسسيها وتفرق أعضائها.
وقد سعت هذه الرابطة إلى تحقيق ما يلي:

- بث روح جديدة في الأدب العربي شعره ونثره.

- محاربة الجمود والتقليد.

- تعميق صلة الأدب بالحياة.

- الانفتاح على الآداب العالمية.

   كما وسَّعت الرابطة مفهوم الوجدان ليشمل كل ما ينبثق عن الذات من حياة وكون، وعلى هذا النحو اعتبروا الوجدان بأنه نفسٌ وحياة وكون.وعندما نتمعن في شعر روادها لا نجد شيئا من ذلك التلاؤم بين النفس والكون، بل نعاين مكانه هروبا من الوجود، اكتسى ألوانا مختلفة عند كل شاعر على حدة:

·فجبران خليل جبران هرب إلى عالم الغاب والطبيعة لتفادي كل ما يمكن أن يعكر صفو حياته، وآثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة،و ميخائيل نعيمة انقطع إلى تأمل ذاته بطريقة صوفية،وأما إيليا أبو ماضي فلما فشل في تحقيق مبتغاه متوسلا بالخيال تارة وبالقناعة تارة أخرى، اضطر إلى الفرار من الناس ومن الحضارة أسوة بجبران.

ج- جماعة أبولو:

   اتخذت هذه الجماعة من أبولو إله الفنون والعلوم والإلهام في الأساطير اليونانية اسما لها، وكانت لها مجلة تحمل الإسم نفسه، ورغم أن هذه الحركة (1932_1936)لم تدم طويلا، فقد تركت آثارا كثيرة. يرجع الفضل في تأسيسها إلى زكي أبو شادي ومطران خليل مطران و إبراهيم ناجي ،وعلي محمود طه وزكي مبارك وأحمد محرم.
ومن بين أهم أغراض هذه الجماعة :

1. السمو بالشعر العربي وتجديده.

2. مناصرة النهضات الفنية في عالم الشعر.

3. تحسين الوضع الاجتماعي والأدبي والمادي للشعراء والدفاع عن كرامتهم

4. تعميق الاتجاه الوجداني والانفتاح على الغرب، واستلهام التراث بأسئلة جديدة وبطرائق خلاقة.

  إن ما اعتنى به شعراء هذا التيار هو الشعر الذاتي الذي يدور حول المرأة وما يثيره الحديث عنها من معاني(الحنين والشوق، اليأس والأمل، الارتماء بين أحضان الطبيعة والزهد في الحياة، مواجهة الحياة والاستسلام للموت)، مما جعل الحياة عندهم تتراوح بين السعادة المطلقة والشقاء المطلق. ولكل شاعر من شعراء هذه الحركة طريقته الخاصة في الكشف عن مجاهيل ذاته،فنجد أن زكي أبو شادي انكفأ على ذاته لتضميد جراحها والتغني بآمالها، إلى أن طغت ذاتيته على شعره، بل وعلى حياته كلها، وإبراهيم ناجي يدور أجود شعره حول المرأة لحاجته إلى حب يملأ فراغ قلبه، أما
حسن كامل الصيرفي فقد فشل في الحب فيئس من الحياة، وانكمش على الذات والتغني بأحزانها وآلامها،وأما أبو القاسم الشابي فقد هام بالجمال وعشق الحرية بسبب مرضه، وإحساسه بانفراط عقد حياته، في حين نجد أن عبد المعطي الهمشري ولع بالطبيعة واستشرف ما وراء الحياة من خلال الموجودات وعلي محمود طه تغنى بمظاهر البهجة والسرور منغمسا في متع الحياة.
   وهذا ما دفع الناقد المصري محمد النويهي ليقول فيهم:”لقد أغرقوا في شعرهم العاطفي حتى أصيب بالكظة، وزالت جدته، وفقد بالتكرار معظم حلاوته وتحولت رقته إلى ميوعة، وإرهاف حساسيته إلى ضعف ومرض”
   وقد امتازت معاني شعراء أپولو حسب أحمد المعداوي بالسلبية نظرا لتعاطي شعراء الجماعة مع مواضيع الطبيعة والهروب من الحياة الواقعية إلى الذات المنكمشة، والفرار من المدينة إلى الغاب أو الريف، وترنح الشعر بكؤوس الحرمان والخيبة واليأس والمرارة ، والمعاناة من الاغتراب الذاتي والمكاني كما في قصيدة” خمسة وعشرون عاما” لعلي الشرنوبي.غير أن القضاء لم يستجب لهم جميعا،” فينهي آلامهم بتجربة الموت، فقد مات الشابي والشرنوبي والهمشري وهم صغار، وبقي غيرهم من شعراء هذه الجماعة يعزفون على الأوتار نفسها، حتى بليت ورثت ولم تعد تضيف جديدا، ذلك أنهم قد رفضوا أن يفتحوا أنفسهم للحياة المتجددة، وآثروا على ذلك حبس مواهبهم في دائرة التجربة الذاتية الضيقة، ثم خلف من بعدهم خلف اقتفى آثارهم ونسج على منوالهم، فتشابهت التجارب وكثر الاجترار وقلت فرص الجدة والطرافة، حتى صح فيهم قول الناقد محمد النويهي:” قد أغرقوا في شعرهم العاطفي حتى أصيب بالكظة، وزالت جدته، وفقد بالتكرار معظم حلاوته، وتحولت رقته إلى ميوعة، وإرهاف حساسيته إلى ضعف ومرض”
   وانتهت جماعة أپولو بالانفصال وتمزق الجماعة وهجرة بعضهم الحياة العامة كأحمد زكي أبو شادي الذي سبقه إلى ذلك” ناجي إلى ماوراء الغمام، وسبقه علي محمود طه إلى ماوراء البحار مع الملاح التائه، وسبقه محمود أبو الوفا إلى معاناة أنفاس محترقة وامتدت عمليات التخلي والانفصال بعد ذلك عند الصيرفي في الألحان الضائعة، حتى وصلت إلى آخر دواوين محمود حسن إسماعيل أين المفر؟ وتعددت الاتجاهات التي تختلف في تفاصيلها، ولكنها تلتقي عند انفصال الشاعر المصري عن مجتمعه”
   وهكذ نرى أن أحمد المعداوي استطاع أن يتخلص من جماعة أپولو كما تخلص سابقا من جماعة الديوان والرابطة القلمية، ،من أجل أن يعطي الصدارة والمشروعية للشعر الحديث باعتباره شعر الثورة والتغيير والممارسة الفعلية….

-IIالقسم الثاني : نحـو شكـل جـديـد

الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع

  بعد أن اختار أحمد المجاطي لتسمية هذه الحركة(الشعر الحديث) ،تمييزا لها عن التيارات الشعرية الجديدة الأخرى ،كتيار أبولو وتيار المهجر وغيرهما…ولأنها أكثر دقة من التسمية التي اختارها صلاح عبد الصبور(الشعر التفعيلي) والتي
  لاتستند إلا على جانب جزئي من الشكل هو الوزن ،أو من تسمية الشعر المطلق أو الحر لأنها تعني التحرر من كل قيد أو التـــــــزام.
   يأتي المجاطي ويؤكد أن واقع النكبة 1948 فرض نفسه في مختلف المجالات ثقافيا وسياسيا واجتماعيا ،ذلك ما أدى بالذات العربية إلى الشك وإعادة النظر في المسلمات والبنيات في كل ما يحيط بها.
   كما جعل الشاعر الحديث خاصة ينفتح على الأفكار والفلسفات والاتجاهات النقدية في الادب والشعر ،الواردة من وراء البحر ،كذلك لجأ الشاعر العربي إلى التسلح بشتى المعارف والعلوم كالفلسفة والتاريخ والأساطير وعلم النفس وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا ،واستيعاب الروافد الفكرية والادبية الاتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات الهندية والفاريسية والحرانية (الصابئة) ،والتأثر بأشعار الجامي وجلال الدين الرومي وفؤيد العطار والخيام وطاغور فضلا عن الاستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة الاشتراكية والتفاعل مع أشعار أودن وبابلو نيرودا و وبول إيلوار ولويس أراكون وكارسيا لوركا ومايا كوفسكي وناظم حكمت والاستعانة بقصص كافكا وأشعار ريلكه وإليوت مع الانفتاح على الثقافة الشعبية كسيرة عنترة بن شداد وكتاب ألف ليلة وليلة وسيرتي: سيف بن ذي يزن وأبي زيد الهلالي ،والتعمق في *القرآن الكريم* ،وقراءة الحديث النبوي الشريف ،والتجوال الدائم في الشعر العربي القديــــــم.
   وبالتالي فقد فسح واقع الهزيمة للشاعر الحديث مساحة للحرية جعلته يصطنع لنفسه موقفا واتجاها للشعر ما كان متاحا للشاعر قبله،وبهذا أصبح الشعر عنده وسيلة لاكتشاف الإنسان والعالم، كما كان فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى، وبدأ الشاعر يحمل رؤيا للإنسان والحياة والكون والوجود والقيم والمعرفة. بل أصبح الشعر الحديث أداة لتفسير العالم وتغييره.
   وأصبح الشاعر أيضا يعرف كيف يمزج في فكره ووجدانه بين روح الثقافة العربية وبين الثقافات الأحرى ،التي تختلف عن بعضها روحا ولغة ومكانا من التاريخ ،وأن يخرج من ذلك المزيج ،برؤيا جديدة استطاع بها أن يمزق قشرة الواقع العربي ،وأن يقف على مواطن العذاب والقلق وأن يدس حساسيتة ،وموهبته ،وفكره في ذلك الركام المنقسخ ،بحثا عن قطرة من ماء ،أوخيط من نور ،مستهديا بألوان التمزق واليأس ،التي عانت منها النماذج الانسانية في أعظم الأعمال الأدبية العالمية .(ص60)
  إن التقاء الثقافة الواسعة بالتجربة الفكرية والشعورية الخصبة لدى الشاعر الحديث ،واحتكاكه بواقع الهزيمة ،وبواقع الحضارة الانسانية المتأزم جعله يضيق بالأشكال والوسائل التعبيرية القديمة ويسعى جاهدا لبحث عن أشكال تغييرية جديدة تكون في مستوى المضامين الجديدة وما تثيره من مشكلات تتجاوز ذات الشاعر إلى واقع الامة الحضاري. والتي أصبح من حقها أن تفجر الأشكال القديمة ،وتصطنع لنفسها أشكالا جديدة تلائمها…لذلك كان الشكل الجديد والذي يقوم على أساس موسيقي هو التفعيلة الواحدة.
  وبهذا نستنتج أن الشكل الجديد كان ثمرة جهود متواصلة لجيل من الشعراء ،هو الجيل الذي عانق النكبة بكل ظروفها وأبعادها السياسية والاجتماعية والنفسية.
    إن المضامين الجديدة هي ذات طابع خاص ،يستحيل فيها تجزيئ التجربة إلى موضوعات جزئية . فالحب والمرض والفرح والحزن ،وغيرها من الموضوعات التي يمكن تصورها مستقلة ومتفردة ،على نحو ما نعرف في ديوان الشعر العربي ،قد صهرت كلها في محرق النكبة ،وأمدتها تجربة الشاعر وثقافته بمزيد من التوتر والقلق ،واقتربت بها من الاحساس الممض ،الذي يملأ ضمير الانسان العربي في واقع الهزيمة.

اذا فما الذي ميز وطرأ على المضمون والشكل من زاوية التطور؟

  للاجابة عن هذا السؤال ،قدم أحمد المجاطي المضمون على الشكل بالمناقشة ،بعد أن قسم المضامين الشعرية الحديثة إلى قسمين :

تجربة الغربة والضياع
تجربة الموت والحياة

تجربة الغربة والضياع :
  يرجع استفاضة معاني الغربة والضياع والكآبة والتمزق النفسي والاضطراب الداخلي والقلقالوجودي إلى عدة عوامل مختلفة أهمها :

- التأثر بأعمال الشعراء الغربيين ،من أمثال توماس اليوت صاحب القصيدة الشهيرة “الارض والخراب” ، فنموذج الآفاق عند الوهاب البياتي ” ليس سوى رمز للإنسان الضائع الذي اضمحل وجوده في الحضارة الأوربية كما يتصوره إليوت، وتأثرا أيضا بأعمال بعض الروائيين والمسرحيين خاصة الروايات والمسرحيات الوجودية التي ترجمت إلى اللغة العربية،( ودراسة كولن ويلسن عن” اللامنتمي” ،بالاضافة إلى عامل المعرفة ، فنموذج الآفاق عند الوهاب البياتي ” ليس سوى رمز للإنسان الضائع الذي اضمحل وجوده في الحضارة الأوربية كما يتصوره إليوت، وتأثرا أيضا بأعمال بعض الروائيين والمسرحيين خاصة الروايات والمسرحيات الوجودية التي ترجمت إلى اللغة العربية)،( ودراسة كولن ويلسن عن” اللامنتمي”، بالاضافة إلى عامل المعرفة، وكل هذا جعل الشاعر الحديث يعاني من الملل والسأم والضجر واللامبالاة والقلق، وبدأ يعزف أنغاما حزينة تترجم سيمفونية الضياع والتيه والاغتراب والانهيار النفسي والتآكل الذاتي والذوبان الوجودي بسبب تردي القيم الإنسانية وانحطاط المجتمع العربي بسبب قيمه الزائفة وهزائمه المتكررة.
   وتحضر هذه النغمة التراجيدية في أشعار أدونيس في قصيدة “الرأس والنهر ” من ديوان ” المسرح والمرايا”، وعند عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور في قصيدته “مذكرات الصوفي بشر الحافي” من ديوان “أحلام الفارس القديم”، و لدى عبد المعطي حجازي.
  إن شهادة هؤلاء الشعراء _كما يؤكد على ذلك أحمد المجاطي _ وهم جميعا من رواد الشعر الحديث ،تؤكد أن النكبة كانت أهم عامل في الاتجاه بالتجربة الشعرية الحديثة ،نحو آفاق الضياع والغربة ،وفي جعل الشاعر إنسانا غريبا وممزقا ،غير أن غربته في الكون ،هي غير غربته في المدينة ،وغربته في الحب ،هي غير غربته في الكلمة ،ولكنها جميعا مرآة واحدة هي غربة الشاعر في واقع أمته الحضاري ،من هنا قسم أحمد المجاطي تجربة الغربة إلى أربعة محاور، هي :

- الغربة في الكـــون

- الغربة في المدينـــة

- الغربة في الحـــب

- الغربة في الكلمــة

1- الغربة في الكون :

  أمام واقع النكبة المذل والمهين ،وأمامانهيار الثوابت والمسلمات والقيم ،لم يجد الشاعر بديلا من معانقة الشك ورسم الكون بكل الصور المتخمة بالظلمة والمرارة والاحساس بالعبث واللامعقول ،فجاءت القصائد تعبيرا عن وجود مائع تحكمه الفوضى ،وذات رهينة بالاحباط واللاجدوى ،في عالم بلا خرائط ،بلا طعم ،بلا لون ،بلا هوية…(انظر ص: 69 و70) ،ذات تراهن على التغيير وأن تأخذ الوجود صيغة جديدة (انظر ص:70)أو تطلب الخلاص والموت ،يقول عبد الوهاب البياتي في ديوانه “سفر الفقر والثورة”

هجرتني
نسيتني
حكمت بالموت عليقبل ألف عام
وهاأنــــا أنــــــام
منتظرا فجر خلاصي ساعة الاعدام

2- الغربة في المدينة :

  تمثل المدينة بتناقضاتها وتخليها عن الأصالة واستسلامها لمظاهر الاستيلاب ،وجها آخر للواقع الحضاري العربي المعوق ،وبالأخص لوجه السياسي المترهل ،وبالتالي فإحساس الشاعر بالغربة هو أول شيء يصادفه في علاقته بالمدينة ،وهو إحساس جعل من المدينة :

- فضاء ماديا خاليا من كل محتوى إنساني….(انظر ص:73و74)

- فضاء للحصار ( انظر ص :ص74و78و79)

   بهذا أصبح المكان المخيف والمرعب هو المدينة العربية المعاصرة التي علبت الإنسان وشيأته، وأضحت بدون قلب أو بدون روح، فالقاهرة بدون قلب عند عبد المعطي حجازي، ونفس الشيء يقال عن بغداد السياب وبيروت أدونيس وخليل حاوي. وتتخذ المدينة في شعر هؤلاء قناعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، وتمثل وجه الحضارة بكل أبعادها الذاتية والموضوعية.
وعليه، فقد صور الشعر الحديث المدينة في ثوبها المادي كما عند الحجازي، أو الناس داخل المدينة وهم صامتون يثقلهم الإحساس بالزمن كما في جل أشعار عبد المعطي حجازي في ديوانه” مدينة بلا قلب.

3- الغربة في الحب

   واقع معوق لم يكن ليعطي حبا نبيلا بمفهومه البيولوجي لشاعر ،فتحولت المرأة إلى عدو ،إلى جسد بدون روح.،إلى مدينة أخرى من الأسوار المحنطة ، كما في قصيدة”الجروح السود” عند خليل حاوي في ديوانه” نهر الرماد”، أو يموت الحب عند عبد المعطي حجازي أو يصاب بالاختناق عند صلاح عبد الصبور،فصار الشاعر يعلم أن الحب ليس إلا جرعة وقتية ،في واقع متخم بالهزيمة والفشل.

4- الغربة في الكلمة

  حتى الكلمة عند الشاعر تحولت إلى خائنة ،من سيف يمسح ألوان الظلم إلى حروف من طين وحجر ،إلى صمت من العذاب والظلمة ،سواء تملك ذلك السيف الحرية أم لا ،كما عند البياتي في قصيدة ” إلى أسماء” من ديوان ” سفر الفقر والثورة”. ومن هنا، فالغربة في الكلمة، أو في المدينة، او في الحب، ” ليست سوى وجه واحد من عدة أوجه، يمكن تصورها لغربة الشاعر العربي في واقع ما بعد النكبة (انظر ص:79و80و81).

   وإذا كانت هذه الأوجه المتعددة لغربة تلتقي في عدة محاور كمحور الموت واليبوسة والتحجروانحباس الأصوات وسيادة الصمت وتداخل الزمن…فوحدة التجربة وغناها في نفس الشاعرجعلته يجمع في بعض الاحيان بين أكثر من لون من ألوان الغربة ،فمزج بين الغربة فيالحب والغربة في المدينة ،والغربة في

  الكلمة…وقد يتعدى ذلك إلى أكثر من لون كما نجد في قصيدة “فارس النحاس” لعبد الوهاب البياتي والتي جمع فيها الغربة في المكان إلى الغربة في الزمان ،إلى الغربة في في العجز ،إلى الغربة في الحياة ،إلى الغربة في الموت ،إلى الغربة في الصمت.
وهو مزج يكشف عن التمزق النفسي ،والتمزق الروحي للانسان العربي ،وتخبطه في تلمس سبيل الخلاص من جهة ،ومن جهة أخرى يكشف عن غنى التجربة وعمقها وأصالتها ،والتي اتخذت باستخدام الرمز الكثير من الايحاءات والدلالات (انظر ص :88 و 89 و 90 )وقارن بين قصيدة (فارس النحاس)وقصيدة (الدارة السوداء).

   ويلاحظ أن هناك من الشعراء المحدثين من وقف عند لون واحد من الغربة، وهناك من مزج بين لونين ، وهناك من تحدث عن الألوان الثلاثة للغربة، وهناك من جمع بين الأربعة في وحدة شعرية منصهرة:” تلك الوحدة سوغت له أن يمزج في بعض الأحيان، بين لونين من ألوان الغربة في القصيدة الواحدة، على نحو ما فعل إبراهيم أبو سنة حين مزج بين الغربة في الحب والغربة في المدينة، في قصيدة له بعنوان ” في الطريق”. وعلى نحو ما نجد عند صلاح عبد الصبور، الذي يمزج بين الغربة في المدينة، والغربة في الكلمة في قصيدة” أغنية للشتاء”. وقد يمضي بعض الشعراء بعيدا، فيمزج في قصيدة واحدة بين ألوان مختلفة تتعدى ما سبقت الإشارة إليه من ألوان الغربة ، كما هو الشأن في قصيدة” فارس النحاس” لعبد الوهاب البياتي”18 ، التي جسدت الغربة في المكان والغربة في الزمان والغربة في المدينة والغربة في العجز. وهذه الغربة تتفرع عنها الغربة في الحياة والغربة في الموتوالغربة في الصمت. وهذه النظرة الشمولية للغربة تنطبق أيضا على قصيدة يوسف الخال”الدارة السوداء”.

نموذج تحليل قولة من المؤلف النقدي ظاهرة الشعر الحديث لأحمد المجاطي

أ- المنهجية العامة و خطواتها :

1-مقدمة :

* تأطير مؤلف ظاهرة الشعر الحديث، في سياقه التاريخي الذي أفرزه، بالإشارة إلى أنه مؤلف نقدي ألفه صاحبه، في سبعينيات القرن العشرين،لدراسة شعر الحداثة الذي ظهر بين النكبة 1948 والنكسة 1967 شكلا ومضمونا.
* طرح أسئلة إشكالية انطلاقا من القولة / المعطاة : وهنا أحب أن أشير إلى أن التلميذ مطالب بالتقيد بالقولة، والسؤال، وأن يستنبط منهما الأسئلة و الإشكاليات المناسبة التي ستتم الإجابة عنها في مساق العرض.

2-العرض:

  مناقشة القولة باستحضار قراءتك التحليلية للمؤلف النقدي ، والإجابة على الأسئلة المطروحة سابقا ،وتأطير القولة ضمن الإشكال النقدي الذي تطرحه،واستحضار بعض الاستشهادات من داخل المؤلف"أقوال للمجاطي، أشعار من المؤلف... حسب طبيعة الأفكار التي تريد إثباتها.ثم مناقشة أفكار القولة.

3- الخاتمة:

  تلخيص الخلاصات التي انتهيت إليها من خلال التحليل والإشارة إلى أن هذا المؤلف قد أضاف الشيء الكثير للساحة النقدية و الأدبية .

ب- النموذج المقترح : 

جاء في مؤلف " ظاهرة الشعر الحديث" على لسان المجاطي ما يلي " التقى هؤلاء الشعراء عند فكرة هي أن الشعر وجدان غير أن مفهوم الوجدان عندهم كان متباينا فقد أراده العقاد مزاجا من الشعور والفكر... حتى قيل بأن العقاد مفكر قبل أن يكون شاعرا، أما شكري فقد فهم الوجدان على أنه التأمل في أعماق الذات لأن المعاني عنده جزء من النفس لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بعين الباطن أي بالقلب" أكتب موضوعا إنشائيا تحلل فيه القولة، موضحا الفرق بين تجربة العقاد وشكري،و مستحضرا رأي المجاطي في الوجدان الذي تغنى به شعراء الديوان. 

ج- طريقة التحليل : 

  يعتبر مؤلف ظاهرة الشعر الحديث من المؤلفات النقدية التي واكبت تطور الشعر العربي عبر مختلف عصوره (العصر العباسي,مدرسة الديوان,مدرسة ابولو ,مدرسة الرايطة القلمية).ويعتبر أحمد المعداوي من بين المؤلفين المغاربة الذين واكبوا تطورات الشعر العربي الحديث وبالاعتماد على عدة كتب مهمة توفق أحمد المعداوي في الفصل بين قضية الشعر التقليدي والشعر الحديث وبذلك تمكن المعداوي من البصم عن أهمية مؤلفه في فترة كان التاليف فيها مطبوعا بالقلة.وانطلاقا من القولة يمكننا استخلاص بعض الأسئلة التي سنؤجل الإجابة عنها في العرض فما هو مفهوم الوجدان عند كل من شعراء جماعة الديوان? وماهي نقاط الاختلاف عندهم حول هذا المفهوم?وما هو موقف أحمد المعداوي من تجربة كل من العقاد وشكري حول مفهوم الوجدان?
  تنتمي القولة التي بين أيدينا إلى القسم الأول من الفصل الأول وينطلق فيه الكاتب من دراسة تحليلية لكل من التيار الإحيائي لينتقل بعده الى ذكر خصائص ومميزات التيار الذاتي إو الرومانسي والذي تتميز به كل مدرسة على الأخرى.يبدا الحديث عن التيار الإحيائي وهو خطاب أدبي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر للنهوظ بالقصيدة العربية التقليدية من عصور الانحطاط والجمود والتخلف ثم الدخول بها في مرحلة جديدة قامت على بعث القصيدة العربية ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى انحطاط القصيدة العربية التقليد الضعيف للقدامى ثم استخدام اللغة الوسطى .ومن بين الأسس التي دعت اليها هذه الحركة باعتبارها حركة أدبية:
-المحافظة على الموروث الثقافي القديم
-المحافظة على ثوابت القصيدة العربية التقليدية من حيث اللغة البناء وحدة الروي والوزن والقافية الإيقاع الخليلي الموضوعات والإغراض
-مسايرة مستجدات العصر من حيث القصايا الوطنية والاجتماعية والسياسية... ومن أهم رواد هذا التيار الأدبي نذكر محمود سامي البارودي مؤسس مدرسة البعث والإحياء بالإضافة إلى إحمد شوقي والذي يرجع له الفضل في إحياء القصيدة العربية من خلال معارضته ومحاكاته لكبار الشعراء القدامى ويظهر ذلك جليا في معضم قصائده. لينتقل بعد ذلك أحمد المعداوي في دراسة للتيار الرومانسي وهو خطاب أدبي جديد ظهر رغبة لبعض الشعراء في تجاوز عصور الإنحطاط التي رسختها مدرسة الإحياء.وهو خطاب جعل من الذات بؤرة الإبداع الفني ومن بين الأسباب التي أدت إلى ظهوره التأثر بالثقافة الغربية ثم الإرتماء في أحضان الطبيعة باعتبارها ملاذا لتفجير هموم الذات الشاعرة .
   وقد مثل هذه الحركة مجموعة من الشعراء تفرقوا في ثلات مدارس أدبية:
-مدرسة الديوان:نمثلها ب العقاد/شكري/المازني
-جماعة المهجر أو الرابطة القلمية:جبران خليل جبران/ميخائيل نعيمة/إيليا ابو ماضي -جماعة أبولو:أبي شادي/ إبراهيم ناجي/علي محمود طه ومن أهم الأسس التي يدعوا لها هذا الخطاب:
-اعتبار الذات مصدرا للإبداع الشعري
-التاثر بالثقافات الغربية للتفتح على مختلف الحضارات لقد اختلفت كل مدرسة من حيث رؤيتها للشعر كمفهوم مركزي فمنهم من رأى الشعر أنه وجدان مع اختلاف فيه ونخص بالذكر مدرسة الديوان حيث يرى العقاد أن الوجدان هو مزيج من الشعر وهو ما جعله يميل في شعره إلى التفكير ويظهر ذلك من خلال قصيدته الحبيب التي يغلب عليها الطابع الفكري على الأحاسيس. وقد اعتبره شكري تأملا في أعماق الذات إلى حد تجاوز حدود الواقع وهو ماحفزه على تجنب العقل المحض وتأمل ما يجول في أغوار ذاته الكسيرة والبحث عن بواعث شقائه وألمه. وهو في نظر المازني ما تفيض به النفس من أحاسيس وعواطف وهذا ماجعله يعبر عن انفعالاته بشكل عفوي و بضورة طبيعية أي دون تدخل العقل أو توغل في أعماق النفس. وعندما نتجه إلى جماعة الرابطة القلمية فقد وسعت مفهوم الوجدان ليشمل كل ماينبثق عن الذات من حياة وكون وعلى هذا النحو اعتبروا الوجدان بأنه نفس وحياة وكون. أما جماعة أبولو فقد تغنوا بآلام الذات ومفاتن الطبيعة ومباهجها وهو ما جعل الحياة عندهم تتراوح بين السعادة المطلقة والشقاء المطلق. لكن سرعان ما عجل في وضع نهاية محزنة لهذا التيار الذاتي لأن شعراءه أغرقوا في البكاء وإجترار نفس المواضيع(كالحب الاستسلام للموت الألم اليأس...) وهذا على مستوى المضمون أما على مستوى الشكل فقد فشل شعراء هذا التيار في وضع مقومات فنية تلائم القصيدة العربية فكان مصيرها الفشل. 
  ومن هنا يظهر أن مؤلف ظاهرة الشعر الحديث تمكن من الفصل في قضية الشعر الحديث وذلك من خلال دراسة مختلف الجوانب سواء اللغوية والفنية والتاريخية وأيضا العوامل التي ساهمت في الدخول بهذا الشعر مرحلة التطور والتجديد من خلال نكبة فلسطين 1948 التي ساهمت في بروز الوعي العربي مما جعل الشاعر يخرج من قوقعته المغلقة وينفتح على العالم وأيضا وعيه بمسؤوليته كما أدت النكسة 1976 إلى انفتاح الشاعر على ثقافات وحظارات أخرى واعتمد في قصائده على أساطير ورموز كان الهدف منها التعبير عن تجربة الشاعر دون قيود أو شروط مسبقة.


للمزيد :  مواضيع ذات صلة 


للقراءة أونلاين والتحميل إضغط هنا





ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة