الخميس، 26 نوفمبر 2015

مغامرة الكينونة فـي تجربة الشـاعر عدنان الصائغ ديوان «مرايا لشعرها الطويل» نموذجاً - عبدالحق ميفران ...


مغامرة الكينونة فـي تجربة الشـاعر عدنان الصائغ

ديوان «مرايا لشعرها الطويل» نموذجاً

مجلة الرافد - 13 - 7 - 2012 - عبدالحق ميفران :

  يعتبر الشاعر العراقي عدنان الصائغ من بين أهم الأصوات الشعرية اليوم التي تؤثث المشهد الشعري العراقي والعربي، فمنذ ديوانه الأول «انتظريني تحت نصب الحرية» الذي صدر ببغداد سنة 1984، ومروراً بـ 12 ديواناً مجموع باكورته الشعرية، أسس الشاعر عدنان الصائغ لتجربته ملامحها الشعرية العامة، إن أمكن لرؤية النقد أن تستوعب المظاهر الشعرية الممكنة، والتي يمكن عبرها الدخول لعوالم عدنان الصائغ الشعرية.

  ويسعفنا المتن الشعري لدى الشاعر عدنان الصائغ في رصد عمق استقرائي لبنية structure القصيدة العراقية الحديثة، خصوصاً أننا أمام متن شعري انطلق من بحيرة شعرية ظلت على الدوام متأججة، بل اعتبرت في لحظة تاريخية محددة مساراً تحولياً نابضاً لحركية النص الشعري الذي يبلور رؤاه دائماً.
  يؤكد الكاتب العراقي شاكر لعيبي «أن العراق يمثل الريادة الفعلية للشعر العربي الحديث، لقد قدم الانفلات الأهم في مسارات الأشكال الكلاسيكية»(1) وكان ضرورياً لكي «يتفتق الشعر العراقي الحديث من رؤية جديدة»(2)، أن يعيد التفكير بالنص الشعري.
  يميز الكاتب شاكر لعيبي بين ثلاث فترات في تطور الشعر العراقي منذ أواخر الأربعينيات حتى يومنا هذا:
  فترة الرواد وفترة الخمسينيات، ويمثلها خير تمثيل بالإضافة إلى الملائكة والسياب: البياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان وشاذل طاقة وسعدي يوسف وحسين مردان ورشدي العامل.
  الفترة المنبثقة في بدايات الستينيات التي حملت نفساً شكلانياً صارخاً، ملحة على التجاوز ونفي المنجز، وروادها فاضل العزاوي وسامي مهدي وحسب الشيخ جعفر وسركون بولص وعبدالرحمن طهمازي وفوزي كريم.
  الفترة المبتدئة بالعام 1968 وتضم ثلاثة أجيال السبعينيات الثمانينيات والتسعينيات، مرحلة ميزتها الرجة الجمالية التي حدثث بفعل صعود الأيديولوجيا الشمولية للسلطة، ولعل ميزتها التبشير بنمط شعري خاص يضع للأيديولوجي أكبر مكان في المنجز الشعري.
  لكن ميزة مرحلة الأربعينيات والخمسينيات تمخضها عن «تجارب شكلية ولغوية من كل نوع»(3) عكس الجيل الستيني الذي «يوصف بالتمرد الأكثر جذرية في مسار القصيدة العراقية»(4)، وتعلن سنوات السبعينيات الممتدة حتى يومنا هذا، منجزاً موحداً، فالقصيدة تولدت تحت شرطي الحرب والمنفى، ففي الحرب نلاحظ «حضور نبرة شعرية تشدد على العدم والعبث والخراب»(5) أما المنفى فكان حقلاً «لاختبارات شعرية جديدة»(6)، وفيه تخصيب للنص الشعري بدأ يتلاءم وحالات الشتات، والشاعر عدنان الصائغ أحد «اختبارات» هذه المرحلة حتى بعد مغادرته العراق سنة 1993 إثر مشاركته في مهرجان جرش بعمان.
  إننا حين نتأمل هذه التجربة الشعرية اليوم، فإننا نروم تأمل هذا الجسد الشعري في لحظة إعادة كتابة récriture خصوصاً أننا أمام تجربة شعرية تكشف غناها وتعددها في تجريب دائم للمقول الشعري، حتى إن النص الشعري لا يخضع لقالب شعري مفرد، ثمة وعي في تجربة الشاعر على تنظيم فوضاه، وحين نقارب ديوانه الشعري «مرايا لشعرها الطويل»(7) فلقدرة هذا الديوان على الكشف عن خصائص الوعي الشعري لدى عدنان الصائغ الشاعر، لا من حيث تحرره من طريقة بناء قصيدة ظلت قطب الرحى في دواوينه الأولى، وصولاً إلى إمكانية شعرية مفتوحة دشنت لمغامرة جديدة حداثية على مستوى النص الشعري ونظامه الخاص.
  لقد أصر الشاعر عدنان الصائغ على إعادة طبع ديوان «مرايا لشعرها الطويل»، وثمة ما يسترعي الانتباه في النصوص أنها كتبت جلّها داخل العراق، بعضها نشر بجريدة القادسية في عموده الأسبوعي «مرايا»..
- فهل مازالت هذه النصوص تعيد لعنة الرؤى الشعرية التي اختار الشاعر تبنيها؟
- هل قصيدة النثر اختيار نهائي لشكل البناء الشعري الذي يرغب الشاعر اعتماد مصوغاته؟
- كيف يعبر ديوان «مرايا لشعرها الطويل» عن مرحلة العبور الشعري الذي يبلوره الشاعر في ديوانيه نشيد أوروك وتأبط منفى؟
- كيف تتمظهر تجربة عدنان الصائغ الشعرية في سؤال الكتابة كتجلّ دلالي في الديوان؟
- كيف يجيب التحديد الأجناسي «نصوص» على غلاف الديوان عن سؤال النص الشعري المفتوح على كليته العضوية؟

رهان المقـاربة:
  إذا كان الشعر «تغير رؤى وأشكال، يعيش في ديمومة التاريخ مع اللامنتهى»(8)، فإن حصره في حدود شعريات ثابتة، تجعله نقيضاً لفعل الخلق الشكلي الجمالي، إنه تخطٍّ دائم لحدود الأقيسة، لذلك حين يطرح الشاعر عدنان الصائغ في ديوانه «مرايا لشعرها الطويل» وعلى غلاف الديوان هذا الاستشكال الأولي «نصوص» فإننا نكون أمام فاعلية حقيقية للرؤية الشعرية، هي مرتبطة أساساً بفاعلية النص الشعري.
  إن إصباغاً حصرياً في هذا المستوى يقدم تصوراً أولياً يكشف أساس تمثل الشاعر لشعريته المفتوحة والتي تشير بالتحديد إلى أن النص يقدم أكثر من إمكانية قراءة، لأنه حالة من الكينونة، استكملت شروط الحياة. ومادمنا نرغب في حصر هذه «الحالة من الكينونة» والتي هي حالات متعددة في بنياتها اللغوية، فإن فعل القراءة يتجه لدراسة علاقات داخلية محددة تمكننا من تحديد أوجه شعرية تقدم على تصور يراجع دائماً عمقه الاستقرائي، ولعل هذا العمق الإجرائي يواكب منظوره الشمولي الذي يتجاوز التصور اللساني الضيق للكتابة من جهة، والتصور التقني الصرف من جهة ثانية.
  وعندما نجد على غلاف ديوان الشاعر عدنان الصائغ اعترافاً كهذا، أي «نصوص» فإن أولى درجات وعي الشاعر بعد انغلاقية النص الشعري عتبة جامعة لهذه النصوص الكلية التي أدارها الشاعر عوالم مشرعة على لذة القراءة.
  إن النصوص المقترحة أو الدوال النصية المقترحة تأتلف داخل شبكة علاقات، صحيح أنها غير قابلة لتختزل داخل معانٍ محددة، لكنها تنتظم في إطار علائق ممارسات دالة، لدى انفتاحها لنشاطنا الواصف، لكنه انفتاح لنشاط آخر متعدد الأنماط.
  لكن هذا الطرح ما يلبث أن يواجه بنمط استقرائي محدد تعبر عنه جوليا كريستيفا كالتالي: «النصوص الشعرية الحداثية، نصوص تتم صناعتها عبر امتصاص، وفي نفس الآن عبر هدم النصوص الأخرى للفضاء المتداخل نصياً، ويمكن التعبير عن ذلك، بأنها ترابطات متناظرة ALTER–JONCTIONS ذات طابع خطابي»(9)، لذا فإن النص الشعري لعدنان الصائغ يخضع لمنطق إنتاجي داخل حركة معقدة «لإثبات ونفي متزامنين لنص آخر»(10)، لذلك فالتجميع التركيبي لنصوص الديوان يقدم أوجه هذه الرؤية «الكريستيفية».
  وتتحكم الرؤية المغايرة في هذا التشطير «اللاأنواعي» عند عدنان الصائغ، في أن هذه النصوص تتمثل القصيدة كاختيار، مما يحرر هذا الحديث المؤزم للمقاربة من ضائقته الاصطلاحية النقدية لنعود لمنجز إبداعي أمامنا يمتثل لتحديد نموذجي حاضر. مما يزيد من تحرير سؤال المنظور الأنواعي لنقرأ مكوناً نوعياً بعينه. صحيح ثمة أنساق نثرية تتقاطع داخل الديوان، لكن تمثل القصيدة كاختيار يرتب نماذج استقرائية ممكنة.

استراتيجية العنوان وشعرية التوليد:
  اختيار الشاعر لعنوان «مرايا لشعرها الطويل» توليد دلالي مقصود أطر القصائد الخمسين للديوان، لكن اشتغاله يمتد ليتحول لوعي يحيل إلى ثلاث وحدات اشتغال، توزيعها يخضع لتركيب مزدوج: (المرايا + شعرها الطويل)، ولا يحضر هذا التركيب على مستوى العناوين الفرعية الداخلية، بل يحضر على مستوى خطاب النصوص، لذا فإيحاء العنوان «مرايا لشعرها الطويل» يرتبط بشروط الثيمات الثلاث المكونة للوحدات الثلاث:
– القصيدة
– الحواس
– الحرب
  ويرتبط هذا الحضور بشكل اندماجي وقصدية في الكتابة، مما يجعل عدنان الصائغ يسهر على تجاوز منطق اختيار نص واحد يولد إطاراً دلالياً للديوان، ليجعل من عنوانه نصاً جديداً يمثل الرقم 51 في الفهرس، لذلك لم نرغب في أن نتحدث هنا على إطارات مرجعية، بقدر الإشارة إلى إطار توليدي جمعي لشعرية تنفتح كلياً بلغتها الشعرية على السياق الكلي.
  وبدءاً من شعرنة poétisation لعنوان ديوانه، يقوم الشاعر بإعادة صياغة لتقاطعاته داخل متن النصوص، مما يحيل إلى استراتيجية نقدية تنعكس على الشاعر ومن ثمة على الديوان ككل، لكن هذه الاستراتيجية حين ترتبط بالوحدات الثلاث فإنها تبرز مستويات نصية أخرى تتفاعل داخل هذا الكل:
الوحدة الأولـى ( القصيدة)
• بعيداً عن فوضى أصابعي.. بلا مرايا عيوني (ص41).
• ينبشون رماد قصائدي/ يحطمون مراياي (ص22).
• أيائل القصائد التي تتبع رائحة سنابل/ شعرك الطويل (ص30).
• إلى مروج القصيدة/ تحوم الفراشات حول شعرك الطويل (ص36).
• إلى أين تهربين من قصائدي/ إلى أين تمضين بشعرك الطويل (ص41).
• قصوا ضفائرها قبل أن تكتمل قصيدتي (ص58).
• وحده الشاعر.. يمشط غابات شعرك (ص68).
• مالك تغارين من القصائد، وهي مراياك (ص71).
• وقفت أمام مرايا قصائدي تمشط أحلام شعرها الطويل (ص144).

الوحدة الثانيـة ( الحـواس)
• كفاك تحديقاً في مرايا عيوني (ص15).
• علي أن أبتسم أمام مرايا المطعم الفخم (ص15).
• كيف لي أن أصدق أصابعي/ وأكذب شعرها الطويل (ص20).
• بعيداً عن فوضى أصابعي.. بلا مرايا عيوني (ص41).
• ماذا أفعل بأصابعي بلا شعرك الطويل (ص48).

الوحدة الثالثـة ( الحـرب)
• أقلب أوراق يومياتي السرية.. أجدك تتربعين على شرفة ذكرياتي بشعرك الطويل (ص103).
• ماذا أفعل إذا كان الحراس.. يقفون بين ريح قصائدي ونافذتها العالية.. بين المرايا وشعرها الطويل (ص88).
  الرغبة في دراسة العلاقات بين الكلمات وتركيب العبارات داخل منظومة الوحدات الثلاث تحيلنا إلى فاعلية خاصية التضمين، أي «هناك معنى واحد أو أكثر يضاف إلى المعنى التعييني، إنها خاصية إعطاء الجملة الأدبية طابع التعدد المعنى Enchassement »(11). فإذا انطلقنا من فعل التحوير الذي أراده الشاعر عدنان الصائغ لصيغة «مرايا» و«شعرها الطويل» فسنجد أنها صيغة تندمج كلياً بفعل الكتابة، فالقصائد مرايا الشاعر وهي «ريح» قصائده، والقصائد فضاء اللغة «سكة اعتراف» لذا يبدو «شعرها الطويل»، وللفظة الطول هنا دلالة توليدية جديدة بحكم لانهائية اللغة، لذلك يعيد الشاعر تحديد هذا المنحى بقوله:
  «أحاول لملمة هذا البحر الذي ينسل بين أصابعي وأعني شعرها الطويل» (ص71).
  وهذا يعني انتقال اللغة إلى شعرية جديدة أكثر تفتحاً، خصوصاً وأن طرائق استخدام اللغة هي جوهرياً، شعرية، إن سياق حضور صيغة العنوان، يزيد من تعميق التمايز، فالمدلول الشعري يعمق حضوره في جسد النصوص بشكل يتحول معه إلى مستوى التطبيق التركيبي: لا تركيب الملموس، لهذا لسنا ميالين للحديث عن مرجع محدد، بقدر ما نحيل إلى تماسك إنتاجي لاستراتيجية عدنان الصائغ على مستوى العنوان.
  وهنا يلزمنا تدقيق معطى يرتبط بالعنوان، فالنصوص التي حضرت بالديوان هي نصوص كتبت نتاج مرحلة الثماني سنوات التي قضاها الشاعر في الحرب على الحدود العراقية الإيرانية، وحين نحصي مثلاً لفظة ذكريات التي تحضر أكثر من 69 مرة، فإننا ندرك الحس الاسترجاعي flash–back الذي رغبت النصوص أن تربط به سننها المرجعية، لذلك فحين سنشير إلى شعرية الحرب في مقام متقدم في هذه الدراسة، فلأن عدنان الصائغ أعاد بازدواج المدلول الشعري تداخل صور الواقع والمتخيل، والواقع الشعري هنا مختلف تماماً..
  ومادام يشير في وحدة ثانية لحواسه الشعرية فلوعي الشاعر بمستقبلية الفعل الشعري عبر توظيفه لأفعال ليست بالمرة صرفية الماضي، بقدر رهانه على جسد النص الشعري والذي ينكتب عبر وسيط الحواس:
الحبر اليد الأصابع الكلمات القصيدة
  لذلك، حين أشرنا إلى خطاب صيغة العنوان الحاضر بالخمسين نصاً، فلأن صيرورات التفاعل حضرت بقوة في متخيل النصوص الشعرية، والتي هي عوالم منفتحة، فضاءات اللااحتواء. إن صيغة «المرايا» ليست بالمرة فعلاً انعكاسياً، بل ازدواج فعلي لإشارة قوية لفعل حضور القصيدة أو لتحديد فعل الكتابة كقوة دوال، للبرهنة على تداخل صيغة المؤنث:
مرآة = كتابة = شعرها الطويل.
شعريـة الحـرب:
  لا يحتاج الشاعر عدنان الصائغ ليعيد حكم أفلاطون التأكيدي «ليس للشاعر مكان في المدينة الفاضلة» بشكل صريح داخل نصوص الديوان، ثمة وعي ترجمه أمبرتو إيكو كالتالي: «حين ننشد بيتاً أو قصيدة فإن الكلمات المنطوق بها ليست مترجمة فورياً في مجال واقعي يستنفد إمكاناتها في الدلالة، إنها تستدعي سلسلة من الدلالات التي ما تنفك تتعمق إلى الحد الذي تصل إلى تشكيل صورة مصغرة عند العالم كله»(12)، وعالم عدنان الصائغ تجاوز لطرد تاريخي محفور، إنه سلطة النص أمام عالمه الذي يشكله بقوة، وجزء من بناء العلاقات التفاعلية، داخل أي نص شعري تربة مفتوحة أمام المقاربة التي تنطلق من تحديد العلاقات الأساسية داخل كل نص.
  وحين اتجهنا لثيمة الحرب كعلامة signe فلأن حضورها منظم لفوضى النص، ومادامت نصوص «مرايا لشعرها الطويل» إنتاجاً مستقلاً يكسب فعل الانوجاد بالقوة فإن العملية النقدية في تعددها تنطلق من تحديد هذه العلامات المركبة.
  إن شعرية الحرب، كما تطرح في الديوان، جزء من كلّ اختار عدنان الصائغ صياغته وفق نموذج حصري، يحول اللغة الشعرية إلى حديقة تنامي هذه الشعرية وتجليها، وكأن النصوص هي ما تبقى من الحرب لا الشاعر، وكأن الكتابة استئناس بذات لا تهادن، ويفرط الشاعر في رسم هكذا عالم بقوله:
في ليالي الحرب الطويلة
تبدو السماء أحياناً، بلا نجوم ولا ذكريات (ص112)

  هذا الجحيم البلاغي نفس النصوص في توحدها على جعل شعرية الحرب استقراء لنصوص أعادت كتابة الذاكرة التي انمحت، داخل بنيات مكثفة وعميقة. وعموماً يتخذ حضور ثيمة الحرب عدة أوجه ترتبط جلّها بمنطق أن الشاعر لا يرى الأشياء إلا من خلال اللغة، غير أن النصوص تستجيب في العمق لفعل البوح الذي يسكن الشاعر، وسكنه طيلة سنوات الحرب الثماني.
لكن كيف تتلبس شعرية الحرب بنية وعلامة داخل هذا النسق الشعري العام:
ساقيّ اللتين شوهتهما الحرب (ص15).
تذكرت سنوات الحب الثماني، وسنوات الحرب الثماني، التي أخذت من عمرنا الكثير/ تذكرت بريد القنابل الذي كان يحمل رسائلي إليها/..
خذ ثمانية أعوام من عمري، وصف لي الحرب (ص92).
لا أحد يوقف هذا الضياع المستمر.. الذي يسمونه –خطأ– أيامنا.
تعبت طيلة ثمانية أعوام من الركض في أزقة الحرب بحثاً عن عنواني.
ثمة ما يوصلني إلى الخراب (ص136).
كم قنبلة عليك أن تحصي/ لنقول: انتهت الحرب.
أنا الشاعر عدنان الصائغ/ رأيت من الخنادق والمساطر والأكواخ والمعسكرات أضعاف ما رأيته أنت/ حملت عشرات الجثث من ساحات المعارك/ إذا كنا قد غصنا في طين الجبهات حد الركب/ وبقيت تتفرج على ثيابنا المبقعة بدم المعارك وغبار القنابل (ص132).
علمتنا الحرب أن نترك أشياءنا كما هي.. ونمضي (ص107)
من عرف معنى الحرب غيرنا (ص125).
انتظريني سأعود من قطار الحرب المجنون (ص96).
أيتها الحرب/ يا رحم الحياة المتورم/ زرعنا في أحشائك كل شيء/ طفولاتنا وأمنياتنا، وقصائدنا، ومخاوفنا، وأعمارنا القلقة/ من أجل أن تجني –ذات صباح مندى – طفل السلام القادم (ص120).
أخذ حصتي/ من جنون الحرب/ في لافتات العالم السوداء (ص112).
في ليالي الحرب الطويلة/ تبدو السماء أحياناً، بلا نجوم ولا ذكريات.
قصيدة هكذا قلت كل شيء في فصولها السبعة (من ص94).
خذ كل البنوك والمعسكرات والصحف، وصف لي الحرب (ص92).
أقر أن القنابل لا تكذب، كما تفعل البيانات والقادة/ خذ إذاً كل القنابل وصف لي بشاعة الحرب/ خذ كل نزيف الحرب.. وصف لي سلام بلادي (ص93).
   تلجأ ثيمة الحرب في حضورها كعلامة إلى «موضوع» هو النص الشعري «الذي يمثل إنتاجية للمعنى (العمليات الدالة) سابقة على النص على الموضوع المنتوج»(13) إنها جهاز إنتاجي للمعنى، ينسج عبر اللغة الشعرية ملامحه وحين أشرنا إلى شعرية الحرب، فلأن ثمة «ممارسة ديداكتيكية» على المعنى ـ تعمق من حضور الحرب لا كإشارة تتمخض عن معنى ما، ولا كإنتاج قسري، بل هي قوة إنتاجية شعرية، تعمق الرؤية، وتتسع معها الدلالة، من أجل ذلك تبدو صيغة المتكلم مزدوجة الحضور، فهي أولاً تنسج إرسالية الذات في ملفوظها الشعري، وهي ثانياً تحديد استقرائي منهجي/ خارج نصي، يتمثل في: = أنا الشاعر عدنان الصائغ، وفي أقسى لحظة تجريح للذات، يرتكن الشاعر إلى لعبة المرايا تقنيته الأساسية في الديوان ككل.
يشير إيكو إلى أن «في كل واحدة من نبرات الشاعر، عند كل واحد من مخلوقات خياله يوحد مصير الإنسانية مجتمعاً، كل الآمال، كل الأوهام، الأفراح والأتراح الأمجاد والمآسي البشرية»(14). وحين يستعيد عدنان الصائغ، اعتراف المدينة الفاضلة بأحقية الشعراء في ريادتها، فثمة مصير مشترك يضع الشاعر على طرف «أبهى متخيل»، أي الكتابة كمجال، حيث يمارس الكاتب فيه الاختيار على مستوى التعبير كما يؤكد بارت.
إن اختيار لغة البوح كتكثيف قادر على بلورة عوالم تفجيرية في اللغة عامل إضافي يجعل من البنية الثاوية العميقة التي تتحرك داخلها النصوص سنداً جمعياً يحول صوت الشاعر إلى وحدة Integrité مفتوحة، والتي تجعل من خاصية شعرية الحرب محمولاً لهذا الصوت المفتوح.
   تنحو اللغة الشعرية للتعبير عن المفاهيم والأشياء بشكل غير مباشر، لذلك حين نتأمل سمو الشاعر إلى الماوراء لإعادة تشكيل العالم، فإن هذا السمو يتخذ شكل الهذيان داخل الوظيفة الشعرية، وباعتراف عدنان الصائغ بالحرب كـ«صور سوريالية» فإنه يؤطر هذا الهذيان الشعري الذي ما انفك يكسر حدوده، مما حدا بالشاعر إلى تخصيص نص بسبعة فصول كلها تغرف من هذا النبع/ الجحيم.
   وحين نستمد المرجع الذي يحيط بهذه الشعرية، فإننا ننتبه إلى جانب التحديث الذي مارسته النصوص بمعزل عن مرجعيته الاجتماعية والتاريخية. مقدماً دليلاً بالملموس على رغبة النص الكشف «عن عالم يظل دائماً في حاجة إلى الكشف/ رينيه شار»، وعموماً فإن نهج عدنان الصائغ لتعرية أوجه الحرب على الذات، الأمكنة، الناس.. جزء من المشهد الوصفي الجماعي الذي اختبر فيه عدنان الصائغ حتى تقنية الترافلينغ الفيلمية، في «حركة كاميرا/ عين اللغة » تلتقط أدق التفاصيل.
  إن بنية الخراب في شعرية الحرب تصبغ لونها على النصوص بالقدر الذي تتحول معه إلى أصناف خطابات ليست بالضرورة أوجهاً شعرية، لكنها تغرف في حواشٍ نثرية لا تقيد حضورها بقدر ما تتمم أوجه الصورة الكاملة لعبثية هذا الجحيم الذي كان عدنان الصائغ أحد «لاعبيه» طيلة الثماني سنوات، وأحد الذين أعادوا كتابته، عبر نصوص هي باكورته «مرايا لشعرها الطويل».
سـؤال الكتـابـة:
 «أنا الشاعر عدنان الصائغ» بهذه الصرخة نفتتح هذا المبحث الذي يحاول تأمل رهان قصيدة النثر كاختيار لدى عدنان الصائغ في هذا الديوان، ومعلوم أن قصيدة النثر تدشين لمغامرة جديدة، أصبحت «متجردة من الصورنة والدلالة المبيتة، والقصد والأمثولة.. تمثل جوهر المختلف الذي يكتشف في أبعاده اللامرئية»(15) لقد أمست القصيدة مرتبطة باللغة التي يحكمها «نسق التجاوز والتضافر الكلامي»(16)، إنها من إمكانات الشعر المفتوحة دائماً على التجاوز والتطور، إنها «إنتاج القصيدة الحداثية اللاعمودية »(17)، في بنائها للوحدة العضوية للقصيدة.
  وبما أن مفهوم القصيدة ضرورة جوهرية لقصيدة النثر، فإن تتبعنا لسؤال الكتابة في ديوان «مرايا لشعرها الطويل» اشتغال صريح لفهم الرؤية المتحكمة في صياغة هذا الخطاب، وتكمن قوة الإبداع الشعري إذاً، في كونه يصوغ مضموناً معيناً بشكل داخلي، ومن دون رجوع إلى صور خارجية، رغم أن البناء الداخلي هو في جزء منه صدى غير مباشر لرؤى ومتخيل يراكم كل المراجع المتعددة الانتساب، وفي نصوص الديوان تصريح مباشر لهذه الشجرة، شجرة الانتساب، يؤكد الشاعر في مقطع شعري هو دلالة قوية برؤيته الشعرية:
كانت لي غيمة ماطرة
تسمى القصيدة
عندما لم تجد أرضاً تؤويها
هاجرت
وتركتني وحيداً
على عراء النثر (ص60).
   عنصر العراء، فضاء مكشوف ومفتوح، ولا ينمط بحدود، وهو إشارات للقصيدة أكثر منه إشارة لنسق أنواعي آخر، وحين نضيف النثر إلى العراء نكتشف استراتيجية هذه الرؤية في ميتالغة مقصودة تعري بالملموس هاجس عدنان الصائغ النقدي، في حواريته داخل الخطاب الشعري، ولتعميق هذه الرؤية الأولى من خلال النموذج السابق، ندرج النموذج الثاني المستقى من قصيدة «الشاعر»:
منتهياً بالشاعر وهو يرف بجناحيه الكسيرين في غابات اللغة، محاولاً التحليق في سماء الشعر الزرقاء العريضة فتحده أغصان النثر المتشابكة والأسلاك الشائكة (ص19).
  إن العراء السالف الذكر يتحول لحدود «جمركية» أمام اللغة الشعرية التي تعودت الطيران، ولأن «مفهوم الشعر مفهوم زئبقي يأخذ معناه من اللحظة الزمنية وأسئلتها الثقافية»(18). فللنص هويته يستعيدها في لحظة كتابة، لأن القصيدة تجدد نسقها الخاص كل لحظة قراءة، وحين يؤكد عدنان الصائغ اللامحدود واللانهائي، فهو يشير إلى خاصية الأفق التخييلي، وبالعودة للنموذجين السابقين، نجد أنفسنا أمام قطبي العملية الإبداعية: الشعر والنثر، واللذين يتعايشان في تقاطعهما الحتمي و«المصيري»، وحين نتحدث مرة أخرى وبالتحديد حول شعرية النصوص التي أمامنا، فإننا نتلمس القصدية في جعل مفهوم سؤال الكتابة ذا صدى ارتدادي رجعي، مما مكن النص الشعري في ديوان «مرايا..» من اكتساب مفهوم أوسع بكثير من قواعده وسننه المعروفة، واستحالة القبض هنا على طرفي المفارقة، إذ يعترف الشاعر:
لا حد لقلبي الذي يقال له: قلق القصيدة (ص21).
  ولفظة قصيدة تتكرر باستمرار في نصوص الديوان، بل في الصيغ التي يحركها هاجس الكتابة الشعرية، ولا ندعي أن ثمة وعياً قبلياً بفك التباس مصطلح القصيدة، ولا حدود تجنيسية لسماتها، إذ إن سؤال الكتابة يعمق حوارية النصوص في جدلها النقدي الواعي بتحديد شعرية النص، شعرية مفتوحة على عالم «تذويت» يكرر «غنائيته» المطلقة، التي لا تضع أمامها أعرافاً مضبوطة، وتقوم الدلالة الشعرية في النص الشعري على مكونات لغوية تحيل إلى مرجعيات تتخلق منها الصورة الذهنية المناظرة للفظ لذلك يتسع المعنى كلما رغبنا في تحديد أواليات مضبوطة تقاس بها نصوص الديوان، رغم التأكيد على بنية النص الشعري في «مرايا..» تقوم على أسس نثرية (حالات الوصف، بنيات سردية..) لكن زعزعة هذا المكون يتم تفاعلياً داخل البناء النصي الشعري، يخفت معه حضور النثر اتجاه ألق الشعر وحركيته..
ولحصر هذه المعادلة، نضيف اعترافاً شعرياً آخر من الديوان:
أحاول أن أغير شكل كتاباتي
فتتمرد علي أصابعي (ص47)
  إن جزءاً من معادلة استراتيجية العنوان المقدمة في بداية دراستنا تعيد استنطاق وفهم هذا الفعل الثالث الذي هو «لعبة المرايا» فالانعكاس المقدم هنا خارج – نصي بدليل أنه في مقام آخر يشير الشاعر إلى «فوضى قصائدي» إذاً، البوح بهوية مفردة شكل من الإقرار بالانتماء الجمالي إلى عالم القصيدة، فحتى الأخطاء هي: حماقات الشاعر (ص22)، لذلك تضيق المسافة بين القصيدة والشاعر لنقطة الصفر والتي يتحول معها النص الشعري لمعمارية حية تنسج تفاصيل الأرابيسك والنقش من تلاوين متعددة، يظل الهدف الأسمى هو توحيد هذه المعادلة في نص شعري وهو هنا القصيدة، المصطلح الذي اعتبره كمال خير بك أكثر انسجاماً مع الشعر الحديث «وهو ما يعني أيضاً أن نعترف بتعددية واسعة من الأنماط الشعرية ومن نماذج البنى»(19)، لذا يرتبط قلق «المرايا» بهذا التحديد، وفيه يحاور خطاب الميتالغة سؤال الكتابة كعنصر فوضوي وخام، إن عملية الانجذاب هنا لهذا الاختيار إقرار صريح بهذا القلق الأبستيمولوجي الذي ولد لنا ديوانيْ نشيد أوروك، وتأبط منفى.
إن نصوص «مرايا..» معنية بخلق إيقاعها الخاص وهو إيقاع غير نظمي يميزه التدرج الحركي، نمثله عبر تبيان تحديدي مؤطر، إنها تمتلك أصواتاً، وحركات داخلية، تفرزها حتى في حركة تنظيمها لفضاء البياض، مما يجعلنا نعيد تحديدنا لهذه القصائد على أساس وضعها في «مجال أبستيمي مغاير هو المجال النصي»(20)، لأنها «تراكم نصي لحركة الحداثة الشعرية»(21) ساهمت إلى جانب تراكمات نصية أخرى «في إعادة تحديد مفهوم النص»(22)، ويستلزم منا ذلك إيجاد شكل أو أشكال أكثر ملاءمة تتسع لأنساق الجسد الشعري الحديث، ولعله مكر اللغة، إذ إن إشكاليات العلائق والتقاطعات بين النثر والشعر من جهة، والشعر والنثر من جهة ثانية يصب في معضلة أجناسية لايزال التفكير النقدي اليوم يتجه لتذويت هذه الفواصل داخل سيمياء النص الشعري، إن التجانس المطروح هنا في النماذج المذكورة يستجيب لنفس النمط التدرجي: من الثابت الخطي إلى تدرج أعلى وفق تسلسل لازمني، مغلق ومكثف.
  إن التمييز الذي تطرحه هذه المقاطع الشعرية هو في تصورها لإيقاع رؤيتها الشعرية، مما يجعلها عنصراً داخلياً يزكي مقولتنا لانغلاق وتكثيف عنصر التوظيف للمستوى التركيبي داخل النص الشعري في «مرايا..».
   إن سؤال الكتابة في الديوان هو سؤال النص الشعري في تشكله، في وعيه الداخلي بهويته كنص إنتاجي يصوغ عالمه المفترض، وهنا إحالة إلى إشارة الناقد عبدالعزيز بومسهولي: «وبما أن الشاعر أصبح بشكل واع يدرك المكان لا في بعده السطحي، بل في بعده المقعر، والكروي فقد تولدت لديه الضرورة بتغيير الشكل السطحي: (الأفقي/ العمودي) للقصيدة العربية وإنتاج القصيدة الحداثية اللاعمودية التي تتخذ أشكالاً متعددة»(23). أي لا تتقيد بنموذج معين، ومن ثمة لا جدوائية ولا نقول صعوبة القبض على عنصر إيقاعي نموذجي بالتالي أولوية القصيدة التي تتحكم شعريتها في شكلها وإيقاعيتها، لكن كيف يسير عدنان الصائغ هذه الرؤية في تمثله للغة، يقول:
«أريد لغة أكبر وأشرس وأدق وأعذب قدرة على التعبير والتمويه تماماً، بعيداً عن قوانين الإعراب الصارمة وزخارف البلاغة التي أماتت كثيراً من أحاسيسي»(ص124).
   بعد العراء، يشير الشاعر إلى فعل التحرر متخذاً «وصفة» لحالة اللغة التي يرغب في توظيفها، وما يدهشنا أن فعل الإرادة هنا هو موجه لمن؟
   في مقطع شبيه بالمونولوج الشعري، فهذه الوصفة الأدبية ترتبط أيما ارتباط بالشعر فهو منتجها ومؤثثها الحقيقي، لذا تصل لغة الشاعر إلى جدار «الصفر» لتبدأ معه عملية بحث عن لغة قادرة على التعبير عن «أحاسيس» جوانية أعمق وأدق، لغة غير مقيدة بضوابطها القديمة والجديدة: إنها ضوابط بيرخوف(24) الذي كشف عن القوانين الأخرى المتحكمة في البنيات الموسعة، هذه القوانين هي:
– قانون التشاركية Associativité.
– قانون الامتصاص Absorption.
– قانون التعديل Modulation.
   التشاركية والامتصاص، في الاشتغال الجدولي للغة الشعرية تنطبق كل الوحدات الدلالية الواحدة على الأخرى، أو قوانين ناقصة (التعديل باعتباره تأليفاً بين قانون التشاركية وقانون التوزيعية). إذاً ثمة وعي لاإرادي بأن اللغة كجهاز وكعملية وكإنتاج للمعنى حسب المنطق التصحيفي (التصحيف Paragramme / سوسير ) أي «امتصاص نصوص (معانٍ) متعددة داخل الرسالة الشعرية التي تقدم نفسها من جهة أخرى باعتبارها موجهة من طرف معنى معين»(25) ومن ثمة، فإن في الشعر الذي يؤكد اللاوجود محققاً ازدواج مدلوله الشعري، يقدم اعتراف عدنان الصائغ مفهوماً أعمق للنص الشعري، هذا الفضاء المتداخل نصياً باعتباره مجالاً لولادة شعرية.
  ومن هنا يمارس النص الشعري فعل التأجيل الدائم فهو لانهائي، متكئاً على وعيه التشكيلي العميق، مستهدفاً تأسيس بناء مختلف تكون فيه الحرية الإبداعية مجالاً وحافزاً لإعادة بناء تموضعات عناصر الخلق الشعري من جديد.
  وبالانتقال إلى الأسماء، ننبه لتوظيف الشاعر لتقنية العتبات الشعرية والتي تحضر بقوة في جلّ النصوص، وغالباً ما تحضر العتبة كمنتج دلالي للنص الشعري، ففي قصيدة «بلا ذكريات.. ماذا أفعل بقلبي؟» عتبة لريلكه تتحدث عن الأوجاع ولعلها أوجاع نص «بلا ذكريات..».
  إن ثمة توظيفاً تداخلياً، فالعتبة ليست إشارة خارج–نصية، بل هي اندغام كلي، والكثير من الأسماء تحضر إما كحاملة لمقول شعري، أو في الإهداء، أو صيغ تحضر في التركيب لا كزخرف زائد إنما كانتماء إلى الجملة الشعرية، لذا تنتج إرجاعات تشير إلى بنيات دلالية للنص الشعري:
أوجاع ريلكه = أوجاع عدنان الصائغ.
إن هذا الاشتغال اتخذ ثلاثة أبعاد:
العتبة، الإهداء، اندماج.
   وتنتج وظائفها الشعرية بداية في تعددية انتمائها، فلسنا أمام أسماء شعراء، فهناك الشاعر، المسرحي، الروائي، الناقد.. وتتميز خصائص التوظيف الشعري لهذا الحضور اللافت لأسماء بفاعلية التحويل Transformation، إذ يندمج نص الصائغ بنص أراغون في نص شعري واحد: قصيدة «حجر ومقاطع ويديك» وفعل التحويل هنا يصاغ باستراتيجية اندماج واندغام شعري تناصي، وحيل التناص في نصوص «مرايا..» تخضع هي الأخرى للعبة التشبيه، الكل في المرايا مفرد بصيغة الجمع، حيث يرى ريلكه الصائغ في مرآته، ويرى الصائغ صلاح القصب صاحب مسرح الصورة المسرحي، وهكذا دواليك.. أليست تقنية الدلالة في جزء منها إنتاجاً للمعنى، ومعنى المنتج (الحس البارتي).
   وبالعودة للعبة التناص Intertextualité التي تسعفنا في «طرح صيغة النص المتعدد»(27)، التناص «كمفتاح لقراءة النص، لفهمه، لتحليله، لتفكيكه، وإعادة تركيبه، لمعرفة كيف تم إنتاج الخطاب»(28)، وبهذه الصفة المفهومية، نستطيع أن تستوعب حضور مقاطع نصية مدمجة في النص الشعري الصائغي بشكل إخصابي في نصوص «مرايا لشعرها الطويل». وسواء عبرت هذه النصوص على «صوت متعدد» (بالمعنى الباختيني/ Polyphonic) أو حوارية Dialogisme، فإن عدنان الصائغ اعتمد تقنية المونتاج Montage في توظيف الكثير من المقاطع الكلامية (شعرية أم نثرية)، وهنا يكمن تعميق توسيع مفهوم النص الشعري عبر حواريته المكشوفة.
  فالأكيد أن أي نص هو نقطة التقاء نصوص عديدة، وفي ديوان «مرايا..» قبول بهذه المعادلة، وتحويل النص لفضاء أثيري للقاء النصوص وأسماء الأصدقاء، ورموز الأسماء، وأسطرة بعضها. إن تبني هذا التوظيف من لدن النص الشعري في «مرايا..» هو إعادة ترسيخ لتقنيات تواصلية تعيد لمنظومة التلقي إستطيقيته المعهودة والأصلية.
  إن عملية التركيب – المونتاج لمقطوعات بالتحديد في «مرايا..» تعيد ذاك السؤال القدري الملازم للنص عموماً: أثمة علاقة مباشرة بين الشاعر والنص الشعري؟ الأدهى حين يعمق هذا السؤال من اللاتجانس النصي، وهو ما يفرز إشكالات جديدة على مستوى آخر هو التلقي.
  إن الثالوث المتحكم في نصوص «مرايا..»: ذكريات/ Flash–back، مرايا – تركيب/ montage يقدم الأساس النقدي العام لولادة نصوص «مرايا..»، وهذا مقام آخر نعتبره مصدر امتصاص لنحث هذا المعمار النصي المكون من 50 طابقاً.
ونعتبر انبناء هذه العلاقة منطلقاً جذرياً في الممارسة النصية، لكنها تبدو أشد خصوصية في الممارسة النصية الشعرية، في ممارستها للمعنى وفي تلقيه، بل أبعد من ذلك، إن عملية تأويل العالم بواسطة النص الشعري مساءلة لكينونته، وهنا تكمن أبعاد الممارسة الأنطولوجية للشاعر عدنان الصائغ عبر إعادة اكتناه لفضاءات متعددة الأبعاد. وما الأسماء والأمكنة والصياغات اللغوية والاستراتيجيات الشعرية إلا صور في صياغة انفلاتات العالم، أو في أدق تعبير عوالم.
  إن خوض «الشاعر لمغامرة تأويل العالم تأويلاً شاملاً للذات وسياقيها المكاني والزماني، ينتج عن ذلك الاهتمام التاريخي النسبي يتضاءل لفائدة اكتساح دروب الفهم العميق للكينونة»(29) إنها مزيد «للسؤال والتأويل وهما عماد العلاقة بين الكائن والعالم»(30). وما نصوص مرايا إلا أوجه هذه المعادلة، والتي هي ثراء في تخطيها النمط الأدنى لرؤيا شعرية تبلغ درجة قوية من الشعرنة، وهذا ما قدمته لنا تجليات سؤال الكتابة في الديوان التي تخطت تقليدية مبدأ «المحاكاة» لتصل لعمق رؤيوي فعال.

تشاركيـة التفـاعل:
 «إن كان التشكل الدلالي للنص يشترط إشراك القارئ الذي يقوم بتحقيق البنية التي تقدم له من أجل الكشف عن المعنى، فإننا لا يجب أن ننسى أن موقع القارئ هو دائماً داخل النص»(31).
فهل راعت نصوص «مرايا..» هذه الرؤية برهانها على وجهة نظر متحركة للقارئ؟
  تعتبر النصوص الشعرية في الديوان حقلاً دلالياً تفترض قارئاً ضمنياً هو عنصر بانٍ لهذا الحقل الدلالي، مما يؤهله كتصور لأن يصوغ تشكيل هذا الأفق وفق ثالوث:
القارئ + رؤية العالم + إنتاجية النص
  إن البذخ الملاحظ الحضور للأسماء في مرايا، نستسيغه وفق هذا التوظيف، فالعديد من الأسماء لأصدقاء تحضر ضمنياً كقراء، ناهيك عن حضور هذا القارئ الضمني في سياقات النص التداولية، سواء على مستوى بياضاته أو فراغاته.
  وهذا اللعب الطباعي يحضر بقوة في ديوان «مرايا..» بشكل يقدم هذا التفاعل بين النص والقارئ في أفق أكثر تشاركية، إذ يسهم الشاعر بنصوصه في الرفع من مستوى التفاعل، وكأن النص وليد لأنا جماعي، لنتأمل هذين المقطعين:
قلت لها:..............................
ماذا قلت لها؟ (مقاطع حب ص52)
شكراً لكافافي فهو وحده الذي قال لي، وأنا أعدّ حقائبي: (مادمت قد خربت حياتك، في هذا الركن الصغير من العالم، فهي خراب أينما حللت)
شكراً للتلمساني، شمس الدين بن عفيف، فهو وحده الذي اختصرني هكذا:
رأى فحب، فرام الوصل، فامتنعت،
فسام صبراً، فأعيا نيله، فقضى
(كل شيء هادئ تماماً في ظهيرة البصرة/ ص102)
  إن صوت عدنان الصائغ يتراجع ليتحول لصوت متعدد (كناقد)، وهذا التعدد يتحول هنا لإرادة صريحة لفعل تشاركي وتفاعلي أكثر يستدعي قارئاً ليشاركه بنائية النص، ويستدعي آخر ليملأ أسطره البيض، وهذا ما وسمناه بتشاركية التفاعل التي يتحول معها الثالوث المذكور سالفاً الى:
نص = قارئ 1 + قارئ 2 + الشاعر
ولأنهم وليدو نفس اللعبة المرآوية السابقة فهم ذوات واحدة تشكل هذا العالم المركب الذي ينعتونه: نص، ويجب الاعتراف أن الركن الرابع في هذه المعادلة نقصد الناقد الموكول له وظيفة «بلاغة التلقي» بصفته قارئاً خبيراً للنص، ولعلها معادلة تحتاج إلى إعادة نقد، مادام فعل التمثل مصيراً إجرائياً واحداً.
  وبالعودة لسؤالنا السابق، نكتشف من خلال النمذجات الاثنتين أن للقارئ دوراً وظيفياً في بناء المعنى لا كصوت مفرد، بل إنه موجه بوجهة نظره هو، لكنها تستميل رغبات النص كما هي مقترحة كجسد على البياض.
   وفي هذا الأمر، لن يستطيع القارئ إلا أن يتحمل الإكراه الدلالي الذي يمارسه النص الشعري عليه، ليحمل هو الآخر حق الانتماء، وتمسي تشاركية التفاعل في جمالية التلقي، أكثر تأويلاً ومعرفة وبهذا يقترح ديوان «مرايا لشعرها الطويل» «مفاهيمه» في التلقي، قلنا مفاهيم لأن النقد يستوعبها في حدود النظري، أما الديوان فهو يقدم مشاريع صياغات، واستراتيجيات مقترحة في حدود المتخيل المقترح، يقول جورج بولي «كلما قرأت، تلفظت ذهنياً بـ(أنا)، ومع ذلك، فإن هذه (الأنا) التي أتلفظ بها ليست (أنا)»(32).
رهـان «مرايـا لشـعرها الطـويل»:
   تسعى نصوص ديوان «مرايا..» إلى تجاوز حقيقتها الشكلية الجنسية الثابتة سعياً لخلق وسائلها الخاصة للرؤية التي تمتح من المطلق في أفق الاستجابة لشعرية هذا الشكل الذي تقترحه في صياغتها الخمسينية (50 نصاً شعرياً)، وهي مسكونة بهاجس وقلق سؤال الكتابة الذي أرقته ذاكرة النص الشعري المفتوحة والمتعددة، وبابتعاد الطابع الشفاهي لهذه النصوص، فإن خرقها المتوالي يؤكد سر أشكال انتقاليتها.
   وبحس أبستيمولوجي بالغ، يحضر النص الشعري في «مرايا..» بنظامه وبنائه الخاص المسكون بخراب اليومي وانكساراته وخساراته وحروبه «كون شعرية النص الشعري لا يصنعها الانزياح بالضرورة، بل تصنعها الدلالة الشعرية التي تسخر جميع الوظائف اللغوية، بما فيها الوظيفة الشعرية التي ليس لها أدنى تفوق على باقي الوظائف»(33).
وحين تلتئم هذه الوظائف جميعها في توليد عوالم النص الشعري، فمعناه أن ديوان «مرايا..» نجح في سبر أغوار فاعلية النص، ودفع وظيفة إنتاجيته إلى أقصى الحدود، مما أفرز لنا خاصية التأويل الغني لمستويات الدلالة في فضاءات النصوص.
   إن شعرية الحرب، واستراتيجية العنوان ورمزية الأمكنة وجمالية التلقي تجتمع جميعها في هذه اللعبة النموذجية/ الاستعارية للمرايا، لكن في حدود دفع النص لوظائفية مرآوية أكثر شساعة إدراكاً وألقاً، وهو ما يقدم خصوصية نقطة العبور التي راهن عليها الشاعر عدنان الصائغ في تجربته لديوانيه نشيد أوروك وتأبط منفى.
  فالأسئلة التي سكنت النص الشعري في «مرايا..» انفجرت ملامح عوالمها في أفق النصوص، أفق تفتحه عمداً ومع سبق الإصرار بغية الوصول لعقد تصالح مع الذات المسكونة بشظايا الانكسار، وهو انكسار ممتد في التجربة إلى الحد الذي يراهن فيه القول الشعري على «تفجير اللغة» بالمعنى الأدونيسي، كتجلّ لصياغات الحداثة الشعرية، وما اختيار الحس النثري إلا سند لهذا التجاوز والذي نراه ضرورياً.
   نصوص «مرايا..» وحدات متشابكة لنداء «أنا الشاعر عدنان الصائغ» في صرخة استعارية قلما تعبر حدود النص الشعري، والقصيدة أو القصائد رهان لهذا الفعل الصوفي بمعنى الحلول في اللانهائي.
   إن تقنية المرايا الخادعة التي يوظفها الديوان، تزيد من فرادة وخصوصية تجربة عدنان الصائغ الشعرية، فكلما اتسع مجال الخرق، تعمق مستوى البناء الغني للنص الشعري، بنيات القراءة والتأويل.
   نصوص «مرايا لشعرها الطويل» مغامرة الكينونة في انعتاقها من الخراب والجحيم، ولعله انعتاق الوطن من جحيم الاستعباد نحو أفق أرحب للحرية والأمل لا الألم.

هـوامـش ومراجــع:
1– شاكر لعيبي «الشعر العراقي الحديث» رؤية جديدة، شعراء عراقيون في هولندا، سلسلة الإبداع العراقي، رقم 1، ط1، 2002 – البيت العراقي – هولندا، ص13.
2– نفس المرجع، ص17.
3– نفس المرجع، ص18.
4– نفس المرجع، ص25.
5– نفس المرجع، ص27.
6– نفس المرجع، نفس الصفحة.
7– عدنان الصائغ «مرايا لشعرها الطويل» دار أزمنة ودار ألواح، ط2، 2002.
8– أدونيس «الشعر العربي، الشعر الأوروبي» مجلة مواقف، عدد مزدوج 41–42، 1981، ص5.
9– جوليا كريستيفا «علم النص» ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، المغرب ط1، 1991، ص79.
10– نفس المرجع، ص91.
11– «قضايا أدبية عامة» إيمانويل فريس وبرنار موراليس، ترجمة د لطيف الزيتوني عدد 300، فبراير 2004. ص49.
12– «في أصول الخطاب النقدي» ترجمة أحمد المديني، دار عيون للنشر مقالات، المغرب، ط2، 1989، ص80.
13– علم النص، مرجع مذكور، ص91.
14– في أصول الخطاب النقدي، مرجع مذكور، ص81.
15– عبدالعزيز بومسهولي «قصيدة النثر والشعريات اللاعمودية» مجلة تافوكت، عدد 1، 1996، دار قرطبة للنشر الدار البيضاء، ص76.
16– نفس المرجع، نفس الصفحة.
17– نفس المرجع، ص83.
18– محمد الصالحي «شيخوخة الخليل، بحثاً عن شكل لقصيدة النثر العربية» منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 2003، ص55.
19– كمال خير بك «بناء القصيدة الحديثة» مجلة مواقف، مرجع مذكور، ص43.
20– عبدالعزيز بومسهولي، مرجع مذكور، ص92.
21– نفس المرجع، نفس الصفحة.
22– نفس المرجع، نفس الصفحة.
23– نفس المرجع، ص83.
24– جوليا كريستيفا، مرجع مذكور، ص84.
25– نفس المرجع، ص78.
26– محمد الصالحي، مرجع مذكور، ص89.
27– في أصول الخطاب النقدي، مرجع مذكور، ص98.
28– نفس المرجع، نفس الصفحة.
29– محمد بن عياد، الزمن والشعر، مجلة علامات، عدد 17، 1992، ص41.
30– نفس المرجع، نفس الصفحة.
31– فولغانغ إيزر، الإدراك والتمثل، مجلة علامات، مرجع مذكور، ص119.
32– نفس المرجع، ص121.
33– محمد الصالحي، مرجع مذكور، ص93.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة