السبت، 2 مايو 2015

أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة (قراءة في المكونات والأصول) الفصل الثاني والخاتمة - د. كاملي بلحاج


أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة 

(قراءة في المكونات والأصول) د. كاملي بلحاج 

الفصل الثاني



الروافد التراثية

-الأساطير والحكايات

-الطقوس والمعتقدات

الروافد التراثية:



  إن الحديث عن الروافد التراثية التي أغنت القصيدة المعاصرة برموزها ودلالاتها حديث صعب متشعب، لا يمكن بأي حال من الأحوال الإلمام به أو اختزاله في صفحات مثل هذه، وذلك راجع في اعتقادنا إلى تعدد هذه الروافد وتنوعها واختلاف طبيعتها ومصادرها، فمنها القديم والحديث، العربي وغير العربي، التاريخي والأسطوري، وهي في كل الأحوال تحمل في طياتها خصائص وسمات متباينة حسب بيئتها وتاريخها وهويتها. بالإضافة إلى انتماء هذه الروافد إلى أشكال تعبيرية مختلفة: أساطير-حكايات-أمثال-أغاني-معتقدات-وسير، لكل منها مميزات وخصائص.
  لكن على الرغم من صعوبة هذا الحديث وتشعبه فإنني. سأحاول الوقوف عند أهم تلك الروافد لكشف النقاب عنها، وبالخصوص تلك التي استفاد منها الشاعر العربي المعاصر، وتجلت ملامحها على بنية قصيدته ومضمونها أكثر من غيرها وهي:

1-الأساطير والحكايات:

   تعد الأساطير والحكايات قديمها وحديثها من كنوز المعرفة التي لا تقدر بثمن، فمضمونها وقف على تاريخ الإنسان وإدراكه للعالم وتصوره إياه، لذلك عدت مصدراً خصباً من مصادر دراسة نمط تفكير الشعوب ورؤيتها للكون ومعرفة مواقفها من القضايا الجوهرية التي عانت منها وشغلتها ردحاً من الزمن كالموت والخلود والمقدس وغيرها. غير أن الوصول إلى فهم تلك الأساطير والحكايات وكشف النقاب عنها مطلب عسير في كثير من الأحيان. ذلك أن الأساطير من أشد حقول المعرفة غموضاً وضبابية، فهي تضرب بجذورها في عمق الماضي السحيق، وفي عالم فسيح وغريب في الوقت ذاته، كل شيء فيه ممكن مهما بدا منافياً للعقل والمنطق والتفكير السليم، إنها شهادة عن مرحلة بدائية من مراحل التفكير الميتافيزيقي، اختلطت فيها الحقائق التاريخية بالمعتقدات والطقوس والتصورات الفلسفية الأولى التي حاول الإِنسان آنذاك بواسطتها إقناع نفسه بحقيقة ما يشاهد ويسمع من مظاهر هذا الكون العجيب.

   إن الطابع الفكري والديني للأساطير، وارتباطها بالممارسات الشعائرية والسلوكية، جعلها تحتل مكانة مرموقة –تشبه مكانة الشعر عند العرب- في الحضارات القديمة كالحضارة المصرية والسومرية والبابلية والآشورية واليونانية وغيرها من الحضارات القديمة. حيث كانت الأساطير لدى تلك الشعوب قصصاً مقدسة، وأحداثاً حقيقية لا مجال للشك فيها، وقعت في الزمان الأول([1]) زمن البدايات الخرافي.. فهي تروي قصة أصل الإنسان والحيوان، وخلق العالم والكون والحياة، وصراع الآلهة، وعلاقتها بالإِنسان وما يحيط به من مظاهر وأشياء مهمة.
صحيح أن الأسطورة لا نصيب لها من النجاح في إعطاء الإنسان قوة مادية أشد للسيطرة على البيئة، لكنها مع ذلك تعطيه وهم القدرة على فهم الكون والسيطرة عليه([2]) وهذا شيء بالغ الأهمية لأنه استطاع أن يخفف من قلق ذلك الإنسان وحيرته ويحدث لديه قليلاً من التوازن والانسجام بينه.

  وعلى الرغم من تباين آراء الباحثين حول مفهوم الأسطورة وأنواعها([3])، وما يندرج تحتها من أشكال سردية أخرى مشابهة كالخرافة والقصة الشعبية. فإنهم يكادون يُجمعون على وحدة التصور والخيال التي تجمع بين هذه الأشكال الأدبية كلها، وتجعلها أقرب إلى لغة الأحلام والرموز والشعر، وهو الشيء الذي شد الشاعر المعاصر إليها محاولاً استنطاقها والاستفادة منها في نصوصه للخروج بها إلى دائرة الكتابة الجديدة وإعطاء التجارب الإنسانية، على مرّ العصور، آفاقاً 

([1])-Mircea Eliade: Aspects du mythe. Gallimard 1963 p9

([2])-ينظر: كلود ليفي شتراوس: الأسطورة والمعنى: ترجمة: صبحي حديدي، منشورات عيون، دار البيضاء، 1986، ص 18.

([3]) - من هذه الأنواع نجد الأسطورة الطقوسية، التعليلية، الرمزية، التكوينية أو أسطورة الأصل كما يسميها صموئيل هنري هووك، أسطورة البطل المؤلمة، أسطورة الصيت، أسطورة البعث. ينظر: نبيلة إبراهيم: أشكال التعبير في الأدب الشعبي دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة ص15 وما بعدها. وأيضاً صموئيل هنري هووك: منعطف المخيلة البشرية (بحث في الأساطير) ترجمة صبحي حديدي دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا ط1 1983 ص9.

   أرحب تتيح مجالاً واسعاً لحرية التصرف في الأحداث وفق ما يخدم فلسفة الإنسان المعاصر ووجهة نظره.

   فالشاعر المعاصر حين يعود إلى الأساطير ـ وهي في رأيه ضرب من الشعر البدائي ـ فإنه لا يعود إلى تلك الأحداث والجزئيات التي تتألف منها هذه الأساطير إلا قليلاً، بسبب تغيرها وقابليتها للتطور بفعل الرواية. وإنما يعود إلى تلك الأجواء والظلال الشعرية المصاحبة لها، ليرى في خيالها الساذج البسيط، عمق صلة الإنسان بالكون، ويستشف من خلاله صدق التعبير عن بواكير المعرفة الإنسانية وهي في طور الطفولة والنشوء، ويصوغ من تلك الظلال والأحداث البسيطة نسيجاً شعرياً في تشكيل جمالي جديد غير مألوف في بلاغة الكتابة العربية، يتيح لـه أن يصور ويثبت أو ينفي ما شاء من مضامين العصر ووجهات نظره.

   إن تعلق البدائي بهذا النوع من التخيل والتصورات، جعله يعتقد بنظام ثنائي للحياة فالطبيعة عنده ((قوة سرية مفيدة ومدمرة معاً، جذابة ومرعبة، نافعة للصحة ومميتة، وباختصار لها كل ازدواجية "المقدس" وهي في النهاية لغزية معماة" ([1]) مما سبب لـه اضطراباً وقلقاً وشعر بالاغتراب الروحي وأحس بضرورة الشعائر والطقوس كوسيلة للخلاص وإنقاذ الحياة من الموت والاندثار. وتأتي في مقدمة هذه الطقوس أساطير الموت والانبعاث وأساطير الخلق والولادة أو أساطير الأصل والتكوين كما يسميها البعض وأساطير الرمز، وكل ما يتعلق بهذه الأنواع من معتقدات ترمز إلى الخصب والعطاء وما لـه صله بدورة الحياة والموت والبعث كأسطورة تموز وعشتار والفينيق والعنقاء وبروميثيوس وسيزيف وغيرها.
   على الرغم مما يذكره بعض الدارسين عن الأساطير والحكايا من أنها لعب ولهو وأباطيل لا طائل من ورائها([2])، فقد كانت بالنسبة للإنسان البدائي تمتلك قوى سحرية خارقة، وقدرات غير عادية، تسمح لـه بالسيطرة على الكائنات والأشياء. بل أكثر من هذا فإن الاعتقاد السائد آنذاك هو أن معرفة أسطورة ظاهرة ما، يساعد على إعادة خلق هذه الظاهرة([3]). وعلى العموم فقد استطاعت الأسطورة بوسائلها التعبيرية الخاصة، آنذاك، أن تقدم العديد من الإجابات عن تساؤلات الإنسان واستفساراته حول هذا الكون المرعب، الذي لا يملك عنه أدنى أشكال المعرفة واليقين.
من هنا أحس الشاعر المعاصر بما أحس به أسلافه من قلق وحيرة كنتيجة لما وصلت إليه حضارة القرن العشرين من وسائل الدمار الشامل وآلت إليه المجتمعات البشرية من انحلال خلقي يكون في يوم ما سبباً في هلاكها وانقراضها، كما حصل مع قوم عاد وثمود، وشعر بالخطر يهدد الحياة الإنسانية وينذر بخرابها، فأسرع إلى الأساطير يعيد لها طاقاتها الخارقة وقدراتها السحرية التي فقدتها في عصر العلم والتكنولوجيا، كما أسرع إلى الطقوس يلتمس فيها بعثاً وتجديداً، كما كان أسلافه يفعلون، وكأنه يريد بهذا الفعل الرمزي إيقاف صيرورة هذا التدمير المحتمل، وبعث الحياة من جديد بواسطة طقوس وشعائر خاصة تتلخص في تكرار أعمال الخلق كما صورتها المعتقدات وحكت عنها الأساطير.
    قبل البدء في تقديم نماذج شعرية لإبراز تلك الأساطير وطرق تعامل الشعراء معها، علينا أن نشير إلى أن الفضل في ذلك يعود إلى تلك الجهود التي بذلها الأناسيون والفلاسفة وعلماء النفس، والتي فتحت أعين المبدعين والشعراء على هذا الكنز الثمين من الأفكار والتخيلات. ويأتي على رأس هؤلاء السير جيمس فريزر SIR JAMES FRAZER(1941 - 1854) في كتابه الشهير (الغصن الذهبي)، وبرونسلاف مالينوفسكي (1943 - 1884) BRONISLAW - MALINOWSKI وكلود ليفي شتراوس 1908 CLAUDE LIVI - STRAUSSوأرنست كاسير (1874 - 1945) ERNST CASSIRER ومارتين هيدجر (1976 - 1889) MARTIN HEIDEGGER وغيرهم.
تعد دراسات العالمين النفسيين سيغمون فرويد 1939 - 1856 SIGMUND FRAUS، وكارل يونغ 1961 - 1875 CARL GUSTAV JUNGالمتمثلة في اكتشافهما اللاشعور الفردي والجمعي من بين الإنجازات العلمية العامة في التعرّف على الرموز والذكريات والعادات والمعتقدات والأساطير وطرائق التفكير والسلوك التي خلفتها الأجيال عبر آلاف السنين، ولا زالت قابعة في عمق اللاشعور تتحرك من حين إلى آخر بفعل دوافع معينة، على شكل رموز وصور تجسدها لغة الشعر والأحلام، أطلق عليها يونغ اسم النماذج العليا

([1]) - هيرقة روسو: الديانات، ترجمة: متري شماس، المنشورات العربية (سلسلة ماذا أعرف 25) ص20.

([2]) - ينظر: ابن منظور: لسان العرب (مادة سطر).

([3]) - ينظر: علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص176.\

(Archetypes)([1]).


   الفضل إذن، يعود إلى هؤلاء العلماء الذين أخرجوا هذا التراث من دائرة النسيان والمفهوم الشعبي البسيط إلى دائرة العلم والمعرفة الإنسانية الواسعة، يمكن بواسطته الوصول إلى فهم أنساق الثقافات البدائية وأشكالها المتنوعة، تلك الثقافات التي أصبحت تغري الشاعر المعاصر لما تتميز به من طبيعة سحرية وقيم جمالية عالية، وقوالب فنية وتقاليد شفهية يكون الاعتماد فيها على نظام الصيغ أكثر من أي نظام لغوي آخر، وأنماط من التعبير الرمزي يجعل منها أنظمة معقدة وإشارات من الدرجة الثانية.

أ ـ الغصن الذهبي:

   كان لهذا الكتاب الذي ظهر في أثني عشر مجلداً ما بين 1890 و 1915 الرّيادة في لفت انتباه الشعراء إلى التراكم الفلكلوري الواسع، المليء بالرموز والإشارات. والكتاب ليس فقط معالجة موسوعية للحياة البدائية، وإنما هو أيضاً الكتاب الذي يعود إليه الفضل في الاهتمام الأدبي الراهن بموضوع الأسطورة. وهو كما ذكر البروفيسور "بكلي" مصدر يكاد لا ينضب للأساطير الرموز والمركزية في أدب القرن العشرين([2]).
  قال جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة ترجمته لجزء منه تحت عنوان (أدونيس) سنة 1957: ((كان لهذا الجزء ـ أدونيس ـ فضلاً عن خطورته الأنثروبولوجية الظاهرة، أثر عميق في الإبداع الأدبي في أوربا في السنين الخمسين الأخيرة بما هيأه للشعراء والكتاب من ثروة رمزية وأسطورية نرجو أن يُقبل عليها أدباؤنا أيضاً لإغناء أدبنا الحديث))([3]) فاستجاب العديد من الشعراء لهذه الدعوة، وعلى رأسهم شاعر العراق بدر شاكر السيّاب الذي أفاد من الأساطير البابلية والفينيقية التي تضمنها الكتاب، وجعلها تؤدي أغراضاً عديدة ودلالات متنوعة داخل قصائده التموزية، ورأى فيها رموزاً لولادة جديدة لأولئك المعذبين الذين يقارعون الظلم والطغيان، في انتظار ثورة تعيد لهم الأمل والحياة الكريمة.
   يقول جبرا إبراهيم جبرا: ((لقد كان من المصادفات أن اطلع بدر على هذه الأسطورة (يقصد أسطورة تموز) في فصلين من مجلد كنت ترجمته من كتاب (الغصن الذهبي) لسير جيمس فريزر (...) ولما قرأهما بدر وجد فيهما وسيلته الشعرية الهائلة التي سخرها فيما بعد لفكرته، لأكثر من ست سنين، كتب فيها أجمل وأعمق شعره))([4]).
  وضمن هذا التصور أيضاً يندرج كتاب فرانكفورت (ما قبل الفلسفة) الذي ترجمه جبرا إبراهيم جبرا إلى اللغة العربية، وهو عبارة عن دراسة هامة في الأساطير والمعتقدات التي ظهرت في مصر ووادي الرافدين والتي نشأت عنها العديد من المذاهب والفلسفات في الحضارات اللاحقة.
  وباختصار شديد فقد كان لهذين الكتابين، وبالخصوص أنهما مترجمان من شاعر وناقد معاصر، أثر كبير في دفع حركة الشعر المعاصر إلى الأمام بتقديمها مجموعة من الرموز والأساطير بنى عليها الشعراء فيما بعد قصائدهم وجعلتهم يتجاوزون أشكال البناء الشعري القديم وقوالبه الجاهزة، ويقتربون من نبع الشعر ومفهومه كما تمليه الظروف الجديدة ودواعي الحداثة والمعاصرة.
   ومما زاد في اهتمام هؤلاء الشعراء بالتراث، إقبال ت.س إليوت عليه يغترف من مادته ليُثري تجربته الشعرية ويشكل أدواته الفنية. لقد استطاع هذا الشاعر بما يمتلكه من عبقرية وموهبة وشعرية أن يفجر ما في الأساطير والحكايات من قيم وطاقات يمكن الاتكاء عليها في التعبير عن قيم العصر وقضاياه بأسلوب فني جديد لم تألفه الكتابة الشعرية من قبل. علماً أن توظيف الأساطير والتراث الشعبي عموماً بدأ منذ أن كتب هوميروس الإلياذة والأدويسة وهما من الشعر الملحمي المرتكز على التراتيل الدينية والأناشيد الأسطورية التي تتغنى بأمجاد الآلهة وأنصاف الآلهة، التي كانت تُنشد في الأعياد والمناسبات من طرف أجيال متتالية من الشعراء المتجولين.
   تعد أساطير الموت والانبعاث، وما يتعلق بهما من طقوس حكائية كما سبقت الإشارة، المصدر الأساسي الذي عوّل عليه الشاعر العربي المعاصر في اتقاء رموزه وبناء أفكاره وتجسيد رؤيته. أما بقية الأنواع الأسطورية الأخرى، فهي لا ترد إلا عرضاً أو تقحم في صلب أسطورة من هذه الأساطير، مما يجعلها تحتل 


([1]) - حول هذا المصطلح ينظر: جلال الدين سعيد: معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية دار الجنوب للنشر، تونس 1998، ص388.

([2]) - ينظر: جبرا إبراهيم جبرا: الأسطورة والرمز ودراسات نقدية لخمسة عشر ناقداً، ص150.

([3]) - جيمس فريزر: أدونيس، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، منشورات الصراع الفكري، بيروت 1957، ص6.

([4]) - جبرا إبراهيم جبرا: الرحلة الثامنة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1979، ص19.

مكانة أدنى من الأولى، غير أن هذا لا يعني أننا نقلل من وظائفها الدلالية أو الفنية داخل النص الشعري، فهي بمثابة الروافد التي تقوي الدلالة وتعطي القصيدة أبعاداً جديدة وزخماً شعرياً يكسبها حرارة التواصل بين الأجيال عبر أساطيرها وتراثها الفلكلوري.


ب ـ أسطورة تموز (التجاوز والانبعاث):


  إذا كان تموز هو إله الخصب عند البابليين، فهو عند المصريين (اوزيريس) وعند الفينيقيين والإغريق (أدونيس). وقد كانت هذه الآلهة الثلاثة ذات دلالة واحدة فهي ترمز إلى النماء والخصب، وللقوة التي تدفع الطبيعة إلى الانبعاث والتجدد والتي يتم من خلالها التحكم في دورية الزمن وتعاقب الفصول وما ينجم عنهما من نمو في الزرع وكثرة المحاصيل. وللإشارة فقد كان الإنسان البدائي يعتقد أن موت الطبيعة سببه موت الإله، ولإنقاذها يتوجب إنقاذ الإله عن طريق إقامة الطقوس والشعائر. ((وسواء كانت هذه القوة التي تدفع الحياة إلى الاستمرار هي أدونيس أو تموز أو إيزيس وأوزيريس أو كانت ملكاً بالفعل، فإن نسيج القصة واحد، وطقوس الاحتفال بموته وبعثه واحدة. ويتألف نسيج القصة أساساً من النقيضين: الموت والبعث، والجدب والخصب، والحزن والبهجة))([1]).

  وبما أن هذه الأساطير تسعى إلى غاية واحدة، تتلخص في تجديد دورة الحياة وبعث فعل الخصب والنماء في الطبيعة فإن الشاعر المعاصر حاول أن يجعل منها، على اختلاف أسمائها ومصادرها لقباً لتموز، فتجاوز الأسماء ليغترف من النبع مباشرة، فالسيّاب على سبيل الذكر، حاول أن يجعل من الأسطورة السومرية ـ بوصفها أقدم هذه الأساطير نشأة ـ مجاله في استلهام رمز البطل القتيل لكنه كان في كل مرة يُضفي عليه طابعاً ولوناً خاصاً، فهو مرة ذو لون بابلي، ومرة كنعاني، ومرة فينيقي ويوناني، وأخرى مصري.
    وليس من المستبعد أن يكون هذا الشاعر على درجة عالية من الثقافة الفلكلورية والرموز الميثولوجية فهو يدرك أصول تلك الأساطير ومواطن تداخلها والتقائها، لذا ألفيناه يجمع بين أبطالها وشخصياتها. فأدونيس بطل الأسطورة الفينيقية والإغريقية كان لقباً من ألقاب تموز، الذي كان يعبد عند ((الأقوام السامية في بابل وسوريا ثم أخذ الإغريق عنهم عبادته حوالي القرن السابع قبل الميلاد وكان اسم الإله الحقيقي (تموز). وما التسمية (أدونيس) إلا الكلمة السامية ومعناها (السيد) وهو لقب احترام كان يطلقه عليه عباده))([2]). وربما كان هذا التداخل بين الميثولوجيات المختلفة حول أسطورة واحدة، من الأسباب التي أثرت هذا التنويع في التعامل مع الأساطير، بل وساعدت على اكتشاف مناطق مجهولة من تلاقي الحضارات وهجرة الثقافات.
   ومثل ما ارتبط (تموز) (بعشتار)، ارتبط (أدونيس) (بأفروديت) مرة بوصفه إغريقياً، و(بفينوس) مرة أخرى بوصفه رومانياً، وكذا الحال في الأسطورة المصرية والكنعانية، حيث ارتبط (أوزيريس ببايزيس) و(بعل بآنات). وقد جسدت هذه الآلهة (ربات العشق والجمال والحكمة) معنى البعث والحياة عبر سلوك دال على عمق التضحية والإخلاص للزوج الإله، في زمن كان فيه الناس ((يعتقدون أن تموز يموت كل سنة متنقلاً من أرض المرح إلى العالم المظلم تحت الأرض، وأن قرينته الإلهية ترحل كل سنة في البحث عنه إلى البلاد التي لا عودة منها، إلى دار الظلام حيث التراب مكوم على الأبواب. وفي أثناء غيبتها تنقطع عاطفة الحب عن الشبوب في الصدر، فينسى الإنسان والحيوان على السواء تكثير جنسه، ويهدد الفناء الحياة))([3])، وهنا يتحتم القيام بطقوس موت تموز من أجل عودته وانبعاثه مع عشيقته، وإلا سيحل الخراب والفناء.
من هنا أطل الشاعر العربي المعاصر على عمق المعاناة الإنسانية عبر مسارها التاريخي الطويل منذ أن كان الإنسان يقدم نفسه قرباناً للآلهة حفاظاً على حياته وحياة أبنائه، (فتموز)، من الناحية الرمزية، يموت ليُبعث مرة ثانية، لأن في موته حياة له، وفي حياته موت له، هكذا أرادت لـه الآلهة مغتصبة الخلود، لكنه على الرغم من ذلك سيبقى مضحياً واهباً الحياة للطبيعة ومجدداً لفصولها وتكاثرها.
   ومن العبث في تصور الشاعر المعاصر، أن لا تكون لهذه التضحية التي بطلها تموز أكثر من معنى.. ولابد للجدب والعقم في الحياة المعاصرة من تموز ينهض بعبء الولادة والانبعاث. ومن ثمّ كان لاهتمام الشاعر بأسطورة (تموز) مبرراته الشعرية ومصوّغاته الفكرية، أضف إلى ذلك أنها الأسطورة التي تلتقي عندها جميع أساطير الفداء والتضحية من أجل إعادة الحياة ودفع الموت بشكل 

([1]) - نبيلة إبراهيم: الإنسان والزمن في التراث الشعبي، مجلة الأقلام، بغداد أيار 1976، العدد 8، ص24.

([2]) - جيمس فريزر: أدونيس، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، دار الصراع الفكري، بيروت 1957، ص11.

([3]) - جيمس فريزر: أدونيس، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، ص13.


مأساوي حاد.

  من الفكرة ذاتها انطلق معظم الشعراء المعاصرين كالسيّاب وخليل حاوي وأدونيس في توظيفهم لهذه الأسطورة بحيث أفادوا منها كثيراً، وجعلوها تؤدي أغراضاً دلالية وفنية متعددة. ورأوا فيها رمزاً لثورة عارمة تعيد الحياة الكريمة للشعوب المضطهدة التي تقارع الظلم والطغيان، وانبعاثاً شاملاً لهذه الأمة من غفوتها وانحطاطها.

   وقد ازداد تمسك هؤلاء الشعراء بهذه الأسطورة وغيرها من البعث والخلاص بعد جملة من الأحداث والتغيرات العميقة في بنية المجتمع العربي وذهنيته من جراء النكبة التي أصابته. وهذا ما جعل أحد النقاد يرى أن عملية توظيف الرموز والأساطير التي شحن بها الشعراء كتاباتهم، إنما هي من فعل النكبة([1]). هذه النكبة والأساطير التي أوحت إلى بعضهم بضرورة النهوض والوقوف إلى جانب النموذج الغربي، غير أن التصدع كان أقوى من كل رؤية متفائلة في البحث عن ميلاد جديد، وبذلك انهار حلم الانبعاث والخلاص الذي زكاه عدم التكافؤ بين الغرب والشرق.
وكانت النتيجة أن اضمحلت هذه الأساطير والرموز (رموز الانبعاث)، لتحل محلها رموز أخرى (معظمها صوفية). وهناك من بقي متمسكاً بها لكن موظفاً إياها بطريقة عسكرية أو ضدية كما جاء في قول السيّاب بعد أن تسرب إليه الشك في قدرة تموز على النهوض ونفض أكفان الموت عن نفسه:

ناب الخنزير يشقّ يدي
ويغوص لظاه إلى كبدي،
ودمي يتدفّق، ينساب:
لم يغد شقائق أو قمحاً
لكن ملحاً.
"عشتار".. وتخفق أثواب
وترف حيالي أعشاب
من نعل يخفق كالبرق
كالبرق الخلب ينساب
لو يومض في عرقي
نور، فيضيء لي الدنيا
لو أنهض، لو أحيا
لو أسقى! آه لو أسقى!
لو أنّ عروقي أعناب!
وتقبّل ثغري عشتار،
فكأنّ على فمها ظلمة
تنثال عليّ وتنطبق،
فيموت بعينيّ الألق
أنا والعتمة([2])

  هكذا تبدو فكرة الانبعاث بعيدة، ويبدو الشاعر حزيناً يخيم عليه اليأس ـ من الوضع الاجتماعي والحضاري ـ والمرض، ويحس بناب الظلم ينفذ إلى كبده، بعد أن عادت حياته ملحاً لا نبت فيه، ورمزاً للبوار والجدب. أما (عشتار) واهبة الحياة والنور فصارت هي الأخرى عاجزة مثله لا تستطيع أن تفعل شيئاً، بل أكثر من ذلك أصبحت الظلمة تنثال من فيها، دون أن تترك بسمة للأمل والرجاء في أفق (تموز). إن أمل الشاعر ـ المتحد بتموز ـ قليل جداً، ولا يمكنه رسم الطريق فتموز عاجز عن الانبعاث. وسبل الخلاص من اليأس والمرض الذي قهره سنين عدة، وباتت نفسه قاب قوسين أو أدنى من الموت، أمر بعيد المنال، وهذا على الرغم من إيمانه بالانبعاث والنهوض الذي تؤكده بعض قصائده. فهو في هذه القصيدة يفضل العدم والراحة الأبدية لنفسه و(لجيكور) التي ترمز إلى كل ما يحبه على الإطلاق.

([1]) - ينظر جبرا إبراهيم جبرا: الرحلة الثامنة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1979، ص74.

([2]) ـ بدر شاكر السياب: الديوان 1/410 ـ 411.

هيهات. أينبثق النور

ودمائي تظلم في الوادي؟

أيسقسق فيها عصفور
ولساني كومة أعواد؟
والحقل، متى يلد القمحا
والورد، وجرحي مغفور
وعظامي ناضحة ملحاً؟
لا شيء سوى العدم العدم،
والموت هو الموت الباقي([1])
   يتضح أن تموز القصيدة غير تموز الأسطورة وإن اشتركا في الاسم، فقد استطاع السيّاب من خلال هذا المزج بين الشعري والأسطوري أن يبرز المنحى الجديد لعملية توظيف التراث، ويضفي على تجربته الشعرية بعداً فكرياً يسمح لـه بتجسيد رؤيته للحياة والموت. أما من الناحية الفنية فيتضح أن الرمز الشعري، سواء أكان أسطورياً أم تاريخياً، فهو ليس قالباً جاهزاً أو نظاماً إشارياً، يتكرر بدلالته ومعناه في جميع النصوص، بل هو نتيجة لكل ممارسة شعرية جديدة تطمح لأن تكون متفردة في طريقتها وأسلوبها. فالشاعر أثناء عملية الإبداع والكتابة يصنع رموزه بطريقته الخاصة وفق ما تمليه عليه تجربته ورؤيته. فإن عدنا إلى القصيدة مرة ثانية، نجد أن السيّاب قد دخل في عملية تناص عكسي مع النص الأسطوري، فلم يأخذ الرمز بدلالته الأسطورية، وإنما راح يبني إلى جانب تلك الدلالة، دلالة أخرى مخالفة لها تماماً، وهذا ليس من باب التقليد أو المحاكاة كما اعتقد أحمد المعداوي([2]) وإنما هو عملية إنتاج لمعنى جديد، مما يؤكد أن الرمز عند بعض الشعراء المعاصرين ينبغي أن لا يفهم ويقرأ بالعودة إلى سياقاته القديمة، بل بالرجوع إلى معناه وإيحاءاته التي ابتناها الشعر في الكلام وبالكلام. لكن لا ينبغي أن يفهم أننا ننفي تماماً الدلالة الأولى للرمز.
فالرمز الأسطوري يظل محافظاً على إيحاءاته وظلاله مهما كانت عملية توظيفه في الشعر، حتى وإن بدت خافتة في بعض النصوص، فبمجرد ذكر رمز معين وليكن (تموز) على سبيل المثال، فإن ذكر الاسم (تموز) يظل يحمل تلك الأبعاد والدلالات التي زخرت بها الأسطورة، مما يجعل المتلقي داخل فضاء معين يصعب عليه الانتقال منه إلى فضاء شعري آخر ما لم تكن هناك قرائن تسمح بتجاوز المعنى الأول إلى المعنى الثاني على حد تعبير عبد القاهر الجرجاني([3]).
   لقد أدرك الشعراء هذا الأمر في بداية الرحلة، فكانوا يشرحون رموزهم ويشيرون إلى أصولها في هوامش نصوصهم، وكانوا يتدرجون بالرمز من معناه الأصلي إلى معان جديدة تسمح للمتلقي بالولوج إلى عالم القصيدة بتدرج في غير كلل أو غموض يفسدان عليه متعة الفهم والتذوق. وانطلاقاً من إيمان الشعراء المعاصرين بضرورة التغيير والانبعاث حاول خليل حاوي استثمار الشخصيات والرموز الأسطورية اليهودية والمسيحية لتحقيق هذا التغيير، ففي ديوانه (نهر الرماد) ـ النهر رمز الحياة والرماد رمز الموت ـ الذي شخّص فيه معاناة مجتمعه وهو يزحف بخطى متعثرة نحو النهوض والانبعاث وقد أصابه ما أصابه من التدهور والتخلف والسأم، إشارة واضحة ودعوة إلى الاغتراف من منابع الثقافات وأصولها.

([1]) - بدر شاكر السياب: الديوان 1/412 ـ 413.

([2]) - ينظر: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، ص178.

([3]) - ينظر: دلائل الإعجاز (في علم المعاني)، تحقيق محمد عبده، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت 1981، ص207.

   كان خليل حاوي، كما يوحي بذلك عنوان هذا الديوان يعاني من الازدواجية والانفصام بين الواقع والمثال، الصورة والمادة، الوجه والقناع، وكأنه مفروض عليه أن يمر بالمصير نفسه الذي مر به (بروميثيوس) و(سيزيف) اللذان ظلا يحملان الهموم والعذاب. ونعتقد أن ليس هناك قصيدة في شعره إلا وتوحي بهذين الصوتين الأبديين الذين يتجاذبانه ويفريان في أحشائه وأعماق روحه، وهذا على الرغم من الحلم الذي كان يراوده والمتمثل في حبه للحياة والانتصار، ويبدو ذلك جلياً في هذا التوسل الصريح إلى آلهة الخصب والانبعاث:


يا إله الخصب، يا بعلاً يفض

التربة العاقر
يا شمس الحصيد
يا إلهاً ينفض القبر
ويا فصحاً مجيد.
أنت يا تموز، يا شمس الحصيد
نجّنا، نجّ عروق الأرض
من عقم دهاها ودهانا([1])
  يكاد يكون هذا المقطع طقساً سحرياً وممارسة رمزية لشعائر الخصب والنماء، فالأرض العاقر تروى ببذار بعل، والشمس تشرق بانبعاث تموز، والمسيح يفض القبر عبر الفصح إنها شبكة من الطقوس والرموز التي كان يؤمن بها البدائيون، اهتدى إليها حاوي بهدي من معاناته وتجربته التي انبنت أساساً على الأمل وفعل التجاوز والتخطي، غير أن هذا الأمل في رأيه، ـ كما سيتضح في قصيدته السندباد في رحلته الثامنة ـ لا يمكن أن يولد إلا من خلال الإحساس التام بالانهيار والزوال الشامل بواسطة نار محرقة أو طوفان جارف:

إن يكن، ربّاه،
لا يحيي عروق الميّتينا
غير نار تلد العنقاء، نار
تتغذّى من رماد الموت فينا،
في القرار،
فلنعان من جحيم النار
ما يمنحنا البعث اليقينا([2])
   تسهم أسطورة العنقاء التي تموت ثم يلتهب رمادها فتحيا ثانية في تأكيد هذا المعنى أو الأمل المتوخى عند الشاعر، فموت العنقاء وانبعاثها إشارة رمزية إلى ضرورة الاقتناع بالتضحية من أجل النجاة والخلاص، وقد جاءت كلمة (فلنعان) وهي لفظة مثقلة بدلالات الاستعداد لتحمل الصّعاب والمشاق، لترجح الكفة وتربط بين الرؤيا وحقيقة المعاناة في الواقع، فالانبعاث عند الشاعر لا يمكن أن يتحقق بغير تطهر، والتطهر لا يمكن أن يكون بغير معاناة الاحتراق والاغتسال.

كان في الآفاق والأرض سكون
ثم صاحت بومة، هاجت خفافيش
دجا الأفق اكفهرّا
ودوّت جلجلة الرعد
فشقّت سحباً حمراء حرّى
أمطرت جمراً وكبريتاً وملحاً وسموم
وجرى السيل براكين الجحيم
أحرق القرية، عرّاها،
طوى القتلى ومرّا([3])
وفي (أنشودة المطر) ما يؤكد هذا المعنى، حيث يشير السيّاب من خلال مأساة العراق والواقع المتردي فيها إلى ملامح الغد الجديد:
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن البروق في السّهول والجبال،
حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرّجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الواد من أثر([4])

([1]) - خليل حاوي: الديوان، دار العودة، بيروت 1993، ص119ـ120.

([2]) - خليل حاوي: الديوان، ص125ـ126.

([3]) - خليل حاوي: الديوان، ص111ـ112.

([4]) - بدر شاكر السياب: الديوان 1/477.

   خلاصة القول، فإن اكتشاف الشعراء المعاصرين لهذه الأسطورة وما يتعلق بها من رموز وطقوس، قد مكنهم من التعبير عن تجاربهم بطرق فنية سمحت لهم بنقل الشعر إلى دائرة أوسع بعيداً عن التقليد واجترار المكرور ومحاكاة الموضوعات المستهلكة، وفتح لهم باب الإبداع وتجسيد الرؤى وعرض التأملات والأفكار. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن أكثر من ثلثي الشعر العربي المعاصر قد بُني على بقايا هذه الأساطير والمعتقدات التي أبدعتها المخيلة الشعبية واحتفظت بها الأجيال على مر العصور.



ج ـ أسطورة بروميثيوس([1]) (الثورة والتمرد):

   تعد أسطورة برميثيوس من الأساطير التي استهوت الشاعر العربي المعاصر في بحثه عن نموذج قوي يستطيع أن يجسد من خلاله رغبته في الانتصار والتحرر من القيود والحواجز، والتطلع إلى المعرفة بهدف تخليص الإنسان من التبعية الإلهية وجعله سيداً حراً يصنع حياته ويقرر مصيره بنفسه.
   وقد صارت أسطورة برميثيوس، منذ قديم الزمان، معيناً لا ينضب اغترف منها الشعراء والفنانون فتحدث عنه هيزيودوس في قصيدته (الأعمال والأيام) على أنه الرحيم الذي يرى الناس ويعطف عليهم، ورأى فيه أفلاطون في (فيتاغورس) أباً لكل الأجناس البشرية. كما أشار إليه الشاعر اليوناني أسخيلوس وجعله بطلاً لمسرحيته (برميثيوس في القيد) و(برميثيوس الطليق) حيث نجد هذا الأخير يفخر بما فعله من خير في سبيل إسعاد البشر([2])، وحملهم على كسر القيود بواسطة المعرفة وحمل مشعل النار رمز الحركة والحياة.
    ولعل من أشهر الأدباء الذين وظفوا هذا الشخصية في أعمالهم الأدبية في العصر الحديث "جوته" في مسرحيته (بروميثيوس) 1873، والشاعر الرومانتيكي الإنجليزي "شيلي" في مسرحيته المترجمة إلى العربية تحت عنوان (بروميثيوس الطليق) التي وظف فيها بروميثيوس رمزاً لمن يضحي في سبيل مستقبل الإنسانية وفجرها الجديد. وقد كان "شيلي" يحلم بهذا الفجر الذي يحمل لواءه الحكماء والشعراء والمضحون في سبيل الإنسانية، لأن كل واحد من هؤلاء إنما هو بروميثيوس جديد([3]).
وقبل الحديث عن هذه الأسطورة في الشعر العربي المعاصر وما ترمز إليه من دلالات وأبعاد أغنت النص وأضفت عليه طابعاً إنسانياً وشمولياً عاماً، نشير إلى أن هذه الأسطورة تشبه في أكثر من نقطة القصة الشعبية التي نسجت حول صلب المسيح عليه السلام([4])، فكلاهما قدم نفسه فداء لتخليص البشرية من العناء والقهر، وكلاهما حاول أن يجسد حكائياً فكرة الاستشهاد من أجل الآخرين، فأصبحا رمزين من رموز الفداء والتضحية، وبهذه الرمزية أو الدلالة يوظفان في أغلب القصائد الشعرية، حتى وإن لم يذكر اسميهما، لأن ما يهم الشاعر هو سريان هذه الروح ـ روح التضحية والاستشهاد أو الروح البروميثيوسية إن صح هذا التعبير ـ في القصيدة ولا يهم سواء ذكر بروميثيوس أو غيره يقول محمد جميل شلش:
سارق النار، رفيقي في المصير،
لم يزل يحلم بالفجر الكبير،
كبداً، أقوى من الآلام..
والأحزان..
والصمت المرير
كبداً منصدعة،
ينهش النسر بقاياها..

([1]) - بطل أسطوري من صنع المخيلة البدائية اليونانية، تروي الأسطورة أنه رأى بثاقب فكره أنه يمكن للبشر أن يعيشوا سعداء إذا ما تحصلوا على النار، فاستعطف زوس كبير الآلهة أن يمنحه إياها، إلا أن زوس أجابه قائلاً ((بالنار سوف يصبح بنو البشر في غاية المهارة فيظنون أنفسهم أنداداً للآلهة)). لم يكترث بروميثيوس بغضب زوس وقرر أن ينزل النار إلى الأرض. غضب عليه هذا الأخير وأمر الآلهة أن تأخذه إلى جبل كيقاوس، وتشده إلى صخرة ضخمة يؤمها نسر بري متوحش ينقر جسده العاري ويلتهم كبده كل صباح، لينمو لـه كبد جديد في المساء. وعلى الرغم من هذا العذاب فقد ظل البطل صامداً، لم يطلب الرحمة والصفح إلى أن خلصه هيراكليز. حول هذه الأسطورة ينظر: شوقي عبد الحكيم: موسوعة الفلكلور والأساطير العربية، دار العودة، بيروت، ط1، 1982، ص100، وأيضاً، ماكس شابيرو: معجم الأساطير، ترجمة: حنا عبود منشورات دار علاء الدين، دمشق 1999، ص209، برنارد ايفلسن : ميثولوجيا الأبطال والآلهة والوحوش، ترجمة: حنا عبود، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1997، ص63.

([2]) - ينظر: محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، دار العودة، بيروت 1983، ص310.

([3]) - ينظر: محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، ص310.

([4]) - قال تعالى: )وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( النساء: 156.

وتترو..

..........

سارقاً ما زال فينا،
يحمل المشعل في الأعماق ديناً،
ويغني لعبير الشمس..
في أعماق ليل "العاشرة"*
يا عدو الفجر، إن الفجر آت،
وعلى البلاغي تدور الدائرة([1]).
يستلهم محمد شلش في هذا المقطع عذاب بروميثيوس ليعبر من خلاله عن عذابه وآلامه وهو داخل الزنزانة يستصرخ ويحلم بفجر جديد. إن توحد الشاعر بسارق النار ـ كما فضل هو التعبير عنه ـ أكسب عذابه غنى ومدلولاً، وأضفى عليه بعداً إنسانياً وأسطورياً، وجعل وقعه في الملتقى حياً متدفقاً. فالشاعر المتّحد ببروميثيوس يرفض الاستسلام ويأبى الخضوع والانسياق ويحلم بالانتصار على الرغم من العذاب الشديد، ما دام هناك بقايا حياة في كبده:
يا عدو الفجر... يا نسل النسور الفاجرة،
لم تزل بقايا حياة
في دمي، في فلذة من كبدي المنصدعة،
لم يزل يخفق قلبي للفصول الأربعة،
لم أزل أؤمن بالإنسان
في وهران([2])
إن المعنى الأولي الذي يوحي به هذا المقطع، بالإضافة إلى روح التضحية والاستشهاد، هو هذا العنصر الجديد المتمثل في القدرة على الانبعاث والتعاقب (لم يزل يخفق قلبي للفصول الأربعة)، وفي توحد الذات المبدعة (الشاعر) بالزمان، إشارة إلى عمق المعاناة والرغبة في التمسك بخيط اللحظة الأبدية، وهو إلى جانب هذا المعنى يكشف إصرار الشاعر وإيمانه بطريق الاستشهاد والتضحية الذي لا يمكن أن يؤدي إلى مسلك آخر غير مسلك الخلود والبقاء([3]).
غير أن الإنسان المعاصر كما يرى عبد الوهاب البياتي قد خان بطولة بروميثيوس لأنه يسعى إلى الطعام أكثر من سعيه إلى الحرية التي منحه إياها هذا البطل. ولو أن بروميثيوس عاد إلى الأرض كما يقول ألبير كاموا (1960-1913) لوقف الناس منه الآن مثلما وقف الأرباب منه بالأمس، سيربطونه إلى الصخرة باسم الإنسانية، مع أنه أقدم رمز لها([4]) وقد تجلت هذه الصورة واضحة عند البياتي حيث ظهر بروميثيوس وقد بلغ حداً من اليأس والبكاء والضعف:

داروا مع الشمس فانهارت عزائهم
وعاد أوّلهم ينعي على الثاني
وسارق النار لم يبرح كعادته
يسابق الريح من حان إلى حان
ولم تزل لعنة الآباء تتبعه
وتحجب الأرض عن مصباحه القاني
ولم تزل في السجون السود رائحة
وفي الملاجئ من تاريخه العاني
مشاعل كلما الطاغوت أطفأها،
عادت تضيء على أشلاء إنسان
عصر البطلات وقد ولّى، وها أنذا 
أعوذ من عالم الموتى بخذلان
وحدي احترقت! أنا وحدي! وكم عبرت
بي الشموس ولم تحفل بأحزاني
إني غفرت لهم
إني رثيت لهم!
إني تركت لهم
يا ربّ أكفاني!([5])

([1]) - محمد جميل شلش: الديوان، دار العودة، بيروت، ط8، 1197، ص102ـ 103.

([2]) - محمد جميل شلش: الديوان، ص103.

([3]) - قال تعالى )ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون( آل عمران: 168.

([4]) - ينظر إحسان عباس: من الذي سرق النار (خطرات في النقد والأدب) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1970، ص112.

([5]) - عبد الوهاب البياتي: الديوان، دار العودة، بيروت، ط3، 1979، ص180ـ 181، من قصيدة (سارق النار).

د ـ أسطورة سيزيف([1]) (رمز الإدانة المطلقة والفشل الأزلي):



إن الوقوف عند هذه الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، وإحصاء القصائد التي وظفت فيها، يُبرز مدى اهتمام الشعراء المعاصرين على اختلاف توجهاتهم وأفكارهم، بهذه الأسطورة التي تكاد تكون سمة مميزة لبعضهم، كما سيتضح بعد قليل.
ترمز أسطورة سيزيف باختصار إلى مجانية العمل الإنساني وضياع الجهد، كما أنها تجسيد للإحسان بالعبث واللاجدوى ((بانعدام التوافق أو الانسجام بين حاجة الذهن إلى الترابط المنطقي، وبين انعدام المنطق في تركيب العالم))([2])، وهو إحساس رافق الإنسان منذ أن استعمل ذهنه وفكره في فلك الألغاز التي تواجهه في هذه الحياة، وقد ازداد هذا الإحساس حدة في العصر الحديث بسبب التغيرات الكبيرة التي طرأت على الواقع الإنساني على صعيد التفكير والتصور مما عمّق هذا الإحساس، أو بالأحرى هذه الرؤية العبثية عند بعض الشعراء.
وإذا كان ألبير كامي وهو من المعجبين بهذه الأسطورة كما يظهر من خلال كتابه (أسطورة سيزيف) ـ الذي نقله إلى العربية الأستاذ أنيس زكي حسن ـ يأخذها بهذا المعنى، دون أن يضيف إليه شيئاً، ليقيم عليه جوهر فلسفته حول نظرته إلى الإنسان والمجتمع، مثله مثل الأدباء العبثيين الذي يؤمنون بانعدام الهدف انعداماً مطلقاً من الحياة. فإن الشاعر العربي المعاصر كان خلافاً لذلك بحكم الرواسب الثابتة المستمدة من الفكر العربي والعقيدة التي ترفض أن تكون الحياة عبثاً ولهواً([3]). غير أن تأثر هذا الشاعر بالشعر الغربي وفلسفاته بحكم الاحتكاك والتأثير والتأثر الحاصل بين الثقافات والحضارات، جعل هذا الإحساس بالعبث واللاجدوى يتفاقم لدى بعض الشعراء الذين عاشروا حالات من التقلب الفكري نتيجة انتماءاتهم المختلفة، أو نتيجة هذا التساؤل المستمر الذي طرحه الفكر البشري عبر أسطورة (سيزيف) وهو يقوم برفع الصخرة من سفح الجبل إلى قمته دون غاية ولا هدف.
يقول صلاح عبد الصبور وهو يطرح السؤال نفسه:
ما غاية الإنسان من أتعابه، ما غاية الحياة؟
يا أيها الإله([4])!
لا يريد صلاح عبد الصبور من طرحه لهذا السؤال الوصول إلى إجابة، بقدر ما يريد التعبير عن رؤية فلسفية تؤكد عبثية الجهد الإنساني المبذول، ما دام هذا الجهد لا ينتهي إلى غاية أو هدف. والواقع أن هذا التساؤل نابع عن تساؤل آخر مفاده أنه إذا كان الإنسان محكوم عليه مسبقاً بالموت والجحيم فلماذا كل هذا الجهد والتعب؟ وهو سؤال طرحه من قبل أبو العلاء المعري بشيء من التهكم والسخرية. ويزداد هذا الإحساس بالعبث ومجانية التجربة الإنسانية حين يقول:
أموت لا يعرفني أحد
أموت لا يبكي أحد
وقد يقال، بين صحبى، في مجامع المسامرة
مجلسه كان هنا، وقد عبر
فيمن عبر...
يرحمه الله...([5])
لقد تمكنت هذه الرؤيا، وهي في جوهرها رؤيا سيزيفية كما أسلفنا، من نفسية صلاح عبد الصبور فطبعت العديد من قصائده وبالخصوص تلك التي كتبها حين استشعر موت الإنسان الإنسان، فأدى به هذا الشعور إلى التسليم بأن هذا الكون موبوء، لا يصلحه شيء([6])، والأرض فيه بغي طامث([7]) أيامه مريضة([8])، دنياه عجوز عقيم([9])، وعالمه يموج بالتخليط والقمامة([10])، وبأن إنسان هذا العصر إنسان أجوف مزيف، غير أصيل:

يا صاحبي!...
ما نحن إلا نفضة رعناء من ريح سموم
أو منية حمقاء
والشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم([11])
أما:
الإنسان الإنسان عبر
من أعوام
ومضى لم يعرفه البشر
حفر الحصباء، ونام
وتغطى بالآلام...([12])
   هكذا استطاع صلاح عبد الصبور أن يحوّل مضمون الأسطورة اليونانية إلى رؤيا شعرية وفلسفية مكنته من الغوص في غور حياتنا المعاصرة ليجلي سمتها البراق وجوهرها المزيف، ومن ثم فلا غرو أن يكون سيزيف هو البطل الذي يطل من هذه المقاطع الشعرية معبراً عن وحدة الشعور الإنساني حين ينتابه السأم والملل.

هـ ـ ألف ليلة وليلة:

  إن الحديث عن أثر الليالي في الآداب الحديثة، حديث يطول وليس بوسعنا أن نخوض فيه الآن، فقد أفردت لـه دراسات خاصة، و((يكفي أن نعرف أن الليالي طبعت أكثر من ثلاثين مرة مختلفة في فرنسا وإنجلترا في القرن الثامن عشر وحده، وأنها نشرت نحو ثلاثمائة مرة في لغات أوربا الغربية منذ ذلك الحين تتصور إلى أي حد تغلغل هذا الأثر في نفوس هؤلاء القراء، وخاصة الأدباء 

([1]) - تروي الأسطورة أ، الآلهة حكمت على سيزيف، لإفشائه سر زوس الذي خطف ريجينا لأبيها، بالأعمال الشاقة وحمل الصخرة إلى رأس الجبل ليلقي بها إلى السفح، فيعود لحملها ثانية، وهكذا إلى ما لا نهاية لـه. حول هذه الأسطورة ينظر: ماكس شابيرو: معجم الأساطير ترجمة حنا عبود، 
ص229.

([2]) - جون كروكشاتك: ألبير كامي وأدب التمرد، ترجمة جلال العنتري، دار الوطن العربي، دون تاريخ، ص58.

([3]) - قال تعالى ///

([4]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، دار العودة، بيروت، ط4، 1983، ص30.

([5]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، ص194ـ 195.

([6]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، ص267.

([7]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، ص297.

([8]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، ص334.

([9]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، ص137.

([10]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، ص246.

([11]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، ص38.

([12]) - صلاح عبد الصبور: الديوان، ص269.

منهم))([1]) الذين حملوا شخصيات الليالي، وبخاصة شهرزاد، الكثير من القضايا الرومانتيكية كتقديس الذات وتأكيد الشخصية وإيثار الحرية وترجيح العاطفة على العقل في الاهتداء إلى الحقائق، والسخرية بالملوك إذ إن ((شهرزاد قد هدت الملك إلى إنسانيته، وردته عن غريزته الوحشية، لا بوساطة المنطق، بل العاطفة، فصارت رمزاً للحقيقة التي يعرفها المرء عن طريق هذا الشعور والحب، وبهذا المعنى الأخير انتقلت "شهرزاد" إلينا في أدبنا المعاصر بفضل تأثير الآداب الأوروبية))([2]).

   وقد تجاوز هذا التأثير المجال الأدبي إلى الفنون الأخرى كالسينما والموسيقى والرسم، وذلك لما في الليالي من مادة غزيرة ومتعة فنية لا تُضاهى، فهي تجمع بين النثر والشعر، وبين العامية والفصحى، وبين سهولة الحديث وعمق الفكرة، فهي تغذي الروح والخيال وتخاطب العقل والعاطفة.

و ـ أسطورة السندباد([3]) (البحث والتجلي):

إذا كان الغربيون قد اهتموا كثيراً بشهرزاد وأولوها العناية الكاملة لأسباب معينة كما سوف يتضح في الصفحات القادمة من هذا البحث، فإن الشعراء العرب قد ركزوا اهتمامهم على السندباد بوصفه رمزاً من رموز مورثنا الشعبي، ونموذجاً عربياً جسّد من خلاله الإنسان طموحاته ورغباته، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا مع علي عشري زايد([4])، إنه من بين الرموز والشخصيات الأكثر استحواذاً على اهتمام شعرائنا، فما من ديوان نفتحه من دواوين هؤلاء إلا ويطالعنا وجه السندباد من خلال قصيدة أو أكثر وما من شاعر إلا وقد اعتبر نفسه سندباد في مرحلة من مراحل تجربته الشعرية.
والسندباد كما تصوره ألف ليلة وليلة هو ذلك البطل الأسطوري المغامر
الذي لا يهدأ لـه بال، لا يكاد ينتهي من رحلة حتى يشرع في أخرى، لذا فهو يمتاز عن غيره من الأبطال برحلاته الطويلة عبر البحار والجزر، وارتياده آفاقاً غريبة وعوالم مجهولة تقول عنها المرويات الشعبية الجزائرية "إلي رايح إليها مفقود ولي راجع منها مولود" ([5]). وعلى الرغم من تلك الأخطار والمخاوف المهلكة التي كانت تسد طريقه وتدفع به إلى الموت بالغرق أو الاختطاف والأسر في الجزر النائية، فإنه كان يعود دائماً من رحلاته ظافراً منتصراً محملاً بالأموال والكنوز العجيبة. 
في الليلة الثامنة والخمسين بعد الخمسمائة من ليالي ألف ليلة وليلة يبدأ السندباد البحري في سرد أولى سفراته على السندباد الحمال وجلسائه، مبتدئاً من حيث النهاية "إني ما وصلت إلى هذه السعادة وهذا المكان إلا بعد تعب شديد ومشقة عظيمة وأهوال كثيرة، وكم قاسيت في الزمن الأول من التعب والنصب، وقد سافرت سبع سفرات وكل سفرة لها حكاية تحير الفكر، وكل ذلك بالقضاء والقدر وليس من المكتوب مفر ولا مهرب" ([6]). ثم يبدأ من جديد في قص حكاياته: "اعلموا يا سادة يا كرام أنه كان لي أب تاجر وكان من أكابر الناس والتجار، وكان عنده مال كثير ونوال جزيل. وقد مات وأنا ولد صغير.." ([7])، لينتهي منها في الليلة الواحدة بعد الستمائة قائلاً: "..... ثم دخلت حارتي وجئت داري وقابلت أهلي وأصحابي وأحبائي، وخزنت جميع ما كان معي من البضائع وخواصلي، وقد حسب أهلي مدة غيابي عنهم في السفرة السابعة فوجدوها سبعاً وعشرين سنة، حتى قطعوا الرجاء مني، فلما جئتم وأخبرتهم بجميع ما كان من أمري وما جرى لي صاروا كلهم يتعجبون من ذلك الأمر عجباً كبيراً وهنؤني بالسلامة، ثم إني تبت إلى الله تعالى عن السفر في البر والبحر بعد هذه السفرة السابعة التي هي غاية السفرات وقاطعة الشهوات، وشكرت الله سبحانه وتعالى وحمدته وأثنيت عليه حيث أعادني إلى أهلي وبلادي وأوطاني..." ([8]) 

كان الدافع واضحاً وراء رحلات السندباد: التجارة والمغامرة والفضول، يؤكد ذلك قوله: "فاشتاقت نفسي إلى الفرجة في البلاد وإلى ركوب البحر وعشرة التجارة وسماع الأخبار" ([9]) بالإضافة إلى الطمع الذي تؤكده الحكاية نفسها في قوله: "وهذا الذي أقاسيه من طمعي" ([10])، فالسندباد من حيث هذه الدوافع وغيرها رمز لقلق الإنسان وطموحه اللامتناهي إلى الحرية والانسلاخ من القيود، والرغبة في الكشف عن المجهول والغامض بالمغامرة وركوب الخطر وتخطى الصعاب، وتجاوز المكرور السائد. 

([1]) - سهير القلماوي: ألف ليلة وليلة، دار المعارف، مصر 1966، ص75.

([2]) - محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، دار العودة، بيروت 1983، ص222.

([3]) - تعدُّ هذه الشخصية من أكثر شخصيات ألف ليلة وليلة تأثيراً على الأدب الغربي والعربي، فقد أوحت إلى كتاب الرحلات أن يؤلّفوا حولها كتباً قيّمة، كالذي نراه في (روبنسون كروزو) و(رحلات جاليفر) وهما كتابان صادفا نجاحاً كبيراً. ومن الذين تأثروا بهذه الشخصية أيضاً (جون فرن) و(هربرت جورج ويلز). أما العرب فلم يهتموا بها إلا بعد مضي أكثر من قرنين من اهتمام الغرب بها. ويعد الشاعر المصري صلاح عبد الصبور من بين الشعراء المعاصرين الأوائل، اكتشافاً لرمز السندباد.

([4]) - ينظر كتابه: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص156.

([5])- من المستبعد أن يكون رواة التراث الشعبي الجزائري قد اقتبسوا هذه العبارة من ألف ليلة وليلة، وبالخصوص إذا علمنا أن هذه الأخيرة قد تركت آثاراً واضحة على القصة الشعبية الجزائرية. تقول روزلين ليلى قريش في هذا الصدد: "ولم يقتصر تأثير كتاب "ألف ليلة وليلة" في الأوساط الشعبية الجزائرية، على رواج قصص مقتبسة منه.. بل يتعدى إلى التحوير المحلي نفسه الذي يخلق قصصاً بأسلوب مصطبغ بصفة "ألف ليلة وليلة" القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر 1980 ص 190 . 

([6])-ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت 3 /399 

([7])-ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت 3 /399

([8])-ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت 4 /23

([9]) -ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت 4 /14

([10]) -ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت 4 /16

هذه الأشياء كلها استهوت الشاعر العربي المعاصر، فكان توظيفه لهذا الرمز المتعدد الدلالات والقيم، مسلكاً إلى تجاوز الواقع العربي المهزوم، واستشرافاً إلى عوالم أكثر رحابة تمكنه من تحقيق ذاته الفردية والجماعية، لأن دلالة السندباد من الناحية الرمزية ذات بعدين، بعد فردي يجلي من خلاله فرادته الشخصية، وبعد جماعي تتفرع قيمته في حقل التجربة الإنسانية التي تتمثل في رحابة حضورها عبر الزمان والمكان، وهذا ما أدى بعز الدين إسماعيل إلى تأكيد هذه الثنائية، فهي في نظره "عادية على المستوى الجمعي للإنسان، لأن قصة الإنسانية إجمالاً هي قصة المغامرة في سبيل كشف المجهول، وهي غير عادية على المستوى الفردي، لأننا ألفنا الفرد الذي تتلخص فيه التجربة الإنسانية نادراً" ([1])، ولهذه الأسباب نجد هذه الأسطورة تفجر لدى المتلقي حقولاً دلالية متعددة وتجليات لا نهائية، وهذا ما جعل الشاعر العربي المعاصر يتماهى بها إبداعياً، متخذاً منها رمزاً لتجسيد رؤيته والتعبير عن جوانب تجربته التي تعد مغامرة مستمرة في سبيل الكشف وارتياد المجهول بحثاً عن كنوز الشعر طوراً، والانبعاث من التخلف والتقليد طوراً آخر. 

وتبعاً لتعدد ملامح السندباد ووجوهه في الشعر المعاصر فقد اتخذ دلالات عدة فنية وحضارية وذاتية، كما سيتضح عند عبد الصبور وخليل حاوي وبدر شاكر السياب. 

-صلاح عبد الصبور (البحث عن كنوز الشعر والمعرفة): 
يعد صلاح عبد الصبور من الشعراء الرواد الدين أسهموا في تأصيل هذا التوظيف برؤيا معاصرة تتواشج فيها جملة من العلائق الحكائية التي تنم عن تداخل عدة نصوص بطريقة فنية وسليمة، وهي تؤدي تعدداً دلالياً يتراوح حضوره بين حقلي الشعر والمسرح الشعري. ومن ثم يمكن القول إن توظيف صلاح عبد الصبور لأسطورة السندباد لم يتم عبر صيغ ميكانيكية إسقاطية جاهزة، بقدر ما تم عبر إبداع لغة حكائية معاصرة تتمفصل مع دلالة 
السندباد. 
ففي قصيدته (رحلة في الليل) ([2]) من ديوانه الأول (الناس في بلادي)، يتجلى اهتمامه المبكر بهذا الرمز، حيث جعله البؤرة الأساسية التي تحكم جميع خيوط القصيدة سواء من حيث الدلالة أو البناء الفني، فمن حيث الدلالة نجد السندباد هو البديل الموضوعي لصديقة الشاعر وإن جاء في المستوى الثاني من مستويات الخطاب. تبدأ القصيدة بهذا العنوان الفرعي (بحر الحداد) وكلمة (بحر) كما هو معروف في حكاية السندباد، من السمات الجوهرية الدالية عليه لذا قرن الراوي اسمه بالبحر فقال (السندباد البحري)، فالسندباد والبحر تيمتان متلازمتان لا يمكن الفصل بينهما، إن لم نقل أن البحر (الماء) هو عنصر التزامن الذي يمكن أن نقرأ هذه الأسطورة على أساسه، لأنه السياق المؤدي إلى تشاكل عناصرها وتكوين بنيتها الموحدة، فالبحر هو المجال الذي كان سندباد يصنع من خلاله مغامراته ويحقق رغباته وأحلامه. 
إذا كان بحر السندباد مصدراً للغنى والجواهر والكنوز، فإن بحر صلاح عبد الصبور، كما يوحي بذلك العنوان، عكس ذلك تماماً، فهو بحر الحداد والعدم والظلمة والضياع، مات فيه الرخ، سبيل النجاة والخلاص وتقطعت فيه السبل. 
بهذه المفارقة، ومن داخل أسطورة السندباد نفسها يبدأ صلاح عبد الصبور ينسج خيوط أسطورة جديدة منسجمة مع تجربته وآفاق تطلعاته إلى غد تولد فيه نفسه من جديد.
تتشكل القصيدة من ستة مقاطع تفصل بينها عناوين فرعية، لكنها تصب جميعاً في منبع واحد لتصنع دفق القصيدة ومشهدها العام، ففي المقطع الرابع تحت عنوان (السندباد) يقول صلاح عبد الصبور: 
في آخر المساء يمتلي الوساد بالورق 
كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط 
وينضح الجبين بالعرق 
ويلتوي الدخان أخطبوط 
في آخر المساء عاد السندباد
ليرسي السفين 
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم 
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم 
السندباد: 
(لا تحك للرفيق عن مخاطر الطريق) ([3])
(إن قلت للصاحي انتشيت قال: كيف؟) 
(السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت) 
الندامى: 
هذا محال سندباد أن نجوب في البلاد 
إنا هنا نضاجع النساء 
ونغرس الكروم 
ونعصر النبيذ للشتاء 
ونقرأ (الكتاب) في الصباح والمساء 
وحينما تعود نعدو نحو مجلس الندم 
تحكى لنا حكاية الضياع في بحر العدم ([4])

([1]) -ينظر: عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر ص 203

([2]) -صلاح عبد الصبور: الديوان ص7

([3]) -يذكرنا هذا الكلام بالمثل العربي القديم (الرفيق قبل الطريق) مما يدل على تشبع الشاعر بالتراث. 

([4]) -صلاح عبد الصبور: الديوان ص 10 -11

سندباد هذا المقطع الشعري غير سندباد الأسطورة أو ألف ليلة وليلة، لأنه لم يعد ذاك البطل المغامر الذي تحركه الأشواق إلى ركوب البحر وتخطي الصعاب، فهو هنا شخصية عادية تروى للندامى حكاية السندباد البحري ومغامراته لعلها تحرك فيهم رغبة التمرد والانعتاق من القيود. لكن هيهات أن يخرج هؤلاء ويجوبوا البلاد مثلما فعل السندباد، إنهم هنا يضاجعون النساء ويعصرون النبيذ ويستمتعون بالحكايات. لم يعد السندباد قادراً على بعثهم من جديد أو حتى تحريك عواطفهم وانفعالاتهم، وفي ذلك إشارة من الشاعر إلى الواقع المهزوم الذي آثر الاستقرار وألف الثبات، واكتفى أفراده بالسماع عن الأبطال والشخصيات دون محاكاتهم أو التأثر بهم. 

وإذا كانت هذه هي حال المجتمع العربي المعاصر الرافض للتغيير والانبعاث فإن حال الشاعر غير ذلك لأنه ينشد الميلاد والتجدد اللذين كان يطلبهما السندباد في كل سفرة من سفراته: 

في الفجر يا صديقتي تولد نفسي من جديد 
كل صباح أحتفي بعيدها السعيد 
ما زلت حياً! فرحتي! ما زلت والكلام والسباب 
والسعال 
وشاطئ البحار ما يزال يقذف الأصداف واللآل 
والسحب ما تزال 
تسح، والمخاض يلجئ النساء للوساد ([1])
   ولو عدنا مرة ثانية إلى قصيدة (رحلة في الليل) وتأملنا قليلاً مقطعها الرابع (السندباد) لرأينا أنها تتكون من ثلاث حركات من حيث الأسلوب المعتمد في توظيف هذا الرمز أو الشخصية، ففي الحركة الأولى تحدث عنها بضمير الغائب، وفي الثانية بضمير المتكلم، وفي الثالثة بضمير المخاطب وفي "الأحوال الثلاثة كان السندباد موجوداً، أي أن الشاعر خلق الشخصية وحملها تجربته المعاصرة في الحركة الأولى، وحين استوت على سوقها تلبس بها كقناع في الحركة الثانية فأصبح هو هي، وبعد أن تقنع بها حاول إغراء الجماعة أن تصنع صنيعه فلم تستجب لدعواه" ([2]). ويمكن إدراج هذا الأسلوب ضمن أساليب (الالتفات) ([3]) المعروفة في البلاغة العربية القديمة بشيء من التوسع. 
إن اهتمام صلاح الصبور بأسطورة السندباد وغيرها من كنوز التراث الشعبي المحلي والعالمي في هذه المرحلة المبكرة من إنتاجه الشعري دليل واضح على تقييمه لهذا التراث وما يحمله من قيم جمالية ومعاني سامية بإمكانها إغناء القصيدة وتفجير طاقات المبدع وعبقريته الفنية. 
لقد وجد صلاح عبد الصبور في أسطورة السندباد التي اتخذ منها قناعاً ومجالاً رحباً لبسط أفكاره وتأملاته الفلسفية على مدى تطور مراحل حياته الشعرية التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل؛ كان السندباد في كل واحدة منها يظهر بوجه معين وصورة مخالفة لما ألفناه من قبل. 
تبدأ المرحلة الأولى بديوانه الأول (الناس في بلادي): يتجلى السندباد في رحلة لاهثة وراء كنوز المعرفة، ورغبة جامحة في امتلاك ينبوع القول وناصية العطاء الشعري، إنها رحلة الشاعر نفسه في سبيل الإبداع والبحث عن الكلمات والحروف، فهو يرحل كما رحل السندباد رغبة في الكشف عن عوالم شعرية أخرى، تمكنه من الانفلات من قبضة التقليد وإعادة ما أبدعه القدماء، صانعاً سفينته (أوراقه وخطاطاته) ناشراً قلاعه (خياله)، راحلاً عبر المجهول (عوالم الفن والفكر)، باحثاً عن الثروة والجواهر (الحقيقية). 
صنعت مركباً من الدخان والمداد والورق 
ربانها أمهر من قاد سفينا في خضم 
وفوق قمة السفين يخفق العلم 
وجه حبيبي خيمة من نور 
وجه حبيبي بيرقي المنشور 
جبت الليالي باحثاً في جوفها عن لؤلؤه 
وعدت في الجراب بضعة من المحار 
وكومة من الحصى، وقبضة من الجمار 
وما وجدت اللؤلؤه 
سيدتي، إليك قلبي، واغفري لي، أبيض كاللؤلؤة 
وطيب كاللؤلؤة 
ولامع كاللؤلؤة 
هدية الفقير 
وقد ترينه يزين عشك الصغير ([4])

([1])-صلاح عبد الصبور: الديوان ص 12

([2])-مختار علي أبو غالي: سندباد صلاح عبد الصبور (نقد أسطوري) مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 24 العدد 4 أفريل /يونيو 1996

([3])-الالتفات كما يعرفه ابن المعتز (هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر" كتاب البديع، تحقيق إغناطيوس كراتشقوفسكي، دار المسيرة بيروت ط3 1982 ص 58

([4]) -صلاح عبد الصبور: الديوان ص 68 -69

  نلاحظ في هذا المقطع مزجاً واضحاً وتداخلاً نصياً بارزاً بين عناصر الرحلة عند كل من الشاعر والسندباد، يكشف عنها السطر الأول حين يذكر الشاعر الدخان والمداد والورق، بجانب السفين والربان. ولعل أول ملاحظة تستوقف قارئ هذا المقطع هو عزوف صلاح عبد الصبور عن ذكر شخصية السندباد صراحة، واكتفاؤه بالتلميح، وهو ما نجده أيضاً في قصيدته (أناشيد غرام)، وتعد هذه الطريقة من الأساليب الفنية التي اعتمد عليها الشاعر في توظيف الشخصيات التراثية، فهو لا يصرح بالأساطير والشخصيات والأحداث وإنما يومئ إليها خفية مستعملاً الألفاظ والكلمات التي ترمز إليها، فكلمة (مركب، سفين، خضم، ليالي، لؤلؤ، محار..) تحمل من الدلالة ما يكفي للكشف عن هذه الشخصية الأسطورية المخبوءة. 

  من الملامح الأسطورية الأخرى في هذا المقطع (التكرار) و(العطف) اللذان يعدان من أبرز عناصر الصياغة في التراث الشعبي عموماً. فعبارة (وجه حبيبتي) تكررت مرتين ولفظة (اللؤلؤة) خمس مرات، إلى جانب عطف الجمل إلى بعضها البعض، مما يعمق الإحساس لدى القارئ بالعودة إلى ينابيع اللغة في نسجها الأسطوري. 

إذا كان السندباد قد عاد من رحلته محملاً بالجواهر واللؤلؤ، فإن الشاعر قد ظل غارقاً في لياليه يبحث عن الكلمات يقدمها لؤلؤا لحبيبته معتذراً لها عن ذلك لأنه لا يملك إلا إياها، إنها هدية الشعراء لمن يحبون ويعشقون. 
 قصارى القول إن رحلة صلاح عبد الصبور هي رمز لرحلة الشاعر في سبيل المعرفة والإبداع.. رحلة البحث عن الحرف المضيء والكلمة النابضة بالحياة، الانتقال من عوالم البحار إلى عوالم الشعر والإبداع.. رحلة يقوم بها الشاعر وهو على يقين بأنها ضرورة حياتية لا يمكن الاستغناء عنها: 
السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت ([1]) 
  ذلك هو قدر الشاعر العظيم، وتلك هي طبيعته الجامحة في البحث المستمر عن الحرف، والرحلة الدائمة من أجل اختراق الواقع وتجاوزه وهدم اللحظة الراكدة. 
أما في المرحلة الثانية فإننا نصادف وجهاً آخر للسندباد غير الوجه الذي عرفناه به في المرحلة الأولى من حياة الشاعر. إنه السندباد المهزوم الضعيف الذي تبددت مغامراته، وانتهت طموحاته وآماله واستكان في القاع باكياً. 
ملاحنا هوى إلى قاع السفين، واستكان 
وجاش بالبكا بلا دمع.. بلا لسان 
ملاحنا مات قبيل الموت، حين ودع الأصحاب 
... والأحباب والزمان والمكان ([2])
هكذا عاش السندباد في صورته الثانية عبر قصائد صلاح عبد الصبور رمزاً للإنسان المقهور، المهزوم حضارياً ومصيرياً، كارهاً خائفاً يرتجف رعباً، لأنه يحيا –كما يذكر الشاعر في القصيدة نفسها –في زمن الحق الضائع والسأم الجاثم: 
هذا زمان السأم 
نفخ الأراجيل سأم 
..... 
هذا زمن الحق الضائع 
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله 
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس 
فتحسس رأسك 
فتحسس رأسك 
يعلق أنس داود على هذا الانعطاف في حياة السندباد (الإنسان المعاصر) قائلاً: "ولعل الهرب من محنة الاستشهاد، هي المأساة الحقيقية لسندباد عصرنا، لكل مفكر وفنان، لأنه يريد أن يعيش في سلام شخصي" دون أن يريق قطرة من دم" فلا تكون النتيجة سوى أن يموت دون أن يصارع التيار" ([3]). وإذا كانت هذه هي محنة الإنسان المعاصر الرافض للاستشهاد، كما يصورها صلاح عبد الصبور في قصيدته (الظل والصليب) في ديوانه الثاني، فلا غرابة في أن تزول فكرة البطولة من ذهنه وتنتهي المغامرة ويموت السندباد وتتلاشى ملامحه على غير ما عهدنا في ديوانه الأول. 
يا شيخنا الملاح.. 
..قلبك الجريء كان ثباتاً فما لـه استطير؟ 
أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد.. 
ثم قال: 
-هذي جبال الملح والقصدير 
فكل مركب تجيئها تدور 
تحطمها الصخور 
.............. 
ملاح هذا العصر سيد البحار 
لأنه يعيش دون أن يريق نقطة من دم 
لأنه يموت قبل أن يصارع التيار ([4])

([1]) -صلاح عبد الصبور: الديوان ص 11

([2]) -صلاح عبد الصبور: الديوان ص 152

([3]) -أنس داود: الأسطورة في الشعر العربي الحديث، مكتبة عين شمس ص 319

([4]) -صلاح عبد الصبور: الديوان دار العودة بيروت ط4 1983 ص –152 –153

  إن روح الهزيمة والانكسار اللتين ركز عليهما الشاعر ليست من سمات سندباد ألف ليلة وليلة، وإنما هي من سمات الإنسان العربي المعاصر الممزق بين الحضارات، فاقداً بطولته ونخوته وطموحه. 

   هذه الصورة ذاتها نجدها عند عبد الوهاب البياتي مع اختلاف جوهري مؤداه أن موت السندباد عند صلاح عبد الصبور وانهزامه سببه ضياع الحق والسأم الذي أصاب إنسان هذا العصر من جراء هموم الحياة ومشاكلها. في حين نجد أن خيبة أمل سندباد البياتي وانهزامه –ويندرج ضمن هذا التصور كافة الشخصيات الأسطورية كبروميثوس وسيزيف –يعودان إلى المراحل الأولى من حياة الإنسان حين ارتكابه أول خطيئة، وممارسة العقاب عليه كنتيجة لتمرده عليها وعدم الاستسلام لأوامرها، ومن ثم فلا وجود لشيء اسمه البطولة أو القيادة عند البياتي، وإنما هناك عقاب مصيري محتوم لا مفر منه إلا بالرجوع إلى الآلهة والدخول معها في صلح دائم. 

   يأتي ديوان (الإبحار في الذاكرة) أو الانكفاء على الذات ليرسم نقطة تحول كبير في مسار حياته الفكرية والأدبية، أدرك من خلا لـه أن الرحلة عبر العالم الخارجي طريقها مسدود ونفقها مظلم لا ينتهي إلى شيء سوى الضياع والتيه. 
وأن التجربة تحتم عليه أن يبدأ الرحلة من جديد عبر عالمه الداخلي ليسبر أغوار ذاته ويعرف نفسه بنفسه، تلك المقولة التي نطق بها سقراط منذ آلاف السنين فجعلها خلاصة فلسفته ونهاية مقصده، واتخذها المتصوفة مسلكاً لبلوغ أعلى مراتب السالكين ومدارج العارفين. 
   الواقع أن صلاح عبد الصبور قد اهتدى إلى هذه التجربة أو المرحلة بعد أن مر بتجارب عدة أكسبته معرفة واسعة بأمور الأنظمة السياسية والاجتماعية التي لم تشبع رغبته في التطلع إلى عالم الروح وعالم الإنسان كإنسان لـه مركز ووجود في هذه الحياة "لقد فتشت عن معبود آخر غير المجتمع، فاهتديت إلى الإنسان، وقادتني فكرة الإنسان بشمولها الزمني والمكاني إلى التفكير من جديد في الدين" ([1]) وبعد بحث شاق وعناء طويل تم الانتقال من الخارج إلى الداخل.. من المجتمع إلى الإنسان.. ومن الإنسان إلى الله. 
  ومن نتاج هذا الانتقال تلك الصورة التي قدمها صلاح عبد الصبور عن بطله الأسطوري السندباد وهو يتحول عن الرحلة في الخارج إلى الرحلة في الداخل باحثاً عن الأمن والاستقرار اللذين طالما بحث عنهما في أعماق البحار وقمم الجبال. وتأتي قصيدة (الإبحار في الذاكرة) لترسم ملامح هذا التحول المفاجئ في حياة السندباد وصلاح عبد الصبور على حد السواء . 
   أول شيء يمكن ملاحظته على هذه القصيدة هو عدم الإشارة إلى السندباد بشكل مباشر وصريح وهذه من تقنيات صلاح عبد الصبور في توظيف التراث الشعبي كما سبق وأن أشرنا، والاكتفاء بالإشارة إلى الرحلة والبحر والملاحين والعقبان وبعض القرابين، مستبعداً سيميوطيقات أخرى ليست في رأيه مهمة أو ملهمة، وكأن صلاحاً يريد أن يستحضر السندباد الرمز ويغيب السندباد الأسطورة والمقولة، وهذه من التقنيات الفنية التي انتهى جيمس جويس في روايته الشهيرة (عوليس) واستفاد منه فيما بعد إليوت في (لأرض الخراب). 
الإبحار في الذاكرة شكل من أشكال الرفض للواقع ومحاولة للانسحاب منه، ذلك أن الذاكرة عالم يختلف عن عالم الواقع، وإن كان متشكلاً من عناصره ومواده، والرجوع إليه قد يوفر شيئاً من الإحساس بالاستقرار والخلاص من عالم يموج بالمفاسد والتناقضات. 
أتأهب للميعاد –الرحلة –في آخر كل مساء 
أتقرى أورادي، أتزيا شاراتي 
في أهداب الغيم، أنشر أشرعتي 
أتلقى في صفحتها نذر الريح، نبوءات الأنباء 
البحارة يصطخبون 
الملاحون.. الفئران.. التذكارات.. المحبوسون 
في أوردة المركب يضطربون 
وأخوض رماد الآفاق 
إلى جزر المعلوم المجهول الدكناء 
يتكشف تحتي مرج الموج، وتمضى بي الريح رخاء ([2])
هذا المشهد المشحون بالحركة العارمة التي يمثلها الملاحون بمراكبهم

([1]) -صلاح عبد الصبور: حياتي في الشعر دار اقرأ بيروت 1992 ص 81

([2]) -صلاح عبد الصبور: الإبحار في الذاكرة، الوطن العربي للنشر والتوزيع ط1 1979 -65

والأمواج المصطخبة، لا يتم خارج الذات، بل في داخلها، أو لنقل إنها صورة من صور صراع النفس مع الخارج وهي تعمل جاهدة لتخليص نفسها من قبضته.. إنه التأهب للميعاد والاستعداد للرحلة في أعماق النفس والذكريات حيث المعلوم والمجهول.. إنه الخلاص بالعودة إلى الذات والإبحار في أغوارها وأعماقها، هذا الإبحار الذي أوجد حالة من الاستقرار عبر عنها السطر الأخير (وتمضى الريح رخاء)، وقريب من هذا ما جاء في قصيدته تجريدات: 

حال قد كنت رقيت إليها أمس 

لا تأتيني اليوم 
هي حال أعطتني نعمى النوم 
ويقين الصحو ([1])
إن السفر في أعماق الذات أشبه ما يكون بحال المتصوف، فهو كالبرق يلمع ويختفي، ولا ندري متى يأتي ومتى يذهب. وصلاح عبد الصبور يدرك أن هذه حالات نفسية غامضة لا يمكن القبض عليها، فمجيئها مشروط بظروف معينة (لا تأتي اليوم) لكن عند قدومها فهي تبعده عن موطن المأساة وتعطيه كما قال (نعمى النوم) و(يقين الصحو) وهما حالتان تنمان عن الشعور بالاستقرار والأمن، ولو أنه شعور آني، لكنه يوفر بعض الراحة، ويعطي الذات قوة المجاهدة والارتقاء نحو اليقين. 
  هكذا استطاع صلاح عبد الصبور أن يقدم في قصيدته (الإبحار في الذاكرة) ومن قبلها قصيدة (الخروج) قناعه الأسطوري السندباد وهو يتحول عن الرحلة في الخارج إلى الرحلة في الداخل؛ وقد تزود بالمعارف الصوفية ما يؤهله للفوز بعالمه المنشود (المدينة المنيرة) ([2]) الذي طالما كان يحلم به وهو طفل صغير. وإن كان في قرارة نفسه يساوره في رحيله بعض الشك في وجود هذا العالم المنشود أو المرفأ الآمن: 
هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل 
أم أنت حق؟ 
أم أنت حق؟ ([3])
   والسندباد من هذه الناحية هو الوجه الآخر لصورة الحلاج وبشر الحافي اللذين كانا يساورهما بعض الشك في حياتهما، بحثاً عن الحقيقة واليقين، وقد لا نخطئ إن قلنا أن صلاح عبد الصبور أراد من خلال توظيفه لهذه الشخصيات، كأقنعة بارزة في شعره، أن يعبر، أولاً، عن الفلسفة في الحياة ورؤيته للأشياء، وثانياً، عن شخصيته التي تشبه في بعض وجوهها شخصية هؤلاء وبالخصوص فيما يتعلق بالبحث الدائب عن الحقيقة. بل إن حياة الشاعر نفسها تشير إلى أنه عاش ممزقاً ومصدوماً وجودياً وحضارياً ([4])، أضف إلى ذلك أن التجربة الروحية (الصوفية) التي انتهى إليها في أواخر حياته، كان لديه شبيهة بالرحلة أو السفر المضني المليء بالمفاجآت والمخاوف. 
والمتتبع لفكرة الرحلة عند هذا الشاعر يلاحظ أنها من أساسيات تكوين تجربته وفلسفته في الحياة، فهي ترتبط حيناً بتجربته الشعرية وحيناً تتجاوزها إلى معنى أشمل هو التجربة الروحية، أو ترتبط بأبعاد وجودية ومصيرية، وهي في كل الأحوال تنم عن نفس تواقة، منجذبة نحو آفاق مجهولة. 
الكتابة الشعرية عند صلاح عبد الصبور مغامرة ورحلة مضنية في طريق قلق، محفوف بالمزالق والمخاطر لأنه أشبه بطريق الصوفي الباحث عن الجوهر والطهر في ركام المفاسد والشرور. 
يقول صلاح عبد الصبور في هذا المعنى "وقد ظل معنى الرحلة ينمو في نفسي، منذ ذلك الحين، ويكتسب أبعاداً جديدة من المفارقة والنصب، والولاء فيها للشعر، والرحلة تبدأ بعد التأهب الساكن لزورة الشعر التي لا تجيء، فيخرج إليه الشاعر طالباً عطاءه، بعد أن ينزع عن نفسه كل شارات الحياة متجرداً كتجرد الحاج إلى قدس الأقداس" ([5]). هكذا تبدو رحلة الشاعر العظيم في نظره، فهي لا تتم إلا بعد جملة من الشروط منها: التأهب والخروج والتجرد وترك شارات الحياة. 

([1]) -صلاح عبد الصبور: الإبحار في الذاكرة ص 102

([2])-صلاح عبد الصبور: الديوان ص 237

([3])-صلاح عبد الصبور: الديوان ص 237

([4])- ينظر أحمد يوسف: تجليات القلق في شعر صلاح عبد الصبور (مخطوط) رسالة ماجستير نوقشت بمعهد اللغة والأدب العربي جامعة وهران 1989 ص 80 (صدمة الوجود)، 153 (صدمة الحضارة) 

([5])-صلاح عبد الصبور: حياتي في الشعر دار اقرأ بيروت 1992 ص 17

وهي من هذه الناحية تشبه رحلة المتصوف التي لا تتم هي الأخرى إلا بعد شوط واجتياز العقبات. ([1]). 

وما دام الإنسان يعيش في انكسار وقهر دائمين: 

ولننكسر في كل يوم مرتين 
فمرة حين نقابل الضياء 
ومرة حين تذوب الشمس في الغروب ([2])
فلا خلاص لـه من هذا القهر والانكسار إلا بالارتحال والمغامرة وتأهب للسفر الطويل. 
-خليل حاوي (البحث عن الذات الحضارية): 
كان خليل حاوي من أشد الشعراء توظيفاً لشخصية السندباد، وذلك لما وجد فيها من قيم ورموز صالحة للتعبير عن شتى أبعاد تجربته الروحية والشعرية وبالخصوص في تلك الفترة الحاسمة من فترات تطوره الفكري، وهي فترة البحث عن الذات عبر مجموعة من المغامرات الوجودية. ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا إن مغامرة الشاعر الفنية –عبر دواوينه الثلاثة الأولى –كانت تحمل طابع مغامرات السندباد، وتتقمص شخصيته، وأن شعره كان رحلة متواصلة من أجل المعرفة والكشف عن ماهية الوجود من جهة، وبحثاً دائماً عن مصادر الانبعاث والتحرر من قبضة التخلف والانحطاط من جهة ثانية. 
إن ما كتبه الشاعر عن هذه الشخصية التي رافقته على امتداد مرحلة كاملة من مراحل تطوره الإبداعي، وبسطت ظلالها على رؤياه الشعرية، يعد من أنجح النماذج وأكثرها نضجاً واكتمالاً من الوجهة الفنية، وذلك راجع في رأينا لعدة أسباب نذكر منها: 
1- نجاح الشاعر في تحقيق الامتزاج في عملية البناء والتعبير بين ما هو تراثي وما هو معاصر. 
2- تطوير الشاعر لشخصية السندباد من داخل قصائده الشعرية كما تمليه التجربة، فالسندباد عنده ليس شخصية جاهزة مسبقاً كما رسمتها الأسطورة، وإنما هو شخصية نامية، صنعت رمزيتها وملامحها تجربة الشاعر ومعاناته، ولذا نجد سندباد القصيدة غير سندباد الأسطورة وإن اشترك معه في بعض السمات والملامح التي تضفي عليه طابع الأصالة. 
إذا كان خليل حاوي قد كشف بوضوح في ديوانه الثاني (الناي والريح) في قصيدته (وجوه السندباد) و(السندباد في رحلته الثامنة) عن التقائه المباشر بالسندباد، فإننا نرى هذه الشخصية تخاله منذ ديوانه الأول (نهر الرماد) في قصيدة (البحار والدرويش) على الرغم من أن ملامحها لم تكن قد تحددت بعد. وكأن الشاعر كان في مرحلة البحث عن القناع أو الرمز الذي يستطيع أن يحمل عنه عبء التجربة ويجسد أبعاد الرحلة ومعاناتها. 
على الرغم من عدم تصريح خليل حاوي بشخصية السندباد في هذه القصيدة، كما أسلفنا، إلا أننا نجد ما يرمز إليها، فالبحار يحمل بعض ملامح هذه الشخصية كما أن البحر والغول والمغامرة والشعور الدائم بعدم الاستقرار، كلها تيمات سندبادية ستزداد تجلياً ووضوحاً في ديوانه الثاني. 
تأتي قصيدة (السندباد في رحلته الثامنة) من ديوانه الثاني (الناي والريح) لترسم هذا الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، وتختصر المسافة وكأنها القصيدة الأم أو المعلقة التي اتضحت عندها الرؤيا واكتملت التجربة وازدادت نضجاً وتبلوراً، وازدادت معها ملامح ذلك البحار المجهول الهوية تحديداً وتبلوراً، فإذا به (السندباد البحري) بكل ما يحمله هذا المغامر في التراث الشعبي من ملامح وسمات. وبهذا التدرج في البحث عن الوسائل الفنية استطاع الشاعر أن يعثر في "هذه الشخصية على الصوت التراثي الذي سينهض بعبء التعبير عن كل ما حاولت شخصية البحار أن تعبر عنه في نهر الرماد بعد أن اكتسب أبعاداً وأعماقاً فكرية ووجودية جديدة" ([3]) 
نظمت هذه القصيدة ما بين سنة 1956 و1958 وهي المرحلة التي بدأت فيها بوادر التحرر من القيود الأجنبية تعم مختلف الدولة العربية التي شعرت بضرورة النهوض والبناء، كما أنها مرحلة العودة إلى الماضي لاسترجاعه وتثمينه والاحتماء به، إنها باختصار شديد مرحلة إعادة النظر في التاريخ والحضارة ومحاولة النهوض بهما وتخليصهما مما أصابهما من تشويه وفساد. 

([1])-حول هذه الشروط والعقبات ينظر: عبد الكريم القشيري: الرسالة القشيرية في علم التصوف، تحقيق معروف زريق وعلي عبد الحميد بلطجي دار الجيل بيروت ط2 ص 97 (باب المجاهدة) 

([2])-صلاح عبد الصبور: الديوان ص 204

([3]) -علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر ص 246

   يقدم الشاعر لقصيدته هذه باستهلال يشير فيه إلى الأسطورة المحورية الموظفة فيها وهي أسطورة السندباد فيقول: "كان في نيته أن لا ينزعج عن مجلسه في بغداد بعد رحلته السابعة، غير أنه سمع ذات يوم عن بحارة غامروا في دنيا لم يعرفها من قبل، فكان أن عصف به الحنين إلى الإبحار مرة ثامنة. ومما يحكى عن السندباد في رحلاته هذه أنه راح يبحر في دنيا ذاته، فكان يقع هنا وهنا على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرثة، رمى بها جميعاً في البحر ولم يأسف على خسارة، تعرى حتى بلغ بالعربي إلى جوهر فطرته، ثم عاد يحمل إلينا كنزاً لا شبيه لـه بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة. والقصيدة رصيد لما عاناه عبر الزمن في نهوضه من دهاليز ذاته إلى أن عاين إشراقة الانبعاث وتم لـه اليقين" ([1]). 

  في هذا المحور تتحرك القصيدة ويتحرك معها السندباد لتمتد عبر مساحة شاسعة موزعة على عشر مقاطع، كل منها يرتبط بسابقة ويؤدي إلى لاحقه. 

   تنبعث القصيدة من شعور مزدوج، شعور بالحيرة والضياع في دار يتضح من أوصافها أنها تعج بالفسق والفجور، وشعور بالرغبة في التطهر والانبعاث والتخلص من الفساد والشر. ولعل أول ما يلاحظ في هذا المجال هو انقسام القصيدة إلى محورية رئيسيين مختلفين في الاتجاه: المحور الأول تمثله دار السندباد القديمة، والثاني تمثله داره الجديدة. 
   أما الدار القديمة –كما يتضح من أوصافها –فهي تحوي من السموم والشرور ما يكفي لهجرها والابتعاد عنها: 
وكان في الدار رواق 
رصعت جدرانه الرسوم 
موسى يرى 
إزميل نار صاعق الشرر 
يحفر في الصخر 
وصايا ربه العشر: 
الزفت والكبريت والملح على سدوم 
هذا على الجدار 
على جدار آخر إطار: 
وكاهن في هيكل البعل 
يربي أفعواناً فاجراً وبوم 
يفتض سر الخصب في العذارى 
يهلل السكارى 
وتخصب الأرحام والكروم 
تفوّر الخمرة في الجرار 
على جدار آخر إطار 
هذا المعري، 
خلف عينيه، 
وفي دهليزه السحيق 
دنياه كيد امرأة لم تغتسل 
من دمها، يشتم ساقيها وما يطيق 
شطي خليج الدنس المطلي بالرحيق 
تكويرة النهدين من رغوته 
وسوسن الجباة، 
المجرم العتيق 
والثمر المر الذي اشتهاه 
من هذه الرسوم 
يرسخ سيل 
مثقل بالغاز والسموم ([2])

([1]) -خليل حاوي: الديوان ص 253

([2]) -خليل حاوي: الديوان ص 258 –261

   يتضح من هذه أن الدار كانت مليئة بأنواع الخطايا والفجور؛ فالوصايا العشر تنتهك وتخرق حدودها؛ وسدوم تغرق في شتى أنواع الموبقات، يغضب عليها الرب ويمطرها زفتاً وكبريتاً وملحاً. أما على الجدار الثاني فهناك صورة لكاهن في هيكل البعل يربي أفعواناً فاجراً وبوماً؛ ويرتكب المعاصي ويفتك سر الخصب في العذارى تحت ستار الورع والتقى. أما الجدار الثالث فنرى فيه المعرى الذي حقد على المرأة بوصفها بؤرة الشرور والآثام؛ فنادى بقطع النسل البشري. تلك هي مواصفات دار السندباد القديمة، وهي دار تدل على الفساد والشر كما ترسمه صور جدرانها التي علقت على رواقها. 

   في هذه الدار قضى السندباد أيام طفولته يرضع من تلك السموم ويشرب من الآثام والشرور حتى سرت في عروقه وانطبعت في صدره، وأصبح مدمناً عليها؛ منغمساً في وحولها ورذائلها، متفنناً في أساليب الخداع والمكر والنفاق: 

بلوت ذاك الرواق 
طفلاً جرت في دمه الغازات والسموم 
وانطبعت في صدره الرسوم 
وكنت فيه والصحاب العتاق 
نرفه اللؤم، نحلي طعمه بالنفاق 
بجرعة من (عسل الخليفة) 
(وقهوة البشير) 
أغلف الشفاه بالحرير 
بطانة الخناجر الرهيفة 
لحلوتي الحية الحرير ([1])
وفي المقطع الثالث يستفيق السندباد من غفوته فنراه يشد أزره، ويصمم على مغادرة رفاق السوء والتخلص من شرهم، فيلجأ إلى داره ينظفها ويطهرها من صدى أشباحهم ويغوص في أعماق ذاته ليزيل عنها فجورها لعله يرقى إلى مصاف الأنبياء والمتطهرين. 
سلخت ذاك الرواق 
خليته مأوى عتيقاً للصحاب العتاق 
طهرت داري من صدى أشباحهم 
في الليل والنهار 
من غل نفسي، خنجري، 
ليني، ولين الحية الرشيقة؛ 
عشت على انتظار 
لعله إن مر أغويه، 
فما مر 
وما أرسل صوبي رعده؛ بروقه ([2])
لكن على الرغم من كل هذا، فقد ظلت الدار مختنقة بالصمت والغبار كأنها صحراء كلس مالح بوار، لأن ما كان ينتظره السندباد لم يأت بعد؛ والنبوة مطلب عسير لا يتحقق بمجرد تطهير الدار، وإن كان خطوة لا بد منها، كما أن العثور على البديل أمر في غاية الصعوبة في زمن كثر فيه الشر والفساد وفقد فيه الإنسان إنسانيته ومكانته، وأصبح الانبعاث أمراً يتطلب التضحيات الجسام. رفع السندباد يديه إلى السماء يشكو الضيق ويطلب صحو الصبح والإمطار، لكن هيهات، لقد عادت الدار لما كانت عليه من قبل واحتلت الأوساخ ساحتها:
طلبت صحو الصبح والإمطار، ربي، 
فلماذا اعتكرت داري 
لما اختنقت بالصمت والغبار
صحراء كلس مالح بوار.
................ 
وكأن في داري التقت 
وانسكبت أفنية الأوساخ في المدينة، 
تفور في الليل والنهار 
يعود طعم الكلس البوار ([3])

([1]) -خليل حاوي: الديوان ص 266 -267

([2]) -خليل حاوي: الديوان ص 267 -268

([3]) -خليل حاوي: الديوان ص 269 -270

لم يستسلم السندباد؛ لأن بواعث التغيير والتجديد كانت تدفعه إلى الأمام وتلح عليه. وأيقن أن البعث الحقيقي يقتضي الهدم الكلي للدار. فراح يقوض السقف ويحطم الجدران ويرمي بها للموج الأسود والرياح: 

وذات ليل أرغت العتمة 

واجترت ضلوع السقف والجدار 
كيف انطوى السقف وانطوى الجدار 
كالخرقة المبتلة العتيقة 
وكالشراع المرتمي 
على بحار العتمة السحيقة 
حف الرياح السود يحفيه 
وموج أسود يعلكه 
يرميه للرياح ([1])
يدخل السندباد في بداية المقطع الرابع في حالة من الغيبوبة المفاجئة، وفيما يشبه المنام يرى أن داره قد تغير حالها من صحراء كلس مالح يوار إلى جنة تموج بالثلج والزهر والثمار: 
صحراء كلس مالح؛ بوار؛ 
تمرج بالثلج وبالزهر وبالثمار 
داري التي تحطمت 
تنهض من أنقاضها 
تختلج الأخشاب 
تلتم تحت قبة خضراء في الربيع ([2])
لم تتحقق هذه الرؤيا بعد في عالم الواقع؛ إنها مجرد حلم من أحلام السندباد التي كانت تراوده أثناء معاناته ورغبته في التطهير، فالدار ما زالت على ما كانت عليه، معتمة المسالك، تعز على الترميم؛ والسندباد الآن في حاجة إلى أن يسلخ عن نفسه ذلك الزيف الذي ورثه وتشرب سمومه وهو طفل صغير، فهو مصمم على تحرير نفسه وتنظيف داره من جديد: 
أفرغت داري مرة ثانية 
أحيا على جمر طري طيب وجوع 
كأن أعضائي طيور 
عبرت بحار 
وحدي على انتظار([3])
ويأتي المقطع الخامس ليكشف مقاماً آخر من مقامات الرحلة، ويتحقق بعض حلم السندباد؛ وإذا بصوت امرأة طاهرة تناديه وتقبل عليه بخطوات تزرع الاخضرار والطمأنينة: 
في ساحة المدينة 
كانت خطاها
زورقاً يجيء بالهزيج 
من مرح الأمواج في الخليج
كانت خطاها تكسر الشمس 
على البلور، تسقيه الظلال 
الخضر والسكينة 
لم يرها غيري ترى 
في ساحة المدينة؟ 
لم ترها عين من العيون([4])
تعم الفرحة نفس السندباد، ينسى معها عذاب السنين العجاف، ويطير قائلاً: 
ألعمر لن يقول
يا ليت من سنين 
ملء دمي وساعدي 
أطيب ما تزهو به الفصول([5])

([1]) -خليل حاوي: الديوان ص 270 -271

([2]) -خليل حاوي: الديوان ص 272

([3]) ـ خليل حاوي: الديوان ص 276ـ277.

([4]) ـ خليل حاوي: الديوان ص 277ـ 278.

([5]) ـ خليل حاوي: الديوان ص 278.

هذه المرأة لا تشبه النساء في شيء؛ ولا حواء التي أغرت آدم بأكل التفاحة؛ لأنها شقت من ضلوع السندباد؛ فهي نفسه وروحه في براءتها وطهرها: 

كأنها في الصبح 

شقت من ضلوعي 
نبتت من زنبق البحار 
ما عكر الشلال ضحكتها
والخمر في حلمتها 
رعب من الخطيئة 
وما درت كيف تروغ الحية 
الملساء في الأقبية الوطيئة([1])
إن حنين السندباد إلى هذه المرأة؛ إنما هو حنين الكل إلى جزئه والشيء إلى نفسه؛ كما أن حنين المرأة إليه؛ هو حنين الشيء إلى وطنه. وهذا الانجذاب أو النوستالجيا المتناظرة هي أول خطوة يخطوها السندباد في رحلته. ولما كانت الأنثى هنا تجسيداً للنفس؛ ومعرفة النفس هي معراج الإنسان إلى الحقيقة؛ لزم أن تكون معرفة المرأة، من خلال عاطفة الحب المتوهج، سبيل الولادة والانبعاث. لكن هل استطاعت هذه المرأة أن تحقق الانبعاث حقاً؟ وهل غيرت من حياة السندباد؛ أم أنها كانت مقاماً يشبه مقامات الصوفية. اجتيازه ضرورة للصعود إلى مقام آخر أعلى وأرقى درجة؟ 
يبدو أن الحلم لم يتحقق بعد؛ وأن هذه المرأة ليست هي طريق الخلاص الذي يبحث عنه؛ لأن القضية تخص أمة وحضارة بكاملها. وكيف يمكن لهذه المرأة أن تكون وسيلة خلاص وتحرر؟ ربما اعتبرها السندباد الرد على تلك الشريرة الفاسقة التي تروغ كالحية الملساء. أما إيليا حاوي فيفسر تخلي الشاعر عن تلك المرأة بقوله: ((أن خليلاً كان يقول أن أية امرأة تقع في الدرجة العاشرة من اهتمامه))([2]) ثم بقوله: (( المرأة كانت مرحلة تطواف لشاعر؛ أقام معها ولم يدعها تذهب كما فعلا قبلا في (نهر الرماد)، إلا أنه ظل يحس معها أن نفسه ليست معه كلها؛ وأنها مازالت تبث حنينها للأمر الغامض المستتر. المرأة ليست إلا المرحلة لأنها ليست المطلق وليست الحرية وليست الحضارة وليست الكلمة ذات الحروف الكاملة))([3]) 
فالسندباد ما يزال يتوق إلى ذلك الشيء الذي يحسه ولا يعيه؛ لذا نراه يفرغ بيته من جديد ويطهر نفسه في انتظار ذلك الشيء: 
ولم أزل أمضي وأمضي خلفه 
أحسه عندي ولا أعيه 
أود لو أفرغت داري عله 
إن من تغويه وتدعيه 
أحسه عندي ولا أعيه([4])
هكذا يطول الانتظار وتستمر معه معاناة السندباد؛ ويزداد بكاؤه وصمته؛ لقد جفت شفتاه ولم تسعفه العبارة؛ وها هو يتساءل في حزن عميق عن أسباب تأخر البشارة. ألانه لم يستطيع تحملها؟ أم لأن الوقت لم يحن بعد؟ 
كيف لا أقوى علي البشارة؟ 
شهران؛ طال الصمت، 
جفت شفتي، 
متى متى تسعفني العبارة([5])؟ 
إن هذا التساؤل المتكرر الدال على جفاف القريحة وبعد البشارة، يشبه في واقع الأمر الإعصار الذي يسبق العاصفة، لأن السندباد يشعر بشيء ما يسري في دمه، ويلوح لـه من بعيد كالبرق اللامع الذي يصعب القبض عليه... أهي البشارة وموعد الانبعاث؟ أم طيف من أطياف الرحلة الطويلة وهواجسها التي لم تنته بعد؟. 
واليوم، الرؤيا تغنى في دمى 
برعشة البرق صحو الصباح 
وفطرة الطير التي تشتم 
ما في نية الغابات والرياح 
تحس ما في رحم الفصل 
تراه قبل أن يولد في الفصول 
تفور الرؤيا، وماذا، 
سوف تأتي ساعة، 
أقول ما أقول([6])
في المقطع التاسع تتحقق البشارة ويطل السندباد على داره الجديدة التي تشكل المحور الرئيسي الثاني في القصيدة: 
تحتل عيني مروج، مدخنات 
وإله بعضه بعل خصيب 
بعضه جبار فحم ونار 
مليون دار مثل داري ودار 
تزهو بأطفال غصون الكروم 
والزيتون، جمر الربيع 
غب ليالي الصقيع ([7])

([1]) ـ خليل حاوي: الديوان ص 280ـ 281. 

([2]) ـ ايليا حاوي: مختارات من شعره ونثره، دار الثقافة بيروت ط1 1984 2/52

([3]) ـ ايليا حاوي: خليل حاوي في سطور من سيرته وشعره، دار الثقافة ص147. 

([4]) ـ خليل حاوي: الديوان ص287.

([5]) ـ خليل حاوي: الديوان ص 288. 

([6]) ـ خليل حاوي: الديوان ص 289ـ290.

([7]) ـ خليل حاوي: الديوان 290ـ 291.

   إنه الانبعاث حقاً، وصل إليه السندباد بعد تجربة طويلة ومعاناة كبيرة، سالت من خلالها دماؤه على حجارة الطريق، وتلقى من العذاب ما تلقى، وهي أيضاً بشارة من الشاعر لأمته التي ينبغي عليها أن تعاني وتتألم كي يتم لها الانبعاث الحقيقي، وإلا سوف تعيش على الهامش متخلفة عن الركب والتطور. 

   لقد أضحت دار السندباد وغيرها من الدور تموج بالخصب والاخضرار، فيها أطفال كالبراعم يتفتحون، ومروج ومدخنات دلالة على الحركة الإنتاج ودور الإنسان الفاعل في الحياة. إذ لم يعد السندباد ذلك الشخص الذي عرفناه في مطلع القصيدة، لقد تغيرت شخصيته بعد أن غاص في أعماق ذاته فطهرها من الزيف والشوائب. 

   وإذا كان سندباد الأسطورة قد عاد إلى بغداد من سفراته محملاً بالجواهر والكنوز، وأزمع أن لا يرحل أبداً([1]) وخلد إلى السكينة مستعيداً مع سماره حكاياته وطرائف رحلاته، وما حصل لـه من غرائب الأمور وعجائبها. فإن سندباد القصيدة ـ وإن دخل في تقاطع واضح مع سندباد الأسطورة ـ ظل يشق طريقه إلى وجدانه، فكانت رحلاته بحثا في أعماق ذاته وتاريخ حضارته، لا للحصول على الكنوز والأموال، وإنما لاكتشاف ما بقي في هذه الذات من قيم تساعد على تجاوز المحنة وتخطي الانحطاط. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين سندباد الأسطورة وسندباد القصيدة، كلاهما يرحل في الزمن، الأول نحو الخارج أو المستقبل لأن هاجس الرحلة لديه هو المسيطر، والثاني نحو الداخل أو الماضي، لأن زاد الرحلة لا يتم في رأيه إلا بذلك. والسفر نحو المستقبل لا يتحقق إلا بالانطلاق من الماضي، وأن الانبعاث والتوق الدائم إلى تغيير الواقع وتجاوز الممكن والمتاح، لا يتم إلا بالمعرفة والهدم الشامل للأفكار والإيديولوجيات البالية والقيم الرثة، تمهيداً لبناء جديد، وتلك هي مهمة الشعراء والفلاسفة. 
لقد أدرك خليل حاوي هذا الدور المنوط بالشعراء المعاصرين، فجعل بشارة السندباد الحقيقية تكمن في شاعريته وعبقرية أفكاره: 
عدت إليكم شاعراً في فمه بشارة 
يقول ما يقول 
بفطرة تحس ما في رحم الفصل 
تراه قبل أن يولد في الفصول([2])
   بهذا التحول أو الولادة الجديدة أكتسب السندباد شخصية ثانية قادرة على تغيير الأفكار وبناء واقع جديد، بعد أن هدم داره (رمز الحضارة القديمة)، وقضى على مفاسدها وتناقضاتها وبنى داراً جديدة (رمز الحضارة الجديدة أو المنتظرة). وقد لاحظنا كيف أنه وصل إلى ذلك بعد معاناة كبيرة وانتظار طويل، كشفت عنه المقاطع الثمانية للقصيدة، حيث كان في كل مرة يعود بنا إلى المشكلة نفسها، إلى الشيء الذي يحسه عنده ولا يعيه. 
   وهذه العودة إلى البداية أو المشكلة هي التي كانت تصنع الموقف التراجيدي وتشكل مفاصل القصيدة وانعطافاتها حيث جعلت منها بنية حلزونية دائرية تتشابك فيها عدة خيوط أو عناصر لكل منها قيمة خاصة، وقيمة يستمدها من تفاعله مع العناصر الأخرى، التي تجعل منفتحاً على إيحاءات كثيرة وقراءات متعددة. 
   لم يكن الشاعر عند اختياره رمز سندباد، كقناع له، إزاء عملية بسيطة يستبدل فيها صوتاً مباشراً بصوت آخر غير مباشر على سبيل الكناية، بل نحن في الحقيقة، إزاء صوت جديد متميز، يعتمد تميزه ـ كجدته ـ على درجة تفاعل كلا الصوتين على السواء([3]). هذا ما حققه حاوي وهو يلتحم بموضوعه من خلال قناعه الأسطوري (السندباد) حيث ألغى المسافة التي تفصل بينهما، وألقى نفسه في خضمِّ الموقف التراجيدي ليصنع كما يفعل بعض الشعراء ذوي التجارب المحدودة، وإنما راح يلقي بنفسه في قلب المعترك، بل وأكثر من ذلك فإنه يرشح نفسه نبياً أو منقذاً للأمة، لذا نراه يلجأ في كل مقطع من مقاطع القصيدة إلى تطهير ذاته في انتظار النبوءة أو الوحي. 
    ومن ثم كان هاجسه قضية أمة وحضارة تعاني الانحطاط والتخلف من جرَّاء الدعارة المتفشية والازدواجية المقنعة كما رسمتها مقاطع القصيدة، فالمرأة الفاسقة التي تراوغ الحية، والكاهن رمز الطهارة يمارس الدعارة في المعبد، و(خليج الدنس المطلي بالرحيق)، كل هذا يكشف عن حقيقة مرة متجذرة في عمق ذوات مجتمعاتنا وحضارتنا، لازلنا نتعامل معها بالتستر والكذب، وهو الشيء الذي يرفضه خليل حاوي لأنه سبب محنته وتألمه، وشعره صرخة مدوية في النفوس والآذان: لم لا نملك الجرأة على كسر القيود واختراق الحواجز التي تعوق تطورنا؟. 

([1])ـ ينظر: ألف ليلة وليلة 4/23 يقول فيها السندباد ((ثم إني تبت إلى الله عن السفر في البر والبحر بعد هذه السفرة السابعة التي هي غاية السفرات وقاطعة الشهوات)) 

([2])ـ خليل حاوي: الديوان ص299. 

([3])ـ ينظر: جابر عصفور: أقنعة الشعر المعاصر، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد 4 يوليو 1981 ص124.


  إن السندباد في هذه القصيدة هو الشاعر، وهو أيضاً رمز للأمة العربية، فبعد أن كان غارقاً في مستنقع حضارته الآسن، كما صورته القصيدة، نراه الآن قد ولد من جديد وعاد يحمل معه بشارة ميلاد حضارة جديدة، تبنى على سواعد الإنسان الفاعل في هذا الوجود. 

  قد تكون المعاناة التي مر بها خليل حاوي ((هي التي ساقته إلى الإيمان بالحضارة على أنها فعل تقدم، وأن إله التقدم هو إله الإنسان الحقيقي، كما آمن به مفكرو القرن الثامن عشر في فرنسا))([1]). ومن ثم فالإنسان وحده قادر على كسر الحواجز وتجاوز الصعاب لتقرير مصيره وبناء حضارته، فهو المحور الذي يبدأ منه كل شيء وينتهي إليه. وهذا الطرح يشبه، في بعض جوانبه طرح الفيلسوف الألماني (فريدرش نيتشه 1844ـ 1900) حول فكرته (الإنسان الأعلى)([2]). 

  الإنسان العربي المعاصر، في نظر حاوي، لا قيمة لـه في ذاته، ولا مكانة لـه في هذا العالم، وكل ما بقي منه أنه وسيلة لبعث إنسان آخر من النوع الأعلى على حد تعبير نتشه. ومن ثم كان بعث السندباد أول محاولة يقوم بها الشاعر بوصفها رمزاً لبعث الإنسان، لأن هذا الأخير لا يستطيع أن يفعل شيئاً ما لم يبعث من جديد كما بعث السندباد. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف يمكن لهذا الإنسان أن يحقق هذا التحول أو الانبعاث؟ وما هو الطريق الذي ينبغي لـه أن يسلكه لبلوغ غايته؟. 
وبشيء من التأمل في النص، نرى كيف أن هذا التحول قد تم انطلاقاً من ذات السندباد، وبالتالي من ذات الجماعة أو الأمة عن طريق التطهر واجتناب المفاسد والشرور. وخليل حاوي نفسه يعلق على رمز السندباد في استهلال قدم به قصيدته هذه يقول فيه: ((ومما يحكى عن السندباد أنه راح يبحر في دنيا ذاته، فكان يقع هنا وهناك على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرثة، رمى بها جميعاً في البحر ولم يأسف على خسارة، تعرى حتى بلغ بالعري إلى جوهر فطرته، ثم عاد يحمل إلينا كنزاً لا شبيه لـه بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة)) ([3]).
   يتضح مما سبق أن هذا التحول الحاصل في ذات السندباد، أو الحل الذي قدمه حاوي لأمته، يتسم بالطابع الصوفي أو المثالي القائم على مجاهدة النفس وتطهيرها من الشوائب. ولهذه الرؤية جذور خفية تعود إلى تلك الفترة، التي نظم فيها الشاعر قصيدته، وهي فترة ((كان خليل قد تشبع من الفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة والغنوصية والبيثاغورية والأورفية ودرس ودرّس المتصوفة وعرف عبر هذه المذاهب كيف يرجع الإنسان إلى ذاته، يهدمها ويرفع من أنقاضها بناءً جديداً، أضف إلى ذلك كله تنشئته على يد بعض الرهبان اليسوعيين الذين كانوا في ذلك الزمن شديدي الحرج بأمر الخطيئة وكانوا يدربون الفتيان على ما كانوا يسمونه (الإماتة) أي قتل النفس لتحيا طاهرة ووأد النزوات كي يكون المرء ابن حريته واختياره))([4])
يعلق يوسف حلاوي([5]) على هذا الحل بأنه لا يقوى على الصمود أمام تحديات الواقع لأن الانحطاط النابع من الذات هو انعكاس للواقع الاجتماعي، وبالتالي لا يمكن بناء الإنسان من الداخل إلا من خلال التغيير الاجتماعي في الخارج، أي بتغيير البنية التحتية التي يرتكز عليها المجتمع. وهذه في اعتقادنا نظرة ماركسية لا تستطيع أن تقدم حلا متكاملا لمشكلة التخلف والانحطاط في الوطن العربي. فالتحول يبدأ من الداخل (الذات) نحو الخارج (الجماعة) وليس العكس، أي أنه يبدأ من ذات الفرد ليتحول إلى ذات الجماعة من خلال تفاعل الأفكار وتلاقحها، مما يؤدي إلى ظهور نمط من التفكير والوعي بإمكانهما إحداث الانقلاب أو الثورة لمحق القيم الرثة والإيديولوجيات الفاسدة. 
لقد استطاع خليل حاوي من خلال رموزه التاريخية والأسطورية أن يتغلغل إلى عمق الذات العربية ويكشف الزيف الذي يكتنفها ويحيط بها، وهو زيف لا يمكن إزالته إلا عن طريق فيلسوف أو شاعر محنك كما اتضح من القصيدة في مقطعها الأخير. 
  ومهما يكن فإن الشاعر قد وفق إلى حد كبير في إعطاء نصه شكلاً تراجيدياً وبعداً إنسانياً من خلال صراع السندباد مع نفسه، كما أنه استثمر هذه الأسطورة استثماراً فنياً بارعاً، بحيث لم ينقلها كما هي عليه في الأصل، وإنما راح يضفي عليها طابعاً مغايراً أكسبها أبعاداً جديدة، مكنته من أن يمارس لعبة الحضور والغياب، وأن يحمّل السندباد (القناع) عناء تجربته بحيث أمسى رمزاً لرحلة الإنسان العربي وهو يتخطى الحواجز ليصنع حضارته ويقرر مصيره. 
    وخلاصة القول فإن خليل حاوي قد وجد في رمز السندباد القناع والعلم على تجربته الشعرية وذلك منذ مطلع ديوانه الأول (نهر الرماد) في قصيدته (البحار والدرويش) إذ كان يصف حياته وشعره بأنهما رحلة دائمة من أجل المعرفة، وبحث مستمر عن مصادر التحرر والنماء. وقد استطاع الشاعر عبر هذه الرحلة أن يعثر على اللغة البكر التي تستطيع أن تحمل عنه عبء التجربة، ففي قصيدته (الناي والريح في صومعة كيمبردج) من ديوانه الثاني كشف عن أسلوبه الشعري وتفهمه لأدواته الفنية وللغة الشعر حين قدم لتلك القصيدة بقول مالرميه ((يجب أن نبعث لغة القبيلة لنشتق منها العبارة التي تصنع الوجود))([6]). وديوانه (الناي والريح) تعبير عن مرحلة جديدة يمكن أن ندعوها المرحلة التطهيرية أو الصوفية عبر أسفار في أنفاق النفس وخباياها، كان السندباد من خلالها يسقط عن نفسه الذوات الزائفة التي تراكمت عليه طيلة قرون من الانحطاط والجمود. 
  وخليل الحاوي، في نظرنا، أحد الشعراء الذين نجحوا في استغلال حكايات السندباد، ووظفوها توظيفاً فنياً تجلّت ملامحه على المحوريين: السياقي والدلالي، ولأنه من الشعراء التموزيين، فقد أضفى على سندباده صفات الديمومة والانبعاث والقدرة على حمل البشارة، وذلك بعد أن انتشله من الفشل والاستسلام للراحة والجمود باقتراحه لـه رحلة ثامنة تختلف عن بقية رحلاته السبع التي قام بها في ألف ليلة وليلة، من حيث أنها تتجه نحو الداخل أو الذات. 

([1])ـ ايليا حاوي: خليل حاوي في سطور من سيرته وشعره ص 135ـ 136. 

([2])ـ ينظر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 1984 2/515. 

([3])ـ خليل حاوي: الديوان ص 253. 

([4])ـ ايليا حاوي: خليل حاوي في سطور من سيرته وشعره ص 135ـ136.

([5])ـ ينظر: يوسف حلاوي: الأسطورة في الشعر المعاصر، دار الآداب بيروت ط1 1994ص179.

([6])ـ خليل حاوي: الديوان ص 195.

  بهذا يمهد الشاعر لظهور أسطورة جديدة لا تكون شهرزاد راوية لأحداثها، وإنما سترويها الأجيال للتاريخ.. إنها أسطورة الإنسان العربي الضائع، الباحث عن ذاته وقيمه وحضارته. وتشبث الشاعر العربي المعاصر بهذا الرمز، في تلك الفترة بالذات، دليل على تعطشه للحرية ورغبته في كسر القيود للارتحال نحو آفاق رحبة تسمح لـه بتحقيق وجوده وكينونته. 

يرى حاتم الصكر([1]) أن عزوف الشعراء عن استثمار الجانب البطولي في شخصية السندباد يعود لصلته الأبدية بمدينته أولاً، ولأن رحلاته تشكل دورة غير تامة ثانياً، ويستثني من هؤلاء بعض الشعراء الشباب في الخليج العربي، ولاسيما البحرين الذين اهتموا بهذا الجانب وأعطوه العناية الكاملة. والواقع أن عدم استثمار الشعراء لهذا الجانب وغيره من الجوانب البطولية في شخصيات أخرى، يعود إلى كون الوعي الثوري لدا الجماهير العربية لم يتبلور بعد حول شخصية بطولية تستطيع تحريرها، أو لأن النموذج البطولي لم يكن ينطبق على الظروف العربية حيث التمزق والتخلف والاحتلال، كما قد يعود إلى الاتجاه الرومانسي الذي كان سائداً آنذاك الداعي إلى الهروب من الواقع نحو آفاق أخرى. 


2ـ الطقوس والمعتقدات:

   يقصد بالطقوس والمعتقدات، تلك التصورات والأفكار والمعارف التي أنتجتها المخيلة الشعبية، والتي لها صلة بالجانب الروحي من حياة الإنسان. ويندرج ضمن هذا التعريف تلك الممارسات والشعائر الأسطورية التي كان يقوم بها البدائيون لتأمين حياتهم من الشرور والأخطار. والمعتقدات من هذه الناحية، ظاهرة حضارية تعبر عن تكيف الإنسان مع محيطه الغامض في حدود ثقافته ووعيه. وهي بالإضافة إلى ذلك تكشف عن جوانب مختلفة من حياة الأمة ومراحل تطورها، لأنها تحمل إرثها الثقافي والفلكلوري الذي صنعته أجيالها في تواصلها مع بعضها البعض عبر القول والفعل في لحظة التقاء الماضي مع الحاضر عبر المقدس. وهي من هذا المنظور أيضاً جزء من ممارسات الإنسان وتصوراته في علاقته بوضعه الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والثقافي. كما أنها دعوة لاستمرار الحياة، ومحاولة لفهمها وتسخيرها. 
  أما المعتقدات من وجهة التحليل الأنثروبرلوجي فهي عبارة عن بقايا أساطير اندثرت وبقي أثرها مستمراً عبر العصور نتيجة تمسك الإنسان بها خوفاً من المكروه وطمعاً في جلب الرزق والخير. كما أنها قد تكون بقايا وثنية وطوطمية لها علاقة بمستوى الطبقات التي تؤمن بها. 
ومهما اختلفت أنواع هذه المعتقدات والطقوس([2]) فهي تعود إلى أصول ذات بنى رمزية تعاكسية مبنية على مزيج من تفاعلات قوى الخصب والعطاء من جهة، وقوى الجدب والمنع من جهة ثانية، وهي في كل هذه الأحوال تنبع من اتجاهين متعاكسين يؤدي كل منهما وظيفة معينة. 
يرمز الاتجاه الأول إلى كل ما هو خير، مقدس، متاح، في حين يرمز الاتجاه الثاني إلى كل ما هو شر، مدنس، محظور، وهذا التقسيم التبوي إن صح التعبير لا ينبع ـ في نظرنا على الأقل ـ من سلطان ديني أو أخلاقي بإمكانه التعليل الأسباب والنتائج المترتبة عنها، بقدر ما ينبع من ذاته ولذاته، ولذا نجده يفتقر إلى التعليل ولا يعرف لـه مصدر، فهو أقدم من الآلهة وأسبق من الأديان كما يقول فونت([3]) لكنه على الرغم من ذلك يبدو بديهيا لمن يقع تحت سلطانه. 
في هذه النقطة بالذات تكمن فاعلية المعتقد وقوته التي تجعله يشمل العديد من المجالات الروحية والنفسية، ويتقلد مقام الصدارة في حياة الشعوب والأفراد. 
فهو ينتقل من جيل إلى آخر عبر قنوات الممارسة والفعل الطقوسي دون أن يتخلى عن سمته الرمزية التي تربطه بعوالم التحريم والتقديس. 

أـ الشعر والمعتقد الشعبي:

  وعلاقة الشعر بالمعتقدات والطقوس علاقة قديمة جدّاً، كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، سواء من حيث نشأتهما وارتباط أحدهما بالآخر، أو من حيث وظيفتهما واعتمادهما على لغة الرموز. ولتوضيح هذه الفكرة أكثر نقف قليلاً عند هذه الأسطورة التي تقول أن البدائيين كانوا يعتقدون أن العالم مهدد دورياً بالتدمير والخراب بسبب تآكل الزمن، ولإيقاف صيرورة هذا التدمير يجب خلق الكون، دورياً، من جديد بواسطة طقوس وشعائر معينة تتلخص في تكرار أعمال الخلق([4]).
  وأول هذه الدورات، دورة الليل والنهار، فالغروب تهديد للحياة بانتهاء أجلها. وارتقاب مطلع الشمس أمر ضروري يستلزم طقوساً وأدعية، كتلك التي كان يقوم بها فرعون([5]) عند كل فجر حيث يقيم شعائر الإشراق معتقداً أنه بهذا الفعل سيحرر الشمس من قبضة الأموات. 

([1])ـ ينظر: كتابه: كتابة الذات دراسات في وقائعية الشعر، دار الشرق للنشر والتوزيع الأردن ط1 1994 ص 78ـ 79. 

([2])ـ ينظر: فراس سواح: الأسطورة والمعنى دراسات في المثيولوجيا والديانات الشرقية، دار علاء الدين دمشق ط1 1997 ص130ـ131. 

([3]) ـ ينظر: سعيد فرويد: الطوطم والتابو، ترجمة بو علي ياسين، دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا ط1 1983 ص42.

([4]) ـ ينظر: هيرقة روسّو: الديانات ترجمة متري شماس المنشورات العربية، سلسلة ماذا أعرف 25 ص70. 

([5]) ـ ينظر: Sylvia bates religion dumonde edition gamma 1981 p154

يا روح الشمس... استيقظ بسلام.. 

أنت يا ذا النور المضيء الطاهر.. 

إنك أنت الذي تشرق على كل مكان بنورك.. 
ونور عجلة النار التي تركبها. 
لا تغضب علينا وتنزل بنا نقمتك 
أظهر في سلام.. 
يا حسن الوجه.. 
يا ربّ الأشعة.. 
يا خالق النور([1])
   فالشمس هنا تعني ميلاد حياة جديدة، لأن غيابها يرمز إلى موت الإله، وبالتالي إلى العذاب ونزول النقمة. والنص عبارة عن طقس سحري فيه تضرع وتقديس لهذه الروح المتحكمة في الإشراق، وبغض النظر عن التركيبة اللغوية لهذا النص، فإن قمته الحقيقية تكمن في وظيفة الرمزية ودلالته كرسالة متميزة لا تفصح عنها اللغة إلا من حيث هي شفرة. 
    وثانيها دورة الفصول (الشتاء والربيع)، فيغدو العالم ميتاً خلال الفصل الأول، مما يجعل الإنسان يسارع إلى الطقوس التي من شأنها أن تعيد لـه الحياة، كالرقص الشعائري في البساتين والحقول، فتخصب الأرض ربيعاً وينمو الزرع ويحي العالم من جديد. لأن الاعتقاد السائد عند البدائيين هو أن موت الطبيعة وحياتها جزء لا يتجزأ من موته وحياته، ومن ثم فهما معاً في حاجة إلى تجديد حياتهما عن طريق إقامة طقوس ومراسيم شعائرية سنوية تسمح بإعادة الخلق والاتصال بالزمن الأول، زمن الخلق. وللإشارة فإن تكرار تلك الطقوس عبر الأيام والسنوات، لم يكن مجرد فعل آلي روتيني، كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، وإنما هو إعادة حقيقته للحياة في نظر البدائيين([2]). 
    كانوا البدائيون ـ بهذا الأسلوب الرمزي ـ يواجهون عصف الحياة، وهم لا يملكون أدنى شروط العيش، وعلى الرغم من بساطة هذا الأسلوب فإنه استطاع أن يكون وسيلة خلاص، تعيد الأمل للنفوس، وترغبها في التجدد والانبعاث. وهو ما يفسر اليوم تمسك الشعوب بمعتقداتها ومعارفها ـ وإن بدت ظاهرياً متخيلة عنها ـ فهي تلجأ إليها من حين إلى آخر في المناسبات والولائم لتحقيق غايتها وأهدافها الروحية والسحرية على الخصوص. 
   ولا غرور أن نجد هذا الخلاص مبحث الشاعر المعاصر الذي رأى في ذلك الإرث الطقوسي والمعرفي الذي أنتجه أسلافه، طريقاً لإنقاذ الحياة من الخراب المحتمل، بسبب الخطايا والشرور التي يرتكبها الإنسان دون أن يعبأ بنتائجها. وقد جاءت صيحة كبار شعراء العصر الحديث لتؤكد هذا الاتجاه وتعمل على تأسيسه وترسيخه، بعد أن مهد لـه شعراء المذهب الرومانسي بنزعاتهم التأملية والصوفية. 
   والنص الشعري المعاصر الذي سنورده بعد قليل يشبه إلى حدّ كبير في مضمونه هذه الطقوس والمعتقدات، مما يؤكد الطرح الذي يقول بتواشج النصوص وتعالقها، وأن الإنسان واحد وإن تطوّر حضارياً، فهو لا يزال إلى يومنا هذا يصنع المعتقدات والأساطير، ويواجه الحياة والكون بالأسلوب نفسه الذي كان سائداً عند أسلافه، بل وأكثر من ذلك فهو يعتقد أن الحياة في حاجة إلى بعث جديد بواسطة التوسل إلى الآلهة والتقرب منها: 

يا إله الخصب، يا بعلا يفض 
التربة العاقر 
يا شمس الحصيد 
يا إلها ينفض القبر
ويا فصحا مجيد، 
أنت يا تموز، يا شمس الحصيد
نجينا، نج عروق الأرض 
من عقم دهاها ودهانا 
أدفئ الموتى الحزانى 
والجلاميد العبيد 
عبر صحراء الجليد 
أنت يا تموز، يا شمس الحصيد([3])

([1])ـ سليمان مظهر: قصة الديانات، دار الوطن العربي (د.ت) من المقدمة. 

([2])ـ ينظر: هيرقة روسو: الديانات، ترجمة متري شماس، المنشورات العربية، سلسلة ماذا أعرف ص53. 

([3])ـ خليل حاوي: الديوان ص 119ـ120.

   هذا المقطع من قصيدة (بعد الجليد) التي تعبر، كما جاء في المقدمة التي استهل بها حاوي قصيدته عن معاناة الموت والبعث، من حيث هي أزمة ذات وحضارة، وظاهرة كونية. والقصيدة صورة مصغرة لمأساة الإنسان العربي في تخلفه وانحطاطه، وعجزه عن بعث حضارته. حاول خليل حاوي من خلالها أن يجسد رؤيته للواقع العربي المعاصر، الذي أصبح في نظره كومة جليد لا تنبت إلا البرد والصقيع. 

وأمام هذا الواقع المتجمد، ومظاهر الحياة التي تعطلت وأصابها التعفن والانحلال، والشمس التي غابت وانطفأ نورها، لم يكن أمام الشاعر من طريق سوى طريق استعطاف آلهة الخصب والتقرب منها بصلاة توسلية مليئة بالرموز الوثنية الكنعانية والبابلية والابتهالات التي تعم زمن الجدب والجفاف. 

   وقد اهتدى الشاعر بوحي من تجربته الروحية والوجودية إلى تلك الرموز التي كان يؤمن بها البدائيون، فهو يتوسل للإله بعل كي يشق الأرض ويفض رحمها، وكأنها امرأة عاقر لا تنجب إلا ببذار بعل مغتصب الأرحام عبر الكهان، ثم يتوجه إلى الشمس إلهة الحصيد والغلال، ويناشد المسيح أن يشق القبر ويبعثر تربته، ويبث الحياة عبر الفصح. ثم يقف أمام باب تموز يسأله نجاة وخصبا، لأن الأرض صارت صحراء كلس يغطيها الجليد ويسيطر فيها العقم. لقد ماتت العروق وجف ماؤها، وانتشرت جثث الأموات متراكمة يدفع بعضها بعضاً، وتحوّل الناس إلى جلاميد من العبيد لا يقوون على شيء. 
   يصحو الشاعر فجأة من غفوته ودعائه كالإنسان البدائي الذي فقد الثقة بآلهته، لأن هذه الآلهة هي الأخرى عاجزة عن بعث الحياة من جديد بسبب عمق الفاجعة وشدة الخراب الذي أصابها: 

عبثا كنا نصلي ونصلي 
غرقتنا عتمة الليل المهل 
عبثا نعوي ونعوي ونعيد 
عبر صحراء الجليد 
نحن والذئب الطريد([1])
   لم تفلح الأدعية والابتهالات، لأنها تشبه أصوات الذئاب الطريدة الجائعة وسط ظلمة الليل وصقيعه الجاثم على الأرض. بهذا اليأس ينتهي حاوي إلى أن البعث مستحيل والانتظار حلم عقيم، وماذا يمكن أن يجدي ضحايا السأم لملعون؟ 
وليموتوا مثلما عاشوا 
بلا تاريخ، موتى لا يحسون الهلاك([2])
   وبقليل من التأمل في هذا المقطع يتضح أن هذه المعتقدات لم تأت جزءاً إضافياً مكملاً للمعنى، أو موضحاً له، يمكن الاستغناء عنه، كما هي الحال في الشعر القديم، بل هي من مكونات القصيدة وأجزائها الأساسية التي قام عليها المعنى والمبنى بحيث استطاعت أن تجسد رؤيا الشاعر من جهة، وتعبر عن المعاناة التي يمر بها المجتمع العربي المعاصر من جهة أخرى. 
فالطقس التموزي وما يرمز إليه من غلبة الحياة والخصب على الموت والجدب، والعنقاء التي تموت ثم يلتهب رمادها فتحيا ثانية، هما المحوران اللذان تتفرع عنهما خيوط القصيدة لتجسيد الرؤيا وترسم الظلال، وذلك عبر الانتقال من الشعري إلى الأسطوري، حيث تشحن الكلمة بالسحر وقوة الإيحاء والترميز التي تجعل منها سلاحاً شديداً، لا شيء يستطيع مقاومة أثرها([3]). 
   وهذا الانزياح من اللغة الشعرية إلى اللغة الأسطورية، هو ما يميز التجربة الشعرية المعاصرة التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تجربة الإنسان البدائي حين كان يواجه الكون والعالم بالكلمة، ويرى أنها سبيل خلاصه وفرض وجوده. لقد أدرك الشاعر المعاصر هذا السبيل وعرف ما تزخر به الكلمات من قوة وأثر، إن أزيح عنها الصدأ الذي أصابها من جراء استعمالها المكرور والمنتظم. ومن ثم فهو لا ينظر إلى الكلمة على أنها وسيلة لغوية للتعبير عن شيء ما، أو مجرد صوت ودلالة جاهزة مسبقاً، وإنما هي وجود وحضور لـه كيان وجسم([4]). 
   وهنا تلتقي نظرته بنظرة الساحر أو صانع الأسطورة، لأن كليهما ينظر إلى الكلمات على أنها كائن حي قادر على التغيير وإحداث الأثر. 

([1]) ـ خليل حاوي: الديوان ص 120ـ121.

([2]) ـ خليل حاوي: الديوان ص 157.

([3])ـ ينظر: أرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة، ترجمة أحمد محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1975 ص 373.

([4])ـ ينظر: عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر ص181.

   إن ارتكاز خليل حاوي على ثنائية الموت (عصر الجليد) والحياة (بعد الجليد)، جعل القصيدة تنقسم إلى حركتين، تندفع الأولى منهما من منبع الإحساس بالمأساة وصورها، وتأتي الثانية لتنمي هذا الإحساس إلى درجة الكمال حيث تتجلى شبكة من علاقات التبادل، تفاعلت من خلالها الدلالات والرموز وتبادلت الأدوار فيما بينها. 

    فمن خلال الترابط المتبادل بين بعل وتموز والعنقاء والمسيح من جهة، والرمز المركزي للقصيدة (الجليد) من جهة ثانية، وتوحّد الذات بالموضوع من جهة ثالثة، تبرز رؤيا الشاعر وتنكشف طريقته في التعامل مع الموروث الثقافي والحضاري. وهي طريقة ترتكز على امتصاص القيم الحضارية الخالدة التي أفرزتها المخيلة الشعبية عبر مسارها التاريخي الطويل وإعادتها بشكل جديد تتجلى من خلاله وكأنها تظهر أول مرة. 

إذا كان أحمد المعداوي([1]) يرى شرخاً عميقاً في هذه القصيدة بين الواقع المادي والواقع الأسطوري الغيبي، وأن الذات الشاعرة ليست طرفاً فاعلاً في صنع الأحداث، وإنما هي من نصيب البطل الأسطوري، لأن الأمر كله معلق بقوى غيبية هي التي تقرر وتحدد النتائج، فإن هذا الرأي قد يصبح صحيحاً إذا ما سلمنا سلفاً بهذه التجزئة، ونظرنا إلى ذلك الموروث على أنه جزء إضافي مكمل للمعنى، لجأ إليه الشاعر لتوضيح أفكاره، كما سبق وأن أشرنا. 
  أما إذا نظرنا إليه على أنه جزء لا يتجزأ من القصيدة ومكوّناتها الدلالية، فحينئذ سندرك هذا الارتباط بين الواقع المادي والواقع الأسطوري، وكيف أنهما يشكلان لحمة واحدة، وأن ما نسميه واقعاً أسطورياً، ما هو في الحقيقة إلا واقع مادي حقيقي، ذلك أن الأسطورة، كما يقول مالينوفسكي([2]) ركن أساسي من أركان الواقع والتاريخ والحضارة الإنسانية، فهي تعزز المعتقدات، وتصون المبادئ الأخلاقية، وتنطوي على قوانين عملية لحماية الإنسان من الأخطار والمكاره. 
   وبهذا يتضح أن اعتماد خليل حاوي على هذا الجانب الثقافي المتأصل في عمق تاريخنا وحضارتنا، إنما محاولة منه ربط الماضي بالحاضر عبر رؤيا شعرية بإمكانها تقديم صورة واضحة عن واقعنا ومستقبلنا. 

ب ـ محمد الخمار الكنوني والبحث عن الحقيقة بين الأموات:

   إذا كان معظم الشعراء يتحدثون عن الأحياء والمدن، ويتجوّلون في الأسواق يكتشفون خبايا الإنسان وما تنطوي عليه نفسه من جشع وطمع، كما حصل مع صلاح عبد الصبور وبشر الحافي لما نزلا السوق. فإن محمد الخمار في القصيدة التالية قد توجه شطر عالم الأموات والقبور ليعيد الذاكرة إلى الوراء ويقف بالإنسان لحظة على مشارف ماضية داعياً إياه إلى أن يسأل نفسه عن حقيقة تاريخ أسلافه وأجداده، فيستغل تراثاً منسياً محفوراً على شواهد القبور المشتتة هنا وهناك، ويورد ما جاء مكتوباً عليها فيقول: 
لا حول 
ولا قوة إلا بالله 
هذا مرقد زين الناس، وجيه الناس، 
غريب الوجه بين هجين الكلمات 
المولود ((ببرج الوردة 
عام اجتاح جراد السهب مدائن هذا الغرب 
وصادف عام الجوع، فكان الآكل والمأكول 
إذ صار الناس بطاقات، أرقاماً، وصفوفاً، 
وقت اجتاح الجدري الأوجه والأنفس، 
أعمى الناس الرمد الآتي، بصراً وبصيرة 
أيام غدت في الدور بنات الغرب سبايا 
وواحدة للرضع وثالثة للوطء)) 
المتوفى ((عام اجتاز البوغاز رجال العرب 
إلى المدن الدكناء يبيعون الدم والعرق الفوار، 
وكان المنبت: أجدر، أجمل، أغنى، أصفى، 
قالوا: من غضب أوفر، والميناء
مناديل ودموع ودعاء: 
بلدي: شرفي، دين عيشي. 
أيام الحرف المجروح، وحرب المقهى والحانات 
حروب العصر بكاس وكراسي 
زمن التلقيح، ونقد الذات وسب الأباء([3])

([1]) ـ ينظر: كتابه: أزمة الحداثة ص181.

([2]) ـ ينظر: bronilaw malinowski Myth in primitive psychology Kegan paul London 1926 p23.

([3])ـ محمد بنيس: ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية، دار العودة بيروت ط1 1979 ص 190.


    أول شيء نلاحظه على هذه القصيدة، هو محافظة الشاعر على النموذج المقروء في الشاهد من الناحية البصرية والشكل العام المتمثل في التقديم والتأخير وترتيب الكلمات والحروف. أما الملاحظة الثانية فتتمثل في عدم ذكره لاسم الميت واكتفائه بقوله ((هذا مرقد زين الناس، وجيه الناس...)) ليخرج من الخاص إلى العام لأن القضية ليست قضية شخص بقدر ما هي قضية شعب وأمة بكاملها. 

   تتشكل هذه القصيدة، ذات البساطة الظاهرة، من ثلاثة مقاطع، يشغل المقطعان الأخيران منها الحيز الكبير، في حين يتألف المقطع الأول من شطرين فقط ((لا حول))ـ((ولا قوة إلا بالله))، إلا أن المقطع الأشد تأثيراً في اعتقادنا، منه تتصاعد خيوط القصيدة ومعانيها لتفجر كل إدعاء كاذب يؤمن بقوة الإنسان (السلطان) وجبروته، وتؤكد أن القوة لله وحده. 
بهذا الاستهلال الصريح والتمرد الصادق يعلن الكنوني عن جانب مهم في رؤيته وتحوله الفكري الغاضب على السلطة وما تمارسه من تزييف وقهر. وبغض النظر عن الدلالات الدينية والاجتماعية والسياسية التي يمكن أن يوحي بها هذا الاستهلال، الذي يأخذ من الناحية الفنية طابع الإشارة والتنبيه، فإن قيمته الحقيقية تكمن في كونه حركة انفعالية حادة نابعة من اقتناع ميتافيزيقي دال على ضعف الإنسان وعجزه أمام قوة الخالق.
   يأتي المقطع الثاني والثالث ليؤرخ لمرحلتين متتاليتين: مرحلة الجوع والفقر والمرض ومرحلة الهجرة إلى المدن الدكناء وحرب المقاهي والحانات، وبما أن مرجعية هذا النص شعبية فإن الشاعر قد اتبع طريقة التأريخ الشعبي، وهي طريقة لا تعتمد على لغة الحساب والأرقام بل على ربط الزمن بالأحداث التي جرت فيه، أي أن الزمن في الفكر الشعبي لا يقاس أو يتحدد بالشهور والسنوات، وإنما بالأحداث التي وقعت فيه، فلكل زمن أو تاريخ حدث أو أحداث تدل عليه.
  سمحت هذه الطريقة للشاعر بأن يحول الخطاب الشفوي إلى خطاب تاريخي([1]) موجه للأجيال اللاحقة فكشف عن تلك الحقب السوداء والمعاناة التي مرت بها الأجيال ولا تزال لأن هذا الخطاب ((كذاكرة تاريخية، لا يكتفي بنقل المعلومات، إنما يعمل على إنتاج وقائع اجتماعية وحالات نفسية جديدة))([2]).
    إن توجه الشاعر نحو المقبرة للبحث عن الحقيقة التاريخية الضائعة في كنف الزيف والمغالطة، يكشف عن المأساة التي تمر بها الدول العربية في كتابة تاريخها، كما يكشف عن يأس الشاعر ورفضه القاطع للتاريخ الرسمي الذي تسجله هذه الدول لأنه تاريخ مزيف وغير صحيح.
   يلفت الشاعر بهذا الرفض القاطع انتباهنا إلى كنز ثمين من التراث والمعارف التاريخية المنسية، سجلتها الطبقات الشعبية بطريقتها الخاصة عبر معتقداتها وطقوسها، واختارت لها المقبرة تجنباً للضياع وخوفاً من الحاكم. فهو يحفر في الذاكرة ويغوص في ماضي الأجيال ليفتش عن حقائقها وتاريخها كما عاشته، لا كما كتبته عنها الدول والحكومات. وربما الشيء الذي يؤكد صحة هذا التاريخ في نظر الشاعر أنه كتب في مكان مقدس (المقبرة)، ومن ثم فهو أشبه بالكلمات الخالدة والرسالة المقدسة التي ينبغي أن تطلع عليها الأجيال اللاحقة كي تدرك الحقيقة وتعرف صانعيها ومنكريها.
   والقصيدة، كما سبقت الإشارة، بصرية يشكل الحيز الذي تشغله الكتابة الشعرية فيها المعمار الرئيسي لبنيتها العامة، وهو معمار خاضع في تركيبه إلى رؤية خاصة وهندسة جديدة مغايرة لبنية القصيدة القديمة، ومن ثم فهو يسهم في تحطيم النموذج الشعري الكلاسيكي المرتبط بعملية الإلقاء والإنصات أو السماع، بخلاف النموذج المعاصر المتعلق بعملية الكتابة والمشاهدة، أكثر من تعلقه بالإنشاد.
   إذا كانت الكتابة الحداثية عند بعض الشعراء قد تجاوزت حدود الممارسة الواعية لقواعد البنية المكانية وشروط التواصل بين المكتوب والمفهوم إلى شكلانية زائفة تحتشد فيها الخطوط دون انتظام بشكل ينافي طبيعة الشعر. فإن الكنوني قد حافظ على النموذج المقروء أو المرئي من حيث الشكل العام والمساحة المكتوبة، إن لم نقل إنه ألزم نفسه به حتى لا يقع في التزوير والتحوير اللذين يرفضهما ويرى أنهما سبب غياب الحقيقة وضياعها.
   وبما أن القصيدة بصرية ترتكز فيها عملية التواصل على المشاهدة بالأساس، فإنها بعيدة عن الغموض والتعقيد، أسلوبها أقرب إلى السرد والوصف، لأنه الأسلوب الملائم والشائع بين الناس، وكأن الشاعر حاول أن يحافظ على النموذج لا من حيث المعنى فحسب بل حتى من حيث اللغة أيضاً. وقد اكتفى الشاعر بذكر الأحداث دون الإشارة إلى الزمن، لأن المكان مكان موت يتعطل فيه الزمن والقيمة فيه للحدث (ما عمل الإنسان).

ج-التحوّل نحو السحري واستقراء الغيب (التدمير من أجل البناء):


   تشكل المعتقدات عند مختلف الشعوب النمط الأصلي والترميز الأولي الذي ينبغي المحافظة عليه عن طريق إحيائه في المناسبات ومظاهر الحياة اليومية، فهي المادة التي تتشكل منها الأفكار وتطبع التصورات والمواقف، وبالخصوص في المجتمعات المتخلفة ذات الأساليب الأسطورية في مواجهة الواقع. وتأتي في مقدمة هذه المعتقدات، الممارسات السحرية بوصفها أرقى الأشكال وأضمنها، من المنظور الشعبي، في الحصول على النتائج المرغوب فيها، واستعلام الغيب ومعالجة المشاكل الاجتماعية والنفسية كاستجلاب الحظ والنجاح وإبعاد الشر والضرر.
   إلى جانب هذا فإن للسحر وظائف معرفية تتمثل في سد الثغرات في المعرفة الناتجة من عجز الإنسان في فهم الظواهر الطبيعية وما غمض منها. وهو من هذه الناحية رد فعل لشعور هذا الأخير بقصوره وقلة علمه بالمستقبل والغيب. ويعدّ الشعراء، بفعل وعيهم الثقافي والمعرفي، أول الناس شعوراً بهذا القصور وأشدهم حرصاً على المعرفة والتنبؤ بالغيب([3])، لذا راح بعضهم يشبه نفسه بالساحر والعراف والمنجم الذي يستقرئ الغيب ويطلع على الأسرار يقول أدونيس:
ساحر أنا واسمها البخور والجرن
ساحر وهي مجامري وهيكلي في بدايات الجمر
أتطاول في كثافة الدخان
راسماً شارات السحر
ساحراً جرجها([4])
ويقول:
أنا هو الواضع كالعراف([5])
ويقول:
قرأت النجوم، كتبت عناوينها ومحوت
راسماً شهوتي خريطة
ودمي حبرها وأعماقي البسيطة([6])


([1]) ينظر عبد الحميد بورايو: البطل الملحمي والبطل الضحية في الأدب الشفوي الجزائري الجزائري- دراسة حول خطاب المرويات الشفوية الأداء، الشكل، الدلالة –ديوان المطبعات الجامعية- الجزائر 1998- ص: 22.


([2]) عبد الحميد بورايو: البطل الملحمي والبطل الضحية في الأدب الشفوي الجزائري الجزائري- دراسة حول خطاب المرويات الشفوية الأداء، الشكل، الدلالة –ص: 23.


([3])يقول زهير بن أبي سلمى في معلقته معبراً عن هذا القصور والعجز في معرفة الغيب: 

أعلم ما في اليوم والأمس قبله


ولكنني عن علم ما في غد عم

ينظر الزوزني: شرح المعلقات السبع دار بيروت للطباعة والنشر بيروت 1980 ص: 86.

([4]) أدونيس: الآثار الكاملة 2/146.

([5]) أدونيس: الآثار الكاملة 2/38.

([6]) أدونيس: الآثار الكاملة 2/34.

   يحي أدونيس في هذه المقاطع علاقة الشاعر بالساحر ويعيد للشعر وظائفه التي رافقته منذ نشأته في زمن كان الاحتفال فيه بالشعراء عند القبائل العربية أعظم من الاحتفال بالسحرة أو الكهنة([1]). وإذا كان الاعتقاد العربي القديم يعتبر الشاعر وسيطاً بين عالم الجن وعالم الإنس، وأن دوره لا يتعدى نقل الأخبار التي توحي لـه بها الجن. فإن أدونيس قد تجاوز هذا الاعتقاد إلى طرح أكبر يمنح الشاعر الريادة والتفرد في الخلق والإبداع والتغيير بحيث يصبح تأثيره أعمق وأوسع، يتسامع به الناس في كل زمان ومكان.

   إن تقمص أدونيس شخصية الساحر دليل على رغبته الجامحة في امتلاك سر الكلمة، لأن الاعتقاد السائد لدى بعض الشعراء –وهو اعتقاد قديم- أنه من امتلك الكلمة، فقد امتلك القوة والسلطة، بل وأكثر من ذلك فهو يمتلك ناصية الأشياء التي يصبح بها قادراً على التأثير والتغيير واختراق الجاهز والمألوف. ومن ثمّ كانت الكلمة عند أدونيس رحم لخصب جديد ومجامر تحترق فيها الذات لتتطاول دخاناً راسماً التحول والانبعاث.


د-محمد الفيتوري والبحث عن الجذور الضائعة:

   إن البحث عن الجذور والارتداد إلى الذات اقتضى من الفيتوري العودة إلى زمن الطفولة عبر المقدس الشعبي الذي تشبع به وهو صغير يستمع لأقاصيص جدته الزنجية وخيالاتها الفلكلورية، فقد قرأ سيرة البطل الشعبي عنترة فأعجب به ووجد في شخصه ما يماثله، وطالع رحلة بني هلال وتعرف إلى أبطالها، وسيرة حمزة البهلوان، والأميرة ذات الهمة، وسيف بن ذي يزن، وفيروز شاه، وألف ليلة وليلة([2])، وأشبع احتياجاته الروحية والعاطفية بقراءات كتب التصوف التي عثر عليها في مكتبة أبيه، فتجلّت تلك الآثار واضحة على كتاباته وشعره، فهو يقول مشيراً إلى ما كانت تمارسه الطبقات الشعبية من حوله:
كإفريقيا في ظلام العصور
عجوز ملفعة بالبخور
وحفرة نار عظيمة
ومنقار بومة
وقرن بهيمة
وتعويذة من صلاة قديمة([3])

   على الرغم من أن هذا المقطع جاء ليوضح فكرة سابقة على سبي التشبيه والتمثيل، فهو يصور بدقة وصدق، واقعاً اجتماعياً، كثيراً ما يتحكم في مواقف الناس وتصرفاتهم، بل وتشبث الذهنية الشعبية الإفريقية بهذه الطقوس والميل إلى ممارستها عند الحاجة. وإذا كان الشاعر يلح على ذكر هذه الممارسات وما يرافقها من تعاويذ وأدوات سحرية كالبخور والنار ومناقر الطيور وقرون البهائم، فما ذلك إلا دليل على تلك النزعة الارتدادية نحو الذات الجماعية المسكونة بهاجس البحث عن الجذور.
   يبدو من هذا المقطع أن الشاعر لم يوظف هذا المعتقد توظيفاً فنياً لذاته لأنه أورده كنص تشبيهي على طريقة القدماء. لكنه على الرغم من ذلك فقد استطاع أن يجعل منه وسيلة مساعدة لبناء الحدث ورسم الأجواء المحيطة به. ويصادف قارئ شعر الفيتوري مقاطع أخرى مشابهة تتحدث عن السحر وكتابة التعاويذ، كحديث العرافة لإحدى بنات الحي:
عند القمر الرابع
ثم اغتسلي عند السابع
وخذي هذه الشمعات السود
أضيئيها في المقبرة المهجورة عند الظهر
وأعيدي كلماتي 
لا تنسيها
فلسوف تفيد([4])
ثم تقول:
يا بنتي هذا حق الأسياد علينا
إن شاءوا شئنا
وإذا امروا أذعنا([5])

([1]) ينظر: محمود شكري الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، دار الكتاب العربي مصر 
ط3 3/84.

([2])محمد الفيتوري: الديوان دار العودة بيروت ط3 1979 2/47.

([3])محمد الفيتوري: الديوان دار العودة بيروت ط3 1979 2/57

([4]) محمد الفيتوري: الديوان دار العودة بيروت ط3 1979 2/251.

([5]) محمد الفيتوري: الديوان دار العودة بيروت ط3 1979 2/251.

    أول شيء نسجله على هذا النص، هو حرص الشاعر على نقل هذا المعتقد دون الإخلال بنظامه أو إسقاط أحد شروطه ولوازمه، وذكر كل التفاصيل المتعلقة به سواء من حيث التوقيت والزمن، أو من حيث ما يجب فعله وتركه. أما من الناحية اللغوية فالنص يحاول أن يجاري المتلقي، أو الشخصية الشعبية وهي المقصودة, لأن الكلام موجه إليها، ومن ثم وجب مسايرة تفكيرها ومستوى ثقافتها وإيمانها ببعض الغيبيات، واعتقادها فيما يجوز ولا يجوز. لذا نجده يصطنع بعض الألفاظ والتعابير الشعبية مثل (خذي هذه الشمعات السود- لا تنسيها الأسياد..)، وكأن الرسالة أو الهدف هو إيصال المعنى إلى المتلقي في غير غموض أو التباس.

أما الشيء الثاني الذي نلحظه في هذا النص هو تركيزه على العناصر التالية:

(الزمن- العدد- اللون) وهي عناصر أساسية ذات حضور قوي في معظم المعتقدات والتصورات الفلكلورية بصورة عامة. وإذا ما ربطنا بين هذه العناصر وما ترمز إليه من أبعاد سحرية ندرك الوظيفة التي يمكن أن تنتج من تفاعلها وتلاقح أجزائها وتداخلها. فانتظار القمر الرابع، والاغتسال عند السابع، يعني البحث عن نقطة البداية، لأن في الاغتسال طهارة وفي الطهارة تخلص من الشوائب والخطايا..
   فالزمن من الناحية الطقوسية هي القوة المحركة التي تربط البدايات والنهايات، وهو العنصر المتحكم في جميع الممارسات، بدونه تتعطل دورة الحياة ويتوقف التواصل والسيلان، والعدد حذر كل الأشياء منه تولد الحقيقة وينبثق اليقين([1])، وللعدد سبعة ارتباط وثيق ببداية الخلق أو الحياة، كما تحدثنا عن ذلك الكتب الدينية، فالله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع([2]). وفي الإصحاح الثاني أنه اليوم الذي استراح فيه الرب بعد أن أفرغ من عمله وهو خلق العالم. ولا يقل العدد أربعة عن سابقه دلالة فهو رمز الثبات والشمول([3])، ولذا كان أول نقطة يرتكز عليها في مثل هذه العملية.
   أما اللون –وقد أشار النص إلى الأسود منه- فهو رمز الحداد والتشاؤم وكل الأشياء الدالة على العدمية والفناء. وللقمر مكانة رفيعة في المعتقد الشعبي، فهو كوكب إيقاعات الحياة، والإله والزوج([4])، وقد تمتد رمزيته لكل ما يبدو أنه مسيطر عليه كالماء، المطر، النبات، الخصوبة، ودورة الطمث النسوية. أما المقبرة فهي رمز السكون والموت.
 بعد هذه المقدمة الموجزة عن الزمن والعدد واللون، نعتقد أننا قادرون الآن، على قراءة هذا النسج الرمزي الذي يقوم عليه هذا المعتقد والذي يعكس بصورة شبه غامضة رغبة الإنسان في تجديد حياته والانتصار على ضعفه وفشله عن طريق القوى السحرية والغيبية. إن النص وهو يتحدث عن هذه الممارسة السحرية كأنه يستحضر الأسطورة الشعبية الجزائرية التي تقول بـ (سحور المحبة بتنزيل القمرة) وهي من أصعب الممارسات السحرية المستعملة في طقوس الحب والزواج، لأنها كما تذكر الأسطورة، (تنزل برقبة وتصعد برقبة) أي أن نزول القمر بهذا الفعل السحري يؤدي إلى موت شخصين، الأول عند نزوله، والثاني عند صعوده.
    وحتى لا ننصرف عن سبيلنا ونلج في أمور ليس هذا موطنها، نقول إن الفيتوري استطاع أن يحول ببساطة المعتقد الشعبي بأبنيته التعبيرية ورموزه إلى زخم شعري عن طريق إثارة أخطر القضايا المعاصرة التي تعاني منها الأمة، وهي الجهل والأمية والاعتماد على الأساليب الأسطورية في معالجة الواقع.
    إن اجتهاد الفيتوري في نقل هذه النصوص دون إجهاضها أو تغيير ملامحها، إلا بقدر ما يخدم نصه الشعري، دليل على حرصه واقتناعه بما في النص الشعبي من شعرية زاخرة تجر وراءها خبرة الأجيال عبر الزمان والمكان.
   وفي نص آخر من مسرحية (أحزان إفريقيا) ينقل الفيتوري ابتهالاً سحرياً على لسان ادجار سولارا يتقدم به إلى العاصفة وقد اشتد غضبها يقول فيه:
الموت والإنسان والقدر الساخر
والبحر يا ربان ليس لـه آخر
فاذهب مع التيار
وعد مع التيار
أقدار... أقدار
الموت في القلاع
والريح في القواقع
يا سمكات القاع
عدنا إلى المنابع
أمطار أمطار
الريح عطور
والبرق جسور
للنور والنار
للنور والنار
أجوى.. أجوى.. أجوى([5])

([1]) ينظر فيليب سيرنج: الرموز في الفن –الأديان- الحياة ترجمة: عبد الهادي عباس دار دمشق ط1 1992 ص 444.

([2]) سورة الأعراف الآية 53.

([3]) ينظر فيليب سيرنج: الرموز في الفن –الأديان- الحياة ترجمة: عبد الهادي عباسص 451.

([4]) ينظر: الأب جرجس داود داود: أديان العرب قبل الإسلام ووجهها الحضاري والاجتماعي المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت ط1 1981 ص340 حيث جاء في الأسطورة أن الدبران أراد أن يتزوج الثريا، غير أن العيوق عاق هذا الزوج فسمي العيوق لأنه يعوق الدبران عن لقاء الثريا.

([5])محمد الفيتوري: الديوان 2/241.


   يوظف الفيتوري في هذا النص عدداً من التقنيات المتمثلة في هذا الامتداد الإيقاعي المتحكم في نظام الجمل من حيث الطول والقصر، فهي تطول مع بداية المقطع وتتصاعد تصاعد إيقاع العاصفة لتصل إلى ذروة الاحتدام في الموقف المصوغ (الموت في القلاع)، ثم تقصر في تراجع وتكرار متباطئ دال على هدوء العاصفة وتلاشيها.

   وهكذا يتضح أن النص عبارة عن ترديد لابتهال سحري فيه توسل للتيار أولاً، ثم للأسماك والقاع والأمطار والريح والبرق والنور والنار ثانياً. وبانتهاء النص، كما تشير على ذلك الناحية الإيقاعية والتركيبية منه، نشعر وكأن العاصفة قد تلاشت رويداً وساد الصمت والهدوء.
   بالإضافة إلى ذلك نلاحظ أن الإيقاع والتكرار هما العلامتان البارزتان في هذا المقطع الذي بدأ بجمل طويلة وانتهى بجمل قصيرة تتألف من متواليات اسمية تمضي في الظاهر على نسق شعري، بينما يشير نظامها إلى مستويات مختلفة في هذا النسق بحيث نجد أنفسنا أمام تقلبات دلالية أفلح الشاعر –جمالياً- في إبرازها، وهي هذا الانزياح من السحري إلى الشعري عبر قنوات مشتركة (الإيقاع والتكرار) اللذين هما خاصيتان في النصوص السحرية والشعرية على حد سواء.
   إلى جانب هذا كله، فالنص يعكس من بعض وجوهه، بل من كثير منها، فلسفة التفكير لدا الإنسان البسي، وهي فلسفة تقوم أساساً على جملة من الاعتقادات والتصورات الغيبية والممارسات السحرية. فالتوسل للتيار بهذه الطريقة أسلوب بدائي في مواجهة الطبيعة، إذ تروي الأساطير والأخبار كيف كان الأوائل يتوجهون إلى الناحية التي يرون أنها تهدد بالعواصف والأمطار، بكلمات سحرية ونداءات توسلية يعتقدون أنها ستوقف العاصفة وتغير اتجاه الطبيعة([1]).


الخاتمة

   يظل التراث بعامة والشعبي منه بخاصة محتفظاً بعلو منزلته وسمو مكانته وثراء قيمه، وما كان لجذوته أن تخبو إذا تعامل معه من يحسن بعثه ويجيد استثماره، ويقصد معالم القوة فيه ومكامن الغنى والإشراق، فالتراث إذا جنبناه الإفراط والتفريط، ونظرنا إليه بعين الاعتدال والإنصاف، وربطناه بالحاضر أمكننا أن نرى فيه أشياء جديدة، ووظائف وقيماً غير التي ارتبطت به في القديم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الشيء الذي ربطناه به يكتسي ملامح متفردة في ظاهرها وباطنها. هذان الأمران لمحناهما جيداً ونحن نلامس حضور التراث الشعبي في جانبه الأسطوري في الشعر العربي المعاصر.
   إن الصروح الجديدة والتضاريس المتميزة التي عرف بها هذا الشعر، لم يسهم في إنجازها فقط: اللغة الشعرية الموحية المرتبطة بتجربة شعرية مستقاة من الحاضر الذاتي والجماعي أو الصورة ذات التشكيلات الحرة المفتوحة على بلاغة من صياغة الهمّ الشعري المتخلق مع الموهبة والذوق والرؤية، أو الموسيقى المتساوقة مع طقوس الفكرة الغازية للروح، وإشعاعات الوجدان المنتفضة ضد السكون، وإنما كان للتراث الشعبي قدر معتبر وقسط وافر في بناء صرح الشعر العربي المعاصر وتشكيل تضاريسه من عدة جوانب نذكر منها: المعجمي، الأسلوبي، التصويري والإيقاعي.
   إن المراجعة الموضوعية لأثر الأسطورة بمختلف أشكالها وأنواعها ووظائفها في الشعر العربي المعاصر تكشف بقوة ووضوح أن التراث بعامة والشعبي منه بخاصة خلق للحياة والخلود، يحتضن التجربة ويقدم الرؤية، ذلك كله في أسلوب قوامه التلميح والترميز، ولغة أساسها الإيجاز والتكثيف تشع بالإيحاء والظلال في إحالة بليغة ومستمرة على ما عداه من العوالم والفضاءات.

   إن التوجّه إلى التراث الشعبي والاستعانة به في تشكيل معالم النص الشعري المعاصر لم يكن وليد الترف الفكري أو العبث الفكري، إنما كان لحاجة ملحة هي الباعث والمحرك. فقد وجد الشاعر المعاصر في النص الشعبي النموذج والمثال، والملجأ والملاذ، يعبر بواسطته عن جراح الذات والجماعة وتصدعات الواقع، كما يجسد من خلاله القهر الروحي الناجم عن اختلال القيم، والكبت الفكري الناتج عن الفساد الاجتماعي، ويفضح الاستبداد السياسي من خلال ضياع الحقوق وغياب العدل، فيستعين به على الخروج من مستنقعات الواقع الآسن إلى رحاب آفاق الخيال الواسعة النقية يستمد من قواها ويتزود بقيمها لمجابهة الحتمية.
   يرغب الشاعر العربي المعاصر بهذا الصنيع ربط القديم بالمعاصر، الغائب والشاهد، كما يسعى إلى تبصيرنا بتجربته الفكرية والشعورية الضاربة في أعماق الوجود الإنساني التليد. فالتراث لم يستنفد أغراضه بعد، على الرغم من الفوارق الزمنية الزمنية والمادية الكبيرة والعميقة التي تفصلنا عنه في عالم المادة.
   إن عملية توظيف التراث الشعبي في النص الشعري عمل قديم، حاوله بعض الشعراء في العصور العربية القديمة (الجاهلي، الإسلامي، الأموي والعباسي) إلا أن محاولاتهم كانت في مجملها وصفية خارجية لا تتعدى الإشارات القصصية التاريخية لأسباب عديدة سبق وأن أشرنا إليها، لكن الشعراء المعاصرين توسّعوا في استخدام عناصر التراث الشعبي، ولقد مرت هذه العملية بعدة مراحل: تسجيل التراث أو التعبير عنه، توظيف التراث الشعبي أو التعبير به، البحث عن الأقنعة أو النماذج الأسطورية، إلى أن وصلت إلى مرحلة الأسطرة، وفيها تحول المألوف إلى أسطورة، وهي أرقى منازل التعامل مع التراث الشعبي، فيها انتقل الشاعر من واقع المستعين بالتراث إلى واقع المنتج والمبدع لهذا التراث، تصبح اللغة فيه مثخنة بالسحر والترميز، يتداخل فيها الأسطوري بالشعري، فيتطافران على صياغة النص صياغة عضوية نكاد لا نفصل فيها بين الأول والثاني.

([1]) ينظر: ارنست كاسيرر: الدولة والأسطورة، ترجمة أحمد حمدي محمود ص 373.

لم تكن هذه العملية كلها إيجابيات ومزايا، بل هي كأي محاولة فنية لم تنج من بعض المزالق والسلبيات بخاصة في المراحل الأولى، لكن إشكالية الغموض التي نتجت عن استعمال بعض النصوص التراثية الشعبية من ضمن القضايا المثيرة للجدل في النقد المعاصر، فكل طرف يراها بمنظاره الخاص في انعكاساتها على النص الشعري والأسطوري، وعلى المتلقي، ومن ورائها الشاعر.

ومهما قيل في المحاسن والسلبيات الناجمة عن توظيف التراث الشعبي في الشعر المعاصر، فإن ما يمكن التأكيد عليه أن النص الشعري بموجب ذلك التوظيف يتحول إلى بناء لا يشبه بناء النصوص الشعرية التي غاب عنها التراث الشعبي، المعجم اللغوي تتنازعه الأديان والطبيعة، الإنس والجن، الغيب والشهادة، الأساطير والخرافات والحكايات، ينتابه الانغلاق طوراً والانفتاح طوراً آخر، لا يحيل إلى ذاته أبداً وإنما إلى الآخر الحاضر والغائب، المتخيل والواقع؛ الأساليب والتراكيب فيه متباينة التضاريس والتشكلات يغمرها الإيجاز، والحذف والتكرار، والتقديم والتأخير، لا تستسلم للقارئ لأول وهلة بيسر وسهولة، ولا تطّرح لـه مكنوناتها إلا بعد عسر متابعة وطول مراجعة، يتصاعد فيه الخيال واللا معقول، وتتكاثف فيه الصور وتتداخل المشاهد، يتجاذبه الأبيض والأسود، الأمل واليأس، الرغبة والرهبة، العراك والعناق. كل شيء فيه ينبض بالإيقاع تنتفض بموجبه الحروف والكلمات لتقرع الأسماع وتنبه المشاعر والأفكار؛ والموسيقى فيه تتكاثر فيها الأوزان والأنغام تسلي الكل وتريحه، تطهره وتزكيه، ترمي به بين أحضان الخيال والأحلام لتعود به ممتلئاً مزوداً لمواجهة اللحظة والآن؛ هذا البناء يجعل من النص متناً مفتوحاً خصباً أمام مختلف القراءات في ارتباطاتها بمختلف الأمكنة والأزمنة والمناهج وقيود أخرى ترتبط بالقراءة. القارئ لـه يحاول ويكرر ويبذل الجهد، يفكك ويشرح، يلم ويجمع، في خصام إيجابي وجدل بنّاء، يقرأ النص ويقرأ مقدرته على التحصيل والتفكير وتحليل للخطاب والمخاطِب.

إن كان من رسالة يريد هذا البحث تمريرها لكل قارئ، فهي أنه لا بد من مراجعة التراث وتثمينه وحسن محاورته، لاستجلاء ما فيه من قيم وقوى، بغية استثمارها وتوظيفها جمالياً وفكرياً، وذلك بربطها بالزمان والمكان، بالذات والجماعة، بالواقع والمحتمل. فالتراث في بعض جوانبه زينة للنص ولبنة تحكم بناءه وروح تعمق فيه الوجود والصلات وتؤصل فيه البلاغ والرسالات.

مكتبة البحث:


1-غالي شكري: شعرنا الحديث إلى أين- منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت ط2-1978.
2-عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية دار العودة بيروت ط3: 1981.
3-نسيب نشاوي: مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية في الشعر العربي المعاصر- مطابع ألف باء دمشق 1980.
4-إرنست فيشر: ضرورة الفن –ترجمة ميشال سليمان- دار الحقيقة بيروت- د. ت.
5-رينيه ويليك: نظرية الأدب –ترجمة محي الدين صبحي- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2-1981.
6-ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث- المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1- 1978.
7-شوقي ضيف: الأدب العربي المعاصر في مصر- دار المعارف مصر- ط3.
8-أندره جيد: أوديب وثيسيوس- ترجمة طه حسين- دار العلم للملايين بيروت ط4-1980.
9-هوميروس: الإلياذة –تعريب سليمان البستاني- مطبعة الهلال مصر 1904.
10-دريني خشبة: أساطير الحب والجمال عند الإغريق- دار الهلال العدد 171 سنة 1965.
11-هوميروس: الإلياذة –ترجمة دريني خشبة- دار العودة بيروت.
12-نفوسي زكريا سعيد: خرافات لافونتين في الأدب العربي- مؤسسة الثقافة الجامعية مصر- 1976.
13-أحمد شوقي: ديوان الشوقيات – دار العودة بيروت، المجلد2.
14-فردريش فون ديرلاين: الحكاية الخرافية- ترجمة نبيلة إبراهيم دار القلم بيروت، ط1/ 1973.
15-إبراهيم المازني: الديوان –مطبعة محمد محمد مطر- القاهرة 1917.
16-ك. ك راثقين: الأسطورة –ترجمة جعفر صادق الخليلي- منشورات عويدات- بيروت- ط1- 1981.
17-محمود عباس العقاد: الديوان –مطبعة وحدة الصيانة والإنتاج-مصر 1967.
18-عبد الرضا علي في كتابه: الأسطورة في شعر السياب دار الرائد العربي بيروت ط2 1984.
19-فاروق خورشيد: الموروث الشعبي- دار الشروق القاهرة- ط1- 1992.
20-جيمس فرايزر: الفولكلور في العهد القديم (التوراة) ترجمة نبيلة إبراهيم –دار المعارف- مصر- ط2.
21-إلياس أبو شبكة: أفاعي الفردوس –منشورات دار المكشوف- بيروت ط2/ 1948.
22-يوسف حلاوي: الأسطورة في الشعر العربي المعاصر –دار الآداب- ط1/ 1994.
23-أحمد زكي أبو شادي: الينبوع- مطبعة التعاون- القاهرة 1934.
24-أحمد زكي أبو شادي: فوق العباب –مطبعة التعاون- القاهرة 1934.
25-عبد الفتّاح محمد أحمد: المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ط1 1987.
26-هربرت ريد: الفن والمجتمع، ترجمة: فارس متري ضاهر دار القلم بيروت ط1 1975.
27-عبد المنعم تليمة: مقدمة في نظرية الأدب دار العودة بيروت ط3 1983.
28-إرنست فيشر: الاشتراكية والفن، ترجمة: أسعد حليم دار القلم بيروت ط1 1973.
29-أحمد عتمان: الشعر الإغريقي تراثاً إنسانياً وعالمياً، سلسلة عالم المعرفة 77 الكويت 1984.
30-سعد الخادم: الفن الشعبي والمعتقدات السحرية، سلسلة الألف كتاب 477، مكتبة النهضة المصرية القاهرة..
31-إرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة، ترجمة أحمد حمدي محمود الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1975.
32-فراس السوّاح: الأسطورة والمعنى دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، دار علاء الدين دمشق ط1 1997.
33-أحمد كمال زكي: الأساطير دراسة حضارية مقارنة دار العودة بيروت ط2 1979.
34-عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 1984.
35-جمهورية أفلاطون – ترجمة وتقديم نظلة الحكيم ومحمد مظهر سعيد- دار المعارف- مصر ط2.
36-محمد الزايد: المعنى والعدم بحث في فلسفة المعنى، منشورات عويدات بيروت (سلسلة زدني علماً) ط1 1975.
37-ميرسيا إيلياد: أسطورة العود الأبدي ترجمة حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة دمشق 1990.
38-فراس السواح: مغامرة العقل الأولى دراسة في الأسطورة. سوريا. أرض الرافدين، دار علاء الدين دمشق ط11 1996.
39-ك. غ. يونغ: علم النفس التحليلي، ترجمة نهاد خياطة، دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا 1985.
40-أرنست كاسيرر: فلسفة الحضارة الإنسانية أو مقال في الإنسان، ترجمة إحسان عباس، دار الأندلس بيروت 1961.
41-فرانكفورت وآخرون: ما قبل الفلسفة، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط2 1980.
42-كلودليفي ستروس: الأناسة البنيانية، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء ط1 1995.
43-أنس داود: الأسطورة في الشعر العربي الحديث –مكتبة عين شمس- مصر.
44-يوري سوكولوق: الفولكلور قضاياه وتاريخه، ترجمة حلمي شعراوي وعبد الحميد حواس الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1971.
45-إيريك فروم: اللغة المنسية (مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير)، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء ط1 1995.
46-شوقي ضيف: الشعر وطوابعه الشعبية على مرّ العصور، دار المعارف مصر ط2 1984.





ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة