شعراء وقصائد خلف قضبان سجون الأندلس
سجن كثير من الشعراء الأندلسيين لأسباب متعددة من بينها الأسباب السياسية
رشا الخطيب - جريدة الشرق الأوسط - الخميـس 20 ذو الحجـة 1424 هـ 12 فبراير 2004 - العدد 9207 :
قد تكون فكرة السجن من بين الأشياء العجيبة التي تفتق عنها ذهن الإنسان منذ وطئت قدماه الأرض، وسبر اثرها مع مرور الوقت في مواجهة الخارجين على أنظمة الجماعات التي ينتمون إليها، أو تقويمهم في بعض الأحيان وإعادتهم إلى دائرة النظام العام.
وقد اتخذت الدولة الإسلامية السجون كغيرها من الدول للحاجة إلى إيقاع العقوبة على من يستحق، وفي الأندلس كانت السجون، وكان لكل مدينة من مدن الأندلس سجن عام ينسب إليها مثل: سجن شاطبة وسجن طرطوشة، وقد يكون في المدينة الواحدة أكثر من سجن.
وغالبا ما كانت السجون قريبة من قصور الحكام إن لم تكن فيها، حيث أشتهر من السجون سجن المطبق، وهو السجن الذي يقام تحت الأرض في حرم قصر الخلافة نفسه، ليكون قريبا من الحاكم الذي يشرف عليه بنفسه أحيانا أو للحاجة إلى التكتم والسرية في عمليات الحبس والقتل بعيدا عن اعين العامة، وكان لدى القضاة سجون أيضا بقصد الحبس على سبيل التوقيف الإحتياطي، لحين التثبت من براءة المتهمين أو تجريمهم.
تولى الإشراف على السجون في الأندلس بادئ الأمر صاحب السوق (المحتسب)، الذي كان مسؤولا عن النظام في الطرقات والأسواق، ثم أصبحت السجون من إختصاص صاحب الشرطة في أواخر القرن الثالث الهجري، وصاحب الشرطة هذا عظيم القدر عند السلطان، وكانت العامة تهابه، ولا يتولى هذا المنصب إلا الأكابر من رجال الدولة.
ويذكر ابن خلدون إن الشرطة في الأندلس قد نوعت زمن بني أمية إلى شرطة كبرى وصغرى، وجعل حكم الكبرى على الخاصة وأهل الجاه، وجعل صاحب الشرطة الصغرى مخصوصا بالعامة من الناس، ثم أضيف اليها نوع ثالث وهو الشرطة الوسطى.
وقد فسرت هذه الأنواع الثلاثة بالنظر إلى الطبقات الاجتماعية في المجتمع الأندلسي، فهناك طبقة الخاصة وطبقة العامة، ثم تكونت طبقة بينهما من الأعيان التي يمثلها التجار وصغار الموظفين مما دفع الخليفة الأندلسي الناصر (ت 350 هـ) إلى إنشاء شرطة خاصة بكل طبقة منها.
ويدل هذا التقسيم على أن كل طبقة اجتماعية كانت تتمتع بمعاملة مختلفة في إجراءات سجنها ومكانه، فثمة سجون على حال سيئة من الظروف وسوء معاملة السجناء، بينما كانت هناك سجون توافر فيها ما يمكن أن نعده من الامتيازات.
وفي السجن كانت هيئة المسجون تختلف عما هي في حياته السابقة، لأن السجانين كانوا عادة يغيرون الأشكال والثياب، كان المسجون يرسف أحيانا في التقيد أو الكبل (وهو القيد العظيم) خاصة في سجون المطبق، وهي المعدة للسجناء مدى الحياة، مبالغة في التعذيب والإهانة.
ولم تكن أوضاع السجناء كلها على هذا النحو من العذاب، فقد كان لبعضهم إمتيازات حرم منها آخرون، مثل إتاحة أدوات الكتابة، إذ تذكر المصادر أن الرقاع كانت تصل من قبل المسجونين إلى الحاكم تطلب الصفح والغفران، أو تتضمن اشعار الاستعطاف من أجل العفو والحرية.
كان نصيب الشعراء من الإمتيازات التي تمتع بها المسجونون كبيرا، فقد نال السجن كثيرون من شعراء الأندلس، لأسباب متعددة من بينها الأسباب السياسية بصفتهم من كبار رجال الدولة، حيث نالت بعضا منهم سهام المؤمرات والدسائس التي كانت تحاك ضد الخلفاء أو الوزراء أو غيرهم من ذوي النفوذ المقربين من القصر الحاكم.
وقد حظي بعض الشعراء مثلا بدخول الطلاب والمتعلمين عليه في سجنه، مثل الشاعر محمد بن فرج الجياني (ت 360 هـ) الذي سجنه الخليفة الحكم المستنصر، حيث كان أهل الطلب يدخلون عليه سجنه ويقرأون عليه اللغة وغيرها.
بينما كان السجن لبعضهم المدرسة التي يتعلم فيها ويصقل موهبته، مثل الشاعر الشريف الطليق (ت 396 هـ) الذي سجن وهو فتى يافع مع جماعة من الادباء فلم يزل يأخذ عنهم حتى «ثري تربه وطار شعره» فكان السجن له المدرسة التي علمته الأدب وفتحت قريحته الشعرية.
في حين وضع بعض الشعراء في أثناء سجنهم مؤلفات عالجت محنتهم تلك، فهذا الشاعر يوسف بن هارون الرمادي (ت 403 هـ) الذي سجن على يد الحكم المستنصر لاشعار كان ينظمها هو وجماعة من الشعراء يتبارون فيا بهجاء الخليفة، وضع في سجنه كتابا سماه «الطير» في أجزاء وكله من شعره، ووصف فيه كل طائر معروف وذكر خواصه، ثم ذيل كل قطعة بمدح ولي العهد هشام بن الحكم ليشفع فيه لدى أبيه.
ووضع الشاعر عبد الملك بن غصن الحجازي (ت 454 هـ) في سجنه رسالة في (صفة السجن والمسجون والحزن والمحزون) وأودعها ألف بيت من شعره في الإستعطاف، وكانت سببا في العفو عنه. وألف ابن الأبار (ت 658 هـ) في أثناء نفيه إلى بجاية مؤلفه «أعتاب الكتاب» وفيه قصص للمحن التي لحقت بعدد من الأدباء والكتاب، خاصة من نال العفو منهم بعد الشدة التي كان فيها ووضع في كتابه إلى جانب قصصهم بعض نثرهم وشعرهم في تلك المحن، لتعينه في التعبير عن محنته هو، ثم ذيل كتابه بأشعار الإستعطاف.
وكان من بين الشعراء الأندلسيين الذين سجنوا عدد لا بأس به من كبار شعراء الأندلس وأدبائها، من أمثال يحيى بن الحكم الغزال، وابن شهيد وابن زيمن دون والمعتمد بن عباد وابن حزم الأندلسي ولسان الدين بن الخطيب.. وقد تمتع بعض هؤلاء وغيرهم في سجونهم ببعض إمتيازات ومنها مزية إتاحة أدوات الكتابة لهم، مما ساعد في حفظ كثير مما نظموا في سجنهم.
وقد حفظت لنا دواوين هؤلاء الشعراء وكتب التراث العديد من القصائد والمقطوعات الشعرية التي قالها الشعراء السجناء في تجربتهم، وكان جزء كبير منها في غاية الرقة، لأن التجربة كانت قاسية ومرة، فأنطلقت أشعارهم صادقة في التعبير.
ودارت أغلب اشعار السجن حول محور رئيس هو وصف المأساة التي نزلت بالسجين وأثرها عليه، يقول أبو الأصبغ عيسى بن الحسن:
ليت شعري كيف البلاد وكيف ال
أنس والوحش والسما والماء
طال عهدي عن كل ذلك وليلي
ونهاري في مقلتي سواء
ليس حظي من البسيطة
إلا قدر قبر صبيحة أو مساء
وتفرع هذا الموضوع الرئيسي إلى عدة موضوعات فرعية صغرى شكلت في مجموعها اغراض شعر السجن في الأندلس مثل: الاستعطاف ووصف مكان السجن والسجناء ووصف القيد والحديث عن الأمل والذكريات والحنين للأهل والأحباب وتقلب السجن بين الأمل واليأس ثم الحكمة وخلاصة التجربة التي خرج با السجين ليفيد منها الآخرون أو ليحذر الشامتين بمصيره من مصير مماثل قد يلاقونه.
وتعد عاطفة الحزن العميق جراء هذا المصاب المحرك وراء اشعار السجن لذلك اكتست الألفاظ والمعاني غلالة الدموع والبكاء، يقول ابن حزم:
مسهد القلب في خديه أدمعة
قد طالما شرقت بالوجد أضلعه
يأوي إلى زفرات لو يباشرها
قاسي الحديد فواقا ذاب أجمعه
يشكو إلى القيد ما يلقاه من ألم
فبالأنين لدى شكواه يرجعه
يا هاجعا والرزايا لا تؤرقه
قل كيف يهجع من في الكبل مهجعه
وتقلب الشعراء بين الأمل والرجاء بإنقضاء محنتهم، وبين اليأس والإستسلام للقدر الذي وقع، يقول المعتمد يائسا:
«ماذا رمتك به الأيام يا كبدي
من نَبْلهنَّ ولا رام سوى القدر
أسرٌ وعسرٌ ولا يسر أؤمّلهُ
استغفر الله كم لله من نظر»
ورنا الشعراء السجناء إلى الطيور الحرة في سمائها فأسكنوها أشعارهم، رمزا للحرية التي يتشوقون إليها، وسلت نفوسهم بصحبتها لحاجتهم الشديدة إلى رفيق يشاطرهم وحشة السجن وغربته، وليخفف وطأة القيود التي يعانون ذلها وعذابها. يقول المعتمد يشكو قيده:
قيدي أما تعلمني مسلما
أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم قد
أكلته لا تهشم الأعظما
وعاد بعضهم إدراجه إلى جعبة ذكريات الماضي الجميل ينهل منها ما يعينه في بلواه، خاصة ذكريات الحب والعشق لدى الشعراء الذين كانت لهم معشوقات تملأن حياتهم، فكانت المرأة السكن والسلوى في ضيق السجن وغربته، يقول ابن زيمن دون متذكرا محبوبته:
ما جال بعدك لحظي في سنا القمر
إلا ذكرتك ذكر العين بالأثر
ويقول ابو الحسن بن نزار:
لقد بلغ الشوق فوق الذي
حسبت، فهل للتلاقي سبيل
فلو أنني مت من شوقكم
غرما لما كان قليل
تعللني بالتداني المنى
وينشدني الدهر: صبر جميل
وخرج بعض الشعراء من تجربتهم تلك أن الزمان يومان: يوم لك ويوم عليك، وأن سهم القضاء لا راد له، يقول عبد الملك بن إدريس الجزيري:
من لم يذق طعم بؤساه وشدتها
لم يدر لذة نعماه ولا وجدا
لا بد للقدر المقدور من أمد
يلقاك على حتم وإن بعدا
ويستسلم هاشم بن عبد العزيز لقضاء الله في الشدة التي وقعت عليه ويقول:
سأرضى بحكم الله فيما ينوبني
وما من قضاء الله للمرء مهرب
وهكذا كان لتلك التجربة الإنسانية القاسية أثرها في أن ينظم بعض من الشعر الأندلسي في غرض وصف تجربة السجن، وأثرها على الشعراء الذين ذاقوا مرارتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق