السبت، 2 مايو 2015

أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة (قراءة في المكونات والأصول) المدخل و الفصل الأول - د. كاملي بلحاج


أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة

(قراءة في المكونات والأصول)

دراســة

 الدكتور: كاملي بلحاج 


من منشورات اتحاد الكتاب العرب

دمشق - 2004


بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

إلى الوالدين الكريمين (أطال الله في عمرهما) .

إلى زوجتي البارّة .

إلى أبنائي: عماد الدين 

جليلة 

أنس 

إلى كل من تربطني بهم علاقة قرابة وصداقة .

تقديراً وعرفاناً .

كاملي.


  تحاول هذه الدّراسة أن تستكشف الجوانب الفنية والدلالية في الشعر العربي المعاصر وبالخصوص تلك التي لها علاقة بظاهرة توظيف التراث الشعبي. إذ لا يكاد ديوان يخلو من الإشارات الفلكلورية والرموز الأسطورية، والأجواء الشعبية المعروفة لدى العامة والخاصة، أو تضمين هياكل أسطورية وأشكال شعبية قديمة أو حديثة للتعبير عن مضامين جديدة وتجارب معاصرة. ومن ثمّ باتت هذه الظاهرة في حاجة إلى بحث يعمق دلالتها، ويستكشف أصولها ومرجعياتها الفكرية والحضارية، ويحدد قيمتها الفنية. 

   تتوجّه هذه الدراسة ـ في ضوء ذلك ـ إلى محاولة إزاحة اللثام عن أسباب اهتمام الشعراء المعاصرين بالتراث الشعبي وطرائق توظيفه، وما اكتسبه النص الشعري من خلال استعانته بأشكال التعبير الشعبي. كما تتوجه في الوقت ذاته إلى اقتراح بعض الأساليب الفنية في استخدام هذا التراث التي من شأنها توضيح الرؤى والمعالم، وبالتالي تجنيب الكتابة الشعرية الوقوع في الحشد والتكرار وغيرهما من المزالق الفنية، كالغموض الناجم عن العجز في تمثّل هذا التراث، أو طغيان أحد الملمحين (التراثي أو المعاصر) على الآخر، أو التأويل الخاطئ لبعض الشخصيات والأحداث، أو التقليد الناتج من التشابه المفرط في طرائق الاستخدام والتوظيف. 

  لم يكن لهذه الدراسة أن تنطلق من نتائج ومسلمات سبق التوصل إليها، وإنما كان عليها أن تحوّل هذه النتائج والمسلمات إلى فرضيات وأن تشق طريقها بهاجسها وطموحها، مستضيئةً بنور شموع أوقدتها. 

دراسات رائدة، وبخاصة تلك التي قدّمها كل من: 

    أسعد رزوق في نهاية الخمسينيات حين تناول (الأسطورة في الشعر المعاصر) متخذاً من ت. س. إليوت نقطة انطلاقه في منهج البحث والدّراسة. وقد انتهى إلى أن هناك علاقة وطيدة بين الأسطورة والشعر من حيث نشأتهما التاريخية، وأن استحضار الشعراء المعاصرين للأسطورة، هو تعبير عن أزمة الإنسان الحضارية في القرن العشرين. وقد كان إليوت، ـ في نظره ـ نموذجاً رائعاً في تجسيد هذه الأزمة حين أعلن صراحة، أن لا خلاص من الأرض الخراب إلا بالعودة إلى أحضان التراث الشعبي بطقوسه ومعتقداته. 

   وأنس داود في أطروحته بعنوان (الأسطورة في الشعر العربي الحديث) التي راح يتتبع فيها ظاهرة توظيف الأسطورة، والمؤثرات الأجنبية في استخدامها في الشعر الحديث والمعاصر: بدءاً من مدرسة الإحياء إلى مدرسة التجديد ممثلة في بدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، وخليل حاوي وغيرهم من رواد حركة التجديد في الشعر المعاصر. 

  وما كتبه أيضاً علي عشري زايد حول (استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر) حيث عمد إلى رصد هذه الظاهرة رصداً فنياً من خلال تحديد ملامحها وتجلياتها، وربطها بمرجعيتها العربية والإسلامية، مظهراً ثراء هذه المرجعية، وقدرتها على العطاء الدائم والمتجدد إذا أحسن استخدامها. 

    وشوقي ضيف حول (الشعر وطوابعه الشعبية على مرّ العصور) من الجاهلي إلى العصر الحديث، محاولاً تصحيح الرأي الخاطئ الذي ذاع على ألسنة العديد من الناس، والذي مفاده أن شعراء العربية كانوا بمعزل عن شعوبهم، فهم يتغنون بأشعارهم للطبقات العليا دون سواها من عامة الناس. 

  ولعل أبرز شيء يمكن ملاحظته على هذه المكتبة، اقتصارها على الأسطورة دون غيرها من أشكال التعبير الشعبي الأخرى، واعتمادها على الطرح العام الذي بإمكانه إغفال الكثير من القضايا الجوهرية التي تميز قضيةً عن أخرى أو شاعراً عن آخر. 

   على الرغم من هذا كله، فقد كانت هذه المكتبة، خير معين لهذه الدّراسة بما وفّرته لها من أفكار وملاحظات أنارت العديد من الجوانب المظلمة، فمهدت الطريق وسهلت سبيل السير فيه. وقد كان ذلك من جهة أخرى دافعاً رئيساً لاختيار هذا الموضوع، إذ حركته القناعة المطلقة بأن ما أثير حول ظاهرة توظيف التراث الشعبي في القصيدة المعاصرة، وما كتب عنها، لم يعط الظاهرة حقها بعد من الدّراسة والتحليل والاستنتاج، وأن جلّ ما كتب، كان منصباً حول الأسطورة في جوانبها الاجتماعية والفكرية دون غيرها من الأشكال التراثية الأخرى، من هنا جاءت هذه الدّراسة محاولة سدّ هذا الفراغ، معالجة الظاهرة برؤية يراد بها أن تكون جديدة وشاملة، وذلك بالتركيز على الجوانب الفنية فيها. لأن الظاهرة، كما تبين لي، حضارية (تعبير عن أزمة الإنسان والحضارة المعاصرة) وفنية (البحث عن أشكال جديدة للتعبير عن هذه الأزمة). 

   أما عن الأسباب التي شجعتني للخوض في غمار الشعر المعاصر ومعالجة هذا الجانب منه، إيماني القوي بأن هذه الناحية، إذا ما عولجت بطريقة علمية ومنهجية، ستفتح العديد من القضايا والآفاق المتعلقة بالنص المعاصر، سواء تلك التي تتعلق به بوصفه بنية لغوية وشكلاً جديداً من الكتابة الشعرية، أو تلك التي تربطه بالقارئ والمتلقي عموماً. ومن ثمّ كان الهدف من هذه الدّراسة :
 
أولاً : الوقوف عند النص الشعري المعاصر والكشف عن مكوناته الفنية ومرجعياته الفكرية. 

ثانياً : تقريب هذا النص من القارئ بإزاحة بعض غموضه الناجم عن توظيف الأساطير والرموز ذات المناحي الفلكلورية. 

وثالثاً : تقريب القارئ من النص بتزويده ببعض الآليات التي تمكّنه من الولوج إلى أعماق القصيدة واستكشاف أسرارها. 

   يؤمن الدّارس إيماناً قوياً بصعوبة قراءة النص الشعري المعاصر وفهمه فهماً صحيحاً في غياب مثل هذه الدراسات والإلمام بالتراث الميثولوجي الإنساني عموماً، لأن هذا النص تأسس ـ في اعتقادنا ـ أصلاً عندما انفتح على هذا التراث فتأثر به وأثر فيه. وذلك بعض آفاق هذه الدراسة التي تطمح إلى التأسيس لقراءة جديدة تستحضر السياق دون أن تغض الطرف عن نسقية النص حين يتحوّل الأسطوري إلى شعري. 

  وبعد فحص المادة والإلمام بجل جوانبها تراءى لي أن أتناول الموضوع انطلاقاً من خطة كانت تبدو أنها ستقود إلى الغايات التي رسمت، وهي الكشف عن بنية هذه القصيدة ومرجعياتها الفكرية والجمالية، من خلال الوقوف عند المصادر والخلفيات التي كان يستقي منها الشعراء مادتهم، والأساليب التي كانوا يستعملونها. 

   وانطلاقاً من طبيعة الموضوع نفسه والغايات التي حاولت تحقيقها، كان من الضروري الاشتغال على النصوص الشعرية، وآراء الشعراء حول الظاهرة، دون الانسياق وراء الجوانب النظرية إلا في الحالات التي تقتضيها الضرورة. ولعل ذلك ما جعل الدراسة تغض الطرف عن كثير من القضايا النظرية للآليات التي اختارتها أن تكون مصاحبة لها في قراءة المتون الشعرية على الرغم من قيمتها في مثل هذه الحالات. غير أن طبيعة الموضوع كانت تقتضي الابتعاد عن التنظير ومقاربة النصوص مباشرة. كما أن اصطحاب النظريات من شأنه أن يحد من حرية الدّارس في قراءة النصوص ويجعله سائراً وفقه. وتلك بعض معضلات النقد المعاصر الذي يغوص في التعاريف دون أن يمكنه ذاك من الولوج إلى عالم النص الذي لا يرتضي دائماً قواعد عامة قد تصلح لنص ولا تصلح لآخر. 

   ومن هذا المنطلق الذي يجعل الجانب النظري في خدمة الجانب التطبيقي في الدراسة، والذي لا يحاول فهم الدلالات إلا في سياقاتها العامة، جاءت خطة البحث نتائج استقراء للنصوص. وعلى هذا القدر من الفهم والاستيعاب تم تقسيم هذه الدراسة في جزئها الأول إلى تمهيد وفصلين وخاتمة. 


مدخل:

   كان المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر إيذاناً بظهور تيارات فكرية ومذاهب أدبية تعددت مشاربها وتنوعت مرجعياتها الفكرية؛ فتباينت تبعاً لذلك أشكالها التعبيرية وآلياتها الفنية وفق أسس شعرية رأى فيها أصحابها القدرة على حمل تجارب العصر الجديدة التي لا تقوى الأشكال التقليدية حملها بالضرورة، مما حذا ببعض الشعراء([1]) إلى الإعلان صراحة عن ضرورة استحداث أشكال شعرية جديدة لا تتطابق مع الشكل الذي ارتضاه الشاعر الجاهلي. 

   فرضت تلك المستجدات على الشاعر أن يعيد النظر في منطلقاته الإبداعية ووسائله الفنية التي اعتاد عليها منذ قرون طويلة، ليتحول بذلك تعامله مع التراث من الإذعان والاستسلام إلى القلق والسؤال. فكان طبيعياً أن تتصف مرجعيته بنوع من الاضطراب واللاتجانس الفكري، وهذا ما حدث فعلاً خلال السنوات الأخيرة بحيث اختلف الشعراء في اختياراتهم وإبداعاتهم، فهناك من بالغ في الاستسلام لهذه التغيرات وتلقى إنتاج كل ما يصدره الغرب من تصورات وأفكار، معرضاً نفسه إلى مخاطر التغريب والمثاقفة السلبية، متخلياً عن هويته وخصوصيته الحضارية. 

  وهناك من حاول أن يبلور مشروعاً شعرياً حداثياً يزاوج فيه بين التراث ومتطلبات العصرنة، وبشكل خاص في مجال إبداع أشكال جديدة تسمح للقيم التراثية أن تعيش فيه بكل أبعادها الفكرية والإنسانية.

1ـ مرحلة الصراع بين العامي والفصيح:

  تبلورت في خضم هذه الأحداث اتجاهات متصارعة حول الشعر العربي الحديث بين أنصار الأدب الفصيح أو الاتجاه المحافظ وأنصار الدعوة إلى الأدب العامي أو الاتجاه التمردي الداعي إلى (التجاوز والتخطي)، فاحتدم الصراع بين ([1]) أمثال يوسف الخال في قوله ((كما أبدع الشاعر الجاهلي شكله الشعري للتعبير عن حياته، علينا نحن كذلك أن نبدع شكلنا الشعري للتعبير عن حياتنا)): مجلة شعر العدد 3 ـ 1957 ص 114 (أخبار وقضايا).

   الشكل الشعري المتوارث هو جعل هذا البناء أكثر تنظيماً وتماسكاً، وخلق نوع من الانسجام والترابط العضوي بين التجربة الشعرية المعاصرة والأدوات الفنية المعبرة عنها. ذلك أن فلسفة الشعر الجديدة أصبحت قائمة على حقيقة جوهرية وهي أننا لا نشد المضمون على القالب أو في الإطار، وإنما نترك المضمون يحقق لنفسه وبنفسه الإطار المناسب([1]). وهو أيضاً ما يراه غالي شكري من أن فلسفة الشعر المعاصر الجمالية تنبع من صميم الخلق الشعري وطبيعته الفنية، وما على الشاعر إلا أن يشكل القالب الموسيقي الذي تقتضيه الدفعة الشعورية في مجملها([2]).

   من هذا المنطلق الجديد لمفهوم الشعر وطبيعته بات من الضروري على الشاعر المعاصر ـ إذا أراد ألاّ يكون مقلداً لسابقيه ـ أن يجدد في طرق تعبيره وأدواته الفنية تماشياً مع هذا المفهوم وهذه الفلسفة الرامية إلى تغيير الرؤى والأشكال والقوالب. ومن ثمّ كانت العودة إلى التراث الشعبي والثقافات القديمة بمختلف أشكالها التعبيرية أمراً ضرورياً لتجاوز المرحلة. وكان التمرد والتحرر من القيود والأشكال القديمة هما أولى مداخل هذا العهد الجديد. 

2ـ مرحلة التمرد على القيود:
 
  كانت الكلاسيكية في بدء نشأتها حركة شعرية سليمة قامت على إحياء التراث القديم واحتذاء أشكاله ونماذجه، وقد نجحت في إنتاج آثار شعرية ونثرية عظيمة، إلا أن خطر تقوقعها ضمن القوالب الجاهزة والقواعد الصارمة كان يهدد روادها بالسقوط في التقليد والاتباع، فكانت النتيجة أن تردى الشعر في هاوية الشكلية والاجترار، وبرزت الحاجة إلى ثورة فنية تقوض أركان الكلاسيكية وتفتح أفق إبداع جديد. 

    وقد ظهرت هذه الثورة أول ما ظهرت بأشكال مختلفة في أوربا، وكان جون جاك روسو (1712ـ 1778) ـ الداعية الأكبر إليها، بفلسفته الرامية إلى أن الإنسان مخلوق ذو غرائز خيرة وميول بسيطة، لكن الحضارة أفسدته وحرمته من السعادة وبخاصة حياة المدينة. وقد اتبعته سلسلة من الآراء المماثلة التي كانت تقف على النقيض التام مع الكلاسيكية وتمجد الإنسان الفرد المتحرر من القيود الأخلاقية والاجتماعية، المعتد بخصوصيته و تفرده واختلافه عن الآخرين. 

   وما أن حلّ القرن التاسع عشر حتى تشكلت مجموعة من الظواهر الأدبية كردّ فعل مباشر على الكلاسكية تمثلت في:
 
1ـ الدعوة إلى التحرر من الأشكال القديمة والأساليب الجاهزة.
 
2ـ تقديم الخيال على العقل، والهروب من الواقع، والالتجاء إلى الحلم، وطلب الانعتاق، والرحيل عبر الزمان بالارتداد إلى القرون الغابرة. 

3ـ العودة إلى الأساطير والتمسك بالدين والمعتقدات الشعبية، والميل إلى الغوامض والخوارق، ورؤية الطبيعة ملاذاً ورفيقاً([3]).

    كان الهدف من وراء هذه الثورة الأدبية تجاوز الأشكال الجاهزة والعزوف عن اللغة المتحجرة، والدعوة إلى الاهتمام بالآداب الشعبية والحياة البدائية، وكل ما من شأنه إثارة الإحساس بالجمال الطبيعي والعفوية والبساطة. لقد ((صاغت الرومنطيقية... مفهوم الفلكلور والفن الشعبي الذي يشكل عنصراً من أهم عناصرها.. ففي بحثها عن الوحدة الضائعة وعن تأليف الشخصية والجماعة، وفي احتجاجها ضد الاستلاب الرأسمالي، اكتشفت الرومنطيقية الأغاني الشعبية، والفن الشعبي، والفولكلور، ونادت بها بلا مواربة، إنجيلاً (للشعب) باعتبارها وحدة متجانسة ومتطورة عضوياً))([4]).

     هكذا قدمت الرومانسية الفن الشعبي بوصفه مقابلاً لجميع أشكال الفن الأخرى، وبوصفه أيضاً ظاهرة تستحق الاهتمام والتشجيع، بل أصبحت وظيفة الأسطورة ومفهومها مثل مفهوم الشعر، لا تتنافس والحقيقة العلمية أو التاريخية، بل إحدى روافدها الأساسية([5]).

    وقد استطاعت الفنون الشعبية بعامة والأسطورة بصفة خاصة أن تأخذ مكانتها الهامة من خلال النقد الأسطوري الذي أرسى دعائمه نورثروب فراي، كما كان لنظرية إرنست كاسيرر (1874ـ 1954) في الترميز التي عرضها في كتابه (فلسفة الصور الرمزية) أثر كبير في تعزيز موقع الأسطورة في الأدب والنقد. فقد رأى نورثروب فراي ((أن استلهام الأسطورة وتحويلها إلى إطار فكري يضم الأدب، يحوّل النقد الأدبي إلى دراسة منهجية، فيكتشف الناقد الدلالة الكبرى التي يحملها تكرار صيغ معينة في آداب الشعوب المختلفة عبر الزمن، وهي أن هذه الصيغ رموز تهجع في اللاوعي الإنساني تعبر عن ذاتها في الحلم على مستوى الفرد، والأسطورة على مستوى الجماعة، وتسمى النماذج الأصلية))([6]). ومن ثم فإن اكتشاف هذه النماذج سيساعد الناقد الأدبي على أن ينظر إلى الأدب في امتداده المكاني والزماني بوصفه كياناً حيّاً يمكن أن يدرس دراسة دقيقة. 

    إن أهمية تشريح النقد عند فراي لا تنحصر في دعوته إلى تحويل النقد الأدبي إلى دراسة منهجية وعلمية فحسب، ولكن في استلهام النماذج الأصلية من حيث هي أسس وقواعد يرتكز عليها النقد الأدبي في تحليل النصوص وإرجاعها إلى أصولها الأسطورية، ذلك أن الأدب من وجهة نظره هو أسطورة قد أزيحت من مكانها، وأفضل طريقة لفهمه هو العودة به إلى نصه الأسطوري الصحيح([7])، وهنا يتخطى الأدب الحدود المحلية والآنية ويغدو تعبيراً رمزياً عن حقائق إنسانية شاملة. 

   ولئن كانت الرومانسية قد حررت الشعر من قيود الكلاسيكية وضوابطها الصارمة وأكسبته قدرة على خلق أشكال فنية جديدة مستقاة من الثقافات الشعبية، فإن الفضل يعود إلى العلماء الذين أسسوا لعلم النفس والأناسة والفلكلور وغيرها من العلوم المهتمة بالثقافات القديمة كالأنثروبولوجية، التي فتحت المجال واسعاً أمام الشعراء والمبدعين على هذه الناحية الغنية بالأشكال والمعارف والخبرات. 

3ـ الإرهاصات الأولى لتوظيف التراث الشعبي:

   قبل الحديث عن عوامل توظيف التراث الشعبي في الشعر العربي الحديث، نرى أنه لا بد من الإشارة إلى حقيقة جوهرية، وهي أن الشعر المعاصر لم يشكل السابقة الشعرية الأولى في توظيفه لهذا التراث، فقد كان هناك رعيل أول سبقه في هذا الميدان، مهد الطريق وذلل الصعوبات، فشكّل بحضوره أثراً في تجربة الشعراء اللاحقين. وكانت أسبقية الشعر المعاصر في كيفية تناول هذا التراث وآليات توظيفه واختيار رموزه التي تضفي على التجربة الشعرية بعدها الفني والإنساني. 

   ومن ثمّ لا مفرّ من الوقوف عند إرهاصات هذا التوظيف وبخاصة عند أولئك الذين كان الشاعر المعاصر يقرأ لهم ويتأثر بهم أمثال شوقي، المازني، العقاد، إلياس أبو شبكة، أحمد زكي أبو شادي، علي محمود طه، جبران خليل جبران، وآخرين. 

  على أن اختيار هؤلاء للحديث عنهم لم يكن اعتباطاً وإنما لتأثيرهم في حركة الشعر المعاصر وتأثرهم بألوان من التراث الشعبي بالإضافة إلى وضوح الرؤيا الأسطورية في أشعارهم، وانتسابهم إلى حركات شعرية كانت تنادي بالتغيير والتجديد والانفتاح على الثقافات والفنون الشعبية المختلفة. وحتى لا نقع في تكرار بعض ما ذكرناه سلفاً، سنشير إلى أبرز عوامل توظيف التراث الشعبي في الشعر المعاصر، محاولين تقييم تلك التجارب أو الإرهاصات من خلال منظار موضوعي فني، آخذين بعين الاعتبار كل محاولة على انفراد.
 
أ- تأثير حركة النقل والترجمة: كانت حركتا النقل والترجمة عند العرب منذ القديم بوابة الانفتاح وعلى الفكر الإنساني وتصوراته، من خلالها تمّ التعرّف على حضارات الشعوب وعاداتها وآدابها وطرائق تفكيرها. وقد ازداد الاهتمام بهما في بداية النهضة الحديثة لما رآه العرب من تقدم وازدهار عند الغرب في شتى العلوم والفنون، فانعكف بعض الكتّاب والشعراء ممن ذكرنا سابقاً ـ في ظل حركة الاتصال والبعثات العلمية التي عرفتها مصر ولبنان ـ على الترجمة ينهلون من معين الآداب الغربية وفنونها. 

   وسرعان ما تجلت آثار هذه الحركة في أدب جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى. فقد ((انتقل هذا الجيل بالترجمة نقلة دانت حد الكمال بما أوتي من قدرة لغوية وأدبية))([8]) كبيرة، ويأتي على رأسهم طه حسين بدعوته إلى ضرورة انفتاح الثقافة العربية الحديثة على الثقافة اليونانية العريقة التي تعدّ من الأسس الهامة للثقافة المعاصرة في العالم كله. ففي كتابيه (من الأدب التمثيلي اليوناني) عن مآسي سوفوكليس و(أوديب وثيسيوس من أبطال الأساطير اليونانية) الذي ترجمه عن أندره جيد، دعوة صريحة للرجوع إلى الأدب اليوناني القديم ممثلاً في روائع المسرح التراجيدي المليء بالأساطير والأجواء الساحرة. يقول طه حسين في هذا الصدد ((ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب، ولكني أعتقد أن هاتين القصتين: قصة سوفوكل وقصة أندره جيد هما وحدهما اللتان تشهدان بأن محنة أوديب .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) ينظر: عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية دار العودة بيروت ط3: 1981 ص 16.

([2]) ينظر غالي شكري: شعرنا الحديث إلى أين؟ ص 115.

([3]) ينظر نسيب نشاوي: مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية في الشعر العربي المعاصر ـ مطابع ألف باء دمشق 1980 ص 157.

([4]) إرنست فيشر: ضرورة الفن ـ ترجمة ميشال سليمان ـ دار الحقيقة بيروت ـ د. ت ص 75ـ 76.

([5]) ينظر: رينيه ويليك: نظرية الأدب ـ ترجمة محي الدين صبحي ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2 ـ 1981 ص 246.

([6]) Northrope Frye; Anatomy of Criticism (Princeton 1957 p 17 نقلاً عن ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 ـ 1978 ص 8.

([7]) ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث ص 16.

([8]) شوقي ضيف: الأدب العربي المعاصر في مصر ـ دار المعارف مصر ـ ط3/ ص 27.


    خليقة حقاً بأن تكون موضوعاً للتفكير الذي يغذو العقل، والفن الذي يغذو القلب، وبأن تكون من أجل ذلك صالحة لتفكير الفلاسفة وابتكار الأدباء على مر العصور واختلاف الأجيال))([1]). 

   ويمكننا أن ندرج ضمن هذا العامل أيضاً ما قام به البستاني في أوائل هذا القرن (1904) بترجمته لإلياذة هوميروس في صورة شعرية رائعة وذلك بعد أن تجشّم الكثير من العناء في سبيل نقلها عن اليونانية، وتطويع الشعر العربي للمواقف والأحداث. وقد قدم لها ببحث أسباب انحراف العرب عن ترجمة الشعر اليوناني وتذوقه جاعلاً خرافات الآلهة وأساطيرها أحد هذه الأسباب. فكان لهذه الترجمة أثر عظيم في نفوس الشعراء والأدباء بحيث تلقوها بحفاوة كبيرة ونوهوا بفضل مترجمها، بل أن جمال الدين الأفغاني تمنى لو أن الأدباء الذين جمعهم المأمون بادروا إلى نقل الإلياذة، حتى وإن أدى ذلك بهم إلى إهمال نقل الفلسفة اليونانية برمتها([2])، لأن الفائدة التي كان سيجنيها منها أكبر بكثير من الفائدة التي جناها من الفلسفة المنقولة عن اليونانية. 

   ولا بد أن ننوّه في هذا السياق أيضاً بالجهد الذي قام به دريني خشبة بترجماته العديدة حين أراد أن يقدم الأدب اليوناني إلى القراءة في أحسن ثوب وأجمل صورة، فترجم الإلياذة ثم الأوديسة، وكتب عن أساطير الحب والجمال عند الإغريق: ((كان يحزنني ألا يعرفها قراءة العربية، على طول ما سمعوا بها، وعلى كثرة ما داعبت خيالهم وغازلت أحلامهم فأنا أقدمها إليهم اليوم، بالطريقة التي آثرت أن أروي بها هذه الأساطير))([3]). وهذا يعني أن دريني خشبة قد تصرّف في الأصل واتبع طريقة جورج تشابمان وهي إعادة كتابة ملحمة هوميروس بالأسلوب والبناء اللذين يعتقد أنهما أصلح لعصره وأكثر ملاءمة للغته([4]). غير أن هذه الطريقة ـ في رأينا ـ جعلت الملحمتين بعيدتين بعض الشيء عن أصلهما الفني الذي أراده لهما هوميروس. 

   لقد كانت هذه الترجمات وغيرها مما سوف نذكره لاحقاً، إحدى روافد الشعر العربي المعاصر وعاملاً من عوامل انفتاحه على الثقافات العالمية وفي مقدمتها الثقافة اليونانية بتراثها وأساطيرها المتنوعة. ومن هذه الترجمات نذكر جهود أحمد شوقي والمازني والعقاد: 

ـ أحمد شوقي: كانت الترجمة والمحاكاة عاملين فاعلين في اهتمام شوقي بالتراث الشعبي وتوظيفه، فقد أعجب بخرافات لافونتين وأسلوبه وهذا ما جعله يقول: ((جربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب لافونتين الشهير، فكنت إذا فرغت من وضع أسطورتين أو ثلاث اجتمع بأحداث المصريين، وأقرأ عليهم شيئاً منها فيفهمونه لأول وهلة، ويأنسون إليه ويضحكون من أكثره، وأنا أستبشر لذلك، وأتمنى لو وفقني الله لأجعل لأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة، منظومات قريبة المتناول، يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم))([5]).

  ويناشد شوقي أدباء عصره أن يسهموا في هذه المهمة، ويخص بالذكر منهم الشاعر خليل مطران فيقول: ((وهنا لا يسعني إلا الثناء على صديقي خليل مطران، صاحب المنن على الأدب والمؤلف بين أسلوب الإفرنج في نظم الشعر وبين منهج العرب. والمأمول أن نتعاون على إيجاد شعر للأطفال، وأن يساعدنا سائر الأدباء والشعراء على إدراك هذه الأمنية))([6]). 

    يتضح من هذا الكلام أن الهدف الرئيس وراء اهتمام شوقي بالتراث الشعبي، وبالخصوص قصص الحيوان منه، إنما هو الرغبة في إيجاد أدب للأطفال، وتتأكد هذه الرغبة إذا علمنا بأن تاريخ حياة هذا الشاعر وجزءاً كبيراً من شعره يؤكدان حبه للأطفال بعامة وأبنائه بخاصة، وحرصه على تثقيفهم لا فيما يقدمه من خرافات وأساطير فحسب، وإنما في قصائد ومقطوعات من شعره([7]).

   يبدو أن هذه الرغبة كانت صادقة إلى حد بعيد، بل لعلها أكثر صدقاً مما كتبه لافونتين نفسه، إذ يرى بعض الدارسين أن لافونتين في حياته الخاصة كان بعيداً عن حبه للأطفال والعناية بهم([8]).

  إن اهتمام شوقي بهذا النوع من التراث يذكرنا بما قام به الأخوان جريم حينما أرادا أن يقدما كتاباً حقيقياً للبيت الألماني وأطفاله، بإصدار أول جزء منه تحت عنوان ((حكايات الأطفال والبيوت))([9]) سنة (1812). غير أن شوقي يختلف عنهما في كونه لم يهتم بلغة التراث الشعبي أي العامية لظروف معينة وأسباب دينية واجتماعية، واكتفى بتوظيف التراث بوصفه قيماً حضارية وتاريخية ينبغي أن تعيش، وقد ازداد اهتمامه به بعد أن جرب بنفسه تأثيره على النفوس كما أشرنا سابقاً. 
اهتم شوقي إلى جانب هذا، بتاريخ مصر الشعبي فنظم فرعونياته المشهورة في أبي الهول والنيل وتوت عنخ آمون، كما أنه ربط شعره بينابيع التراث العربي ورموزه، فاستقى منه مسرحيات وقصائد عديدة مثل (مجنون ليلى) التي تحدث في الفصل الرابع منها عن رواسب المعتقدات الجاهلية حول الجن وصلتها بالإنس، وقيامها بالإلهام للشعراء، وما يشيع عنها في التراث الشعبي من بنائها للمعابد والمدن الكبيرة، كبنائها لهيكل سليمان، ومدينة تدمر... 

    إن الدارس لشعر شوقي يلاحظ بيسر أنه قد استفاد كثيراً من التراث الشعبي العربي والعالمي، كما استفاد من لافونتين وابن المقفع فجاء توظيفه لهذا التراث ((على طريقة من الاستطراد وعدم الدقة الفنية في استخدام الحيوانات كأقنعة للأفكار وكرموز للحياة الإنسانية.. حيث ينسى الحاكي أنه يتقمص شخصية حيوان، فيتحدث عن الإنسان مباشرة، وبذلك يخرج عن حدوده الحيوانية المفروضة فنياً، إلى الحدود الإنسانية التي كان من المفروض أن يومئ إليها دون أن يصرح))([10]).

   وإذا كان أنس داود لا يرى فضلاً لأحمد شوقي كونه اكتفى بصياغة بعض الحكايات وترتيبها في مقطوعات شعرية غنائية بالإضافة إلى انعدام الرؤية المعاصرة التي تعمد إلى تفجير التراث واستغلال طاقاته الحية، لإنارة بعض جوانب حياتنا، فإننا نعتقد أن ما فعله شوقي كان يمثل مرحلة أولى لا بد منها وخطوة حاسمة في مجال تطويع الشعر العربي للموضوعات الشعبية والأحداث الدرامية والمسرحية، ومن ثمّ فإن لـه فضل المبتدئ الذي مهد الطريق وأنار السبيل وألفت الانتباه إلى هذا التراث. 

ـ المازني والعقاد: قام كل من المازني والعقاد إلى جانب طه حسين وشوقي بترجمة بعض القصائد الشعرية بشيء من التصرف والتعديل الذي تقتضيه الظروف والأحوال الاجتماعية. فقد ترجم المازني قصيدة (الراعي المعبود)([11]) إلا أنه لم يهتم بأصلها الميثولوجي الذي يبدو أنه لم يكن يعرف عنه شيئاً، فهو لا يشير مثلاً إلى أن هذا الراعي هو أورفيوس([12]) وأن قصته الشجية ترمز إلى المحبة والجمال وسحر الصوت، لأنه لم يذكر شيئاً من ذلك واكتفى بالإشارة إلى قوة عزف هذا الراعي وحسن غنائه. ولعل أهم شيء يمكن استنتاجه بعد قراءة هذه القصيدة هو إعجاب الشاعر بها وعدم إفادته من عناصر هذه الأسطورة وأبعادها الإيحائية والدلالية. وكما أسلفنا القول فإن عملية النقل والترجمة كانتا عاملين أساسيين في إقحام التراث الشعبي في النصوص الشعرية العربية الحديثة. 

   ومن القصائد التي تؤكد هذا الاتجاه أيضاً قصيدة العقاد (فينوس على جثة أدونيس)([13]) التي ترجمها عن شكسبير. غير أن العقاد أحس بأهمية تعريف هذه الأسطورة للمتلقي، فأشار في الهامش إلى قصة حب فينوس لأدونيس، وكيف أنه كان ولوعاً بالصيد لدرجة أنه أبى نصيحة عشيقته بالإقلال منه، وبقي على حاله حتى قتله خنزير بري، فوقفت على جثته تبكي وتذرف دموع الحزن والأسى([14]). 

   يبدو أن العقاد بفعل ثقافته الواسعة واطلاعه على الآداب الغربية، كان على وعي بما يقدمه التراث الشعبي للشعر من أجواء خيالية رحبة ورموز متجددة، فما لبث أن استخدمه في شعره، فكانت النتيجة أن تراوح استخدامه لـه بين الإشارة العابرة، والتشبيه، ونظم القصة الشعبية([15]).

ــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) أندره جيد: أوديب وثيسيوس ـ ترجمة طه حسين ـ دار العلم للملايين بيروت ط4 ـ 1980 
ص 32.

([2]) ينظر: هوميروس: الإلياذة ـ تعريب سليمان البستاني ـ مطبعة الهلال مصر 1904 ص 25. 

([3]) دريني خشبة: أساطير الحب والجمال عند الإغريق ـ دار الهلال العدد 171 سنة 1965 ص 12.

([4]) هوميروس: الإلياذة ـ ترجمة دريني خشبة ـ دار العودة بيروت ص 6.

([5]) نفوسي زكريا سعيد: خرافات لافونتين في الأدب العربي ـ مؤسسة الثقافة الجامعية مصر ـ 1976 ص 76.

([6]) المرجع السابق ص 76. 

([7]) ينظر: أحمد شوقي: ديوان الشوقيات ـ دار العودة بيروت، المجلد 2 ـ الجزء الرابع (قصيدة أمينة ـ طفلة لاهية ـ لعبة ـ ديوان الأطفال). 

([8]) ينظر: نفوسي زكريا سعيد: خرافات لافونتين في الأدب العربي ص 76. 

([9]) ينظر: فردريش فون ديرلاين: الحكاية الخرافية ـ ترجمة نبيلة إبراهيم دار القلم بيروت، ط1/ 1973 ص26. 

([10]) أنس داود: الأسطورة في الشعر العربي الحديث ـ مكتبة عين شمس ـ مصر ـ ص 166. 

([11]) إبراهيم المازني: الديوان ـ مطبعة محمد محمد مطر ـ القاهرة 1917 ص 161. 

([12]) تروي عنه الأسطورة أنه كان صاحب ألحان موسيقية سحرية تحرك الحيوان والنبات والحجر، لما ماتت زوجته يوريدايسي متأثرة بعضة أفعى، ذهب إلى عالم الأموات حيث بلوتو وبرسفوني معتمداً على ألحانه وأنغام موسيقاه في مناشدتهما إرجاع زوجته، فسمح لـه بإعادتها إلى عالم الأحياء شريطة ألا يلتفت إليها أو يحدثها حتى يجتازا بوابة عالم الأموات، غير أن حبه ولهفته لرؤيتها جعلته يفشل، وتعود يوريدايسي إلى عالم الأموات دون أن يستطيع إخراجها مرة ثانية. وتذكر الأسطورة أن امرأة "تراشية" أغضبها نواحه على زوجته فقتلته. ينزر: ك. ك راثقين: الأسطورة ـ ترجمة جعفر صادق الخليلي ـ منشورات عويدات ـ بيروت ـ ط1 ـ 1981 ص 138، وكذلك دريني خشبة: أساطير الحب والجمال عند الإغريق، دار الهلال مصر العدد 171 ص 74. 

([13]) محمود عباس العقاد: الديوان ـ مطبعة وحدة الصيانة والإنتاج ـ مصر 1967 ص 25. 

([14]) ينظر: محمود عباس العقاد: الديوان ص 25. 

([15]) هناك أساطير أخرى كثيرة استخدمها العقاد في شعره كتلك التي أشار إليها أنس داود في كتابه: الأسطورة في الشعر العربي الحديث دار الجيل القاهرة 1975 ص 234، وعبد الرضا علي في كتابه: الأسطورة في شعر السياب دار الرائد العربي بيروت ط2، 1984 وما بعدها.


  لم يكن العقاد منفرداً في طريقة هذا الاستخدام، بل كان ظاهرة عامة عند معظم شعراء العصر الحديث الذين لم يتمكنوا من توظيف التراث توظيفاً فنياً يسمح لهم بطرح البديل في عالم التجربة الشعرية الحديثة. ولا نعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى أن هؤلاء الشعراء لم يكونوا من أصحاب الخيال المجنح أو الخلاق والعاطفة العميقة المتغلغلة في مظاهر الوجود كما يرى ذلك أنس داود([1])، بقدر ما يعود إلى أسباب فنية، وتقاليد شعرية راسخة، كانت تحول بينهم وبين التجديد الكامل والتغيير الشامل. 

   إن ما قام به الرعيل الأول من شعراء حركة التجديد يعد خطوة هامة في تاريخ الشعر العربي الحديث بالنظر إلى تلك الصراعات الفكرية والحضارية التي شهدها العصر، والتي ما كان لأحد أن يتمرد عليها أو يخرج عن دائرتها، بحيث كان النظر إلى ((كل محاولة لإدخال فن من الفنون الشعبية في مجال الاحتراف محاولة مشبوهة ومتحمسة، لا تستند على أساس من الدراسة الصحيحة والثقافة الجادة والنظر الموضوعية))([2]). 

ب- التأثير الرومانسي والرمزي: كان من أهداف الرومانسية، كما سبقت الإشارة، تحرير الأدب من القيود وكسر الحواجز التي وقفت دون تطوره وفي مقدمتها تلك الأشكال والقوالب الفنية الجاهزة التي ورثها الشعراء عن أسلافهم، والتي أصبحت لا تعبر عن مضامين التجربة الشعرية الحديثة بحرارة وصدق. 
أما الحاجز الثاني فيتمثل في اللغة إذ يرى أقطاب المذهب الرمزي أن اللغة العادية عاجزة عن احتواء التجربة الشعرية، وإخراج ما في اللاشعور، وتوليد الأفكار في ذهن المتلقي. لكن الرمز يمنحها القدرة على نقل هذه التجربة، واجتياز عالم النفس الخفية، لأن الرمز يتضمن قدرة فنية عالية تساعد على التكثيف والإيحاء والتخيل. وبما أن موطن الرمز الأصلي، هو الأسطورة والشعر بوصفهما أرقى صور التعبير الرمزي المنحدرة عن التفكير السحري والمجازي، فإن العودة إليه أصبحت أمراً ضرورياً لتجاوز مرحلة التقليد. 

   حاول بعض الشعراء العرب من هاتين المدرستين (الرومانسية والرمزية) أن يتخذوا من الأساطير مادة للتلميح والإيحاء، وإغناء العمل الأدبي بطاقات رمزية جديدة، كاستخدام جبران خليل جبران لأسطورة أدونيس وعشتروت في لقاء دمعة وابتسامة (1914)، واستخدام زكي أبو شادي لأسطورة أورفيوس ويورديس، وعلي محمود طه في (أرواح وأشباح) التي عمد فيها إلى استخدام بعض الأساطير الإغريقية كأسطورة (هرميس) و(تاييس) و(سافو) و(أورفيوس)، وسعيد عقل في مسرحيتيه الشعريتين (بنت يفتاح 1935) مستمداً موضوعها من التوراة، و(قدموس 1944) التي تروي قصة حب بين زوس وأوروب ابنة ملك صور. 

   ومن هؤلاء أيضاً نجد إلياس أبو شبكة (1904ـ 1947) الذي حاول من خلال لمحاته الأسطورية المستوحاة من الكتاب المقدس (العهد القديم) بثّ بعض آرائه وأفكاره كتلك التي تحدث فيها عن شرور جمال المرأة وما يجره من ويلات للرجال من خلال قصيدته (شمشون) مستخدماً أسطورة دليلة([3]) للتعبير عن فجور المرأة وخداعها للرجل من خلال إثارة شهوته. وقد حاول إلياس أبو شبكة بطريقة ذكية أن يجمع في هذه القصيدة بين أسطورتين متقاربتين في الدلالة، فربط بين خيانة دليلة لشمشون وخيانة ديانيرة لهرقل، فقال: 

ملقيه بحسنك المأجور
وادفعيه للانتقام الكبير 
إن في الحسن، يا دليلة، أفعى 
كم سمعنا فحيحها في سرير 
أسكرت خدعة الجمال هرقلا
قبل شمشون بالهوى الشرير 
والبصير البصير يخدع بالحسن 
وينقاد كالضرير الضرير([4])

   يرى أنس داود أن إلياس أبا شبكة قد حرص على صياغة الأسطورة كما وردت في الأصل دون تحليلها أو اكتشاف أسرار الحياة الإنسانية الخالدة من خلالها، أو إضافة عناصر فنية أخرى إليها، مما جعلها خطابية الطابع كالأحكام المجردة([5]) التي لا يستخلص منها القارئ أي بعد من أبعادها الإنسانية. 
إلا أن أبا شبكة لم يكن ـ في نظرنا ـ بصدد تحليل أسطورة شمشون ودليلة بقدر ما كان يهدف إلى نقل موقف معين وتجربة معينة. فالأسطورة ليست غاية وإنما وسيلة فنية لجأ إليها الشاعر ليؤكد موقفاً معيناً، علماً أن هذه الوسيلة ـ كما يرى ذلك خليل حاوي ـ كانت تفتقر في بعض أجزائها للتوهج الشعري، كما كانت عادة تنتهي إلى عبرة أخلاقية خارجة عن طبيعة الشعر([6]). لكن على الرغم من كل هذا فقد استطاع هذا الشاعر أن يتقدم خطوة إلى الأمام في استخدامه للتراث الشعبي مقارنة مع شعراء عصره، لأنه حاول أن يوحد بين الأسطورة والتجربة في لحمة شعرية واحدة، وإن كان ينقصه التوهج الشعري في بعض الأحيان كما أشار إلى ذلك خليل حاوي. 
 
ـ أحمد زكي أبو شادي (1892 ـ 1955):

   كان أبو شادي، بفعل تأثره بالأدب الإنجليزي بالخصوص، شديد الاهتمام بالتراث الميثولوجي بوصفه أحد الكنوز الإنسانية التي يفتقر إليها شعرنا أشد الافتقار، ويستغرب أمر الذين يرفضون استخدامه: ((ويبلغ الشطط ببعض النقاد أن يستنكر تطعيم أدبنا العربي بالميثولوجيا الإغريقية الرائعة التي نفتقر إليها أشد الافتقار بينما الإنجليز وقد استوفوا نقل الروائع الأجنبية الأوروبية القديمة يرقصون لترجمة الخيام والمعري والبهاء زهير وابن الفارض وغيرهم من شعراء الشرق إلى لغتهم))([7]).

   لقد اتجه هذا الشاعر نحو الأساطير اليونانية والفرعونية، يغترف منها ليضفي على شعره طابعاً إنسانياً عاماً، فكتب قصائده (أورفيوس ويورديس)([8]) (هرقل وديانيرة)([9])، (دانيال في جب الأسود)([10])، (الرابات الراقصات)([11])، (أوزيريس والتابوت)([12])، (إيزيس والطفل)([13]) وغيرها من القصائد الأخرى التي حفلت بها دواوينه وأعداداً من مجلة أبولو التي كان يشرف عليها. 

   يتضح من هذه القصائد أن منهج أبي شادي في توظيف التراث وبالخصوص الأسطورة منه يقوم على نقلها وتقديمها في شكل قصة شعرية، ولذا ألفناه يهتمّ كثيراً بالأسماء والتفاصيل، وكأنه يريد للأسطورة أن تستوفي كل شخوصها وأجوائها، فهو لا يكتفي مثلاً بذكر (أورفيوس ويورديس) وإنما يعرض علينا أسماء أخرى مثل (برسفون) ملكة العالم السفلي و(بلوتو) زوجها و(سربروس) كلب الجحيم وحارس مملكة الموتى، و(أبولو) إله الشعر والفنون، وهكذا. 

  لقد كان هدف أبو شادي من وراء توظيفه لهذا الركام من التراث الشعبي الفلكلوري، جعل القصيدة العربية تنحو منحى القصيدة الغربية في اتساع دائرتها وشمول موضوعاتها ((غير أن أسلوبه لم يستطع أن يخرج بالقصيدة إلى مصاف التجربة الإنسانية العالمية، لخلو تجربته من دلالاتها الاجتماعية التي كان يمكن أن يفجرها الموقف البدائي، لو أنه فطن إليه، ثم إن اهتمامه بالمحافظة على شكل الأساطير وتفصيلاتها أحال قصائده إلى قصص أسطورية لا تملك غير موهبة التشكيل والأداء والنظم. ليس غير))([14]).

ـ علي محمود طه (1902ـ 1949):

   وجد علي محمود طه في التراث الشعبي الإغريقي وقصص التوراة مادة خصبة ومجالاً رحباً لبسط أفكاره وتأملاته الشعرية، فكتب قصيدته الطويلة (أرواح وأشباح) مستمداً شخصياتها من الأساطير الإغريقية والإفريقية والعربية، كشخصية (هرميس) و(ثاييس) و(سافو) و(أورفيوس)، و(ماتا) و(السامري) صانع العجل الذهبي الذي فتن به بنو إسرائيل وعبدوه حين توجه موسى إلى ربه. غير أن بعض هذه الشخصيات كانت مجردة من ماضيها التاريخي والأسطوري، فهي تترك بتأثير من الشاعر وميوله، لذا بدت جاهزة، مخالفة في كثير من سماتها وحقائقها لنسجها الأسطوري القديم على حد تعبير شوقي ضيف([15]). 

ــــــــــــــــــــــ

([1]) ينظر: أنس داود: الأسطورة في الشعر العربي الحديث ص 237. 

([2]) فاروق خورشيد: الموروث الشعبي ـ دار الشروق القاهرة ـ ط1 ـ 1992 ص 6ـ 7. 

([3]) ينظر: جيمس فرايزر: الفولكلور في العهد القديم (التوراة) ترجمة نبيلة إبراهيم ـ دار المعارف ـ مصر ـ ط2 ـ 2/ 551. دليلة كما تذكر الأسطورة قد خانت عشيقها بأن أفشت سرّ قوته لأعدائه، فكانت سبباً في هلاكه. 

([4]) إلياس أبو شبكة: أفاعي الفردوس ـ منشورات دار المكشوف ـ بيروت ط 2/ 1948 ص 21. 

([5]) ينظر: أنس داود: الأسطورة في الشعر العربي الحديث ص 384ـ 385. 

([6]) ينظر: يوسف حلاوي: الأسطورة في الشعر العربي المعاصر ـ دار الآداب ـ ط1/ 1994 
ص 16. 

([7]) أحمد زكي أبو شادي: الينبوع ـ مطبعة التعاون ـ القاهرة 1934 ص: ي. 

([8]) أحمد زكي أبو شادي: الينبوع ص 22. 

([9]) أحمد زكي أبو شادي: الينبوع ص 37. 

([10]) أحمد زكي أبو شادي: الينبوع ص 51. 

([11]) أحمد زكي أبو شادي: فوق العباب ـ مطبعة التعاون ـ القاهرة 1934 ص: 12. 

([12]) أحمد زكي أبو شادي: فوق العباب ص 39. 

([13]) أحمد زكي أبو شادي: فوق العباب ص 41. 

([14]) عبد الرضا علي: الأسطورة في شعر السياب ـ ص: 41. 

([15]) ينظر: شوقي ضيف: الأدب العربي المعاصر في مصر ـ دار المعارف مصر ـ ط 3 ـ ص: 166.


   ومهما قيل عن هؤلاء الشعراء فإن الشيء الثابت لديهم أنهم أخذوا الأساطير بوصفها ميراثاً ثقافياً عن الأولين، فاستعملوها استعمالاً قصصياً حيناً، وأشاروا إليها حيناً آخر دون مراعاة شروط التوظيف وآلياته، بل دون مراعاة المحتوى الوجداني أحياناً الكامن في هذه الأساطير. 
إن التراث الشعبي بوصفه معطى حضارياً وشكلاً فنياً في بناء العملية الشعرية، لم يعرفه الشاعر العربي إلا بعد الخمسينيات من هذا القرن بظهور جيل جديد احتك بالثقافة الغربية وتأثر بها تأثراً قوياً وعميقاً. 

الفصل الأول 

المكوّنات والأصول

ـ الفن والسحر
 
ـ الأسطورة والشعر
 
ـ الجذور الأسطورية للقصيدة العربية 

ـ اللغة وأشكال التراث الشعبي 

المكوّنات والأصول:

1ـ الفن والسحر:

  إن أهم شيء يعنى به البحث في حقل نظرية الأدب أو تاريخ الفن، نشأته ووظيفته وتشكيل صوره ورموزه. وبما أن الشعر يعد من بين أولى النشاطات الفنية للعقلية البشرية([1])، فإن البحث في أصول الفن ومصادره هو نفسه البحث عن بدايات الشعر ومكوّناته. ولن يتأتى هذا البحث على الوجه الصحيح ما لم يتجه في اعتقادنا صوب ميادين علوم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والأساطير (الميثولوجيا) وعلم الشعوب والحضارات (الإثنولوجيا) ممثلة فيما تجمع لدى الباحثين في هذه الحقول من نتائج وآثار تدل دلالة واضحة على أن الفن (الشعر) نشأ نشأة دينية من خلال الطقوس والشعار التعبدية القديمة. 
تذكر بعض هذه النتائج أن الفن، عند نشأته، كان ضرباً من السحر([2]) والممارسة الطقوسية الكلامية التي تستهدف أغراضاً سحرية (اجتماعية واقتصادية) مباشرة، ونادراً ما تستهدف أغراضاً جمالية لأن ((الغرض من النظرة السحرية ومن النظرة الفنية كان واحداً في الحياة البدائية))([3]). ومن ثمّ فإنه من الصعوبة بمكان التمييز بين ما هو نفعي وما هو فني عند الإنسان البدائي الذي كان يفعل كل شيء لأجل هدف معين ضماناً لحياته وعيشه. 

وهذا ما تؤكده النقوش والرسومات القديمة، التي هي برمتها حيوانية تقريباً، والتي يذهب الافتراض إلى القول إن البدائيين كانوا يعتقدون أنه في حال تجسيدهم للحيوان، إنما يكتسبون قوة السيطرة عليه، ولم يكن التمثيل التصويري لديهم سوى استباقاً للنتيجة المطلوبة، فالفنان القديم عندما كان يرسم حيواناً على صخرة أو داخل معبد أو كهف، كان ينتج حيواناً حقيقياً، ذلك أن عالم الخيال والصور ومجال الفن والتذوق والمحاكاة المجردة، لم يكن قد أصبح في نظره ميداناً خاصاً قائماً بذاته([4]) مختلفاً عن الواقع ومنفصلاً عنه. 
تؤكد النظرة السريعة على أقدم مخلفات الفراعنة والإغريق في هذا المجال بشكل واضح أن ((أصول الفن إنما ترجع إلى السحر))([5]) بوصفه إحدى الركائز الاعتقادية والمعرفية في تلك المرحلة من حياة المجتمعات البشرية، وإلى الممارسات الشعبية المعبّر عنها بواسطة الأساطير والأمثال والتعاويذ والأغاني الفلاحية وغيرها، إذ كانت الطقوس والمعتقدات مهداً للفنون والثقافات. 
وقد رافق الشعر والغناء والرقص والتمثيل دوماً المراسيم الدينية والاحتفالات الفلكلورية. ومع إدراك الإنسان لفكرة الحياة والموت، نشأت العمارة في المقابر والهياكل، وانتشرت الرسوم والمنحوتات رموزاً تجسد قوة غيبية لا تدركها الحواس. وقد توصلت الأبحاث التاريخية في هذا الشأن إلى أن أقدم الأساطير كانت غناء دينياً، ثم صارت ملاحم شعرية بفعل تراجع العنصر الديني فيها، وخير مثال نقدمه على هذا التحوّل (من الأسطوري إلى الشعري)، الملاحم اليونانية القديمة التي عمل المنشدون على إعادة إخراجها وخلقها في صيغة مألوفة ومعدة خصيصاً لمناسبة معينة تتماشى وميول الناس من حولهم([6]). والأمر نفسه نراه عند البابليين وغيرهم من الشعوب القديمة ذات الحضارات العريقة. 
قد يطول الحديث إذا أوغلنا في ضرب الأمثلة عن أصل الفن وعلاقته بالسحر وبالخصوص أن مجال اهتمامنا في هذه الدراسة هو الشعر وليس الفن إجمالاً، لكن كخلاصة عامة نقول إن الفنان القديم ظل يعتمد السحر بواسطة عبقريته وإبداعه الفني ليضمن العيش والبقاء. وقد كانت الحرف والصناعات والزخارف والفنون الشعبية جزءاً هاماً من هذه الطقوس أو العبادات التي كان لها مظهر سحري منذ فجر التاريخ، حيث كان ((الفنان ينتج فنه ليدعم عقيدته أو ليؤثر على القوى الخارجية فيجعلها صالحة له، محققة لأمانيه، موطدة لأقدامه في الطبيعة التي يعيش فيها))([7])، وقلما نجد فناً من هذه الفنون بعيداً عن الأغراض السحرية. 
فكل ما أنتجه الإنسان البدائي من رسومات أو صناعات فخارية ونسيجية أو غيرها من الصناعات المرتبطة بحياته اليومية، كان لها مظهر سحري وأهداف معينة. ولذا فإن النظر إلى هذه الفنون على أنها محض نتاج فني أو جمالي شغل به الإنسان القديم نفسه في أوقات فراغه، نظرة تجانب الصواب وتبتعد عن الحقيقة. 
2ـ الأسطورة والشعر:

لعلنا لا نخطئ إن قلنا إن المهتمين بالأسطورة ودارسيها لم يتوصلوا إلى اعتماد تعريف جامع مانع لها، يمكنه الإسهام في توضيح بعض المسائل المتعلقة بطبيعتها وعلاقتها بغيرها من الأنساق التي قد تتداخل معها في الكثير من الجوانب كالشعر مثلاً. 
ولعل صعوبة الوصول إلى هذا التعريف الجامع المانع هو الذي جعل سنت أوغسطين يقول عندما سئل عن ماهية الأسطورة ((إنني أعرف جيداً ما هي، بشرط ألاّ يسألني أحد عنها، ولكن إذا ما سئلت، وأردت الجواب، فسوف يعتريني التلكؤ))([8]). وقد أشار إرنست كاسيرر كذلك إلى هذه الصعوبة فذكر أن المشكلة لا تكمن في نقص المادة بل في وفرتها وتعدد مصادرها، فقد اشترك الأدباء والفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع في هذه الدراسات([9])، كلّ من وجهة نظره واختصاصه. 


ليس الهدف في هذا المقام الوقوف عند هذه الآراء ووجهات النظر، لأن ذلك يستلزم جهداً كبيراً، ليس هذا موطنه، وإنما نريد سبر أغوار مواطن التلاقي والاختلاف بين الشعر الأسطورة، وهل الشعر هو فعلاً كما قيل ((السليل المباشر للأسطورة وابنها الشرعي))([10])؟ 
إن علاقة الشعر بالأسطورة علاقة قديمة تشهد لها العديد من المخلفات الفنية كالملاحم البابلية والإغريقية والصينية. فقد أجمع مؤرخو الصين على أن معتقداتهم الأسطورية كانت المضمون الوحيد لأقدم صور التأليف الشعري عندهم([11])، والإجماع نفسه ينطبق على ملحمة جلجامش والإلياذة والأوديسة التي استقت موضوعاتها من التراث الشعبي العريق. وليس من المستبعد أن تكون بذور الشعر الملحمي قد جاءت من التراتيل والابتهالات الدينية التي كان يؤيدها الكهنة وسدنة المعابد، أو من تلك الأشعار الشعبية التي كان يرويها المنشدون في المحافل والمناسبات الدينية، يروون فيها للناس تاريخ الوقائع والأساطير التي تصوّر بطولات أسلافهم. وقد يعود الفضل إلى هوميروس في جمع هذا التراث وتنسيق عناصره في شكل شعري متكامل قيل إنه ((قمة الأعمال الأسطورية في إطارها الأدبي))([12])، وإلى غيره من المسرحيين اليونانيين المعروفين كإسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس. 
لا أحد ينكر أن الشعر تجربة روحية وجمالية عميقة تتصل بأعمق مكونات الأمة ومشاعرها، وتستخدم من اللغة أقرب ألفاظها وكلماتها إلى الحس، وأكثرها قدرة على الترميز والإشعاع بهذه المكونات. وهذه النظرة لا تختلف ـ في اعتقادنا ـ عن النظرة التي ترى في الأسطورة شكلاً من أشكال التعبير العذري عن التجربة الإنسانية في مغامرتها الأولى مع الطبيعة والحياة. ومن ثمّ فإن كليهما (الشعر والأسطورة) متصل بالتجربة الإنسانية، حافل بمنطوقها وأسرارها، معبّر عن مكوناتها وبواعثها النفسية والجمالية. ومن ثمّ أيضاً، يمكن القول إن عودة الشاعر المعاصر إلى استخدام الأسطورة في الشعر، هو في واقع الأمر، عودة حقيقية إلى منابع التجربة الإنسانية، ومحاولة التعبير عن امتداداتها في وقتنا الراهن، بوسائل عذراء، لم يمسسها الاستعمال اليومي فيمحي عنها صفة القداسة والسحر. 

([1]) ينظر: عبد الفتّاح محمد أحمد: المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ط1، 1987 ص 56. 

([2]) حول علاقة الفن بالسحر، والفنان بوصفه ساحراً. ينظر: هربرت ريد: الفن والمجتمع، ترجمة: فارس متري ضاهر دار القلم بيروت ط1، 1975 ص19. إرنست فيشر: ضرورة الفن، ترجمة: ميشال سليمان دار الحقيقة للطباعة والنشر بيروت ص 15. أرنولد هاوزر: الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة: فؤاد زكريا المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2، 1981، 2/ 33. 

([3]) عبد المنعم تليمة: مقدمة في نظرية الأدب دار العودة بيروت ط3، 1983 ص32.

([4]) ينظر: أرنولد هاوزر: الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة فؤاد زكريا 1/ 18.

([5]) إرنست فيشر: الاشتراكية والفن، ترجمة: أسعد حليم دار القلم بيروت ط1، 1973 ص 23.

([6]) ينظر: أحمد عثمان: الشعر الإغريقي تراثاً إنسانياً وعالمياً، سلسلة عالم المعرفة 77 الكويت 1984 ص 67. 

([7]) سعد الخادم: الفن الشعبي والمعتقدات السحرية، سلسلة الألف كتاب 477، مكتبة النهضة المصرية القاهرة ص 2.

([8]) ك. ك. راثقين: الأسطورة، ترجمة جعفر صادق الخليلي منشورات عويدات بيروت (سلسلة زدني علماً) ط1، 1981 ص9.

([9]) ينظر: إرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة، ترجمة أحمد حمدي محمود الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1975، ص18.

([10]) فراس السوّاح: الأسطورة والمعنى دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، دار علاء الدين دمشق ط1، 1997، ص 22.

([11]) ينظر: أحمد كمال زكي: الأساطير دراسة حضارية مقارنة دار العودة بيروت ط2، 1979 
ص 200. 

([12]) أحمد كمال زكي: الأساطير دراسة حضارية مقارنة ص 203.


وربما كانت الأسطورة من هذه الناحية بالذات، في زمانها، أعمق الأشكال وأكثرها استجابة لحاجات الإنسان في تلك المرحلة، فهي من حيث الشكل قصة، تحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وشخصيات وعقدة. وكثيراً ما تأتي في قالب شعري يساعد على روايتها وتداولها في المناسبات الدينية. أما من حيث التأثير فهي تتمتع بقداسة كبيرة وسلطة عظيمة على عقول الناس، وهي سلطة تضاهي سلطة العلم في العصر الحديث، أضف إلى ذلك أنها ((ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان))([1]). ثم كونها الوعاء الذي تفاعل فيه السحر بالدين، والشعر بالطقوس، والأحلام بالأوهام. 
بهذا الخليط من الأفكار والتصورات والخيال الواسع والظلال السحرية للكلمات، استطاعت الأسطورة أن تعبر عن قلق الإنسان وتساؤلاته، فكانت أول محاولة لفهم قوى الطبيعة والسيطرة عليها ولو بطريقة وهمية وخيالية، لكنها كانت على درجة بالغة من الأهمية في حياة الإنسان. يقول كلود ليفي شتراوس في هذا الصدد إن الأسطورة ((لا نصيب لها من النجاح في إعطاء الإنسان قوة مادية أشد للسيطرة على البيئة، لكنها مع ذلك تعطي الإنسان وهم القدرة على فهم الكون، وأنه فعلاً يفهم الكون وهذا بالغ الأهمية. لكنه مجرد وهم بالطبع))([2]). وهنا تلتقي الأسطورة بالشعر من حيث أنهما يوهمان الإنسان بامتلاك السلطة على الأشياء، ذلك أن اللغة عند مبدعي الأساطير والشعر ليس أداة اتصال فحسب وإنما هي أداة سحرية للسيطرة على الأشياء والكائنات. 
بمعنى آخر إن قوة هؤلاء المبدعين تكمن أولاً وقبل كل شيء في اللغة التي يتحدثون بها، فهي لغة تختلف عن اللغة العادية من حيث الكثافة والإيحاء والقدرة على الترميز والإثارة، فهي تمتلك شحنة من الإحساسات والعواطف ما يجعلها تقرع الصمت وتبث الحياة، بل وأكثر من ذلك تنفث في الإنسان ما يعطيه القدرة على استدعاء الأشياء وامتلاكها. 
يقول مارتن هيدجر MARTIN HEIDEGGER (1889ـ 1976) في هذا الشأن ((اللغة هي التي تفتح لنا العالم، لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل... وكل ما هو كائن لا يمكن أن يكون إلا في (معبد اللغة)... اللغة تقول الوجود، كما يقول القاضي القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصاً تلك التي ينطق بها الشاعر، بكلامه الحافل. أما الكلام الزائف فهو كلام المحادثات اليومية. إن هذا الكلام سقوط، وانهيار))([3]). ومن ثمّ كانت مهمة الشعراء ومنتج الأساطير، مهمة صعبة وشاقة، لأنها تتطلب لغة خاصة قادرة على اختزال الفعل الإنساني. 
وثانياً في طريقة استعمال هذه اللغة، وهي طريقة ـ كما حدثنا عنها بعض الدارسين ـ سحرية وغريبة في الوقت ذاته، يصعب تقنينها أو القبض عليها، بل ووصفها في بعض الأحيان. لأن كل قصيدة أو أسطورة لها حياتها الخاصة التي هي مصدر قوتها وبقائها وجمالها. وهذا يعني بعبارة أخرى أن كل قصيدة أو أسطورة هي بمثابة مولود جديد يحمل جيناته وسماته التي تحفظ لـه وجوده وتجعله مستقلاً عن الآخرين. 
والغريب في هذه اللغة، المستعملة بهذه الطريقة، أن بإمكانها هدم كل ما هو أمامها من أفكار وتصورات مؤسسة، بفعل تأثيرها السحري واستخدامها المفاجئ غير المكرور. وهنا يكمن السرّ الذي تتمتّع به الأسطورة والشعر على حد سواء. وربما لهذا السبب دعا أفلاطون في كتابه الجمهورية إلى ضرورة استبعاد الشعراء من مدينته([4]) التي تقوم على العقل، حتى لا يستبدون بها وبشبابها. والسّماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة والخيال، وهما عنصران لا يريد أفلاطون أن تقوم عليهما جمهوريته. 
وإذا كانت اللغة هي مفتاح العالم على حد تعبير هيدجر أو ((فعل خلق للوجود وإعادة تشكيله تجريدياً))([5]) على حد قول غيره، فإنها لن تكون كذلك إلا في الأسطورة والشعر بوصفهما أرقى الأشكال ترميزاً وإيحاء، وكونهما رسالة سرمدية موجهة للإنسان، تبين عن حقائق خالدة وتؤسس لصلة عميقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الحياة والموت. 


فالأسطورة مثلاً لا تروي أحداثاً جرت في الماضي وانتهت، وإنما تروي كذلك أحداثاً لا تتحول إلى ماض أبداً. ففعل الخلق الذي تمّ في الأزمنة المقدسة، يتجدد في كل عام ويجدد معه الكون وحياة الإنسان([6]). وإله الخصب (تموز) الذي قتل ثم بعث إلى الحياة، موجود على الدوام في دورة الطبيعة وتتابع الفصول، وصراع (بعل) مع الوحش، هو صراع دائم بين قوى الخير وقوى الشر. وحتى تلك الأساطير التي تروي أحداثاً تاريخية مضت كأسطورة الطوفان([7]) أو (الدمار الشامل)، فهي في الواقع لا تخفي اهتمامها بالمستقبل، فالطوفان الذي دمّر الأرض وخرّب من حولها، تحذير دائم من أن غضب الآلهة وانتقامها قد يصيب الإنسان في أي وقت من الأوقات. 
ومن هنا يمكننا القول إن همّ الأسطورة والشعر لا يكمن في التعبير عن الأشياء العارضة، المنتهية في الزمان والمكان، وإنما في التعبير عن القيم الخالدة والنماذج الكبرى في حياة البشر، وقد أشار كارل يونغ إلى هذه الفكرة حين تحدث عن الأساطير بوصفها أكثر نتاج البشرية البدائية نضجاً وتعبيراً عن هذه النماذج، والشعر العظيم عنده يستمد قوته من حياة النوع البشري([8])، تلك الحياة التي تبدو بعيدة لكنها تختفي في ذات كل واحد منا، تظهر من حين إلى آخر في أعمالنا الأدبية وإبداعاتنا الفنية بل وفي أحلامنا الليلية أيضاً. 
ومعنى هذا أن كلاً من الشاعر وصانع الأسطورة يستمد خبراته ورموزه من الحياة النفسية والفكرية للنوع البشري. والمعروف عن هذه الحياة ـ كما يصفها علماء النفس والأنثروبولوجيا ـ أنها غنية بالصور والخيالات والرموز، وهي تضرب في أرض خصبة، عميقة الجذور والمتاهات والأغوار. وبقدر ما يكون غوص الفنان في هذه الأغوار والمتاهات، يكون أصيلاً وقريباً من طبيعة الفن، ومن طبيعة هذه النماذج التي يعتبرها نورثروب فراي([9]) أساس توحيد تجربتنا الأدبية وتكاملها. 
ومن الواضح أن الفنانين يتفاوتون في مقدار هذا الغوص، فمنهم من يصل إلى الأعماق ومنهم من يبقى على السطح، كل على قدر موهبته وعبقريته بل واستعداده للغوص. وقد لا يكون النجاح حليفاً في كل مرة، فهناك من الفنانين من بلغ هذه الأعماق في بعض أعماله الفنية، وخاب في بعضها الاخر، والعكس. لأن ذلك مطلب عسير يتطلب استعداداً روحياً ونفسياً خاصاً، وهو ما لا يتوفر دائماً. ولنا في كبار الفنانين والشعراء الصوفيين والرمزيين من أمثال محي الدين بن عربي وابن الفارض وأبو العلاء المعري وبودلير (1821ـ 1867) ورامبو (1845ـ 1891) ومالارميه (1842ـ 1898) خير مثال على ذلك. 
يبدو أن التقارب الشديد بين الأسطورة والشعر من حيث اللغة والوظيفة، كما رأينا سابقاً، ناتج من الأرضية الواحدة أو المتشابهة التي ينطلق منها كل من الشعراء ومبدع الأساطير، فهما ((يعيشان في عالم واحد، ولديهما موهبة أساسية واحدة هي القدرة على التشخيص، ولا يستطيعان أن يتأملا شيئاً دون أن يمنحاه حياة داخلية، وشكلاً إنسانياً))([10]) متميزاً، وكأنهما ينفثان في الأشياء من روحيهما فيهبونها القدرة على الإفصاح عن نفسها. ونعتقد أنه بغير هذا النفث أو البقية من السحر في الأسطورة والشعر، فإنهما يكفّان عن أن يكونا فناً عظيماً، لأن من طبيعة الفن الأصلية أن يكون فيه شيئاً من السحر وإلا أصبح كلاماً عادياً. وبقدر ما يشع هذا السحر في العمل الفني، تكون عظمته وقيمته، بل وتأثيره في النفوس والأرواح. وربما هذا ما جعل بعضهم، كما أشرنا سابقاً، يربط بين الفن والسحر ربطاً قوياً. 
إن ما يربط الشاعر المعاصر بالأساطير والتراث الشعبي القديم عموماً، هو تلك السمات الفنية التي تتمتع بها هذه الأساطير ومنها القدرة على التشخيص والتمثيل، ومنح الحياة للأشياء الجامدة، واستخدامها الظلال السحرية للكلمات والصور البيانية القادرة على الإحاطة والكشف، أضف إلى ذلك، هذه الطاقة الخيالية الجامحة القادرة على ارتياد عالم الطبيعة والإنسان. 

([1]) فراس السوّاح: الأسطورة والمعنى دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية ص14.

([2]) ينظر كتابه: الأسطورة والمعنى، ترجمة: صبحي حديدي الدار البيضاء 1986 ص 17ـ 18. 

([3]) عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1، 1984، 2/ 604 (مادة هيدجر).

([4]) ينظر أفلاطون: جمهورية أفلاطون ـ ترجمة وتقديم نظلة الحكيم ومحمد مظهر سعيد ـ دار المعارف ـ مصر ط2 ـ ص: 56.

([5]) محمد الزايد: المعنى والعدم بحث في فلسفة المعنى، منشورات عويدات بيروت (سلسلة زدني علماً) 
ط1، 1975، ص 205. 

([6]) حول هذه الفكرة ينظر: ميرسيا إيلياد: أسطورة العود الأبدي ترجمة حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة دمشق 1990 ص33 وما بعدها. من بين الأفكار التي يطرحها هذا الكاتب أن البشر يلجأون إلى تأمين حياتهم عن طريق تكرار الفعل الإلهي المتمثل في خلق العالم والإنسان إذ ((بفضل تكرار فعل الخلق الكوني يجري إسقاط الزمان المادي الواقعي... في الزمان الأسطوري، في ذلك الزمان الذي فيه حصل إنشاء العالم. هكذا يجري ضمان الواقعية وتأمين الديمومة)) ص 38.

([7]) حول هذه الأسطورة ينظر: فراس السواح: مغامرة العقل الأولى دراسة في الأسطورة. سوريا. أرض الرافدين، دار علاء الدين دمشق ط11، 1996 ص153 وما بعدها. 

([8]) ينظر: ك. غ. يونغ: علم النفس التحليلي، ترجمة نهاد خياطة، دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا 1985 ص206.

([9]) ينظر: تشريح النقد، ترجمة محي الدين صبحي الدار العربية للكتاب 1991 ص145.

([10]) أرنست كاسيرر: فلسفة الحضارة الإنسانية أو مقال في الإنسان، ترجمة إحسان عباس، دار الأندلس بيروت 1961 ص 266.

3ـ الجذور الأسطورية للقصيدة العربية:


اصطدم جل الباحثين الذين تصدوا لدراسة الشعر العربي في نشأته الأولى بصعوبات جمة حين حاولوا تصور البداية التي نشأ عليها هذا الشعر، بحيث أصبح فيما بعد على قدر كبير من النضج والاكتمال. غير أن هذه الصعوبات لم تنل من عزيمة بعض هؤلاء الباحثين([1]) الذين راحوا ينقبون عن هذه الجذور مستعينين بمختلف العلوم والمعارف. 
وكانت النتيجة التي انتهى إليها هؤلاء أن للقصيدة العربية جذوراً في المعتقدات الشعبية القديمة، فقد ظل ((الشعر العربي يتمثل في وضوح حياة العرب وطوابعها الشعبية طوال عصوره))([2]) المختلفة، من هذه الطوابع ما ذكره كارل بروكلمان([3]) عن وظائف الشعر وكيف أنه كان ينشد لأغراض سحرية تساعد على تحمل مشاق العمل (الجني، الصيد). ولم يكن شعر الرجز بعيداً عن تلك الأغراض والممارسات المرتبطة بالأدعية والتعاويذ. وليس بعيداً عن هذا الافتراض، ما ذكره علي البطل([4]) حول بداية الشعر العربي وصلته بالأساطير والطقوس معتمداً على خبر أورده ابن الكلبي مفاده أن قبيلة (عك) كانت تلبيتها إذا خرج أفرادها حجاجاً تتمثل في تقديم غلامين أسودين من غلمانها ليكونا أمام الركب فيقولان: 
نحن غرابا عك، فتقول عك من بعدهما: 
عك إليك عانية ـ عبادك اليمانية ـ كيما نحج ثانية([5])
ويعلق علي البطل على هذا الخبر ذي الوظيفة السحرية([6]) بقوله ((المهم أننا نجد في هذه الشعيرة الطقوسية آثاراً شعرية في تلبية عك، وهي ثلاث شطرات من الرجز الذي تتجه إليه أنظار الباحثين رائين فيه البداية الأولى للشعر العربي))([7])، وبالخصوص أن هذه الأشطر جاءت موزونة، متساوية، مسجوعة، منسجمة في ألفاظها وحروفها، مما يجعلها أقرب إلى سجع الكهان الذي هو أصل الكلام الشعري فيما يعتقد. وللكشف أكثر عن هذه الجذور نعرض لغرضي الرثاء والهجاء بوصفهما أقدم الأغراض الشعرية ارتباطاً بالممارسات السحرية والشعبية. 
أ- الرثاء وطقوس الموت:


يعد الرثاء من أكثر الأشكال الشعرية ارتباطاً بالموروث الشعبي لما يتميز به من خصائص شفهية كشدة الاهتمام بالقافية والتجنيس السجعي والترديد والترصيع بأنواعه. وربما خير مثال نقدمه على هذا الارتباط بعض قصائد الخنساء التي لا يستبعد أن تكون منحدرة من الشعر الشعبي الترنيمي الذي يتميز بجرسه ونغمه أكثر من تميزه بأفكاره ودلالاته. فعندما تقول الخنساء:


يهدي الرعيل إذا ضاق السبيل بهم 

 
نهد التليل لصعب الأمر ركّابا


المجد حلته، والجود علّته  

   
والصدق حوزته، إن قرنه هابا 


خطّاب محفلة، فراج مظلمة  

 
إن هاب معضلة سنّى لها بابا


حمال ألوية، قطاع أودية



شهاد أندية، للوتر طلاّبا


سمّ العداة، وفكاك العناة، إذا



لاقى الوغى لم يكن للموت هيابا([8])


يمكن للدارس أن يلاحظ في هذا المقطع شيئين أساسيين: 

أولاً: ابتعاد الشاعرة عن الأصوات الصاخبة والمتنافرة واعتمادها على الحروف المهموسة، المتقاربة والأصوات المتماثلة، وأيضاً اعتمادها على التكرار والحوار وقوة التخييل العاطفي، وهي السمات نفسها التي 

_______________

([1]) من هؤلاء نذكر: نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي. وعلي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري.

([2]) شوقي ضيف: الشعر وطوابعه الشعبية على مرّ العصور، دار المعارف مصر ط2، 1984، ص6.

([3]) ينظر كتابه: تاريخ الأدب العربي، ترجمة عبد الحليم النجار دار المعارف مصر ط4، 1959، 1/ 
45.

([4]) ينظر كتابه: الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع ط2، 1981 ص50.

([5]) ابن الكلبي: الأصنام، تحقيق أحمد زكي الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة 1965 ص7.

([6]) يبدو أن هذه القبيلة كانت تعتقد أن هذين الغلامين سوف يحملان السوء عنها، وما صياحهما إلا للفت أنظار الأرواح الشريرة إليهما بدل القبيلة. بمعنى أن وظيفة هذا الطقس كانت وظيفة سحرية تطهيرية. 

([7]) الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها، ص 51.

([8]) الخنساء: الديوان ـ دار بيروت للطباعة والنشر ـ بيروت ـ 1986 ـ ص8.


ميز الشعر الشعبي في مجال العديد والرثاء([1]).

ثانياً: اعتماد الخنساء على الجمل القصيرة والتقسيم المتساوي أو المتجانس مما يساعد على ترديد الصوت في تكرار بطيء، وكأن الشاعرة كانت تهذي بقصائدها زمناً قبل أن ترويها شعراً. 
وما يقال عن الخنساء يقال أيضاً عن المهلهل في رثاء أخيه، وابنة عم النعمان بن بشير في رثاء زوجها، مما يدل على أن أشعارهم أو على الأقل بعض قصائدهم أعدت خصيصاً لطقوس الموت كالنواح والتّفجّع وغيرهما مما يندرج ضمن الاحتفالات الجنائزية التي كانت تقوم على الأراجيز ذات الموضوعات الشعبية التي يناح بها على القتلى والموتى بهدف طمأنتهم في قبورهم وإبعاد الأرواح الشريرة عنهم([2]). فالنياحة والبكاء وحلق الشعر وغيرها من الطقوس التي أشار إليها شعر الرثاء في مواطن كثيرة، كفكرة الثأر والخلود والانتقال من مكان إلى آخر، كلها معتقدات ورموز لبقايا أساطير شعبية عرفها العرب في جاهليتهم. 

ب- الهجاء وطقوس السحر:


وفي الهجاء مثال آخر عن علاقة الشعر بالتراث الشعبي، وهذه المرة بالممارسات السحرية على وجه الخصوص، فقد ذهب بعضهم([3]) إلى القول بأن الهجاء بدأ طقساً سحرياً وممارسة قائمة بذاتها يراد بها إلحاق الأذى والضرر بالعدو، مستدلين على ذلك بأخبار كثيرة منها ما ذكره الشريف المرتضي في أماليه من أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء لبس حلة وحلق شعر رأسه إلا ذؤابتين، ودهن أحد شقي رأسه، وانتعل نعلاً واحدة([4])، كما فعل لبيد بن ربيعة عندما أراد أن يتصدى لموقف الربيع بن زياد حين أوغر صدر النعمان على بني عامر. 

 وقد قيل إن حسان بن ثابت كان يخضب شاربه بالحناء حتى تتخذ لون الدم([5])، اعتقاداً منه أن هذا اللون يضاعف من قدرة الرجل على الهجاء وبالتالي إصابة الهدف، وهو اعتقاد قديم كانت تلجأ إليه الجماعات الإفريقية حينما تعمد إلى تلوين أجسادها بالخطوط والأشكال المختلفة حين خروجها إلى الصيد أو مواجهة الأعداء. 

  كل هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الهجاء كان ضرباً من ضروب السحر التشاكلي الذي تحدث عنه سير جيمس فرايزر([6]) الذي يهدف إلى إحداث أثر الشعيرة بجزأيها العملي والقولي في التأثير على الآخر. يقول عبيد بن الأبرص: 

صقعتك بالغر الأوابد صقعة



خضعت لها، فالقلب منها جريض([7])


   لو تأملنا قليلاً هذا البيت لوجدناه يرتكز على معتقد سحري قديم يعطي للكلمة الصدارة الأولى بوصفها القوة التي يستطيع بها الإنسان أن يقهر عدوّه، لأن الكلمة عند البدائيين لا تعني القول فقط، وإنما الفعل أيضاً، وبعبارة أخرى فإن الكلمات عند هؤلاء لا تصف الأشياء فحسب، وإنما تحاول إحداث أثر فيها([8]) لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بجوهر الأشياء والمخلوقات التي تعبر عنها. فالشاعر هنا صقع عدوّه بالكلمة، لأن الأوابد، الواردة في البيت تعني الكلمات أو القصائد، فكانت النتيجة خضوع العدو وتقهقره أمامها. وربما لهذه الأسباب وصفت قصيدة الهجاء بأنها قصيدة غريبة([9]) يخاف منها الجميع. 

   قد يطول الحديث إن نحن تتبعنا كل الأغراض الشعرية وكشفنا عن علاقتها بجانب من جوانب الثقافة الشعبية أو بالأحرى الحياة الشعبية البسيطة بمعتقداتها وتصوراتها. ويكفي هنا أن نشير إلى ما كتبه شوقي ضيف حول هذه العلاقات وكيف أن الشعر العربي ظل على مرّ العصور يحمل طوابع شعبية قديمة وحديثة، وأنه عما قريب ((ستتم للشعر الفصيح طوابعه الشعبية وتتكامل، ولا يعود يشعر بمزاحم لـه من الشعر العامي))([10])، ويبدو أن الاهتمام المتزايد من طرف 

____________

([1]) حول خصائص قصيدة العديد ينظر: عبد الحليم حفني: المراثي الشعبية (العديد) الهيئة المصرية العامة للكتاب 1982 ص272.

([2]) ينظر: مصطفى عبد الشافي الشوري: شعر الرثاء في العصر الجاهلي دراسة فنية، الدار الجامعية للطباعة والنشر بيروت 1983 ص157.

([3]) من هؤلاء نذكر: كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ترجمة: عبد الحليم النجار 1/ 46، علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها ص192.

([4]) ينظر: علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها، ص193.

([5]) ينظر أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني ـ تح: لجنة من الأدباء ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ 4/ 140.

([6]) ينظر: الغصن الذهبي (دراسة في الدين والسحر) ترجمة أحمد أبو زيد الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1971 ص 109.

([7]) الديوان، تحقيق كرم البستاني بيروت 1964 ص 103، الجريض: الغصة عند الموت. 

([8]) ينظر: إرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة، ترجمة أحمد حمدي محمود الهيئة المصرية العامة 1975 ص373.

([9]) ينظر: عباس بيومي عجلان: الهجاء الجاهلي صوره وأساليبه الفنية ص 136.

([10]) شوقي ضيف: الشعر وطوابعه الشعبية على مرّ العصور ص243.

الشعراء المعاصرين بالتراث الشعبي بمختلف أنواعه وأشكاله، هو الذي أوحى للكاتب بمثل هذا الاعتقاد.

    قد لا نكون مخطئين إن قلنا إن الشيء الذي نمى هذا الاعتقاد سواء عند شوقي أو غيره، هو تلك الدعوات التي كان يدعو إليها بعض أنصار الحداثة وحاملو لواء التجديد في الشعر ـ وعلى رأسهم يوسف الخال ـ حين دعوا إلى ضرورة الانفتاح على الثقافة الشعبية واللغة اليومية بوصفها ثقافة حيّة قادرة على التعبير عن هموم الإنسان المعاصر. 

   أضف إلى ذلك ما كتبه بعض المنظرين للشعر المعاصر من أنه ((ليس ظاهرة شاذة معزولة تحتكرها طبقة من الناس تترفع على سائر الناس وتنقطع عنهم فتتخذ ما يحلو لها من لغة تامة الاصطناع، تامة الانبتار عن لغة البشر العاديين))([1]) فمما لا شك فيه أن مثل هذه التصريحات هي التي شجعت على تبني هذا الاعتقاد والقول بأن الشعر المعاصر سيحتل مزيداً من مكانة الشعر العامي بتخليه عن لغته واقترابه من لغة الحديث اليومي.

    لكننا لا نعتقد أن الشعر الفصيح سيتخلى نهائياً عن مكانته، في يوم ما، للشعر الشعبي، لأن للفصيح أنصاره وتاريخه، كما أن للعامي أنصاره وتاريخه أيضاً، لكن هذا لا يمنع من تأثر أحدهما بالآخر أو العكس، كما حصل في العصور السابقة، والمقصود بالتأثر هنا، عملية التوظيف، أي أن يستخدم أحد الشاعرين عناصر (صورة، فكرة، رمز) من الآخر أو العكس مما يخدم شعره وأفكاره. ويبقى الفرق بينهما يكمن في أيهما كان بارعاً في عملية التوظيف والاستخدام. لأن جودة الشعر وجماله، سواء كان فصيحاً أم شعبياً، من هذه الناحية بالذات، تتوقف على حسن توظيف الآخر توظيفاً فنياً بارعاً. 

   ومن الأدلة الأخرى عن علاقة الشعر بالموروث الشعبي ما ذكر عن عملية الإبداع الشعري من أساطير وحكايات وقصص عجيبة سواء عند العرب قديماً أو غيرهم من الأمم والحضارات، فالغموض الذي أحاط بهذه العملية، جعل العرب يحيطونها بجملة من التصورات الميتافيزيقية حيث أنزلوا الشاعر منزلة كهنوتية فأخرجوه من دائرة عالم الإنس إلى عالم الجن، فهم ((يزعمون أن كلاب الجن هم الشعراء))([2])، وأن لكل شاعر جن أو شيطان يوحي إليه الشعر ويقوله على لسانه، يقول امرؤ القيس:
 
تخيرني الجن أشعارها فما



شئت من شعرهن اصطفيت([3]) 


  فالجن هي الموحي والمؤثر في عملية الإبداع، وحضور الشاعر هو كحضور الجن باعتبار أن هذا الأخير بمثابة القرين الذي يلازم الشاعر ولا يبارحه، أو قل هو الذات الشاعرة متلبسة بالشاعر([4]). والغريب أن الشعراء أنفسهم تبنّوا هذه الأفكار واعتقدوا أن هناك قوة عجيبة خفية ترافقهم وتعينهم على قول ما يتعذر على غيرهم من سائر الناس، وهي روح تختارهم من بين أترابهم، تعطف عليهم وتلهمهم رائع الكلام في قالب موزون مقفى([5])، وأن هذه الأرواح (الجن) تسكن بواد يسمى (عبقر) ـ أقام عبقر في المجتمع الجاهلي مقام الأولمب في المجتمع اليوناني ـ فجعلوه مصدراً لأجمل الأشعار وأردئها، فنسبوا الجيد منها إلى جني يسمى (الهوبر)، وخصوا الرديء بآخر يسمى (الهوجل)، ووصفوا الشاعر بالكاهن والساحر لأن كلاهما يتلقى الوحي من الجن والشياطين، وكلاهما يمتهن لغة الأسرار والرموز. 

    بل الشاعر عندهم أقوى تأثيراً وأوسع مجالاً من الكاهن، فإذا كان تأثير هذا الأخير لا يتعدى دائرة المعبد وطقوسه، فإن تأثير الشاعر يشمل القبيلة كلها بل قد يتعداها إلى غيرها فيتسامع به الناس في كل مكان. ومن هنا كان الاحتفال به عند القبائل الجاهلية أقوى وأعظم من الاحتفال بالساحر أو الكاهن([6]). 
 
   ومهما ذكرنا عن علاقة الشعر بالمأثور الشعبي عموماً، وعلاقة الشاعر بالساحر أو الكاهن، وهي علاقة وطيدة ومتينة تشترك فيها جميع الآداب، كما أوضحنا سابقاً، فإن القصيدة العربية عند الجاهلي كانت شبيهة بتميمة الساحر وطقوس العابد، يصدرها بدوافع روحية وفكرية، قاصداً بها إصلاح الخلل، حماية لحياته وحياة عشيرته. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) محمد النويهي: قضية الشعر الجديد ـ نقلاً عن يوسف الخال ـ نحو شكل جديد لشعر عربي جديد ـ مجلة شعر ع31/ 32 لبنان ـ 1964 ـ ص 124.

([2]) الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر): الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون دار الجيل، بيروت 1996ـ 6/ 229.

([3]) امرؤ القيس: الديوان، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف مصر ط3، 1969 ص183.

([4]) ينظر: نهاد توفيق نعمة: الجن في الأدب العربي، بيروت 1961 ص150.

([5]) ينظر: نهاد توفيق نعمة: الجن في الأدب العربي ص 149.

([6]) ينظر: محمود شكري الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، دار الكتاب العربي مصر ط3، 3/ 84.

   وعلى الرغم مما ذكره بعض المحدثين المهتمّين بالنص الشعري العربي القديم حول علاقة الشاعر الجاهلي بالجن والتي يقولون فيها بأن ((صورة الجن التي التبست بذات الشاعر الجاهلي، يستدعي أمرها ذكر نوبة الاختلال وعدم الاتزان التي تعتري المبدع في جو من الانفعال الشديد الذي يرنو إلى كوة الاتزان والتطهير، ذلك أن عالم الانفعال يكون شبيهاً بعالم الحلم أو عوالم الجنون))([1])، فإن هذا لا ينفي مثل هذه الاعتقادات وبالخصوص إذا علمنا أن العقلية البدائية تدعو إلى الاعتقاد بأن العالم الذي يحيط بها عبارة عن لغة تستعملها الأرواح والجن في مخاطبة بعض العقول([2])، أضف إلى ذلك أن الثقافة تلك المرحلة كانت تستلزم مثل هذا الاعتقاد، لأنها ثقافة قائمة على التصورات الغيبية والطقوس الشعبية، وإلا كيف نفسر إيمان الشعراء أنفسهم بهذه الأفكار. 

   فعلاقة الشاعر بالجن، والشعر بالسحر وغيره من الفنون والأشكال القولية الشعبية، علاقة يكشف عنها الذهن القديم بكل ما يحمله من رواسب وأفكار وخيالات ورؤى وتراكمات مثيودينية مختلفة. 

   لم يكن هذا الاعتقاد مقتصراً على العرب وحدهم، ففي اليونان كان الشعراء يتوسلون لربات الشعر وآلهة الفنون muses ليتلقوا منها الوحي، وكانوا يستهلون قصائدهم بعبارة ((غني غني ربات الشعر))([3]) معترفين بأنهم ليسوا أكثر من وسطاء وأن كلماتهم ليست سوى كلمات هذه الآلهة. وقد ازداد هذا الاعتقاد اتساعاً عندما ساد الظن بأن الشعراء هم أبناء هذه الآلهة([4]).

  تذكرنا عبارة (غني غني ربات الشعر) بكثير من مطالع الشعر الشعبي الجزائري([5]) التي تبدأ بذكر اسم الله والرسول، كقولهم: ((بسم الله نبدأ هذا العنوان))([6])، ((باسم الله نبدأ هذوا الأشعار... بجاه النبي شفيع المذنبين))([7])، ((بسم الله أبديت كلامي بالتعبير...))([8]). وهي مطالع ضرورية كتلك التي ألفناها في الشعر الجاهلي، لأنها أشبه ما تكون بالطقس الذي لا يستقيم الشعر بدونه. 

   والغريب أن هذا الاعتقاد ظل سائداً إلى عصرنا الحديث عند بعض الشعراء، فقد اعتقد مالارميه أن الآلهة هي التي توحي لنا بالأبيات الأولى من القصيدة، أما البقية فينبغي أن نعتمد فيها على أنفسنا([9]). وشبيه بهذا التصور ما ذكره شلي من أن الشعر ليس قوة خاضعة لأحكام الإرادة، وإنما لقوة خفية([10]). 

   ومهما ذكرنا من هذه التصورات، فإن الفضل يعزى إلى الرومانتيكية في إحيائها وترسيخها في أذهان الشعراء والمبدعين بسبب ما اتصفت به من أفكار غامضة وخيالات واسعة وأحلام مجهولة. فقد حاول أنصار هذا المذهب الكشف عن طبيعة عملية الإبداع الفني، فربطوا بين الشعر والأسطورة من جهة، وبين الخيال والأحلام من جهة أخرى، واعتبروا الأسطورة والحلم منشأ الشعر ومهده الذي يترعرع فيه، فالأحلام عندهم كالشعر تنتزعنا من حياة العزلة وتصلنا بالأعماق النفسية وتربطنا بروابط خفية مع مصيرنا الأبدي([11]). وبهذا أعاد هؤلاء الأنصار إلى حقل الشعر والذاكرة، العديد من الأفكار والتصورات القديمة التي سوف ينشأ في أحضانها الشعر المعاصر. 

   في ظل هذا التصور المتميز بالغموض والإغراق في الذاتية ظهرت القصيدة المعاصرة وهي تشق طريقها إلى أعماق النفس من خلال لغة الرموز والأساطير والأحلام التي وصفت بأنها المنافذ المطلة بالإنسان على عوالم البداية والخلود. 

ـــــــــــــــــــــــ

([1]) حول علاقة الجن بالإبداع الشعري ينظر: اسطنبول ناصر: تداعي الوعي في الشعر الجاهلي، مخطوط رسالة ماجستير، معهد اللغة والأدب العربي جامعة وهران 1985 ـ 1986 ص 150.

([2]) ينظر: ليفي بريل: العقلية البدائية، ترجمة محمد القصاص مكتبة مصر، د. ت ص 52.

([3]) بهذه العبارة أو مثلها كانت تبدأ معظم قصائد الشعر الغنائي، ومنها الإلياذة والأدويسة لهوميروس. حول هذه الربات أو الآلهة وعلاقتها بالشعراء ينظر: أحمد عثمان: الشعر الإغريقي تراثاً إنسانياً وعالمياً، سلسلة كتب عالم المعرفة الكويت ع77، 1984 ص 57 وما بعدها. 

([4]) قيل عن هوميروس أنه ابن بوسيدون إله البحر مرة، وابن أبولو إله الشعر مرة أخرى، وقيل أن أمه كانت حورية من حوريات الماء ينظر: أحمد كمال زكي: الأساطير ص 119.

([5]) ينظر: ابن مسايب: الديوان، إعداد: الحفناوي أمقران السحنوني وأسماء سيفاوي، المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1989 ص29، 71، 74. وأيضاً التلي بن الشيخ: دور الشعر الشعبي الجزائري في الثورة المؤسسة الوطنية للكتاب ـ الجزائر ـ ص: 320، 494.

([6]) أحمد حمدي: ديوان الشعر الشعبي (شعر الثورة المسلحة) منشورات المتحف الوطني للمجاهد 1994 ص102، والقصيدة بعنوان (على الجزائر ذقت الأغبان) للشاعر قيوس الجيلالي المولود بتاريخ 9 سبتمبر 1930 بوادي الخير بمستغانم الجزائر.

([7]) أحمد حمدي: ديوان الشعر الشعبي (شعر الثورة المسلحة) ص 105.

([8]) أحمد حمدي: ديوان الشعر الشعبي (شعر الثورة المسلحة) ص 111 من قصيدة (معركة جبل محارقة) للشاعر محمد شبيرة المولود بتاريخ 14 أكتوبر 1927 بالمسيلة الجزائر، والتي نظمها سنة 1957.

([9]) ينظر: نور ثروب فراي: تشريح النقد، ترجمة محي الدين صبحي الدار العربية للكتاب 1991 ص 385 (من الهامش). 

([10]) أحمد الطريسي أعراب: التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط 1989 ص 14.

([11]) ينظر: محمد غنيمي هلال: الرومانتيكية دار العودة بيروت 1973 ص99ـ 100.

    فأصبحت للكلمة الشعرية على لسان الشاعر المعاصر مكانة عالية لا تختلف عن المكانة التي كانت لها عند الإنسان (الشاعر) الأول، لا يدري كنهها وتأثيرها إلا أولئك الذين اكتووا بنارها:
 
ولأنك لا تدري معنى الألفاظ، فأنت تناجزني بالألفاظ 
اللفظ حجر 
اللفظ منية([1])

   أما الرؤيا الشعرية فقد أصبحت هي الأخرى ((تتكون بفعل عملية سحرية غريبة عن قواعد المنطق))([2]) والمألوف، أو كما قال أدونيس ((قفزة خارج المفهومات السائدة))([3])، فهي أقرب إلى منطق الحلم والنبوءة. ونتيجة لذلك وصف الشعر بأنه كالسحر([4]) أو الممارسة الميتافيزيقية التي تضرب صوب الخارق والفائق. 

    كل هذا، يجعلنا نذهب إلى القول إن القصيدة المعاصرة أصبحت تنحدر لحظة تشكلها ونهوضها، من الرحاب ذاتها التي كانت تنحدر منها المعتقدات والأساطير، وأصبحت نظرة الشاعر المعاصر كنظرة الإنسان الأول حينما كان يخاطب الأشياء وكأنها أرواح تسمع وتستجيب لندائه ودعائه، يقول أدونيس: 

لو أنني أعرف أن أكلم الأشياء.. 

وقلت للأشياء والفصول 

تواصلي كهذه الأجواء

مدي لي الفرات

خلّيه ماء دافقاً أخضر كالزيتون([5])

   يتمنى الشاعر لو أنه يعرف كيف يكلم الأشياء، كما كان يكلمها أسلافه، ليتمكّن من الغوص في أعماقها فيشعر بأنه جزء منها، أو من هذا العالم الغريب الذي أصبح لا يقيم للإِنسان وزناً. إن عجز الشاعر عن تكليم الأشياء والتواصل معها، يفسر عمق الهوة التي تفصلنا عن الكون من جهة، وعن المجتمع والآخرين من جهة ثانية، كما أنه يكشف غربة الشاعر المعاصر ووحدته. وهذا القصور في التواصل مع الأشياء أو العالم بصورة عامة، سببه الفقر الروحي الذي أصاب حضارة القرن العشرين من جراء طغيان المادة وتراجع القيم.

   وربما خير مثال نقدمه على هذا الفقر قصيدة (البئر المهجورة) ليوسف الخال التي هي محاولة بحث عن انبعاث روحي يخلص النفس من عمقها ومأساتها، فالأرض صحراء قاحلة بل هي كالجثة الهامدة التي لا حياة فيها، والبشر عليها عطاش أو كالموتى لا يدرون ما يصنعون، والبئر من حولهم تفيض بالمياه، لكن من ذا الذي يلتفت إليها، أو على الأقل يرمي فيها بحجر:

عرفت إبراهيم، جاري العزيز، من زمان.

عرفته بئراً يفيض ماؤها

وسائر البشر

تمرّ لا تشرب منها، لا ولا

ترمي بها، ترمي بها حجر([6])

وتزداد مأساة الشاعر عندما ينظر إلى الطريق فلا يرى إلا الأشباح السوداء:

وفي الطريق ألف شبح وشبح،

وهاهي الوجوه خزف، قماقم

والخاتم اللبيك صدئ،

والبسط الريح استحالت طائراً،

عجلة تدور والزمان واحد،

وشهرزاد ما تزال تسرد الحياة ههنا حكاية.

وشهرزاد جسد،

كالورق الذي يهر، جسد

والسر في الجذور.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) صلاح عبد الصبور: الديوان دار العودة بيروت ط4، 1983، ص 265.

([2]) السعيد الورقي: لغة الشعر العربي الحديث مقوّماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية، دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت ط3، 1984 ص87.

([3]) زمن الشعر، دار العودة بيروت ط3، 1983 ص9.

([4]) أدونيس (علي أحمد سعيد): زمن الشعر ص31.

([5])-أدونيس (علي أحمد سعيد): الآثار الكاملة، دار العودة، بيروت ط2، 1971-2/35.

([6])-يوسف الخال: الأعمال الشعرية الكاملة 1979 دار العودة، بيروت، ط2، 1979 ص203.

وعبثاً نصيح: نحن كالرياح

حرة تجيء من مكانها وحرة تروح.

لنا التراب بيت رحم وكفن،

والموت وحده البقاء([1])

    فشهرزاد التي استطاعت – كما تروي حكايات ألف ليلة وليلة – أن تنقذ النساء من بطش شهريار وتخلصهن من الموت المحتوم عليهن، لم تعد قادرة على بعث الحياة من جديد، لأنها لم تستطع إنقاذ البشر من الموت الذي خيّم على كل شيء..

   فشهرزاد الروح أو الحياة انتهت ولم يعد لها أثر، ولم يبق منها إلا الجسد الذي صار كالورق الذي يهرّ لكن بدون جدوى. بهذه الطريقة أو الأسلوب دخل الشاعر في تناص عكسي مع حكاية شهرزاد، فجاء توظيفه لها مخالفاً للأصل، وهذا يعني أن الشاعر لم يكن من المقلدين أو الناقلين للتراث كما هو، وإنما راح يغير منه تماشياً مع تجربته وما يتطلبه الموقف منه من تبديل وتغيير.

   فالكل يعرف أن شهرزاد في ألف ليلة وليلة كانت رمزاً للحياة والسعادة والحرية والأمن والمستقبل. لكن هل كانت كذلك في المقطع؟ ماذا فعل إذن يوسف الخال بهذا الرمز؟

   ذكرنا فيما سبق أن شهرزاد الروح، الفكرة، الموقف، الجذر، قد انتهت ولم يعد لها حضور في هذا الزمن البائس، وبقيت شهرزاد الجسد رمز الشهوة والإثارة الجنسية والفتنة والغواية([2])، فهي لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لأن الشاعر جردها من كل الصفات الحيوية التي ذكرت بها في حكايتها الأصلية التي كان بإمكانها أن تكون من خلالها بطلة هذا العصر أو على الأقل من نماذجه المتميزة، لكنه أراد لها أن تكون كذلك ليعبر من خلالها عن الموت الشامل الذي أصاب الأمة ورموزها الخالدة.

   لم تكن شهرزاد الشخصية التراثية الوحيدة التي عرفت هذا التحوّل، فهناك العديد من الرموز والشخصيات التي شهدت هذا التغيير نفسه داخل النصوص الشعرية، وبالخصوص تلك التي كتبت بعد هزيمة حزيران 1967 التي حطّمت العزائم وأذهبت كل الآمال، وامتد أثرها إلى رموز الأمة فأصابها الضعف والوهن. فالسندباد المغامر قد توقف عن المرحلة وعنترة بن شداد الفارس العربي المعروف بالشجاعة والبسالة، تحوّل إلى شخص ضعيف مستكين، وخالد بن الوليد (سيف الله المسلول) صار (سيف الله المغمد)([3])، وسيف بن ذي يزن في بادية العراق يحتضر([4]).

   أما إبراهيم والبحر (الماء) كما يتضح من هذه القصيدة (البئر المهجورة) فهما رمزان للخلاص والانبعاث. لكن السؤال المطروح، لماذا اختار يوسف الخال إبراهيم رمزاً للانبعاث ولم يختر شهرزاد مثلاً، علماً أن هذه الأخيرة كانت من بين الشخصيات التراثية التي استقطبت أنظار الأدباء والشعراء([5]) في تلك الفترة؟.

   هل أراد هذا الشاعر بالإشارة إلى إبراهيم أن يبحث عن رمز جديد لم يستخدمه الشعراء؟ أم أنه كان تحت تأثير تصور غربي مفاده أن الانبعاث لن يتحقق على يد عربية كشهرزاد؟ أم لأن إبراهيم رمز الدين وأب الأنبياء، وأن الخلاص لا يكون بغير الدين والعودة إلى الله؟ أم لأنه أراد أن يجمع بين الدين ممثلاً في إبراهيم، والتراث الأسطوري ممثلاً في تموز وأدونيس بوصفهما رمزا الموت والانبعاث، بهدف تشويه الحقائق والأفكار؟.

    يبدو أن كل هذه الاحتمالات واردة، لكن الشيء الذي استطاع يوسف الخال أن يتوصل إليه، بخلاف غيره من الشعراء، هو إِيمانه بأن الخلاص لا يكون بغير العودة إلى الدين (المسيح والله) بكل ما يستلزمه من صبر وتضحيات، لكن البشر يرفضون هذه التضحيات، وفي ظل هذا الرفض يتساءل الشاعر عن مصير هذه الأمة أو البشرية الرعناء:

ترى، يحوّل الغدير سيره كأن

تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر،

ويطلع النبات في الحجر؟([6])

ـــــــــــــــــــــــــ

([1])-يوسف الخال: الأعمال الشعرية الكاملة 1979 ص 210.

([2])-بهذه الرمزية وظفت شهرزاد في الآداب الغربية، ويبدو أن جالان مترجم الليالي كان سبباً في تشويه هذه الرمزية أو النموذج الأصلي لحكاية شهرزاد بالخصوص حتى تتلاءم مع بيئة الغرب وتقاليده.. حول هذا الموضوع ينظر: مصطفى عبد الغني: شهرزاد في الفكر العربي الحديث دار الشروق، بيروت، ط1، 1985، ص 24-25.

([3])-ينظر: علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر دار الفكر العربي القاهرة 1997 ص 127.

([4])-عبد العزيز المقالح: الديوان دار العودة، ط3، 1983، ص313.

([5])-لم يتبع يوسف الخال أسلوب الكثير من الشعراء في السطو على الرموز المكتشفة حتى لا يقع في النمطية والتكرار، فكان يكتشف رموزه بنفسه ولا يعوّل على غيره من الشعراء، عكس أولئك الذين كانوا يلجأون إلى التقليد، فما إن ينجح شاعر في توظيف شخصية أو رمز للإيحاء ببعض أبعاد تجربته حتى يتصارع إليها بقية الشعراء فيوظفونها بالمدلول نفسه، وعندها تفقد تلك الشخصية كل طاقاته الإيحائية وقدراتها على الترميز. ويعد هذا التقليد من أخطر المزالق الفنية التي تهدد عملية توظيف التراث بعامة في الشعر العربي المعاصر.

([6])-يوسف الخال: الأعمال الشعرية الكاملة 1979 ص 203.


   و(البئر المهجورة) قصيدة أسطورية تتقاطع مشاهدها مع مشاهد (الأرض الخراب) لإليوت ورموزها، ((فإبراهيم أشبه بتموز أو أدونيس، ورمز الماء لا تخفى أهميته في القصيدتين. ومفهوم العقم الروحي في سياق القصيدة ووجوب الانطلاق منه لبعث الأرض والنفس هو صلب موضوع قصيدة إليوت. بالإضافة إلى هذا تم التركيز على مفهوم الخصب ورمزه (الماء) عند كلا الشاعرين))([1])، غير أن يوسف الخال يحمّل هذا الرمز (الماء) أو البحر كما يشير إليه في هذه القصيدة، بعداً حضارياً جديداً، فالبحر في شعره هو طريق الانفتاح على العالم الغربي وحضارته، وهو الهاجس الذي ينبغي ركوبه وخوض غماره لأنه سبيل الخلاص والتحرر من الأفكار القديمة.

   إن التخلص من ثقافة الصحراء (رمز الحضارة العربية)، والعودة إلى ثقافة البحر (رمز الحضارة الغربية) هي إحدى الأساسيات الجوهرية التي ينطلق منها يوسف الخال في تصوره لفكرة الانبعاث، ((فالحضارة الغربية هي حضارتنا نحن بقدر ما هي حضارة الفرنسي والألماني والروسي... ونحن لا قيمة ولا مستقبل لنا، في العالم العربي، إن بقينا خارجها ولم نتبنّها من جديد ونتفاعل معها ونفعل فيها. إنها لنا وهي نحن))([2]) ولا سبيل للانبعاث بغيرها. ذلك هو طريق الخلاص إذن الذي خطه الشاعر، وهو طريق انتهى إليه بعد معاناة طويلة وخيبة أمل من انبعاث داخلي يقوم به أفراد الأمة.

4- اللغة وأشكال التراث الشعبي:

   عندما توقف صلاح عبد الصبور عند ت. س. إليوت قال: ((لم تستوقفني أفكاره أول الأمر بقدر ما استوقفتني جسارته اللغوية))([3]) لكن ما المقصود بالجسارة اللغوية تلك؟ وهل فعلاً أن لغة إليوت هي أهم ما يميز أعماله الشعرية؟ ثم ما هي خصائص هذه اللغة التي استوقفت العديد من الشعراء العرب وليس صلاح عبد الصبور فحسب، فراحوا يقلدونه ويكتبون على منواله؟ يبدو أن صلاح عبد الصبور كان على وعي تام بالمسألة الشعرية، وهي مسألة لغوية بالدرجة الأولى، لأن ما يميز القصيدة المعاصرة ليس هو خروجها عن الأوزان القديمة وطريقة الكتابة والبناء فحسب، بل الذي يميزها فعلاً عن القصيدة الكلاسيكية هو لغتها وقاموسها الشعري، وهو قاموس أسطوري وتراثي بالأساس، فأغلب الشعراء –كما سيأتي الحديث لاحقاً- كانوا يدركون أن اللغة الشعرية القديمة لم تعد تجدي نفعاً في هذا العصر، ومن ثمّ كان الإقبال على لغة التراث الشعبي وأساطيره لما يزخر من رموز وصور شعرية.

   فلو تأملنا قليلاً شعر الرواد، وأعني السياب، صلاح عبد الصبور، خليل حاوي، يوسف الخال، عبد الوهاب البياتي... لأدركنا فعلاً أن الأساطير والمعتقدات الشعبية كانت عند هؤلاء قاموسهم الثري الذي يستخرجون منه مفردات لغتهم، ويثرون به دلالاته الفكرية والشعورية ويفجرون في نفوس قرائهم –من خلاله- طاقات من الإحساس بتاريخ البشرية عبر قرونها الطويلة، وبهموم الإنسان المعاصر، ومصير الأمة العربية الممزقة بين الماضي والحاضر.

  إن الجسارة اللغوية التي كان يعنيها صلاح عبد الصبور هي هذا القاموس الشعري أو بالأحرى هذا التراث الإنساني الذي كان يستقي منه ت.س.إليوت رموزه وصوره، يقول هذا الأخير في معرض حديثه عن اللغة الشعرية إن: ((اللغة التي تتداولها كل الطبقات، هي التي تعبر أصدق تعبير عن الانفعال والوجدان))([4]) وقد دفعه هذا الاعتقاد إلى اعتماد هذه اللغة في شعره لما تحمله من إرث حضاري عميق. فكانت النتيجة أن خرج بلغة جديدة قرّبته من الواقع والحياة المعاصرة إلى حد الالتحام بها، ولعل أصدق شاهد على هذه اللغة بصورة خاصة والتراث الشعبي الإنساني بعامة، قصيدته (الأرض والخراب) التي تظهر فيها استعمالاته الفنية لمختلف أشكال هذا التراث.

   يتضح مما سبق أن اللغة التي كان يبحث عنها الشاعر العربي المعاصر هي نفسها تلك اللغة التي حدثنا عنها إليوت، لغة التراث الشعبي بل لغة الشعوب والأمم المكافحة من أجل البقاء، تلك اللغة التي لا تزال تحتفظ بحرارتها وتتسم بطابعها السحري الخلاب.. اللغة التي تستطيع أن تنفذ إلى أعماق النفوس والأشياء فتترك أثراً فيها أو عليها. إن ((اللغة التي يتداولها الناس قد تكون أحياناً أقوى من لغة القاموس لأنها، عندما تندرج في سياق القصيدة، تتصفى فتصير 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

([1])-ديزيره سقّال: الأرض الخراب والشعر العربي الحديث (دراسة تأثير قصيدة ت. س. إليوت في الشعر العربي الحديث) ص81.

([2])-مجلة شعر العدد 15 صيف 1960 ص 139 من رسالة كتبها يوسف الخال إلى سلمى الخضراء الجيوسي يرد فيها على بعض استفساراتها وتهجمها عليه.

([3])-صلاح عبد الصبور: حياتي في الشعر دار اقرأ، بيروت، 1992، ص 127.

([4])-ت. س. إليوت: مقالات في النقد الأدبي ترجمة لطيفة الزيات دار الجيل للطباعة القاهرة، ص 49.

رمزاً))([1]) شعرياً يحمل في ذاته أبعاداً نفسية وحضارية لا حد لها.

   أضف إلى ذلك فإن من ميزات هذا التراث اتصافه بالجدية والرمزية والشمول، والخيال الواسع والعاطفة الصادقة والصور الحية المتحركة، وهو إلى جانب هذا يتمتع بلغة ذات طابع سحري عجيب وقداسة كبيرة([2]). وفي أساطير التكوين والأصول، والموت والانبعاث والخلود خير مثال على ذلك. كل هذا دفع الشعراء إلى الالتفات إلى التراث والاهتمام به، بغية البحث فيه عما يثري إبداعاتهم الفنية ويخرج بها إلى طور الجدة والمعاصرة([3]). ويبدو أن القليل من هؤلاء الشعراء الذين عرفوا كيف يستغلون هذه الكنوز ويستثمرونها في قصائدهم استثماراً فنياً يجنبهم الوقوع في التقليد والاجترار.

    ومن أبرز هذه الكنوز نجد الأسطورة والحكاية والمثل والأغنية والمعتقدات والسير الشعبية. وقد كانت الأسطورة أكثر هذه الأشكال عناية لما تزخر به من رموز ودلالات فلسفية عامة، وتأتي بعدها الحكاية والقصة الشعبية ثم بقية الأشكال الأخرى ومنها السير الشعبية التي كان حظها قليل إذا ما قيس بثرائها الفني والفكري وامتلائها بالأحداث والشخصيات المتنوعة ذات الاتجاهات المختلفة. وقد يعود السبب في ذلك إلى طولها المفرط وعدم اتضاح بعض المواقف فيها والشخصيات، في حين نجد الشعر يعتمد الكثافة والإيحاء واللمحة المركزة، وهو ما لم تركز عليه السير الشعبية، ولذا فإنه من الصعب على الشاعر اختصار هذه المواقف والأحداث في موقف أو حدث واحد. ومن بين الشعراء الذين اهتموا بهذا الشكل الأدبي نجد عبد العزيز المقالح في قصيدته المطوّلة (رسائل إلى سيف بن ذي يزن)([4]).

    تتكون القصيدة من ست رسائل، كلها موجهة إلى سيف بن ذي يزن، كتبها الشاعر ما بين عامي 1961-1971 في أماكن وظروف مختلفة. يدور مضمون الرسالة الأولى والثالثة حول فكرة انتظار عودة سيف بن ذي يزن من المنفى للاستنجاد به، يقول في مقدمة الرسالة الأولى:

سفحنا عند ظل الدهر تحت قيودنا ألفاونصف الألفمن أعوامنا العجفاوأنت مشردوبلادنا تدعوك وا ((سيفا))
........................

أغانيك الحزينة لم تعد نارالقد خمدتتكاد على المدى تخفىفحطم حائط المنفىوجئنا فارساً متوهجاً سيفانثور بهنصول بهلعل بلادنا من ليلها تشفى([5])وفي الرسالة الثالثة:متى تهل من سمائنا الحزينة السوادمتى نرى وجهك يا ((بن ذي يزن))أنهش في انتظارك القيودأطيل في انتظارك الصلاة.. والسجودأقبل التراب والأحجار والدمن

ــــــــــــــــــــــــــــــــ 

([1])-ديزيرة سقّال: الأرض الخراب والشعر العربي الحديث (دراسة تأثير قصيدة ت. س. إليوت في الشعر العربي الحديث) منشورات ميريم لبنان، ط1، 1992، ص 23.

([2])-مما يروى في هذا الشأن أن أحد الباحثين سأل أحد الهنود الحمر من قبيلة إيو عن لغة قبيلته وأساطيرها فقال له: ((إن هذه الأمور مقدسة ولا أريد الحديث عنها. كما أنه ليست من عادتنا ذكرها إلا في المناسبات الدينية الخاصة)) فراس السوّاح: الأسطورة والمعنى (دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية) دار علاء الدين، دمشق، ط1، 1997، ص 14.

([3])-يقول يوسف سامي اليوسف في هذا الشأن: ((أن الشعر المعاصرة قد تأسس منذ أن ولجت الأسطورة كبعد بنيوي شعوري إلى جسد القصيدة)) الشعر العربي المعاصر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1980، ص 44.

([4])-عبد العزيز المقالح: الديوان دار العودة، بيروت ط3، 1983، ص 281.

([5])-عبد العزيز المقالح: الديوان ص282-294.

متى تعود؟
متى تهز في أقدامنا القيود؟تقرحت أجفانناتقرحت أجساد شوقنا الغريبونحن في انتظار الشمسفي انتظار القادم العظيم([1])

   وتتعرض الرسالة الثانية إلى خيبة أمل الشاعر لأن سيف بن ذي يزن لن يعود، لقد مات في منجم الفحم يصارع وحش السعال –كما جاء في الرسالة الرابعة-

يقولون: ماتأقام لـه الليل قبراً على شاطئ البحر في ((زنزبار))بلا كفن تحت وجه النهارومن حوله ترقد الذكريات........................

يقولون: عند ((ثلوج الشمال))
وفي ليلة من ليالي الشتاء الحزينوفي منجم الفحم مات يصارع وحش السعالوماتت بعينيه أشواقه والحنينوأطفاله عند أقصى الجنوب عرايايطلون من خلف كوخ الرمالوينتظرون الهدايا([2])

   أما الرسالة الخامسة فهي ندب وبكاء على الوطن والأهل المشردين، وتفجع وحزن كثير:
بكيت إذ بكيتك الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــ

([1])-عبد العزيز المقالح: الديوان، ص 301-303.

([2])-عبد العزيز المقالح: الديوان، ص305-306.

بكيت أهلنا المشردين، حلمنا الغريب، ذا يزن
بكيت حاضراً يضج بالجراح
ماضياً يعج بالمحن
........................

نزحت فوق القبر دمع العين
شطرته نصفين
أسقيت نصفه لأحزاني
ونصفه الآخر
أسقيت اليمانيين في الشطرين([1])

    أما الرسالة السادسة فهي عبارة عن جواب، أو الرّد الأخير، الذي أنهى الأمل وقطع الانتظار وأسال الدموع. يبدو من هذه الرسالة وكأن الشاعر كان في حالة حلم أو غيبوبة طويلة ثم استفاق على وقع هذه الكلمات قاطعة الرجاء:

لا تنتظر..
لا تنتظر..
لن تمطر السماء أبطالاً
وسيف في بادية العراق يحتضر
أحلامه، عيناه، في الظلام تنفجر
وقدماه للدجى موثقتان
سيفه جريح
وصوته ذبيح
يبكي،
يثور،
يشتكي، يصيح
........................

لا تنتظر..
فبرق الشام خلّب
والفارس القديم لن يعود([2])

  والكلمة الأخيرة هذه (لن يعود) تذكرنا بقول بدر شاكر السياف في قصيدته رحل النهار ((هو لن يعود))([3])، هل هو تشابه في التعبير؟ أم إيمان راسخ لدا الشاعرين بعدم الانبعاث والنهوض من الغفوة والتدهور الذي أصاب الأمة العربية في هذا العصر؟.

   مما لا شك فيه أن هذه الجملة تعبر عن استفاقة الشعراء من الحلم الذي رسمته النهضة العربية في بدايتها، فالتحوّل الذي بدا في الأفق مع مطلع هذه النهضة، والذي عبر عنه الشعراء بوسائل فنية كثيرة منها أساطير الموت والانبعاث، سرعان ما تكشّف عن خيبة أمل حادة، لأن ((التفاؤل الناشئ عن هذا الضرب من التحول، لا يمكن أن يكون إلا تفاؤلاً وهمياً، لأنه ناتج عن ثقة لا متناهية بقدرة الكلمة على إحداث تغيير مادي في الواقع المعيش، مع أن مهمة الكلمة، مهما كانت قيمتها، إنما تنحصر في إحداث تغيير نسبي))([4]) على مستوى الفكر والشعور، لكن الواقع شيء آخر أكبر من أن تؤثر فيه الكلمات والخطب.

  فسيف بن ذي يزن المعوّل عليه في هذا الانبعاث قد مات كما مات غيره من الأبطال، ومن العبث انتظاره أو الاستنجاد به. وفي هذا إشارة من الشاعر إلى أن الاعتماد على الماضي في بعث هذه الأمة وهم وزيف، فالانبعاث لا يتحقق بغير العمل والتضحية. وتكاد هذه الفكرة أن تكون عامة عند الشعراء فالسياب([5]) وأدونيس([6]) وحاوي([7]) كلهم عانوا من زيف الانبعاث الطبيعي كما ترسمه 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])-عبد العزيز المقالح: الديوان، ص 310-312.

([2])-عبد العزيز المقالح: الديوان، ص 313-314.

([3])-بدر شاكر السيّاب: الديوان، دار العودة، بيروت 1971-1/229.

([4])-أحمد المعداوي: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث منشورات دار الآفاق الجديدة، المغرب، ط1، 1993، ص189.

([5])-ينظر: الديوان، دار العودة، بيروت 1971-1/457 التضحية عند السياب هي الإقبال على الموت، والانبعاث في نظره لا يكون بغير الصلب وتحمل الخطيئة.

([6])-ينظر: الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، ط5، 1988-1/163 من قصيدة (البعث والرماد) حيث يقول: ((ما أروع الحريق، ما أجلّه.. ما أعظم العراك، أي بطل سينتهي)) النار عند أدونيس هي طريق البعث والخلاص، وهي المحور الأساس الذي يدور حوله معظم شعره، وهي ممثلة عنده في أسطورة الفينيق.

([7])-ينظر: الديوان، دار العودة، بيروت، 1993، ص 126 حيث يقول: ((فلنعان من جحيم النار.. ما يمنحنا البعث اليقينا)) بمعنى أن البعث الحقيقي معاناة وتضحية.

الأساطير، وعادوا إلى القول بالتضحية لأن لا شيء يأتي بغيرها. ذكرنا فيما سبق أن من الصعب على الشاعر اختصار كل الأحداث والمواقف التي تزخر بها السيرة في حدث أو موقف واحد، فما صنع عبد العزيز المقالح بقصة سيف بن ذي يزن في قصيدته تلك؟ هل وظف الشاعر بعض العناصر وأغفل بعضها الآخر أم أنه استلهم روح هذه القصة ومغزاها فقط؟.

   ليس من مهمة الشاعر أن يتمسك بكل ما جاء في القصة من تفاصيل وأحداث ومواقف، فهو يختار ما يخدم تجربته الشعرية ويزيدها عمقاً في نفسية قارئه. فعندما نقرأ هذه القصيدة نشعر وكأننا نعيش أجواء هذه السيرة بأحداثها وتفاصيلها بل ومواقف بطلها سيف في صراعه مع الأحباش والروم، لأن الشاعر كان يعتمد على تقنية (الفلاش بك)، فهو من حين إلى آخر يفتح نافذة تاريخية على حدث من أحداثها كذكرة لكسرى ملك الفرس وأبرهة ومنية النفوس محبوبة سيف، فيشعر القارئ وكأنه يتابع السيرة ذاتها بأسلوب شعري رصين. أضف إلى ذلك الجو المسيطر على القصيدة وهو جو مأساوي (حزن، بكاء)، الذي يذكرنا بدوره ببعض الحالات النفسية التي كان يمرّ بها سيف بن ذي يزن نفسه([1]). وهي حالات تشبه الحالات التي كان يمر بها الشاعر من شدة حزنه على وطنه.

  وإذا كانت السيرة تصور سيف بن ذي يزن فارساً قوياً وشجاعاً لا تقف أمامه الحدود ولا تثني من عزيمته الشدائد والخطوب، فإن القصيدة تقدمه في صورة أخرى مخالفة للأولى، إن لم نقل مناقضة لها في كل شيء إلا الاسم:

الفارس القديم لن يعود
قوائم الحصان في الرمال غرقت
تحولت إلى حجر
وفارس الحصان موثق القيود
أيامه تناثرت على صخور الحزن،
وجه عمره انكسر([2])

   في هذه الصورة إشارة من الشاعر إلى أن اليمن لم يعد ينجب أبطالاً مثل سيف بن ذي يزن يستطيعون تحريره من القيود، ولذا فليس بوسعه الآن إلا الحزن والبكاء. وتزداد صورة اليمن قتامة عندما يتساءل الشاعر عن قبر سيف وقبر أخته عاقصة وخادمه عيروط، فلا يجد جواباً عند أحد، فكيف لهذا المجتمع أن ينهض وهو لا يدري تاريخه وأبطاله.

أين ينام مثخن الجفون سيف
أين تنام (عاقصة)
أين اختفى
في أي قمقم ثوى (عيروط)
الأفق غام والدروب عابسة
والنفق الرهيب لم يزل يمتد...([3])

  بهذه الكلمات المحزنة ينتهي مشهد سيف صانع البطولة والمجد، وينتهي معه أمل الشاعر بل وأمل الأمة العربية جمعاء.
وبالإضافة إلى هذه السيرة فقد استعان عبد العزيز المقالح في قصيدته تلك ببعض الأساطير اليونانية كأسطورة (سيزيف) وأسطورة (عوليس) وزوجه (بنيلوب) وأسطورة (برومثيوس) و(أخيل)، وأسطورة السندباد العربية، وبعض الأسماء التاريخية مثل (مأرب) و(زنزبار) وهما أسماء أمكنة، و(يكسوم) الحاكم الحبشي لليمن في ظل الاحتلال، و(بدربان) المدينة التي كان بها عدد كبير من المهاجرين اليمنيين في جنوب إفريقيا([4]).

   لكن على الرغم من ذكر الشاعر لكل هذه الإشارات والرموز الأسطورية، فإن أسطورة سيف بن ذي يزن ظلت هي المسيطرة على أحداث القصيدة وأجوائها، إن لم نقل أنها كانت العنصر الأساسي في بنائها وتشكيل نسيجها. والشاعر لا يقوم بتضمين عناصر هذه الأسطورة فحسب بل يستنطقها ويستلهمها للتعبير عن رؤيته للواقع الراهن. أما بقية هذه الرموز فقد كانت بمثابة الروافد التي تصب في بحر هذه القصة فتغذيها برمزيتها مبرزة كفاح الإنسان الطويل من أجل وطنه وكرامته. فيرومثيوس وسيزيف وعوليس والسندباد أوجه أخرى لسيف بن ذي يزن وغيره من 

___________

([1])-ينظر: سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، دار الكتب الشعبية، بيروت. تقول أن سيف حزن حزناً عميقاً عندما سمع بنبأ وفاة منية النفوس، حتى أن هذا الحزن هد كيانه وبان ضعفه وساءت حاله، ص 109.

([2])-عبد العزيز المقالح: الديوان، ص 314.

([3])-عبد العزيز المقالح: الديوان، ص 324.

([4])-عبد العزيز المقالح: الديوان، ص 307.

الأبطال الثائرين على الظلم والاستبداد والتقاعس عن طلب الحرية.

   وانطلاقاً من هذه القصيدة يمكن القول بأن مرجعية عبد العزيز المقالح الشعرية مرجعية تراثية يمانية في الدرجة الأولى. وعليه فإن ((قراءة نصوصه وربما نصوص غيره من الشعراء المحدثين في اليمن، تبدأ من هذه العلاقة. أي من رؤية هذه النصوص في الواقع الثقافي اليمني))([1]) فسيف بن ذي يزن بطل يماني وحضوره في القصيدة يعني حضور الشخصية اليمانية بكل أبعادها النفسية والحضارية والإنسانية. ويمكن اعتبار هذا الاستخدام أيضاً شكلاً من أشكال إثبات الوجود عن طريق الفعل الشعري المهاجر عبر الثقافات والنصوص.

   لكن هذا لا يعني أن الشاعر لا يهتم بالثقافات الأخرى، فهو إلى جانب هذا يفيد من الثقافي العربي والإنساني كما رأينا في استخداماته للأساطير اليونانية والعربية، لكن هاجس إحياء التراث اليمني ونشره كان دائماً شغله الشاغل([2])، وبالخصوص إذا علمنا أن هذا التراث –بحكم ظروفه وتاريخه- يعاني من صعوبة التواصل مع الثقافات الأخرى حتى العربية منها.

   وفي مقابل هذه الصورة نجد صورة أخرى للبطل الشعبي عنترة العبسي يصنعها محمد الفيتوري من السودان، يقول فيها:

نحن العرب..
عنترة العبسي فوق صهوة الفرس
يصرخ في الشمس فيعلو الاصفرار وجهها
وترجف الجبال رهبة، وتجمد السحب
لأنه قهقه أو غضب
لأنه ثرثر أو خطب
لأنه النار التي
تفرخ ذرات الرماد والحطب([3])

   إذا كان سيف بن ذي يزن كما تصوره قصيدة عبد العزيز المقالح السابقة غير قادرة على تلبية النداء بسبب ضعفه واحتضاره، فإن عنترة يبدو في صورة مخالفة لـه تماماً، فهو البطل الشجاع القوي الذي ترجف الجبال رهبة منه وتجمد السحب. وبالتالي فنحن أمام صورتين مختلفتين كل واحدة منهما تعكس حالة حضارية واجتماعية معينة، ضعف في اليمن وقوة في السودان. لكن أليست هذه مفارقة عجيبة في بلدين عربيين ينتميان إلى تاريخ مشترك؟ أم أن السياسة في اليمن غيرها في السودان؟.

   على العموم فإن ذكر الشاعر لاسم عنترة بطل السيرة الشعبية المعروفة في جميع أنحاء العالم العربي، هو بشكل ما تأكيد للبعد التاريخي لهذه الشخصية، وهو بعد يمكنها من التحول دون الانزلاق إلى فيافي اللاوجود. فبعد أن أثبت الشاعر هذا البعد أو الوجود الحقيقي لهذه الشخصية، انتقل بها إلى بعد آخر هو البعد الأسطوري حيث تحولت هذه الشخصية إلى إله أو نصف إله يتحكم في مظاهر الطبيعة، يصرخ في الشمس فيعلو الاصفرار وجهها وترجف الجبال وتجمد السحب عن الحركة. ولكي يحافظ الشاعر على البعد التاريخي داخل البعد الأسطوري لجأ إلى جملة من الأفعال المستعملة من طرف الإنسان كقوله (يصرخ، يعلو، ترجف، تجمد) فهذه الأفعال مرتبطة بالفعل الإنساني أكثر من ارتباطها بالفعل الإلهي.

   وبالجمع بين هذين البعدين (التاريخي أو الواقعي والأسطوري) استطاع محمد الفيتوري أن ينتج شخصية غير قابلة للموت أو الانكسار، فعنترة، بفعل تلك الأسطورية، أصبح شخصية مقدسة وخالدة. وفي هذا دلالة على أن البطولة في العرب لا يمكن أن تنتهي أو تزول، فالأمة التي أنجبت عنترة لا تزال تنجب من أمثاله في الشجاعة والقوة. وهنا يظهر تفاؤل الشاعر بالواقع العربي ومستقبله، بخلاف عبد العزيز المقالح الذي أبدى تشاؤماً كبيراً من هذا الواقع كما سبق وأن 

ــــــــــــــــــــــــ

([1])-يمنى العيد وآخرون: النص المفتوح (قراءة في شعر عبد العزيز المقالح)، دار الآداب، بيروت، ط1، 1991، ص139.

([2])-لقد اهتم هذا الشاعر والناقد كثيراً بتراث وطنه فنشر العديد من الدراسات الأدبية والنقدية حوله نذكر منها كتابه: شعر العامية في اليمن دراسة تاريخية ونقدية وهو كتاب ضخم تعرض فيه صاحبه إلى نشأة الشعر العامي في اليمن وإلى أغراضه وخصائصه، ثم ملحق عن شعرائه. ومما يندرج في هذا الإطار أيضاً شكره وعرفانه بالمجهود الذي قام به فاروق خورشيد بإحيائه لسيرة سيف بن ذي يزن، فهو يقول في مقدمة نثرية يستهل بها الرسالة الثانية ((إلى فاروق خورشيد، تحية من بلاد سيف للمجهود الكبير من جانبه في إحياء سيرة البطل.. الأسطورة الحقيقية)) عبد العزيز المقالح: الديوان، ص295.

([3])-محمد الفيتوري: الديوان، دار العودة، بيروت، ط3، 1979-1/611.

أشرنا إلى ذلك.

   أما أمل دنقل فيوظف هذه الشخصية (عنترة) للتعبير عن الصراع الحاد بينه وبين السلطة، فسادة القبيلة وكبراؤها، هم السلطة، وعنترة العبد الذي يقع على عاتقه الدفاع عن هذه السلطة بكل الوسائل التي يمتلكها، وعندما يحقق لها النصر، لا يلقى شكراً ولا عرفاناً، بل مزيداً من الهجر والنسيان:

ظللت في عبيد (عبس) أحرس القطعان
أجتزّ صوفها..
أردّ نوقها..
أنام في حظائر النسيان
طعامي: الكسرة.. والماء.. وبعض التمرات اليابسة.

وهاأنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرسان
دعيت للميدان!
أنا الذي ما ذقت لحم الضأن..
أنا الذي لا حول لي أو شأن..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان،
أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة([1])!!

   لا يزال عنترة (المثقف العربي)، كما يصوره هذا المقطع، يعاني من الحرمان والهجران، وهو سبيل التقدم والتحرر، يدعى إلى الموت ولا يدعى إلى المجالسة والمشاورة. وفي استخدام الشاعر لهذه الشخصية إشارة ذكية إلى أن السياسة والسلطة في الوطن العربي لم تتغير منذ العصر الجاهلي، فهي لا تزال تسير وفق التمييز العنصري والعصبية القبلية. وقد يرمز (عنترة) هنا إلى الشعب العربي الذي تركه الحكام في صحراء الإهمال يسوق النوق إلى المراعي ويحلب الأغنام وينام في الحظائر، حتى إذا ما أنشبت الحرب أظفارها، أسرعوا إليه مستصرخين يدعونه للدفاع عن أموالهم وأنفسهم.

   وإلى جانب سيرة عنترة، فقد استخدم أمل دنقل سيرة (الزير سالم) في قصيدته (لا تصالح) ليعبّر من خلالها عن قضية الصراع العربي الإسرائيلي محذراً رئاسة مصر من مغبة الوقوع في قبضة إسرائيل بإقامة الصلح معها. تتألف هذه القصيدة من عشرة مقاطع أو وصايا على غرار وصايا كليب العشرة، يبدأ كل منها بنهي (لا تصالح!)، بل الشاعر نفسه لا يتوانى في التصريح بأن ما يكتبه هو ذاته ما جاء على لسان كليب، فهو يقدم لقصيدته بهذه الوصايا قائلاً:

   ((.. فنظر (كليب) حواليه وتحسر، وذرف دمعة وتعبّر، ورأى عبداً واقفاً فقال له: أريد منك يا عبد الخير، قبل أن تسلبني، أن تسحبني، إلى هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير، لأكتب وصيتي إلى أخي الأمير سالم الزير، فأوصيه بأولادي وفلذة كبدي.. فسحبه العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس في ظهره، والدم يقطر من جنبه.. فغمس (كليب) إصبعه في الدم، وخطّ على البلاطة وأنشأ يقول..))([2]):

لا تصالح!
.. ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..

........................

لا تصالح على الدم.. حتى بالدم
لا تصالح! ولو قيل رأس برأس،
أكل الرؤوس سواء؟!
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يد.. سيفها كان لك

ـــــــــــــــــــــــــ

([1])-أمل دنقل: الأعمال الشعرية الكاملة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط3، 1987، ص 123-124.

([2])-أمل دنقل: الأعمال الشعرية الكاملة، ص 323.

بيد سيفها أثكلك؟

  أول شيء يمكن لقارئ هذا النص أن يلاحظه، استعمال الشاعر لبعض المفردات والمعاني نفسها الواردة في نص السيرة الشعبية مثل لفظة (لا تصالح) التي تكررت كثيراً في النصين (السيرة والقصيدة) وكانت بمثابة البؤرة التي تنجذب نحوها جميع المعاني والصور. وقول الشاعر في مطلع هذا النص: ((لا تصالح.. ولو منحوك الذهب)) لا يختلف عن قول كليب للمهلهل لا تصالح ولو أعطوك مالاً مع عقود. لكن هذا لا يعني أن الشاعر قد وقع في التكرار أو التقليد لما جاء في السيرة الشعبية، بل العكس هو الصحيح، لأن الشاعر منح هذه الأشكال حياة جديدة باستخدامه لها ضمن إطار معاصر وقضايا حديثة. وقد أطلق علي عشري زايد على هذه الطريقة في التعامل مع التراث اسم (مرحلة 

   التعبير بالموروث)، أي: (توظيف التراث توظيفاً فنياً للتعبير عن التجارب الشعرية المعاصرة)([1]) بدل (التعبير عن الموروث) الذي هو شكل من أشكال استنساخه أو تسجيله، وهذه الصيغة الأخيرة (التعبير عن الموروث) هي التي حكمت علاقة الشاعر بالتراث فترة طويلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])-استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997، ص 25.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة